Skip to main content

Full text of "lis_aka22"

See other formats




الؤافَاتالكاياة 


اماد الشكائ 


لتائزعَائ جائزة نوجّل للأدابٌ - 118 


وَلقَاتالكاملة 
بَاهَعُكفَايَة ‏ قراكتزة 


0 0 1 ْ ل 0 
ممم 0 | | 3 


ستاحة ريّاض الصاح - جيروت 
وكلاء وَموزعون فى ضع أختاء الحالم 
جسّع المكقوق مخفوطة ١59١‏ 
الطبحة الأول 10١‏ 

رقم الكتاب 160118 8 01 


ُ طبخ 2 تاف 


## خم لس او هشه اع مه هسه لها ها م هس اماه هاش هق #58 "اه واه وده الله هساع #ااطل هم اذظ شاه ماهس لظ #805 تناع 


ا« # # #8 اله هه ال 9# # # #ه #ه و هع### # #فهس ل# # # هه #8 هه #8 هاه ةا # شه وه 4 


# اه ه 8ه اظل اه اهس ااه هت هه #ه ههه« ههه #الواع ده اها وام هاه كر هاه 


ا #« اه او اه شا شه #8 #اده_ ا _#” ها هوه عو هس« ل سا سس سا ا ل اسه © # لش اسه 4# # شاك خم + هس 


او هه هلهس« للش شه اط هب هه اه ا#السشه8-5- #6 هنس48 5ش سه ها ناه واه عام كا ماه مم 


١ 

إن أعجب لا يدعوني للقلم؛ فالكتابة فنْ لم أعرفه 
لا بالمواية ولا بالمهنةء ويمكن القول بأنّه فيما عدا 
الواجبات المدرسيّة على عهد صبايء والأعمال المكتبية 
اللماماايو تاي لاقيو انرا فل الات 
والأعجب من هذا أني لا أذكر أني سودت خطابًا أو 
رسالة طوال الدهر الذي عشته في الدنيا وهو ما ينيف 
على ربع قرن من الزمان. والحنٌ أنْ الرسالة 
كالكلام ‏ رمز للحياة الاجتاعية.» وعنوان للوشائج 
التي تصل ما بين الناس في هذه الحياة» ولست من 
ذلك كله في شيء. ألسنا نشذّب الأشجار فنبتر ما 
اعوج من أغصانها وفروعها؟ فلاذا ثُبقي على من لا 
يصلحون للحياة من أفراد الناس؟! لماذا نتسامح بل 
همل فتفرضهم على الحياة فرضًا أو نفرض الحياة 
عليهم كرمًا؟ لسذا يسعون في الأرض غربساء 
مذعورين» وقد بلغ الذعر منهم أحيانًا أن يخبطوا على 
وجوههم كالمحمومين فيدرسوا بأقدامهم المتعثرة ضحايا 

أبرياء . 
أقول مرّة أحرى إنْني لا أذكر أثني كتبت كتابة 
تستحقٌ هذا الوصف. كذلك طالا أعياني الحديث 
وأعجزني». فكنت إذا اضطررت إلى كلام تلعثمت 
وأدركني العىّ والحصرء ولم يكن الإعياء في قوة النطق 
أو الكتابة»؛ إنّه أجل من ذلك وأخطر وإنّ العىّ 
والحصر والعجز لأتفه عواقبه على وجه اليقين. ولذلك 
حقٌ لي أن أتساءل عمًا يدفعني الآن إلى الكتائة. ولبس 
الأمر قاصرًا على رسالة تدون» إنه شوط طويل تنقطع 
دوئه الأنفاس» وإني لأعجب لا يستفزني من نشاط لم 
أعهده. وحماس لم آلفه. حيّى ليخيل إل أني سأواصل 
الكتابة دون تردّد أو تعبء في الليل والنبار» وبعريمة 


السراب ؟ 


لا تعرف الخور, فلاذا يا ترى هذا العناء كلّه؟ الى آو 
عمري إل الصمت والكتمانء ألم تظفر الأسرار من 
صدري بقبر مغلق تستكنْ فيه وتموت؟ فما سر هذا 
الالحاح العنيف؟ وكيف سللت القلم لأنبيش قرا 
تراكم عليه ثرى الإخفاء! لقد ضاعت الحياة» والقلم 
ملاذ الضائعء هذه هي الحقيقة. إِنْ الذين يكتبون هم 
في العادة من لا يحيون. ولا يعبي هذا أني كنت أحيا 
من قبلء ولكتّني لم أكن آلو أن أرنو لأمل بشام 
أستضيء بنوره» وقد خحمد هذا النور. ولسست أكتب 
لإنسان. فليس من شأن المرضى بالخجل أن يطلعوا 
إنسانًا على ذوات نفوسهم. ولكيّي أكتب لنفسيء 
ونفسى فحسبء. فطلما داريت «مساتها حتّى ضللت 
حقيقتهاء. وبثٌ في أشدّ الحاجة إلى جلاء وجهها 
المطموس في صدق وصراحة وقسوة. عسى أن يعقب 
ذلك شفاء غير مقدور. أمّا محاولة النسيان فلا شفاء 
يرجى منبا. واللحقٌ أن النسيان خرافة بارعة وحسبي ما 
كابدت من خرافات. ولعل في شروعي في الكتابة آية 
على أنّنى قد عدلت عن فكرة الانتحار نبائيّاء وما كان 
الانتحار بالجزاء الذي لا يستحقه إنسان قفبى على 
نفسين» بل هو دون ما يستحقٌ بكثير» ولكن ما حيلتي 
والحياة لا تتورّع عن وسيلة في سبيل الدفاع عن 
نفسها؟ ولو كان الماضى قطعة من المكان المحسوس 
لوليت عنه فرارّاء ولكثه يتبعني كظلي» ويكون حيث) 
أكون فلا مناص من أن ألقاه وجها لوجه بعين غير 
مختلجة؛ وقلب ثابت» ومهما يكن من أمر فالموت أهون 
من الخوف من الموت. وإنّه لعمل فيه سحرء تستحيل 
به هذه الصحائف نفسًا خالصة بغير حجاب. ولسثت 
أدّعي العلمى فيا ناصبت شيئًا العداء كالعلمء وإني 
لغبئن كسولء. ولكثّي عانيت تجارب مرّة زلرلتني 


3 السراب 


زلزالاء وليس كالتجارب كاشف عن مطاري 
النفوس. إني لأتلهّف على رفع الثقاب. وهتك 
الأسرارء لأضع أصيعي على موطن الداء ومكمن 
الذكريات ومبعث الالام. ولعلي بذلك اتفادى نباية 
محزنة. وأنجو من آلام لا قِبَل لي بهاء واتلمس في 
الظللاء سبيلًا. لست في الواقع إلا ضحيّة. ولا أقول 
ذلك تخفيفًا من ذنبي , ولا تبرّيًا من تبعتي. ولكنّه حق 
وصدقء فالحنٌ ألي ضحيّة, إلا أنني ضحيّة ذات 
ضحيّتين. وأشدٌ ما يمر في نفسى أن إحدى الضحيّتين 
فى الى "قله تمن بستقة [ انم 0 كينت العيت 
نا سر حياتي وسعادتي» وأنني لا أحتمل الحياة بدونها! 
ولكي كنت أحيا على حافة عالم الجنون. وهكذا فقدت 
كل ثيى ووجدت نفسى في نخلاء مظلم مخيف. . . 
إن رجل مؤمن عميق الإيمان. وأعلم علم اليقين أني 
باحة حيا في اليوم الموعود. ولست أنحثى آلام ذلك 
اليوم وأهواله ‏ إذا تجرّدتٌ أمام الله بما في يميني وبما في 
شهالي - قدر ما أخشى أن أبعث على الحال التى عانيتها 
في دنياي . أروم بعدًا -جديدًا حلا ويومذاك تصبح 
آلامي لا شىء يطويها الفناء إلى الأبد. فيمكنني لقاء 
أحبائي 5 صافب ونفس نقية طاهرة . 

كانت أمَى وحياي شيئًا واحدّاء وقد ختمت حياة 
أمّي في هذه الدنياء ولكتها لا تزال كامنة في أعماق 
حياي» مستمرّة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجها من 
وجوه حياتي حتّى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون. 
فهي دائمًا أبذدًا وراء آمالي وآلامي. وراء حبي 
وكراهيتي . أسعدتني فوق ما أطمع . وأشقتني فوق ما 
أتصورء وكان لم أحبٌ أكثر منباء وكآني لم أكره أكثر 
منها فهى حياتي جميعاء وهل وراء الحبٌ والكراهية من 
شبىء ف حياة الإنسان؟! فلأعترف بأني أكتب لأذكرها 
هي : ولأستعيد حياتبا هي ع بذلك تعود الحياة كلّها. 
وبذلك أَصِل ما انقطم من حبل حياتي؛ لعلّ الأمل أن 
يتجدّد في الدجاة. يبدو لي كلّ شىء الساعة غامضًا 
كارا كان القيطانه يدر عق رمعلاه ,ركو نهد 
إفي أتلمّس سبيل في صبر وأناة» ورائدي أمل الغريق 


2 النحاةع ومن وراثي نيه صادقة فُْ نجديل حياتي 


وبعثها خلقًا جديدّاء ولئن شق عل الطريق أو تولاني 
القدوطء أو خذلني حيائي. فلن يبقى أمامي إِلَا 
الموت . , 


5 

ما جزاء الميت ‏ عندنا معشر الأحياء ‏ إذا واراه 
التراب؟ أن نفرٌ من ذكراه كما نفرّ من الموت نفسه! 
ولعلّ في هذا حكمة غالية» ولكنٌ أنانيّتنا تأبى إلا أن 
تضفي على هذه الحكمة أسفًا حانقًا مضحكًا. ولقد 
فررت من بيتنا موليًا كل شيء ظهري كالخائف 
المأعور. ثم مضيت أثوب إلى رشدي في هدوء نسبيّ 
وأدرك هول الخطب الذي نزل بي»؛ ففاض بي حنين 
موجعم. وفرعت يداي إلى خزانة الذكريات 

فاستخرجت كل ما بقي منهاء ألا وهي صورة! 
هى صورة كبيرة يظهر فيها جدّي جالسًا على مقعد 
كبير» بجسمه الضخم وكرشه الكبير» وشاربه الأبيض 
كأنه هلال فوق فيه في بذلته العسكريّة المحلاة 
بالنياشين» وأقف أنا عند ركبتيه لا أكاد أجاوزهما إلا 
قليلاء أتطلع إلى عدسة المصوّر بعينين باسمتين وقد 
التصقت شفتاي في توثر من يغالب ضحكة تغالبه. 
ووقفت أمْي إلى يمين جدّي معتمدة بساعدها الأيسر 
مسند الكرسيّ الكبير» في فستان طويل يشتمل عليها 
من العنق إلى القدمين. ولا ينحير من ساعديها إلا 
عن اليدين» بقامة طويلة وجسم نحيل ووجه مستطيل 
وعينين واسعتين خضراوين وأنف دقيق مستقيم ونظرة 
حالة تقطر حنانًا ولا تخلو من بريق ينم عن الحيوية 
وجِدة المزاج. يا له من وجه شاء الرحمن أن يكرّره في 
وجهي حت لقد قيل إنه لا يفرّق بيننا إلا الثياب! هذه 
صورة تطل عل من عالم الذكريات. ولقد ثبت عي 
الممتهبتين على الوجه المحبوب طويلًا حي لم أعد أرى 
شيئًا سواه. كبرت قساته في عي حبّى خلتني روحًا 
صغيرًا يعيش في أحضاهاء واشتدٌ ما يحيط بي من 
صمت فتهيّأ لي أن هذا الفم المطبق سيفترٌ باسمً 
ويسمعني من علب الحديث ما العهد به غير بعيد. إن 
الصورة شىء عجيب فكيف غابت عنى هذه |الحقيقة؟ 


هذه أمّى بجسمها وروحهاء هذه أمي بعينيها وأنفها 
وقمهناء .وفذ! الفندر المشون الذئ التصمف.يه 
عمري. ربّاه. .. كيف أقتنع بأنها رحلت عن الدنيا 
حنا؟ | الكل إن الضوره كن فعيين:.ويندو ال الآن 
أن كل شىء عجيب في له اللاثيك. :وقائل. الله العادة 
فهي التي تقتل روح العجب والإعجاب فينا. كانت 
هذه الصورة معلّقة بحيث تراها العين في كل حين. 
بيد أن أراها الآن شيئًا جديدّاء أطالع في صفحتها 
حياة عميقة كأن نفحة من الروح الطليق قد استكنت 
ماء وأرى في هاتين العينين نظرة شاردة تبعث الآألم. 
إِنْ هذه الصورة حيّة بلا ريبء» ولن أستردٌ بصري منها 
ولو جننت. عكفت عليها طويلاء ثم تملكتني رغبة 
قويّة في تخيّل حياة صاحبتها في جميع أطوارها من المهد 
إلى اللحد. تخيّلتها طفلة تحبو. وصبية تلهو بعرائسها. 
ألا ليتها خلفت لي صورًا أستعيد بها أحلام طفولتها 
السعيدة! ثم تخيلت عهد الشباب الرطيب» وهي غادة 
حسناء ترنو بطرفها الساجي إلى الأمل والسرور وتلهو 
بلذّة الفتوّة المشبوبة» لقد عاصرت عهده الحلو» وكنت 
ثمرة لخصبه ونضارته» ومع ذلك فقد ضاعت معالمة 
وولّت آثاره. غشيه الظلام كأننى لم أرتع حضنه 
وأرضع ثديه. وكنت إذا تخيّلته فيما مفى من أيامي 
تخيلته في حيرة وقلق, وساءلت نفسي في حجل واستياء 
أ تنبض بدمه الحارٌ تلك الرغبات الحامحة التي تستائر 
الشباب؟! ولعلّ عاطفتي الغامضة تلك هي التي 
دفعتني في صباي إلى تمزيق الأثر الباقي لهذا الشباب 
الأزّل. فقد دخلتٌ حجرة نومنا ذات يوم فجأة 
فوجدث أمّى منكيّة على درج مفتوح في صوان الملابس 
تنظر في شبيء بين يديهاء فاقتربت منها في خحمة تحدوني 
شطارة الغلمان المدللين» وأدخلت رأسى تحت ذراعها 
البسوطة» فرأيتها ممسكة بصورة عرسها! وبادرت 
تحاول إرجاعها إلى تخبئهاء ولك أمسكت بها في 
عناد وحملقت فيها بدهشةء فرأيت شابًا جالسًا وأمّي 
واقنة يف1" إل كته 'كالوردة القاضرة: :وتعلقة 
عيناي بصورة الرجل فأدركت أنه أبي» وإن كنت أراه 
ول كتف يل أآزاة يفنت أذ أنكاذ القواد له حصرن 


السراب ه 


وكراهية؛ وارتعشت يداي» وانّسعت عيناي انزعاجًاء 
ثم لم أدرٍ إلا ويداي تمرّقاها إرباء ومدّت لي يدا تحاول 
استنقاذهاء ولك تغلبت عليها في حنق وهياج؛ 
فلبنث صامتة وقد لاح في عينيها الصافيتين الحزن 
والأسف. وكأنني لم أقلع بما فعلت فتصِدّيت لما غاضبًا 
وسألتها بلهجة تنم عن الاحتجاج: علامٌ تأسفين؟ ! 

فيسطت أسارير وجهها بثىء من الحهد وقالت: 

دنا للق فى اطفال مقناكس اد وى أله نري الى اناك 
على صورة شبابي؟... لقد مرّقت صورة أُمُك وأنت 
لا تدري . 

وكانت ذكرى تلك المادثئة تعاودي فى فترات 
متباعدة فتحز في نفسي» وتملأنى حيرة وقلقاء فأمضي 
متسائلا عنّا دعاها حنًا إلى الاحتفاظ بتلك الصورة 
ولاذا أحرها تمزيقها؟ ثم أحاول أن أنفذ بخيالي إلى ما 
فاتني من حياتهاء فأنقلب متفكّرًا مغتما. 

0 فقدت صورة الشباب الأوؤلء» وإنْنى لآسف 
على فقدانها_ الآن ‏ أسمًا خالصًاء ولكن 5 ذلك 
أسفًا مضحكًا بعد أن امتدّت يدي إلى صاحبة الصورة 
نفسها فقضت عليها؟ ! 


ِ 
ولى أكن الحظ العاثر الوحيد الذي ابتليت به 
حياتها. روت لي يومًا قضّة زواجهاء في حذر وحرص 
شديدين» خاصة وهي تسرد الذكريات الباسمة على 
ندرتهاء فكانت تذكرها في عجلة واقتضاب وتحرج» 
وكائها في أعياقها تخشانيء أو كائّها أشفقت مثى أن 
تخقف لطافة الذكرى من حدّة كراهيتي لأبي. ْ 
على جسر إساعيل رآها أبي أوّل مرّة! وكان 
«الحخانطور» ينطلق بأممي وجذي في بعض الأصائل 
للتنزه والفرجةء ففي مرّة مر بهها «حانطور» يتريع 
مدر ناث مدر يفيه رررات ابعل الام ا 
ينتظره من ثراء» فوقع بصره على وجههاء وسرعان ما 
وجّه عربته في أعقابها حيّى بيتنا في المنيل. وكانا كلما 
غادرا البيت صادفاه في الطريق وكأنّه ينتظر. ول أَدَمٌ 


5 السراب 


هذا الفصل من القصّة ير بي دون ملاحظة» فسألتها 
عن الغزل في تلك الأيام وكيف كان. وتلقّت سؤالي 
بريبة وحذرء ولكيٌ ما زلت بها حبّى استنامت إلي. 
فاستسلمت لرقة الذكريات, وقالت إنّه كان يبعث 
إليها بنظرات تومض بالابتسامء أو يلتفت نحوها 
بأهتأم وهو يفتل شاربه الغزير الأسودء بيد أنه لم يعد 
حدود الأدب قط. وتفكرت مليّاء وتبت في بيداء 
الخيال الخالم ؛ فعانيت أحاسيس الدهشة والحجيرة 
والضيق» ثم رفعت إليها عينيّ - وم يكن لنا من سلوى 
في تلك الأيّام إلا مواصلة الحديث ‏ وسألتها مبتسا عن 
كيف كانت تلقى تلك المقدّمات الغزلية. ولم يخف 
عنها ما في سؤالي من خبث فتضاحكت. وكانت إذا 
ضحكت اهترٌ جسمها من الرأس إلى القدمء وقالت 
نا كانت تتجاهله بطبيعة الخال» وتنظر فيما أمامها 
دون أن تلوي على شىء: وتظل على حالما كائها تمثال 
ذو برقع أبيض! وداخلني شك» وقلت إن أسأها عن 
الباطن لا الظاهر. عن القلب ١‏ الوجه. ونازعتني 
النشس إلى مصارحتها بما يدور في خلديء. ولكن 
خانتني الشجاعة. وعقلني الحياء» ولو رجعت إلى قلبي 
لعرفت الجواب» فهذا القلب من ذاك. يجري مهما دم 
واحدء ويسجعان عن خفقات واحد. فهل أنسى أن 
وقفت كثيرًا كمثل التمثال والقلب شعلة نار؟ ! 

وتقدّم الشابٌ يطلب يدهاء لم يكن ذا عمل ولا 
علم. بل ولا مال حيّى ذلك الوقت» ولكنه كان أحد 
ابنين لرجل من كبار الموسرين. ولا علم جذدّي 
بموافقة الأب واستعداده لتكثّل ابنه وأسرته. سي 
بالخطبة سرورا لا مزيد عليهء وفرح بجاه الأسرة 
العريق. وقيل له إنّه جاهل جهل العوامٌء فقال وما 
حاجته إلى العلم؟ وقيل له إِنّه بلا عمل؛ فقال وما 
حاجته إلى العمل؟ بل قيل له صراحة إِنّْه شاتٌ ذو 
أهواء جامحة وإنه سكير عربيدء. فقال إِنْه يعلم أنه 
شاب وليس براهب. ولم يكن جدّي طمَاهًا جشعاء 
ولكنّه كان يروم السعادة لابنته. ويحسب أن المال كفيل 
بتحقيق تلك السعادة» هذا إلى تأثْر بِاسُم الأسرة التي 
تود مصاهرته» واطمئنان إلى سمعتها الكريمة» وفضلا 


عن ذلك كله فهو نفسه لم يكن -حصل على الابتدائيّة, 
ولى يكن يخلو من ميل للشراب والمقامرة. وبذلك 
صارت كريمته حرمًا لرؤبة لاظ أو رؤبة بك لاظ كما 
كان يدعىء وظنّ جدّي أنه فرغ من الواجبات الملقاة 
على عاتئقه بتزويجه أصغر كريتيه. ولكن ما كاد ينقضى 
أسبوعان على ليلة الزفاف حبّى عادت أمي إلى فت 
جدّي دامعة العينين كسيرة الفؤاد! والزعج جذدّي 
انزعاجًا شديدّاء ولم يكد يصِدّق عينيهء ثم علم أن 
الشابٌ قد عاود سيرته الماضية في الحانات ولمًا يمضص, 
الأسبوع الأول من زواجهء وأنه كان يرجع إلى بيته 
عند مشرق الشمسء وأنّه أوسعها ضربًا في ذلك اليوم 
الذي غادرت فيه قصره. واستفظع جدذي الأمرء وكان 
على تربيته العسكرية الصارمة رقيق القلب. ويحدب 
على ابنتيه حدبًا عظياء فغضب عضبًا شديدّاء ومضى 
تند إن نعي الأنهن وت سال شيع دض »الغيان 
وأبيه معاء ولبثت أمْي في بيت جذي حب وضعت 
أختي الكبرى. وسعى نفر من أصدقاء الطرفين إلى 
إصلاح ذات البين»؛ ووصل ما انقطع من ححياة 
الزوجيّة» وكلل مسعاهم بالنجاح فرجعت أمّي 
وطفلتها إلى قصر لاظ مرّة أخحصرى. وامتذ مكثها به 
شهرين. ثم نفد صبرها فهجرته إلى بيت جذّي 
مهيضة الجناح. والحقٌّ أئّها لم تذق الراحة إلا أيّامًا 
معدودات» ولكئبا تصيرت وتجلدت عببى أن تصلح 
الأيّام ما فسد من حالهء فلم يكن يزداد إلا فساداء ول 
تعد ترى فيه إلا سكيرًا عربيدًا لا يرعى لشيء حرمة. 
فأيست منه. ولاذت ببيت أبيها. وسعى الرججل إلى 
استردادهاء مقرًا بإدمائه الشراب» حاولا إقناع جدّي 
أنه من الممكن أن تستقيم الحياة الزوجيّة مع إدمان 
الشرب». ولكنّ جدّي وقف منه موقمًا صلبًا فطلّقهاء 
ومرت أشهر فوضعت أمّى أحي الأوسط. وعاشت في 
كنف أبيها متمتعة بعطفه وحئانه. ثم ترامت إليهم 
أنباء غريبة عن رؤبة لاظ تقول إن الفتى الطائش قد 
حاول في ساعة نزق وجزع أن يدس السم لأبيه 
متعجّلا حظّه من المبراث». ولكنّ الأب اكتشف اللجريمة 
بوساطة الطباخ. فطرد ابنه من قصرهء ووقف نصف 


شروته لجهة خيرء ووقف النصف الآخخر على الابن 
الأكبرء ولعلّه لم يشأ أن يوقفها كلها للأخ الأكبر حي 
لا يوغر صدر ابنه الشرير عليه فيعرّضه بذلك 
لأذاه... واستيقظ روبة لاظ بعد حلم طويل بالثروة 
الواسعة على فقر نسبئّ» فلم يعد يملك من حطام 
الدنيا إلا ربع وقف ورثه في ذلك الوقت عن أمّه - 
وهي غير أمّ أخيه ‏ يقارب الأربعين جنيهًا شهريًا 
وبِيثًا ذا طابقين في الحلميّة انتقل إليه بعد طرده من 
قصر لاظ. وأثارت تلك الأنباء شجنًا في بيت جدّي 
صفّقت له ضلوع الذين يشفقون على مستقبل الوليدين 
الصغيرين» فقد تضاءلت نفقتهاء وتجهم مستقبلهما. 
وتشاور جذّي وجدني وأمي في الأمر» وانتهى بهم 
تبادل الرأى إلى أن يقابل جذّي لاظ الكبير» وأن 
يستعطف قلبه للوليدين البريشين حتّى يغيّر وصيته 
لصالحهماء ومغضى جذي إلى قصر لاظ. وحادث 
الرجل فيا جاء من أجله. ولكنّه وجد منه قبا قاسيًا 
وأذنا صرّاء. ولعن يمحضره الابن ودرٌيّته. فعاد جدي 
خرونا ثانا 

وكان من سخرية الأقدار أن مات لاظ بك في نفس 
العام الذي سعى ابنه فيه إلى القضاء عليه. وانقضى 
من الدهر سبعة أعوام فبلغت أختي راضية الثامنة 
وبلغ أخحي مدحت السابعة أو نحو ذُلك. وني ذلك 
التاريخ حدث ما غير بحرى حياة أسرتنا الهادئ. 
وشاءت الأقدار أن ينم ذاك التغّر بحادثة تافهة مما 
يعرض في الطريق» إذ كان جدّي يغادر ناديا للقمار 
بشارع عاد الدين قبيل الفجر بقليل فرأى نفرا من 
السوقة يلتون بأفندي ويوسعونه ضربًا وهو يخبط 
بينبم هائجًا مترنّسَاء فبادرهم هاتقًا أن يكفّوا عنه. 
ومضى صوبهم غاضبًاء ثم لحق به شرطي على الأآثر. 
وما كاد النفر يتفرّقون حتّى رأى جدّي رؤبة لاظ في 
حالة سكر بين وقد سال الدم من أنفه. ودهش جذي 
وتولاه الارتباك موقم الدهشة» ولكنّه تقدّم من الرجل 
دون تردّد وسنده بذراعه وهو يوشك أن يقع. كان ما 
مضى قد سحب النسيان عليه ذيوله أو كادء وكان 
الرجل من الناحية الأخرى يوالي إرسال النفقة لوليديه 


٠/ السراب‎ 


على استهتاره وعريدتهء فلم يكن بين الرجلين عداء. 
ودعاه جدّي إلى «حانطوره» فاطاع. وأمر جدّي السائق 
بالذهاب إلى الحلميّة, وخيم عليههما في الطريق صمت 
عجيب» فلم ينبس أحدهما بكلمة» ولمًا بلغت العربة 
البيت أوسم له جدّي لينزل» ولكنه أمسك بذراع 
الرجل ودعاه إلى بيته. واعتذر جدّي بتأخخر الوقت 
ولكنّ الآخر لم يقبل اعتذاره وأ إلا أن ينزل معه 
وكان ما يزال ثملا محمورًا فأذعن جدّي على رغمه. 
فمضيا معًا إلى حجرة الاسثقبال وخخيوط الفجر الزرقاء 
تنشب في الظلماء. وارقى رؤبة لاظ على مقعد وجذب 
جدّي تأجلسه على مقعد قريب» وسرعان ما ولَى عنه 
سكوته فغلبه الانفعال والتأر وراح يقول بلسان ثقيل 
حلت الخمر والانفعال عقدته «أرأيت الأوباش كيف 
انمالوا علي لكدّا وصفعًا؟!. . أرأيت إلى الإهانة البالغة 
تنزل بكرامتي. وأنا رؤبة بن لاظ» ربيب القصر 
العتيق؟ ! 0 هي الدنيا يا عمّأه. . . وما بالي أدعوك 
بعمّي ؟ لقد جاوزت الأربعين ول تُعَدٌ أنت الخمسين 
إلا بقليل» فا أحراني أن أدعوك بأخي» ولكي أدعوك 
عمّي احترامًا وإجلالاً. فإنّك ممنزلة أبي. .. أستغفر 
الله أنت أعظم من ذلك وأجلء لا تؤاخذني بما أنطق 
من لفظء واللفظ شيء تافه أما ركلي بأقدام الأوباش 
فشيء خطيرء أليس كذلك!؟ لقد مات أبي غاضبًا 
علّء ويقولون إِنّْه لا يظفر بالسعادة من حرم رضاء 
الوالدينء أحقًا هذا يا عيّه؟! حيّى ولو كان أحد 
الوالدين أي؟! ربّاه» لقد سئمث هذه الحياة» إنها حمى 
وهذيان وجنون متواصل» لشدٌ ما تتوق نفسى إلى 
الحدوء والطمأنينةء أليس هُذا هو الندم!؟ امدد إل 
يدك يا عبّاه؛ ولتُقسمنٌ معًا بهذا الفجر الطالع أن نبدأ 
حياة جديدة لا إثم فيها ولا فجورء رذ إليّ زوجي 
وطفاٌ وأسكئئّى أسرتي... هلمم... واشتدٌ احمرار 
عينيه حَبّى ظلنّه جدّي باكيّاء ولم يجد بدا من أن يطيّب 
خاطره. وعندما انطلق به الحنطور صوب المثيل وقد 
تمرك سطح الأرض رويدًا بالأفواج الأولى من الساعين 
إلى الرزق» أغمض عينيه في ارتياح. وتفكر في الأمر 
مليّاء وكان يود أن يرى ابنته سيّدة لبيت يخصها. وفي 


6 السراب 


نفس الشهر ردت أمىي إلى زوجها السابق واجحع 
شمل الأسرة. ولكن لم تدم هذه الحياة اللسديدة إلا 
أسبوعين! بل لعلّها لم تدم إلا يومًا واحدّاء وتحمّلت 
مي بقيّتها صابرة متصئرة حبّى أقضها الإشفاق على 
طفليها من شر السكير العربيد. فحملته) وفرّت إلى 
جدّي المسكين. وثار الرجل ثورة عنيفة» ومضى لتوه 
إلى التائب الزائف وانهال عليه تعنيقًا وتقريعًا وازدراء. 
واستمع الآخر إليه صامتّاء ثمّ قال له إِنْ زوجه هي 
الملومة لأا لا تودّ العيش معه وإِنّه لا ذنب له إِلَا أنه 
يسكر! وغادره جدي يائسًا وبيده شهادة الطلاق. 
انلقطعت ححياة الروجية إلى الأبد» وكنت أنا ثمرة تلك 
التوبة الكاذية! . . 

وقد سمعت جذي بمازحني يوما فيقول لي: «لقد 
جنتَ إلى هذه الدنيا نتيجة لحساقتي أنا دون 
سواي . . .» ولكن ما أكتر الذين جاؤوا هذه الدنيا في 
أعقاب الحماقات. ونشأ في بيت جذّي. فلم أعرف 
ينا سواه: بل لم أعرف من الأهل غير جذي وني 
لأني حين أخذت أعي ما حولي كان أبي قد استردٌ أخحي 
وأختي. وكانت جدّت قد ماتت. وم أعرف أن لي أبا 
إلا بلسان أمّي. وحديثها المفعم مرارة وحزنّاء فنمتُ 
كراهيتي له على الأيّام. وقد أتمٌ الرجل قسوته عليها 
فلم يكتفب باسترداد ابنه وابنتهء ولكنّه حال بينهما وبين 
رؤية أمهماء فمرزت الأعوام تلو الأعوام وهي لا ترى 
ها أثرًا. وترامت الأخبار إلينا تقول إِنْ الرجل يكاد 
يحبس نفسه دون العالم كلّه. فارًا من الدنيا وما فيها 
بسكر متواصل لا يفيق منه ارا ولا ليلا. . . 


: 

كان بيت جذّي بلمنيل مولدي وملعبي ودنياي. 
وكان يتكون من دورين كبيرين نقيم في الأعلى منبماء 
وله فناء صغير. لست أريد التحدّث عن البيت. 
لكب أتليقّف على استعادة الماضى . وما من ماضن إلا 
وله بيت تحوم حوله ذكرياته. إِنْ حيات لا تنفصل عن 
ذاك البيت أبذاء ولن تنفصل عنه ما حييت» وما 
البيت ببداء وعمارة وهشدسة. ولكنّه برج شابت في 


الزمان يأوي إليه حمام الذكريات» الساجم بالحنين إلى 
ما اشقضى من أعبارناء فلأنقب في غيابات الماضي عن 
أقصى ما يستطيع أن يستقبله رأبى من موجات 
الذكريات. إني أغمض عبني متواريًا عن عالم 
المحسوس» كي أهتّئ لروحي سكينة تنطلق فيها إلى 
الماضى الخالد. ولأعترف أني شديد الحنين إلى الماضى . 
وقد 0 في هذه الفترة الأخيرة أشدٌ ما أكون حنانًا 
إلبه. ولعلّ ذلك مثِي ليس إلا توقًا صريِمًا إلى الطفولة. 
وإني لأدرك ما في هذا الجنين والتوق من خطورة هي 
سر دائي الأسيف في الحياة» ومع أنْىي عشت حياتي 
مقطلا إل«ذلك الام بدرافيا أو ساعطات ديد 
الشعور بما يشْدّني إليه من رباط وثيق. إلا أننى أقف 
عاجرا حال سحل الكلفة ».تقد واكراق ستسيرة زة 
أرق عهوده وأخطرها. ها أنا أغمض عي في تشوّف 
وتساؤل. فيعشو بصري إلى نور خافت» أرى يدي 
الصغيرة وهي تمتد إلى القمر من على كتف أمي . يا لها 
من ذكرى! ولكم تمتد أيدينا إلى أقمار ليست دون ذلك 
القمر منالا. وتعاودني ذكرى جهد مضن بذلته كي 
أزدرد حلمة الئدي فيصدني شىء مر مذاقه. وشارب 
خذى القلال رو انام تاه و سريوى لا ري كاي 
وتحطيم أصص الزهور. وكيف هوت إحداها مرّة من 
حافة الشرفة على ذراع البوّاب النونّ فكادت تكسرها. 
وكان من عادتي ألا أستسلم للنوم حيّى أمتطي منكب 
أمّي فتذهب بي وتجيء بطول البيت وعرضه. وكلما 
توانت حثثتها بقدمي. وكنت أرفل دائعً) في فساتين 
البنات. وشعري مسدل حيّ المنكبين. وقد بدا لأمى 
يومًا أن تيّئ لي بذلة عسكريّة محلاة جره 
والنياشين. فارتدينها مسرورًا. وقطعت البيت في 
عجب وخيلاء؛ ضابطًا عظينًا ذا ضفيرة تتهادى على 
ظهره! ولم يكن جدّي يرتاح إلى ذلك التدليل المفرط , 
ولكنّه لم يجد من وقته متّسعًا للإشراف على تربيتي: إِذ 
كان يغادر الفراش عادة عند الظهر ولا يرجع إلى 
البيت من نادي القار إلا قبيل الفجر. وكان من ناحية 
أخرى يشفق من تكدير أمّي لسوء طالعهاء ولأنّه لم 
يبق له في شيخوخته سواها. عشنا ثلاثتنا وليس لللأب 


إلا ابه وليس للامٌ إلا ابعباء وكانت أنّي تبفر 
لذكريات أختي وأحي بعين دامعة وفؤاد كسير. 
وتثلهقف على رؤيتها ولو ساعة واحدة, ول نجد في 
حزما من عزاء سواي. فأودعتني حضباء لا تحب أن 
أبرحه. وتودٌ لو أجعل منه مرئعي ومراحي ودنياي 
جميعًا. وهلّت نسائم الحياة رخاءء فلم أدرك إلا بعد 
فوات الوقت أنه كان حنانًا شاذًا قد جاوز حدّه» ومن 
الحنان ما يُبلك. كانت مصابة في صميم أمومتها 
فوجدت في أنا السلوى والعزاء والشفاء. كرست 
حياتها جميعًا لي أنام في حضهاء وأقضي نماري على 
كتفها أو بين يديهاء وحبّى في الأويقات التي كانت 
تتعهّد فيها شئون البيت لم أكن أفارقهاء أو لم تكن 
تدعني أفارقهاء وحيّ في المطبخ كنت أمتطى منكبها 
مفترضًا رأسها بخدّي متسليًا بمشاهدة الطاهي وهو 
يشعل النار ويقطع اللحم ويخرط البصل» بل كنا 
نستحمٌ معًا فتحطني في طست عارياء وتجلس أمامي 
متجرّدة فأرشها بالماء وأقبض على رغوة الصابون 
النافشة على حسدها فأدلك به جسدي» وم تكن بغادر 
البيت إِلَّا قليلّا. فصلتنا بآل أبي مقطوعة. وخالتي 
كانت تقيم في ذلك الوقت بالمنصورة مع زوجهاء فإذا 
خرجت في النادر لزيارة إحدى الجارات اصطحبتني 
معها. على أُنْنا كنا نواظب على زيارة السيدة زينب». 
ولعلّها الزيارة الوحيدة التي كنا ننتظرها بفارغ صبر, 
ولم يكن يسيئها ثشيء مثل أن تثني على امرأة من معارفها 
بما يئنى به على الأطفال عادة» فكانت تتطير من الثناء 
وترقيني من العين في إشفاق عميق, ومن ععجب أني لا 
أذكر التعاويذ والرقئٌ باستهانة أو ازدراء» وأني لمؤمن 
بباء بل إني لأومن بكل ما كانت تؤمن به أمّي . وقد 
نلنعتمن النقياقة :سنطاة وحصلة عل الكالووياة 
ولكن بقي لي إيمانى القديم سالمًا غير منقوص. 
وهيهات أن يتزعزع إيمان بالله ورسله وأوليائ»ه 
والدعوات والتعاويذ والأضرحة. 

بيد أنّبى لا استطيع أن أقول إِنّني استكنت إلى تلك 
الحياة بلا تململ. ولعلى ضقت بها في أحايين كثيرة. 
وتطلّعت إلى الحرّية والانطلاق. ولعل ضيقي ذاك 


السراب 4 


مضى يزداد بتدرّجي في مدارج النموّء وآي ذلك أنه 
أقبلت تمخوّفنى أشياء لا حصر ها لتردّني عرًا أتطلّع إليه 
من حزية وانطلاق. ولتحتفظ بي في حضنها على 
الدوام , ملأت أذيّ بقصص العساريت والأشباح 
والأرواح والجان والقتلة واللصوص» حتى خخلتني 
أسكن عالمًا حافلا بالشياطين والإرهاب. كل ما به 
من كائنات خليق بالحذر والخنوف. ذاك عهد بعيد. 
ولكنّه لا يزال حا في صدري ودمي., وهو الذي جعل 
من الخوف جوهرًا أصيلا في نفسبي تدور حوله حياتي 
جميعًاء فنفص عل صفوي., ورماني بتعاسة لا تريم. 
وما أنا إلا لوق خائف لولا قيد الحسد لفرّت روحه 
ذعرّاء وأخاف الناس». وأخاف الحيوان والخشرات. 
وأفرق من الظلام وما يرصدني من أوهامه. وأتحامى 
ع ار ا ري الاك سر 
بمفردي. على أن النوف كان أعمق في حياتي من هذه 
الأشياء التي يتمثّل لي فيهاء لقد استطال ظلّه الكثيف 
حبّى أظل الماضي والحاضر والمستقبل. واليقظة والنوم. 
وأسلوب الحياة وفلسفتهاء والصحّة والمرض. والحب 
والكراهية. فلم يترك شيئًا خالصًا. وقد عشت جل 
حيات الماضية غرًّا جاهلًا لا أدري لتعاسبي سببّاء تم 
جلت لي المحن جوانب من حياتي». هاتكة بقسوتها ما 
استتر من الخفايا الأسيفة؛ بيد أنْ شعوري بالعجز لا 
يفارقني. وهو يستند في الحقّ إلى قصور ثقافتي وضعف 
ثقتى في قواي العقليّة. كانت أمَّى مبعث هذه الآلام 
ولكتّبا كانت الملاذ الوحيد منباء فآويت إليها في غير 

ومن ذكريات ذلك العهد التي لا تسبى » موقفنا ‏ أنا 
وأمّي ‏ على قبر جدّتي في المواسم نكثله بالرياحين ونقرأ 
الفاتحة مترحمين. وكنا نتحدّث كثيرًا عن القبور وأهل 
القبور. وكيف يرقدون. وكيفا يستقبلون؛ وماذا 
يلقون من شدّة وحساب. وكيف ننزل عليهم الآأيات 
نورّاء يُذهب وحشتهم ويلطف جفوتهم. ولمًا كان 
القبر قبر أمّ أمّي فقد أحببته حبًا جمما. وكنت إذا 
وجدت منها غرّة هرعت إلى جانب منه. أنشب في ثراه 
أظافري. وأحفر في عجلة لعل أظلع على ذاك المجهول 


٠‏ السراب 


المنطوي تحت الأرض. ولشدٌ ما كان يحز في نفسي أن 
أسمعها تردّد: «إِنا لله وإنّا إليه راجعون» أو «آخيرتنا 
التراب» أو «الموت نباية كل حئ؛» فسألتها مرّة في 
دهشة . 

سنموت حميعًا؟ | 

فساءها السؤال. وحاولت أن تلهيني عنه. ولكيي 
وقفت عنده لا أتزحزح فقالت: 

بعد عمر طويل إن شاء الله , 

فرمقتها بإشفاق وسألتها مرّة أخرى: 

ب وأنت با أماه! . 

فقالت لي وهى تداري ابتسامة ؛: 

ب طبعا . ا ا 

فوقع قولحا من بفسي موقعا أليًا وهتفت بها : 

اكات وي كدي ان قوق ابذا: 

وريّتت على رأمى بحنان وقالت برقة : 

كم ال خبطو العموي كك اأذعن للا ستتجيين :للك 
الرحمن الرحيم . 

وبسطث كفي الصغيرتين ودعوت الله من أعماق 
قلبي. وعيساي مغرورقتان بالدموع . 


مه 

أأظل الدهر في حجرها كأنّنى عضو من أعضاء 
جسدها؟! جاوزت الرابعة من عمري. وجاء سن 
الرفاق واللعب. ولم يكن لي من مهرب في البيت إلا 
الشرفةء وهي تطل على فناء البيت. وتشرف على 
الطريق. وكان أطفال الأسرة التي تسكن الدور الأول 
بلبون في الفناء. فجعلت أنظر إليهم بعينين 
مشوّقتين» فيتطلعون أحيانًا بأعين قرأت فيها دعرة 
صامتة اهرت ها جوانحي. واستاذنت أمي يومًا في 
الانضمام إليهم. فقالت لي بارتياع: ماذا حدث 
لغشلك ا الآ اقرف تبي لامك سيوة مين 
العراك؟!... ما عسى أن أفعل لو ضربوك أو 
جرحوك؟ . . . أو خرجوا بك إلى الطريق لا تنقطع به 
العربات؟ بل ماذا تفيد منهم إلا الشقاوة وسوء 
الأدية انا آنا فافض عليك» التصسضن». ,بز إذا' ضيفت 


خريعا نوكا لردارة البقدة .|1 قمع عرق حيف قن 


تمارقني . 
ولاح في وجهي التذمّر والامتعاض فاستطردت 
تقول : 


لقد خرمت رؤية أختك وأخيك» ولم يبق لي في 
الدنيا سواك. وها أنت تود فراقى. سامحك الله . . . 

فتوددت إليها قائلا : 

5 إف أحتك أكثر من 2 شىء ف الدئياء ولكني 

ولكنها لم تكن لتذعن لرغبتي تلك. وكنت إذا 
ضقت بإصرارها بكيت أو ثار بي الغضب ثورة لا أعفف 
فيها عن شد شعوري وتمزيق ثيابي» ولكنّ شيثًا ل يكن 
ليجعلها تذعن لرغبتي في الابتعاد عنها. وفيها عدا ذلك 
وألوانًا. وإذا لمسثت ضيفي وملل دعت بطفل من 
أطفال الجحيران ليشاركني لهوي تحت سمعها وبصرها. 
بيد أنْ ذلك كله لم يرو غلَتي. فتحينت منها غفلة يوما 
وانسللت هاربًا من الشمّة أكاد أخرج من جلدي 
الاقتراب منهم ) فوقست مكاني ف ارتباك وحياء. 
وسرعان ما أطلت أمّى من الشرفة ونادتنى في حذّة 
الغضب» ولكنّ أكر الأطفال تَقدّم مني ودعاني ِل 
اللعب؛ وهو يقول لي: دلا تبالها!» ولأوّل مرّة لم أبال 
صوتها. فاندفعت إلى حلقة اللعب, وأخذت مكاني فى 
سرور لا يوصف, ولم تكد مر دقائق حتّى شجر حلاف 
شديدًا فلعلّها كانت أوّل لطمة تلقّيتها في حياتي. 
وارعيث عل ساعده وغرست قية أسنابي » وم يتردد 
رفاقه فاخبالوا علي ضربًا وركلا. وتوعدتهم أمّي في 
بقلفهم بالقلَة فغادروني قُْ حالة برثى لمأ , ودعتني 
للصعود إليها. وكنت أهشث والدموع ملء عي ١‏ 
فقهرالن اسلحياء وتسمرت قلمايى فلم ألبٌ تداعهاء و 
أرفع بصري عن الأرة ٠‏ ولم أفارق موقفي حيّى جاء 


البواب فحملبى إليها. وغسلت لي وجهيى وساقىٌ وهي 
تقول في انفعال شديد: 

ع لباه[ وميا لماه د 
رأي أمّه إِنّ الله يغفر كلّ شىء إلا من يعاند أمّه. فلن 
يغفر له. هذا اسك الأطفالء فكيف 
وسجدته؟ ! 

المنني هزيمتي أمامها أضعاف ما الي الضرب. 
ورحت أؤْكّد لها كذبًا أنْ الحنّ كان عللَء وأني كنت 
المعتدي . ومن عجب أن أمّي نفسها لم تكن تكثر من 
الاختلاط بالناس. فلم يألف بيتنا الضيوف إلا فيما 
ندر. وكان جدّي يضيق يعزلتهاء ويحثها دائمً) عل 
المعاشرة لتسرّي عن نفسها. ثم شاء الله أن يؤنس 
وحشتناء فحلّت خالتي ضيفة ببيتنا هي" وأسرتها! 
كانت خالتي تقيم مع زوجها ‏ مدرس لغة عربية ‏ 
بالمنصورة. فانتقلوا إلى القاهرة ليقضوا نيننا شهرًا مس 
العطلة الصيفيّة. وجدت نفسى بين ستّة من الأولاد 
وبنت. فأفلت الزمام من يد ا على رغمها. وكان 
أكبر الأولاد في العاشرة. وأصخرهم يحبوء فانقلب 
الببت الحادئ سركًا تقفز به القرود والنسانيس» فلعبت 
ولحموت حي كدت أجن من الفرح والسرور. لعبنا 
الجحديد والحجلة. والوابورء والاستغباية. 

وليًا ضقنا بالبيت انطلقنا إلى الطريق وأنا لا أكاد 
أصدّق. وأرادت أمي أن تحول بيني وبين الانطلاق 
معهم. ولكنّ خالتي تصدّت لما قائلة : 

- دعيه يلعب مع الأولاد يا أختي! . . لو كان بنا ما 
جاز لك أن محجبيه قبل الأوان! 

كانت الشقيقتان مختلفتين في المزاج على تقارمه| في 
الشبه. كانت خالتي مفرطة في السمنة» ميالة للمرح 
والمزاح. لا تكرب نفسها بالقلق على أبنائها بغير داع . 
وكانت إذا غادر جِدّى البيت غنت بصوت لطيف 
حاكية «مئيرة المهدية». أما أمّي فتبدو على العكس من 
هذا كله. فهي نحيفة» منزويةء كثيرة المخاوف 
والقلق. مفرطة في الحنان لحدٌ الشذوذ. وقد أرهقت 
ظروف حياتها أعصابباء فكانت لا تكاد تخلو إلى نفسها 
حبّى تلفّها كآبة شاملة. ولعلها لم ترتح كل الارتياح 


١١ السراب‎ 


لإقامة شقيقتها بيننا ذلك الشهرء لا لفتور في عواطفها 
لحوهاء ولكن لأنْ أبناءها استأثروا بي من دونها. 
وأفسدوني عليها. وشكت مزة إلى خالتى ما تخافه عل 
من حوادث الطريق» فضحكت المرأة باستهانة وقالت 
لها بلهجة لم تخل من لوم : 

«هل ابنك من لحم ودم وأبنائي من حديد! . . . 
قوّي قلبك وتوكّلٍ على الله!). أما أنا فقد نسيت في 
سعادتي الشاملة تعساليم أمي يبعا واسكسلمت 
للسرور شهرًا صادف حياتي الرتيبة كالحلم البهيج». 
وألقيت بنفسى في أحضان اللعب بشراهة وغهمء لا 
أستشعر تعبا ولا مللاً. وفي الليل إذا آوينا إلى الببت 
كنت أضع عامة زوج خالتي على رأسي وأحكي لجته 
في الحديث. وأتجنًا كما يتجشاء وأتم عقب ذلك 
قائلاً: «أستغفر الله العظيم» والكلّ من حولي 
يضحكون! 

كان شهرًا كالحلم. ولكنٌ الأحلام لا تدوم. وقد 
انقضى. ورأيث بعين الحسرة الحقائب وهي تعد وتكوم 
استعدادًا للرحيل. وحم الفراق» فكان عناق وسلام, 
وحملتهم العربة جميعًا ومضت. وأنا أودّعهم من الشرفة 
بطرف دامع كسير. 

وقالت لي ال 

- كفاك لعبًا وجربًا في الشارع. ثب إلى رشدك. 
وعد إِلّ ىا كنت لا تفارقني ولا أفارقك . 

وأصغيت إليها في صمت. كنت أحيّها ملء فؤادي 
ولكتّي كنت أهفو كذّلك للّعب والمرح. وبدا لأمّي أن 
تحضر لنا خخادمة صغيرة» وسمحت لما بأن تلاعبني 
تحت سمعها وبصرها. فكانت رفيقًا خيرًا من عدمه 
على أ حال كانت صبيّة دميمة» ولكتها كانت 
أفضل لى من الطاهي الحرم وأ زيلب العجوز. وكانلت 
أمّي محافظة عل صلاتهاء فجعلتٌ أقلّدها إذا صلّتء 
ولعلّها وجدث الفرصة مئاسبة فمضت تلقّنني مبادئ 
الدين كا تعرفه. عرفت الدين مبتدثًا بالجئة والنار, 
فانضافت إلى معجم مماوني كلمات جديدةء بيد أنْها 
كانت مصاحيبة هذه الرّة لعاطفة صدق وحبٌ وإيمان. 


السراب 
َ 

وأدت حال أمّي تلك معي إلى تأجيل تاريخ 
التحاقي بالمدرسة. فقاربت السابعة دون أن أتعلّم 
حرفًا. وتدخّل جدّي في الأمرء مدعاني يومًا إليه وهو 
جالس بالشرفة على مقعده الطويل الهزازء وعرك أذني 
مداعنا وقال لي : 

- طالما رغبت في الانضمام إلى أترابك من الغلمان» 
فالآن قد فك الله أسرك, وستأذن لك بالاشتراك معهم 
في حياتهم عمرًا طويلا. ستدخل المدرسة! 

أنصتٌ إليه في دهشة بادئ الأمر إذ لم أكن أدري 
شينًا عن المدرسةء ثم بدا لي أنه سيطلق سراحي 
فنظرت إلى أمّي بسن مصدّق ومكدّب, ولشدّ ما 
دهشت حين رأيتها تبسم إل في تشجيع واستسلام» 
فانبعث الحبور في صدري فيّاضاء وهتفت بجدّي 

- هل ألعب في المدرسة كالأطفال؟ 

فهز الشيخ رأسه الأبيض وقال: 

- طبعا. . . طبعًا. , . ستلعب كثيرًا وتتعلم كثيرّاء 
ثم تصير فيا بعد ضابطا مثلي. . . 

فسألته في همفة : 

افق أدهمة 1 وى 

فابتسم الرجل قائا* - 

عد توك عدا بو نضا ققد لبوا د 1 

وفي صباح الغد ‏ وكنا في مطلم الخريف - اليسوني 
يله اوتا وحذاء جديدًا فعاودتني ذكريات العيد 
السعيد. ومضى بي جذّي إلى عطفة قاسم غير بعيد من 
بيتناء ودخلنا ثاني بناء صادفنا إلى البسارء مدرسة 
الروضة الأوليّة الأهلية وقد وقع عليها الاختبار لقريبا 
من البيت». كانت تتكون من فئاء متوسّط ودور واحد 
من ثلاث حجرات» فصلين وحجرة الناظر. وقد 
استقبل الناظر ‏ وهو صاحب المدرسة أيضا ‏ جدّي 
بالاحترام والإجلال. ولاطفني في محضره برقة.» وأطرى 
نظافتي وجدة ثياي. فاآنست إليه واستبشرت به خيرًا. 
وتم إثباتي بين تلاميذ المدرسة في دقائق. ودفعم جذي 
المصروفات, وعدنا وهو يقول لي: 


- أنت الآن تلميذ عظيم» وستفتح المدرسة يوم 
القت القادم . 0 

وأعلنت أمّي عن ارتياحهاء ولكها لم تستطع مداراة 
ما اعتراها من كابة. حبّى برم بها جذّي وقال لها بشىء 
من الحذة : 

ماذا تفعلين غدًا إذا بلغ السابعة وأخذه أبوه! . 

فرمقت جدّي بنظرة فزع وألم وهتفت قائلة : 

- لن يكون هذا وأنا على قيد الحياة . 

وف يوم السبت المنتظر أوصلني جدّي إلى المدرسة 
وعاد من حيث أقى. وقد تعلّقت بيده وهو يغادرني» 
واستشعرت خوفًا مباغمًا أنساني طول اشتياقي إلى تلك 
الساعة. واقترحت عليه أن يعود بي! ولكنّه ضحك 
ضحكته الرئانة وقال وهو يومئ بأصبعه إلى التلاميذ : 

- إليك أهلك الحدد. , . 

وقفت على كثب من الباب في ارتباك لم أعانٍ مثله 
من قبل» وتولاني الندم » ونظرت الى التلاميذ المتفرقين 
في الفناء بخوف وحياء. وتمنيت آلا تقع عين على. 
ولكنْ أناقتي وجدّة ثيابي لفتنا إل الأنظار فغضضت 
بصري في خجل شديد. وتساءلت حمّام يطول ذاك 
العذاب؟ بيد أنْ غلامًا اقترب مثّى وحيّان» ووقف 
دن كان أدتاي كم سالن. بلي 3ه 

- هل أبوك الذي جاء بك؟ 

وكنت أعذ جذي جلا وأباء فحنيت رأسى دلالة 
الإيجاب» فعاد يسألني : ْ 

ها شيك د 

ولئن كان الحديث ضايقنيء إلآ رحبت بذاك 
السؤال خاصة. فقلت بفخار: 

0 الأميرالاي عبد الله بك حسن . 

وقال لي الغلام إن أباه فلان بك كذلك وقد نسيته . 
ولعله ضاق بصمتي وجمودي فغادرني وانضمٌ إلى غيري 
من الرفاق. اشتدّت بي الوحشة وتساءلت ترى 
أأستطيع أن أندمج في أولئك الغلان؟ هل يمكنني حمًا 
أن الاعبهم أم تتكرّر المأساة التى وقعت لي في فناء 
بيتنا؟ وتقيض قلبي خوفاء ولو واتتني الشجاعة على 
الانسحاب من موقفي والعودة إلى البيت لفعلت. ثم 


وما اسمه؟ 


دق المرس فأنقذني من أفكاري» وأوقفونا صقاء 
وأدخلونا الفصل. لم أكن أتصوّر حيّى ذلك الوقت إلا 
أنّْني التحقت بملعب كبيرء فلا أن جلست إلى قمطر. 
وراح المدرّس الشيخ يفتتح العام الدراسي بالإرشادات 
التقليدية الخاصّة بالنظام وعدم الحركة والكلام. 
انا انر وعلت محتنا .. وفولق التدسقية 
والانزعاج. ترى أأخطأ جذذىي أم خدعوه؟ وطار نخيالي 
إلى الببت فتمئثلت لي أمّي في جلستها وحيدة. 
وتساءلت ترى هل نسيتني؟ إنها الآن تراقب أم زينب 
وهي تكدس الحجرات وتنفض الأثاث, ألم تفكسر 
في؟.. هل تطيق فراقي طول اليوم كله؟! وانتهت 
الحضّة الأولى دون أن ألتفت لحظة واحدة إلى كلام 
الشيخ . ولا عجبء فقد قرّرت أن يكون ذلك اليوم 
الأول والأخير. وني دقائق الاستراحة رأيت الناظر يمرَ 
بباب الفصلء فتئفست الصعداء. ومضيت نحوه بلا 
تردّد إذ لم أكن نسيت لطفه ورقته. واقتربت منه بي 
حياء. فالتفت نحوي في دهشة. ورمقبي بعينين 
جامدتين متسائلتين فظئنته قد نسينيى» وقلت بصوت لا 
يكاد بسمع : 

أنا ابن الأميرالاى عبد الله بك حسن , 

فسألبى بدهشة : 

اد تريد؟ 

فلممت أطراف شجاعبتي وقلت: 

ا أزية أن اعرف نانيك 

فصرخ في وجهي بصوت غليظ كالرعد: 

وأذهلنيى صراحه. فعدت إلى مكاني يكاد يغمى عل 
من الرعب والألم. ولبثت في مكاني مروعًا محزونًا. وني 
أثناء الغبار شعرت بحاجة إلى التبوّل ولكبِّي كتمتها في 
حوف شديدء ولم أفكر مطلقًا في استعذان المدرّس في 
الخروج. وغلبني الحياء في الفسحة فلم أستطع أن 
أسترشد بأحد عن موقع المرحاض. وجعلت أتململ 
تململ الملدوغ. وأشدٌ على ركبيّ في ألم وجزع. ومرٌ 
الوقت في ثقل وعذاب حبّى دق جرس الخروج 
فأطلقت ساقي للريح.ء فبلغت البيت في ثوانء 


وارتئقيت الجسل وبّاء وفي الشقة وجدت أمّى في 
انتظاري » فهتفت بي ل رأتي : 

ب أفلة شوق العو وين 

ووقع بصرها مصادفة على البنطلون؛ فبذا في 
وجهها الانزعاح» وقتمت بصوت متخفض : 

ف زناف د بلتوهان اليلك] 

وانفجرت باكيّاء وقلت لما منتحبا : 

لن أعود إلى المدرسة؛ إِنْ جدّي لا يدري عنبا 
شيئًاء وإني أكره الناظر والمدرّسينَ والتلاميذ؛ أنقذيني 
منها ولن أبتعد عنك ما حييت. . 

فجتّفت دموعي, ونزعت ملابسي. وهي تقول 
درقة : 

لا تقل مثل هذا الكلام.» ستالفها وتحبهاء كيف 
تبقى في البيت والغلان حميعًا في المدرسة؟ وهل يمكن 
أن تصير ضابطا مثئل جدّك إذا تركت المدرسة؟! 

وواصلت البكاء. والححت في الشكوىء ولكنّبا 
جعلت تلظف من حزني وتحذرني من البوح لدي 
شكواي أن يغضب ويحتقرني. ولأول صسرّة أعارت 
دموعي أُذْنًا صرّاء . 


د اد جد 


وبدا لها تشجعني على مواصلة الحياة السديدة ‏ 
أن توصلني كل صباح إلى المدرسة» فكنًا نذهب يوماء 
وأدخل أنا المدرسة بيلها تقف هى على الطوار المقابل 
لها. وأظل ملازمًا للسورء اناي النظرات والابتسام 
من خلال قضبانه» والكابة ترين على صدرى والضيق 
يمسك بخناقي. كرهت المدرسة وحياتها جميعٌاء ولكتي 
أجبرت على الذهاب إليهاء ولم ينفعني عصياني ولا 
كا را ا ا هي سار 
بسجن طويل الأمد. ولأول مرّة وجدتبي أحسد الكبار 
على حريتهم. وأغبط النساء على قبوعهن في البيوت . 
وإلى ذلك العهد يرجع سروري بيوم الخميس» فكان 
اليوم المفضل عندي من الأيّام, أمَا بقيّة أيّام الأسبوع 
فقد جفوتها واستثقلتهاء وكدت أستشعر الكابة ابتداء 
من أصيل يوم الجمعة. وير السبت والأحد والاثنين 


4 السراب 


والشلاثاء في ضيق وتيرّم. حت يأتي صباح الأربعاء 
فأتنفس الارتياح» ثم أستيقظ عند الفجر الخميس 
وأتقلف تحت الغطاء في سرور وحبور والدنيا لا تسعني 
من الفرح. ولذلك تفوّقت في دروس الخميسء» ولم 
تعد المحفوظات والديانة. . . على أنْ ذلك العهدلم يخل 
من ذكريات تثير الابتسام. وإن بدت لي وقتذاك في 
إطار من الجدٌ والصرامة؛ من ذلك أنّنا كثا نبتاع 
السميد في الفسحة». وإذا أعوزنا الملح استعضنا عنه 
بالجير الطافح من جدران الفناء. وكان مدرّسنا الشيخ 
يروق له أن يشرب كوبا من العرقسوس في أثناء الحصة 
الأولى» فكان إذا تناول الكوب يأمرنا بالوقوف وبإدارة 
ظهورنا له حيّى لا يصيبه مكروه من أعيئنا النبمة, 
وجاءنا يومًا متجهمً) وقال إنّه شعر ليلة أمس ممغص 
وله لذ ملك ى آذ اسان انارق رليف لطر برعت 
يشرب العرقسوسء وأنذرنا إذا لم نرشد عن اسان 
بالهرب على أيدينا جميعٌاء ولمّا كنا نجهل الحاني فقد 
ضُربئا حميعًا. وكان زميله الآخر شيخًا هرما رقيق 
النفس» فلم يكن يضرب أحدًا إلا إذا أعيته الوسائل. 
وكانت طريقته المفضلة في إسكات التلاميذ وضبط 
النظام أن يخوفنا بالعفريت الذي يسكن أرض الحجرة 
من قديم الزمان» قائلا إِنّه لا يحب الضوضاءء وكان 
إذا أفلت الزمام من يده يجلس القرفصاء ويئقر على 
أرض الغرفة ثم يقول بخشوع ورهبة «عفوك يا 
سيّدنا. . إثهم لا يدركون شيئًا. . لا تركبهم وسائحهم 
هذه المرة , 

أمَا الدراسة فإني لم أتعلّم شيئًا على الإطلاق. ولعلٌ 
الفنْ الوحيد الذي أتقنته في مدرسة الروضة الأوَليّة هو 
قياس الزمن بمراقبة تحول ضوء الشمس عن جدران 
الفصل» وأنا أعدٌ الثواني في انتظار جرس الخروج. 
وكان المعنى الوحيد الذي يتضمّنه توجيه سؤال من 
المدرّس أنّْني سأضرب كذا مسطرة على ظاهر كي . و1 
أحفظ في بحر عام دراسيّ إلا بعض السور القرآئيّة 
الصغيرة التي كنت أسمع أمّى تردّدها في صلاتها. 
وجاء الامتحان في نباية العام فظفرت بجملة أصفار 
تكفي لحعلٍ مليونيرًا لو ظفرت بها في غير الشهادة 


الفاضحة. ولمًا اطلع جدّي على الشهادة غضب. 
وقال لأمى بحذة: 

5000105004 لقد... أفسدته يا 

نم !ترفك النآلان عقا ومضى للقابلته ال الملدرسة, 
ورجع إلينا بعد ساعة وهو يقول بارتياح : 

امنيا ساي بالقزو راد ال فط ان 
السنة التالية! 

وكان يداعبني أمل بِأن سقوطي رتما عدل مهم عن 
إرسالي إلى المدرسةء فلا بشرني بذاك النجاح المغتصب 
خاب أمليى. وجاءت السلة الثانية فلم تكن بخير من 
الأولى. وزاد من شقائي هفوة لسانية عثرت بها 
فضاعفت من تنغيص حياتي بقيّة المدة الي قضيتها في 
الروضة الأوليّة؛ رفعت أصبعي مرّة لأستاذن المدرس 
في الخروج. ولكن بدا من أن أدعوه «يا أفندى» 
أخطأت وأنا لا أدري فقلت له ويا نينة!؛. 

وضج الغلان بالضحك: وضحك المدرّس نفسه 
وقال لي بسخرية : 

- إبه يا سيّد أمك؟ . . , 

وقهقه الفصل بالضحك» وتولاني الذهولء ولبئت 
ذاهلا حتّى اغرورقت عيناي؛ لم يكن لي فيهم رفيق أو 
صديق» فقد بدا عجزي عن اماد الأصدقاء منذ ذاك 
العهد البعيد. فلم يرحمني أجل منهم ؛ ودعوني منذ 
تلك الهفوة بنينلة حبّى غلبت على اسمي الحقيقيّ. 
وكنت أتحاماهم مقهورًا مغلوبًا على أمري ونار الغعضب 


.«نرعى صدري . 


وفي نماية العام جاءتنيى شهادة الأصفار فاهمت أمي 
المدرسة. وقرّر جذي أن يلحقني بالمدرسة الابتدائية, 
ولمًا كنت متخرّجًا في مدرسة أهليّة اشترط الناظر أن 
أؤْدَي امتحاناء ومفضى جذَّي بي إلى المدرسة قبيل 
افتتاح العام الدراسي»؛ وانتظر نتيجة الامتحان. ولم 
تكن بحاجة إلى الانتظارء ورجا الناظر أن يقبلنئي 
بصرف النظر عن نتيجة الامتحان؛ وأراد الرجل أن 
يجامل جذدّي لكبر سنه ومقامه فطلب إل أن أكتب 
اسمي «كامل رؤبة»؛ ولكيٌ أخطات في كتابة رؤبة 


فاعتذر الناظر من عدم إمكان قبولي. وعاد بي جذذي 
وهو يسخر مث طوال الطريق» وقال لأمّي وهو ينفخ : 
لا فائدة ترجى من إعادته إلى المدرسة الأولية» 
فسأحضر له مدرّسًا خصوصيًا هذا العام . 
وأنصت إليه وأنا لا أصدّق أذنٌ. سألته وأنا أداري 
- هل أبقى هذا العام في البيت؟ 
فحدجبنى بلظرة غاضبة من عينيه الخضراوين وكال 
- يا فرحة أمّك بك! 


ب 

واستقبلت عامًا مثمرًا لأول مرّة في حياي» وجلست 
آمّا مطمئنًا بين يدي مدرّسي الشيخ» أتلقّن مبادئ 
العربنّ والحساب. بدأت أخطو الخطوات الأولى في 
طريق التعليم» وإن مضت ساعات الدراسة في ثقل 
وضيق كالعسادة ولكي أضمن معاملة حسئنة من 
المدرس أجلست أمْي غير بعيد من باب حجرة المدرس 
للاستنجاد بها عند الحاجة»؛ ولا عجب فإن ذكرى 
العامين اللذين قضيتههما في مدرسة الروضة ‏ ما بين 
ضرب المدرسين واعتداء التلاميذ ‏ لم تمح من نفسي 
قط. ولم أكن أتصوّر حبّى ذلك الوقت أن التعليم 
واجب ضروريّ سأؤدٌيه شطرًا طويلا من العمر 
ولَكبّ عددته عقابًا فُرض علَ لسبب لا أدريه. ول 
أيأاس من أن يلين قلب جدّي يومًا فيعفيني منه. 

على أن أمّي لم تكن أسعد حالا مثّىي. كانت تعاني 
عذانا من نوع كيك وقد ازدادت كابة في تلك الأيام, 
فلم تكن تحلو إلى نفسها حتى تبكي مر البكاء. وم 
كن تل إل معدي موق تناف بالابر الى رقفل 
مضجعهاء أجل لم يعد يفصل بيني وبين التاسعة إلا 
أشهر قلائل» فإذا بلغتها حقٌ لأبي أن يضِمّني إليه؛ 
وهو لا بد فاعل كما فعل بأختى وأخي من قبل. وقد 
تبدّدنا ذاك الخطر حين بلغت السابعة» ولكنٌ جدّى 
كتب إلى عمي ‏ وهو من كبار المزارعين في الفيوم - 
راجيا أن يستشفع لي عند أبي ليتركني في كفالة جدّي 


١6 السراب‎ 


حتّى أبلغ الفناسضلة 1 :نات الشفاعة بمعجزة من 
السماء. وها قد اقتربت الناسعة. ولسوف أنتزع من 
أحضان أممي ما لم يتدازل أبي عن ححقه في استردادي . 
وبكت أمي يومًا في عضر جدّي وقالت له: 

- لقد فقدت راضية ومدحت فلم تفع عليهبا عيناي 
منذ تسع سنواتء وم يبق لي إِلّا كامل. فهو عزائي 
الوحيد في هذه الحياة» ولا أدري ماذا أفعل إذا سلبي 
الرجل إياه. 

وهرٌ جدي رأسه الأشيب متبِرّماء وكان ذاك 
الحديث يكربه؛ وقال لما: 

وماذا بيدي أن أفعل؟! هذا حكم الشرع وما لنا 
من حيلة فيه» والرجل الذي تعنينله هو أبوه على أي 
حال وليس برجل غريب! 

نهتفت أي في تألم واحتجاج : 

- أبوه!!... أتدعو هذا الوحش أبا؟! يا أسفي 
على راضية ومددحت في البيت الذي جعل السكير مله 
حانة. إن الأبوّة لم تختلج بصدره قظ. وكامل قد 
ترعرع في رعايتي ونبل من حناني» ولم يدر شيئًا عن 
واد المحلوقات, فإذا أخذه الرجل هلك بين يديه 
وهلكت هنا وحدي, . . 

وخنقها البكاء فامسكت عن الكلام مرغمة؛ ولما 
استردّت أنفاسها استطردت تقول : 

- هل تتصوّر يا أبي أنْ كامل يستطيع أن يعيش 
بعيدًا عن أمّه؟ إِنْ يدي هاتين تطعانه وتلبسانه 
وتنيانه. إنّه يخاف خياله» وإنّه لتفزعه زفرات 
الصراصيرء فكيف يأذن الشرع بأن ينترع مثل هذا 
الطفل من أحضان مه ؟ | 

وقطب جدذَّي متَبرّمّاء وبدا وكأنه ضاق بشكواهاء 
بيد أنْ وجهه لم يكن مرآة صادقة لقلبه؛ وكثيرًا ما كان 
ببدو ساخطا والقلب منه نديّ بالرحمة, ولم يزد وقتذاك 
على أن قال: كفاك شكوى وبكاء. إن قسم له أن 
بمكث بيننا مكث,» وإن أراد الله أن يذهب إلى أبيه فلا 
راد لقضائه , . . 

ذاك كان قولهء أمَا صنيعه فكان شيئًا آخر. فقد 
حزم أمره يومًا ومضى إلى أب ليفاوضه في شأن 


5 السراب 


استبقائي في كفالته. والحقّ أن جدّي كان يحبني حب 
بالغا. أحبّنى لأني كنت أنيس شيخوخته. والطفولة 
تحرّك في الشيخوحة أعماق الصدورء وأحبّني للبّه أمّي 
التي لبثت إلى جانبه بعد وفاة جدّتي ترعاه بحنانها 
وعطفها وحبها. ذهب الشيخ إلى أبي وانتظرنا وأيدينا 
على قلوبنا. ومرٌ وقت الانتظار على أميّ في عذاب لا 
يمكن أل أنساه مها امتدٌ بي العمر. لم يكن ليقرٌ لا 
قرار أو يسكن لما جانب» وجعلت تخاطبني حينا 
وتخاطب نفسها أحيانًا. ودعتني مرّات إلى مشاركتها في 
الابتهال إلى الله أن يكلّل مسعى جدّي بالنجاح. 
ومضيت أرقبها بعيئين محزونتين حي انتقلت عدوى 
قلقها إلى صدري فاستعبرت باكيًا. انتظرنا طويلا - أو 
هكذا خيل إلينا يشملنا حزن وقلق» تسبح أعيننا 
دمعاء وتلهج ألسنتنا بالدعاء. حي سمعنا جرس 
حنطور فهرعنا إلى الشرفة؛ فرأينا جدي وهو يقطع فناء 
البيت بخطاه الثقال. . . وعدنا إلى الباب ففتحناف 
ودخل جدّي صامنًا وهو يحدجنا بنظرة لم ندرك للها 
معنى . 

ومغى إلى حجرته فتبعناه وقد نخحانت أمَّي الشجاعة 
أن تسأله عمّا وراءة, وراحت تبمس بصوت متهدّج «يا 
ري... يا ري!» وخلع طربوشه بأناة وهو يتتحامى 
عبني أمي» ثم جلس عل مقعد كبسير قريب من 
فراشه. ثم ألقى علينا نظرة طويلة وقال بيصوته 
الأجش وكأئمًا يخاطب نفسه : 

- رجل مجرم!... ماذا كنت تنتظرين من رجل 
مجرم؟ 

وابيض وجه أمي وارتعشت شفتاهاء ولاح في 
عينيها القنوط. وجعلت أردّد بصري بين جذي وأمي 
في قلق وخوف. وتركنا جذي لشقائنا هنيهة. ثم رثي 
نا فرفع عن وجهه نقاب التجهم؛ وقهقه ضاحكاء 
وقال بصوت يلم عن الظفر: 

- لا تقتلي نفسك كمذدًا يا أمّ راضية. فقد أذعن 
الشيطان بغير تعب طويل . 

بيتنا بادئ الأمرء ثم هللت وجوهنا بشراء وتلذلا 
نور الفرح في عيني أمَي, ثم جثت على ركبتيها أمام 


جدّي وأشبعت يده تقبيلًا وهي تقول بلهفة : 

ع4 ار الله قلبي 
الكسير؟ 

وأخذ جذي يفتل شاربه في ارتياح بينا عادت أمي 
تسأله بنفس اللهفة : 

- أرأيث راضية ومدحت؟ 

فهر رأسه آسمًا وقال: 

كانا في المدرسة ! 

فدعت لما دعاء حارًا وعيناها تغرورقان. ولم يكن 
جذّي يزورهما لكراهيته لأبي. ولأله لم يكن ينسظر 
استقبالا كرما في بيته. ثم قصّ جدَّي كيف قابل أبي 
في الفراندا وبين يديه زجاجة حمر وكأس مترعة. وكيف 
تلقّاه بدهشة واستغراب», وكيف أنّه لم يعد له من عمل 
في الحياة إلا الشراب», ولعلّ اضمحلاله ذاك الذي 
جعله يئقاد لاقتراحه متنازلا عن عناده القديم . 

وقد بدا أوّل الأمر وكأنه يرتاب فيها يلقى على 
سمعه. فل أن تبيّنه ضحك في سخرية وازدراء من 
غير ما معاندة أو غضب وقال ببساطة: 

- لا دماغ لي للتربية؛ ولأكون مرضعة من جديد. 
خله عندك إذا شئت ولكن لا تطالببي بمليم واحدء 
هذا شرط صريحء وإذا طولبت بمليم واحد فيها 
يستقبل من الأيام انتزعته منكم فلا تقع عليه أعينكم 
مأ سحييث , 

وقبل جدذي الشرط. وكان يحدسه مقذما من قبل 
أن يذهب إليه؛ ولكنه عجب كيف أن الرجل لم يبد 
عن أية رغبة في رؤية ابنهء ولا سأل عنه على 
الإطلاق. ثم قال جدّي : 

- لم يعد رؤبة لاظ إنساناء لقد انتهى الرجل . 

فغمغمت أمّى في حزن وكابة: 

واحزئاه على راضيةٌ ومدحث! 

فقال جذدّي يطمئها : 

- إِنْ راضية في السابعة عشرة ومدحت في السادسة 
عشرة. ولم يعودا طفلين. . . 

# ع 
وثبنا إلى طمانينتنا المعهودة؛ فنجونا من ذاك الخوف 


الذي اعترض سبيلنا مهدّداء وواصلت الدراسة في 
البيت أعالجها بصعوبة وضيق. واستدار العام. وحل 
الخريف وكثر الحديث عن الدراسة والمدرسة» وأيقنت 
أن معاد قريبًا إلى السجن. وقلت يوما لأمي : 

إذا كنت تحبيئني ولا توافقين على أن يأخذني أبي 
فلماذا ترضين بأن تفرّق المدرسة بيننا؟ 

فضحكت ضحكتها الرقيقة وقالت: 

يا للعار! كيف تقول هذا وأنت الرجل الكامل؟ ! 
ألا ترغب أن تكون يومًا ضابطًا كبيرًا مثل جدّك؟ وماذا 
يبقى إذا هجرت المدرسة إلا أن تشتغل بائع فول أو 
كمساري ترام ! 

ومضى بي جدّي إلى مدرسة العقادين بمصر القديمة, 
ونجحت فى الامتحان هذه المرّة. وهل العام الدراسئ. 
وانتظمت في المدرسة كارهًا مرغمًا. وكان الحنطور 
يوصلنى صباحًا إلى المدرسة. ويعود بي مساء إلى 
البيت» وفي نظير ذلك منع جدَّي أمّي من توصيلٍ 
بنفسها كما كانت تفعل على عهد المدرسة الأولية. 
عدت مرّة أخرى إلى المدرسة. وعانيت من جديد 
الدروس والنظام وقسوة المدررّسين وسخرية التلاميذ. 
كانت حياق المدرسيّة شقاء كلّها. وأكّد ذلك الشقاء 
ني كنت ملكا مستبدًا في بيتي وعدا ذيلاً في 
مدرستي , وطالما مرت بين الحبّ الذي يغمرني ثِي 
البيت وبين عصا المعلّم وسخرية التلاميذ. 

وقد اكتسبت عداوة المدرسين ببلادي وحمود ذهئي 
حب أطلق على بعضهم «الغبيّ الممتاز» وكان مدرس 
الرياضة إذا انتهى من شرح درس سألني عنه وما يزال 
بي حجّ أجيب إجابة ترضيه فيتنفس الصعداء ويلتفت 
نحو التلاميذ قائلا: «لا بد أنّكم فهمتم ما دام سي 
كامل قد فهم) ويضجح الفصل بالضحك! 

أمَا التلاميذ فكان دأمهم السخرية مثي ما وجدوا إلى 
ذلك سبيلا. وكان عجزي عن إنشاء علاقة صداقة 
حقيقة مُرّهَ لا شك فيها فلم أظفر في حياتي بصديق. 
والحقٌّ أي لست أسوأ من كثيرين من يتمتعون 
بصداقات سعيدة, ولكنى شديد النفور بطبعي . شديد 
الخجلء محبّ للوحدة والعزلة. عديم الثقة في 


السراب /ا١‏ 


الغرباء» وزاد طبعي تعاسة ما جبلت عليه من صمت 
وعئّ وحصرء فلم أحسن الكلام قط فضلا عن 
الدعاية والمزاح ع لذلك جميعه رموني بثقل الدمء وقد 
التبى هذه الصفة. حيّى سألت أمى يوما: 

هل آنا تقيل الام يا أمَاه؟ ْ 

فرمقتني بنظرة ارتياع وقالت بحدّة: 

من قال عنك ذلك؟ 

فقلت في حياء : 

- التلاميذ كلهم؟ 

قطعا لألسنتهم . نهم ينفسون عليك أدبك 
الكامل. والحنطور الذي يحملك بينا يتسكعون على 
أقدامهم؛ إِيَاك وأن تتَخذ مهم صديقا . . . 

ومتى كنت في حاجة إلى مثل تلك النصيحة؟! 
وهكذا كابدت الحياة في المدرسة في وحدةء يطالعني 
روح عداوة وبغضاء من الحو المحيط بي. ولعلّها كانت 
لا تخلو من غبطة لو أن أسهمت في مسراتهاء ولكن 
خحجلي الشديد أجبرني على مقاطعة الألعاب بأنواعها 
كالكشّافة والكرة والقسم المخصوص. حبّى الرحلات 
المدرسيّة لم توافق أمّي على الاشتراك فيها أن يصيبني 
مكروه؛ وكان التلاميذ يتحدّثون عن الأهرام وأبىي 
المول ودار العاديات والفسطاط فاسترق السمع في 
حيرة وحزن وكأني أستمع إلى سائحين يقصون عن 
بلاد نائية! ولسدٌّ ما ينتابنىي من خحجل إذ أقرّر أن عيني 
لم تقعا من القاهرة ‏ المدينة الوحيدة التي عشت بين 
أسوارها ‏ إِلّآ على شوارع معدودات هي كل حي من 
مشاهدات في هله الدنيا الواسعة. ولم يكن لي من 
عزاء في تلك الأيّام إلا أن أنفرد بِأمّي في الشرفة أو في 
حجرتهاء ثم تأخحذ بأطراف الحديث, كأن ليس لحديئنا 
من نباية. وكانت عصا المارّس تذكرني بأنْ علي واجبًا 
ينبغي أو أؤدّيه قبل النوم. فأقبل عل الكتاب 
مستكرماء وأذاكر بلا روح ولا حماس وسرعان ما 
يترنُح رأسي ويرئق النوم بجفي , 

0000 
ويومًا فرئت علينا في حصّة الديانة ‏ هذه الآية 


١‏ السراب 


الكرعة «فإذا جاءت الصاءحة. يوم يفْرٌ المرء من أخمعيه. 
وأمه وأبيه ألخ . قلا أذكر أي انزعجت لشيء 
انزعاجي لماء لم أطق أن أتصور أن أفْر من أمي في يوم 
مهما كانت فظاعته. وأن أغادرها في أهواله بقامتها 
النحيلة الرقيقة وعينيها الخضراوين الحنونين. فقاطعت 
الشيخ على غير وعبي م هاتفًا : 

ف كاد رودن اكرويام 

وأحدثت مقاطعتي دهشة في الفصل لأني لم أكن 
لمن بكلمة. وم يدرك أحد ماذا أردت» ول يلبثوا أن 
ضجوا ضاحكين» وغضب الشيخ. وحملني مسئولية 
الإخلال بالنظام» فأقبل نحوي متغيّظًا ولطمني على 
وجهي بعنئف وحلق. ورحبت باللطمة كعذر ظاهر 
للبكاء إذ كنت أقاوم دموعي جاهدًا ودون جدوى. 

لقد زلرلتي هذه الأية الكريمة. وكانت أول نذير لي 
عن مأساة الحياة. : 


م 

حياة رتيبة: كابدتها على استكراهء بيد أنّها لم تخل 
من هرّات عنيفة. فذات مساء عاد جذي مبكرًا على 
غير عادته. وقلقت أمي لأنه لم يكن يرجع إلى البيت 
قبل الفجر. واقتحم علينا الحجرة متجهَمًّا. فيضت 
أي مستطلعة. ورفعث رأسى عن الكتاب؛. وقيل أن 
تسأله عمًا به قال بحدّة 1 يضرب طرف حذائه 
بعصاه : 

ساني كار تق ابر لض وكا د ره 
ستجعلنا مضغة الأفواه! 

فنطقت عينا أمّي بالفزع» وهتفت دصوت متهدّج : 

- رحماك يا ري!. . . ماذا حدث يا أبىي؟ 

فقست نظرة عينيه الخضراوين» وقال بصوت أجش 
غليظ : 

د اقلت ...-“راضية: .... هويت]! 

وشحب وجه أمي . وخخلجت عيناهاء وجعلت ترئو 
إلى جدّي بنظرة مستنكرة لا تجد سبيلًا إلى تصديق ما 
صكٌ أذنيها. ثم غمغمت بصوت كالأنين : 


فضرب جذي الأرض بقدمه حيّى ارتت أركان 
الحجرة وصاح بغضب: 

- محال؟! بل هي الحقيقة الواقعة» هي الفضيحة 
العارية» هي الضربة القاصمة لكرامتنا. . 

ولى تحر أمَى جوابًا كأتًا فقدت النطق. وتنفس 
جذي بشيء من اللتهد ثم قال وكأنّه يخاطب نفسه : 

- أي جتون سلبها الرشاد!. . . ليس هذا الدم 
الفاسد بدمنا! هذا دم شيطانّ يفضح سوء فعله 
الأصل القذر الذي استّمِدٌ منه. لقد مات حدّها وهو 
يصب لعناته على رأس أبيها فحلت اللعنة بِذْرَيّته . 

وازدردت أمْي ريقها وتمتمت في ارتياع : 

- أَفْظِمٌ ببا من كارثة! كيف ضِلّت الفتاة؟! لقد 
أفسد السكير العربيد عليها حياتباء ما أتعسها! 

فقال جذّي باستياء وحمنق : 

- لا تنتتحلي الها الأعذار. لا شىء في الوجود يسوغ 
هذا الفعل الشائن . . . 

فخمغمت. مي بصوت باك : 

لست أنتحل لا الأعذارء ولكنّها تعيسة ما فى 
ذلك من شتلك 

وساد صمت ممعزن» ولبثا يتبادلان نظرات الغم 
والكدر والقنوطء. وقد أصغيت إلى ما دار بيتبها بانتباه 
شديد؛ فأدركت أهونه. وغابت عي خطورته الحقّة 
كان الأمر يتعلّق بأخت لم تقع عليها عيناي لماذا 
هربت؟ وأين انعتفت؟ وتساءلت: 

- لماذا لم تحضر إلينا؟ 

فصاح بي جدّي حائمًا: 

اخرس ! 

وارتمى على مقعد. واستطرد يقول: 

جاءني عمّها في النادي وأبلغني الخبر قال إِنَّه لا 
يعلم شيعًا عن حقيقة الحال. وقد أبرق له مدحتثت 
للحضور فورًاء فجاء بلا إبطاء, ثم أخيره الششابٌ 
باختفاء شقيقته. أمَا المجرم السكير فلم يزد على أن 
قال «فى داهية». لم ذهمنا معًا إلى بعض أصنقاء العم 
من رجال الممحافظة وأفضينا إليهم بالخر الشائن سائلين 


وتريّث جدّي دقيقة ثم استطرد: 

- ويل للسكير المجرم!. . . إِنّه المسئول الأول عن 
هذه المأساق لأذهينٌ إليه وأحطمنٌ رأسه! 

ولاح الانزعاج في عيني مي فقالت بجزع : 

كلا. . . كلا. . . هذا يزيد من حالنا سوءًا. 

فقال جدي بإصرار: 

- ينبغي أن يجزى عن شرّه شرًا. 

لا شأن لنا به. . . فلنركز اهتتامنا في العثور على 
الفتاة علّنا نقيم ما اعوج من أمرها. . . 

فحدجها بارتياب وتساءل : 

- لماذا تلحفين في الحيلولة بيني وبين الذهاب إليه؟ 
فلاح في وجهها الارتباك وتمتمت: 

أخاف أن يزداد الآأمر سومًا , 

فقال جذدي بحنق : 

- بل تخافين أن يؤدّي الشجار إلى أن يستردٌ كامل . 
إنك لا تقيمين وزنًا لتيىء. ولا تكترئين لغير نفسك. 
ألا لعنة الله عليكم أجمعين. . . 

ولبشن البق رذاء “انون فكاتة في حذداد. 
واهتصرئنا أيَام سود فنكد العيش» وكدت أنحتنق في 
ذلك الحو القاتم. وقد غيّر جدّي نظام حياته وتخلف 
عن سهراته المعتادة في النادي وكان يغيب خارج البنق 
طوال النبار دون أن ندري عن مكانه شيئًا. على حين 
تقضى أمَي النبار ساهمة أو باكية. وحاءنا جدّي ذات 
8 فلا أن وقع بصره على أمّي بادرها قائلا: 

- عثرنا على ضالتنا أخيرًا. . , 

جرت اني لخر وي تيع 

حمًا! . . الهم ارحمنا . . . 

فقال جدّي بصوت تنم نبراته عن الارتياح 
والسرور: 

أرسلت الفتاة المجنونة إلى مدحت كتابًا تنبكه بأئها 
تعيش في بيت زوجها ببنهاء وتسأله المغفرة عن سلوكها 
الذي اضطزت إليه اضطرارا. . . 

وتنبّدت أمّى من الأعباق وقالت وعيئاها تدمعان: 

الم أقل لك!!. . . إِنْ راضية فتاة طاهرة ولكنّها 


١9 السراب‎ 


تعيسة الحظء ربّاه. . . أين هي الآن؟ خرني بكل ما 
تعلم. 

فعال جدذي مبذوع . 

- سافرنا إلى بنباء أنا وعمها ومدحتء فوجدناها 
في أسرة طيّبة محترمة» وتعرّفنا إلى زوجها وهو شابٌ 
موظف بالحقانيّة يدعى صابر أمين. فأخيرنا أنّه استاجر 
شقّة بشارع هدايت بشبرا وأنه سينقل إليها هذا 
الأسبوع. وقالت راضية: إِنْ زوجها تقدّم لخطبتها 
ولكنّ أباها رفضه بغلظة, وأنّه رفض قبله شابًا آخر 
تقدّم لخطبتها كذلك. . . ولعلّها الخمر التي لم تب على 
ذرّةَ من إنسانيّته فأسى واجباته وبدّد مرتّباته» واستبد 
بها اليأس فهربت مع الاك وسافرا إلى أسرته حيث 
كان المأذون في النتظارهما. 

وأصغت أمّى إليه وهي تبكي بكاء حاراء بعثه 
الحزن والارتياح معّاء ثم قالت: 

- سأسافر إليها غذًا. , . 

فقال جذّي بتأكيد: 

- ستجدينها في بيتها غذًا أو بعد غد, . . 

وعادت تتساءل : 

- لماذا لم تأتي إل أنا؟ 

فقال جذي كمن يعتذر عن الفتاة : 

- لعلّها خجلت أن تأي بخطيبها إلينا وهى هاربة 
من له جيك ردن مال العف ال د 
العباية التي لم نكن نحلم بها . . . 


8 

ركنا الخنطور حميعا لأول مرةع فجلس جدّي وأمّي 

في الصدارة» وجلست عل المقعد الخلفت. كانت أمى 
الأخيرة من هم وحزن وكأئها استردت شبابها الأول. 
كانت عيئاها تتألقان بنور السرور البهيج. وكان لساهها 
ففرحت برحلتنا السعيدة. وجعلت أفكّر في شقيقى 
الى سأراها لأول مرّة بعد دقائق بدهشة وسرور وقلق 
لم أدرٍ له حملا ترى ما شكلها؟ وكيف تلقانا؟ وهل 


٠‏ السراب 
تحبّنا؟ وقطعت أمّي عل حبل أفكاري فسالت جدّي 
بلهفة : 

هل أجد مدحت هناك؟ 

فقال جدّي وقد اعتمد مقبض عصاه بيديه : 

الراجح أن يكون هناك... لقد تواعدنا على 
ذلك. . ولاحت في عينيها نظرة حئان ورجاء. وسارت 
العوية ميكيية قرا ورحت: أشيل بمشاهدة المارة 
والعربات والترام. حيّى بلغ الحسطور مقصله. 
وانعطف إلى شارع هدايت» ثم وقف أمام بيت 
متوسشط الحجم. مكون من ثلاثة أدوار. وغادرنا العرية 
وصعدنا إلى الدور الثاني وأمي تقول بصوت كالهمس: 
وما أشدّ حفقان قلبي !)» ودف جدذي الجرس» وفتح 
الباب. ودخلنا. رأيت فتاة وشائين. وقبل أن أعاينهم) 
هرع اثنان منها إلى أمّيء فلم أر إلا عناقًا حارًا. وم 
أسمع إلا تنبّدات الدموع. رمقت الثلاثة بحيرة 
رغصا :عمق برطال الحتاقية روظال بالكاد- حو 
تدخل جذي بيهم ضاحكا وهو يقول: 

- إليكِ زوج ابنتك صابر أفندي أمين. 

وتقدّم الشابٌ من أمي فقيل يدهاء وقبّلت جبينه 
و أليث أن رأيت نفسي محط أنظار الجميع. وقالت 
أمّى وهي تبتسم خلال دموعها: 

أخوكيها كامل . . 

وهرعت نحوي شقيقتي» وضمتني إلى صدرهاء 
وقبّلتبي بحرارة» وأنا مستسلم ببن يديها لا أت حراكاء 
ولا أنطق بكلمة» وصاحت بفرح: 

- رباهء إنّه شابٌ يافم!. . . إنه نسخة منك يا 


أماه ! 
ثم ضمَني شقيقي إلى صدره وقبلني وهو يقول 
بسر وور. 


يا له من شات حجول! 

وم أكن حبّى تلك اللحظة قد أنعمت النظر إلى 
وجه من ورجوههم. وظللت غاضًا بصري؛ والخجل 
يمحرق جبينيى وخحذّي. ثم مضوا بنا إلى حجرة 
الجلوس. فجلست أمّي بين راضية ومدحت» وجلس 
جدذي لصق زوج أختي» وأقعدتني شقيقتي إلى جانبها, 


وقالت أمي وهي تف دمعها: 

يا رحمتاه! وجدتكما شابين بعد أن التزعتي مني 
طلتلوقي ماقمل له الكو ني 

فقال زوج أختي بتأثر: 

- يا لمحا من حياة هي بالمأساة أشبه! وإني لأشكر الله 
على أن جعلني الفرصة التى هيات لكم هذا اللقاء! 

وسالت الأشواق القديمة حديثًا قيَاضًا لا ينضب 
معينه» وانثالت عليهم الذكريات والخواطر؛ وشكا كل 
نه وهمّهء وامتزجتث الدموع بالبسات. وكانت تلوح 
في عيني أمّى بين الحين والحين نظرة دهشة كأنها لا 
تصدّق أن الله قد جمع شمل الأسرة بعد تفرّق ونوى. 
ولمًا شغلوا بأنفسهم عنى أخذت أفيق من الخجل. 
وأستردٌ أنفاسى. وشعرت بأنيٍ- لدرجة كبيرة- 
وحدي) فداخلني ارتياح» ولكن سرعان ما انتابني قلق 
وضيق» وجعلت أسترق النظر إلى راضية ومدحت. 
بهرني جمال أختى. رأيتها أقصر من أمي قليلا ولكتبا 
ممتلئة بضةء ميّالة للبياض. أمّا وجهها فصورة من وجه 
أمي , وصورة من وجهي أيضاء بعينيه الخضراوين 
الصافيتين وأنفه الدقيق المستقيم. أما مدحت فأنموذج 
من نوع آخرء بدين في غير إفراط. مستدير الوجه 
والرأس» أبيض الوجه مشرب بحمرة؛ أسود العينين» 
ينم مظهره عن الفحولة والقوة وإن لم يجاوز الثامنة 
عشرة. وكان يقهقه ضاحكًا لأتفه الأسباب. ويبدو 
فرحًا صحيسًا معاق. استرقت إليههما النظر باستطلاع 
واهتمام.» وسرعان ما جذبني إليهما شعور بالحب 
والعطف., واستنمت إلى روحههما المرحة الباسمة. بيد 
أن لم أنعم بشعور الوحدة طويلاء فرتما اتجهت صوبي 
الأنظار وبذلت المحاولات لحملي على الكلام, 
واستدراجي لمشاركتهم سرورهم؛ ولكنني لم أنبس 
بكلمة قائعًا برد الابتسام بالابتسام. ولئن كان كل 
شيء مما يكتنفني يدعو للغبطة إلا أني لم أخل من 
مشاعر قلق غامض رغَبني أكثر من مرّة في الرحيل» 
وقالت لى راضية باسمة : 

كان مولدك عسيرّاء والله يعلم كم تألمت أمناء 
ولبئنا أنا ومدحت في الحجرة المجاورة نبكي» ثم 


أدخلنا في النهاية ورأيناك في اللقّة كقبضة اليد فائلنا 
عليك بالقبل, 

وقهقه مدحت وقال: 

ع وارففة أن لفلف اتلس شن الف كت اطلنة 
فحملوني إلى الخارج . 

وقالت راضية برقة : 

مركا لاك لولاا ييف ينا فارز لعله 
يحبو الآن. أو أنه نه يمي ويلعب, أو هذا أوان المدرسة. 
وعلى فكرة أيّ سنة بلغت من دراستك؟ 

وشعرت بحرارة احمرار خدّيّ, وانعقد لسالي. 
فأجاب عيّى جدّي قائلا بلهجة لا تخلو من تبكم : 

- إِنّه يعيد السئة الأولى الابتدائيّة وهو في العاشرة 
من عمره 

فقال مدحت ضاحكا: 

الحال من بعضهء فقد التحقت بالزراعة المتوسّطة 
بعد سقوط عامين بالثانويّ ! 

وقالت أمي : 

- إِنْ جدّك يريد أن يجعل منه ضابطا. . 

فهر مدحت رأسه وقال: 

- عليه إذن أن يحصل على البكالوريا. 

ركان حدق شن الكلون. المكر ا جا وريه 1 
بالابتدائية فقال بازدراء ؛ 

- إن بكالوريا اليوم لا تعدل ابتدائيّة الأمس. . 

ثم دار الحديث عن الحياة في بيت أبي» حبّى قالت 
واضية: 

- كنا في الحقيقة نعيش بمفردناء ولم نكن نرى أبانا 
إلا مرّة في الصباح الباكرء ثم نمضي وقتنا معّاء نداكر 


أو : تلعب أو نخدت وقد حمدنئأ الله على تلك 
لحر 
وتنبّهت أمّي إلى الشطر الأخير من الكلام. 


وتبدت في إشفاق؛» فقال جذّي : 

إن كان أبوى) أعفاكا من عشرته وخالطته حقّا 
فقد فعل خخيرًا يستحقٌ عليه الشكر والدعاء! 

وتقَضّى النهار كله في جو عابق بالحبٌ والأشواق. 
وعدنا إلى المثيل مجبوري الخاطر. واتّصلت الأسباب 


السراب ١؟‏ 


بعد ذلك بيننا وبين شقيقتي. وكان مدحت يزورنا كلما 
سنحت له فرصة, 

واستقبلتث عامًا مثيرًا تورّعتني فيه الحيرة وحبٌ 
الاستطلاع والتجربة القاسية. صدمني في مطلعه 
هروب أختى وما علمت بعد ذلك من زواجهاء 
فحبلهاء ثم إنجابها طفلة. وتساءلت نفسي كما ساءلت 
أمّي عن معنى هذا كله لماذا هربت من أب إلى رجل 
غريب؟ لاذا لم تأت إلينا؟ ولماذا تزوّجته؟ وكيف 
حبلت؟ وكيففا حرجت زيلب الصغيرة إلى لور 
الدنيا؟. . وارتبكت أمَي حيال الساحي وتطفي. 
وجعلت تصطنع لي الأجوبة الكاذبة -حينًا وتتأثاني حي 
أكبر حيئًا آخرء فإذا لججت تكلفت لي حزما غير 
معهود ولا مألوف. فلم أظفر منبها بشيء ينقع الغلة 
وفي الوقت نفسه شعرت بأنّ ثمّة سرًا يراد إخفازه 
عئى. ثُمْ جاءني العون من حيث لا أدري, فتطوعت 
الخادمة لإماطة اللثام عا حيّر خيالي وأهبه. كانت 
تكبرني بأعوام , وكانت دميمة قبيحة» ولكتها كانت 
تكرّس فراغها لخدمتى وكانت تخلو بي في أويقات نادرة 
إذا شغلت أمّي 35 أو حاجة. وبدا أثبا استرقت 
السمع يومًا إلى ما يدور بيني وبين أمّي عن الألغاز التي 
استثارتني من سباتي. فصارحتني مرّة بأمّبا تعلم أمورًا 
خليقة بأن نُعرف» وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام 
شروو وواحهية التجربة تلذة وسداجة:.. .عل أن 
العهد بها لم يطل» ف| أسرع أن ضبطتنا أمّي متلبسين , 
ورأيت في عيني أمي نظرة باردة قاسية فأدركت ألي 
أخطات خطاأ فاحشًا. وقبضت على شعر الفتأة ومضت 
بها فلم تقم عليها عيناي بعد ذلك. وانتظرت على 
حوف وخجل. ثم عادت متجهمة قاسية. ورمت 
صنيعي بالممة والعار. وحدتثتني عما يستوجبه من 
عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة. ووقع كلامها مت 
موقع السياط حتّى أجهشت باكياء ولبقت أيامًا إتحامى 
أن تلتقي عيئانا خزيًا وجلا . 


وأ 


حدثت معجزة ‏ على حدٌ تعبير جدّي - فدلجحت فى 


3" السراب 


الامتحان. ونُقلت إلى السنة الثانية» وإن كنت قضيت 
عامين في السنة الأولى. ولمًا اطلع جذدّي على الشهادة 
قال لى مداعبا: 

لو كنت ما أزال في خدمة الجيش لحئتك بفرقة 
الظوحية, وأمرتهم بإطلاق أربعة وعشرين مدفعا 
اتودنالا وتحا ملت 

على أنْ جدّي إذا كان لم يمكنه أن يطلق لنجاحي 
أربعة وعشرين مدفعًاء فقد قذف حياتي بقنبلة ‏ عن 
قصد حسن ‏ كادت تودى بي. حدث أن زاره يومًا 
قيادته في السودان. وعقب انصرافه مباشرة جاءنا 
جدّي في الشرفة وراح يتفرّس في وجهينا في صمت 
وإن نم وجهه عن ارتياح وسرور. ثم قال مخاطبا أمي 
بلهجة مليئة بالمرح : 

- اتبعيني بمفردك يا زوزو هانم! 

وانفجرتٌ ضاحكًا لذاك التدليل اللطيف. على 
حين تبعته إلى حجرة نومه ومئيت نفسي ببشرى 
حميلة. . . وغابت أمي مقدار ساعة ثم عادت إل وما 
إن وقعت عليها عيناي حبّى بادرتها قائلا : 

- أهلة وسهلا يا زوزو هائم. . . 

وقهقهث ضاحكاء ولكئها ابتسمت ابتسامة باهتة 
على غير ما انتظرت, وجلست على كرسيها يلوح في 
عينيها السهوم والتفكيرء وساورني القلق» فملت 
نحوها. وسألتها عا ألم بها؟ فقالت لي باقتضاب: 

حا افو تانرة ل لق 
وراءهاء فالححت عليها أن تفضي إل بمكنون صدرها, 
فنلفخت في تبرّم» ورجتني أن أمسك . وجلسنا صامتين 
طويلاء ثم تجاذبنا أحادثينا المعتادة في فتور. ودُعينا إلى 
العشاء فأكلت لقات معدودات» وليًا تهيأنا للنوم 
وقفثٌ أمام المرآة طويلاء ثم استلقت إلى جانبي . 
ووضعت راحتها على رأسى وقرأت سورًا قصارًا من 
القرآن كالعادة,» حي رن الخو بجفئّ. واستيقظت في 
المزيع الأخير من الليلء فخيّل إل أن أسمع حسا 
كالهمس.ء فأرهفت أذنّ نأيقلت أثْبا تغمغمء وظئنتها 


تحلم. فناديئها حتّى استيقظت. ولبثنا مستيقظين حق 
أسفر الصبح . 

وف اليوم التالي زار جدّي ذلك الضابط المتقاعد, 
وحدث ما حدث بالأمس فدعا جذدَّي أمّي إلى 
حجرته. ولبثا منفردين زهاء الساعة؛ ثم جاءا معا إلى 
الشرفة وهي تعان يفيه وكيقنه بدا تيجال وتات 
سديدين : 

- كلا. . . كلا... هذا محال؛ ولا أحبٌ أن يعلم 
شيئًا. ولكنه لم يأبه فيا بدا وقال لي بحرم : 

- إفي منتظرك في حجرت . 

وجعلت أمْى تتوسل إليه وتضرع, ولكنه رجع إلى 
حجرته وأنا في أعقابه على حين مضت أمي إلى حجرة 
نومنا في حالة غضب واستياء. وجلس جذي على 
مقعده الكبير»ء وأمرني أن أقترب منهء فاقتربت في رهبة 
وخموفا حتى وضع يده النحيلة على منكبي » ورمقني 
بنظرة دقيقة لم قال: 

- أريد يا كامل أن أحدّئك بأمر هامُ. لا زلت 
صغيرًا بغير شكُ؛ ولكن يوجد في مثل سنّك مَن 
ينبض بأعمال الرجال» وأحبٌ أن تفهمني جِيَّدَاء فهل 
تعدني بذلك؟ ْ 

وأجبت بطريقة آليّة : 

أعدك يا جذّي . 

فابتسم إل متلظفا ثم قال: 

الأمر هو أن رجلا فاضلًا غنيًا من أصدقائي 
يرغب أن يتزوّج من أمّكء وأني أوافق على ذلك رغبة 
مئى في سعادة أمّك, فلا بذ للمرأة من رجل يرعاهاء 
وأنا قد جاوزت الستين» وأخاف أن أموت قبل أن 
تضطلع أنت بواجبك كرجل فلا تجد من تعتمد عليه 
في الحياة . 

وواصل كلامه باستفاضة, ولكنّ عقل كَل فلم 
يتابعه. ول أعد أفقه معبى ما يقول. 

ملكا عيارة «يتزوج من أك»؛ مسامعي » وانفجرت 
في دماغي» وانّسعت عيناي دهشة ورعبًا وتفرّرا 
وتساءلت: هل يعني' جدّي ما يقول حمًا؟ أجل لقد 
روت أمّي لي قصّة زواجهاء ولكن كان ذاك قصّة 


وتاريخًا بعيدّاء ولم أتصوّره حقيقة واقعة أبدًا. وذكرت 
لتوى الخادمة المطرودة فغاض قلبي في صدري وقلت 
لدي وأنا ألحث: 

- أي لا تتزوّج. ألا تفهم ما هو الزواج!؟ 

وم ينمالك الشيخ نفسه من الضحك. ثم قال 
مبئسم) : 

- الزواج سئة من سئن اللهء والله يفضل المتزوجين 
عل غير المتزوجين». ولقد تزوجت أنا جذتك. كما 
تزؤجت أمّك فيا مضى؛ وكا ستتزوج حضرتك يوما 
ما. أصغ إل يا كامل» أريدك على أن تذهب إلى أمّك 
وتقول لها إِنْك ترغب في تزويجها مثلي» وإنَّ سعادتك 
تضاعف بسعادتها. . . ينبغي أن توافق على ما 
يسعدهاء وحسبها ما قاست من أجلكم حميعا , 

وجعلت أطرافي تنتفض انفعالا وتأكرّاء ونظرت إلى 
جدّي كا تنظر الفريسة إلى معذّبباء ثم سألته بصوت 
متهدج : 

- أيريد أن يأخذها ذلك الرجل؟ 

فابتسم وقال لي : 

0 ولكن لبرعاها ويسعدها. 

فسألته بحدة وأنا لا أدري : 

- وأنا؟ , 

فقال برقّة بالغة: 

- إن شئت ذهبت معهاء أو بقيت عندي على 
ارسي والمسةون 

فعضضت على شفتي بقسوة لأحبس دمعي , 
وتراجعت فجأة فأفلت من يده. وركضت خخارجًا 
دام اة 7داءقه..بوعدويت: :| لم جكهرة: لومدااه. اورعفنافيق 
أمى جالسة محمرّة العيئنين من البكاء؛ وفتحت لي 
إرهها تانتيث بيني يعض الاط إن من كار 
وبادرتي قائلة : 

- لا تصدّقه أعني لا تصدّق أن شيئًا ما قال لك 
سيقع. لا تبك ولا تحزن . . . واعذاياه! 

وحدجتها بنلظرة استغراب واستتكار» وصحت ببها: 

ألم تقولي إِنْ هذا عار وحرام؟! 

فشذت علّ بحنان وهي تقاوم ابتسامةء ثم قالت: 


السراب “ا؟ 

لعل جدّك قال لك إِنّه يريد أن يزوجني » ولكنّه ل 
يقل بلا ربب إِنْني وافقت على هذا الزواج؛ والح أن 
رفضته لأول وهلة؛ وبلا أدنى ترذدء ووددت لولم تعلم 
عن الأمر شيئًا على الإطلاق؛ ولمًا أعطاتي مهلة 

وقاطعتها بحدّة قائلًا: 

- ولكن يريد لك أمرًا معيبًا محرّمًا!؟ 

فصمتت قليلا وهي ترنو إل بطرف حائر. ثم 
استطردت متجاهلة اعتراضي : 

قلت إن المهلة مضيعة للوقت» وأبيت أن أجعل 
هذا الأمر موضوعًا للتفكير, وذلك من أجلك أنت» 
من أجلك وحدك؛. فلا تحزن ولا تغضب. ولا تظن 
بأمّك الظنئون . 

ولئن أخرجني كلامها من ظلات القنوط إلا أنني 
أصررت على ترديد اعترافي حتّى قالت لي بعد تردّد: 

- لم أقل أبدًا إِنْ الزواج من العيوب أو المحرّمات. 
بل هو علاقة شريفة يباركها الله. إني ذممت عيويًا 
أخرى , 

وانعقد لساني حياء وخجلاء ورئتت هي على خذي 
لتسرّي عني وقالت بصوت ينم عن العتاب : 

يا لك من طفل جحود, ألا نستاهل تضحيتي في 
نظرك كلمة شكر؟... أتراك تذكرها فيها يقبل من 
العمر؟ أبدًا!... لتتزوْجنٌ يومًا ولتغادرني وحيدة بلا 
رفيق ولا أنيس! 

وقطبت ساخطاء وقلت بحماس: 

لن أفارقك ما ححييت, 

عبثت بشعري مبتسمة., ولاحت في عينيها 
الحميلتين نظرة سائمة , . 


١١ 
سارت حياتي المدرسيّة في بطء وتشاقل يدعوان‎ 
للياس» فبلغت الرابعة عشرة وما جاوزت السنة الثالثة‎ 
الابتدائيّة, وكان جدّي يقول متأفمًا:‎ 
متى تُقبل على الدراسة مهمة ونشاط؟ متى تعرف‎ - 
واجبك؟ ألا ترى إذا اطردبٌ دراستك على هذا المنوال‎ 


+ السراب 


فستنتهي منها وقد استوفيت سر المعاش؟ ! 

ولشدٌ ما كانت تأسى أمي لذاك التهكم المرء 
وكانت تسأله دائًا ألا يلقيه في وجهي أن تنكسر نفسي 
فأزداد بلادة» أو تقول له: 

الذكاء من عند الله وحسبه ما جمله به من كريم 
الخلق, لأنه كالعذراء حياء وأدبًا! 

وكان أن كابدت حياتي تطورًا خطيرًا لا أذكر متى 
بدأ ولا كيف بدأء وأخثى أن يكون الخيال قد زور 
منه أمورًا على الذاكرة. دبّت في النفس والجسم يقظة 
غريبة» سرت في أطرافي قلفًا واضطرابًا. طافت بي في 
وحدتي أحلام جديدة؛ وغيّبني في المدرسة شرود ركز 
شعورري كله في نفسي. وكنت إذا الطلقت بي العربة 
من المدرسة إلى البيث سحت طرفي في آفاق السماء 
وبنضبى لو أحلّق إلى ذراها المتلقّمة بتلك الزرقة 
الكامة. ولشدّ ما انتابتني الكآبة وغشيني الكدر 
فرؤحت عن قلبي بالدمع الغزير. ولا أسبى الأشواق 
الغامضة؛ والمخاوف المجهولة؛ والأنات المهموسة, 
والشعيرات النابتة. ربّاه إن كائن يتمخض عن حياة 
محوفة مجهولة» تعبث بي شياطينا في النبار والليل؛ في 
اليقظة والأحلام , 

واكتشفت بنفسي ‏ نحت ضغط تلك الحياة ‏ هواية 
الصبا الشيطائيّة لم يغرني بها أحد إذ كنت معدوم 
الرناق. فاكتشفتها كيا اكتّشفت أوْل مرّة في حياة 
البشر. واستقبلتها بالدهشة واللذة» ورضيت بها عن 
ل شىء في الرجود, ووجدت فيها أنسا لوحدتي 
الغريبة. وعكفت عليها في إدمان؛ وراح خيالي يقطفب 
لى من صور المخلوقات ما أزيّن به مائدة العشن 
الوهميّة . 

ومن عجيب أن خيالي في عشقه لم يعد دائرة 
الخوادم بالمثيل اللاتي يسعين حاملات المنضر والفول. 
ولم تكن تلك ظاهرة عارضة ثم ولْتء إنْبا سر دفين, 
أو هي داء دفين. كأني موكل بعشق الدمامة 
والقذارة!! إذا طالعت وجهًا ناضًا مشرفًا يقطر نورًا 
وساء ملكني الإعجاب. وبردت حيوانيتي» وإذا 
صادفني وجه دميم ذو صحة وعافية أثارني ولك 


وانخذته ادا لأحلام الوحدة وعبثها. وأفرطت إفراط 
جاهل بالعواقب. وخيّل إلى جهلي المفرط أن أحدًا 
سواي لا يدري بهاء حيّى سمعت يوما- في فشاء 
الملدرسة ‏ بعض التلاميذ يتقاذفون بها في غير حياء 
فانزعجت انزعاجًا فظيعًا وتولاني خجل أليم. ومنذ 
تلك الساعة أمضّني الألم» وكدّر صفوي تأنيب الضمير 
والشعور بالذنب... ولم يكن ذاك ليصدني عن 
بمارستهاء فقضيت وحدتي في لذَة جنونيّة سريعة يعقبها 
لكد طويل , 

وكانت تسطع في أيّامئنا الرتيبة ساعات باسمات 
فترورئا أسر من الجحيران والأقارب. سيّدات وبئات في 
سن الصباء وربما قدّمت سيّدة بنتها على سبيل 
المداعية : 

اللمغروين كان 

فكانت أمي تلقى هذه المداعبة وأمثالما بفتور 
ملحوظ. لا يمخفى على مخاطبتها, ولا علّ. فازددت 
شعورًا بالحياء وبالنفور؛ وبالخوف خاصّة حيال المرأة. 
ثم لا تفتأ- عقب انصراف الزائرات ‏ تنتقد مداعباتهنّ 
الفاضحة المفسدة للأخلاق!... ومضيت في حياق 
الوحيدة الموحشة أتململ تحت ضغطها المتواصل دون 
أن أبدي حراكاء أنتهب لذاتها الخفية في جرع ويأس. 
وأجنى مرٌ الشعور بالذنب وقد شى عل الخلاص. في 
عزلة غابت بي عن خضم الحياة , على أنْبي كنت أدرك 
إدراكًا غامضًا أنه توجد حياة واسعة فيما وراء أفقي 
الضيّق. كنت أسترق السمع إلى ما يتناثر من أحاديث 
التلاميذ عن السياسة والسينما والألعاب الرياضية 
والبسات. وكأئني أصغي إلى سكمان كوكب آنخر. 
وددت لو كان لي بعض فصاحتهم ومرحهم وحبورهم». 
وددت لو يُرفع ذاك المماجز الاصمٌّ الذي يجبسني 
دونهم. ولكم رمقتهم بعيئين محزونتين كأني سجين 
ينظر من خحلال القضبان إلى الطلقاء . بيد أني لم أحاول 
قط أن أنطلق من سجني. لم يكن ليغيب عبّى ما 
ينتظرني في دنيا الحريّة من قسوة ومهانة. بل إن لم 
أسلم في سجني من أذى وسخرية وتبجّم, ذاك سجني 
فلأقنم به. فيه لذي والمى: وفيه أمان من المنوف. إِنّه 


سجن مفتوح الباب ولكن لا سبيل إلى تجاوز عتبته 
و أجد من متنفس غير الأحلام . كنت أمكث في 
الفصل غائبا عا حولي وخيالي يصنع المعجزات. 
يجارب ويقتل ويقهرء يمتطي متون الجياد ويعتل 
الحصون ويستأئر بالحسان وينكل 
بالتلاميذ تنكيلا مروّعًاء حيّى لابست أحيانًا حركات 
رأسي وتقلّصات وجهي انعكاسات من تلك الأخيلة, 
برتفع لها الرأس كبرياء ويقطب الوجه قسوة وتشير اليد 
بالنذير والوعيد! 

ولمى تقف أحلامي علد حدٌّ الخلق فطارت إلى 
ملكوت الخالق. وكان إيماني قديمًا راسحًا يعمر قلبي 
وروحي بحب الله وخوفه معا. وقد أدّيت الفرائض في 
سن مبكرة أخذًا عن أمّي ومحاكاة لها. ولمًا أجدت لي 
لاني الخفيفة شعورًا بالذنب لم يكن لي به عهد قوي 
شعوري الدينيّ. ولفحت إيماني لحفة حارّة إلى الله 
ورحمته فيا ختمت صلاي مرة حتّى بسطت يدي 
عفد أ 
طلعة لمعرفة الله. وتمنيت مسن صميم فؤادي لو كان 
أتاح ل لعبيده رؤيته وشهود جلاله الذي يحيط بكل شىء 
ويوجد في كلّ مكان. وسألت أمَى يومًا: 

أين يوجد الله؟ ْ 


الطائرات ويقتحم 


بيد أن أشواقي لم تقف عند حدّء وانقلبت 


فأجابتني بدهشة : 

- إِنْه تعالى في كل مكان. . 

فرنوت إليها بطرف حائر وتساءلت في خوف: 

- وف هذه الحجرة؟ 

فقالت بلهجة تنم عن الاستنكار: 

د طبعا. . . استغفره على سؤالك هذا! 

واستغفرته من أعماق قلبي» ونظرت فيما حولي 
بحيرة وخخحوفاء وذكرت بقلب موجع كيف أن ألم 
بالإئم تحت بصره القريب لشْدٌ ما حرْنيٍ الألى. وغصضني 
الندم؛ ولكب ما فتت أغلب على أمري . 

عد عد هد 

وشقّ عل النزاع المتواصل فانتهى بي إلى التفكير 
الجديّ فى الانتحار. بلغت وفتذاك السابعة عشرةع 
وكنت أستعدٌ لامتحان الابتدائيّة للمرّة الثالثة بعد أن 


السراب ه” 


أخفقت مرّتين في عامين متتاليين. مَلّكني الفزع 
والقنوط وازددت فزعًا وقنوطا للامتحان الشفويئ, فا 
كانت لي قدرة على الكلامء ولا قلب أواجه به 
الممتحن. وقد سألبي الممتحن الإنجليزي في العام 
السابق عن معالم القاهرة التي زرتها؟ وكان كلما سألني 
عن أثر من آثارها أو موقع من مواقعها أجبت بأنّنى لا 
أعرفهء فظني أجمرّب من أسئلته وأسقطني. تملكني 
الخوف وأوردني مهالك القنوط ووجدتني لأول مرّة ألقي 
على الحياة نظرة عامّة شاملة متَأئرًا نحط الحياة من 
البداية إلى النباية. حيّى لم أعد أرى متها إلا البداية 
والنباية متعاميًا عا بين هذا وذاك, ميلاد وموت» هذه 
هي الحياة! وقد فات ايلاد فلم يبق إِلَّا الموت. 
سأموت وينتهي كلّ شيء كأن لم يكن» ففيمَ تحمل 
هذا العناء؟! فيم أكابد الخوف والضيق والوحشة 
والجهد والامتحان؟! وازدحمت برأسى ذكرياتي المحزنة 
عن الحياة التي أحياها. , . امتحان لا حيلة لي فيه ثم 
سقوط فسخرية مريرة» حرمان من أفراح الحياة التي 
يحطى,.بها. التلاميق :.«دعاؤهع. لي بالأبكم» ‏ رميهم. إياي 
بثقل الدم حتّى رآني تلميذ مرة قادمًا وكان قريبًا من 
باب مسجد المدرسة فكوّر كفه على أذنه كأنّه يدعو 
للصلاة وصاح في وجهي منشدًا ويا ثقيل الدم!» وقهقه 
الأخورون ماعكيق» باذك ان معدرنا اراق ةا ”ان 
يختير معلوماتنا العامة» فلَ)ا جاء دوري ووقفت مبهونًا 
لا أجيب عن شىء سألني عن اسم رئيس الوزراء؟ 
ولازمت الصمت. فصاح بي دهل أنت من بلاد 
الواق؟!». كانت مناسبات الإضراب كثيرة» ولكبِي لم 
أشترك في مظاهرة على الإطلاق» 9 أضردت المدرسة 
يومًا وخرجتٌ في مظاهرة عن بكرة أبيهاء إلّاي. فقد 
علنت ل القعاء :متكا نحاننًا عل خرن من أقر 
التلاميذ سئاء ورآني على تلك الحال مدرّس عرف 
وقتذاك بوطنيّته فقال لي معتّمًا: «لاذا خرجت عن 
الإجماع؟ أليس هذا الوطن وطنك أيضًا؟!» ووجدتني 
في حيرة شديدة بين تعنيف المدرّرس وبين وصايا أمي 
التي تحلفني كلّ صباح على اتباعها. يا لما من ذكريات 
خليقة بأن تفقد الحياة كلّ قيمة! أليس في الموت غناء 


5 الشسراب 


عن هذا كله؟ بل وإ لأتَقٌ الموت. وملأت تلك 
الافكار عل شعاب قلبي فأجمعت على أن أرمي بنفسي 
نالفل وفندها أى الما ضايت:طويلة ف فرت 
ويدي قابضة على يد أمي. وأنا أظئني في عداد 
الأموات. وجعلت في الصباح أسترق النظر إلى وجه 
أمّى في خوف وحزن., وأثر في نفسبى هدوؤها وجمالما. 
فغالبني شعور بالبكا. وأكربني ألا أستطيع توديعها. 
وساءلت نفسى في إشفاق كيف تتلقى الصدمة؟ وهل 
تطيق الصبر عليها؟ سأكون المسكول عن تكدير هاتين 
العينين الصافيتين» وتجعيد صفحة هذا الوجه المنبسط.ى 
وزوال هذه الطمأنينة إلى الأبد ثم خفت الخور فجأة 
فأمذّني اليأس بقوة جديدة. وحفزني إلى الهرب. 
واتريك على قدح الشاي وعيناي لا تفارقان وجهها. شم 
حييتها وغادرت اللحجرة منقبض الصدر مرير النفس 
وركبت الحسطورء وألقيت على البيت نظرة وأنا 
أغمغم : «الوداع يا أماهى الوداع يا بيتنا العزيره. 
وانطلقت العربة حبّى طالعنى جسر الملك الصالح فدقٌ 
الآن كل شىء. دقائق معدودات ثم الراحة الأبديّة, 
00 عِلْم عن عذاب المنتحر في الآخرة» فلم 
أشك في أن أستهل حياة مطمئئّة. واقترب الحسر 
روبداء وراح توقيع سنابك الخيل يصكٌ قلبي ١‏ 
ولاحت مني التفاتة إلى النيل فرأيت لآلىْ الشمس 
تنتشر على صفحته الدكناء. وخلتني أتحيط على أديمه 
والأمواج الحادئة الصامتة تتقاذفني بغير مبالاة» مطمئئة 
إلى نتيجة الصراع. وتوثبت لما عقدت العزم عليه 
بجنون فغاب عن خاطري كل شيء في الحياة فهتفت 
بالحوذيّ العجوز وهو ينعطف إلى الجسر : 

قف!] 

فشدٌ الرجل على الزمام وتوقفت العربةء فغادرتها 
متعجّلا وأنا أقول له : 

- اسبق إلى نهاية الجسر وسالحق بك مشيًا على 
الأقدام . 

وانتظرت ريثما أبتعد عن عذة أذرع م ملت إلى 
سور الجسرء وأشرفت على الغهر يقامتي الطويلة. 


وحادثت نفسى قائلا: «يقولون إِنْنى لا أحسن شيئًا في 
: كتفي سأفعل الآن ما لا يسع أحدًا 
الإقدام عليه!». وألقيت على الماء نظرة متحجرة. 
وتثّل لي ما سأفعله بسرعة البرق ينبغي أن يتم كل 
شيء في ثوانٍ وإلآ أفسد علي تدشل المارّة غرضي» 
أتسور السور ثم ألقي بنفسى». ولن يستدعي ذلك مع 
حزم الأمر إلا لحظات, وانقبض قلبي وأنا أنظر إلى 
الماء اللحاري وقد بدا تحت النظرة العموديّة سريعا 
صاخمًا فدار رأسي . واحد. .. اثئئان. 


الحيياة. 


.. وسرت في 
بدني قشعريرة» ترى ما إحساس الإنسان إذا هوى من 
شاهق؟ . , . وكيف يكون اصطدامه بلماء؟ وكيف إذا 
غاص تحت لّته؟ ومتى يخلص الإنسان من عذاب 
الغرق؟! وشدّت قبضتي على حافة السورء وتقلّصت 
ساقيّ» وقلت بلساني أن سينتهي كل شيء حالاء 
ولكتي كنت في الواقع أتراجع وأتقهقر وتخور قواي. 
هزمتني الخواطر والتصورات الي اعترضت عرمهي . لا 
ينبغى للمنتحر أن يفكر أو يتخيّل» لقد تفككرت 
وتخيلت فامزمت. واشتد خفقان قلبيى. وتراخت 
قبضتاي عن السور. ثم تحولت عنه متنبّدا كالذاهل . 
وحملتنبي ساقاي المخلخلتان إلى نهاية الجسر حيث تنتظر 
العربة» فركبت», واستلقيت على المقعد في إعياء حتّى 
غالبتني رغبة في النوم . 

وطالما ساءلت نفسي عرّا أنقذني من الموت ذلك 
الصباح؟ فقال قلبي : إِنّه الخوف! وقال لساني : إن الله 
الغفور الرحيم . 

ولا شك أني بالغت فيا يتعلّق بدوافعي نحو 
الانتحار لأني حصلت على الابتدائيّة في تام العام ! 


١ 
فقدت أسرتنا الصغيرة مظهرًا من أجمل مظاهرها‎ 
فاختفت من أفقها العربة والجوادان والحوذيّ العجوز.‎ 
. باع جدّي العربة والججوادين واستفتى عن الحوذي‎ 
وعلمت مما تسقّطته من الحديث أنّه سر ليلة في‎ 
النادي خسارة جاوزت المعهود. فاضطر إلى اقتراض ما‎ 
يساوي معاشه من النقود. ولمًا كان رجلا مطبوتًا على‎ 


النظام فقد آثر أن يبيع العربة والجوادين على أن يربك 
ميزانيته . لشدٌ ما أحزننا بيع العربة» وضياع الحوادين. 
ووداع عم كريم الحوذي العجوز الذي قضى عمره في 
خدمة جدّي حيّ فَقَدَ فيها أسنانه. ولقد بكيت الجميع 
بكاء مرا دون أن أنبس بكلمة. وكان جذّي يعيش في 
نادي القمار أكثر ثما يعيش بينناء ولم تكن له من سلوى 
أو فرجة سواه وخاصة عقب تركه الخدمة. ولم يكن 
يحاول إخفاء سيرته بما جبل عليه من صراحة وميل 
للمرح. فكثيرا ما كان يقصٌ على أمّي طرمًا مما يصادفه 
في سهراته. فيقول هارا رأسه الأشيب: «بالأمس 
لازمني سوء الحظ طوال الليل حي قبيل الختام بقليل 
فعوضت حساري حميعا بضربتين موفقتين»» أو يقول : 
ويا للطمع الأشعبي ! أضاع علي بمقامرة واحدة في 
أخريات الليل عشرين جنيها ربحتها بشى النفس». 
ولكنّه كان بوجه عام مقامرًا عاقلا إن جاز لي أن أقول 
ذللقن سات نه لذة المقامرة اللتومة دون أن تعة 
طاقة ميزانيّته وواجباته كربٌ لأسرتنا ولا أسك في أنْ 
أمر مستقبلي قد شغله كثيراء لا لذاتي فحسب- وإن 
غمرني دائمًا بحبّه ورعايته - ولكن لارتباط مصير أمي 
بمصيري . ثم كان ما كان من تعثّْر حياتي المدرسيّة 
فأحذت الابتدائيّة في السابعة عشرة وقد اقترب هو من 
حدود السبعين» وأخذ القلق يساوره كثيرًا وهو أعلم 
بما جمع من ثروة لا تكاد تذكر. على أنه كان يتغلّب 
داتعا على قلقه بما طبع عليه من ميل للتفاؤل مرذه في 
الغالب إلى ما وهبه الله من صحة حسنة لم تزايله رغم 
طعونه في السنّ. إلا أن خسارته الأخيرة ذكرته بقلقه 
وتخاوفه ودفعته إلى أن يعالجها بالنيطة والحرص» فقال 
يوما لامي بعد تردّد غير قليل وكانا يتحدّثان عن 
أرى أنه لا يجوز أن يجهل كامل أباه هذا الجهل 
اللا 

فامتقع وجهها ورمقته باستنكار وتساءلت : 

ماذا تعنى يا أبتاه؟ 

فقال جدّي بغير مبالاة: 

أعني أنه يجب أن يتعرّف إليه. هذا أمر ضروري 


السراب 7ا؟ 


إلا بدا في أعين الناس وكأنْ لا أب له, , 

فقالت أمّيى بصوت متهدّج : 

هذا أتء المجهل به أشرف . 

فلاح في وجه جِذي الضيق وقال يعجرم . 

كأنتك تخافين أن يستردّه إذا رآهء فيا له من وهم 
لا يدور إلا في رأسك. وإني لعلى ثقة من أنه سر 
سرورًا كبيرًا حين هيّأت له الأقدار من يرب ابنه عنه , 
ولكئّى أرى الآن أنه ينبغي أن يتعرّف كامل إلى أبيه . 
وقد صمّمت على أن أذهب به إليهء فمن يدرى أنه لا 
يحتاج إليه غدًا؟ هل ضمنت أن أبقى له إلى الأبد؟ ولا 
تسبى أنْ كامل وشيك الالتحاق بالمدارس الثانويّة وربما 
أقنعت أباه بمعاونتي في تعليمه! 

ولا شك أنْ أمّي كانت تتحفز للمعارضة, فليا 
سمعت الشطر الأخير من كلامه فتر تحفرها وبدا الحزن 
في عينيهاء ولم تنبس بكلمة» ولمًا غادرنا جذّي 
اغرورقت عيناها بالدموع فاقتربت منها متأثرًا محزونًا 
وجففت عينيهاء وقلت لها: 

لا شىء يستدعى البكاء يا أمّاه. 

اليف 11 ابتامة باهتة وقالت بحزن: 

- لا شيء حمًا. ولكئي أبكي الأيّام الماضية يا 
كامل... أبكي الطمانيئة المطلقة التي استنمت إليها 
طزيلة. كانت الخكياة رفييدة حاتة له بوكدرنها عليتا 
مكدّرء اليوم يتحدّث جدّك عن الغدء وهو إذ يتحدث 
عنه يملؤني خوفًا وقلمًا. لندحٌ الله معًا ألا يشتّت 
شملناء وأن يطيل لنا في عمر جِذّك. ويغنينا عن 


الناسن د 
ثم تفكرتٌ مليّاء وقالت لي وهي نحدجني بنظرة 
غريبة : 


قابله إذا قابلته بأدب فهو أبوك على أيّ حال» 
عذّبنا جميعًا. 

وجرت على شفق ابتسامة خفيفة لهذا التحذير 
الملفوف الذي لم أكن في حاجة إليه. ليس في وسعي 
أن أحبّ شخصًا كرهه أبوه. ثم فكرت في تلك الزيارة 
المرتقبة بين ابن وأبيه لأؤل مرّةء وحاولت أن أتخيل 


ا السراب 


صورة لأبي» أو أن أتذكر صورته القديمة التي مزقتها 
بيدي فلم أفلح. . وشعرت بنفور شديد من الزيارة 
وتمنيت لو يعدل حذى عن رأيه. 

ولكنه قرّر أن نقوم بزيارتنا في صباح اليوم التالي» 
وقال لي وهو يستحنني : 

- ينبغي أن نبكر في الذهاب إليه قبل أن يغيبه 
السكر! 

وخرجنا معّاء قطعنا الطريق إلى محطة الترام مشيًا 
على الأقدام. ثم أحذنا الترام إلى العتبة» ومنها إلى 
الحلمية» ثم سربا إلى شارع مبارك. وجعل يوصيني في 
الطريق بما ينبغي أن أتحل به في حضرة أبي من الأدب 
والتودد. قال لي : 

- أنت نخحول جدّاء منطو على نفسك. وأخاف أن 
يط ما بيلك تفور ا من توينادلك نقوزا بلقون تحصيوضا 
وأنه لم ميتم يومًا دحب إنسان. فانفض عنك الحمود 
ولاقه بالتودّد والرقة والألفة. 

ووقفنا أمام بيت كبير مكون من دورين» لا يبدو 
ص دوره الأوّل إلا أعلاه لارتفاع سور البيت. وطرقنا 
بانا ضح ففتح عن صرير غليظ. وبرز لنا بِوَاب 
نوب طاعن في السنّء فسلّم على جدّي باحتراء 
وترحيب وتلحى جاسا وهو يقول: 

عرو يك ل السلا لات 

وسك الاسم مسمعي» فشعرت على رغمي بما 
يربطني بهذا البيت. وتقلكتني رغبة مباغتة في الرجوع 
والتقهقرء ولكتّها كانت رغبة لا سبيل إلى تحقيقها. 
ونظرت فيا أمامي فرأيت حديقة كبيرة» وسرعان ما 
سطعت أنفي رائحة الليمون الزكيّة. هى حديقة كبيرة 
تأخذ الاظر بضخامة أشجارها ما 000 وليمون 
وتوت ويزدحم جوها بالفروع والأغصانء وتغطى 
أرضها بالأوراق الحاقة» وبها وبالجوٌ المحيط يبا مسحة 
حزن وكابة اسربت إلى نضي في غير إبطاء. وفي 
مبابتها يقع البيت؛ وقد بدا السلاملك مقامًا على سوره 
حدار خشيّ يحجب ما بداخله عمّن في الحديقة. 
سبقنا البؤاب إلى الداخل ليستاذن للقادم. ثم عاد بعد 
قليل وهو يدعونا باحترام» وسار بين يدينا في ممشى من 


الفسيفساء. تبعت جدّي في قلق يزداد بتوغلنا في 
الحديقة. وعندما أخذت في ارثقاء السلّم جف حلقي 
من الاضطراب. وبدا أبي واقفًا ينتظرء فألقيت عليه 
نظرة سريعة من وراء جذي . 

كان وقتذاك في السئّين من عمره. ربعة. بدبئًا وإن 
بدا في جلبابه الأبيض الفضفاض أندن من الواقع 
بكثيرء أبيض البشرة؛ ععمرٌ الورجه والعنق. منتفسعم 
الأوداج. محتقن الوجه بالدم. أما فسيات وجهه فكبرة 
واضحة في غير تنافر: أصلم الرأس. أسود العينين, 
وقد جحظت مقلتاه وتشائكت بها خطوط حمر دقيقة 
كالفسر نش تلفق عبد الشازة راقحة قارف اد 
بدت ما كانت ضخامنه تخليقة بأن تبعثه في النفس 
من رهبة. خامري شعور بالغرابة والإنخار والنفور. 
وحقدت على جذي المسئول عن الزيارة. اشتد بي 
الإنكار عندما وضح لي أنه لى يبد اي الترحيب بنا إلا 
تلك الوقفة الخاملة. تصافح الرجلان. وسمعت صونًا 
غليظًا ذكّرني بصوت أخى مدحت يقول: 

اهل وفبيلة :, من ساللك ‏ م ك” 

فْردٌ جدي قائلا: 


الحمد لله. . وكيف أنت؟ ! 

وتدخى جدّى قليلا ليكشف عي وأوما إل قائلا 
كبو يبتسم , 

كامس انلك 


وتقدمت منه في ارتباك ظاهر وعيئاي متطلعتان 
إليه. فحدجني بنظرة متفخّصة في اهتام شديد وقد 
لاح في عينيه نور خخافت. ثم مددت يدي . وعند ذاك 
قال جدّي ولعلّه أراد أن يتفادى من خخطأ راني حريًا أن 
أقع فيه : 

- اقهر هذا الخجل وقبّل يد والدك! 

وأدركت مراده فقبضت عل اليد الممدودة إل 
ولثمت ظاهرهاء ورفعث إليه عي فوجدته مبتسمّاء 
وسمعته يقول: ْ 

- مرحبًا بالابن الذي لم يعرف أباه!. . ما شاء الله 
(والعيت نحو جدّي مستدركا) صار رجلا وفرع أباه 
طويلا . 


فضحك جدذي ضحكته العظيمة وقال: 

- أجل إن رجل. .. ولكن لا تثريب عليه إذا كان 
لم يعرف أباه! 

وتفرّس أبي فيّ طولا وعرضاء ثم دعانا إلى 
الجلوس» فجلسنا على مقعدين مقاربين وجلس على 
كنبة في الصدر وراء خوان من اللخنشب الأسود المطعُم 
بالصدف وضعت عليه قارورة حمراء وكاس ووعاء 

كانت" القارورة ملوءة إلا قلي وكانت الكأس 
فارغة إلا قليلا. لم أكن رأيت الخمر أبدًا ولكثّي 
أدركت توا أن حيال الشراب الملعون الذي فعل 
بأسرتنا الأعاجيب» وسرعان ما ملأني التقرّز والنفور. 

واستدرك جدى قائلا : 

- أي نعم ما ذبه المسكين؟ . . . إِنّهِ لم يعرف لنفسه 
أباء ولا حيلة له في هذاء ولا داعي لإثارة ذكريات 
ولخي بهذ لق وحدنه حل :ف امتزلية ونين سس 
هذا العام عل الابتدائيّة» وعرًا قليل يلتحق بالمدارس 
الثانويّة» فاستنكرت أن يظل على جهله أباه. واقترحت 
عليه أن أقدّمه لك فرحب باقتراحي مسروراء وها أنا 
قد فعلت والحمد لله. 

وكانت عينا أبي لا تتحولان عب هلم أتخفف من 
ارتباكي وحيائي. ولمّا ختم جدّي كلامه لاحث في 
عينيه الشاردتين نظرة ارتياب وسألني : 

اجا سَرَّكَ أن تُقدّم إِ؟ 

فأجبته بصوت لا يكاد يسمع : 

ولد 

فسألبي وهو ينظر إل بمكر: 

أتحبٌ أن تمكث معي !؟ 

وانقبض قلبي. ولاحت في عينّ نظرة حائرة. ما 
عسبى أن أقول!؟ إِنْ وصايا جدّي., لا تزال تطنّ في 
أذن ولكن هبني أجبت بالإيجاب فدعاني إلى البقاء معه 
فكيف يكون المصير؟! كلاء لا يسعني هذا وغضضت 
طرفي مطبقًا شفيّ ولم أنبس بكلمة. وقهقه أبي بصوت 
ارتعل له جذي وهو حدجنى بنظرة استياء : 

- ترفق به يا رؤبة بك. إِنهِ لم يفترق عن أمّهِ قط 


السرابف 54 
وليس أشقٌّ على النفس من تغيير عادة» ولك أؤكّد 


للك اند ل" عدا ابتعانه يلقن لالجل علنه «مميعة 
وارتباكه فإنّه كالعذراء حياء. 

فهرٌ أبي رأسه الأصلع المستدير وفوه لا يزال منفرجا 
عقب القهقهة. وسألني فيا يشبه التحدّي : 

- هلا مكثت معي فترة من عطلتك؟ ! شهرًا أو 
أسبوعين؟ ! 

فبادر جدي قائلا : 

أمَا هذا فعن طيب حاطرا! , , . 

وفطنت إلى ما في قول جدّي من إيجاء موجه إل . 
فوجدتنى كالفار في المصيدة. وتولاني ضيق كاد ينشىٌ 
له ماري ولعنت ذلك التصميم المزعج الذي -حدا 
بجذي إلى سوقي إلى هذا البيث الكئيب. وانعقد 
لساني في يأس وعناد. حيّى قال أبي متهكم) : 

- هذا فولك أنت يا عبد الله بك. ولككي أتساءل 
عن رأي كامل بك!, . 

وآلمني تمكمه. وانقلبت إلى حال من التعاسة فلم 
أنطق ولم أرفع رأميى. وتذكّرت أمّي بلهفة المستغيث 
شأني إذا اشتدٌ بي كرب. وقهقه أبىي ساخرًا وقال: 

- ولعله يُسّرّ بمعرفتي ولكن من بعيد, . . 

وتغيّرت لهجته الساخرة فقال بصوت يلم عن 
القوة : 

ألا تعلم أنّْي إذا أردث أن تبقى هنا لم يحل دون 
ذلك حائل؟ ! 

وتريث لحظة ريثا يحدث تصريحه الأثر المطلوبء 
نم صحك مستدركًا. 

لا تخف. لا حاجة بي إلى هدا على الإطلاق. . . 

وساد صمت رهيب. ولعل جدّي أدرك أن الرجل 
قد كشف بقوله ذاك عن شعور عدائيٌن. وشعرت أنا 
بغريزق أنْ كلينا يجد نحو صاحبه نفورًا لا خحفاء 
فيه. . . وهالبى ما صدم جذّي من خيبة مريرة وتوقعت 
أن يوسعني تعنيفا وتقريعًا. ثم قال جذي بصوت 
منخفض : 

- ابنك سيّئ الحظ يا رؤبة بكء فقد حرم نعمة 
التعبير عا يدور بخلده. إنّه طفل خجول لا يدري عن 


السراب 


الدنيا شيئًا فترفق به واعذره. . 

فقال أبيى بغلظلة 

ما هذا الذى تقول يا عبد الله بك! . . . خحجول» 
عذراء. لا يدري شيئًا! ماذا فعلتم به؟ لقد كانت له 
أخحت عذراء ومع ذلك فقد هربت مع رجل» فمن أية 
جبلة هو"! 

وشعرت بطعنة نجلاء تصيب قلبيى. واندفع الدم 
إلى وجه جدّي فقطب غاضبًا وقال بكرياء : 

- لقد احتارت أخته أن تمفضى إلى زوجها بعد أن 
يكست من عدالة أبيها! ْ 

وروّح ع قوله. أمّا أي فاسترسل ضاحكًا وقد 
احتقن الدم بوجهه وبدا فا قاسيًا ممقوثاء ثم قال 
بسدكرية : 

- تقول بعد أن يئست من عدالة أبيها! . .. اأسمح 
ارو ن أملذ كاسًا 0 5 وغل منها جرعة) 
هلا قربت معي؟... كلا؟.. . كما تشاء فلكل 
إنسان داء. ولتعد الآن إلى 3 ماذا قلت يا حسن 
بك؟! بعد أن يئست من عدالة أبيها؟! وأنت؟! ألم 
تيأس من عدالة أبيها؟ ! 

فنظر إليه جدّي باستنكار وازدراء وسأله : 

ماذا تعني؟ ! 

- أريد أن أقول إِنْ الفتاة إذا كانت قد يشست من 
أبيها فإنَ جدّها لم ييأس من عدالته. وآي ذلك أنْك 
جتتني اليوم مبذا الفتى لا لتقدّمه لي كا قلت». فقد كان 
يمكن أن يحدث ذلك في أي وقت من الماضي؛ ولكن 
لتخبرني أنه عا قليل سيلتحق بالمدارس 
وهنالك المصروفات. . . هه! ! 

فخرج جدّي عن طوره وصاح به مغضبًا: 

- لقد أعياني إصلاحك فيها مغبى. ومن الحمق أن 
أحاول ذلك الآن! . . . لقد ربّيته حب صار رجلا دون 
أن يكلفك مليًا واحدًا. . 

فصفق أبي ساخرًا وقال وقد أذ صوته يعلو: 

- آه من مكر الرجال! بالأمس جتتني سائلا أن أترك 
الغلام لكمء واليوم تمنّ عل أن ربّيته حبّى صار رجللا! 
مرحى . . . مرحى. هلا تذكرت اتّفاقنا السابق؟ 


الثانوية. , 


فاشتد حنق جدّي وقال بصوت وشت نراته 
باتفعاله وتأئره : 

أي اتفاق يا هذا؟... نحن لا نتحدّث عن 
صفقة تجارية. ولكن عن ابنك. فأين الأبرَّة 
والعطلتب؟ | 

فقال أبي بتهكم وازدراء : 

- الأبوة؟ . . . العطف؟ ., . . يا لما من سجايا كرعة 
يد أن الملل يفسدها. يا عبد الله بك لندع الهذر جانبا 
فإنه لا يجمل برجل عسكري مثلك خماض حروب 
السودان! وإِنْك لتعرفني حقٌ المعرفة فكيف زيّنت لك 
نفسك 7 تقصدني ببذا الرجاء الخائب؟! تفكر في 
الأمر مليًا فإمّا تكفلت «به؛ كما اثفقنا أو أتركه لي إذا 

ونظرت إلى جذي فوجدت وجهه ملتهبا بحمرة 
الغضب. وتوقعت أن ينفجر في الآخرء ولكنّه ضبط 
نفسه بجهد كبير» وقال بهدوء : 

- لولا واجبي نحو ابنك لاستكرهت أن 0 
موقفيى هداء ولست أستجديك شيئًا لنفمي. 
أريد أن أطمئنٌ على مستقبل الفتى خصوصًا ل . ع 
طاعن في السنّ وقد أموت غذا, , 

فقال أبي ضجرًا: 

إذا متّ غدًا تكفلت به! 

فقطب جدّي مستاء؛ وهالي تعبير أبي القابي 
فكرهته في تلك اللحظة ضعف ما كرهته طول حياتي ؛ 
وكائما نفد صبر جدّى فنبض قائ)) مكفهرٌ الوجه. 
ونبضت معه كأنني مشدود إليه. وألقى إلى أبي بنظرة 
متعالية في ترفع وغطرسة؛ وقال: 

- لا أستطيع أن أقول إنك حيّبت ظبئى لأني لم 
أحسن بك الظنّ قط ولكتّها أخطاء نرتكبها كارهين 
ونحن أدرى بعواقبها, أسستودعك الله . 

وأخذ بيدي ومضى بي فغادرنا السلاملك وأبي يقول 
متهكم] : 

مع السلامة يا عبد الله بك , 

هكذا كان أول لقاء بيني وبين أبي. وقد خرجث 
منه وبلفسى من النفور ما لا قبل لي به. وما كدت 


أجتاز باب البيت إلى الطريق حيّى تنبّدت ارتياخاء 
ودعوت الله بقلبي ألا بقضى علٌ يومًا بأن أطرق هذا 
لايع نا بوم نا قد ميك لتك 1ن اوعد ل عا 
يحثٌ خطاه منكّس الذقن محمرٌ الوجدء وهو يغمغم 
بكلام غير مميّز ولا مفهوم وجعلت أسترق إليه النظر 
محزونًا أسيفاء وخائقًا في الوقت نفسه لشعوري بثقل 
مسئوليّتي فيها أدّى إلى الخصام. ثم أخذ صوته يتضح 
رويدًا فسمعته يقول وكأنه يحدّث نفسه «حيوان 
أعجمء ادا يرزق الله أمثاله أطفالا؟ اذا لم يعاقبه 
بالعقم؟!» ويقول أيضا: «يا لك من وغد! أليس 
بقلبك ذرّة من عاطفة الأبوة؟ إنك لم تتركه لنا استجابة 
لرجائناء ولكنك بعته بنفقاته» . 

وحين بلغنا المحطة لاذ بالصمت» ووقعت عل عيناه 
فحدجنى بنظرة قاسية وأصرٌ على أسنانه وقال لي 
-- 

- وأنت يا مي قطران أنظلٌ عمرك بغلا! ألم يفتح 
الله عليك بكلمة طيّبة؟ ماذا كان عليك لو تظاهرت 
بالتودد إليه؟ أحسبته يا أحمق سيرتمي عليك عشمًا 
ووها! ْ 

وأفزعني غضبه كا يفزعني الغضب عادة. 
وارتعشت شفتاي كالطفل إذا شرع في البكاء. ورأى 
حالي فنفخ مغيظا ععنقاء وصاح بي: 

ما أسرع أن تبكي!. . . ما الذي يبكيك؟. . . 
هل ظلمتك؟ هل تنيت عليك؟... لقد أخطات 
خطأ غبئّ أحمق. وما زدت على أن قلت لك أخطات. 
فهل كفرت؟! 

ول أنبس بكلمة طوال الطريق» ولبثت محزونا 
منكسر الخاطرء حيّى ذكرت أن عائد إلى أمى. وأ 
ساحدّثها بكلٌ شيء عنًا قليل» فسْرّي عب . 


١7 
وزارنا يومًا مدحت أخي. في الأسبوع الذي تلا‎ 
مقابلتنا لأي. ولا تفرّست في وجهه تلك المرّة أيقنت‎ 
أنه صورة طبق الأصل من أبي. وتساءلت في حيرة عن‎ 
سيرته وأخلاقه. وهل يشابه أباه فيهما ]| شابهه بي‎ 


السراب ١لا‏ 


تكوينه الحسمان؟ والحقٌ أني رمقته بنظرة غريبة لم يفطن 
إليها أحد عل أنى أحببته كثيرًا ى) أحبنا كثيرًا. وقد 
عاتبته أمّى على ندرة زياراته لنا فقال ها: 

أنت أدرى بأخلاق المجنون! 

فضحكت سرور لا مزيد عليه. ورنوت إلى 
شقيقي بامتنان. فالتفت نحوي وقال آسفًا: 

علوت متف ل لقال الأخيرة. . 

فسألته أمّي باهتمام : 

هل أخيرك عنها؟ 

فقال ضاحكا: 

0 حذثني شا عم آدم البواب . 

وداخلبى استياء شديد فهتفت مستنكرًا : 

5 5 . أكان يسترق السمع! 


فقال مل حم : 


- كلاء ليس به من حاجة إلى استراق السمعء ف 
من كبيرة أو صغيرة إلا ويحيطه لبا أبىي. فهو سميره 
القديم الذي يفضي إليه بمكنون صدره وإن لم ينج من 
شرَ لسانه في غالب الأحايين. ولكم أحزربني الموقف 
الذي وقفه من جذي. فوددت لو لقيته اليوم هنا 
لأعتذر إليه وأفبل يذه. 

وتجاذينا الحديث طويلًا. وكان مدحت محدّثًا ماهرّاء 
العالية فيضاهيه في جلجلتها دون برودتها وقسوتها.ء 
فسرعان ما غبطته وأعحبت به وتمنيت لو كان لي بعض 
مرحه وطلاقته. وانساق الحديت إلى مستقبله» وكان 
حصل على شهادة الزراعة المتوسّطة صيف ذاك العام 
فقال: 

سافرت إلى عمي في الفيوم ليجد لي وظيفة 
بواسطة أحد معارفه الكثيرين» لكنّه لم يوافق على 
توظيفي بالحكومة. وعرض عل أن أتمرّن في عزبته 
بأجر عال, على أن يوجر لي أرضًا ني القريب العاجل. 
ورأيت في عرضه فرصة تفتح لي أبواب الرزق 
العريض عن طريق الزراعة فقبلت. 

ولكنّ أمّي لم ترتح لهذا العرض وقالت معترضة : 


7 السراب 


- أليس الأكرم أن تتوظف في الحكومة؟ 

فضحك أخي طويلا ثم قال: 

إن دبلومي لا يؤمّلن لوظيفة محترمة. أمّا عمي 
فيهيّئ: لي فرص العمل المثمن والثروة, 

- وتعيش في الفيوم حياتك؟ ! 

فقال باستهانة : 

- الفيّوم من ضواحي القاهرة! 

فقالت أمَى بحزن: 

ا دسي اله الذي تستقلٌ فيه بحياتك 


ميرم فور كان ان علبي و 

ثم ودّعنا وانصرف. وتهّدت أمّي من الأعياق 
وقالت بحزت: 

غاب عب نصفف حياته في بيت المجنون. 
وسيغيب النصف الآخر في الفيوم ! 

وتفكرت قليلا ثم قالت وكأئها تحدّث نفسها: 

إِنَْ عمّه لم يعرض عليه ما عرض حبًا في سواد 
عيليةه .ع ولكنه ينوي بلا شك أن يزوجه إحدى بناأته . 

وسألتها ببساطة : 

ع برعاذا عليه لو قهز 

فحدجتني بنظرة غريبة: وهمت بالكلام أكثر من مره 
م تي عا نت به. 

وقد صدق ظتباء فجاءنا بعد ذلك بزمن غير طويل 
خطاب مدحت مخيرنا بخطبته لابنة عمه» ويسمى لنا 
يوم الزفاف ويدعونا لحضوره. ول تخفب أمّي مكنا تناه 
وهاها أن يخطب بدون مشورتها أولا. وقالت لحدذي 
بعضب : 

أرأيت إلى شقيق المجئون كيف خخطف ابني !! 

ولم نحضر زفافه» لأني مرضت قبيل موعده ولزمت 
الفراش أسبوعين فنسيت أنّي الزفاف بأفراسه وآلامه. 
وهكذا تزوؤج مدحت دون أن يحضر زفافه لا أبوه ولا 
أمه حي قال جذي متهكٌمً) كعادته: 

- هذه الأسرة خخلقها الله أعجوبة للبشرء كلّ أسرة 


وعنانة إلاها فهي أشتات لا تجتمسع . اللي عفوك 
ورضاك! 
+ جد د 

واستدار الصيف واقترب ميعاد افتتاح الدراسة 
فالحقنيى جذي بالسعيدية. وقد ذهيئا معاء وقال لي في 
الطريق : 

- لو كنت رجلا حمًا لما أحوجتني إلى الذهاب 
معك, ولكنّك لا تعرف الطريق إلى الحيزة وأنت ابن 
سبعة عشرء وعلى أي حال احفظ الطريق جيْدًا. لقد 
كنت ضابطا في مثل سنك! 

وكان يتظاهر بالتذمّر والسخط. ولكئىي شعرت 
بقلبي أنه مبتهج مسرور. وأحسست بعطفه يشملني. 
نأخجلني ما يتحمّله في سبيلٍ من المشقّة وهو الشبخ 
السبعييّ. وحين عودتنا ضربني بعصاه برقة وقال: 

إنْك الأن طالب بالسعيديّة؛ فاجتهد ترفع رأسنا. 
أريد أن أراك ضابطا قبل أن أرحل . 

ودعوت له بطول العمر من أعماق قلبي. وسكت 
مليّا ثم قال بغير مناسبة ظاهرة : 

- على أيّامنا كانت الابتدائيّة شهادة عظيمة تعادل 
بحن أكر الشهادات في هذه الأيام ! 

_ ا ثم استدرك قاثلا : 

كاتف اناما وكا هالا 

١ 

التهت العطلة الصيفيّة فألم بي الحزن والكآبة. 
كانت المدرسة المنغص الأول لحياق» فكرهتها كرها 
عميقًا ضاذ نا ما كنت بصدد مدرسة جديدة اقترنت 
في ذهني بالرجولة والفخار: ولكتّها مدرسة على أيه 
حال لا تخلو من مواعيد وفصول وتلاميذ ومدرّسين 
وعقوبات. ودروس تفوق صعوبتها بلا شلك سابقاتها 
في المدرسة الابتدائية . 

وفي صباح السبت الأول من أكتوبر استيقظت 
مبكرًا بعد انقطاع هذه العادة الثقيلة أربعة أشهرء 
وارتديت البدلة» وتأئقت كعادي وانتقيت رباط رقبة 
فاخرًا من صوان جدّي! وألقت أمّي عل نظرة طويلة 
ثم قالت بسرور؛ 


كالقمر وحقٌ كتاب الله! . . . وجه أمّك على بشرة 
بيضاء ليس لي مثلها. محروس بعناية الرحمن . 

ومضت توصيني بالحيطة في المشي والركوب والنزول 
وعبور الطريق. ودعت لي طويلا, .. ولا غادرت 
البيت وقفت بالشرفة تراقب سيري حتّى غيبني عنها 
منعطف الطريق. وواصلت السير مغتمًا محزونًا حي 
بلغت خحطة الترام بشارع قصر العيني. ووقفت أنتظر 
الترام وحدي لأول مرّة في حياتي» فداخلني إحساس 
بالحرَيّة لم يداخلني من قبل. وسُرَّي عب قليلّا فورجدت 
شيئًا من الارتياح؛ ثم لاطفني أصل في بدء حياة 
جديدة! حياة لا تكدّرها التعاسة التي لازمتني في 
مدرسة العقادين. إن ماضص إلى مدرسة جليدة. 
ونالق: آناكا حدذاء قلزةا ,"راسي عنينةة 
ل إفى إذا اجتهدت تحاميت قسوة المارسين؟ وإذا 
أحسنت التووّد إلى التلاميذ اكتسبت مودّتهم ودفعت 
زرايتهم» وهذا شيء يقدر عليه الكثيرون فلاذا أعجز 
عنه وحدي؟! ورقص بين ضلوعى حماس بمميج. 
وقلت لنفسى إذا نجحت فيا أخفقت فيه في ماضى 
ان سات لش بعك نه ,وديف ل قلي ل 
الفرية لتقو غلن يها ازدكه اد "ردن وقعيف إل 
السعيديّة متفيًّا ظلّ الأمل الحديد الذي انبثق في نفسى 
بغتة على محطة الترام! . . . ْ 

عد عاد عد 

ولكنى وجدت الحياة أشقٌ ما هيأ لي الأمل. فحال 
عل السدياء وسور مالساي :دون اكبياتف 
صديق. وضيّع شرود ذهني عل اجتهادي هباء! لشدّ 
ما عانيت من شرود ذهني! لقد سلبني عقلىي وأفقدي 
كل قدرة على الانتباه وتركيز الفكرء وجعلني صيدًا 
سهلا للمدرسين. وقد استيقظت مرة من شرودي - في 
الأسبوع الثاني من حياتي المدرسيّة الجديدة على 
مسطرة المدرزس وهي تصلم جبينيى) وصوته وهو 
يسألبي بلهجة الوعيد: ْ 

قلت تُحَدَ شمالا ماذا؟ 

فحملقت في وجهه بارتباك وفزع محتّى نسيت أن 
أغبض قاثًا فزعق بي : 


السراب #إم 


- تفضل بالوقوف لتردٌ على تعادم أبيك! 

يتفيف ترجاه واللع سانا دونه آل احبر 
جواباء الطب على حذي وصاح بي: 

مُحَدٌ شمالا بماذا؟ 

ولمَا لم أخرج عن صمتي لطمني على خذي الآخر 
وسألني : ' 

- لددع مؤْقّنًا ما يدها شمالاء فم هي التي أسأل 
عا بجذها شمالا؟ 

ولازمت الصمت وحخداي يلتهبان» فاهال علي 
لطمة ييئًا ولطمة شمالا وأنا لا أجرؤ على تغطية 
وجهي بيديّء حيّى انفثا غضبه فأمرني بالجلوس . 
وضجٌ جانب من الفصل بالضيحك» وجلست أغالب 
دموعي . انقلبت مرّة أخرى إلى أذى المدرّسين وسخرية 
التلاميذ. ومضيت أجتر آلامي في صمت والياس 
يفتك بنفسى فتكا ذريعًا. با الأمل وانتهت المحاولة 
القينة بالافناق التريعة وعدتت إل عايض 
المعهودة. وعل رغم ذلك تعلّقت بخيط واه فكرّست 
كل وقتى للمذاكرة. عكفت على كتبى ساعات 
متواصلة, ولكنّه كان مجهودًا ضائعًا إلا أقله. والحق 
أفي كنت أثبت عينّ على الصفحات على حين يتطاير 
خيالي في وديان الأحلام فلا أستطيع لمّه. وهي 
أحلام تمرّكها الشهوة وتعبث بها الخادمات القذرات. 
نم تنتهي بالعادة الجهنمية الي أدمنت عليها مذ ناهزت 
الحلم؛ فلا تفوت ليلة إلا وأنصهر في أتونها في لذَّة 
مفتعلة وندم موجع طويل . 

ول أقف ص رغبتي في صداقة الرفاق موقف اللحمود 
المطلق. ولكن أخفقت في مسعاي إخحفاقًا كاملا. كان 
يقابل تلك الرغبة في نفسي ميل أصبل للوحدة. ونفور 
وخحوف من الناس؛ وانطواء على النفس دفعبي إلى 
الكتان الشديد فلا أحبٌ أن يقف إنسان على سرّي 
ولا حتّى مسكنى أو عمري. هذا إلى عجز عن 
الحديث» وعدم فهم للنكتة فضلًا عن تأليفهاء فلم 
يجد فيّ أحد من التلاميذ ميزة تجذبه إلمّ» عادوا يرمونني 
بثقل الدم . أخفقت في اكتساب صديق. 500 
العمر بلا صديق . بيد أني لم أكن أدرك -حقيقة نفسبي» 


؟ السراب 


فاتهمت الرفاق دون نفسي بالعيوب التي حرمتني 
الصداقة. واعتقدت زمنا أن لا صديق لي لأنّه لا 
يوجد من هو أهل لصداتتي! ما أعجب غرور 
الإنسان! إن السهاء والأرض لا تسعانه. وعلى عجزي 
ونقائصى كان محيّل إل أحيانًا أني الكال المطلق, فهذا 
الحياء القائل أدب؛ وهذا الإخفاق في الدراسة عبقرية 
بطيئة النموٌء وذاك الفقر المدقع في الصداقة والحبٌ 
تسام » وآمدّني علم النفس - الذي دُرْس لنا عامًا في 
السنة الخامسة ‏ بألفاظ غامضة انتفعت بها في إرضاء 
غروري الكاذب. ومع ذلك كانت تثقل عن ساعات 
بأس فأكاد أستشفٌ الحقيقة» وقد قلت لأمّي يوماء 
وهي الحبيب والصديق والأئيس الذي لم أظفر بسواه: 

لا صديق لىي. التلاميذ يزدرونني ! 

فتولاها الغضب.» وهتفت بي: 

18 نعلك بألف رأس من هؤلاء التلاميذ. إِنّْبمِ لا 
يحبون من لا يجاريهم في شطارتمهم وسوء خلقهم 
ونحسدونك للنيائك وأدبك. لا تحزن فلا فضيلة وراء 
البعد عن الناس! 

فقلت محزونا: أشعر أحيانًا بأني وحيد فتثقل الوحدة 
عل ! 

وهاها قولي ورمقتني بإنكار» وقالت: 

- وأين أمك؟ . . , كيف تقول هذا وأمّك على قيد 
الحياة؟ ألست أكرس حياتي لخدمتك ورعايتك؟ ! 

أجلء إنا تكرّس حياتها لي؛ وإِنْا كل شيء في 
حياتي؛ ولكن مْن لي خارج بيتنا؟ ! 

واطردت حياتي المدرسيّة في تعر وتثاقل على رغم 
كونها تتوكّا على عكاز من المدرّسين الخصوصيَّين. 

ولشدّ ما كان يحزن جدّي كلما سقطت في امتحان, 
ولم يعد يسخر مث في مزاح, ولعل طعنه في العمر رده 
شديد الإشفاق على مستقبلناء فكان يقول لي: 

- لماذا تخفق هكذا يا كامل؟ أكلّ عام بعامين؟. . 
ألا ترى أن أتلهّف على رؤيتك موظّفًا قبل أن أموت؟ 

وكان كلامه يقع من نفسي موقمًا محزنّاء م أقول 
له : 

ما ألوث أن ذاكرت حيّ منتصف الليل. 


وتبادر أمي إلى تأيبدي في قولي فيهز رأسه الأبيض 
ويسممم . 

الأمر لله , 

ولذلك كنت أتوقع موسم الامتحان بقلق وخوف 
تتخللها الأحلام المزعجة. ولذلك أيضًا كان يغريني 
الحياء والغرور بتصنع التعب والتوتمهك في الأشهر 
السابقة للامتحان لأعتلٌ ببما على إخفاقي المتوقع. 
وكانت أمي من ناحيتها تزور أمْ هاشم وتنذر النذور. 
وتشدٌ حول عنقي التعاويذ. ولا أنبى مرّة- وكنت 
قريبا من امتحان الكفاءة جاءتني بامرأة تمن يقرأن 
الغيب مستعيذة بقدرتها على إنجاحي». فحرقت امرأة 
بين يدي البخورء. وركزت فى المدفاة عصًا قصيرة 
وأمرتني أن أقفز فوقها ثلاث مرّات. وفعلت ما أمرت 
به فقالت لي بيقين: «ستنجح بإذن الرحمن4؛. ولم)ا 
سقطت في الامتحان قلت لأمي متعجبًا: «كيف أسقط 
وقد قفزت المرّات الثلاث»؟! 

وعى رغم هذا كله واصلت الدراسة؛. وطويت 
عهد الثانوي وحصلت على البكالوريا وقد ناهزت 
الخامسة والعشرين! . . . 


١ ه‎ 

وداخلني على إخفاقي المتواصل شعور بالزهو 

والرجولة . إن كثيرين من موظفي الحكومة لايحملون إلا 
البكالوريا فأنا رجل ذو شأن! ولست أطمع من ورائها 
انخراطًا في سلك الحكومة ولكئّي أرجو أن أخرج بها 
من البيت» أعني أن أتحرّر بها من ربقته التي تشذني 
شدًا يكاد يمرّق ضلوعي. أجل لقد ملكني شعور 
جامح هفا بفؤادي إلى التجدّد والانطلاق. لم أعد 
غلاما يقاد من أنفه, وها هي التياة تستفز قن للتمرد 
والثورة. ولكن أي تمرّد وأيّة ثورة؟ . على ماذا أو لماذا؟ 
لم أجد جوابًا واضحًاء والحقٌّ أني لم أكن أفكرء ولم 
يكن هياجي فكريّاء ولكن ثورة شعوريّة تنبعث من 
أعماق نفسي» تروم الانطلاق والتغيب» وتشوّف إلى 
المجهول. 1 أستبن هدفا على وجه التتحديد» وعائيت 
حنيئًا مؤلً) غامضًا كلما تمرّك بصدري شملني بكآبة 


ووتحشة: :وكنة كل ابفيات ىن تلك الأساسسسن 
وقعت فريسة ليد الغضب الحمراء» فثار بي الغضب 
لأتفه الأسباب . 

وفي تلك الأثناء كان جذي يبدف إلى الثمانين» 
وكانت أمُي تقطع الخطوات الأولى بعد الخمسين. 

انقلب جدّي شيخًا نحيلاء ولكنّه حافظ على 
صخته ونجا من شر الأمراض» وتمتم بما وهبه الله من 
نشاط يمحسد عليه؛ ولم تزاوله روحه اللطيفة ودعابته 
امحادئة . أجل اضطرٌ إل تبديل نظام معيشته لأنه لم يعد 
يحتمل السهر الطويل المتواصل». فكان يذهب إلى 
مقهى لونابارك صباحًا ليجتمع بقل من صحابه. 
ويمضي في النادي مساء ساعتين ثم يعود إلى البيت في 
العاشرةء» وكان يمشى مشيته العسكرية في قوة ووقار 
دون أن ينحني له جذع. ما أمي فقد سارع إليها 
الكبر بنسبة أكير منه إذا عدّت بالقياس إلى عمرها. 
جف عودهاء واشتعل مفرق شعرها وسوالفها شيباء 
إلا أئها تمَنّعت بصحّة جيّدة. كما حافظ وجهها على 
حماله ومهائه. وكانت رما استسلمت في أحايين للاهمال 
فلا تعنى عنايتها المعهودة مبندامها. ولشدٌ ما كان 
يتولاني الحزن والاستياء لذلك. حي قلت لها مرّة 
«لاقيني بالحيئة التي تلقين مها الضيوف». ولم تخيب لي 
رجائي ذاك فكانت تبدو لي وهي على أحسن حال» 
وطابت نفسى ورضيت. 

وظَنْ 55 أن الفرصة بيات ليحقق الأمل الذي 
طالما حلم به ألا وهو أن أصير ضابطاء رلك كنت 
جاوزت السنّْ المقرّرة للالتحاق بالمدرسة الحربية. 
وحسب أن الشفاعة تستطيع أن تذلّل تلك الصعوبة 
الي بدّدت حلمي فسعى إلى كثيرين من كبار 
الضبّاط: ولكنّه أفهم أنَّ القانون لا يتسامح في ذلك 
وحزن جدذي حَرنًا شديدّاء وقال لى آسفا: 

لو داخلت الخربية لضمنت لك مستقيلة حسئاء 
ولاطمأنٌ قلبي عليك وعلى أمّك. 

وهر رأسه في سخطء ثم سألنى : 

- علام نويت؟! 

فلظرت إليه في حيرة؛ ولم أحر جواباء فعاد يسألبي : 


السراب 6م 
ألا تفضل مهنة بعينها؟ 


واشتدّت حيرتي لأنْ نسي لم تنزع ب إلى مهنة غير 
الحربيّة وذلك بتأثير جدّي نفسه وإيمانهء فلم أدر بماذا 
أجيب» وقلت: 

كنت أمئُ نفسى بدخول الحربيّة؛ أمَا الآن فالمهن 
كلها والسمة ال صرام. 

إن أختار لك الحقوق فهى خير ما بقي لنا؟ ولا 
أوصيك بالاجتهاد لأنّه من العار أن يخفق الإنسان في 
الجامعة. وربنا يعيئنا على مصر وفاتها! 

أسفت على ضياع المدرسة الحربية من يدي » ولكئ 
: أدرك فداحة خساري إِلَا حين أيقنت أنّني سأواصل 
الدراسة أربعة أعوام أخرى على الأقل. أو ثانية أعوام 
إذا سرت بالمعدّل الذي لازمني في المدرستين الابتدائية 
والثانوية. وكنت بطبعي أكره الدراسة والمدرسة 
فنظرت إلى المستقبل بامتعاض غير قليل. وم أكن 
أدري عن الجامعة شيئّاء ولكن رجّحت ألا تكون 
بغيضة كالمدرسة, وقلت لنفسي إن طلابها في سن 
الرجال فلا يمكن أن مُثْلوا بي كإخوان لهم من قبل 
خلّفوا في نفسى آثارًا لا تزول» كذلك استبعدت أن 
كرون المقات ها عون آذ يمال يد رسال أن روخم 
في حكم الرجال. ودأبت على تحصيب الدراسة المنتظرة 
إلى نفسي. ولم آل عن عبوين خطبهاء حبّى أستطيع أن 
أزدردها في صير وأناة, وي صيف ذلك العام يدت 
طالبًا ‏ بكليّة الحقوق. 


1 

وفي صباح السبث من منتصف أكتوبر غادرت 

البيت مزوّدًا بالدعاء قاصدًا الجامعة المصريّة. ووقفت 
على طوار المحطة أيتظر الترام» وهو نفس الترام الذي 
كان يحملني إلى المدرسة السعيديّة؛ ول أخل ذلك 
الصباح ‏ على امتعاضي ‏ من شعور بالزهو. وإني لفي 
العطاري 1 ,طرق سمي معنة مصراع كاد 
فتحث بعلف فلطمت الجدارء فارتفع بصري إلى 
الدور الثاني من عمارة برتقاليّة اللون تقع أمام المحطة 
مباشرةء» حيث كانت توجد لافتة عيادة طبيب حتى قبل 


5 السراب 


شهر تقريبّاء فوقع بصري على فتأة في الشرفة واقفة 
حتى شانا.. ادركتك لتؤي أن أسرة سكنت الشقة بعد 
أن أخلاها الطبيب» وئبتت عيياى على الفتاة. وجعلت 
أتابعها وهي ترفع القدح إلى شفتيها فترشف رشفة» ثم 
تنفخ السائل الساخن بقم مزموم. وتبدأ وتعيد لاهية 
دلدّة الشراب. وبدا لي منها قامة طويلة وقد نحيف 
رشيق وبشرة قمحيّة. في سترة وتايير رمادي. وكانها 
وشيكة الذهاب إلى المدرسة في احتشام الطالبات, 
وكانت توليني جانب وجهها فلا اعتدل رأسها رأيت 
وجها مستديرًا. توحي هيئته بتسيق جميل وإن لم 
أستطع تبين معالمه من موقفي. تعلوه هالة من شعر 
كستنائين » فبعثت في نفسي أثرّا مبيجًا. ول تبق هدنا 
لناظريّ إلا قليلاء ثم دارت على عقبيها ومرقت إلى 
الداخل. واحتفظت بصورتها في حبٌ استطلاع ريثا 
جاء الترامء ثم ركبت متَحْفْفًا بالأئر البهيج الذي بعثته 
فّ من كآبة اليوم الذي تبدأ فيه الدراسة. على أني 
وجدت في الكلْيّة مزايا خليقة بأن تُذهب مماوني وإن م 
تقلّل من أسباب نفوري العام من الدراسة. من ذُلك 
أنْ وقت الدراسة مقصور على أربع ساعات في اليوم 
تنتهي عادة في الساعة الواحدة. ومنه تمتم الطلبة 
بحريّة الحضور أو الغياب بلا رقيب؛ ومنه وهو الأهم 
انعدام فكرة العقاب بل لمست في روح الطلبة أنْ ما 
يتهدّد أسائذتهم أخطر ما يتهتدهم هم. سررت بذلك 
كله ومنّيت نفسبى بأن تنتهي هذه الدراسة على مرّها كا 
انتهت الات السابقة. ولم يكن جديا عل أن 
أتجزع دراسة على كره ونفور حيّى الثالة. وعندما 
عدت ذلك اليوم إلى المنيل شعرت بسرور مفاجئ هيأ 
لي أن رجل خطيرء ونصف أستاذ وربع وكيل ليابة! 
جد 6د 

وفي صباح اليوم التالي ذكرت الشرفة وأنا أشارف 
المحطة فرفعت عييٌ مدفوعًا بتطلع هادئ طبيعي ولكني 
وجدتما خالية» وتسلل بصري إلى الداخل فرأيت مرآة 
في الجدار المواجه وإلى اليسار عمود سرير فضّيًا لامعًا 
ومصباحًا كهربائيًا يتدلى من السقف ذا قبّعة زرقاء 
كبيرة» ثم بدا في وسط الحجرة رجل في الخمسين ذو 


نطارة ذهبيّة يزرّر حمالة بنطلونه. فخفضت بصري 
ورحت أقطع الطوار جيئة وذهابا. ولاحت مئّْي التفاتة 
إلى المحطة المقابلة» للترام الذاهب إلى العتبة» فرأيت 
الفتاة واقفة ب وقد عرفتها بقامتها وزيها وبيدها كتاب . 
كانت في وقار بدا حلوا بالقياس إلى عمرها الذي لا 
يجاوز العشرين» ولم يكن بصرها يعلق بأحد من 
يحنشد حوها أو يمر بها فأثر تحفظها في نفسي أئرًا جميلا 
لذن عار كارو إعجاناانه شعرت نوها بالعدات 
وحنان. ولم يكن تأثير المرأة في بالأمر الجديد على 
نفسي . فإ أرى الحسان في الطريق أو في الترام» 
وأقعهزة عادة نظرة وجل طابر أمنضه الكرمان بوالوخيدة 
والرغبة. وأرجع من بالنشوة البديعة واهزة الموجعة. 
أمَا هذه الفتاة فلها شأن آخرء فلن يكون موقفي منها 
موقف العابرء ولكن موقف المقيم ومّن هو في حكم 
الحارء فإنٍ أراها اليوم. وأراها غذّاء وإلى ما شاء الله 
فضاعف ذاك من اهتيامي بها وحرّك في قلبي آمالا 
وهميّة. ومثاني بسرور متجدّدء فكأنله نوع من التعارف 
ولون من الأمل الغامض. وملهاة سرور سلبيّ لا 
يطمع في أكثر منه شخص خجول هياب مثلي. ثم 
ذهبت إلى الكليّة طيّب الشعور, متسائلا: هل يمكن يا 
ترى أن تنتبه إلمّ؟!... وقد ذكرتها في أعباق الليل. 
في وحدتي النفسيّة. وهذيان الأحلام الجنسيّة يعبث 
بخيالي. فوجدت من نفسى اعتراضا وتمرّدًا وإباء 
شديدًاء فأبعدتها عن أتون عادتي الذميمة. قانعا هنا 
بالحيوانات القذرة التى تلهب أحط الاحساسات من 
جسدي . . 
ب 

وفي صباح اليوم الثالث انطلقت إلى المحطة وكأني 
من التطلّع على موعد. وأرسلت ناظريٌ إلى المحظة 
المقابلة» فرأيتها بموقف الأمس بقامتها الفارعة ووجهها 
البدريّ ووقارها الجذّاب. وسرى في جوانحي 
الارتباح. ثم حذثتني نشي نان اعد سسلة إلى 
الاآقتراب منها وهي لا تدري بي لأروي ظماأي إلى 
معرفة وجهها عن كثب, وحثني الإشفاق من مجيء 
الترام الذي تنتظره إلى تنفيذ ما تطمح إليه نفسي دون 


تردّدء فاتمجهت صوب المحطة الأخرى بقدمين قلقتين 
وقلب يغوص في صدري فرقاء ومررت بها مسترقًا 
النظرء فرأيت في عجلة المذعور عينين عسليّتين 
صافيتين تقطران ملاحة» وأنفًا صغيرًا دقيقًا وشفتين 
رقيقتين» ولعلّها أحسّت حرارة بصري فرفعت عينيها 
عرضًا فالتقت عيئاناء وسرعان ما استرددث نصري 
لأنه أيسر عل أن أحملق في قرص الشمس إبّانَ اعتدالها 
من أن أحتمل وقع نظرة عين. ومضيت إلى طرف 
الطوار ولبثت حائرًا لا أدري كيف أعود إلى المحطة 
الأخرى. وخيّل إِلّ أني ارتكبت شططا جنونيًا فأوقعت 
نفسبي في ورطة عسيرة المخرج. هكذا كانت تتراءى لي 
أتفه الأمور. ولبئت متسمُّرًا حي استقلت الفتاة الترام 
وخلا الطوار من المنتظرين فعدت إلى مكاني لاهثاء 
وجعلت أحدّث نفسى٠‏ أحمل بها من ملاحة ورشاقة 
واحتشام ! وعدم انا يومى فلم أكد أنتبه إلى ما 
يلقى عل من محاضرات . وعلى قدر ما نازعتني النفس 
إلى عل عواطفي على قدر ما ازددت كرها للمحاضرة 
الى اتعترضى تسيل اخياق بد فقاضن بي شغور. بالعمرد 
على تلك الحياة الدراسيّة التى تعذّب عقل وتتجاهل 
قلبي وشعوري وكأني أنتبه إلى قلبي لأؤل مرة» فاحس 
به عضوًا حيًا مثل بقبّة الأعضاء. يموع جوع المعدة. 
ويرق رقة النفسء ويتشوّف تشوّف الروح» فتمئيت 
أن أكرّس حياتي لسعادته؛ وأن أستسلم لحنان المتعة 
الي تتفجر عنها ينابيعه. 

تنبّدت من الأعماق وأنا جالس في نهاية قاعة 
المحاضرات بجسم حاضر وعقل غائب. وحذتثتني 
نفسى أن وراء هُذه الحياة الجافة الضيّقة المكبّلة 
بالأعاكل سران طاعية واسكة تراه فيلك للف الها 
في جزع وهفة. وعدت إلى الفتاة» ولم يقنع حيالى هذه 
المرّة بالرؤية. فخلق ما شاء له هواه فرأيتني ألفت 
نظرها إِلُّ» واقتربت منها ىا فعلت في الصباح, ولكيٍي 
لم أرتبك كيبا ارتبكت فاأومات إليها في جسارة نادرة. 
ويغلبها ابتسام الموذة فتبسم إِلّ. وأهمس طا بما أحبٌ 
وتبمس لي كذلك. وثركب الترام معّاء وفي مكان ما 
على شاطئ النيل أقول لما أحبّك. فتقول لي بوجه 


السراب با؟ 


مضرّج بالدم وأناء فأهوي إلى خدها ألثمه في إعجاب 
واحسترام وحبٌ يسمو عن الشهوات» أجل لا يحب 
خيالي أن يصوّرها لي إلا في ردائها الطويل محوط بها 
هالة الوقار والاحتشام . 
و 

وبككرت في الذهاب إلى المحطة في صباح اليوم 
الرابع فوجدت الشرفة خالية» ونقلت بصري إلى نافدذة 
على يسار الشرفة فرأيت الفتاة من جانب وجهها. 
وكانت تقف وقفة العناية والاهتمام التي يقفها الشخص 
حيال صورته على وجه المرآة» ومضث تسوي شعرها 
وتمنحه اللمسات الختاميّة التي تشبه لمسات التدليل 
والمداعبة فانشرح صدري وتتبعت يدها بجوارحي حتقى 
خلتني أجد مس الشعر الناعم وأشمّ عرفه الطيّب. ثم 
رأبتها تتحوّل عن المرآة وتطل من وراء زجاج النافذة 
على الطريق فقدّرت من الجا وجهها أن عينيها على 
طوار المحطة.» ونزعت بخجل الفطري إلى خفض 
عي بيد أنّْني تشبّعت ببعد المسافة بيني وبينها وثْبْتَ 
عبن بجهد قليل. ترى هل وقع بصرها علّ؟ وهل 
ذكرت فتى الأمس الذي التقت عيئناه بعينيها لحظة 
بديعة؟ كلا إنْها لا تحسلٌ لي وجوداء ولن تحسٌ ببذا 
الوجود. لبئت قليلاء ثُمٌ تراجعت إلى الداخل وغابت 
عن ناظريّ. وقطعت طوار المحطة ذهابًا وجيئة» ثم 
عدت إلى موقفيء وجاء ترام إثر ترام ثانٍ وأنا بمكانٍ 
كالمنتظر. وني أثناء ذلك ظهرت في الشرفة فتاة في 
العاشرة في مريلة زرقاء أدركت لتوؤي أنّها أختها. ثم 
رأيت فتاة تبرز من العبارة وتتجه صوب المحطة 
المقابلة . رأبتها تسير لأول مرة فتحدث مَشِيةَ هادئة 
متزنة توافق وقارها الجميل وتداسب قدّها الرشيق 
وقامتها الطويلة. وتحرّك في أعماقي الاعجاب 
والإحترام . وأرسلت بناظري حبّى جاء الترام وصعدتث 
إليه. استوفيت جزاء الانتظار سرورًا وارتياشاء 
وركبت الترام مرْوَدًا بأطيب أزاهر الأحلام ولم يخف 
عنى اهتامي بها وسروري باحتشامها ووقارهاء فلم 
أشكّ في أن التطلم لذاك البيت سيكون من الآن 
فصاعدًا هوايتىي. وقلت لنفسى: دما أحوجبي إلى رفيقة 


ا السراب 


لحياتي في مثل كياها»! وضاعف من حسرتي أنْني عشت 
حياتي بلا رفيق. على أنني شعرت بقلق من جرّاء 
إفصاحي عن هذه الرغبة» كما شعرت بحياء شديد. 
ولم تكن تلك أول مرّة أفصح بها عن الرغبة في 
الرفيق» ولكنّه كان إفصاحًا عايرًا وتشوّفا عامًا ورغية 
بلا هدف معيّن وشوقا غامضًاء أمّا هذه فإفصاح خطير 
حك حيائي ونحوفنيء وتشوف -خاصضصء» ورغبة يغرّر مها 
أمل» وشوق يستمدٌ الوقود كل صباح. وأعجب ما في 
شعوري أنه كان شعورًا بيتيًا إن صم هذا التعبير, 
فانصب من بادئ الأمر على الفتاة وبيتهاء وما ذكرتبا 
فظ إلا وتحضرني صورة البيت» فامتجت الصورتان في 
يلي ونالتا من اهتمامي وأحلامي نصيبًا واحذا! 
وسرعان ما تمثلت فيها زوجتي! ولا عجب فإني امرؤ 
إذا وقعت عيناه على فتاة في الترام نشطت أحلامه 
الشاردة فتصوّر أنه خخطبها وعقد عليها وزف إليها 
والترام لا يزال في منتصف المسافة ما بين جسر الملك 
الصالح وجسر عبّاس! فكيف لا أتمثل فساة الصباح 
زوجة؟! وملكني الإعجاب والاحترام» وقدسية 
الإحساس البيقّ. وحنان العاطفة الزوجيّة.» وانتظم 
هذه الأحاسيس خيط موصول من الميل الصادق. لعلَه 
لحت الذي ١‏ يعرفه فلن 

وفي صباح اليوم الخامس أطلت وقفتي حيال المرآة 
قبل أن أغادر البيت» والقيت على صوري نظرة 
متفخصة. ينبغي أن أعترف هنا بإعجابي الشديد 
بذاتي!! فلم تكن أنانيتي بقاصرة على سلوكي» ولكها 
امتذت إلى حبٌ الصورة والإعجاب بها. ولشدٌ ما 
أنعمت النظر إلى هاتين العينين الخضراوين 
الواسعتين. وهذا الأنف الدقيق المستقيمء وهذا الوجه 
الطويل المتناسق ذي البشرة البيضاء. . وكان تأئقي 
مضرب الأمثال في البيت والمدرسة على السواء حي 
لأذكر قول أستاذ اللغة العربيّة لي مرّة: «لو أتقنت 
العربية إتقانك لعقد رباط رقبتك لما كنت أسوأ تلميذ 
عندي!» نظرت إلى صورتي طويلا ذاك الصباح 
وجعلت أمي ترمقني بإعجاب وتمازحني بكلمات 
كالغزل فقلت لنفسي آه لو دري لمن أنا أتأئق! 


وغادرت البيت في ارتياح مطمئثًا إلى ما عسى أن يتركه 
منظري من أثر حسن في نفس الفتاة إذا شاء القدر أن 
يلفت عينيها إِليّ. بيد أن ارتياحي لم يطل. وذكرت 
أمرًا طالما نعْصِ عل صفري, ففتر حماسبى. . ذكرت ما 
رميت به كثيرًا من ثقل الدم. ولم أستبعد في تلك 
اللحظة أن يكون ذلك العلة في إخفاقي في اكتساب 
صديق واحد. وسرعان ما تكدر صفوي وتجهّمت لي 
الدنيا. . وسرت بخطا ثقيلة حي انتهيت إلى المحظة . 
ودار بصري ينقّب في مكانها حيّى استقرٌ عليها ني 
الشرفة تحسبى الشاي كما رأيتها أل مرّة. هناك نسيت 
كدري ومسمي. وانشرح صدريء» وانبعث السرور في 
كل قطرة من دمي , هناك أدركت أثها سروري وفرحي 
وأنْما روحي وحياتي, وأنّ الدنيا من غير طلعة عيّاها لا 
تساوي ذرّة من رماد! 
+ ا د 

وواظبت على ذاك الموعد الذي لا يدري به الطرف 
الآخر شهرين أو يزيد. يومًا بعد يوم دون انقطاع أو 
تأخير. تطلعت بناظري حقّى كل البصرٌء ووهبتها 
الإعجاب والاحترام عن طيب نخاطر حقّ نُوْتُ بهماء 
وقليت السرور والأحلام حيّى نسيت الحقيقة والواقع. 
وسحت في دليا الهيام حتّى سلبت العقل والرشاد. 
حفظتها عن ظهر قلب. طولا وعرضًاء إيماءة ولفتة 
وقفة ومشية.ء سكونًا وحركة. وعرفت من وراء زجاج 
النوافذ أسرتها من أب وأمّ وأخخت وأخ. كل هذا وهي 
لا تدري بي» ولا تحسٌ لي وجوداء وكأننى بالنسبة إليها 
ليس من سككان هذا الكوكب. وأمضّني الجسرع 
والضيق» وأحرقتني الرغبة في إثبات وجودي. ولكن 
شذني عجري إلى موقفي لا أتعدّاه. حلمت في 
شرودي كثيرًا بأنٍ أعترض سبيلهاء وأتبعهاء أو أن 
أبوح لما بإعجابي واحترامي . أما في الحقيقة فلم تكن 
تبرز من باب العمارة حي ينقبض قلبي حياء وخوفاء 
وحتّى أتهيّا لنض بصري فيا إذا اتجه بصرها نحوي , 
ولعله كان أسهل علّ أن أرمي بنفسبى من -جسر الملك 
الصاليح من أن أصمد لظو هن غتيي: وكنت أتساءل 
في يأس وجزع متى تنتبه لوجودي؟ متى تدري أن 


هئالك قلبًا غريبًا يكن لما من الوداد أضعاف ما يكنه 
ها الرالتنان؟1..... اليسعرينا أن عر شمن هد 
الكرام بقلب يودٌ لو يفرش شغافه تحت قلميه؟! 

وتركرت أفكاري ‏ تلك الفترة ‏ في قلبى بألامه 
(اقالة»: شاوقه اذ لحني بو كمرك لسر قرا يخاتجين 
إلى نصيح أو مشيرء وكانت أمّي هي صديقي الوحيد 
في دنياي» ولكبِّي لم أتوجّه إليها بطبيعة الحال في أزمتي 
تلك لشعوري بأئها ستقف من رغبات قلبي موقف 
العداوة!. . . بيد أني وجدت في بعض المجلات التي 
يقرأها جدّي صفحات مخصّصة لأسئلة القرّاء فأملت 
أن أظفر منا بالمشير الذي أفتقد. وأرسلت إلى إحداها 
هذا السؤال الذي أقضٌ مضجعي : «رجل ثقيل الدم. 
أليس ثمّة أمل أن يحيّه محبوبه؟: وكان جواب المجلة 
«الحبٌ سر من الأسرار لا شأن له بالخقّة ولا بالتقل» 
وقد يتعامى عن القبح والدمامة فلا تخف على حبك 
من ثقل دمك!! وإذا جاز لنا أن نتفلسف عن طبيعة 
المرأة فلعله يصمٌ أن نقول إنّبا مغرمة بالقرّة 
والشجاعة!» سررت بمطلع الإجابةء فلا أن بلغت 
خحتامها خامرني شعور بالخيبة» وتساءلت عم يعنيه 
بالقرّة. ‏ 1ه لق فوا ل آم خال» وان أن 
إدماني العادة المرذولة جعلني نحيمًا أكثر نما ينبغي 
وأضفى على بشرق شحوبا. وعندما ذكرت الشجاعة 
م أتمالك نفسبى من ضحكة مريرة» وعددت ما يخيفني 
في هذه الدنيا من الأناسيّ والأجواء والفيران 
والصراصيرء فعصر اليأس قلبى ! 

ولكئّني لم أسلّم لليأس لأنْ النار التي تستعر بنفشبي 
كانت أقوى من أن تخمدها ضربة من قبضة اليأس 
الباردةء فأرسلت إلى المجلّة هذا السؤال: «كيف 
أجلب محبوبق؟: وكان الجواب: «اذهب إلى أبيها أو 
وك امرها بواطلف يذه إليه وق كنيل بان لمتلقم. 
رباه. ما أقسى المجلّة! إِنْا لا تدري أني طالبء وأن 
أمامي أربعة أعوام - أو ثيانية ‏ قبل أن أصير رجلا 
مسئولاء وأنّني فوق هذا كله أقدر عل اقتحام أبواب 
جهئم مث على طرق باب مبوبتي لأطلب يدها. . يا 
أسفاء آلا يعلم هؤلاء الناس ما المجل؟! ما أراني إلا 


السرات 8م 


خطوة مئي! 


ا 

واعترض سبيل حادث لعلّه في ذاته تافه » ولكنّه 
غير مجرى حياتي. وكانت حيان الدراميّة نزاًا 
متواصلا بين عقل الراكد ونفسي الشاردة يتمخض - 
كا تمخض في الماضي ‏ عن عناء شديد وثمرة قليلة . 
وقد بات الشرود لدي ملكة أسرة غلبت على نفسي 
جميع توافا النتاققى بق تتفم مع ال اال 
الليسانس قبل الخامسة والثلاثين! عل أفي عرفت من 
خطورة دراسة القانون أشياء غاب عب شيء لا يكاد 
يقيم له الطلبة وزناء بل يقبلون عليه في سرور 
ويعدونه رياضة وهوا. ذلك هو درس الخطاية . وكان 
يلقى علينا مرْة في الأسبوع في مدرحج عام يحضره جميع 
طلبة القسم الإعداديّ. وني أثناء الشهرين الأؤلين 
استمعنا إلى دراسة نظريّة في فِنَ الخطابة ثم بدأ 
التدريب العملّ. وطفق الأستاذ يدعو الطلبة إلى 
ارنجال الخنطب في الأغراض المختلفة فكانوا يخطبون 
000 وبأصوات جهورية. قُِ لينات وشعجحاعة 
روحت أ نصتك نصت إليهم في دهشة مقرونة بالإاعجاب 
البالغ . و را بعاد دهم وشجاعتهم. نالعولا 
مقدرتهم عل التصذي لمل | الموقفب الرهيب حيال هذا 
الجمع الحاشد. فكنت أتطوع بالخجل ثيابة عنهم ع 
يتفصد جبيني عرقا! وما أدري فق أحد الأيام إلا 
والأستاذ ينادى : 

ونمضت قائًا بحركة عكسيّة. في الصف الأخير من 
المدرج ‏ المكان المفضل عندي ‏ حيث لا تقم عل 
خصارن 00 ٠.0‏ . وأحدث أسمي اهتماما ساخراء همس 
أحدهم قائلا : 

هذا حفيد لاظوغلى! 

وتساءل آخر : 


4 السراب 


وقفت مبهوتًا خخافق الفؤادء فقال الأستاذ: 

- تعال إلى المنصّة. . . 

وتسمرت في مكاني في ارتباك لا قِبّل لي به رغبت 
أن أعتذر ولكنّ بعدي عن الأستاذ كان يوجب عل أن 
أعلي صوتي فيسمعه الجميع ع فيكغل رغمي . 
ونظر الأستاذ إل دهشّاء ثم قال: 

- مالك واقفًا لا تتحرّك؟ . . . تعال إلى المنصّة ! 

واستدارت الرءوس إل حتى شعرت بأني أحترق 
يك نميا واستحتني الأستاذ بإشارة من يدهء فقلت 
على كره: 

- لماذا؟ 

وضحك كثيرون من سوالى» وقال الأستاذ بحذة : 

- للاذا؟! لكي تخطب يا أي كالآخرين! 

وقلت بصوت منخفض لم يجاوز صفين من المدرج ' 

دلا ادق كيف أخطب! 

وطبيعي أن صوني لم يبلغ الأستاذ فتطوّع طالب 
قريب بإبلاغ جملتي صائحا بلهجة ساخرة : 

- يقول إِنه لا يدري كيف يخطب| 

فقال الأستاذ بلهجة تنم عن التشجيع : 

- هذا درس تدريب» وأخخلق أن ينتفع به من لا 
يد الخنطابة . تعال. . . 

ول أرَ مناصًا من الذهاب. فحرّكت تدم في جهد 
وعذاب كأني أساق إلى المشنقة» ثم ارتقيت المئصّة في 
حالة ذهول. ووقفت مُحدّقًا في الأستاذ باستسلام 
واستعطاف موليًا المدرج جانبي الأيسر. وأدرك الأستاذ 
ارتباكي فقال بلطف: 

انر إلى زملائلك؛ واملك جنانك, وتكلّم كأنّك 
وحدك. لا بد من اعتياد هذه المواقف لأنّْ حياة 
الحقوق لا تخلو ساعة منها وإلّا كانت هراء لا معنى 
له. كيف تقف غدًا في ساحة القضاء سواء تحت ظلّ 
النيابة أم المحاماة؟! ادمٌ شجاعتك واخطب هذا 
الجمع حانًا إيَاهِ على التبرّع لإحدى الجمعيّات الحيريّة , 

وتطلع إل الجميع باهتيام شديد لم يحظ ممثله 
الخطباء المصاقع. فحملقتٌ في الوجوه المتطلّعة دون أن 
اذى شونا ولغني ذهول وخحجل ثميت فكدت أقع 


مغشيًا علّ. وتولاني ذلك الإحساس الحادٌ بالقنوط 
الذي يمسك بخناقنا في الكابوس . ولى يخطر لي لحظة 
واحدة أن أفكر في الموضوع. ولعلٍ أنسيته. ول يكن 
يدور بخلدي إلا هذا السؤال: متى تتكشف هذه 
الغمّة! ومل الأستاذ الانتطار فقال: 

- تكلم. لا تفش الخطا. أفصح عيًا ببالك حميمًا. 

رئاه متى ينقضى هذا العذاب؟ هيهات أن يرثي 
أحد لي. وها هم الطلبة يتغامزون ويتضاحكون: وقد 
قال أحدهم بلهجة مَن يحذر إخوانه من الاستهانة بي: 

هكذا بدأ سعد زغلول. 

وقال آخر: 

- وهكذا انتهى ! 

وصاح تالف : 

- أنصتوا إلى بلاغة الصمت, 

وامتلاً المكان ضجّة وضحكات فدار رأمى وأحذت 
أتتفس بصعوبة» ثمّ صمّمت على إنهاء ذلك الموقتف 
المحزن فغادرت المنصة ومضيت صوب باب لخر وج 
دون التفات إلى نداء الأستاذ. وضجّة الشياطين 
تلاحفني وتصك أذيّ. وما زلت أخبط على وجهي 
محموما هاذيًا حب انتهيت إلى بحمطة الترام. ورحت 
أردّد بتصميم وحنق «لن أعود. . لن أعود, وكان ذلك 
التصميم البلسم الشاني لحرح ذلك اليوم. أجل لن 
أعود» ولن تقع أعيهم عل مرّة أخرى. ولن أعرّض 
نفسي لبسمات الهرء والسخرية. وأيّة فائدة ترجى من 
العودة إلى الكليّة ما دامت حياة الحقوقئ لا تخلو ساعة 
من هذه المواقاف؟! الأفضل أن أسدل الستار على عهد 
الدراسة كلّى وحسبي ما عانيت من عبوديّة العداب . 
وتعزيت بهذا التصميم عن جميع ما لحفنى من مهانة 
وإحراج بل نسيت به ألمي وحنقي فترظب صدري 
المحترق بنسمة أرتياح؛ وعدت إلى البيت وليس أمام 
عبن إلا ذاك التصميم. . . وبعد الغداء قتصصت على 
جذي وأمي ما لقيت في يوهي من شدَّة ومكروه. 
واختئق صوتي بالبكاء وأنا أقول: 

- هذه حياة لا تطاق. ولن أعود إلى الكليّة أبدًا. 


وهال جذي الأمر فقال بانرعاج : 

أأنت رجل!! ألا ليتك نخلقت بنًا. إذن لكنت 
أكمل الفتيات؟. . . أتريد أن تقطع حياتك التعليمية 
في الطور الأخير مها لأنك عجزت عن قول 
كين ا . زاك لى كناتك. كلك مكاتلق نظت 
الموجودين ! 

وجعلت أمي تقبض أصابع يمناها وتبسطها في 
تشنْج وتقول : 

حسدوه, . . جسدوه يا رىي! 

وحاول جذي أن يثنيني عن عزيمتي تارة باللين وتارة 
بالعنف. ولكنّ اليأس ثبت عنادي فلم أنئنء» ولم) 
فرغ صبره قال لي بحذّة: 

- إذن ضاعت السنة. وليس ثمّة فائدة من إلحاقك 
بكليّة أخرى بعد انقضاء شهرين ونيّف على افتشاح 
العام الدراسيّ. 

فركبني الخوف أن يلقي بي تارة أحرى إلى عذاب 
التعليم فقلت : 

- ليس ثمة فائدة مس مواصلة التعليم . 

وقاطعتني أمّي هاتفة بألم : 

لا تقل هذا يا كامل. بل لتواصلنٌ التعليم سواء 
في هذا المعهد أم أي معهد آخر. 

وضرب جدّي كما بكف وهو يقول: 

لقد جنّ. وهذه هماية التدليل . 

ولكي كنت كمن يدافع عن نفسه حيال الموت؛ وم 
يعد بي من صبر أواجه به الطلبة والدروس 
والامتحانات. فقلت بقنوط: 

لا أستطيع. . . لا أستطيع. . , ارحموني! 

وثار جدل عنيف صمدت له بقوة لا قبل لى بهاء 
قوّة مصدرها الخوف واليأس. حي سكت جدّي مغيظًا 
محنمًا . وبعد فترة صمت مرهق سألني : 

أترغب أن تتوظف بالبكالوريا! 

فقلت سخافض العينين : 

- نعم ! 

واللعوليية نفئه تظرة توتعلقة امنا مقطا وله 
تعبث بشاربه الفضْيّ. وحوّلت عي إلى أمي فرأيتها 


4١ السراب‎ 


مغرورقة العينين. ومع ذلك فلست أشكٌ في أنْ 
معارضة جدّي كانت نيصف جدّيّة فقط. ولو أنه أراد 
حمًا أن يكسر عزيمتي لما وسعني مخالفته. والحقٌ أنْ أمر 
مستقبلنا كان يحتل من تفكيره مكانًا واسعًا وخاصّة في 
تلك الأيّام الأخيرة التي استوفى فيها شيخوخته: ولعله 
ارتاح لاقتراح توظيفي ليطمئنٌ على مصير أمَي . 

وهكذا انقطعت حياق الدراسيّة بعد أن قضيث نيّمًا 
وشهرين بكليّة الحقوق, بيد أن لم أجد السرور الذي 
كنت أحلم به. أجل لم أفكّر لحظة واحدة في الرجوع 
إلى تجربة الدراسة القاسية, إلا أنّىي وجدت نسبى 
محالت سس 1ل سان لادان الكنافكة ين 
انلقطاعيى عن العلم وفراري من معاهله. وتصوير 
نفسي في صورة الضحيّة البريئة. ومع أنْ محاولتي تلك 
لجحت لحذٌ ما مع الآخرين أو على الأقلّ مع أمّي 
الصديقة لي بالحقّ أو الباطلء إِلَا أنْما لم تنفع معي إلا 
قليلا. ملآن السخط والتبرّم؛ وثار بي نزوع نحو 
تأديب النفس ومعاقيتها! واتل ذلك النزوع صورة 
حملة هجائية على نفسي, فواجهت نقائصي في تسليم 
واعتراف لأول مرّة. 

رأيت حباتي كما هي أحلامًا شاردة سخيفة» ونحجلا 
وخوفًا يميتان الحمم. وأنانبّة مطلقة قضت عل بعزلة لا 
يؤنسها صديق أو رفيق» وجهلا بالدنيا وما فيهاء فلا 
ا ا 2 
الكبيرة التي ولدث وعشث فيها لا أعرف منها إلا 
شارعين» وكأئني أعيش في حجرة بمفازة! وغشيتني كابة 
ثقيلة فاجتررت أحزاني في وحدة قلبيّة مهلكة. ولكنّ 
أمّي لم تفارقبي لحظة واحدة في تلك الآيّام السودء وم 
تطق الوقوف مئى موقف المعارضة طويلاً فسرعان ما 
تفولك عرة خكانه المسارفنة إل عاته السانيندء 
وتظاهرت بالسرور والارتياح» وقالت لى يومًا لتسرّي 
علي : 

الخير فيها اختار الله. وهل تملك لأنفسنا شيئًا؟! 
وعم قليل تصبح رجلا مسئولا. ويجيء دورك في تدليل 
مك لتقضي بعض ما عليك من دين! 

مما الساعات الطوال معاء وأنا آنس بحديثها 


1 السراب 


| لطيب الشاني وبفضلها وحدها ا تكشفت عنى الغمة 
وتفتح قلبى للحياة ونفض عن جوهرىه غيار 
الوساوس . . . 


م١‏ 
واستشفم حذي بضابط عظيم من رجالات الجيش 
تمن «عمل ملازمًا صغيرًا تحت رئاسته في السودان» على 
حدٌ قوله. ليجد لي وظيفة بوزارة الحربيّة وكُلّل مسعاه 
بالتوفيق ولكنّ الضابط أخيره بألني ربا عُيّنت في 
السلوم ولمءًا قال جدّي ذلك نهم وجه أمّي وقالت 


باستنكار : 
- السلوم؟! ألا ترى أن كامل لا يستطيع العيش 
بمفرده؟! 


وكانت تظن السلوم بلدا قريبًا كالزقازيق أو طنطا 
على الأكثر. فلا عرفت حقيقتها نذّت عنها ضحكة 
عصيية وعدّت الأمر مرزاحما. وصاح جذي تيرم : 

- وظميه بنفسك. أو عيّنيه في حضنك وأريحيني ! 

ولكنّه لم يأل جهدًا فسعى لدى معارفه القدماء من 
مواليد القرن التاسع عشر ممُن عملوا قديًا تحت 
قيادته: ولعلهم تأثّروا بشيخوخته الثانيئيّة ونشاطه 
الموفور. . وما أيقظ في صدورهم من ذكريات فوعدوه 
خيراء ووجدوا لي بالفعل وظيفة بإدارة المخازن بديوان 
الوزارة العام. ولم يكن يفصل بين الوزارة وبين بيتنا 
إلا ثلاث محطات وعشر دقائق مشِيًا على الأقدام 
فرضيت أمّي وقرّت عيئاء وقدّمتٌ مسوّغات التعيين 
وتقدّمت للقومسيون الطبيَ العام كالمتبع. وبالاختصار 
صرت موظُمًا من موطّفي الدولة. وكان الشعور الذي 
لابسني وأنا أغادر البيت ميممًا الوزارة لأول مرّة شعورًا 
معقداء فيه زهو وخيلاءء وفيه فرح بالتحرّر من 
عبودية الببت والمدرسة على السواء. ولا يخلو من قلق 
يساورني كلما أقبلت على جديد من الأمر. ومضيت 
بقلب خافق إلى عطة «عبوبتي» لأنّ طريقنا أصبح 
واحدًا منذ ذلك اليوم السعيد ولو لمحظات معدودات, 
ولئن لم يكن في الوظيفة إلا هذا لكان حسبي من الحناء 
والسرورء واحتطت بقلبي الضعيف فوقفت في الطرف 


البعيد من «الطوار» حتّ لا يصعقني وجودي على كثب 
منهبا. وجاءت بعد حين قليل تتهادى في مشيتها التي 
تجمع بين النشاط والوقار فاستقبلها قلبي بخفقان 
كزغردة اللسان. ولبتُ غاضًا بصري ولكن في نشوة 
جعلت الدنيا من حولي أطيافًا وترنييات. وجاء الترام 
فركبنا مغاء وكانت أوْل مرّة يجمعنا مكان واحد فسرى 
من ملمسه إلى جسدي مشل الكهرباءء ووددت لو 
ينطلق بنا بغير توقف. وإلى الأبد. وحين غادرثٌ الترام 
عبرت الطريق متعجّلا إلى الطوار وأرسلت بناظري إلى 
مقصورة السيدات فوقعتا على ظهرها وهي جالسة 
عاكفة على كتاب بين يديها. ولا تحزك الترام التفتت 
فجأة إلى الوراء فوقع بصرها عل ثم ولتني ظهرها 
ثانية. انتفضت من الرأس إلى القدم. وتسممّرت 
قدماي في الأرض وعلقت عيناي بالترام حت ل أعد 
أتبين من معالمه شيئاء ثم واصلت السير غائبًا عن 
حولي. سكران بالنظرة الى جادت بها السهاء. 
وتساءلت في ذهول ودهشة لماذا التفتت؟ أي داع 
دعاها إلى ذلك؟ بل أي داع يمكن أن يكون هذا إذا لم 
يكن تلبية لنداء روحي الخفئ؟ إِنْ الراديو يلتقط 
الصوت من تضاعيف المحواء على بعد الشقّة. فا وجه 
الاستحالة في أن تلبي الروح نداء روح أخحرى 
مشحونة باشيام والرغبة!! وازدهاني ذاك الخاطر وآمنت 
في سعادة لا توصف بِأنْ لروحي تثيرًا على روحها. 
ولكن رحمتك الهم فلشدّ ما ارتجفت تحت وقع 
النظرة الخاطفة! ترى هل أنكرت وجهي أم ذكرت به 
الفتى الذي تطلّم إليها لحظة على المحظّة منذْ ثلاثئة 
أشهر ؟ ! وكنت قد اقتربت من الوزارة فعاودتني اليقظة 
يدا وقلت لنفسي وكأن أودّع ساعة النشوة المولّية 
١إني‏ أحبهاء وهذا هو الحبٌ بلا زيادة ولا نقصان»! 
و:صرجت من دنيا الطيام لأدخل دنيا الحكومة. 
وقدّمت نفمي للمدير فقدمني بدوره إلى زملاثي في 
الإدارة وكانوا نسعة. هؤلاء قلة بالقياس إلى الطلبة 
وإنّْم لرجال حقًا فلا يمكن أن أتوقّم منهم زراية أو 
سخرية» ورجوت من صميم قلبي أن أبدأ حياة 
جديدة غنية, ولا لم يعهد إل بعمل ذلك اليوم 


وجدت فسحة لمعاودة خواطرى السعيدة عن الحرية 
التي أمئي النفس بهاء والتي أرجو بها أن أستنقذ نفسي 
من سجن البيت وعبودية المدرسة. ثم عن النظرة 
السعيدة التي أنتزعها روحي من الأعياق قوة واقتدارًا. 
د 2 

وأقبلت على الحياة الجديدة بأمل جذاب. وظفرت 
بأوّل نوع من الصداقة عرفته في حياتي؛ وهو ما 
يسمونه بصداقة «المكاتب؛ هي صداقة جبرية تفرضها 
زمالة الموطلفين في المكتب الواحد. وقد فرحت بها بادئ 
الأمر لأنه لم يسعني ‏ أنا الذي لم أعرف في حياتي 
صديمًا ‏ إلا أن أفرح بين تسعة من الرجال ينادونني بلا 
كلفة؛ ويستقبلونني ويودّعونني بأطيب تميّة. ولكن 
واأسفاه قام خحجلى حاجرًا منيعًا بيني وبينهم. ثم أثبتت 
لي التجربة أنْ تلك صداقة لا تستحىّ الأسف عليها, 
فهي تبدأ مع الصباح بالتحيّة والمداعبة وقد تنقلب عند 
الظهيرة إلى وقيعة دنيئة تختم بإنذار أو عقاب . والأدهى 
من ذلك أنْني لم أعرف لي عملا مستقلاء ولكن ما من 
واحد مهم إلا ويكلّفني بعمل آل أنقّذه صاغرًا. ورتم 
قضوا أكثر النهار في ثرثرة وتدخين وشرب القهوة وأنا 
مكبّ على الأوراق في شبه سخرة. ولا شك أنْهم 
فطنوا بمكرهم إلى أن «غرٌ خجول» فاستغلوا ضعفي 
أسوأ استغلال. وضاق صدريء وخبا سروري بالحياة 
الجديدة في الشهر الأول منهاء وأيقنت أني المستجير من 
الرمضاء بالنار! زاد من سوء حالي أن الشرود لم ينقطم 
عنى أثداء عملي فوقعت مرارًا وتكرارًا في أحطاء 
السهو. وتوالت عللّ الانتقادات الساخعرة والإنذارات 
من يدعونهم «برؤساء اليد» فكأنني رُددت إلى المدرسة 
بتلاميذها ومدرسيهاء فعاودتني مرارة حياتي الماضية, 
وصمٌ عندي أني لن أظفر براحة حقيقيّة ما دمت على 
صلة بأحد من الناس. . . واجتررت آلامى في خفاء . 
وم أكن أثور على شيء قط مما يشقيني. وكان ديدي 
دائًا أن أطيع بقلب دام كظيم. وسعخط مكتوم . وزاد 
البلاء حدّة أنّني لم أجد لحياتي متحوّلاء ولا أملا في 
الخلاص ولو بعد حين. وقد كنت أتجلد في المدرسة 
أحيانًا على أمل أئْها ستئتهي يومًا فأصير رجلا حرا 


السراب 1 


مسئولاء أمًا الآن فلم أرَ أمامي إلا مستقبلا متجهّمًا 
مريرًا لا نجاة منه إلا الموت. أجل أدركت أن لن أظفر 
بالراحة مدى الحباة؛ وأنه لن تزايلني الرغبة الكفيّة في 
الهرب. ولكن إلى أين هذه المرّة؟ ولم يكن سر بلوتي في 
عجزي حيال العقبات فحسبء. ولكن في تضخيمها 
وتكبيرهاء فإني نصّبت من عفلٍ حرب أعصاب هائلة 
ضدٌ نفسي. . . / أَرْض نفسى على الحياة في الواقع. 
ولم أوطنها على احتاله. فلم أدر ما فلسقة الرضا أو 
الاستهانة. كا أني لم أقدر على فلسفة القوّة أو الثورة, 
وكان إذا صادفني أمر لا يُتمل ‏ والدنيا كلها عندي لا 
تحتمل - راح خيالي السقيم يصنع من الحبة قبة. 
ولاقيت الهم بما يشبه الصبر في الظاهر على حين 
أنطوي على نفسى في كمد قاتل وغمّ فتّاك. لذلك لم 
يحل مكان أحلّ فيه من عدرٌ حقيقي أو وهمي. كان 
التلاميذ والمدرّسون أعدائى القدماء فغدا الموظفون 
أعدائي الجدد. ْ 
# ا 

ولكن كنت أنت العزاء والسرور! الحياة صحراء 
قاحلة مهلكة وأنت ما وحدك الواحة اسلفنضراء الرطيبة 
تلوذ بها النفس. ووالله ما حمدت للوظيفة من شيء إِلَّا 
أن نقلني طريقها إلى مخطتك؛ فعندها أنتظر كل صباح 
مطلعك حيّى إذا رأيتك مقبلة في خفة الغزال ووقار 
الطاووس تراجعت إلى طرفها البعيد فيما يشبه الذعر 
ودعوت الله أن يفف عب شدّة الخفقان ثم أسترق 
إليك اللحظ متحاميا أن تلتقي العين بالعين فالتقاؤهما 
جلل لا يصمد له إلا الأكمّاء. وإذا جاء الترام ركبنا 
معا ولا تدرين سروري به إذ يحملنا معأ ثم أغادره 
فيسير بك إلى هدفه المجهول مزودة بدعائي أن يصونك 
المولى ويسعدك. وتبقى لي بعد ذلك صورتك عالقة 
بخيالي تذرٌ علي الأنس في وحشة سجني الجديد. ولكن 
إلامَ أظل على تلك الحال؟ لقد صفق الجزع بقلبي. 
وأمضنبي الانتظار. 

وزاد من التياعي أنّْنى جعلت أراها في الأصائل كما 
أراها في الأبكار الى كنت أغادر السنف عضرا كا 
جلو لكثير من الموظفين في غير معارصة من أي التي لم 


5 السراب 


يعد بوسعها أن تعارض في ذلك. وكنت أهرع إلى 
محطتي القديمة تلقاء بيتهاء فأقف بين المنتظرين 
مستطلعًا مشرق روحي بطرف مشوّق» فأاحيانًا أرى 
الأمّ أو الأب أو الأخ أو الأخت. وأحيانًا أراها في 
فستان بسيط أنيق من فساتين البيت يزلزل نفسي زلزالا 
كيد ا ْ 

م أعد أرى لحياي أملًا إلا في الرفيق الأئيس» 
فهمْت بها هيامّاء واستأسرتني رغبة صادقة حارّة في 
السعادة التي لم يكن لما من معنى في نفسي إلا أن أفنى 
فيها وأن تفنى ف. بيد أثنى لم أتجاهل العقبات. وهل 
كان دبي إلا تكبير العقنات؟! فلم أنس أنَني في أوّل 
السطريق وأنْ مرئَّى سبعة جنيهات ونصف؟ ثم 
لاحظت بمزيد القلق أن ثم رَجَلِين يقفان معنا في 
المحطة صباخًا لا يفتآن ينعمان النظر في وجه الفتاة 
باهتمام. أمًا أحدهما فرأيته يخرج مرّات من العمارة التي 
تقيم فيهاء وهو رجل في نحو الأربعين تلوح في وجهه 
آي الرزانة والوقارء ويتسم بطابع الموظفين الممتازين . 
وأما الآخر فشات في الثلاثين ميّال للضخامة والبدانة 
مع أناقة ووجاهة, إلا أن إيماءاته ونظراته تنم عن 
العجب والزهو. وعجبت لتطلّعهما المتواصل إليها وما 
من داع إلى العجب. ولكثْي ظننتني ‏ ويا له من ظنٌّ 
مضحك - أوْل من تيا له كشف ذلك الكنز. وثار بي 
الغضب والحئق» وتلوت دودة الغيرة في سويداء قلبي . 
إنْها لا تحيد عن نظرتها المستقيمة ولكن ترى هل 
تجهلها حمًا ى! تجهلبي؟ خصوصًا هذا الجار الذي 
يقطن تحتها أو فوقها؟ وتقئض قلبي فزعًا ويأسًا 
ورمقتها بغيط كائها المسثولة عن اهتيام الناس ببا؟ 

واطردت حياتي بين عمل ممقوت وحبٌ حائر 
عريب. 

وكان بيتنا في ذلك الحين يعد من البيوث السعيدة, 
اطمأنت قلوب أهله. فسكن خاطر الشيخ المرمء 
وقئعت أمّي بما قسم لي ولها. بيد أنْ جِدّي قال لي يومًا 
بلهجة ساخرة: 

ألا اخجل يا رجل وابتع لك فراشاء أتظلٌ الدهر 
تنام في حضن أمك؟| 


وابتعت بالفعل فراشًا ولَكئى ركّبته في نفس الحجرة 
فظلت تحوينا معل وهي الحجرة التي رأيت فيها دور 
الدنيا. 


١8 

م كدان اما تارك الى سان إد.وكع يضوم 

علّ. والتقت عينانا وهي قادمة نحو المحطة. 
وارتعشت جوارحي وتساءلت وأنا أعاني الحياء: ترى 
ألم تذكر الفتى الذي رأته يوم لبت نداء روحي؟! 
وأسكرتني نشوة لم يخمدها مجيء الرجلين المنافسين 
نفسه. وحملنا الترام جميعًا حت محطة الوزارة فغادرته. 
وهرعت إلى الطوار ثم بعثت بناظري إلى مقصورة 
السيّدات. وكانت تجلس في الصف الآخر ووجهها إلى 
ناحيتي فالتقت عيئانا مرّة أخرى. وغضضت بصري في 
حياء وصدري بالسعادة بترد» ثم غمغمت لنفسي وأنا 
أجدّ في السير «برح الخفاء وافنتضحت!» وقد تذكرت 
سعادتي عصرًا وأنا جالس في حجرتي غير بعيد عن 
أمّى فقلت لنفسى وآنا أختلس منها نظرة غريبة «آه لو 
ارق اناري اوه ال لمن قاون لاف آذ قل 
سعادي هذه مما تعذه هي أمّي ‏ كفرًا لا يُغتفر؟! هذه 
حقيفة لم تغب عن خاطري قطء. ومع ذلك بدت لي 
وفتذاك غريبة مستئكرة كأنما أكتشفها لأول مرّقٌ 
وسدّدت نحو الوجه الوقور الجميل نظرة احتجاج 
واستياءء وقلت لنفسى متغيّطًا: «رتما كان الضرر يقع 
بي أخف لديها من كشفا حبني !4. ولعل بالغت 
كثيرًاء ولكنّ سيرتها الماضية جعلتني لا أرنو إلى الخانب 
البهيج من الحياة إلا في حوف وحياء شديدين من 
ناحيتها! وكأنما ضفت بكتماني سعادق في حضرتها 
فغادرت البيت مسرورًا وهرعت كالمعتاد إلى المحطة 
القديمة. وسبقني بصري فوقع على الشقيقتين وراء 
زجاج النافذة فتقدّمت في سعادة غامرة. أمشي على 
استحياء. . واندسست في زحمة الواقفين وقلبي يتم 
الا أبرح المحطّة حي يسدل الليل سدوله. وكان الجر 
شديد البرودة فداخلني سرور بأني أحمل قسوة الحو في 
سبيل نظرة من عينيها. ولم أشك في أنْ طول قامتي 


ومعطفي الأسود نخليقان بأن يذكراها بي. ورفعت 
عينيّ في حوف شديد فرأيتها تنظر صوبي وإن لم أتمكن 
لبعد المسافة من محديد متحديقة عينيها. ومع ذلك سرت 
إلى أطرافي رعدة السرور. وجاء الترام على رغمي, 
ودفعني الحجل دفعا إلى ركوبه. 

لم يعد لحياني من غاية إلا المحطة وصاحية المحطة , 
قصاراي أن أسترق النظر بعينين خحجولتين. وأن 
لضي برعا رنت إل العينان اللعان أحبهما أكثر 
من الحياة نفسها ا ا 
أشهرًا أربعةع فأحسّت بلا شك أن فتى يتطلع إليها 
حيثا تحل. وأنه يتعمّد ذلك في صبر طويل وإن كان لا 
يبدي حراكًا. بل ابتسم الحظ فجعلت أفوز بنظرة كل 
يوم تقريبًا. وإن بدا أنْ الاثفاق وحده هو باعثهاء 
نظرة عابرة تلقى على المكان كله فتصادفنى في جانب 
منه! وفيا عدا ذلك فقد حافظت 0 وقارها 
واحتشامها. أجل ما عادت تحهلنى مهما تجاهلتني, وإنه 
لظفر رائع ‏ بالقياس إلى عجزي . أن تحسش وجودي 
بعد ذلك النضال الصامت الطويل. وثابرت على النظر 
والصبر وكأنني أنتظر أن نجيء الخطوة التالية من ناحيتها 
هي 2 أو من رب السياوات والأرض. . 

تلك أيَام حلوة سعيدة على خخلوها من الأمل. 
أنفقتها في إحساس عميق بهيج وأحلام لا يحيط بها 
الخيال. رفت على قلبي في طهر وقداسة. 
أوصدت دونها باب خلوتي الليليّة. ولذْتي الشيطائية. 

د مد 


وقك 


وتبيّن لي بعد حين أنْ سرّي المكنون يتسرّب من 
أعاق صدري على تكتمي وحرصي. لا أدري كيف 
حدث ذلك. ولعل الأمر لم يعد أنني أنسبى نفسي في 
الحظات ا 0 
كتيانه,. وما أدري يوما إلا والرجلان «المنافسان» 
يرمقاني بريبة» وكأنها فطنا إلى ظهور منافس جديد, 
ويومًا مرّت بي في موقفي من المحطة سخادمة الفتاة 
فألقت عل نظرة ذات معنى ذاب طا قلبي ذوبانًا. 
وساءلت نفسى في خوف وسرور: ترى هل بلغ سرّي 
البيت نفسه؟! ثم غمغمت في حياة بالغ «افتضحت 


السراب م 


وما كان قد كان». ومزة رأيت الأخت الصغيرة في 
النافذة وأنا مقبل نحو المحطة عصراء ولمًا لمحتي 
التفتت إلى الوراء كأنها تغاطب شخضا لا أراه, ثم 
بدت الأمّ وراء زجاج النافذة وألقت عل نظرة 
متفخصة. رباه! لقد داخلني شعور الجاني إذا ضبط 
مقلتيي]) ‏ ة.: ول يبقّ ثمّة شك في أن البيت 
يعرفني» وازددت يقينًا فيا تلا ذلك من أيام فا كان 
يقع عل بصر أحدهم حي يتشخصني باهتام إلا مولاتي 
طبعًا! وازددت اضطرايًا. 

ورحت أسائل نفسي الحيرى عا يقولون. وعم 
بظتون» لي منظر حسن خدّاع. ولعلهم يظنونني موظما 
مغبوطًا ذا مستقبل باهر! أوّاهء ما كنت موطّلفًا كبيرًا إلا 
في تقدير أمَي . ولعل ندمت عند ذاك على قطع حياتي 
الكارقة وبره وف الى لزنن وال اسار شوير اليو 
لا بأس بها! ا 0 للخوف من 
الييت. بل ![ ل لأشعتر اله سعادتي المرموقة. واف 
لأحله من مجامع قلبي . أناسه وأثائه وحجراته وحتّى 
حادمته , 9 أعيش فيه بروحي»2 وأجاذب أهله ‏ في 
الخيال شهى الأحاديث. أما حبيبي فهي ملء القلب 
والعقل 0 ركنت إذا ارانقه الكسيل تدورا عن 
الشرفة مفو به نسائم الأصائل أرنو إليه بعين محب 
حنون» وبصري يتنقّل بين ألوانه وأشكاله مشغومًا 
بأهداب رقاق يطرب لما قلبي طربًا قدسيًا كأئما يشنّف 
آذاني سجم ألحان إيّة! ل خاطبت حجرة حبيبتي 
موصيًا إيَاها ببا في اليقظة والمنام,» وعندما تحلق بها 
الأحلامء أو حين تتحدّث بنبراتها التي لم أسعد 
بسماعها . 

ويومًا دفعني الهوى إلى البقاء في الترام حتّى أوصل 
حبيبق إلى مدرستها. واضطربت خوثًا وقلقًا من جرّاء 
المخاطرة التي نشبت فيهاء وبلغ الترام العتبة الخضراء 
وعيناي لا تفارقان مقصورة السيّدات لأرى أين تنزل 
حبيبتي. ودار الترام بنا تخترقًا شوارع كنت أراها لأوّل 
مرّة حبّى عير جسر أب العلاء. وفي المحطة التالية له 
غادرت الفتاة الترام. وهبطت إلى الطوار وأنا أتبعها 
عي فرأيتها نجه إلى الطوار الأيمن بطولها الفارع 


5 السراب 


وقذها الرشيق. ثم انعطفت إلى طريق جانبي يمتدٌ 
بحذاء القصور المقامة على النيلء وسئحت منها التفاتة 
وهي تنعطف إلى الوراء فوقع بصرها علي وأنا واقف 
انظر صوبها. ارتجفت أوصالي كأئما مسن تيار 
كهربائيَ» وتصاعد دم الخنجل إلى وجهي . وسرعان ما 
غابت عن ناظريّ فتقدّمت خطوات حيّ أمكنني رؤية 
الطريق فرأيتها تبتعد بخطواتها الرشيقة. ثم مرقت من 
ساب جانبيّ غير بعيد. ولبئت متردّدّاء وفكرت في 
العودة إلى الوزارة التي تأخخرت عن ميعادها بغير 
ةاوه ولك أبنت تمن أن تنتهى المخاطرة بلا 
عجان وتقتدك» نحو الدرسة كلب عاج أ نورت 
ما متعجّلا ولك قرأت اللافتة «معهد التربية العالي 
للبنات»» ورجعت إلى المحطة وركبت الترام العائد 
وأنا أتساءل عن معنى ما قرأت. وعلمت ما فاتني 
علمه في إدارة المخازن فأخبرني موظف أنه معهد 
لتخريج المعلمات لمدارس البنات الابتدائيّة, ومن 
يدخلنه بعد البكالوريا. وداخلني زهو لأنْ حبيبتي 
ستصير أستاذة. ولكن لم يغب عبّْى الفارق الكبير بيننا 
في الثقافة» فلعنت نفسي الخائرة التي حملتني على الفرار 
من الجامعة! وساوري ختوف وكآبة. ثم لجأت إلى 
المجلة مشيري القديم فأرسلت إليها هذا السؤال: 
دهل يمكن أن تحبٌ فتاة مثقفة ثقافة عالية شابًا من 
حملة البكالوريا؟». فذكرت المجلة في جوامها الأميرة 
الني أحبث الراعي! . 

وحلمت تلك الليلة بحبيبق» فكانث أوْل زورة 2 
النام . . ْ 


و" 

تركزت أحلامي في أمرين, أن أتمتع بدخل حسن ‏ 
وهو آتٍ يومًا ما وأن أظفر بعروسي. ل أكن من 
يشقيهم الطموح. وإذا كان لي منه شيء فيها مغبى من 
يام الأحلام » فقد قبر في إدارة المخازن بوزارة الحريية 
حيث تعد علاوة نصف جنيه من الآمال البعيدة. أجل 
م تنب بي اهمّة في الطموح, ولكن هنَّت نفسي إلى 
السعادة والطمأنيئة؛ إلى المعيشة الطيّبة والزوجة المحة 


الصالحة. ول يد جديد في حياتي إلا مواظبتي على 
الصلاة بعد أن كنت أنقطع عنها في فترات متباعدة. 
ولعلى هيهان صدري بالحبٌ هو الذي هيّأ لي ذلك 
الاتصال الطاهر بالله حمس مرّات في اليوم. على أنَّ 
نفسي لم تتخفف من ألمها القديم» وزادتها الصلاة 
الا لما يفرط مي في ساعات اللذّة الجنونيّة التي 
أختلسها بليل» فلم يعد يسعني الكفٌ عنباء بل زدت 
استسلامًا لماء دون أن يرحمني الندم يومًا واحدّاء 
وليس أشقى من أن يقرعك الندم وأنت ذو إيمان. وما 
من شك في أنْ ذلك الصراع المتواصل هو الذي 
جذبني إلى إنعام النظر في نفسي وحياتي. فهالني أوّْل 
الأمر ما تسير عليه حياتي من منوال رتيب فاليوم فيها 
بعام والعام بيوم. ألم ينقض عل عام منذ توظفي 
بالحربية دون أن يجدٌ جديد؟! عمر يمضى في ضيقن 
بالعمل المقضيّ به علّ. وني وحشة لا تتبِدّد إلا 
ماعتن : مباعة البقلة + جوساعة الأنس بأمّي في بيتنا. 
وحتّى تلك الأويقات السعيدة لم تخل من تنغيص وألمء 
فعلدل حبيبتي كان يطاردني طيفف أمي . وعئد أمّي كان 
يخيفني طيف حبيبتي. وتولّد من ذلك قلق مير امتزج 
في نفسي بما يئنْ بها من ندم فشملبي بكابة لا تريم. 
وإني إذا رجعت بالذاكرة إلى تلك الأيّام أنحيت 
باللائمة على نسي. لا لأني لم أجد سببًا وجيهًا 
لتعاسبىي ‏ ولكن لسوء صنيعي المعناد في تضخيم 
الأحزان والآلام. ولأني م أواجه أمرًا في حياتي بما 
يستوجبه من حزم وشجاعة. ولذلك لم تدر أمّي علة 
لسهومي الذي كان يقلقهاء ولطالما قالت لي بحزن 
وأسف : 

- لماذا تبدو أحيانًا كالحزين؟ لعمري ماذا ينقصك؟ 
أردت أن تكون موئلفًا فكنت. ومبّعك الله بعطف 
جدّك الذي بهترء لنا عيشًا رغيدّا وفي خدمتك أمّ لو 
استوهبتها حياتها لوهبتك إيّاها عن طيب نخاطر. وبين 
يديك الشباب والصححة أدامهيا الله لك. فإذا 
ينقصك؟ 

وعجبت كيف تتساءل عيّا ينقصنى!.. أجل إنْها 
عدت لي نعرًا سابغة, فد الى احهل لفل يلك 


النعم وكانت لي بمثابة الحمواء الذي ننعم به في كل 
لحظة من لحظات حياتنا دون أن مخطر لنا أن تشكر 
عليه , ولكيي لا أنفك عن التفكير فيا ينقصني فيعميني 
ما أتطلّع إليه عنّا أنعم به. إني شخص لم يقدّر له أن 
يعرف شيئًا عن حكمة الحياة» فلم يخرج قط عن دائرة 
نفسيه الضيقة , وق ذلك سر دائي . شو الذي حال 
بيني وبين مسرّات الحياةع وما فيها من فضائل ومعان 
وصداقات. وطوى صدريى عل النفور من الناس 
والخوف منهمء بل جعلني أعدّ الدنيا عدوًا يترئتص 
بي. ولعله لم يكن يرضيني إلا أن تخلي الدنيا نفسها من 
همومها لتكرس حياتها لسعادتي. ولا لم يسعها ذلك 
في أعماق ذاتي جاهلا ما يمتلْ صدرها من أناس وآمال 
0 
لم جاء دور أمَّي ولو متأخرّاء فأحذت أتمرّد عليها 
وإِنّ لبث ترّدى نارًا مكنوئة لا يتطاير لحا شرر. ونشأ 
ذلك من موقفها الغريب حيال ما يذكّرها برواجي 
خالتي ‏ في إحدى زياراتها الرسمية ‏ عن رغبتها في 
زواجي من ابنتها الي صارت شانة ناضحة. فرأيت 
كيف تلقّت الاقتراح بنرفزة ظاهرة لم تستطع معها أن 
مودّة أو مجاملة فغادرتنا الي مغضبة. 

ولسته مرَّة أخرى حين اقفترحت عليها امرأة دلالة ‏ 
كانك تزورنا في مواسم الكساء ‏ أن تخطب لي عروسًا 
لائقة: فرأيت كيف انفجرت فيها غاضبة ساحطة حي 
انعقد لسان المرأة دهشة وارئباكًا , 

لاحمظطت ذلك بوجوم وغيظ. و ستنكر ته / ستتكازا 
عنَدَيدَا وم أجد له تفسيرا أرتاح إليه. وم تكن يا 
رغبة إلى ابلة سمالتي». ولا إلى عروس من عبرائس 
الدلالةع ولك أنسث منها كرها لزواجي . فأشفقت 
فل امال .رثاو اشرق بوبه ابل أن تقلدهنا توحص 


السراب /41 


- إنمِنَ لا يرمن سعادتاكٌ ولكتبنٌ يردنك مطيّة 
لسعادة بناتبنٌ ! 

م أفهم لقولما معنى. وقرأت في عينيها أنْها ترجو أن 
أفصح عن عدم اكتراثي للأمرء ولكنّني تشْجّعت 
ولازمت الصمت.». فقالت بلهجة تثى بالقلق : 

- الزواج سئة» ولا يجوز أن يتروّج الشخص قبل 
أن تكتمل رجولته. 

فتسائلت في امتعاض: إذا لم تكتمل رجولتي في 
السادسة والعشرين فمتى تكتمل إذن؟ ووددت لو 
أصرّح بأفكاري ولكنٌ شجاعتي لم تسعفبي فواصلت 
الصمت. وتفرّست في وجهي مايا ثم استطردت قائلة 
بجرع : 

- إن أريد لك عروسًا جديرة بك حقا. يبهر حسنها 
الأعين» وتطرى أخلاقها الألسن» من أسرة كريمة ذات 
محتدء فتهيوء لك قصر”! شاعًا! 

فسألتها وأنا أداري غيظي : 

- وأين توجد مثل هذه العروس؟ ! 

فقالت وهي تعض شفتها: 

ستوجد حين يأذن الله ! 

وقلت لنفسي هذا تعجيز بلا ريب. واحتدم الغيظ 
بصدري وتراءى لي وجهها في حالة الغضب والثورة. 
فقلت لنفسى سانخطا: 

إِنْ 5" إذا احتذت توارى حماها ونضبت سماحة 
وجهها. 


"١ 

الزواج ! الزواج! لم يعد لي فكرة سواه. ولم أسجد 

لحياتي معنى إلا أن تتم به. إذا لم نتزوج فلياذا إذن 
نحياء بل لماذا وجدنا في الحياة؟ إني أحنّ إليه حنيئًا 
موجعًا تندى له الضلوع فتسحٌ أشوافًا: إِنّه جنّة المبتلي 
بئار الجحيم . ولست أكفٌ لحظة عن تميّله في أحلام 
اليقظة الشاردة التي تغيب بي عن الوجود. إن أراني 
لصق حبيبتي وعلى وجهها الأنيق نقاب الحرير المطرّز 
بالفل؛ والشمع يزهر من حولنا. وأراي أمضي بها إلى 
مسكن في اخحر القاهرة ولا أدري لاذا أحبٌ أن يكون 


م السراب 


في آخر القاهرة. ثم أراها تنتظرتي بالشرفة فأهرع 
نحوها وقد انطلقت من قفص إدارة المخازن فتجود لي 
سعادة هفهافة يعجزن تصورها حيّى في الأحلام بيد 
أن ل تمل الأحلام صافية فطالما أعقبت نشوة الفرح 
الوهميئ كآبة غامضة لا أدريهاء ولم يخل خاطري قط 
من وجه أمي المحبوب فكان ينتابني حياء شديد 
يتصبّب له جبيني عرقًاء ويخامرني شعور بالذنب تعافه 
النفس . فيتلوى بوزى الال ا 

وفضلا عن هذا كله فإنني لم أتخلص من بعض 
هوى للعزوبة نفسها! إِنْ حبٌ الوحدة داءء إِنّه أشبه 
بالمخدّر تودٌ منه فرارًا ولا تستطيع عنئه فكاكاء وتغضه 
لنفسك وأنت تعاني الحنين إليه. أتؤاتينى الحرأة حقًا 
على نبذ ماضئٌ الطويل؟ . . إن نفسى عبفو إلى البيت 
الزوجيّ السعيد حيئاء ثم يتملّكها الإشفاق على 
الوحدة الطادئة والطمأنينة المعفاة من المسئوليّات حينا 
آخر. وإِنْ الهرب من المسئوليّات داء قديم حيّى لأضيق 
بحلاقة الذقن أو عقد رباط الرقبة. فكيف أنبري 
لحمل تبعات البيت والزوجة والذدريّة وما يجِرّ ذلك من 
حياة اجتاعيّة متعبة بما تفرضه من واجبات وتقاليد؟! 
إلي أتخيّل تلك الواجبات فتبرد أطرافي. ولكبى في 
الوقت نفسه لا أكفف دقيقة عن الحنين إلى الحياة 
الزوجية . 

يكن لسر بال ادويق تين الاقلاين #ن تر دوب رامن 
ومن يدري فلعل أمَي هي الهم كله, وتجمعت نفسي 
الحيرى تروم سلامًا تلوذ به فأجمعت على أن أقابل 
الخطر وجها لوجه وليكن ما يكون. . . 

وإني لسالس إلى أمَي ليلة إذ قلت لما بلا سابق 
إنذار: 

الاحظ يا أماه أنك لا ترغبين في زواجي . 

فائّسعت عيئاها الخضراوان الحميلتان دهشة. 
وقلقت فيها نظرة حائرة» ثم قالت بصوت متغير: 

- إفي أرغب في سعادتك دائمًاء وهذا شغلى 
الشاغل . وإذا كنث لم أوافق على ما عرض لي من هذا 
الأمر في الماضى فلأتي وجدته دون ما أرجوه لك. ولا 
شك أنك تدرك هُذا تمام الإدراك. ولكن. . , 


وترددث الحظة ثم استطردت متسائلة : 

- ولكن. . . اذا تلقي عل هذا السؤال؟ 

وحولتٌ عنها بصري كأنّني خفت أن تقرأ ما في 
ضميري» وقلت بعدم اكتراث : 

سؤال لا أكثر. أحبٌ دائًا أن أعرف ما يجول 
بخاطرك . 

فتهدّج صوتها وهي تقول: 

- ليس بخاطري إلا فوق ما تحب لنفسك من 
السعادة والناء. .. ولكن ليس الزواج هوا ولعبّاء 
وإليك مأساة أمّك فهي أكبر دليل على ما أقول. واذكر 
دائًا أن اختيار الزوجة مهمّة شاقة. وهي من شأن الأم 
قبل أي إنسان آخر. لأنْ هذا ميدان تجاربهاء وهي 
تعرف ابنها أكثر نما يعرف نفسه؛ وتستهدف سعادته 
قبل سعادتها هي. كذلك السنّ أمر عظيم الخطورة. 
وأنت بعد في حكم الأطفال. . . اذا تلقيى عل هذا 
السؤال «وهنا ازداد صوتبها تهدّجاه . إليك مأساة 
أمفك فهي لا ينبغي أن تغيب عن وعيك. كم 
تعذبتء وكم تألّت. وكم كابدت الإهائة تلو الإهانة! 
كم بكيت حنيئا إلى أطفالي الذين عاشوا غرباء عي 
ونحن في مدينة واحدة! وحيّ أنت كان شبح فراقك 
يطاردني ويقض مضجعي. ولو أخذوك مث لقضيت 
غاا وكهذا وكم تنيت الموت صادقة لأرتاح من 
وساوس حياتي المقلقة «خيل إل أنْها تعهى حياتها 
الراهنة بقولها الأخير» ولذلك كرّست حياتي لرعايتك. 
وضحيت بسعادي في سبيلك. و. . . «تردّدت لحظة 
ولعلها هت بتذكيري بالرجل الذي رفضْئْه من أجلي ثم 
عدلت». ولا تحسب أنى أمنّ عليك. فالأمومة تستدكر 
المن. ليته كان للبنوة بعض ما للأمومة من عطف. 
لشدٌ ما تسى. . . رباه لا تؤاخذنيء. أنا لا أدري ماذا 
اقول. ولكن لا تظنْ بأمَك الظنون. إِنْنا نعطي كل 
شيء عن طيب خاطرء حت إذا شب المولود عن 
الطوق ل يفكر إلا في أن يولينا ظهره ويجد لنفسه 
مهربًا. أقول مرّة أخرى لا تؤاخخذني. لست أحسن 
ضبط نفسي واأسفاه. ولكن لقد عشنا معًا طوال هذا 
العمر. وليس لي أمل في هذه الدنيا سواكء فإذا نبذتئي 


لم أجد لي مأوى. أنتم حياتنا في صغرنا وكبرنا على 
السواء. أمًا نحن فتحبوننا صغارًا وتكرهوننا كبارّاء أو 
أنكم نحبّوننا حين لا تجدون مَن تحبّونه غيرناء» ماذا 
قلت؟... أستغفر الله, . . ساعحني يا كامل». أن 
مضطربة» لست أحسن الحديث على الإطلاق. . . 

وعيفيك: كف اتسادر نيا اللنديك ذالك المحند 
الصعب. بدأ الكلام مقبولا ثم تشئج. وحاولت أن 
أحول دون استرسالها فلم تجدٍ محاولتي: فاضطررت أن 
أتجرعه على ما أثار من ألم وحزن. وتبادلنا نظرة طويلة , 
دلت على العتاب من ناحيتي. وعلى الذهول من 
ناحيتها. لم تكن في كامل وعيها واأسفاه. وقلت 
بأمى : 

أَهُذا جزاء من يسأل سؤالَا بريثًا؟! 

فاغرورقت عيناهاء وقالت وهي خافضة العينين: 

- أنا لا أحسن الحديث أحيانًا ويحسن بي أن 
أمسك. لا تخش جانبي» وإذا راق لك يومًا أن أغيب 
عن وجهك فا عليك إلا أن تومئ إل ولن تجد لي 
آنا . . 

ووضعت يدي على فمها وصحت بها: 

- سامحك الله. حسبنا كلاما. لققد أخطات بسؤالي 
البريء خطأ كبيرًا! 

م تظاهرتٌ بعدم الاكتراث؛. بل ضحكت طويلاء 
وكأن ما كان لم يكن. وراح قلبي وحده يجترٌ آلامه. 
أثر فيّ كلامها حبّى هرّنيٍ هرا عنيفًا فحزنت حزنًا لم 
أشعر بمثله من قبل. وعجبت كيف يغلبها الانفعال 
على نفسها فتلقى في وجهي بتلك الاتهامات الخارحة . 
ولم أخل من سخط عليها لا لأمْبا اتبمتني بالباطل - 
فذاك نثار غضب وق لا قيمة له - ولكن لأنها قابلت 
رغباق الكامنة بئورة تجاوزت -حدود الحكمة! وقاديت 
في سخطي فقلت إِنَّا ذكرت نفسها أكثر مما ينبغي 
ونسيتنى أكثر مما ينبغي. . . واستسلمتٌ كالعهد بي 
لداعي أنانيتي فرميتها بالأنانية. . 

وعقب حديثنا الغريب بيومين أصابتها وعكة مرض 
ألزمتها الفراش فلم أفارقها أثناء مرضها إِلّا في أوقات 
العمل. ومع أنَّ الحالة كانت خفيفة إلا أن وجهها بدا 


السراب 4ع 


شديد الذبول والهزال لنحوها الطبيعي فتوجّع قلبي 
توجْعًا أليمًا. ولم أطق أن أراها محرومة من جمالمها 
وصحتهاء فأحزني منظرها وساءني إهمالا نفسها. 
وكانت تعصب رأسها بمنديل فبرزت تحت طرفمه 
خصلات من شعرها وخطها المشيب وشْعْئها الاهمال 
فضقت صلرًا وتجهم لي وجه الدنيا. ويومًا وكنت 
جالسا إلى جانبها - جرت في تيار شعوري خواطر 
غريبة لعل باعثها المدوف والإشفاق. فطرحت على 
نفسى هذا السؤال الخطير: كيف تكون الحياة لو حلت 
اه الأمّ الحنون؟ واقشعرٌ بدني» بيد أن خيالٍ م 
يمسك عن هذيانه, فتابعت المناظر أمام عيني 
واستسلمت للمشاهدها في حزن صامت ثقيل. رأيت 
ينا مقفرًا ورأيتي تائهًا حائرًا كمن ضل مبيله في 
مفازة» وهذا جدّي متبرّمًا ساخطا يصبٌ جام غضبه 
على الخادم العجوز والطاهي. ولست عجزي عن 
مواصلة هذه الحياة الموحشة فاقترحت على جدّي أن 
أتزوّج لنجد من يكلأنا برعايته. ثم رأيت حبيبتي 
بقامتها الرشيقة ووقارها المحبوب تتعهد البيت وآله 
بعطف سابغ وحبٌ شامل. ثم رأيتنا جميعًا ‏ أنا 
وزوجي وجدّي - واقفين على قبر عزيز نرويه بدموعنا. 
وانتبهت إلى نفسبي في فزع فأحسست بالدمع حائرًا بين 
جفيّ. وعضٌ الندم قلبي», وامتلاأات نفسي امتعاضًا 
وثورة» وغمغمت لنفسي «اللّهمّ غفرانك, اللهم اكتب 
ها طول العمر). ثم هويت على وجهها فقبلته بحنئان. 
وقد طاردتني ذكرى تلك الفيالات كثيرًا حب تركث في 
آثارًا عميقة من الألم والحئق. ولازمنى هم مقيم حتى 
بعد أن برأت وعاودها نشاطها وجمالما. وكدتث أعود 
إلى ذلك التفكير السقيم في الحياة الذي يقف عند 
طرفيها ‏ المبلاد والموت - ويرى ما عدا ذلك هباء في 
هباء؛ وهو ذلك التفكير الذي تأدّى بي فيا مضى إلى 
محاولة الانتحار لولا أنْ الله سلّم 


1 
جاء الصيفء ومعناه ‏ يمقياس القلب - أن حبيبي 
ستنقطع عن الذهاب إلى المعهد فلا تتاح لي رؤيتها إلا 


6٠‏ السراب 


في الشرفة أو النافذة. إنّْها تعرفبي الآن حقٌ المعرفة كيم 
يعرفني البيت جميعًاء ذلك الفتى الذي يتطلّع إليها 
دواماء ويرنو صويها بعينين يتجل فيههما الإعجاب 
والحت. وبثابر على ذلك في صير عجيب زهاء عام 
دون أن يبدي حرانًاء والأعجب من هذا كله أني 
كنت أضبط عينيها في لفتات عارضة وهما ترنوان إل فأجِنّ 
جنونًا . وإني أكاد أسمعها تتساءل عدا أريدء بل أسمعهم 
جميمًا يتساءلون. وهُذا يسعدني ويشقيني ممّاء والحقٌ أن 
أحبّك يا حبيبني. أحبّك بكل قوة نفسي. فإذا سألت بعد 
اذا لا أبدي حراكا؟ أجبتك بأنْني لم أدر كيف أبدي حرانًا 
في حياتي؛ وورائي أُمٌّ؛. وحظ محدود. فكيف يمك. تذليل 
هذه الصعاب؟ . , 


جناحين ! 


. خيريني يا حبيبتي أطر إليك بغير 


وكان يوم غريب في حياتي. . . 
وبدأت الصباح بوقفة الهيام وتطلع العشق. ثم 
ذهبت إلى الوزارة تتنازعنيى أحاسيس السعادة والشقاء 
ان كل صباح. وراح الموظفون يستقبلون اليوم 
كعادتهم بالثرثرة» فقال أحدهم وكان يلين في مجلسه: 
- سكرت أمس حيّى تأرجحت بي الكرة الأرضيّة | 
وثار اهتمامي فجأة وحضرني أبي بصورته وذكرياته. 
ترك ف قوله أثرًا لم يدركه أحد ممّن يجلسون حولي. ولا 
عجب فالخمر كتبت تاريخ أسرتنا وقرّرت مصائرهاء 
واللفت عن الوطنيه وند عتى هذا السؤال همسا بلا 
وعي تقريبا : 
- لادا تشرب حضرتك المخدمر؟ 
ثم أدركت في التو تسرّعي وخحطثي فعلاني الارتباك 
والحباء . ول أكن خاطبت أحدًا في الإدارة منذ التحاقي 
بالخدمة في غير شئون العمل حي أطلقوا علّ «غاندي) 
لا عرق عن البرعيع فين اله بعلن يونا و. الاسيوع 
للصمت. وفرح الرجل بتطملي عليه وقال بصوت 
مرتفع وهو يومئ إل : 
- أخيرًا تكلم ! 
وسأله أحدهم وهم يصوبون أنظارهم نحوى : 
من ؟ 


غاندي , 

- وماذا قال؟ 

فقال الرجل ضاحكا: 

- يسألني لماذا أشرب الخمر! 

فقال أخخحر: 

د كف وهر ااونطق ك١‏ 

وقهقهوا ضاحكين» بينا ذبت في مقعدي صاممًاء 
وراح أكثرهم يحدئني عن الخمر والنشوة واللذّة 
والنسيان. ندمت على ما بدر مث ما وضعني موضع 
سخرية ومزاح. وتفكرت في الأمر طويلاء ثم أفقت 
إلى نفسي فوجدتها- لدهشتي - تتلهف على تجربة 
الخمر!! ولشدّ ما عجبت فيا أعقب ذلك من أيَام 
لتلك اللهفة الغريبة بعد سئة وعشرين عامّاء قطعتها 
فيها يشبه النسك إذا استثنيت اللذَّة السرّيّة التي 
جرعتني مرارة الذنب والندم. هل نشبت تلك الرغبة 
في نفسى فجأة؟ إِنْ ظاهر الأمر يدل عل أنْ ذاك 
المتديف انق :داوق الرطتين كان النافيتك خا لان 
اللهفة» ولكن هل يعقل أن يبوي إنسان مستقيم مثلٍ 
لعارض تافه كذاك العارض؟! لقد ركبني جنونء 
فتمئيت أن ينقضي النبار سريمًا لأقرع باب اللذّات 
الموصد. ولأحطم الأغلال التي أذعنت لها طوال 
عمري2» وقلت لنفسي وكأن الذى يتحّث شعخص 
غريب: وسأجرّب الليلة الخمر والنساء!» وأراحني 
التصميم لأنه خير من القلق والتردّدء ولأنٌ منّيت 
نفسبي بأن أجد وراءه متنفسًا للضغط الشديد الذي 
يؤودني؛ ولم أعرف التردّد ‏ ذلك الرفيق البغيض 
طوال يومي. فعند الأصيل كان الترام يحملني إلى 
العتبة» ووقفت في الميدان حائرًا لا أدري أين توجد 
الحانات! ثم رأيت عربة فناديت الحوذي وركبت ثرّ 
قلت له بصوت منخفض في حياء شديد : 

- حانة. . .أيّة حانة من فضلك! 

فحدجني الرجل بنظرة غريبة ثم قال وهو يلهب 
ظهر الحوادين بسوطه: 

ْ د إلى شارع ألفي بك وهناك تختار الجانة 
التي تعجبك! 


وانطلقت العربة فذكرتني بالحانطور القديم وأيّام 
الخوالي. وكان بحافظتي عشرون جنيهًا غير «الفكة, 
الأن مرتّبي وإن كان صغيرًا في ذاته إلا أنّه كان يُترك لي 
كله فكفاني وزاد عن كفايتي . لما قعركة بان العرة 
تقترب من الهدف الذي تلهفت عليه اليوم كله دقٌ 
قلبي بعلف واعتراني اضطراب شغلني عن رؤية 
الشوارع التي تخترقها العربة. ووقفت العربة عند رأس 
طريق طويل يتوسطه صف طويل من السيّارات 
والعربات. وقال الحوذئٌ وهو يلوح بسوطه: 

إليك الحانات على الانيين, . . 

وغادرت العربة بعد أن نقدته الأجرة فوجدت 
نفس حيال حانة صغيرة لا تزيد في الحجم على حجرة 
كبيرة وقد وقف الندّل ببابها لأنّه لم يكن أمّها أحد 
بعد وانتابئي التردّد لأول مرّة ففكرت في أن أعود من 
حيف: اتيت ووقفت متحيرًا م تولاق الشعور الذي 
ملكني يوم اندفعت إلى سور جسر الملك الصالح 
لأرمي بنفسي إلى اليل فانطلقت صوب الحانة 
ودخلت. وتبين لي أنه يوجد في نهايتها مدخل إلى 
حديقة صغيرة في حجم المكان الخارجيٌ في وسطها 
نافورة» وتظلها عريشة عنب. وفي جنباتها الموائد, 
فوجدتها آمن للمختلس» وانتقلت إليها وجلست إلى 
إحدى الموائد بعيدًا عن مدخلها. كنت متوئّر 
الأعصاب ولكن لم أعد أفكر في الهربء وجاءني نوي 
في سروال أسود وسكرة بيضاء فابتسم في أدب ووقف 
منتظرًا أمري . فقلت بصوت مهموس والدم يتصاعد 
إلى وجهي : 

ري ! 

فلم يبد عليه أنه فهم شيثاء وتساءل في نبرات 
كرنين النحاس : 

اوفك اح مراك كا 
وتوتني حيرة الماهل. فقلت بارتباك : 
- أريد حمرًا. . . 
فابتسم الرجل ابتسامة آلمتبي وتساءل: 
- أي نوع منها تريد؟... ويسكي.. 


. جعة؟., 


السراب اه 


كونياكا., عقا 41 

فسألته في ارتباك أشدّ: 

أيا أفضل؟ 

- هذا يتعلق برغبتك. ولكنٌ الحو حارٌ فالجعة 
شراب مفضل . 

وخرجت من حيرتي وطلبت جعة. وغاب دقائق ثم 
عاد بقدح يفور ووضعه أمامي. وقبل أن يبتعد سألته : 

- كم قدحا من هذه يسكر؟ 

فنظر صوبي كما نظر الحوذيّ من قبل وقال: 

- تختلف النسبة تبعًا للناسء ولكن إذا كنت ميتدمًا 
بحسن إل تجاوز القدح الثالث. 

فقبضت على القدح فوجدته باردًا لطيقاء وأدنيت 
منه أنفي فشممت رائحة حمضيّة لم أرتح لماء ولكن 
فات وقت الترذد.» وقربت وجهي وأدليت لساني» 
ولعقت من رغوتها لعقة في خوف وحذر. واشتدٌ تور 
أعصابي فرفعت القدح إلى فمي وأفرغت ما فيه دفعة 
واحدة في تقزر كأنما أتجرّع شربة. وأنعشتني برودتى 
وشعرت به في بطني يتلوؤّى نافنا حرارة غريبة. 
وانتظرت ذاك الأثشر السحريّ الذي سمعت عنه 
الكثير. وني تلك اللحظة جاءت لمّة من الأجانب 
يرطنون ويتضاحكون وتحلقوا مائدة كبيرة: فداخلني 
شعور بالضيق» بيد أنهم لم يلتفتوا نحوي على 
الإطلاق. فسكن روعي. وعاد شعوري إلى الحرارة 
الطيّبة التي تنتشر في بطني. وحمل الدم المتصاعد إلى 
الرأس نفحة من هله الحرارة إلى المح فتملى كم) 
يتمطى المستيقظ لدى تلقيه أوّل شعاع من الشمس» 
ونفض عنه القلق والحذرء فأحسست ارتياحًا عاما 
لذيذًا. وانبسطت أسارير وجهي... وما لبثت أن 
طلبت قدخا آخر بشجاعة لم أعهدها في نبي من 
قبل وما كاد النوبيّ يضعه أمامي حي رفعته إلى فمي 
وتجرّعته على دفعتين. وانتنظرت في ارتياح شامل 
وإحساس مركّز في باطني؛. وسرى في جسمي سرور 
عجيب أغمضت له جفني استسلاماء سرور دار مع 
دمي 2 ورقص في غ0 باعثًا لذة هي الحنون نفسه. 
حتّى وجدتني مخلوقًا أثيريًا طليقًا من متاعب عقله وقابه 


7 السراب 


وحياته. وداخلني إحساس لا عهد لي به بالثقة 
والعظمة فرفعت رأسبي عاليًا في سلطنة وأنا أعجب 
للنشوة السحريّة التي لم يدر بخلدي قط أنْها توجد في 
هذه الدئيا . ثم فركت يدي في سرور ومددت ساقي لا 
أبالي أين تقعان. . . وبغتة تخايلت لعي صورة حبيبتي 
بقامتها الحيفاء ونظرما المستقيمة المحتشمة فأترع قلبي 
حنانًا وشوقًا وهرّتني نشوة فوق نشوة الخمر. ما ألطفك 
يا حبيبتي! إن أدرك الآن سر نشوة الخمر. إِنّه الحبٌ. 
الحب ونشوة الخمر من عصير واحد يقطر من صميم 
الروح» وهل الحبٌ الموقق إلا سكرة طويلة؟! فإن 
فاتني الحب بين يديك فلن يفوتني في الخمر! لماذا 
أخاف دائئ؟ إِلّا أن المخاوف جميعًا لأوهام, وإلّا فا لها 
اختفت من أفقي في غمضة عين؟! لقد تكشّف لي 
وجه الحكمة ولن أتردّد بعد اليوم» سأومع لحبيبتي إذا 
وقعت عليها عيناي أو ألوّح لها بيدي. ستعقد الدهشة 
لساما ويحمرٌ منها الخدان! ويجيء دورها ني النجل. 
دقة بدقة والبادئ أظلم. وسوف تنساءل في استغراب 
هل تحرك أخيراء أجل يا حبيبي» تحرك. ولن يوقفه 
شيء؛ ورأيت عند ذاك النادل يحوم حواليٌ فطلبت 
القدح الثالث ثم الحقته بصاحبيه. وعدت إلى خيال 
حبيبتي بجسم كله قلوب, وما به من عقل. وقلت 
بصوت مهموس وكأني أعظ جليسًا غير منظور «إذا 
أحببت فبح بحبّك إلى حبيبك وليكن ما يكون» ثم 
ذكرت أمّيء ولكن دون خوف هله المرّة لم أشك 5 
أنْها ستحبٌ حبيبتى إذا رأتهاء وستذهب تهاوفي القديمة 
إلى غير رجعةء أمًا جدّي فا أحراه إذا علم بالنبا 
السعيد أن يقهقه ضاحكاء وهنا ضحكت بصوت 
مسموع لفت إل الحاضرين. وألقيت نظرة على ما 
حولي فرأيت الحديقة اكتظث بالوافدين... وقد 
تضاحك الأقربون. ولكيّ لم أرتبك. بل ابتسمت 
إليهم وقلت بجسارة غريبة «اضحكوا!» فضحكراء 
وتساءل أحدهم دين : 

هل من أمر آشمر؟ 

وكنت من السكر في غاية فقلت بلسان ملعثم : 

- هاتوا لي حيبت ! 


القع الشان:: 

- أين هي 5, . 

فقلت : 

البيت أمام المحطة! 

أيه محطة؟ 

فتفكرت قليلا حي عثرت على شاهد للمحطلة 
فقلت : 

المحطة أمام المرحاض العمومي! 

فضحكوا جميعٌاء واهالوا عل قفشًا وتنكيثتاء 
وشاركتهم ضحكهم بغير مبالاة» ثم آثرت أن أغادر 
المكان. فدعوت النادل ونقدته الثمن وحييت رفقاء 
السكرء وذهبت وقفشاتهم تواصل توديعي بلا رحمة. 
كنت أترنْح» فقصدت عربة في الموقف. وتوسّطت 
مقعدها في نخيلاء» وقلت للحوذئ بصوت مرتفع : 

- إلى بؤر الفساد! 

وتمركت العربة وسرعان ما ارتحت إلى سيرها 
الواني» وجعلت أنظر إلى الطريق في لذة ومبجة. حي 
وددت أن يطول المسير إلى غير نهاية» وأدركت أفي 
مقبل على تجربة جديدة لا تقل خطورة عن الأخرى. 
فساورني بعض القلق. ثم غلبتني اللهفة. ووقفت 
العربة في شارع معربد. ولوح الحوذي بسوطه وهو 
يقول ضاءحكا: 

- هنا الفساد الأصلٌ . . . 

وسألته بعد تردّد: ْ 

ألديك فكرة عن الأسعار؟! 

فقال مقهقها: 

- أغلى مرة بريال! 

وآلمي التعبير على رغم سكري». وغادرت العربة 
فوجدتني في دنيا تتوهج بالأنوار كالصواريخ » وتزدحم 
بالسكارى والعابثين. وتختلط مها أصوات الضيحك 
بالشتم والصرا» وتنبعث من جنباتها دقات الدفوف 
وأنغام مبتذلة من كان مسلول أو بيان محشرج. وقد 
سطع أنفي شذا بخور طيّب. ولم أجد من نفسي الحرأة 
على التخبط وسط الجموع المعربدة» فعرّجت إلى أقرب 


. وأنا كفيل بإحضارها. . . 


باب ودخلت. وجدت نفسيى عند مدل فناء وأمسع 
مستدير تفتح عليه أبواب كثيرة» وعلى حيط دائرته 
ضَنَف الأرائك والكرامي يحتلّها رجال ونساء. وفرشت 
أرضه برمل أصفر فاقع. وراحت ترقص عليه امرأة 
نض غارية 1 :وكان الجسارة التي خلقتها الخمر قد 
طارت فتسمرت في مكاني لا أجاوزه ول أدر ما أنا 
فاعل. ثم ثبتت عيناي على الراقصة في دهشة لأني 
كنت أشاهد الرقص أول مهرّة. ألقيت على الحسد 
الملتوي:: الشينة الجارى :نطرة اقميوان عرفب 
وأزعجتني حالة وجهها إذ أثقله الطلاء الفاضح , 
وانفرجت شفتاها عن أسنان ذهبيّة فكانت بعبرائس 
الحلوى أشبه. وفجأة لاح أمامي رجل ذو جلباب 
مقلم زاهي الألوان تنطق قسماته بالدمامة والدناءة 
ودعاني للجلوس» فتراجعت مبتعدًا عنه فاصطدمت 
بشخص ورائي . فدرت على أعقابي لأتفادى منه فرأيت 
امرأة من جنس الراقصة ولا شك حالت بذراعها بين 
وبين الذهاب. كانت تبتسم ابتسامة كريبة» وتمضغ 
لادنا مفرقعة بأسئانباء فبردت أطرافي» وانقبض قلبي 
جفولاء وقراث في وجهي الخنوف والخجل فأطلقت 
ضحكة كالصفيرء ومدّت يدها سرعة فخطفت 
طربوشي» ووضعته على رأسها ومضت صوب باب 
قريب في خطوات سريعة. وقال لي الرجل وهو ما يزال 
بموقمه : 

- اتبعها بلا تردذدء هذه زوزو المنبهجة, لا مثيل لها 
ولا في المذبح ! 

وم أطق الوقوف أكثر من ذلك فغادرت البيت لا 
ألوي على شىء. غير مكترث لفقدان طربوشي. 
وركت أول عربة صادفتني وقلت للحوذي («إلى 
المنيل». عدت إلى البيت قبل منتصف الليل مهيض 
الجناح. يمضني الشعور بالهزيمة والإخفاق والخيبة. لم 
أكن أتصور أن يتمخض الحلم المرموق عن هذه 
البشاعة الفظيعة. وكانت النشوة الساحرة قد طارت 
ملّفة وراءها حمارًا ثقيلا باخت له روحي. ولم أدر 
كيف أيقظت 5 وأنا أخلع ملابسبى. فجلست في 
فراشها ونظرت في «المنبه» وهي تغمعم متثائبة: 


٠. السراب‎ 


وتأخر ت كثيراه ول أجبها بكلمة وواصلت نرع الملابس 
حبّى خذلتني قدماي فارتميت على المقعد» واستجمعت 
قواي وبمضت, ولكي ترئحت في موقفي وصدت 
أهوي إلى الأرض لولا أن أمسكتٌ بعمود السرير. . 
وانزلقت أمّي من فراشها وأقبلت نحوي مبّسعة العينين 
دهشة وفزعًاء وتفرّست في وجهي قليلا دون أن تنبس 
بكلمة. ثم أجلستني على المقعد وراحت تنزع عي 
ملاسي. ثم أنامتبي على فراشي» فها مس جانبي 
الحشيّة حتّى سارع إل النوم. وخيّل إِلّ» أو حلمت». 


5 

استيقظت مبكّرًا على غير ما كان يُتوقع. وتذكرت 
الأمس كله في ثوان. والتفتٌ برأمي في وف نحو 
الفراش الآخر فعثر بصري في طريقه بأمّي وهي 
تصلي. والتهب وجهي حياءء وغادرت الفراش في 
عجلة ومضيت إلى الام في حيرة بالغة. ورجعت إلى 
الحجرة فوجدتها منتظرة. تحاول أن تبدو هادئة لولا أن 
خانتها عيناها الصافيتان اللتان لا تعرفان الكذبء 
وتحاميت نظراتهاء وحييتها تحية الصباح بصوت لا يكاد 
بسمعء فتدبدت بصوت مسموعء واقتربت مني. 
ووصعت يدها على كتفي وقالت بصوت رقيق مفعمة 

نبراته بالرجاء : 
دعوت لك بعد صلاتي طويلا والله سميع مجيب. 
ليس لدينا متسع من الوقت فأصغ إل يا كامل بقلبك 
قبل أذنيك. فات ما فات. ما كنت أتصوّر ذلك على 
الإطلاق. ولكنّ أوساط الموظفين أوساط غواية وفساد. 
نْبا زلّة شيطان فنْبُ إلى الله عنها. هل من حاجة إلى 
تذكيرك بمأساة أبيك وأنت من شهودها وأمّك من 
ضحاياها؟! ولكنّ قلبي مطمئنٌ رغم ما حصلء لأنّك 
مؤمن تخاف الله ولأنك ابن أمَك لا ابن أبيك. وخليق 
بمن يصل بين يدي الله حمس مرّات في اليوم مثلك أن 
يحرص على المثول بين يديه نقيّا طاهرًا. لا تنس أن 
هفوة الأمس شر كبير» وأءها ستظل سينا تقطع قلبي . 
لم يعد في وسعي واأسفاه أن أستبقيك إلى جانبي » فإذا 


4 السراب 


خحرجت إلى الدنيا فلاقها بقلب التقئ المؤمن. ستذهب 
اليوم إلى السيدة أم هاشم لتقدم توبتك على يديها. 

لم تلتق عيناي بعينيها ذاك الصباح. ومضيت إلى 
الوزارة محزوناء أستعيد قوها كلمة كلمة» وأنعم فيه 
الفكر. هالني افتضاح أمريء وقدّرت عنف الصدمة 
التي تلقتها مي البائسة. وذكرت الخيبة التي منيت بها 
في فناء الببت الغريب» فتلوّت شفتاي تقرْرًا. على أن 
م أنس نشوة الخمر. لم أنسها رغم ما أعقبها من مار 
وتعب وفضيحة. ولم ينفذ مقتها إلى قلبى حتّى بعد 
صلاة الصبح التي أدّيتها في صدق وإيمان. ول يكن 
ضميري مستريحاء ومتى كان مستريحًا؟! ولكنّ أحلام 
النشوة الساحرة هجمت عل فاجتاحت في سبيلها 
ضميري وآلامي وأمّي. هي النشوة التي تظل معاني 
السعادة والطرب مغلقة حتى تجرى في الدم فتفتح 
أبوابها الساويّة. إثْها مطلبي. ربّاه كيف أهجرها 
وأتوب عنها؟ وما عسبى أن يبقى لي بعدها غير اللهفة 
الكظيمة والحسرة الفاتلة والقلق الذي يمرّق حياتق 
إربا؟! وحتى لو استسلمت لإغرائها الشيسطان, 
نهيهات أن تخلص لي صافية. بل ستضيف إلى 
ضميري نزاعًا جديدًا ما كان أغناه عله. كنت وما 
ازال في جذب ودَفع متواصلين» بين اقتحام الدنيا 
والجفول منباء بين حبيبتي وأمّىء بين إدمان العادة 
الجهنميّة ورغبة الإقلاع عنباء فجاءني نزاع جديد بين 
الميل إلى الخمر والتوبة عنها زادني رهمّاء حيّى انقلبتُ 
أرجوحة تدفعها الشياطين وتجذبها الملائكة. ولا تكفت 
عن التأرجح لحظة واحدة. وبلغ بي القلق غايته 
فتأؤهت متسائلا في حيرة بالغة: لماذا لم يخلق الله الحياة 
نشوة نخالصة تدوم جيلا فجيلا؟ لماذا لا نفوز بالسعادة 
بلا عناء ولا قنوط؟ لاذا يختئق الحب في قلوبنا يأساء 
والحبيب يغدو ويروح على مرمى قبلة منًا؟! 

ليكن ما يكونء الخمر مفتاح الفرج. هي العزاء 
هي كلمة السرٌ التي تفتتح لي باب حبيبتي الموصد. لا 
أريد الدنيا ما دامت تأبى أن تخيّر ما بنفسها. إِنَّ مقتى 
للواقع ليس دون مقتي لتلك الراقصة المخيفة. الدنيا 
نفسها تتكشف لى عن صورة شبيهة بتلك الراقصة في 


تَلْوّها وتعفّدها وطلائها الكاذب وشقائها الدفين فلماذا 
إذن أقاوم إغراء النشوة الساحرة؟! 
#6 

ودعتني أمّي عصر ذلك اليوم إلى زيارة «أمّ هاشم» 
فخرجنا معًا بعد أن انقطعت عن الخروج في صحبتها 
أعوامًاء وركينا عربة» فجلسنا ملتصقين جلسة أعادت 
لنفسينا ذكريات «الحنطور» القديم, نخففت رقتها من 
قلق النفس المستحوذ علّ. كانت أمّى ترتدي معطقًا 
صيفيًا رقيقًا تقمّصه جسمها النحيل في رشاقة لطيفة. 
وبدا وجهها الملبح هادئًا مستسلً) وعيناها النضراوان 
صافيتين تلوح فيهم| نظرة حالمة يشوبها شىء من 
الحزن. وقد تلفع رأسها ببخمار أسود أحاط وجهها 
بوقار لم يحل من أثر للأربعة والخمسين عامًا التي 
قطعتها فيا سم لها من حياة. وحن قلبي لها فوددت 
لو أستطيع تقبيلهاء وتفكرت في تقدّم عمرها نحو 
الشيخوخة بأسى عميق» ثم ذكرت الخواطر الخائنة 
التي دارت برأمى على فراش مرضهاء فعضضت على 
شفتي بقسوة وحنق. يا لها من خواطر مقيتة! إِنْها من 
صميم الألم الذي التمس في الهرب ممه أيّ سبيل. 
وهَوَنَ من وجدي ما كان يخيّل إليّ من أنْها سترث عمر 
جدّى الذى يبدف إلى التسعين. 

كبر عل في تلك اللحظة عصياههاء بيد أني شعرت 
في أعماق نفسي بأني ذاهب إلى توبة كاذبة لا يسعني إلا 
الإذعان و ذلك وأحرنني. كيف ألقى أمّ 
هاشم ببذا القلب الخائن وهي التى لا تخفى عليها 
خحافية؟ كيف انقلبت بين عشية وضحاها من ورِع 
طيب إلى شيطان مولع بالمعصية؟! وانتهينا إلى الجامع . 
ودخلنا ونحن نقرأ الفاتحة» وقصدنا الضريح يتوزع 
قلبي الحب والايمان والخوف. ونسشمت على قلبى 
ذكريات الأيام الخوالي حين كنت أنفذ للجامع الطاهر 
بقلب سعيد لم يعانٍ بعد الشعور بالذنب وعذاب 
الضمير. وتقدّمتني أمي إلى المقام وهي تهمس بحرارة: 
«جئتك يا أمّ هاشم بكامل. ليتوب عن هفوته بين 
يديك فباركيه وسددي خحطاه!ة. ثم دفعتني لحو باب 
المقام فبسطت راحتيّ عليه؛ وشعرت ببرودة تسري إلى 


نؤادي. فوقفت صامتا مليّا. حيال جلال تخشع له 
القلوب. وخلت الجدث الطاهر يرمقني بعينين متالقتين 
لم يغبّرهما الموت فدعوت بقلبي «أمْ هاشم؛ أن تلهمني 
الصواب وأن تنقذني من حيري وشقائي. وأن تتوس 
علّ. وترذدت لحظة ثم سألتها أن ترعى حبّى التعيس 
بعين الرحمة! 

وغادرنا المشوى الطاهر وأمّي تجف عينيهاء ثم 
سالتني : 

- هل تبت إلى الله ؟ 

فأجبتها دون أن أحوّل إليها عي : 

- نعم . 

فتمتمت برجاء : 

- ثوبة صادقة إن شاء الله , 


1 

لم يسعني مقاومة النزوة الجديدة. ولم يغن عبّى شيئًا 
لا ضميري ولا توبتي. ولا ما جبلت عليه من مخافة 
وحبّى حسرة طويلة. وإنّ الأيّام لتمرٌ ثقيلة بلا عزاء 
وبلا أمل. فتنظر عيناي ويخفق فؤادي, ويعبي إرادتي 
العجز والنوف. فلم أجد من سلوى إِلّا نشوة الخمر 
وتبالكت عليها! على أن ذاك العزاء التعيس لم يخلص 
بي طويلاء ولم تمل الأقدار لي في الاستمتاع بهء ففي 
مطلع الخريف من ذاك العام وفي يوم من أيَام 
الجمع - وكلت جالسا مع مي نتحدّث كعادتنا ‏ دف 
جرس الشقّة. وفتح الخادم الباب ثم جاء يدعوني 
لقابلة واحد «بك0. وذهبت من فوري فوجدت رجلا 
مهيبا في الستين أو السبعين. فحيّيته بأدب وألفيتِ 
عليه نظرة متسائلة. فبادرنٍ متسائلا : 

حضرتك كامل أفندي؟ 

فقلت وأنا أتفرّس في وجهه: 

- كامل رؤبة. هذا بيت الأميرالاي عبد الله بك 
حسن . 

فأخذني من يدي إلى الخارج ثم مال نحوي قائلا : 

- لكم طول البقاء» لقد توفي جدّك يا بي. . . 


السراب هه 

فحملقت في وجهه بفزع, والعقد لساني» فرت 
على كتفي وقال بصوت سحزين: 

- تشججّع يا بي من أجل والدتك؛ وكن رجلا كما 
رجو لك؛ كان جدّك يتوسّط مجاسنا كعادته كل صباح 
بلونابارك: فشعر بضيق في التنفس وطلب قدححا من 
الماء» ولم تكد تمفي لحظات حتّى سقط على المائدة 
فحسبناه أصيب بإغماء» ثم تبيّن أنْ السرّ الله قد 
صعد إلى بارئه . . 

هتفت يصوت مبحوح : 

- وأين هويا سيّدي؟ 

فتمتم الرجل : 

أحضرناه معنا في سيارة. 

وما كاد الرجل يتم قوله حبّى رأيت في أسفل السلّم 
رجالا أربعة يحملون جدّي ويرتقون الل على مهل 
وحذرء فسارعت إليهم ذاهلاء وشاركتهم في حمله 
وأطرافي ترتعد جميعًاء ثم دخلنا الشقّة وهو بين أيديناء 
رأيت أمي في مهاية الصالة. وقد ندّت عنها صرخحة 
فزعة. وأقبلت نحونا لا تبالي الأغراب» وسالتنا 
بجزع : 

ما له؟! ماذا به؟! 

ولكنبا لم تسمع جوابًاء أو وجدت في الصمت 
جوابًا فصرخث صرخة مدؤية» وولولت في قوجع 
(أبي... أبي». وأنغناه على الفراش» ثم أقبل الرجال 
عليه يقبلون جبينه واحدًا في أثر آخرء وعرُوا أمّي 
وخرجوا من الحجرة صامتين؛ وسألبي بعضهم عا إذا 
كنت في حاجة إلى شيء فشكرت لهمء وتطوع البك 
الذي قابلته ألا فدلني على الإجراءات المتبعة, 
وأخخيرني بأنه سيقوم بإبلاغ وزارة الحربيّة؛ وأنه 
يستحس أن تشيّم الحنازة في العاشرة من صباح الغد. 
ورجعت إلى حجرة جذي مهرولا فوجدت أمي نبكي 
بكاء مرًا فلم أتمالك أن أجهشت في البكاء؛ ولكتها لم 
تسمح لي بالبقاء في الحجرة. ولكي تشغلني عن الحزن 
أمرتني أن أبرق بالخبر إلى خالتي وأختي وأن أذهب إلى 
أختى لآذنها بموت جدّها. وغادرت البيت لأداء هذه 
الواجبات. وعدت إليه مرّة أخرى ومعي أختي راضية 


65 السرابت 


وزوجها. ووجدت في الشات خخير عون في القيام 
بالإجراءات المتبعة. أو بالأحرى فقد قام بها وحده 
واكتفيت بأن ألازمه دون وعي. وما كاد يخيّم المساء 
حيّى امتلأ البيت بالأهل. فحضرت التي وزوجها 
وأخي مدحت وزوجه وعمّيء ولم يتخلف إلا أبي. 
وقد قال لمدحت وهو ينعي إليه جذي «البقية في 
عاتك أ رمعو ان تدز انك رخاف و احدلتي: لذن لا 
أحضر لا جنازات ولا أعراسًا!» وكانت أمي اشك 
الأهل فجيعة وحزنًا لأئها لم تفارقه طوال عمرها اللّهم 
إلا ثلائة أشهر قضتها على مضض في بيت أبي.. 

هكذا مات جدى . وقد تمتم بحياة طويلة فلم يعجزه 
الكبرء وم يقعده المرض . وفارق الحياة في مجلسه الأثير 
بالمقهى بين صحبه المخلصين, في يسر قِلّ أن يحظى به 
المحتضرون... وكنث لا أزال كلما خطر على فكري 
حنيت الرأس إجلالا لذكراهء واستمطرت الرحمة 
والعفو روحه الكبير. كان جذدّي. وكان أبيء وكان 
جناح العطف الذي أظلَتي فنعمت في ظلّه بالعيش 
الرغيد والحياة الرهيفة الطيّبة. ولا أنسى أننى اثهمته في 
الساعات السود التي كدّرت صفو حياتي بأنه أساء 
تربيتي» أو أنه تركني لأمّي تفسد حياتي بتدليلها ولكيٌّ 
إذ تدبّرت الأمر لم يسعبي إلا إقامة العذر له لأني رأيت 
نور الدنيا وهو يتخطى الستين. وإله لمن أشقٌ الأمور 
أن يعرف الإنسان حقيقة جذّى لأنه غالبًا ما يبدو في 
حالة من التبجيل والقداسة, لأنْ مؤرّخيه من الأهل 
يكونون عادة ممن يبجلونه ويقدّسونه. فإذا ركلت إلى 
ما لمسته بنفسى من حياته أمكنني الثناء عليه في غير 
تحفظ , وطالما كانت صحته وحبه النظام ودقته 
العسكريّة التى لم تبلغ فط الصرامة أو القسوة مثار 
إعجابي الشديد. وكان حدبه عليئا لم تبون إلى جانبه 
مصائب الحياة» وبحسبي أنني لم أعرف مرارة الحياة 
الحقّة حتّى ودعناه إلى مثواه الأخير. ومهما يطل بي 
العمر فلن تمحى من مخيلتي صورته في أيامه الأخيرة 
وقد كللت الشحخوخة هامته بتاج ناصم البياض 
وأضفت عليه وقارًا وجمالاء وأذكت في عيئيسه 
الخضراوين بريق دعابة وعطف. فلم أدهش لحزن 


رفاقه عليه. وأدركت ‏ إن كان فاتني ذلك - أنه كان 
من الذين يألفون ويؤلفون. تلك الحبة الربانية التي 
حرمتها وذهبت نسي حسرة عليها مدى عمري . وقك 
تقرّر تشييع جنازته في العاشرة صباحًاء ولما حم 
الوداع امتلأت الشرفة بالباكيات وأطلقت المدافع تحية 
لجدثه. وحمل نعشه على مدفع سارت بين يديه فرقة 
من الحيش. وألقيت على جفانه نظرة الوداع ‏ وهو 
يختفي في القبر. وأنا أنتحب كالأطفال. 


١١ه‎ 

قالت لي في حزن بالغ : 

ليس لنا إِلّا الله . 

فقلت وقلبي يستشعر خوفًا لا يدريه : 

هو نعم المولى والنصير. 

ومضت تتكشّف لى الحقائق؛ فعلمت أن معاش 
جِدّي قد انقطع بوفاته. وأحصيت تركته فوجدت أنه 
ترك بالمصرف أربعائة جنيه؛ ولمًا كانت أمّى وخالتى 
وريثتيه الوحيدتين فقد خص الواحدة منهما مائتي ع 
صارت كل ما لنا عدا ماهيّتى الصغيرة! صرت إذن 
رب أسرة» وقد لفت عمّي نظري هذه الحقيقة وهو 
يودعنيى. فكرر لي العزاء.؛ ووصان بأمي قائلا : 

- أكرم أمَك ما وسعك. فأنت ربٌ البيت. وأنت 
خلف جِدّك! 

وتلقيت قوله بخوف وتشاؤم» ونظرت إلى المستقبل 
المجهول بوجوم وامتعاضء, واآلمني أن أجد نفسي 
مث لا عن غيري أنا الذي أَلفْتٌ أن توكل مسئوليتي 
بغيري! ولنًا خلا الببت من المعزين ورحل كل إلى 
طيّته» وجلست وأممى منفردين نتبادل الرأي قالت 
بليضية أبيقةة ١‏ ْ 

- اللْهمّ عونك. 

ورفعت إليها بصري الحائر في خوف وكآبة. سألتها 
بإشفاف : 

- ماذا ترين يا أماه. 

فقالت بامى : 

- لن تمضي الحياة في يسر كا عهدناها. هذا أمر الله 


وعلينا أن نلعن ونصير ونشكرء وإنه ليسوءني أن أكون 
حملا ثقيلا عليك. ولكن ما باليد حيلة. 

فقلت بحرارة : 

- لا تقولي هذا. أنت كل ما تبقّى لي في الحياة 
ولولاك ما عرفت لنفسي مأوى أوي إليه. 

فافترٌ ثغرها عن ابتسامة حزينة» ودعت لي طويلًا. 
ثم قالت: 

- سيكون ما ورثته من مال قليل رهن إشارتك 
تستعين به عند الحاجة. حب يكبر مرتّبك! 

ولذت بالصمت متفكرّاء وعيناها الحرزينتان لا 
تفارقان وجهي , ثم استدركت بصوت متهدّج : 

- لم يعد هذا البيت بالمسكن المناسب لناء فهو كما 
ترى كبير. وأجرته تعادل مرتّبيك» ولعلا تمك نيه 
صغيرة بما لا يزيد على مائة وحمسين قرشًا في حيّنا 
هذا. . 

بعاد الفبيوف 0 ال رمف الل د 
أعماني عن هذا المصير الذي كان متوقعًا من قبل» حيّى 
عادت أمي تقول بصوت ملخفض ؛ 

- وينبغي أن نستغني عن الخندم. ولن نحتاج في 
المستقبل إلا لخادم صغير. 

يا له من ضيق لا أدري كيف يتحمّله صدري! 
لست أعلم شيئًا على الإطلاق عن الكفاح الذي يشقى 
به الناس في سبيل الحياق. فلذّلك حدجت أمّي بنظرة 
ناطقة بالاستغائة وسألتها: 

- بماذا تقدرين تكاليف المعيشة بما فيها من سكن 
وطعام ونخادم وغيرها؟ 

وتفكرت أمّي طويلا؛ ثم قالت بصوت منخفض : 

بما لا يقل عن ستّة جنيهات! 

لم استدرجت كأنمما لتخقف من وقع كلامها : 

- سأرصد مالي لكسائنا وللحوائج الضرورية فيما 
تخرج عن المصروفات اليومية. . 

لكي لم أل بالا إلى قوهاء ومضيت أفكّر فب) 
يتبقى لي من مرتبي بعد تكاليف المعيشة. في الجنينه 
والنصف. وما يلفق منه على المواصلات» وما يبقى 
بعد ذلك للترفيه عن نفسي. فككرت بامتعاض 


السراب باه 


واكتئاب. فتقبّض قلبى جفولا من هذه الحياة السخيفة 
التي لا معنى لها. ألم أكن أنفق مربّي كله في الشراب 
والطعام والعربات؟ ألم أكن مع ذلك شاكيًا متبرّمًا 
تعيسًا؟ رباهء كان الماضيى عهدًا غير منكور النعيم؟ 
ولك لم أفطن إلى نعيمه إلا الآن حيث لم يبق منه إل 
ذكريات؛ إن أعمى ما في ذلك من شكٌ» تعميي 
الأحلام الطائشة عا بين يديّ» ومن كان مثلٍ قُضي 
عليه بألا يذوق للسعادة طعا في هذه الحياة. تَهّم لي 
وجه الدنياء وخارت عزيمتي. وامتلأات نفسي تشاؤما 
حي توقعت شرًا وراء كل خخطوة أخطوها. أجل آلا 
يجوز أن تستغني عب الحكومة لسبب أو لآخر فأحرم 
حيّى هذا المرتب الضئيل؟. . . ألا يُمتمل أن يصادفني 
حادث في الطريق يقضى عل بعاهة تقعدني عن السعى 
من أجل الحياة؟ ! كاذ دنا على الأرض؟ ولعل ل 
الأفكار السود التي جعلنني أسال مي قائلا : 

- ماذا يُنتظر أن أرث عن أبي بعد وفاته؟ 

ولم ترتح أمَي لمجزد أفكاري وقالت باسثياء : 

- لا تبن آمالك في الحياة على موت إنسان. الأعبار 
بونرا ران انعحاناك انلك لذ مااطردك كو ر الماك 
50 

بيد أننى استخففت بمخاوفها والححت عليها أن 
تجيبني على ما سألتء فقالت مذعئةٌ لإللحاحي : 

- لأبيلك أوقاف تدرٌ عليه أربغين جنيهًا كل شهرء 
غير البيت الذي يسكنه. . , 

وقدّرت بعمليّة حسابيّة ما يصيبنيى من هذا الميراث» 
فوجدته سئّة عشر جنيهًا نصيبي من البيت» إذا 
أضيفت إلى صرتّبي الصغير صار كبيرًا سلا شك. 
واستسلمت للأحلام كالمعتاد» ولكنها لم تغيّر من الواقم 
شيئًا. وسألتها مرّة أخرى : 

فا عور أ 

وأجابتني على كره : 

د ايقل عن السغين» 

ترى هل يعمّر كجدّي مثلا؟ ماذا يكون حالي لو 
عمّر طويلا وحرمني مبرائي عشرة أعوام أو عشرين؟! 
وتذكرت ما قيل لى من أنّه انتظر يومًا على مضض 


8 السراب 


موت أبيهء وكيف ساقه الجزع إلى الشروع في الجريمة 
التي قضت عليه بالحرمان من ثروة واسعة! إن أعاني 
نفس المشاعر التى غاناها قبل ثلاثين عاماء ولعله لو 
كان لي بعض قوّته لسلكت الطريق الذي سلك! 

ثم استدعت 5 الطاهي العجوز وأم زينب 
وأخبرتبه| في استحياء وألم بأننا سئنتقل إلى بيت شقيقي 
وآثرت الكذس على الاعتراف بالفقر»» وأثْها مضطرّة 
إلى الاستغناء عنهماء وذكرت عهد نخدمتههما الطويل 
بالأسف. وأثنت عليهما الثناء الحميل. ودعت لما 
بالتوفيق , ثُمّ نفحتها بما يستعينان به حبَّى يجدا عملا 
جديدًا. وقد انتحبت المرأة باكية» ودمعت عينا الرجل 
العجوز ودعا لحدي بالرحمة والعفوء وقال بصدق 


وإخلاص : 
وددت يا سيّدى لو مبٌ قبل أن يغلق هذا البيت 
الكريم أبوابه. . 


ولم تتمالك أمّي نفسها فبكت, وانتقلت العدوى إل 
فبكيت. ومرّت ب ساعة سوء كابدت فيها ألما وخزيًا 
م أشعر بمثلهها من قل . وانتقلنا قبل خختام الشهر إلى 
شقّة صغيرة في الدور الأوسط مس بيت قديم ذي أدوار 
ثلائة بشارع القاسم المتفرّع من شارع المنيل. وكان 
البيت يقع في وسط الطريق ما بين شارع المنيل 
والنيل» أما الشقة فتتكون من ثلاث حجرات صغيرة 
فرشناها ببعض أثائنا القديم. وبعنا بقيْته بثمن 
بخس. وساءلت نفسى في وجوم ٠‏ هل تستطيع أمّي 
البوض بأعباء الخدمة المنزليّة بعد ذاك العمر الطويل 
من الراحة والدعة؟ إِنّها تمدف إلى منتصف الحلقة 
السادسة ولم يعد لها من معين إلا نخادم صغير فكيف 
نتتحمّل هذه الحياة؟ وزادت حياتي تنغيصا وداخلني 
سخط شامل على الوجود كله. على أن أمّي أقبلت على 
العمل بروح عالية فيها مرح كثير فلجحت في إيبامي 
سأئّها مسرورة بالحياة الجديدة» وكأئما كانت تكبت 
طوال عمرها رغبة حارّة في الخدمة والعمل. وقالت لي 
بارتياح لمسته في نبرات صوتها وابتسامة عينيها : 


إِنْ خدمة بيتك في السعادة التى ليس لي وراءها 


ا 

وتجرّعت هله الحياة الجديدة قطرة قطرةء وقد 
أضافت إلى حسراتي القديمة حسرة جديدة. هي 
حسرتي على العيش الرغيد والشراب خاصّة» وأجمعت 
قل آنا انز عل اندي كي اتنهيا لبوا سكرة وانحد” 
في الشهر. ولا عجب فلم تكن الخمر بالنسبة إل هوًا 
وعباء ولكن حياة وهميّة أفر إلى أحضاهما من آلام 
الواقع البغيض . 

ويومًا قالت لي أمّي وقد آنستٌ ميّى استنامة إلى 
محديائها : 

- لعلّك لمست الحكمة التي أملت عل أن أرفض 
أي زواح لا يليق بك! 

وأدركثٌ ما تعن لتوّي؛ فكأنما تقول لي: «ماذا 
كنت تصنم بحياتك لو كنت رب أسرة!4». ول يداخلني 
شك في صدق ملاحظتهاء ولو كنت ربٌ أسرة لشقيث 
بالعيش أضعاف الشقاء الراهن, ومع ذلك لم أرتح 
لقولهاء ووقع من نفسى المهيضة موقع الشياتة المريرة» 
فلمني الحنق والغضبء. وكابدت مشقّة في كظم 
عواطفي . 


55 


وهل الخريف. ذلك الفصل الذي أ-حبيته بأنه 
البشير بافتتاح المدارس». وستعود حبيبتي إلى الملتقى 
المعهود على طوار المحطة. حبيبتى هي الزهرة الوحيدة 
التي تتفتّح في الخريف حين تعرى الأشجار وتذبل 
الأزهار. ولاحظت أن مواعيد خروجها لم تعد منتظمة 
كيا كانت» ترى هل بدأت حبيبتي حياتها كأستاذة؟ 
ولذّن ذاك الخاطر فاهترٌ عطفاي سرورًا. بيد أنّني لا 
يمكن أن أنسى أن محرى حياتي قد تغيّرء وأثني أرزح 
تحت وقر الفقر والقنوط. فحبيبتي ميئوس منهاء ولكن 
ما كان اليأس إِلَّا ليزيدني هيامًا وولعاء ويشبٌ في قلبي 
أشواقًا وأحزانًا. ما أسرع أن ينقلب الحبّ اليائس ثورة 
على الحياة. أليس من الهزء بنا أن نخلق لحياة ثم يمال 
بيئنا وبينها؟. وزاد من لوعتي أنه كان يخيّل إل في 


أحايين كثيرة أنْ عينيها ترنوان إل بنظرة فيها حياة. أية 
حياة؟ لست أدري, ولكنها كافية لبعث الجنون في 
خيالي» فيثمل بلشوة سحريّة لا أفيق منها حو تصدمني 
حقيقة مُرّة من حقائق حياتي. واشتدٌ تطلع أهل البيت 
نحوي» وبتّ وكأئنيى أسمعهم يتساءلون: ماذا تريد؟ 
ماذا تلتهمها بعينيك؟ أي رجل أنت؟ ألم يكفك عام 
ونصف عام؟! صدقتم واللهء والح معكمء ولكن ما 
حيلتي أنا؟ ضعوا أنفسكم في مكاني وخبّروني ماذا 
تفعلون! هل لديكم علاج للعجز والفقر؟ 

ولم يتركني الرجلان المعجبان بفتاتي في راحة» فلم 
يزالا يحومان حوفاء حيّى بت أخافها نوفني العجز 
والفقرء وأكرههما كرهي للشقاء الذي يضيق عن 
الخناق, مثل هذه الحياة ألذّ ما فيها الحرب منها! لذّلك 
تلمّست السبيل إلى الحانة مهما كلمن الأمر من العناء . 
وم يعد شارع الألفي بك بالمرتاد المناسب لحالي. 
نلجأت إلى حوذيّ ‏ مشيري في الدنيا بعد أمّي ‏ 
وطلبت إليه أن يحملني إلى حانة متواضعة» وساقني 
الرجل إلى سوق الخضر! وكان هو نفسه ‏ كما أخيرتي - 
نرنافها كن أن" لآن: وناك ل مدلل عل مسن 
اختياره : 

الحانات الكبيرة مظاهر كاذبة لابتزاز الأموال» 
والخمر هي الخمرء وخيرها ما أسكر بابخس الأثئان! 

وأنصتٌ إلى محاضرته في خخجل أليم تجاوب صداه 
أسى عميقًا في نفسي. فتهبًا لي حينا أنه يرثي هايتي 
ويعزيني عا سلف من زماني. وغادرته ا 
وسرت صوب حانة صغيرة في مطلع مر من الممرات 
المفضية إلى السوق. وساورني شعور محزن بأني أنحدر 
إلى الهاوية التي ابتلعت أبي من قبل» ولكنئي لم يكن 
هذا ولا غيره بمانعي من المقدورء وكانت الحانة صغيرة 
مربّعة الشكل بها موائد معدودات» تبدو رئّة باهتة 
نادلا يونانٌَ عجوز أعمشء. ورؤادها من الشعب 
الأدنى أو بعض الموظفين البائسين. ولكنّ الخمر هي 
الخمر كا قال الحوذي. ولا أنكر أني فرحت بمنظر 
القوارير على الرفٌ الطويل؛ وسررت بها سرورًا انسانٍ 
آلام الضعة التي شدّني ضيق ذات اليد إليها. ورأيت 


السراب 4ه 


أواني للخمر من نوع جديد هي الدوارق» فدورق 
الكونياك بعشرة قروش. وهو ثمن بخس أستطيع معه 
أن أعاود الحانة مرّتين أو أكثر في الشهر. وشربت 
واستسلمت لشوارد الأحلام في لذّة وشوق. وأمذتني 
المصادفة بزاد جديد للأحلام فأقبل عل بائعم نصيب 
ولوح لي بورقة وهو يبتف «ألف جنيه؛ فمددت يدي 
وتناولتها منه ونقدته ثمهاء ثم طويتها ودسستها في 
جيبي . زادْ جديد للأحلام يضاهي نشرة الخمر. رباه! 
ماذا كانت تكون الدئيا بغير الأحلام! إني أملك ألغفب 
جنيه بلا شريك! الأرض ثابتة تحت قدمي لا يزعزعها 
الخوف والفقرء والدئيا تبتسم. ولسوف تقهقه ضاحكة 
إذا انتهى أبى! لا يجوز أن أتردّد بعد اليوم. سأقابل 
الرجل الوقور والد حبيبتي وأقول له بصراحة: «١إنيٍ‏ 
أبتغي شرف مصاهرتك!» وأقدّم له بطاقتي, ومنذا 
الذي لا يعرف أسرة لاظ؟! أجل إِنْ الوظيفة صغيرة 
لكب أملك ثروة لا بأس بها وسأرث ثروة أخرى؛ فلا 
يسع الرجل إلا أن يتقبّلني قبولا حسئًا. ورأيتني أزفٌ 
وسط الشموع وعروسيى تتهادى كالقمر. ول أطق البقاء 
بعد أن أفرغت الدورق في جوفي فغادرت الحانة, 
وهمت في الطرق على وجهي متفرّجًا حالماء مسرورا 
بنفسي وبالدنيا. ولم أكن لأرجع إلى البيت حتى أفيق» 
ولك وجدت نفسى أمام بيت الحبيبة وبالرأس بقيّة 
من نشوة فلم أنعطف إلى المنيل. كانت الساعة تقترب 
من الثانية صباحًاء والطريق مقفرّء والظلمة شديدة 
شاملة» والصمت عميقًا يكاد لعمقه أن يسمع دبيب 
الخواطر بالنفس. ووقفت على الطوار متطلْعًا إلى البيت 
النائمء واستقرٌ بصري على نافذة لمحدعهاء وتسللت 
روحي خلالها فخلتي أحسٌ تردّد أنفاسها العطرة. إِنْ 
إيماني بالروح لا حدٌ له. ألم تجذب رأسها نحوي فيا 
مضى؟ فيمكنبا الآن أن تندس في أحلامها فتراني» بل 
وأن تسمعنيى إذا ناجيتها! وبادرتها قائلا : 

«إن أحبّك يا حياتي. أحبك حبًا هو من أعاجيب 
الكون كدوران الأفلاك سواء بسواء. ولشْدٌ ما ثم أن 
اقرل لك (أحبّك) في يقظتي ولكنى لا اسسطيع؛ إن 
الحجل أبكم يا حياي» والفقر سجن شاهق الجدران» 


٠٠‏ السراب 


ولا حقٌّ لامرئ لا يملك من مرثّبه إلا جنيهًا ونصفًا أن 
يبوح بحبّه لملاك كريم مثلك, ولكتّي أحبّك بالرغم 
من هذا كلّه. ولا أطيق أن تعرضي عن حبّي» وأكاد 
أجِنّ حين أرى تطلم الرجلين الثقيلين إليك. 
فشجعيني يا حياني؛ أشيري إِليّ؛ ابتسمي في وجهي. 
ما في ذلك من بأس ما دمت محيًا صادقًا كما لا بد 
تعلمين:: ونا ذف عاجرا قوسا ينة كا لايد 
تون ب ام مي وفيت نويا دون أن ممرل 
عيناي عن النافذة الموصدة» فثقلت جفوني وداخلنى 
إحساس خفيف بالدوران والتعب من مشِمقّة اللشي 
وخمار الشراب. ثم فرع سمعي وقع أقدام ثقيلة 
فالتفتٌ صوبها في توجّس فرأيت شبح الشرطئ مقبلاء 
فتحولت عن موقفي وحثثت خطاي , 


1 

ماذا يمول بيبى وبيئنك؟ الفقرا هكذا كان الجوابء 
وم أجاوزه إن غيره من الأسياب»؛ لأنه كاك العائى 
الوسحيدك الذى لا ع عنه مسكولا أو هذا ما اعتقلته . 
كيف أحصل على المال إدن؟ وتفكرت مغتاء ثم مال 
ب الفكر إلى أبي ! ذلك الذى م مونة طويلا ولكن 
لم يغن عي التمي شيئّاء فلماذا لا أزوره؟. . . لماذا لا 
أستوهبه المال الذي أريد؟. وبدا الخاطر غريبًا لا 
يصِدَّق. وخاصّة بالقياس إِلّ أنا الذي أخافه أكثر من 
الجميع. ول أوْمّله قط. بيد أنْ الجزع كان بلغ متي 
منتهاه 2 تلك الأيام. وحرقى الحث مي مرق الدم, 
واشتدٌ إحسامى يفوات العمر لدرجة تستحق الرئاء. 
فداخلبي شعور بأنْنى إذا بلغت الثلاثين فقد انتهيت. 
أمضتبى هذه المخاوفء. وكالت النظرات الجلوة التي 
تجود عل بها الحبيبة توسعنى في أثناء ذلك سعادة وتأنيبًا 
صامثًا. فلم أرَ بدا في العباية من أن أفكر جِدَيًا في 

زيارة أبي . 
واهتديت إلى الحلميّة مسترشدًا بكمساري الترام؛ ولمًا 
بلغت شارع على مبارك ذكرت لتؤي الطريق الذي 
قطعته مع جذّي منذ تسعة أعوام, وتراءى لعيئىّ البيت 


الكبير ذو السور تلوح وراءه رءوس الأشجار 
الضخمة. ورأيت البوّاب العجوز جالسًا أمام الباب 
وقد طعن في السنْ حت صار هيكلا أسود. وحانتني 
شجاعتي إذ غدوت منه على بعد خطوتين» فلم أتوقف 
عن السيرء وجاوزته. وقد تملكبى شعور اليأس 
فحدّثتني نفسي بالعودة من حيث أتيت. وما جدوى 
بذل محاولة فاشلة حتًا! ولكبّى لم أمعن في ال هرب ولعل 
لياس نفسه أمدني بقوة غير منتظرة. فرجعت إلى 
البؤاب مستشعرًا عزمًا جديداء مستئكرًا الخور الذي 
يباعد بيني وبين بيت لي فيه حق غير منكور. حييت 
اباب فرد تمي جالسّاء فقلت له بلهجة لم تخل من 
قبياء: 

- كامل رؤبة لاظء خثر البك من فضلك! 

وض البؤاب مبتسماء ودعاني إلى دخول الحديقة. 
ومضى ليخبر البك. هي الحديقة نفسهاء لا تزال 
تسطع جنباتها بشذا الليمون. تمتلّ ساؤها برءوس 
النخيل» وتسرب مها إلى النفس كآبة ووحشة. 
وأرسلت ببصري إلى الفراندا في نباية الحديقة فرأيت 
البؤاب يدعوني» فتقدّمت وأنا أطرد عن قلبي شعورًا 
بعدم الارتباك. وارتقبت السلّمء فطالعني المنظر 
القديمء الرجل والخوان المزركش والقارورة والكاأس. 
مد لي يده وعلى فمه شبه ابتسامة فسلّمت عليه؛ ثم 
دعاني للجلوس فجلست على مقعد إلى يمين الخوان. 
وألقيت عليه نظرة سريعة فرأيت الجسم المكتشز وقد 
ترهل. واشتدٌ احتقان الدم بالوجه الممتل. وغابت 
العينان في نظرة ذاهلة. وبان للكبر في صفحة وجهه 
غضون في الحبين وحول العينين» وذبول الخدين. م 
أرئح منظره . ولك حرصت على ألا يبدو في وجهي 
أثر تما في نفسى. .. ولاحت مث نظرة إلى القارورة 
الممتلئة للنصف فرمقتها بنظرة غريبة. وذكرت كيف 
تراءت لعيئيّ في الزورة الأولى فقلت لنفسبى: لسك ما 
يسارع الفساد للإنسان! وكان يتلفع 57 يدر 
وقاية من رطوبة انريف في تلك الساعة من الأصيل . 
ولم يداخلنى ريب في أنّه مفعم حمرًا حبّى قمته. 
فساورني القلق» وتساءلت عا دهاني من جئون حتى 


قمت مبذه الزيارة الى لا رجاء منهبا. وجعل ينظر 
صوبي باهتامء أو لعلّه حت استطلاعء فعجبت لذلك 
اللقاء الغريب بين أب وابنه بعد افتراق عمر كامل. 
وتساءلت في نفسي في دهشة وعدم تصديق عا يقال 
عن الحبٌ بين الآباء والأبناء. ولم أدر بطليعة الحال 
كيف أبدأ الحديث» ولكنّه أخذ يتكلم فأنقذي من 
حيرق. وقال بصوت غليظ : 

كيف حالكم؟ مات جدّك! كان رجلا لطيماء 
وأحفظ له ذكريات لا بأس بها على رغم ما كان, 
ولك لم أشهد جنازته وهو ما لا يغفره كثيرون» على 
أن الأقييان ل مدن سد فى آن انشتى مي 
الواجباث. والشيخ والطفل سيان في ذلك؛» ولا 2 
من ناحية أخرى أن جنازني لا ينتظر أن يشيعها أحد 
اللّهمّ إلا عم آدم البواب. ولا يبعد أن يشغل علها عم 
آدم نفسه بتفتيش جيوي وسرقة ما يظنه بها من نقود. 
هل تشيّع أنت نعثي؟! 

2 

دهمني سؤاله بعد قلق استحوذ عل بتأثير لهجته 
الثملة. فأيقت أن مهمّتى ستكون شاقّة محيفة» ولكي 
بادرته قائلا : 

أطال الله بقاءك! 

فقهقه شا كا ف انلك د فقد ضروسهء. فساءنني 
منظره وضحكه واستدرك قائلا : 

دكا انمق بولد بات تحيل هذا ان حت أباله 
ولعو نلك يطول لعهر زالر5 لاضع بدن لتاقل :1 
يكن الى منها نصيب واأسفاه» ولو أوتيت قدرًا من 
الرناة نظا من" الضدر لكف الآن من اغنياف اليلد 
المعروفين» مثل عمّك قاتله الله ألم تر إليه كيف لم 
يقنع بما ورث من مال لا تفنيه النار حيّى استائر باخيك 
مدحث - ذلك الثور فزوجه ابئنته؟! ولقد ظبنته يوما 
سيعتئق مذهب الطلاق كأبيه ولكنه يبدو خانعًا 
كالنساء. وانقلب فلاحًا مزارعًا يشارك القطعان 
معيشتهاء ولعلّه يحلم بثروة عريضة بعد موت عمّه, 
ولكن خاب فأله. فلزوجه أخوات ست كلهنْ مطمع 
الفحول من عشّاق المال والنساء! ولذلك أقول إنّه من 


+١ السراب‎ 


التعاسة أن تنجب بنات. هذا عار كبير مها قالوا إن 

الزواج نصف نصف الدين!! إلا إذا كان النصف الآخر هو 

الطلاق!. .. دثم غير لهجته». . . لماذا لآ تطلب يد 
إحدى بنات عمّك؟! ألا تعلم بأنْ ميراث الواحدة 
معن لا يقل عن مائة جنيه كل شهر؟ ولكن دعنا من 
هذا كله واسمح لي أن أنظر في وجهك قليلا فإن لا 
أكاد أعرفك. ما شاء الله أنت 0-0 
الشاربء لاذا لم ترسل شاربك؟. .. ثم إنك رجل 
حميل؛ ولكنك نحيل مهزول بو كفايتك 
من الطعام؟ عار أن يكون شاب في مثل سنّك نحيلا . 
ومع ذلك فيا طا من سعادة أن يرى الأب ابنه رجلا 
خصوصا إذا كان يراه 00 ألا ترى أني 
ثلاثة ولَكبى وحيد مهجور. 
السك ناخلا عل سق : » لأنه من السعادة أن تبقى 
وحيدّاء وما من مرّة خلرت بإنسان قط إلا وافترقنا 
خصمين» وهم يقولون عادة إني لمخطىع. وأنا أقول 
إنْم لمخطئون, فالله يفصل بيننا يوم القيامة. لا 


أب عجيب؟ لقد أنجبت 


تدهش إذا سمعتني أقتبس من القرآن! فَإئما النضل في 
ذلك إلى الراديوء ولقد باعدتٌ بي وبين الدنيا ولكن 


الدنيا تَأى إلا أن نفتحم علي داري في الراديو. أهلة 
أهلً. أنت ولد بارّ يا كامل» ولكن ينبغي أن تعتني 
بصحّتك.» وتأخخذ كفايتك من الطعام حيّى تسمن. ألم 
نترك حدك تروة؟! 

كنت جرعًا يائسًا لا أدري كيف أطرق الموضوم 
الذي جئت من أجله في ضوضاء تلك الترثرة التى لا 
ضابط طاء واشتد جزعي ويأسبى حين رأيته ‏ في أثناء 
ثرثرته - يملأ كأسًا جديدة. ولك انتهزت فرصة طرحه 
السؤال الأخر وقلت بلهجة لا يشوبها شك : 

- م يترك جدّي شيثًا على الإطلاق. . 

فهرٌ رأسه الأصلع الأحمر كأنه يقول «هذا ما توفعته, 
ثم قال : 

- مرنّب عال» ذرَيّة قليلة» معاش ضخمىء ثم لا 
يترك شيئاء كان رحمه الله مقامرّاء والمقامر يفضل أن 
يخسر نقوده على المائدة على أن يكنزها في المصرف؛» وما 
ون ااال اد وين باصت الس ولسثت 


9 السراتب 


ألومه لأني بدوري شرّيب سكيرء والفرق بين المقامر 
والسصيرء أن الأول عملّ يضارب ويخادع ويكسب 
ويخسرء أمّا الآخر فنظري يحلم ويحلم ويحلم. إذا 
طمع المقامر في الثراء قامر بثروته في اللعب فيخسرها 
على الغالب» ويمني نفسه بتعويض خسارته فا يزداد إلا 
خسارًا حبّى إذا مات لم يترك شيئّاء يترك دَينًا ثقيلا: 
والغريب في الأمر أنْ المقامرين جميعًا يخسرون ولا 
أدري مَن يربح إذن! أمَا الشريب فإذا طمع في الثراء 
وجده محضرًا بين يديه دون أن يكلفه ذلك أكثر من 
ثلاثين قرشًا ثمن قارورة كهذه. أتقول إِنَّ ذلك محضص 
وهم؟! ليكن» وهل ثمّة شيء في الدنيا إلا وهو وهم 
وخيال؟! أين جِذّك؟ . . . كان جذك حقيقة ملموسة 
فاين هو الآن؟ شَّمْرُ للبحث عنه فلن تجد له أثرًا. 
فتش عنه في البيت. وفي المقهى. وني النادي» بل 
انظر في القبر نفسه. وهاك رقبتى إن وجدث له أثرّاء 
فكيف يكون حقيقة! رحمه الله! وماذا فعلتم بعده؟ أما 
زلت طالمًا؟ !| 

فقلت وأنا أداري حنقي وجرعي بابتسامة باهتة : 

- تعيّنت موظَهًا بوزارة الحربيّة ! 

فرفع كأسه ضاحكا وقال: 

- نحب مستقبلك! ما شاء الله! أسرتنا مجيدة ولكن 
ليس بها من موظف واحد. فأنت الذي تشقّ طريقها 
إلى الحكومة ! 

ولم أتمالك أن قلت بضيق : 

- لست إلا موظًا صغيراء وليس لي مرب يذكرا 

فرمقني بنظرة توجس من تحت حاجبيه الأشيبين 
وقال بغير مبالاة: 

- لا تجزع. الصغير يكبر حتًا. قضت حكمة الدنيا 
أن الصغير يكير والكبير يصغر. . والطاهر أن الله 
خلق ثروة محدودة واحدة؛ لا يتغير مقدارهاء ويتغير 
حظ الناس مماء وإلا فلاذا لا يثرى الناس حميمًا؟ 
فاصبر يا بن ولا تشغل نفسك بالتفكير في المال. 
التفكير في المال مهلكة كادت توردني في يوم من الأيام, 
إفي أعجب لاذا يحب الناس المال هذا الحبٌ الكبير! 
لست في حاضري من عُبّي المالء أنا لا أحبٌ إلا 


الخمرء ولو أحبٌ الشاس حيعًا الخمر كما أحبّهاء 
واستهانوا بالمال» لأمكن حل مشكلة الدنيا بكلمة 
واحدة. تصور معي بلدا سعيداء يشطرونه شطرين 
فيشيّدون المساكن على اليمين والحانات على اليسار 
والحكومة في الوسط. ولا يكون للناس من واجب إلا 
أن يشربواء هذا بلد يريح ويستريح,. ألا تشرب يا 
بي؟ كلا!. فاذا تعتنق من الشرور؟ إن قيمة المرء 
الحقيقية فيا يعمل من شرًء هبني مت غدًا ولم أكن 
سكيراء فا عسى أن يقول عثّي الناس؟ لا شيء! أما 
وأنا شرّيب فسيقولون حتمًا: «كان شرَيبًا سكيرا». بل 
ولو كنت أَتَصَدَّقُ مالي هذا على الفقراء لما ذكرني أسحد 
بكلمة. الناس ينسون الخير بسرعة ولو كانوا من 
صنائعه, فالشىء الوحيد الذي يخلّد ذكرك هو 
الشر. . . ما رأيك في كلامي هذا؟! 

ولى أجد من الإجابة مفرّاء فقلت: 

- يجب أن نخاف الله ونطيعه. . . 

فأمن على قولي مبرّة من رأسه المستدير بدت هزليّة 
واستدرك قائلا ' 

دعندقت ام هاس" الوعود:. ما والله" لر كان عقا 
ما يقولون عن الله فإنّ مصيرنا لأسود! بيد أنَني عظيم 
الثقة والاطمئنان» وما أفقد ثقتي وطمانينت إلا إذا ساء 
هضمي . هنالك تبدو الدنيا عابسة كالحة | وذْلك لان 
أومن بأنْ الله لا يعذب عباده. كيف أصدّق أنَّ ما 
عظيًا سبحانه يحرق مخلوقًا مثلي لأنّه أحبٌ الخمر؟! ألا 
يعجبك كلامي؟ أنكت آنستنا. أرى الملل فى وجهك. 
ترى ما الذي دعاك إلى تذكّر أبيك بعد نسيان العمر 
كلّطر 0 

وخفق قلبي. ولم أعد أطيق السكوت. ولعلّه م 
يكن من الفطنة أن أطرق موضوعي أثر ذاك السؤال. 
َكب قلت في عدم تبصر : 

- أراني في ضيق شديد. وإذا كانت الظروف السيّئة 
قد فرقت بيئنا فإِنْك أبي على رغم هذه الظروف 
السيكة, 

وقهقه ضاحكا فكرهت منظره للمرّة الثانية . ثم قال 
بلهجته الهاذية التى تنزع من سامعه أيّة ثقة فيها يقول: 


معك حقٌّ. الويسكي هذا حكمة غالية» إِنْه 
كالدنيا في مرارته» ولكنٌ الحكيم الحكيم من يستطيبه 
ويألفه كما يستطيب الحكماء الدنيا ويألفوهاء ويل لمن 
يجزعون لمرارته أو يقيئون. لن يصيروا إذن مع الحياة. 
قلت يا ب إن معك حفًا. يعجبني والله حسن تمهيدك 
ولباقتك. تقاطعني' محتارًا ثلاثين عامًا أو ما يقارب 
هذاء لا تؤاحذني على الخطأ لأن الحساب لا وزن له 
عند الشديب فليس حتًا أن يساوي واحد وواحد 
القين: «وعو» واحيذا ماوق .عدر » فلت إتف 
تقاطعني عمرًا ثم تجيئئي معتذرًا بجملة لطيفة. على أن 
أقبل العذر, ول لا؟ الحقٌ لا آسف عل مقاطعة الناس 
لي. أمّا الضيق الذي تشكو فأمر يمني جدًا. فيا 
يضايق ابني يضايقني بالتاليء» فاذا تعني يا بني؟ 

حدق لقني بالذهاب لأني لم أجد في ذاله الهذيان 
فائدة ترجى. بيد أني نبذت الفكرة في احتجاج 
وغضب. وعرٌ علّ أن أنكص على عقبي بعد أن 
أقدمت على م انذيت عليه. واستب 9 قواي . 
وبذلت فوق ما أحتمل عادة ني مقاومة الحجل 
والارتباك وقلت بصوت منخمض : 

- أريد أن أتزوج! 

وعاد الرجل السكران إلى قهقهته الكريبة. ثم قال 


اله 





ما بال أسرتنا لا تنجو أبدًا من هذا الداء 
الوبيل؟! إِنَّ أختك لم تطق صبرًا حيّى أختار لما بعلا 
كا ينبغي فهربت مع رجل غريب وتروجته. وهذا 
أخوك ما كاد يشب عن الطوق حبّى كان راقدًا في 
حضن عروسه. ولا أبِرَئْ نفسي فقد حاولت أن أكون 
زوجًا مرّة وأخرى وثالثة: أنمجبٌ بها من أسرة! ولعلك 
تحتاح مالا ليتم لك ما تريد من زواج؟! لو اسحيدك 
هذا فالزواج وإن كان داء ىا قلت إلا أثنا ننفق عليه 
أموالا طائلة؛ وفي هدا وحده الدليل الماطق على -جنون 
الإنسان! ولعلّك جئتني وحمّلت نفسك ما لا تود من 
رؤيتي لتسألني مالا تزفٌ به إلى عروسك... لا 
أستبعد هذاء ولكن من أين لي بالمال الذي تريد؟ هل 
«قالوا» لك إن غني ميسور؟ لا أنكر أني أتمتع بدخل 


السراب ا 


شهريئ مقناره أريعون جنيها غير أجرة الطابق 
العلوئ. ولكن لا تغيينَ عنك نفقاتي» إليك الطبّاح 
مثلا فهو يسلبني عشرين جنيهًا كل شهرء وإذا خطر لي 
أن أراجعه مرّة دوخ دماغي بحساب طويل ل١‏ أفقه عنه 
شيئًا. وإليك الخمر أيضًا فَإِنّه يلزمني منبا زجاجتان ني 
اليوم أو ما يزيد على خمسة عشر جنيهًا في الشهرء وما 
يبقى بعد ذلك لا يكاد يفي بالضرورات الأخرى 
كالكساء والتدخين ورواتبت الطباخ والبوؤاب والخادم 
وأجرة العربة التى تجوب بي بعض الشوارع القريبة كلما 
سئمت طول المكث في البيت. ليس لى من رصيد في 
المصرف. حتى إتي أعالج سوء الهضم بالوصفات 
البلديّة. لا تسألبي مالا يا بي وإنٍ أقول هذا آسفا 
علم اللهء ولكن لاذ لا تتزوج كما تزوج أخوك من غير 
أن يبذل مليًا واحدًا؟! وإن احترمت نصيحتي فلا 
تتزوج على الإطلاق! 

وحدجني ببغيره الزائخ , فدا لي فظيعا ا لم 
استخرج علبة سجائره, وأخخذ سيجارة وأشعلها وراح 
يدحنها بتلدّذ. وجعل يراقب دخان السيجارة بعينيه 
الخابيتين. فخيّل إل أنه نسيبي. ثم وقع في نفمي أنه 
يعذبنى ! وملأنى الحنق. ولكني بقيت على حمودي. 
وازددت إحساسا باليأس والثيية, وساد النصمت لل 
م التفت نحوي. وألقى على نظرة لا معنى لا. ثم 

ألا تدخن؟ 

وعدنا إلى الصمت. آلا يجدر بي أن أذهب؟ا 
وتونّبت للمبوض لولا أن لاح في وحهه ما جعلبي أنظر 
إليه بدهشة واتزعاج . بدا متعبًا وتفصّد جبينه عرقًا 
ودارت عيناه في أنحاء المكان وكأئها لا تريان شيئًا. 
ورأيت نخحدّه الأيمن فيها يتصل بفمه يرتعش ارتئعاشة 
شيئًا محيًا لا أدري كهه. ولكن لم تطل به تلك 
الحال. النسط وحدهه وعادت إلى عيئية الحياة الطفيفة 
الخوف الغامض . وعاودتبي أحاسيس الياس وألنيية 


54 السراب 


والكراهية. ثم تأمّلت بعين الاستغراب الحقيقة المائلة 
أمامي » وهي أنْ هذا الرجل هو أبي الذي أوجدني في 
هذه الدنيا ودعت هذه الحقيقة حقائق أخرى جما ينصل 
ها بدت في صور محسوسة؛ فساءنيٍ منظرهاء والمني 
وأحزنني. ولبشت هنيهة من الألم في شبه ذهول, ثم 
تهدت على غير وعي مني بصوت مسموعء وتنبه إلي 
وسألني للمرّة الثانية : 

ألا تدخن؟ 

فهرزت رأمي سلبّاء فقال في تكم : 

- نِعُم المتى أنت! لا عيب فيك إلا أنك ترغب في 
الزواج! حدثني عن زواجك أهو رغبة عامّة؟ أم هو 
رغبة خاصة في بلت من بئات حواء؟ «هنا خفق قلبي 
بعنف وكادت الدموع تسارع إلى عينيّ): هذا ما يبدو 
لي؛ ترى كيف الحبٌ هذه الأيام؟! لا شك أنّه لا يرال 
حتفظًا بخطورته وقوته في خبداع البشر! ومع ذلك أكرّر 
عليك النصيحة بألا تتزؤج على الإطلاق. هذه نصييحة 
رجل بجرّب. الزواج سخرة. تصوّر أن امرأة تملكك 
ودع ما يقال من أنْك أنت الذي تملكها فهو كذب 
سمج » تنهك قواك وتسلبك مالك وتستبدٌ بحريّتك ثم 
تستدرجك لاستعباد روحك وما تملك لرعاية شخصها 
وأنائها فإذا مت سعت إلى رجل غيرك قبل أن تمت 
دموعهاء الزواج شيء سخيف لم أحتمله أكثر من ليلة 
واحدة! 

ترئح قلبي نحت وقم الطعنة التى نفذت إلى 
صميمةء ونِذت عني عل رغمي آهة من الأعباق. 
فنظر إل في شبه بلاهة. ورمقته بنظرة ناريّة حي 
حادثتني نفسي بأن أقذفه بالقارورة في وجهه. ولكبِي م 
أكن الرجل الذي ينفُذ مثل ذلك الخاطرء» وشعرت 
بالقهر لعجزي؛ وبرعبة في البكاء قاومتها ما وسعني 
الجهد, وسألبى في دهشة : 

- هل آلمتك يا بي؟ 

فبضت قائا في حنق وصحت به: 

- السلام عليكم. . . 

تم ندمت على إفلات هذا السلام مي في اللحظة 
التالية. وغادرت المكان لا ألوي على شيىء ثم 


خلصت إلى الطريق عحطم النفس والقلب والأمل . 
وقطعت الطريق إلى المحطة وأنا أسبٌ وألعن وأتميّر 
غيظًا وحنمًا: «لم أحتمله أكثر من ليلة واحدة!». 
رباه!. . لو أن ألف صفعة ألهبت قفاي في ميدان 
عموميّ لما آذتني كما آذتني تلك العبارة! وبلغ مث التأئّر 
مذاه فازدحمت الدموع بعييّ» واستسلمت للبكاء 
مستخفيًا بالظلمة البي تغشى الكون, ليس ثمّة فائدة 
ترجى منه. موته وحده بيده أن يغيّر وجه حياق! أجل 
لا أمل البثّة إلا في موته. واستقللت الترام وشرودي 
المعهود ينفس عن كربي بأحلامه التائهة. فرأيت نفسى 
جالسًا مع مدحت وشقيقتي راضية نتقاسم ميراث أبي 
بعد وفاته!! واقترحت عليها أن نبيع البيت الكبير 
فوافقاني في الحال وأصبحت في غمضة عين مالكًا لألف 
جنيه! ولم يكن في الحلم أثر لأمي ! فقابلت والد حبيبتي 
وفانحته بشجاعة عن رغبتي في مصاهرته وتم كل شيء 
دون عراقيل! وشعرت بارتياح خفف من توثّر أعصابي 
الذي أورثُدنيه تلك الزيارة المخيفة الفاشلة. بيد أن 
تذكرت بسرعة كيف أن الحلم لم يجعل لأمّي وجوداء 
وسرت في بدني رعدة حوف وتقرّزء وتقلص قلبي 
امتعاضا وندمّاء كيف سمحت لهذا الخاطر الشيطان 
بأن يلوث نفسي مرّة ثانية؟! ولازمني الامتعاض 
والغضب طوال الطريق. وجعلت أردّد في نفسي: 
«اللْهمَ بارك لي في عمرهاء. ولم يغن عي ذلك شيئًا 
فعدت إلى البيت مورّع النّمس مشثت البال» ول يرتح 
لي جانب حّى طبعت على جبينها قبلة طويلة حارّة. . 


58 

وفي عصر اليوم التالي ذهبت إلى محطة الترام لأفوز 

بدقائق السعادة التي لا يجود اليوم إلا بها. لم يعد لقاء 
الصباح بالمتاح إلا فيها ندرء وذلك منذ غدت حبيبتي 
جالسة في الشرفة تحادث شقيقتهاء فوقفت متطلّماء 
منتظرًا زادي من نظرة عينيها الذي يمذنى بماء الحياة 
وانعطف الرأس المحبوب نحوي. ولكنّه ما كاد يران 
حتى حول عثّ فيا يشبه الحذة. ثم مبضت قائمة 
وغادرت الشرفة. خفضت بصري ذاهلا وقد نبا 


حماسي وفتر. ما الذي أغضبها؟ ألم تحتمل جمودي؟ هل 
يقفى عل بالحرمان من نظراتها الحلوة؟ هل قرّرت أن 
تقابل حمودي بالاعراض والتجاهل؟ رتولاني المحزن 
والقنوط والمفجل. كان موقفي لمحجلا بلا ريب» ثم 
خطر لى خاطر بردت له أطرافيء وتساءلت فى خوف 
أيكون لأحد الرجلين اللذين ينافساني في الاعجاب بها 
شأن بهذا التحول الحديد؟ لكن صم هذاء فاذا يبقى 
لي في الحياة؟! خريني يا حبيبتي بحقٌ شبابك الريّانء 
أهي جفوة عطف خانه الصير أم إعراض قلب ظفر 
بمبتغاه في ناحية أخرى؟ لن أنسى بؤس ذلك اليومء 
ولا الأيّام التى تلته. احتفت حبيبتي من أفق حياتي» 
وتحامت الظهور بالشرفة حين أكون في المحطة. وفي 
مرّات التلاقي النادرة في الصباح حرصت ألا يقع 
بصرها علّ. رحث آكل الشرفة والنافذة بعينين 
ا أضناهها التطلع . وكنت أرى الأمّ أحيانًا وهي 
ترمقني بنظراتها المتفخصة. والأخ وهو يلقي عل نظرة 
غريبة. والشقيقة الصغرى وهى ترميني بنظرة اهتيهام » 
أمًا حبيبتى فقد توارت». تاركة وراءها شجرة الحياة 
عارية, قشورًا صفراء وعروقًا ذابلة» ربّاه! ليس هذا 
بعدم اكتراث» لو كان عدم اكتراث حمًا لما أوجب هُذا 
الحذر كله ولوقع عل بصرها كرا يقع الّفاًا على 
المخلوقات والأشياء بالطريق. ها تتجنّبني عامدة 
قاصدة, إِنْا غضبى بَرِمّة» ولا شك أنْ قصّة الفتى 
الذي بدو محا قد ملأت البيت. ولا شك أنْ حموده 
الغريب كان موضع تعليق ونقد واستفهام! كيف فاتني 
أن أقدّر حرج حبيبتي وحيرتها؟ وتنبّدت من الأعباق, 
وتنذّى جبيني خجلا وامتلأت سخطًا على حظي 
التعس» وامتدّت ألسنة سخطي إلى مي المتوارية وراء 
كل شىء! وانطويت على كدر كأنما سفت ريح 
الع غبارها على نفسي. فلم أججد ذاتي هدمًا 
لسخطي وكدري وغضبي» وهي عادة قديمة لي إذا 
ضاقت بي الدنيا أن أوسع نفسي نهدا وفكاء وكقنا 
عن عيوها ومناقصهاء فعدت إلى التنديد بعجزي 
المطلق. وخوفي الشامل من الدنيا والناس وكافة 
المخلوقات الأخرى. وذلك الكرياء الكاذب الذي 


السرات ى 


يجعلني أصول وأجول في البيت بسلا داع حي إذا 
اصطدم بأحقر موظف في الدولة القلب 0 ونحنوعاء 
استسلمت لذاك التفكير الحزين طويلًا حبّى بدت لي 
نضبي قطعة من البشاعة والموان. إني شخص لا 
يستحقٌ أن يعيشء إن أتفه الأعبال يملأني ذعرًا 
وجفولاء حي تنيت أن يكون لزيادة الماهيّة طرين غير 
الترقية كي لا أجد نفسي أبدًا مسئولًا عن عمل كبير, 
ولن أنسى أثني بذلت قصارى جهدي حيّى وكّلوا بي في 
إدارة المخازن الآلة الكاتبة تفاديًا لأعيال حقيرة لا تعدو 
الضرب والجمع والطرحء لست إلا مخلوقًا غريبًا شد 
على قافلة الحياة الحمّة» ومن آي ذلك أن لا أحفل 
بشيء في الدنيا إلا نفسي وما يتُصل بها من قريب؛ 
ومن آى ذلك أيضًا أ لا أقرأ الجرائد على الإطلاق! 
ولشد ما كانت دهشة زملائي من الموظفين عظيمة حين 
تبيّن لمم انْماقا أني أجهل اسم رئيس الوزارة وقنذاك 
بعد أن مضت أشهر على توليه الحكم وراحوا يتندّرون 
بجهل كثيرًا وأنا صامت كظيمء وكأن لست من هدا 
المجتمع. فلا أدري شيعًا عن آماله وآلامه. قادته 
وزعيائهء أحزابه وهيئاته , ولكم طرقتٌ أذني أحاديث 
الموظفين عن الأزمة الاقتصاديّة وصوط أسعار القطن 
وتغيير الدستور فلم أكن أفقه لما معنى أو أجد لما في 
فى عدي اتوك ال وذ عع لا لان اميق 
الوطنيّة ولكن لأني لم أدركها بعد! ولعلى أشعر أحيانًا 
بأني أحبٌ الناس جميعاء الناس كتبيء معنو عام 
ولكن ما كان أحد من هؤلاء الناس - إذا انُصلت 
أسبابه بأسبابي ‏ إلا ليثير في نفسى الحفاء والنفور. 
وحتى إيمانٍ العميق لم يستطع أن يستنقذني من هذه 
الوحشيّة المخيفة. فضلًا عن أنه أثقل ضميري بالقلق 
والتأنيبء وأوسعنى إحساسًا حادًا بالحطيئة من جرّاء 
العادة الممجئونة التي استبذت بي... 

لذلك إذا كان جاء يوم الأحلام انطلقت إلى حانتي 
الجديدة بسوق الخضر لا ألوي على شيء. وطلبت 
الدورق الجهنميَ الذي لم يعد لي عزاء 7 ! 


5 السراب 
59 

كنت واقفًا في المحظّة قبيل المغرب» لم آل أن أتطلّم 
إلى الشرفة والنافذة» ولكنّ حبيبتي ل ترق لي منذ 
جفتني . قاطعتني مقاطعة قاسية؛ وأضنت حياتي كندا 
وكان الشتاء في إبّانه: وفي السباء سحاب جون 
انعكس ظله الثقيل على الأرضء وهبّت ريح باردة. 
وقفت ملتمًا في معطفي الأسود. أرفع للبيت المحبوب 
قن 1ن لاقو انقم مر ا جاتشاه بوعل فين ناه 
سمعت صونًا رقيقا يقول: 

من فضلك يا أستاذ. . 

فالتفتٌ ورائي بدهشة, ولكنّ دهشتي تضاعفت 
ومازجها خحوف كثير حين رأيت أمامي أحد الرجلين 
اللذين اتهمتهما بحب حبيبتي؛ ذلك المرجل الوقور 
الذي يقطن في عمارتها وغمغمت بارتباك : 

- أفندم؟ 

فقال بصوته المادئ الرقيق» وبلهجة تنم على 
الوقار: 

فتساءلت بحيرة وإن .حدس قلبي اشر : 

لماذا؟ 

فقَال مبتسما: 

ب لدي أمر أودٌ أن أحذثك عنه. . 

فلم أجد مناصا من أن أقول: 

ين 

فقال وهو يرفع بصره إلى السماء : 

- الجوٌ بارد جذدّاء فهلا وافقت على أن نستقلٌ الترام 
إلى ميدان إسماعيل» وهناك نجلس في مشرب الشأي 
نأحدّثك دقيقتين؟ ألديك مانع؟ 

وركبدا ونزلناء وجلسنا. حذّثتني نفسبى سلفًا 
بموضوع االحديث» وداخلبيى إحساس 5 بيد أن 
شعوري بن الحديث سيدور حول حبيبتي حملني على 
الذهاب معه بلا تردّد. بل وبرغبة لا تُقاوم. ولكتي 
تساءلت طويلا عا هو قائل؛ وعًا يرمي إليه من وراء 
حديئه. وألقيت عليه أوّل نظرة من قريب ونحن 
جالسان حول مائدة صغيرة. كان في الأربعين» معروق 


الوجهء دقيق القسباتث صغيرهاء وكان يحلل أصبعه 
بخاتم ذي فص ماسي. ويضع على عيئييه نظارة 
سميكة أحذّت من نظرة عينيه» ويعيث بسلسلة ساعته 
الذهبيّة المدلاة من عروة صدارته. سألني بأدب عم 
أفضله من المشروبات» ولمًا لم أحر جوابًا طلب شاياء 
ثم قال: 

اعذرني عن تطفْلٍ هذاء ولكنّك ستقدّر موقفي 
بلا شك إذا علمت بما حداني إلى دعوتك. واسمح لي 
قبل كل شيء أن أقدّم لك نفسي . . محمد جودت مدير 
أعيال بوزارة الأشغال. 

ووقعت كلمة «مدير» من نفسى موقا مرؤعاء 
فقلت: ْ 

تشرّفنا يا بك. . . 
بوزارة الحربية . 

وجاء النادل بأقداح الشايء. ولكئي كنت أفكر في 
الفرق الكبير الذي يفصل بيننا كموظفين. هو مدير 
أعيالء وأنا كاتب على الآلة الكاتبة بإدارة المخازن . 


أنا كامل رؤبة لاظ موظف 


ولحت وراءه مرآة مثبتة في الجسدار.ء ورأيت صورق 
معكوسة على صفحتهاء فنظرت إلى وجهي المستطبل 
وعيني الخضراوين. وسرعان ما سرى عنىي شعور 
بالارتياح والاعجاب! أما صاحبىي فقال لي : 

- يا أستاذ كامل. إن دعوتك لمشاورة أخويّة, 
وأرجو أن تقذر رغبة رجل مثل ‏ اعتبره أنحاك الأكبر - 
في التفاهم الصريح. لست بالمتجئي على أحد. ولك 
أرجو أن نكون صرحاء! 

واصطنعت الدهشة وقلت: 

- أرجو أن تفصح يا سيّدي عا تريد وستجدني 
رهن إشارتك. . . 

فضحك ضحكة قصيرة خافتة» ثم قال بعد تردد 

- أتصفح عب إذا سألتك سؤالا ليس لي حقٌ في 
نوجيهه؟ 

ربّاه إني أتلهقف على سماعه: أجل إن أوقن بأنّه لن 
يبحمل لي نبأ سارًا ومع ذلك بدا لي كأشهى المبى. قلت 


مبتسم| في ارتباك : 

حك سرروي ا بلقاي 

فارتفق المائدة شَابكًا أصابع يديهء وقال: 

لاحطت أنّك تبدي اهتمامًا خاضًا بشخص ماء 
ولعلّك أدركت من أعني «هنا خفق قلبي خمقة عنيفة؛ 
فلا تؤاخذني إذا سألتك عن حقيقة اهتيامك هذاء هل 
هناك رغبة أو نيّة أو صلة؟ ! 

أوشكت أن أتظاهر بالدهشة. وأعلن تجاهلي. 
ولكئّى عدلت عن ذلك في اللحظة التالية. طالما التقث 
عينانا في المحطة. وطالما رأيته يراقبني وأنا أتطلع إلى 
الشرفة» كما رآني أراقيبه وهو يسذد عينيه لنفس 
المدف» فهو يعرف كل شىء, ويعرف أنْني أعرف. فيا 
جدوى التجاهل إِلَا أن يكشف عن كذبي؟ فقلت 
متكلّمًا انسامة كاذية : 

حضرتك أخطأت الفهم. فقدّرت أن أبدي 
اهتمامًا بشخص ما على حين أني أنظر إليه كا أنظر إلى 
سواه. إثها محض عادة سيئة! 

وضحكت متظاهرًا بالاستهانة, فابتسم إلّ. 
وقرأت في عينيه عدم التصديق ثم بادرني قائلا : 

- إنك جتلان كا قدّرت. فأرجو أن محري 
صراحة هل لك بالآنسة علاقة ما؟ إذا أجبتني 
بالإيجاب شددت على يدك مهدئًا وانصرفت إلى حال 

فقلت وقلبي يتقطع ألمًا. 

- ليس لى بها أيّة علاقة. . 

فتردّد لحظات ثم سأل في حرج غير قليل: 

- ألم تفكر في طلب يدها؟ 

تناوبتني أحاسيس متباينة. شعرت أوؤل الأمر 
بعذاب لا يوصف. ثم داخحلي سرور خفي لأني أيقنت 
أن الرجل الذي يخاطبني رعديد مثلى وإلا لشن طريقه 
إلى بيت حستي دون أن يعباً بي. بل أيقنت أنه 
يخافني. فأرضى ذلك غروري إرضاء قف عتى بعض 
ألمي . ثم وجدتني مدفوعًا إلى الادّعاء والكذب بقوة لا 
تقاوم فقلت بيقين : 

- لو فككرت فيا تقول لما منعني مانع من طلب يدها 


السراب 1" 


من زمن طويل! 

وساد صمت. ومضى يتفرّس في وجهي وقد تألقت 
في عينبه نظرة ارتياح. أي مانع يمنعني؟ يا للسخرية! 
إن كل شيء يبدو كحلم غريب. هل حقًا نحن تكلم 
عن حبيبتي» وهل حقًا أن لم أفكر في طلب يدها وليس 
لي من رغبة في ذلك. ربّاه ما أشدٌ عذاي! وتلكنى 
سور انان ١‏ أقعي باه مون سيان لجان 
باليأس. وأخيرًا خرج «البكم من صمته قائلا : 

- أكرّر المعذرة عن تطفل. الحقٌ أن نيّتى قد 
ؤفك خرن عل للليدين الامنة بعد انا انهه 
طريقي أسباب صدّتني طويلا عن التفكير في الزواج؛ 
وبدا لي أن أحذئك به حتّى لا أضع رجل في غير 
موضعهاء والآن لا يسعني إلا شكرك. 

نه من فصيلة العجزة ‏ لهكذا حدّثني قلبي - إلا أنه 
صادف من هو أعجز منه؛ فهو سعيد الحظ بلا ريب. 
فلم يعد لبقائي من مسوّغء فنيضت مستاذنًا في 
الانصراف وأنا أقول : 

- مبارك يا سيدي . 

فض في أدب» وبسط لي راحته؛ وشدٌ على يدي 
بامتنان فخلته يشْدٌ على عنفى» وشعرت نحو السرور 
الضاحك في عينيه بحقد ناريّ» ثم ودُعته وغادرت 
المغرب. وساقتني قدماي على غير هدى فماستسلمت 
هياء لأنّه لم يكن لي غاية أقصدهاء وأخذت نفسًا 
عقيفا وقلت لنفسي : «الحمد للهو. وأعدت القول 
صو سحن كان أهى نفسى ! ولعل كت اعد 
نفسي حمًا على اليأس. وأمنّيها بالخلاص من القلق 
57 واللهفة التي لازمتني منذ أشهر طوال. أو مئل 
سكن الحبٌ قلبيى. وقلت لنفسي أيضا: «إنٍ سعيد, 
وليس أحقٌ متي بالسرور أحدء انتهت آلامي إلى 
الأبد!» وخخيّل إل أنْبي لو ألقيت بنفسي من جسر الملك 
الصالح ‏ كما كان ينبغي أن أفعل في يوم مضى ‏ 
لحلّقت بدل أن أهوي من شدّة السرور! ذقت لذَّة 
الياس في سرور هذيان غربب». ومرّت بي لحظات 
جئونية . والآن علمت لاذا توارت عن عيني؟ ! فأحذت 
أفيق من بشوتي الحنونية الكاذبة. ثم نشبت في قلبي 


44> السراب 


أنياب الغيرة السامّة. أيمكن أن يتم ههذا حمًا! م 
أستطع أن أصدّق هذا. لاذا؟... رتما كان مرجم 
هذا إلى ثقتي التي لا تتزعزع في الله الرحيم ورعايته, 
ولكن من كان يصدّق أن ينتهي بنا الحظ إلى الحال التي 
عيش عليها! وتنبدت من الأعماق في يأس مرير» ثم 
سرت في جسمي رعدة من البرد القارص الذي تنبهت 
إليه لأوّل مرّة بعد مغادرتي المشرب فأحكمت المعطف 
حول نفسي خوف البرد لكثرة ما يتهدّدني الزكام في 
الشتاء. :والمية بي رغبة غريبة» هي أن أجد نفسى 
طريح الفراش!... وتخيّلت بارتياح رقادي تحوط به 
العناية والحئان! وعلى حين فجأة انمارت أعصابي تحت 
الضغط الشديد الذي تحملته فوجدت ميل لا يقاوم 
إلى البكاء» فاستسلمت له متَشْجمًا بالظلمة التي تلفي 
وبكيت؛ ثم ازددت استسلامًا فاجهشت في البكاء حب 
انتتحبت وشهقت كالأطفال, 


7 
في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي كنت في 
طريقي إلى الحلميّة» إلى أبي. كيف انتهيت إلى هذاء 
خاضّة وأنّه لم يكد يمفي شهر على الزيارة المخيعة! إِنّه 
اليأس. . قضيت ليلة مسهّدة معدبة لم يغمض لي فيها 
جس. وتفكرت في أمري طويلًا حتّى سمت لي 
الأفكار شخوصًا تصرخ بي أن اذْهْبٌ إلى أبيك. مهما 
كلّفك الأمرء وليكن ما يكون. ولم يكن التردّد بممكن 
في مثل حالتي, لقد فقدت رشادي. وأذهلني الآلى عن 
مشاعري الطبيعية بالتردد والخجل والخوف فكان أبي - 
على رغم كل شيء - الأمل الوحيد الباقي لي . 
واخترت أن أزوره في الصباح لأ أملت أن أجده 
قبل سكره في حال خير من تلك البى وحدته عليها في 
الزيارة السابقة المشكومة. وفضك عن هُذا كله فلم 
يكن بي من صبر أستطيع أن أنتظر به حيّى الأصيل. 
فتلفنت إلى إدارة المخازن معتذرًا ومضيت لطيّتى, 
وكان الصداع يدق غلاف رأمى بمطرقته. بعد ليلة 
سهاد وَهُم. بيد أني تماسكت. واستمددت من يأسبي 
قوة لم أعهدها في نفسي من قبل. وبلغت البيت بعد 


العاشرة بقليل فوقف لي عم آدم احتراماء فحيّيته 
ودخلت بلا طلب استئذان» إِمَا لأني أبيت أن أستأذن 
في دخول بيت أعدّه بيتي. وإمًا لأني تناسيت ذاك في 
قلقي وغْمّي. ومضيت إلى الفراندا وارتقيت السلّم 
متنحنخحاء ولكنُ وجدتها خالية. فوقفت مرتبكا. 
وأدركني آدم فدفع بايا يفضي إلى الداخل وسبقني وهو 
يقول : 

- كامل بك حضر. 

وتنحى لي» فاجتزت العتبة بقدمين ثابتتين. وجدت 
نفسي في حجرة كبيرة مستطيلة تنتهي ببابين في الجدار 
لمقابل علقت بيهما صورة بالحجم الطبيعيّ لأبي في عر 
شبابه. وقد غطيت أرضها ببساط نفيس منمنم. 
وصّفْت على جانبها الكنبات» وأسدلت الستائر عللى 
نوافذها وأبوامها. . ورأيت أب متربَعًا على كنبة تتوسّط 
الجناح الأيسر للحجرة» وأدوات الشراب أمامه على 
ملضدة أنيقة كأنها- لعدم انفصاها عله عضو مس 
أعضائه. ولم يكن بمفرده. كان الحلاق على كثب منه 
يجمع أدواته في حقيبته. ثمّ حيّاه بأدب وذهبء وعلى 
أثر ذهابه تراجع عم آدم وردٌ الباب. واتجه بصري وأنا 
أقترب منه صوب القارورة فوجدتها لم ا وداخلني 
لذلك ارتياح وأمل. ومددت له يدي فتناولها بكمّه 
الغليظة. وجرت على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول: 

- أهلا بكء أأنت في إجازة؟ 

لم أرتح إلى استشاله. ولكيٌ غضضت عن ذلك 
والو: أن آلام الليلة الماضية. والصداع الناشب في 
رأسي ويأسي المرير. تغلبت على ما ظبعتٌ علبه من 
حجل وخوف وتخاذل. فقلت: 

- نعم في إجازة خاصّة كي أقابلك في المال. 

فرمقني بنظرة لم يحاول إخفاء ما لاح فيها من قلق 
نما أثار حنقي وغيظي » وتساءل باقتضاب : 

- أمر هام؟ ! 

تناضيت كل شيء إلا ألمي المبرّح وأمل الباقى فقلت 
بانفعال نمت عنه نبرات صو : 


7 8 ع 
هام جداء أو بالأحرى هو حياتي ومستقيل . 


فردّد قولي دون أن مخرج من جموده. وذهوله الذي 
استحال طبيعة أخرى له : 

حياتك ومستقبلك! 

فقلت برجاء وإشفاق: 

- زواجى الذي حدّئتك عنه! إن رجلا يوشك أن 
يطلب يد الفنتاة الي أريد أن أتزوجهاء فإذا لم أتقدّم 
في التو والساعة أفلتت الفرصة من يدي. وضاعت 
حيات . . . 
أتراه قاذفي بإجابة ساخرة كعادته؟ وانقبض قلبي في 
فزع. ولكنه لم يكن هاذيًا ولا معربدّاء ومع ذلك بدا 
جامدًا سقيرًا ذاهلا. بل مينًا. كان كل شىء يسوّغ لي 
اليأس» بيد أني أبيت أن أيأس» وثبت ذهنى المكدود 
على فكرة واحدة عميت غنا عداها في السباق الجنون 
الدي أكابده. انتظرت على جزع حتّى قال: 

اطمئنٌ فإنْ حياة الإنسان لا تضيع لضياع امرأة. 

فهتفت بحرارة: 

- إن أعلم الناس بحياتي! 

فقال بعدم اكترات : 

أنت وشأنك يا بّ. لن أتدخل فيرا لا يغنيني ! 

فقلت بعناد: 

إن في حاجة قصوى إلى المال. سبق أن أنميرت 

- وماذا قلت لك؟ 

فتملكني الحلق. وبدا لي في صحوه أفظم منه في 
سكرهء وقلت مدافعًا عن نفسي بإصرار وقنوط : 

- لا بد أن أحصل على المال الذي أريد. أرجو أن 
تقدّر حرجي وشدّتيء. فإذا ضاعت مئْى هذه الفرصة 
انعدم أملٍ في الحياة , ' 

وألقى نظرة على القارورة. ثم قطب قليلا وقال : 

د أن تطليت فالا ,وليمن: عندى فال ! 

هذا غير معقول. . . 

هو اللحق الذي لا شلف فيه! 

وأيقنت من طجته واستهانته وتبرّمه أنْ السماء أقرب 
إلى إثارة اهتامه وعطفه. وتألب عل القنوط والصداع 


السراب 18 


والحنق فقلت يصوت مرتفع ملأ الحجرة الكبيرة: 

- إنْك لم تنفق عل ميا واحدّاء فاذا يضيرك لو 
تنازلت لى عن بضع مئات من الجنيهات؟ ! 

ونفخ الرجل عابساء واشتد احمرار وجهه. لم قال 
بصوت غليظ ؛ 

- يبدو لي أنك لا تفهم ما يقال. ولا تعي ما 
تقول. قلت لك ليس عندي مال... ليس عندي 
مال. .. ليس عندي مال! 

وأفلت مث زمام نفسى فكورت قبضتي وضربت 
فخذىي وصحت به: ْ 

- أليس ثمّة رحمة في قلبك؟ !| 

فحدجني بنظرة كأئما يقول لي: «لقد أعياني 
إقلاعك»., وقال باقتضاب وعدم مبالاة: 

- كلا . 

فرمقته بنظرة جامدة وشت بلا شك بأحاسيس 
الكراهية والحنق التي تفور بصدري حيّى رأيته يعبس 
ريتجهم وجهه؛ ثم صاح بصوت كا خوار: 

- ألا تريحوننى كى أعيش البقيّة الباقية من حيان في 
هدوء؟ !| 0 

فصحت به كمن فقد وعيه : 

حا أزعجنا حياتك؟ أنث الذى أزعحت حياتنا . 
إفى في حاجة لبعض الال الذي تنفقه على الخمر بغير 
حساب ولا بد أن آخخذ ما أحتاج إليه . 

فقبض على الكاس الفارغة بأصابع متشئجة وزعق 
قائلا : 

هذا كلام مجانين! أتسبّنى في وجهي؟ أتبددني؟ 
اغربٌ عن وجهي ولا تعد إلى هذا البيت ما دمتٌ 
حيًا! 

فاشتد بي الغضب وصحت بانفعال شديد: 

هذا بيتي. وما به من مال فهو مالي. ولن تمنمني 
قوة عا أريد. أفاهم أنت؟ أفاهم أنتث؟ 

فنبض قائمًا والشرر يتطاير من عيئيه» وصفق بقوة 
جنونيّة وصرخ في قائلا: 

- اغرب يا ولد عن وجهي وإيّاك أن تعود إلى هذا 
البيت آدم. . . آدم. . , 


٠‏ السراب 


وفتح الباب ودمصل عمٌ آدم كأنه في الانتظارء 
واقترب ما وهو يقول: 

- أفندم يا بك, . . خير إن شاء الله . 

وبردثٌ فجأة كأنّ «دشاء امال علّ. سكت عن 
الغعضبء وحمد اطياج. وولى قلبي فرارًا. وقبضت يد 
الخوف الباردة على عنقي فتسمّرت في مكاني مرتبكًا 
ذاهلًا زائغ اللصر. ذهب كاصل الذي اصطنعه 
الغضب والياس». وبقىي كامل الأخر كما خلقنه 
الطبيعة. ولم يرحم الرجل الحائج ضعفي فصاح 
بالبواب قائلا : 

أوصل هذا إلى الباب ولا تسمح له بالدنخول مرة 
أخرى. إِنّه يتهدّدني بالقتل. 

وحملقت في وجهه بذهول وانزعاج لا أكاد أصدّق 
أذنّ. فلاح لي في هياجه الجنونٌ كشيطان رجيم. 
وصرح ف وجهي : 

- اغرت عن وججهي . 

ولكبِّي لم أبدٍ حراكاء أو بالأحرى لم أستطع أن 
أبدي حراكاء تنيت لو تنشقٌ الأرض وتبتلعني؛ ومتٌّ 
خونًا وكمدًا وخجلًا. وانتظر الرجل عابسّاء فلا رآني 
لا أتمرّك ولاي ظهره وغادر الححرة إلى الداخل على 
حي تقهقر البوّاب إلى الفراندا. وجدت نفسى وحيدًا 
دعضضت على تسفتيى» واستعدت وعبي فاستطعت أن 
أنبض قائمًا في وجوم. ثم غادرت اللحجرة متحاميا 
النظر ناحية البواب. وحثثت خطاي في الحسديقة 
والبرّاب يشعني مغمغمًا بالاعتذار والتأسشفء مستحلا 
للبك الأعذار قائلا: «إنّه دائً) هكذاء. 

واتعدت عن البيت دون أن أنبس بكلمة. . 


إن 
قطعت نصف التهار الأول متسكعا في الطرق ممتئق 
الأنفاس من اليأس والحلق والقهر والْمَري 
والخجل. . . وعدت إلى البيت في الموعد المعتاد حٌّ لا 
تتساءل أمّي عمًا جاء بي قبله. وغلبني النوم بعد الغداء 
فاستغرقت فيه حيّى أول المساء. ثم غادرت البيت 
مثقل النفس كأنمًا أحمل الأرض على رأسى» وتساءلت 


أين أذهب؛ ف) وجدت إلا جوابًا واحدًا. نادتثي الحانة 
نداء مغريّاء واستصرخني قلبي أن ألبّي وأطيع. بيد 
نبي لم أغفل عن الحقيقة الراهنة وهي أن ميزانيتي - 
ذلك الشهر ‏ ستختلٌ حترًا بعد السكرة المشتهاة فلا 
اعد ذا اشنه هد :قفي الرننه للدي فيال ان 
النداء ظلّ عنيمًا لا يقاؤم. وبدا لي في تلك اللحظة 
التعيسة أنّْ نشوة ساعة خير من حياة لا خير فيها. . . 
وحست يدي ساعتي الذهبيّة فقفز إلى خاطري أن 
أبيعها إذا أعوزني المال. وداخلني ارئياح فنابتسمت 
لأوّل مرّة في يومي. على أُنْفى تساءلت في اللحظة 
التالية عا أقول لأمي إذا افتقدث ساعبتي, ولا بد أن 
تفتقدها يومًا؟ لكي نفشت ضجرًا وهتفت حائمًا: 
«أميء أمي. دان أمّي ! سافعل ما أشاء». واستقللت 
الترام بلا تردّد. ولي الطريق هفت على نفسي ذكرى 
جدّي لغير ما سبب واضحء فذكرت أيَام الرغد والحناء 
التي فقدتها بفقله ثم وجدتني أتمنى لو كان قبض يده 
الكريمة عيّى ونشأني على البخل والتقتير» أما كنت 
أكون أقدر على تحمل حياتق الراهئة! وقرأت الفاتحة 
على روحه المحبوبة. ثم غغنادرت الترام في العتبة 
وقصدت سوق المفضر حيت توجد حانتي المتواضعة وما 
التهيت من بزع معطفي والجلوس إلى مائدة حالية حقق 
جاء النادل اليونانَ بالدورق. حانتي شعبية بلا ريب» 
ولكتها عترمة لدرجة ماء فإلى جانب الحوذيّة والمجليبين 
تمد لمّة من الموظفين الخيرك الذين لا تسمح لهم 
ظروف المعيشة وأعباء الأسر بارتياد الحانات الغالية, 
ومن هؤلاء موظف عجوز مغرم بالغناء والطرب. ما 
بكاد يسكر حبّى يسترسل فى ترديد الأدوار القديمة 
مشل: «في العشى يا ما كنت أنوح» و«يا ما أنت 
واحشني». وم يكن صوته يخلو من تطريب وأداء يبش 
له المعلوس ويتطوع نفر منهم لترديد المذهب في انسجام 
لذيذ. أنحذت في الشرسء وكالعادة تولاني الشعور 
بالارتياح والمرح. ذلك الشعور الذي لا أجده إلا بين 
السكارى في الحانة, المكان الأوحد الدي أتحقف فيه 
من وقار الخجل والعن والحصر والقلق والمخساوف 


ونعمت بطمانيئة وسرور كأنني رد إلى أهلل وعشيرتي 


بعد اغتراب ثقيل, وقنْيت لو كان في الإمكان آلا 
أبرحهم مدى الحياة. وما لبثت أن غمصرتنى النشوة 
الساحرة. وأفعم وجداني طريًا. ولم يكن الموظطف 
الفنان قد بدأ العناء بعد. وكان يحدّث رفاقه بصوت 
مرتفع يسمعه الجالسون جميعاء. ولا بأس من أن 
يشتركوا فيه كا يشتركون في الغناء. قال : 

- تصوّروا يا هوه أنْ الطبيب يلصحني بالكفٌ عن 
الخمرا ْ 

لماذا كفى الله الش؟ 

ب وججد عندي ضغط دم وتصلبًا في الشرايين. 

- اشرب حلبة على الريق تضمن صحتك طول 
ار 

- وقال لي إذا واصلت الشراب ستهلك لا محالة . 

ب العمر بيد الله ! 

- فقلت: وإذا لم أواصل الشراب فسأهلك يومًا لا 
ممالة , 

إجابة تستاهل عليها دورق كونياك على شرط أن 

هل تصدقون أي رأيت هذا الطبيب ذات مساء 
جالسا ي سانت جيمس يشرب ويسكي؟ ! 

- وهكذا الأطباء جميعا! ينتش أحدهم جنيهك 
ويقول لك «إياك والخمرة. ويمضى به إلى سانت 
جيمس ويشرب قارورتين. .. 

واعتدل الموّلف العجوز في جلسته قليلا. وراح 
ينفر على المائدة ويهرٌ رأسه. ثم ع قائلا: «أنصف 
مبّك يا جميل». وانجهت نحوه الأبصارء وأحذت 
الحوقة أهبتها للترديد. وكنت أشرب» وأجاذب مَن 
يجاذبني الحديث. وأضحك ملء قلبي ودار رأمي 
كالعادة بسرعة. ورقصت النشوة في قلبي. وطرت إلى 
سياء السرور واللامبالاة. ومكثئت على ذلك زمئًا طويلا 
أو قصيًا لا أدري أن السكران يفقد حاسة الْزمن. 
ثم ودّعت الصحاب وغادرت الحانة ورنين الطرب 
بلاحقني. وضربت على وجهي زمنا آخرء ثم ناديت 
عربة وركبت دون مبالاة بالميزانيّة المنتحرة. وأمرته أن 
يذهب إلى المثيل. وسويت المقعد الخلفئ ومددت 


السراب الا 

سافقئ عليه في جلسة سلطنة وأئّبة غير شاعر بيرودة 
كادب : 

- إن امرأة تتشظرني في الطريق وسآخذها معي. . . 

فقال الرجل : 

- رهن أمرك يا بك. . . 

فقلت لني في سخرية إِنْ كل شيء على ما يرام. 
عربة مريحة وحوذي طيّع وليل ستار فلا ينقصنا إلا 
المرأة . ثم قلت مستسلما لداعى الكذب : 

هي سيّدة من الطبقة الراقية فهلا وجدت لنا 
طريقًا آمنًا؟ 


فقال ضاحكا: 

- أظنّ جاردن ست أمن طريق قريب! 
فهتفت به؛ 

خاب فألك؛ إن قصرها بجاردن ستي؟ 
فقال داهتهام : 


أمامنا جزيرة الروضة وإن كان الحو باردًا وآنا 
رجل عجوز لا أحتمل البرد! 

ابا مطاف ييا كام 

وشكر الرجل لي بححاسة وقد تهيّا له أنه عثر على 
كنز.ء وجعلت أضحك في سرّي واتحسس باصابعي 
الريال الذي لم يبق لي غيره حتى باية الشهر. ومر زمن 
ثم رأيت العارة المحبوبة ‏ عمارة حبيبتي - تقترب. 
ودبت في قلبي يقظة غريبة وعلقت بها عيناي. لم أعد 
أملك حرّيّة النظر إليها ‏ وكان كل عزائي ‏ بعد ما 
كان بيني وبين خطيبها المرتقب! لم يعد بوسعي أن 
أتطلّم إلى الشرفة أو النافذة. ترى هل خاطب سعادة 
مدير الأعمال أباها؟ هل صارت حبيبتي مخطوية حقاء 
ألم تذكر المحبٌ القديم ‏ الصامت العاجز ‏ وهي تنتقل 
إلى دنياها الجديدة؟ ألم تجد نحوه شيئًا من الأسف؟ 
وشعرت برغبة في الانتقام من الدنيا جميعاء وتولانيٍ 
إحساس بالذهول والانقباض فلبئت جامدًا حيّى بلغت 
العربة شارعناء فأمرت الحوذيّ بالوقوف وغادرت 


ب السراب 


العربة» ونقدته ثإنية قروش فتناولها في دهشة وتمتم 

- والمشوار الآخر؟ 

وانطلقت مني ضحكة خافتة على رغمي ومضيت 
إلى حال سبيل. وارثقيت السلم في تشاقل وتعب. 
وفتحت الساب بمفتاح في جيي ورددته بلا حذر. ثم 
سرت إلى حجرة اللوم وأنرت الكهرباء فوقعم بصري 
على أمّى وهي مستسلمة للوم عميق يلم عمقه على 
الجهد الذي تبذله في يومها الشاقٌ الطويل. فوقفت 
لحظة أتفرّس في وجههاء ثم هتفت بها قائلا: 

ننه 

وفتحت عينيها وهي تغمغم : 

داهن ادو كامل! 

فقلت سدوء واستهانة : 

د إن اسكرات.: 

ماد ال وجني دراج بات مسحي 
الفواقن راضيظ رات :وقالت: 

للق ترعبني بدعابتك . 

تقلع يدو الا 

- ليس في الأمر دعابة على الإطلاق» لقد شربت 
دورقي كونياك أوتار. 

وانزلقت من الفراش. واقتربت مني بارتياع وعيناها 
لا تتحؤلان عن عيقّ حتّى شعرت بأنفاسها تتردّد على 
وجهي. ثم امتقع لونها وقالت بصوت متهدج : 

- لم فعلت هذا بنفسك؟.. كيف تطيع الشيطان 
بعد أن تبت إلى الله؟ 

فلم أنبس بكلمة. واشتدٌ بي الذهول» واستدركت 
هي تقول : 

اخلم ملابسك. . . دعني أساعدك , , , 

وراحت تنزع عب ملاسي وأنا صامت ذاهل . لاذا 
فضحت نفسى على ذاك النحو الغريب؟ 0 م أكن في 
حالة سكر يتعذّر معها ضبط نفسى» بل من المؤكّد أنني 
رجعث في ليال سابقة في حالة أشذ سكرًا فها أحدثت 
صسكراء وما تهاونت في حدري كي لا تستيقظ من 
نومها. فا الذي دهاني تلك الليلة؟ والأعجب من هذا 


وذاك أننى كنت خالي الذهن حيّى بعد أن دخلت 
الشقّة» ولم يغب إلى خخاطري أن أوقظها إِلّا عندما وقع 
بصري عليهاء فلبًا أن لبت ندائي قلت ما قلت بلا 
تردّد ورتما بلا إدراك ولكني كنت مدفوعًا بقوة لا 
تقاوم!... ول أستشعر ندمًا وقتذاك» وجعلت أتفرّس 
ف وجهها الحتألم وهيى تنزع ملاسي جامد الاحساس 
متحجر الشعور. ثم ابتعدت عنها صوب المشجب 
فتشاولت البيجاما وارتديتها صامبّاء وصعدت إلى 
فراشي واندسست تحت الغطاء... واقتربت مئ. 
ووضعت راحتها على جبيني؛ وسألتني بصوت مرتجف 
النيرات : 

يه الشكن كينا هل أصنع لك قهوة تسند رأسك؟ 

فقلت لها؛ 

- شكرًا. لا أريد شيئًا على الإطلاق . 


دنا 

مضى عل تلك الليلة وما حلفت من شجن 
أسبوع. أو أكثر لا أذكر وكنت قد انتهيت من عملي 
البومئ وجلست أنتظر موعد الانصراف في ملل 
وعم وقيل البناقية لكايه يقليل تلاعت إن 
التليفون فاننقلت إليه في دهشة لأنه لم يحدث قبل هذه 
المزة أن طلبنى أحد بالتليفون ولأنني لم أكن أنتظر أية 
مكالمة تليفونيّة إطلاقا. ووجدت المتحدّث شقيقي 
مدحت وقد قال لى باقتضاب : 

والدنا توق احضر إلى الحلميّة. . . 

وعقدت الدهشة لساني فلم أزد أن قلت: 

سأحضر في الخال. 

وأعدت السّاعة إلى موضعها ولبثت واقفًا في 
مكاني. واتجهت نحوي الأبصار وسألني الزملاء عم 
هناك؟ فقلت في ذهول: 

مات 55 

وتلقيت التعازي كالمعتاد. وما لبثت دهشتي أن 
استحالت خوفاء لأنْ الموت يخيفني دائمّاء وغادرت 
الوزارة وانطلقت صوب المحطة. مات أبي إِذْنْ! هذه 
حقيقة لا شك فيها. وأخذت أفيق من وقع الدهشة. 


وأستشعر نسائم ارتياح عميق تمهفو على نفسى! بيد أن 
صوورقه تالت لعييّ في وضوح بصلعته المستديرة 
ليله الفائية ».ريستل إن للنظة. أن | متتسيع :دراه 
الأجش وضحكته الساخرة. ترى متى مات؟ وكيف 
مات؟ ألا ما أغرب الموت! . إِنْ الموت لا يتخل عا له 
من نعواصٌ المأساة حبّى في حال رجل كأبي عاش جل 
عمره عيشة الأموات بعيدًا عن الدنيا والناس. فعيشة 
الأمواك كىه.والموث انمه قي آخن: :وطرعت عل 
نفسى هذا السؤال : ان يحرن لموت أبي؟ . . . 
مدحت؟ راضية؟ بدا لي أنه سيغادر الدنيا غير مودّع 
بحزن أو أسبى. وبدا لى ذاك ماساة أفظع من مأساة 
الموت نفسها. أليس مستئكرًا أن يحيا إنسان في هذه 
الذنيا أكثر من سبعين عامًا ثم لا يترك وراءه رائيًا! 
وجدت عند ذاك عطفا وحَرْنًا! وإئهبا لعاطفة غريبة لم 
تختلج له في صدري من قبلء ولعلّها كانت وليدة 
الارئياح لا الأبى. لأنه في مثل حالتي قد تود النفس 
بالحرن لتداري سرورهاء أو لتعيّر عن هذا السرور 
بطريق ملتويى ولعايكا عاطفة صادقة أفصحت عن 
نفسها 0 ذهبت - بموته- العوائق التي كانت 
تعتاقها. مضيت إلى الحلميّة؛ ولمَا أقبلت على البيت 
القندي رايف لقا مق الآمرة تدرف مدا هال 
الكرامي الخيزران» يتوسشطهم رجل وقعت عليه عيناي 
أوّل مرة وعلمت أنه عمي بعد ذلك وكان: ملحت 
يجلس إلى بمينه ويليه زوح أختي. وسلّمت واجمًا مرتبكًا 
حيّى مبض شقيقى ومغضى ب إلى الحديقة وقال لي : 

كاف وونا قافا قن الورولكق اعرون كل هد 

فسألمه ؛ 

للاذا لم تستدعني قبل ذلك؟ 

فتدبد مدحت وقال: 

كنا في شغل شاغلء ولولا أنْ راضية ذهبت 
بنفسها إلى أمّنا فجاءتا معًا لما علمتٌ حي الآن بالثير. 
ألا تدري ماذا حصل؟ لقد تلقيت برقيّة في الصساح 
الباكر من عم ادم يطلب إل الحضور توًا لأنْ والدي لم 
يعد إلى البيت منذ ليلة أمس. فحضرنا جميعًاء وأخيرنا 
عم أدم بأنْ والدنا غادر البيت قبيل غروب الأمس وأنه 


السراب و 


لم يعد على خلاف عادتهء وانتظره الرجل قلقًا حي 
قبيل الفجر ثم أرسل لنا البرقيّة في الصباح الباكر؛ وأنا 
أعلم أنْ والدنا كان يحلو له الخروج من آن لآن عند 
الأصائل. وهو تمل- كما تعلم ‏ فيسير قليلُا على قدميه 
ثم يستقلٌ عربة تنطلق به حيثا انمق ثم يعود إلى البيت 
بعد ساعة أو ساعتين» ولكنه لم يحدث أبدًا أن قضى 
اللبل خارج بيته. ولدلك أثار غيابه قلق الرجل 
وأوقعئا في حيرة شديدة. ولم نكن نعلم له من صديق 
أو جهة. ولكن وقع في ظنّنا أنه ربما يكون ذهب إلى 
راضية فمضينا إليها ولكتها لم تكن رأته صذ مفارقتها 
البيت. ولم نشأ أن نضيّم الوقت سدّى فاتفقنا أل 
تذهب هي إلى أمْنا من باب التقصّي. وأن نستفسر ‏ 
اناا وعدن عه نقتم القامة. .قساف الخيننا 
الباشجويش أنْ حوذيًا جاء إلى القسم أمس يحمل 
رجلا له أوصاف أبينا وقد فارق الحياة» وقال الحوذيٌ 
إن استقل عربته في ميدان باب الخلق وسار به كرغبته 
في تجاه الأمام. ولا أراد أن يستفسر منه عن وجهته 
بالتحديد في أثناء الطريق وجده كالنائم» وناداه ليوقظه 
فلم يغن عنه النداء. فأوقف العربة وانتقل إليه وهرّه 
وه تله الهافارن لاه نم لمن ان 
يحمله إلى القسم. وقد قبضوا على الحوذيّ على سبيل 
الاحتياط. وحمل أبي إلى القصر العيني حيث اتضح 
موه ميتة طبيعية بالسكتة القلبية. وانتقلنا إلى القصر 
العيني فأدخلونا إلى بهو الحلث المشرّحة, . 

وسكت مدحت وقد لاحت في عينيه آي الأآلم 
والتفجع , ثم استدرك في شبه ثورة مكتومة : 

يا له من منظر!... لا أدري كيف عرفنا 
أن ايع كان شيكا آخرا 

واغرورقت عيناه بالدموغء ولم أكن رأيته إِلَا 
ضاحكًا فاشتدٌ بي التأثّر وطفرت الدموع إلى عينّ. 

ولزم الصمت حيّى استعاد رباطة جاشهء ثم أخبرني 
بما نم الاثفاق عليه من تشييع الجنازة في الساعة 
الرابعة» ثم قال لي : 

إِنّه رافد الآن في مخدعه فاذهب لتلقي عليه النظرة 


الأخيرة . . 


6 السراب 


وخفق قلبي خفقة عنيفة» وتملكبي خوف شديد, 
ولكجّي لم أستطع رفع بصري إليهء وم أجد مناصا من 
التظاهر بالترحيب بفكرته» فاتجهت صوب الفراندا 
متعرًا في خوني وارتباكي» وارتقيت السلّم مزدردًا 
ريقى فلمحت شقيقتي ولمحتني في وقت واحدء 
والظاهر أثْها أخيرت أمَي بحضوري فجاءت على عجل 
وقابلتني في الفرائدا وسألتني في قلق عن وجهتىي. 
فقلث؛ 

رلك أن أرى أبي... 

فقالت برجاء وإشفاق ٠‏ 

هلا عدلت عن هذا يا كامل؟. . . إِنْ قلبك 
أضعف من أن يحتمل مشهد المنتقلين إلى رحمة الله. . . 

وتنبدت في ارتياح» وارتفع عن عاتقي حمل ثقيل . 
لم يكن ما بي شيء غير الخوف. وهل يستطيع أن يواجه 
الموت في أبشع حالاته وأفظعها قلب تتولاه الرجفة 
حيال ثأر أو خنفساء؟! ورجعت إلى الخارج وجلست 
بين عمّى وأخي صامتاء وقبل الموعد المحدّد لسير 
الحتازة بنصف ساعة أنحذ المشيّعون يتوافدون عليناء 
فجاء بعض الجيران وموظفو إدارة المخازن بالحربية؛ 
ولمًا لم يكن لأبي معارف. لم يكن لعمّي أصدقاء في 
القاهرة» فلم يزد عدد المشيعين على عشرين. وقال 
عمّي متأئْرًا أنه سيحبي ليلة المأتم في بيته بالفِيُوم . ثم 
أزفت اللحظة الأخيرة. وارتفع صوات أختي راضية 
مزق الصمت الثقيل فاهترٌ قلبي تنا ودمعت عيناي . 
ولم تلبث أن انتظمتنا الجنازة. وغشيتني بادئ الأمر كابة 
ثقيلة استتارها في نفسى منظر النعش» وظِل الموت. 
ونا عارو رقن كرابت عد رو رانة ن ١‏ وات 
الغشاوة تنقشع والسكينة تعاودني. واسترقت النظر إلى 
من يحيطون بي فرأيت وجوها هادئة» وأخرى باسمة 
لسبب أو لآخرء فسُرَّي عبّى وثابت إل نفبى. وذكرت 
بغتة كيف كنت أسير في الصباح صوب الوزارة خالي 
الذهن مما يترصّدني من أحداث اليوم. وكيف أسير 
الآن وراء النعش فعجبت لخياتنا الغريبة. وخيل إل 
في تلك اللحظة أنْ الحياة تبرز لسائها في شطارة وتهبكم 
مغرقة في الضحك! ثم ساءلت نفسى عن أي الحالين 


أفضلء حال الصباح أم حال المساء؟! ولم أستطع 
مقاومة موجة رقيقة من الارتياح والسرور! على أن 
شعوري الدييّ العميق احتج احشعاا ضارخا ويث 
في حناياي الخنوف والقلق فتعوّذت بالله من الشيطان 
الرجيم . ورحت أتهررب من إحساس السرور والارتياح 
الذي يلاحفني . فقطبت متجهًا وأنا لا أدري» ولكن 
دون جدوىء فسرعان ما هزأ عقلٍ ببذه المحاولات 
الصبيانيّة وانطلق يفكّر في الثروة المنتظرة. وذكرت ما 
سبق أن حلمت به من بيع البيت» فتساءلت: ترى 
هل يتحمّق الحلهم؟ هل أصبح مالكًا لألف من 
الجنيهات ونيّف؟ ولكن هل تلكا منافسى في اتحاذ 
الخطوة الحاسمة أم قضي الأمر وليس ثمّة أمل! أتكون 
الثروة المنتظرة وسيلتي للسعادة المرموقة, أم تكون أداة 
جديدة من أدوات القدر التي يستعملها في السخرية 
من المخلوقات الضعيفة! لقد سخضر من فقري 
وعجزي.» وإِنه لقادر على أن يسخر من ثرائي وقوتي» 
لبي أني على الحالتين مقضئ عل بالحسرة والتعاسة! 
وفتر حماسي وخحمد. وعراني وجوم وقلق. ودعوت الله في 
رجاء وإشفاق أن يجعل فتاتي من قسمتىي ونصيبي . . . 

وانتهيت من أفكاري على توقف سير الحنازة أمام 
الجامع. وأدخل النعش للصلاة عليه. على حين 
انفصل عنًا المعزون مشكورين. ثم أودع النعش سيارة 
الموق. وانطلقت بنا وبه إلى الأمام. وانتهى 
المطاف., . . 

واجتمعت الأسرة ليلا في الحجرة الكبيرة التي 
قابلت فيها أبي لآخر مرة. فجلست وعمي وشقيقي 
وزوج أختي في جانب منها وجلست أمّي وأختي 
وزوجتا عمّى وأخي في الجانب الآخر. وكان عمّي 
رجلا عمليًا وقد ذكرني مظهره بأبي ‏ فتحدّث عن 
الإجراءات الواجبة لإثبات الوراثة واقترح أن يقدمنا 
إلى صديق له في وزارة الأوقاف ليبسّر لنا قبض مرثباتنا 
الشهريّة. وتحدّث أخي مدحت فقال إِنه يرى أن نبيع 
البيت ما دام أحدنا لا يرغب في سكناه» ووقع رأيه 
من نفسبى موقعًا حسنا لم أحلم به. فوافقت عليه 


بحياس نسيت أن أداريه» ولم تمانع راضية» وقال 
0 ْ 

- إنه بيت قديم ضحم لا يغري إلا شاريًا مثريّاء 
يهذّه ويشيّد مكانه عمارة كبيرة على طراز حديث؛ على 
أنه لا يمكن أن يباع بأقل من أربعة آلاف جنيه. 

أربعة آلاف. آه لو يكون منافسي تآخر! وكبر علي 
أن أنصور أن يخيّب الله رجائى 00 حقق أحلامي 
على هذه الصورة الباهرة» إِنْ ثقتي بالله لا حدّ لها وهو 
الخبير المطلع. ولاحت مبّي التفاتة نحو أمّي فوجدتها 
صامتة غارقة في أفكارها وقد ارتفع حاجباها الخفيفان 
وانفرحت شفتاها عن أسنانها الصغيرة اللامعة» ترى 
فيم تحلم! وما حقيقة مشاعرها حيال المتوق؟. . . هل 
أعادها هذا البيت القديم إلى عهود حياتما المنطوية! 
وشعرت نحوها بعطف وحبّء ثُمْ ذكرت الأفكار التي 
تتملكني فداخلني إحساس بالقلق والخوف. , 

ونا اقترب الليل من منتصفه اقترح أخي أن نبيت 
ليلتنا بالبيت: لكنّ أمّي آثرت أن نعود إلى بيتنا على 
أن نرجع مع الصباح. وبذلك غادرنا البيت القديم 
وسرنا جنبًا إلى جنب صوب المحطة» وحذلتني في 
الطريق قائلة : 

أما كان الأفضل أن تبقوا على البيت. 

فقلت بدهشة : 

- وماذا نصنع به؟ . إنني في أشدّ الحاجة إلى نصيبي 
فق لعل 

فقالت : 

حسبك راتبك الشهرئء أما هذا القدر الكبير فيا 
أدري والله ما حاجتك إليه! 

ترى هل استشعر قلبها حوفا! وساورني القلق 
والاستياء. واختلست منها نظرة ولكبّي لم أتبين في 
الظلمة ما يبدو على وجههاء. وواصلت حديثها قائلة في 
لهجة تنم عن الإشفاق: 

إبّاك وأن تفرح لموت أحد! لا تذكر أباك من الآن 
نصاعدً! إلا دعوت له بالرحمة. ف) أحبٌ لك أن تست 
لموت إنسان مهم| كان هذا الإنسان! 

عجبت لهذا الكلام يلقى علّ من الفم الذي بت 


السراب وب 


فيّ المقت لأبي. لكن لم يخطر لي على بال أن أذكّرها 
مبذه الحقيقة العجيبة . ثم عدنا إلى بيتنا دون أن ينبس 
أحدنا بكلمة . , , 


0 

لم أعد الفقير المعوز الذي كنت». رفع عن كاهلي 
عبء الحاجة والترمان. غدوت ذا دخل لا بأس به 
غير الثروة التتى ستوافيني في خلال شهر أو شهرين. 
ولكن مسن جنون لم يكن لي به عهد. جنون محبٌ لا 
يقعده الفقر! كان لي من الفقر رادع يحدٌ من طموحي. 
ويجعل من -حبى حسرة طويلة منطوية في ذات نفسى. 
لذلا ضايف اترهة سيان لنافسى عله دتشرد كدر 
مكابرة» وانطلقت في الطريق أنشج كالاطفال» فنا 
فل الفقر غدا الحبٌ مطممًا غير محال. فتناسيت 
العوائق الأخرى» وركبني جنون جديدء. جنون من 
تبدو له السعادة ممكتة. ولا حول بينه وبينها إِلَا أن 
يتغلب على خجله فيقتحم سبيله ويجرّب حظّْله. لزمت 
المحّة طويلُا في عصر اليوم التالي للوفاة» وجعلت 
أتطلع إلى النافذة المحبوبة برغبة جنونيّة» ما عدت أرى 
حبيبتي : وما أدري إن كان الذي أحثى قد وقع. ولئن 
كان فلن أغتقي حمق الزوق::إلا: ليث الزعاف: .ولك 
هبها لاحت وراء النافذة فيا عسبى أن أصنع ! هل 
تواتيني الشجاعة على أن أومئ لما بطرف حفي . . . 
لشْدٌ ما ينقبض قلبي خوقا وجفولا!... لست من 
ذلك في شبىء... لو كان بي ذرّةَ من شجاعة 
اتتجمعه انهه القوازة دون هزه ول ااه لقان 
البك وعرضت عليه ما يجول بخاطري. هل يعد هذا 
من الخطورة بحيث يستدعي كل هذا المنوف؟ وهبه 
على أسوأ فرص قد اعتذر من عدم القبول» فلماذا أعد 
هذا الرفض أسْدٌ من الموت وأقتل من القتل! . . . لماذا 
لا يكاد يجول بسخاطري حي أتصبّب عرقًا ويتنرّى قلبي 
5 صدرى! يا لله!... أما يتروج الناس كل يوم 
بالعثرات والمكات!... كيف يتلمّس الأزواج 
الوسائل ويقتحمون السبل! ليس بيني وبين مبتغاي إلا 
أن أطرق هذا الباب. فإِما سعادة الأمل أو راحة 


ب السراب 


اليأس» بإلام أتردد وأحجم؟ إِنَه بيت وليس بحصن. 
وإني طالب زواج ولست بعدوٌء فلاذا أحاف كل هذا 
الخنوف! ليست غايتي أن أغغزو قارّة ولا حيّى أن 
أخوض معركة. ليس المطلوب أن أكون بابليون أو 
هانيبال: لا يعدو الأمر أن أقم نفسى. وأن أعرضص 
فال هرانا قوط باارضاية الى مناه قات من 
مضيف كريم» ثم ليكن الجواب ما يكون فم يجاوز 
على أسوأ حال الاعتذار الرقيق. .. قلت هذا لنفسي 
في يسر وتأنيب: ولكن ما إن نسم لي الخيال حي 
التهب مث الحبين واشتذت ضربات قلبيى وأحسست 
رعدة تسري في أطرافي» وحضرتبي بغتة ذكرى ساعة 
الخطابة المشئومة بكلّيّة الحقوق التى طوّحت بي بعيدًا 
عن الجامعة, فتنبّدت من الأعباق في قنوط قاتل. إن 
الإقدام فوق طاقتي. ورتما كان بوسعي أن أقضي العمر 
على هذا «الطوار» باكبّاء أمّا عبور الطريق وَطرّق 
الباب فيا لا أستطيع» وبلغ مب الملع أن انقلب القلق 
الذي يساوري حمى تحرق القلب والرأس» ثُمْ انقضت 
أيام قلائل عشتها فيا يشبه الهذيان» نسيت الثروة التي 
وقعت عل مد حماسي للحياة والأمل. وتركّز 
تفكيري في شُىء واحد لا يتحول عنه. جعلت أدور 
حوله دون أن عل الذنو منهء أو أستطيع الابتعاد 
عنه. ووجدت على أمَي وجذا لى أحاول إخفاءه. 
فقلت للفسي في حنق بالغ : لولم أخشها لبعثتها تخطب 
لي وتكفيني شر الحمى التي تسعر في كياني. 

متى تنقشع هذه الغمة؟ لم أكن لأرى لما من خباية 
لولا حادث عارض! كنت عائدًا من الحلميّة. فنزلت 
في العتبة حين الغروب. وصعدت إلى ترام الحيزة 
الذاهب عن طريق الروضة كالعادة. وكانت القاطرة 
مكتظة بالججمالسين والوقوف. فرحت أتزحزح حي 
أسندت ظهري إلى باب مقصورة الدرجة الأولى. ول 
غادر الثرام الميدان بقليل سمعت نقرًا على الباب 
فأدركت أنْ أحد الراكبين يستأذن لفتحه فابتعدت عنه 
قليلًا دائرًا على عقبي لأفسح للقادم طريقّاء وفتح 
الباب عن وجه أعرفه. رامق أمامي حبيبتي دون 
غيرها! وثب قلبي وثبة عنيفة زلزل لها صدريء وغبت 


عن كل شيء في الوجود إلا هذا المنظر البهيج الذي 
ارتعدت له جوارحي فرحا وخوقاء ورفعت إلى وجهي 
عينيها عرضًا فالتقت عينانا لحظة قصيرة. وبدا لي أنْها 
تردّدت قليلا على عتبة المقصورة. ولكن لم يكن وراءها 
موضع لقدم فغادرت المقصورة على رغمهاء والتمس 
بصرها فيها ورائي مكانًا تقف فيه ولكن كان تكتّل 
الواقفين متماسكاء فاضطرّت أن تحتل الموضع الذي 
كنت شاغله وأسندت ظهرها إلى البابء ووقفت 
أمامها بمسكًا بمقبض الباب؛ على مرمى الأنفاس متهاء 
هي هى دون غيرهاء جادت مها السباء لتبل جوانحي . 
من اللحقائق ما هو أعجب من الأحلام» وهذه أعجب 
الحقائق. ماذا بي؟... ترى أهذا سرور أم خوف أم 
وقدة نار؟ لولا دقة الموقف وشدّة حيائي لطاب لي أن 
أبكي! غبت عن كل شيء. فلم أعد أحس للناس 
وجودًا على تكتلهم. و<ثّى حبيبتي نفسها لا أذكر لون 
فستانها ولا ماذا كان بيدهاء يبدو لي أنْ للقلب بصرًا 
إذا اشتدٌ تفرّسه غطى عل بصر الأعين فينقلب 
الإنسان أعمى وهو بصير - ولا أدري كيف واتتني 
الشجاعة فاسترقت إليها النظرء ورأيتها فخفق قلبي 
غير رحمة وهييء لي أن وجودى هو الباعث على هذا 
التودّد الفاتن وذاك الارتباك المليح. وتنبّدت على 
رغمي فتموجت خصلة من شعرها لوقع أنفاسي. 
ورفعت إِلّ عينيها ثم خفضتههم| بسرعة فرارًا من عينئ. 
آه. .. عثرت أخيرًا على مَن يفرٌ مئي!. . . وشاعت في 
رأسي نشوة ألذّ من نشوة اللثمر وأحمى . وركبنيى جلود 
لا عهد لي به فتبّتَ على وجهها عيقٌ في جسارة 
خارقة. بل هي بالنسبة إل جنونية. ثم وثبت إلى 
شعوري رغبة عريبة أن أنطلق وأن أبوح بما يضغط 
أنفاسي, وازدردت ريقي في ور عصبيّ عنيف. 
وجعلت أتحفز وأتوب في قلق وهياج نفسيّ مرؤع, 
وأيّدني الحنون الذي يضطرب في روحي. ودفعني ما 
عانيت في الأيّام الماضية من لطفة قلق وقنوط ثم تملكني 
إحساس يشبه إحساس المتحر إذا تجمع للوثبة 
الأخيرة» وتحرّكت شفتاي بصوت تحرج همسا قائلا: 
- أريد أن أقول لك كلمة. . , 


رباه. ..! ترى هل بلغ سمعها؟... أجلء . 
رمقتنى بعين دهشة وقد تورد وجهها ورمشت عيناها! 

ومرٌ وقت قاس غليظ. جف حلقي وتوالت 
ضربات قلبي في سرعة علف. أيَة هاوبة أوردنن 
جئوىي؟ لقد هوى المنتحر وجاء دور الاستغاثة. ممع 
ذلك داخلني ارتياح عميق لأنِي زحزحت أضخم سد 
اعترض حياتي. تكلّمث, نطق الححر ولو بعد حين» 
لن أموت على أيّة حال وسرّي دفين صدري. ولكنّ 
الترام لا يمهلني طويلاء وإِنّه وشيك الوصول إلى محطة 
حبيبتي » وها هي ترمي بنظرها خخلل النافذة وها هي 
يدها تتلمّس مقبض الباب لتفتحه. سينتهي كل ثىء! 
وركبئي الحنون تارة أخرى فشددت على مقيض الباب 
أمنم فتحه! من أين لي مِيْذه الجراءة؟! وبدا في الوجه 
الجميل الاستياء؛ ورمقتنيى غاضبة. فهمست برجاء 
ا 

ب كلمة وامحدة. . 

وتوقعت للحظات قاسية أن تنقضٌ الصاعقة على 
رأسي! أن تزجرني أو تنبرني فتستشير غضب 
الحاضرين... ثم عل السلام! ما بي قوة لاحتمال مثل 
هلا الموقف. ولئن وقع لأموتنٌ حيث أنا! ووقف الترام 
ويدي قابضة على الباب. ثم تحرك ثانية وهي بمكاما 
مقطبة مستاءة ولكن دون أن تبدي اعتراضًا جديا أو 
ثورة علنية! وسرت في جسدي رعدة السرور والظفر 
والجنون وخيل إل أني أتحول إلى عملاق جبّار يخر له 
الموت نفسه صريعًا بضرية واحدة. وانتظرت حت 
ابتعد الترام محمطتين ثُمْ فتحت الباب وأنا أهمسس 
«نفضلي» فدارت على عقبيها بحركة عصبيّة وسارت 
تشقٌ لها طريقًا وسط الزحام وأنا أتبعهاء واعترض 
نشوتي خاطرء ألا يكون استسلامها حياء وارتبانًا 
وتفاديًا من الفضيحة؟! ألا نحتمل أن تكون قد كظمت 
غضبها حي تصبّه عل ي الطريق بعيدًا عن أعين 
النظارة؟ وأوشكت قواي أن تخذلني. وغادرت الترام 
وراءها وأنا قلق مضطربء كانت الظلمة غاشية 
والطريق كالمقفر إلا من سيّارات تذهب وتجيء. 
وابتعدت عني بسرعة وهمت بعبور الطريق إلى الطوارء 


السراب لال« 


فحزني الإشفاق من إفلات الفرصة إلى الدنوٌ منهاء 

- معذرة. . . لا تؤاحذيني على #بحمي . . . 

- ماذا تريد؟ . . . وما هذا الذي فعلته أمام الناس؟ 

ستل 2 الارتباك. كنت أسمع صوتبا لأوّل مرة 
فهزتني به غنّة لطيفة على حدّته وغضبه وفلت: 

- أسألك المغفرة. إن أودْ أن أقول لك كلمة من 
زمن طويل ولم تتهبًا لي الفرصة إلا اليوم ! 

وشعرت بصعوبة شديدة 2 التعبير والكلام, وَبأنْ 
إحساساق الحازة نوما الإإفصاح, ووسجلتتث قهرًا 
وضيمًا . وزاد من ضيقي أءّْها ولتني ظهرها بغير اكتراث 
وعبرت الطريق إلى الطوار عّجلة. فتبعتها بسرعة 
مندفعاء وقلت : 

احضو لا لخظة واحلة. أصغي إل . كلمة 
واحدة ثم يذهب كلانا إلى حال سييله , . . 

فقالت دون أن تنظر إلى أو تكفٌ عن السير: 

- بأيّ حقّ تكلمنى يا هذا؟ 

فهتفت ددون وعي م : 

- إفي أعرفك منذ أكثر من عامين, . . ! 

ما هذا الافتراء؟ !| 

أيمكن آلا تكون عرفتني؟! يا لي من غبيّ!... ألم 
تذعن لإرادتي حص نزلنا في هذه المحطة؟! يدل هذا 
على أنْها ترغب في سباع كلمتي!. . . إن الفرصة 
سانحة ولكيّي أفسدها بالعئّ والحصر والارتباك. 
الشرات : 

- إفى أتلقف على قول كلمة منذ أشهر وأشهر. . , 
ماذا يضيرك لو أصغيت إلى؟! 

اذا لم أتكلم بدل أن أسوق هذه المقدّمات؟ اللهم 
إن أستعينك على حل عقدة لساني! وبدا لي أن حبيبتي 
فطنت نجي المميت. لم أدرك البواعث التي حملتها 
على التوقف. ولكئ رأيتها تتحوّل نحوي وترمقني 
بعينيها الجميلتين اللتين أحبّهيا أكثر من نور اليصر. ثم 
تسألبى بحذة : 


8 السراب 

- ماذا تريد؟ 
ماذا أريد؟! لم يتيشر لي القول بعد؟! ها هي تنتظر 
الكلمة التي أتعبتها في استئذان قولماء لم أكن 
أعددتها؟ وجدت رأمى فراعًا وكانني فقدت النطق. 
ناذا ينكى. أذ يقال؟ «الإحرقت ريعي اناق فق ظديه 
قنوط. ثم بدا منها ما يدل على نفاد الصبرء والتحفز 
للسيرء فخرجت عن صمتي هاتفا: 

ع ار ا ا يي 
راغب في... (وقفت عبارة و«طلب يدك» في 
زوري).. . إِنْك تفهمين بلا شكٌ. اليس كذلك؟! 
فهل يمكن هذا؟ ! 

فتأففت وقالت : 

«الأاية ان عسو :انيت هذا تقيني نذن 

وتولاني الحلع فقلت مندفعًا بلا تردّد هذه المرّة: 

- إن أفكر. . . أعني أن أرغب في طلب يدك إذا 

وتنّدت بصوت مسصوع؛ وغمرني ارتياح 
زانشيلاة 6 اتكلمقه أخيرًا ونفست عن ضدري :وليكن 
او ته 

ومضت ثانية من الصمت العميق مثل الحدوء الذي 
يعقب عاصفة هوجاءء ثم أخذث تسير في حطوات 
قصيرة دون أن تنبس فعاودني الجزع وتبعتها وأنا أقول 
كمن يستجدي الحواب : 

هذه كلمتي. . 

فقالت بصوت منخفض حيّل إل أنه بلغ أذ هادثًا 
لا أثر فيه لحدّة أو غضب: 

- لا يليق بك أن تتبعني هكذا. 

فقلت بعجلة ولوجة: 

إني استأذنتك فلا تتركيني بغير جواب . . 

فقالت بضيى : 

لست أنا الذي أخاطب في هذا الشأن! 

فخفق قلبى بعلفا وفاض به سرور لا يوصفف 
وقلت: 


- إن أدرك هذاء بيد أننى خفت أن يكون أحد قد 

هب هذا حصل. . . 

فهتفتٌ في إشفاق وحسرة: 

أأفلتت الفرصة من يدي؟ ! 

فنفخت قائلة : 
السك ين 

فسألتها وقلبي يفزع بكلّ قواه إلى التملص من 
قبضة اليأس : 

اليس ثمة رجاء؟ 

- لست أنا الذي أخاطب في هذا الشأن. . 

وتوقّفتٌ عن السيرء ولبقت هنيهة جامدًا ذاهلا. ثم 
صحتٌ وأنا أفرقع بأصابعي : يا لي من غبئ! لو أنَبا 
أرادت الرفض لا أعوزها الجواب القاطم! ألم تذعن لي 
في الترام؟ ألم تصغ إلّ منذ دقائق؟ ألم تقل لي إنها 
ليست هي التى تخاطب في هذا الشأن؟ ففيم أطمع 
وراء ذلك؟ إِنّْها دعوة متوارية لطيفة. وشاع في نفسي 


ا 
1 


سرور كالخمرء وخيّل إل أنني أترنئح كالثمل. . . 


3 


وعدت إلى البيت وذكريات الساعة الماضية تسبجع 
في قلبى أعذب الألحان. تملكني شعور بالقوّة لا حد 
له. وازدهاني الغرور والزهوء. وحييت في الدقيقة 
الواحدة دهرًا طويلا من السعادة الصافية. وقلت وأنا 
أرئقي الفيلم: «سافاتح أمي بالأمر كلهع. قلتها بل 
خحوف ولا تردّدء رثا بلا رحمة أيشاء وطرقت الباب»ء 
ففتحت لي بنفسها وهي تتمتم مبتسمة كعادتها : 

د افا نوين العازاي... 

وجدتها على الأناقة التي أحبٌ أن تلقاني بباء 
وتفرّست في وجهها الوديع الوقور المشرق بابتسامة 
الترحيب» فبدت لي خطورة ما أنا مقدم عليه. 


واعترا وجوم وخوف. وقلت لا في ترذه غابت عنها 
أسبابه وبواعثه : 

- لننتقل عبّا قريب إلى مسكن لائق, لأعيدن إليك 
خدمك وحشمك! 

فابتسمت وقالت: 

هذه أسعد أيَام حياتي لأنيٍ أقوم فيها على 
خدمتك . 

وخلعت ملابسيى». وعدت إلى الصالة فجلسنا على 
كنبة متجاورينٍ وأنا أقول بقلبي: «اللّهِمّ عونك 
ورحمتك». واستحوذ 1 القلق والحياءء إنبا مهمة 
شاقةغ غخزنة». ولكن ها منا بد واسترقت ليها نظرة 
فوجدتها آمنة مطمئئة. غافلة عنّا أضمره لماء فوخزني 
الندم. وكادت تتخلى عب قوّة التصميم. بيد أنْني 
أشفقت من عواقب التردّد والاستسلام لدواعي المْنور, 
فرميت بنفسى ف الحاوية قائلا : 

د آثاه ارين أذ أعدنلفه رادها ..... 

ورمقتبي بنظرة غريبة. خخلتها مريبة متوجسة. حتى 
حسبتها قد كشفت حقيقة الأمر كله بقوّة إلهام 
قا رشو ري اأغة تراك عمو بل هنا دور 
بنفسي؟!... أم فضحتني نظرة عيني؟! أم لم يكن 
هناك شيء مما حسبت وشبّه لي الوهم ما لا حقيقة 
له؟! أمًا هي فقالت بهدوء وتساؤل: 

ب خخير إك شاء الله , . 

وصمّمت أن أجوز منطقة الخطر دمعة واحدة فقلت 
مستشعرًا خوفًا لا مراء فيه : 

- سأتوكل على الله وأتزوج. . . 

رنْت كلمة «أتزوّج؛ في أذيّ ربيئًا غريبّاء أنكرته. 
وأخجلني كأئما تفوؤهت بلفظة جارحة معيبة! رفعت هي 
عينيها إلمّ في دهشة.» وانّسعت حدقتاهاء ولاح فيه) 
ذهول وغباء كأئها لم تفهم شيئاء لم تساءلت: 

- تتروج؟ ! 

وكنت قد تخطيت أكر عقبة فأمكنبى أن أقول: 

ْ 0 

وندّت عنها ضحكة متقطعة بالاضطراب والارتباك 
أشبهع وقالت بصوت متهذج : 


٠‏ هذا ما انتويته. 


السراب 4 


- ما أسعدي بذلك! هُذه هي السعادة حمًا. ترى 
هل جاءتك هذه النيّة اليوم؟ الآن؟ لماذا لم تخبرني قبل 
اليوم؟! مبارك» مبارك يا بيّ. 

وأزعجني تبدّج صوبماء واضطراب نبراتهاء 
وانفعاطًا الظاهرء فقلت: 

- إني أستأذنك لأني أحبّ داتمًا أن تكوني راضية 

فهتفت في طوجة : 

وهل تتصور أن أبخل عليك ساعة واحدة 
برضاي؟ يا الله أبَعْدَ هذا الحبٌ كله أجزى عنه 
بالتشككك في إخلاصي؟ . . 
فتلتني» أنسبى أنْ حياتي كلها لك؟ 

فازدردت ريقي وقلت وأنا أختلس منها نظرة قلق : 

- إني أعلم هذا وأكثر يا أماه 

فلاح في وجهها وجوم شديد وبدا عليها أثها تحاول 
عبثًا أن تضيط عواطفها: 

هذا ما يعلمه القاصي والداني وأية آم لا تفرح 
لزواج ابنها ولو كانت وحينة ليس لما سواه! هذه 
حكمة الحياة» أن أحتضنك العمر كله ثمّ أسلّمك 
شان رائعًا لعروسك. إن أبكي من الفرح . 

اغرورقت عيناها وهي تتكلم. ونظرث إل خلال 
دموعها وكأئها ارتاعت لوجومي. فقالت معتذرة : 

معذرة يا كامل» ليست هذه بدموع... إنها 
دموع الفرح . نيك أنك فجأتني مفاحأة وم تتلملف ف 
إخباري . ولكن لا داعي للتلطف. ألا ترى أني أعتذر 
بما هو أقبح من الذنب؟ ليغفر لي ذنبي ححبي الكبير 
وحسن نيت وقلبي الذي وهبتك إياه وإن لم تعد بك 
حاجة إليه... وإِنّك لتعلم بأني إذا انفعلت أقلت 
زمام لساني من يدي . إنى أهتئك بمن احترت لنفسك. 
ولكن هل نبتت هذه الرغبة الأن فحسب؟ إن لا أطيق 
أن أتصور أنك رغبت في الزواج من قبل ولم تسعفك 
الوسيلة. أكنت ترغب في الزواج من زمن طويل؟ 

فقلت وأنا أداري «ايتسامة ميتة : 

ليا آنا ها افكرك :و ذلك إل من زمن: قضبير 


حين بدا لي أني كبرت. . 


هم السراب 


فندّت عنها ضحكة هستريّة» وصاحت: 

- اسمعوا يا هوه. كامل يبدو أنه كبر! وأنا؟! لا بل 
أن عشت أكثر مما ينبغي ! 

فتأوّهتٌ قائلا: 

- أقامء إنك تحزنينيى . 

لا عاش من يحزنك. الأم الى تحرن وليدها لا 
تستأهل نعمة الحياة.. . ولكنّك تقول على نفسك 
بالباطل وتزعم أننك كبرت. يالك من طفل 
مكابر!. .. لكأني أراك تحبوء وأنت تركب منكب. 
ثم وأنت تختال في برّة الضابط وضفيرتك تتهدّل على 
كتفك . فكيف تدعي الكير؟ ! 

- ألست على عتبة الثامنة والعشرين! 

- أصغر أبنائي على عتبة الثامئة والعشرين! يا لي 

من امرأة 0 مشيئتك. ومه) يكن من 
عمرك فستكون أصغر ل وسأفرح بك فرحًا 
ليس وراءه مذهب لفرحان. ولكن ما بالك واحمًا. . 
أساءك تحر تيمم ا أني لا أحسن الكلام. ولكنّ 
الموت أحبٌ إِليّ من الإساءة إليك. . 

لفلف يقلت ل 

سامحك الله يا أمّاه. . 

فابتسمت: أي ولله ابتسمت وقالت مصطنعة 
المرح : 

- لندع هذا جانياء ولنقدم الأهم على المهم . أصغ 
إل يا كامل. تزوج بالمناء والسرورء وساخطب لك 
إذا أمرتي . 

فتردت لحظة ثم تملكني الضيق فقلت: 

- ليس ثمَة اختيارء فقد وقع امحتياري . 

فرنت إل بدهشة. ولاذت بالصمت مليّاء ثم 
شاءلت:” 

عقت دلق ؟ 

- منذ زمن يسير. . 

فلاحت في عينيها نظرة لوم وعتاب كأئما عرّ عليها 
أن أكتمها هذا الأمر الخطير. ثم خفضت عينيها في 


استسلام؛ وسألت بصوت هادئْ؛ بل هادئ جدًا: 

من ؟ 

لا أدري بالضبط. الراجح أنها مدرّسةء. وهي 
تقطن العمارة البرتقالي أمام القصر العيني . 

فعاودتبا الدهشة. وتساءلتِ : 

ألم تحدّث بأمرها أحدًا؟ 

مطلمًا! 

فتفكرت مليًا ثم م واصلت حديثها : 

- ألبس من المحتمل أن تكون مخطوبة؛ «وهنا خفق 
قلبى بعنف». . . ثم ألا تدري عن أهلها شيئًا! . 
مَن أنوها؟ 

0 أدري . 1 

- ألم أقل لك إنك طفل... الزواج أخطر مما 

تظنّ. لعل وجهها أعجبك. وهذا شيء لا وزن له. 
لمهم أن تعلم أنه فتاة هي وأيّ قوم أهلهاء وما 
مكانتهاء وما أخلاقهم. الشابٌ في الواقع يتزوج من 
أمرة لا من فردء وينبغى أن يطمئنٌ قبل أن يخطو 
الخطوة الأخيرة إلى من دير أما لأيناثة: ومن يكونون 
أخحوالا لهم . 

زتولان الأرفاف + واحممت :دين لأزل:همزة نعلت 

- أسرتها كريمة. 

- ومن أدراك؟ 

فقلت بلهحة من لا يحتمل قي ذلك جدلا : 

إن دوالق.: 

فبدا في وحهها الاستياء وقالت: 

ممدريية! إن“نقاف الأشر (النطشسنة لا يتقف 
مدرسات! والمدرّسة إما أن تكون عادة دميمه أو 


.الا يد اخلق فى هذا شك 


مستهكرة مسترجلة . 

فوخزني ألم في صميم المؤاد وهتفت بحدة: 

دنا اهن اواء :قاميدة الى" انق ل لوده نينا 
عن الدنيا التي نعيش فيهاء لقد تغيّر كل شيع ولا 
شك أنْبا فتاة كاملة ومن أسرة عالية! 

وغلبها الانفعال على هدوئها المصطنئع فقالت 


بلرفزة : 


من أجل فتاةٌ مدرّسة لا تعرف 
عنبا شيئًا! وما قصدى إلا إرشادك لا فيه خخيرك. . 

استدٌ بي الحنق. ولو أننيى استسلمت له لتفوّهت با 
أندم عليه. ولكنني ضطت بفسي وقلت برجاء : 

- معاذ الله أن أقصد إهانتك. فأرحو أل تمسكى 
عن كلام يسوؤني. . 

فدارت انفعاطا بابتسامة. واستعادت هدوءها مرّة 
أخرى» وقالت بتسليم : 

- إن ما يسوؤّك يسوؤني» وما يسعدك يسعلدني. 
ونصيحبي إليك إذا شئت أن تتقبّلها أن تعرف لرججلك 
قبل الخطو موضعهاء وفقك الله لما فيه الخير والسعادة. 

فضغطتٌ على يدها برقّة. وقلت بصوت مله 
التودد : 

إن رضاك عب بالدنيا وما فيها. . 

فابتسمت قائلة : 

سيدعو لك قلبي آناء الليل وأطراف النبار. . 

وبات«الصعة ما سر سيف لاهن التي “عند 
هذا الحدّء ولكتبا بدت مهتمّة متفكّرة كأن خاطرًا يلح 
عليها أن تفصح عنهء وخالستني نظرة قلقة أكثر من 
مرة ثم خرجت عن الصمت و«التردّد بأن قالت في 
حذر وإشفاق : 

ألا يمسن بك أن تؤجل الشروع في الخطبة حت 
يحول الحول على موت أبيك؟ إِنْ أخوف ما أخافه أن 
يقال عنك إنك خحطبت ولم) ينه الجداد على أبيك 
كأنك كنت ترصد موته على هفة؟! 

وم أكد أصذق أذني!... وبدا لي قوطا نوعًا من 
المكر المكشوف لا أحبّه ولا أطيقه. وعاودني الحلق 
والغيظ. وكدت أنفجر غاضبًاء ولكتي استمسكت 
بالصمت حي ولت العاصفة؛ ثم قلت 

- لن يتم الزواج على أية حال قبل مضي عام. . 

والتهى الحديث عند ذاك كيا تمَنيتَ» وشعرت بأني 
تخطيت أكبر عقبة في سبيل. وكان ينبغي أن أكرن 
سعيدّاء وقد كنت سعيدًا بلا شك. ولكن شات 
سعادي إحساس بالقلق طلما عذّبني في حياتي. إِنّه لا 
بفتا يطاردني حبّى في أحفل ساعاتي بالسرورء وما من 


5 داعي لإإهاني 


السراتب ام 


مرّة أجمع الرأي فيها على قرار حبّى أجد *مسه يفت في 
عضدي وينغص صفوي . . . بيد أن سعادقي هذه المرة 
كانت أجل من أن يؤثر فيها مؤثر. 


م 

وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى المحطة وبي أمل 
جديد مسكر. وكأنها كانت 0 رأبتها وراء زجاح 
النافذة معصوبة الرأس بمنديل أبيضص. واستخفني 
الفرح فابتسم مي الفم والعينان 5 وتتافق 
إليها عيناي في شجاعة غير معهودة. وما كان أشدٌ 
سروري وسعادتي حين رأيت الوجه الصبيح يجود 
بابتسامة. انتهى عهد التعاسة والحرمان» والنقشعت 
ظلمة النفس. ولاحت طلعة حبيبتى بعد اختفاء طويل 
معذّس. وصرنا أصدقاء نتسادل ابام يالا من 
حقيقة لا تصدّق! حيّى هذا الصباح كنت كنت أخخاف أن 
يكون لكلام الأمس معنى غير الذي فهمته. أما بعد 
هذا الالتظار امثير وهذه الابتسامة المشرقة فأستطيع أن 
أستسلم لنداء السعادة في صماء لا يشوبه شلك 
ذهبت إلى الوزارة كالثمل. ما أغربك يا دنيا! إِنْ من 
يتعسه الحظ برؤية تجهُمكِ لا يتصور أنْكِ تجودين بمثل 
هذه الابتسامة. وتمليت الحقيقة التي لا تصدّق. 
ابتسامة حبيبتي» فقلت لنفسي إِنَّ معنى هذا أنْ أبواب 
السماء مفبّحة تسح على قلبي هناء. ولكن لا يجوز أن 
أحمد أو أن أصمت بعد اليوم؛ وفزت بابتسامة أخرى 
عند الأصيل. وثالثة في صباح اليوم التالي» وشعرت 
بأنه ينبغي أن أقطع الجمود بالعمل الحاسم. وجاء 
صباح الجمعة بعد ذلك اليوم. فغادرت البيت في 
معطفي الأسود بادي الأناقةء ممتلثًا تصميمًا وعزمًا. 
ووجدت حبيبتي في الشرفة تتشمّس . فتبادلنا تحية 
الابتسام ثم ألقيت على ما حولي نظرة حذرة. وأوماأت 
إليها أن تنزل لمقابلتي. يا لما من جراءة! من كان 
يصدّق هذا؟ وثبت نظري عليها في إشفاق وخوف. 
ورنت إل مهدوءء ثم جرت على شفتيها ابتسامة لطيفة 
وتراجعت إلى الداخل» هل تيء لقابلتي؟... رباه 
لقد قضيت ليلة الأمس كلها في عمل «البروفات» هذه 


م السراب 


المقابلة المأمولة. ولاحت الشقيقة الصغرى في الشرفة. 
ثم تبعتها الأمّ بعد قليل» وجعلتا تنظران نحوي. هل 
تعلمان؟ هذا ما أتمئاه حي آمن خطر محمد جودت. 
وبدت حبيبي وراء النافذة وهي ترتدىي معطفهاء 
فخفق فؤادي خفقة عنيفة» وانتظرت كمن في حلم . 
ومن عحب أنْ إحسابسي بالسعادة تغيّر فجأة. فترى 
كأنه صوت جميل اعترضته سعلة. وساورني قلق لم أدرٍ 
سببه» وحيرة مؤلة كأننى أحاول أن أتذكر أمرًا هامًا 
يضِن به النسيان» ثم شعرت بخطورة الخطوة التي 
أرفع رجل لأخطوهاء فاستحوذ عل التردد والخوف. 
ونازعتني نفسى إلى الحروب!. بيد أنها كانت لحظة 
غابزة؛ ولت ع بسرعة» فاستعدت الثقة والسرورء 
وتدّدت في ارتياح عميق. ورحت أقطع الطوار محبورًا 
سعيدٌا في التظار حبيبة القلب المشوق... ثم رأيتها 
تيرز من باب الععارة في معطف سنجايّ فارعة أنيقة 
مليحة. وجاءت المحطة تخطر في خطواتها الوقور 
ووقفت بعيدًا عئى. وكانت الأمَّ في الشرفة كأئها تبارك 
اللقاء: وتفنفن. غلية'شرفا» “تشعرث د إل ستعادوع - 
بالمسئولية . ا الترام الذي سيقأناء فنظرت إليه 
بامتنان ودعوت له بالسلامة ولسائقه بالسعادة وزيادة 
الأجور! وصعدنا معّاء ورأيتها تتجه على غير عادتها 
إلى مقصورة الدرجة الأولى فتبعتها على الأثرء ولم يكن 
بالمقصورة إلا رجل وامرأةء فجلست فتاتي مورّدة 
الوجه من الحياء. ولعلها انتظرت أن أجلس إلى 
جانبهاء وأن أسلّم عليهاء ولكن خانتني الشجاعة 
مجاسيك عا لقعت اتاد ل ااركالة كتاف وسوتطل 
على نفسى. وسار الترام يطوي الطريق» وأنا أخالسها 
النظر في صمت وصبرء حتّى عبر الترام جسر عباس . 
فنبضت قائمة وغادرت المقصورة وأنا في أثرهاء ونزلنا 
ف المحطة التالية . وسارت صوب شارع يمتذّ وشاطيء 
النيل. فتبعتهاء وتدانيت منها بقلب خافق, متعثرًا في 
خحجل قهار وقلت بصوت لا يكاد يسمع: 

01 0 

فابتسمت دون أن تلتفت إل وغمغمت في مثل 
ميات 


صباح الخير. . . 
وغمرني رد التحيّة بسرورء فسرنا جنا إلى جنب 
وأنا أقول في نفسى بحرارة: (يا سيدة يا أمّ هاشم 
نشل 1 كنت كنائنا حما شديذ. الارساكه شيعا :. 
وحاولت أن أتذكّر دبروفات» أمس.» ولكنّ الاضطراب 
غلبي على أمري فوجدت رأسى ناويا ولساني منعقدّاء 
وتقلمنا مسافة غير يسيرة 000 أنلبس بكلمة. كيف 
أبد] الحديث؟ ما عسى أن أقول؟ وتولالي ضيق شديد 
لأني أدركت بطبيعة الحال أنه ينبغي أن اتكلم. وأنّه لا 
يليق بي أن أصمت هكذاء ومع ذلك فلم يفتح الله 
عل بكلمة واحدة. وبدا كأنْ الكلام وظيفة لم أمارسها 
قط. وكائها أدركت سر ارتباكي. فنظرت إل وعلل 
شفتيها ابتسامة رقيقة» فابتسمتٌ في حياء شديد» ولم 
أجد ما أقوله إِلّا أن أعيد التحيّة قائلا : 
صباح الخير. 
فازدادت ابتسامتها انَساعًا وقالت: 
صباح الخير. 
رباه! أأفلس معجمي., وعدت إلى العذاب مرة 
أخرى؟ إن أشعر كأن يدين حديديّتين تشدّان على 
عنقى. ولن أتحمّل هذا الموقف المزري أكثر من هذا. 
وتملكني اليأس فغلب في نفسي الخجل واستغئت بها 
قائلا : 1 
أعذرينى!... لا أدري ماذا أقول. . . هذه أول 
هرّة أخاطب فتاة, , 
ولم تتهالك نفسها فندّت عنها ضحكة قصيرة, 
ولعلها تشبّعت بحيائي نفسه. فتغلبت على حيائها. 
وقالت ف دعابة : 
- بل هذه ثاني مرّة إن صدقت. . , 
آه! إنها تشير إلى مطاردتي ها منذ ثلاثة أيام! 
وذكرتها بدهشة, كأثني لم أكن بطلها الجريء. مهما 
يكن من أمر فقد شجّعتنى دعابتها وخففت عي 
الارتباك والحياء. وأمكنني أن أقول: 
- لا تسيئي بي الظنْ. فوالله لو أسعفنى لساني لا 
وسعتني الدنيا كلاما, , , ا 


وضحكت وهي تصعد فيّ نظرها وتصوّب ثم 
قالت : 

- ألا ترى أنّنا لم نتعارف بعد؟ 

أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال. ليت الحديث 
يكون أسئلة من ناحيتها وأجوبة من ناحيتي! وقلت 
بارتياح : ْ 

كامل رؤبة لاظ بوزارة الحربيّة. 

وليك لو كان في الإمكان أن أخيرها بإيرادي 
الشهريّ وثروتي المنتظرة, أمّا هي فقالت : 

رباب جبر مدرّسة بروضة الأطفال بالعباسية . 

وأعجبني الاسمى فأحيبته كيا أحبٌ صاحيته 
وغمغمت كأنما لأستعيد وقعه في أذ : 

- ربات! . . 

ووجدت أنسا وشجاعة فقلت ببساطة : 

- تصوّري!. . . إن أداوم على احتلاس النظرات 
من وجهك من عامين وحيّى اسمك لا أعرفه! 

فلاحت الدهشة في وحهها الحميل وقالت: 

عامين! 

فسرتني دهشتها وقلت بحاسة : 

- أجل من قرابة عامين. ألم تفطني إلى هذا؟! 

فقالت ضاحكة وأنا أجمع انتباهي في أذيّ لأقل 
الصوت الذي شاقني استاعه طويلا: 

- منذ أشهر فقط! ما أجمل صيرك! 

هذه وخزة بلا ريب! كأنها تقول لي: وما الذي 
أسكتك عق أوشكة» الفرهنية أن تقلت هن نين 
يديك! وانتهرت الفرصة لأصرّح بما وددت لو كنت 
صرحت بهء فقلت وقد أصبح الكلام ممكنًا : 

- قبل منعتنى ظروف قاسية؛ لم يكن بوسعي أن 
أتقدّم وأنا غير كفء لك. ثم تغسيّرت الظروف 
وتحسنت المالة فلم أتردد عن اعتراض سبيلك في 
الترام في جنون أخرجبي عن وعيي» فالحقٌ أني لم أنتظر 
وأنا قادر إلة اتامًا ممعدودات وإن كنف : ...ركنت 
أقصول: #وإنة كنت أجرنتك مننة ناسين بولكى 
عجزت)... وإن كان ما تعلمين منذ عامين. 

ونظرت فيا أمامها مبتسمة ابتسامة خفيفة وقالت: 


السراب 9م 


ماذا أعلم ترى! 

فلذت بالصمت لحظات أستجمع قواي» وقلت: 

ما تعلمين من أني... 

ورسمت شفتاي «أحبّك» دون أن تنطقا مباء 
ولكتها رأت وفهمت بلا أدنى شكٌ. وخفضتٌ بصري 
حياء. ودقٌ قلبي بعنف. وانتزعتني من الوجود غيبوبة 
عابرة غيبتني عا حولي. واسترقت إليها النظر فألفيتها 
صامتة رزينة مورّدة الوجه. هذه لحظة مقدّسة. أجل 
إن الزمن لينوء بما يحمل من جلائل اللحظات التي 
مرّت بالإنسائيّة في تاريخهاء ولكنّ هذه اللحظة من 
أجل ما عرف الزمن رغم هذا كله. ولن ينقص مها 
أنْها معادة وأئّها تحدث كل يوم آلاف المرّات في بقاع 
الأرض الواسعة. فهي الشيء الوحيد المعاد الذي لا 


يلء وما ينبغي أن يمل وهو يتضمّن سر الوجود 


الأعظم. ألا وهو الحبٌ. لم يكن بوسعي أن أضمّها 
إلى صدري ‏ لا لمرور قافلة جمال تحمل برتقالا - ولكن 
لأنه لم يكن بوسعى أن ألمسها على الإطلاق؛ وقطعنا 
شوطا صامتين. وحال حيائي دون مواصلة الحديث في 
هذه النقطة بالذات» وعاودثٌ التفكير في المسألة من 
وجوهها الأخحرى فقلت مبتسما: 

وماذا تم من أمر محمد جودت؟ 

وحدجتبى بدهشة عظيمة» وسألتنى : 

افق أدراألة به ؟ ْ 

فقصصت عليها نبأ اللقابلة التي تمت بين محمد 
جودت وبيني وهي تصني إل باهتيام شديد» ثم 
قالت: 

- نه رجل فاضل محترم» وموظف كبيرء وقد رحب 
به أبي» أمَا أمى فقابلت عرضه بفتور لأنه يكبرني 
كثيراء ولأله سبق أن تروّج وله بنت في النامسة 
عشرة. وقد حادثتٌ أمّى عن لقائنا في الطريق منذ 
ثلاثة أيَام . . . فاشترطت أن يعرفوا عنك كل شيء قبل 
أن تعلن عن رأيها. 

وخفق قلبي في مزيج من سرور وقلق. وسالتها! وإن 
لم أكن في حاجة إلى السؤال: 

- وهل تعلم بقابلتنا هذه؟ 


4 السراب 


فابتسمت ولم تحر جواباء وذكرت «وظيفتي» بعدم 
ارتياح وخجل. ولكن لم يخطر لي على بال أن أكذب أو 
أبدّل من الواقم فقلت : 

- إني كما قلت لك موظف بالحربيّة» ولكن لي دخلا 
سثّة عشر جنيهًا من أوقاف». وأملك إلى ذلك قدرًا من 
الملل يجاوز الألف الجحنيهء وليس في سيرتى ما يشينء 
وسترين إذا ما تحروا عي أن الترشق + الصردق جما ... 

فابتسمت قائلة في إخلاص: 

لا شك في هذا مطلمًا. 

ورنوت إليها بامتئان عميق. وذكرت في تلك 
اللحظة الامي وما عاليت من تشوق إليها وحسرة 


- 
ف 


عليها فهرّن سرور يجل عن الوصفف. بيد ألنى 
تساءلت في خوف: ترى هل أروق في عيني الأم؟. . . 
ألا تستصغر وظيفتي, أو لا تجدني أهلا لهذه الأستاذة 
المحبوبة؟... وانقبض قلبي ذعراء وحذّثتني نفسي 
بأن أفاتحها فيا يكدّر صفوي, ولكن عَقَلَني الحياء. ثم 
خطر لي خخاطر جديد فسألتها على الفور: 

- هل تواصلين العمل في وظيفتك إذا تم الأمر كا 
أرجر؟ 

- ول لا؟ إني أحبٌ عمل حا جماء وكثيرات من 
وأدر ت ما كانت على وشك قوله فخفق قلبي 
بغبطة ونظرت إليها نظرة حيية ملؤها الحبٌ والأمل. 
ثم قلت برضا: 

هذا حسن , , . 

ساد الصمت قليلا فعلا وقم أقدامنا على أرض 
الطريق المفروشة بأشعّة الشمسء ولاحت مي التفائة 
إلى الثيل فرأيت صفحته السمراء تترقرق تحت لؤلؤ 
النور المنثورء وأخذت أتصفح وجره المارّة القلائل 
الذين يمون بنا في حياء وارتباك. وقد لطفت الشمس 
من برودة الحو وبنّت في حنايانا نشاطا وحبورًا فشعرت 
بطيب الحياة كما لم أشعر به من قبل وامتلأث امتنانًا 
حتى وددت لو ألثم الثرى شكرًا. بيد أننى لم أنس ما 
يشغلني من خطير الأمور. أو ما يبدو لي من خطيرهاء 
فلذلك ساألتها: 


- أرشديني الآن إلى ما ينبغي فعله. 

فسألتنى في دهشة قائلة : 

- ماذا تعني؟ 

فقلت بحيرة: 

- ينبغي أن أتقدّم لطلب يدك. 

فنظرت فيا أمامها بحيرة ولم تنبس. وكنت في حيرة 
من أمري فسآلتها : 

- كيف. .. كيف يخطب الناس عادة؟! 

فلدّت عنها ضحكة رقيقة» وقالت برقة: 

بوساطة السيّدات أو بالاتصال الشخصئ, ألم تدر 
شيئًا عن هذا؟ 

وذكرني قولما «وساطة السيّدات» بأمّي فاتقيض 
فلبي فيها يشبه الذعر. ثم تساءلت ترى هل أستطيع 
أن أقوم بما يتطلبه الانصال الشخصيّ من لباقة 
وشجاعة؟ وذكرت عند ذاك أن لا أعرف شيكًا عن 
أبيها فسألتها؛ 

- هلا تكرّمت وأخبرتني عن والدك! 

فحدجتنى بنظرة ملؤها الشكُ وغمخمت: 

ألا تعرف عنه شيكًا؟ ! 

فقلت بساطة وصدق: 

د كلا :وا أسقام:.. 

وأ كت أنها كانت نظني نشطت لمعرفة ما ينبغي 
معرفته عن الأسرة التي أطميح للاندماج فيها؟ وعجبت 
كيف أنْني لم أحرّك ساكنًا طوال عهد حبّي قانعًا بالنظر 
واللهفة واليأس. وقالت رباب بلهجة لا تخلو من 
زهو: 

- جير بك السيّد مفتش ري بالأشغال. . . 

فقلت بإجلال : 

واستشعرت ثقل التبعة الملقاة على عاتقي: ولكبّي ل 
أجد بدا من أن أقول: 

- سأقابله بنفسى. متى يحسن أن أقابله؟ 

عل تحر الاعري القادع زان سسيماتو ينه ا للا 
رحلة تفتيشية كعادته. وهو لا يكاد يغادر البيت عقب 
عودته من الوزارة. . 


وكنا قد توعْلنا في الطريق طويلا فاقترحت أن 
نعود. ودرنا على عقبينا عائدين , و نتبادل في عودتنا 
إلا كلمات قلائل. وكنت من السعادة في حلم. ولكدني 
م أغفل لحظة عيًا أنا مقبل عليه من جلائل الأمور, . . 


75 

واسشحوذ عل الشوف والقلق. وعاودني ذلك 
الاحساس الخائق الذي قهرني يوم دعاني أستاذي بكليّة 
الحقوق إلى منصّة الخطابة. هل تستطيع قدماي أن 
تحملاني إلى بيت جبر بك؟ هل أستطيع مكاشفة 
الرجل بما في صدري؟ اللَّهمَ أدركني برحمتك فإنْ الحبٌ 
يركبني مركبًا صعبًا لا قِبّل لي به» ولمّا ضقت بالواقع 
المخيف روّحت عن نفسي بالأحلام» فرأيتئي في جزيرة 
مهجورة. وليس مها حيّ إلاي وحبيبتي» حيث الحب 
ا لمعت ع بو ناولا الصالة احيد” 
وهفّت نفسي في محنتي إلى تلك الجزيرة المهجورة. 

ومضبى السبت والأحد في عذاب نفس عنيف. 
نمستيه ها اناا تعورين علاتك انكر ناة لاد 
وجهًا لوجه. وغادرت البيت عصرًا بعد أن أخحذت 
زينتي» وقطعت الطريق واجف القلب وأنا أتلو آية 
الكرسئّ. ولمّا عبرت الجسر ولام لي عن بعد جانب 
من العبارة ثقلت قدماي وكدت أرجع من حيث 
أتيت. ولكن كان تصميمي رائعًاء وكان إشفاقي من 
أن تستيطيء حبيبتي قدومي لا يدع لي فرصة للترذة: 
وجعلت أشجّجع نفسي قائلا إنّه لو لم يكن ثمّة أمل لم 
رضيت حبيبي بأن تلقاني يوم الجمعة. ولما مهدت 
السبيل لمقابلة أبيهاء ودفعتٌ قدمي الثقيلتين فأخذت 
أقترب رويدًا من العمارة. ولم يكن بالنافذة ولا الشرفة 
أحد فارتحت لذلك لأني أضطرب في سيري تحت وقع 
الأعين. ثم وجدتني مقبلا نحو البؤاب» فوقف الرجل 

فين بلك لشت 

فقال : 

- الدور الثاني. . . 


وارتقيت اليل في رهبة وخوفء متوقمًا عند كل 


السراب هم 


بسطة لأتمالك أنفاسى. حبّى طالعني باب الشقة المغلق 
فخارت قواي», سينك لي نفسبي أن أعود؛ أن أفْر 
بنفسي. أن أوْجّل الزيارة الخطيرة ليوم آخر. ولكتي 
نفيت عني فكرة التأجيل بغضب, وبدا لي أن أنزل 
وأن أخقف عن تور أعصابي بالمثبي ومعاودة ترتيب 
أفكاري. وهممت بالستراجع. ولكنّني تساءلت في 
اللحظة التالية ألا يرتاب البوؤاب في أمري إذا رأني 
نازلا بعد دقيقة من مخاطبته ثم رآني بعد دقائق عائدًا . 
إلى العبارة؟, . . وعدلت عن فكرة النزول» ووقفت 
مع ذلك ساكنًا لا أبدي حرانًا. وجمد بصرى على 
الباب حبّى خلت ثقبه عيئا نحدّق في وجهي بسخرية. 
وانلتقلت عيناي إلى زرٌ ارس وثبتتا عليه بخوف 
وهلم . ما عسبى أن يحدث لي لو قتح الباب فجأة عن 
وجه من الوجوه التي أعرفها وتعرفني! وتمنيت في تلك 
اللحظة لو كانت حياق واصلت مسيرها الوئيد دون أن 
تصطدم نذا الحبٌ الذي قلبها رأسا على عقب! 
وجاءني بغتة صوت رفيع من الداخعل يصيح : «افتحي 
الراديو يا صباح» فارتعدت أوصالي وأرهفت السمع في 
خحوف متزايد. وَيْلٍ منك يا أمَامء أما كان الأفضل أن 
تكوني في مكاني هكذا؟ ثم قرع أذنّ وقع قدمين 
صاعدتين فتضاعف اضطرابي ولم أجد من التقدم 
مناصاء وتذانيت من الباب. ورفعت يدي إلى زر 
الجرس» وتريّثت لحظة في اضطراب» ثم ضغفطت 
عليه فرن رنيئًا مرزعجّاء وتنحّيت جانباء منتظرًا في 
حالة يرثى ها. وفتح الباب وبرز وجه أسود كالفحم 
لحارية في الخمسين. فحدجتني بعينين بزاقتين وقالت: 

- أفندم؟ 

وقلت وأنا أَتَي أن يكون البك خارج البيت لسبب 
أو لآخر: 

- جبر بك موجود؟ 

ولكتها أجابت قائلة : 

نعم يا سيّدي. .. مين حضرتك؟ 

فاستخرجت من محفظتي بطاقة وقدّمتها لها قائلا: 

أرجو أن يأذن لى البك مقابلة قصيرة. . 

ومضت الحارية بالبطاقة وانتظرث تحافق الفؤاد 


كلم السراب 


مضطرب النقْس. وتميّلت البك وهو يقرأ السطاقة 
بصوت مرتفع فيتبادل الجميع النظرات والابتسامات». 
وسرعون إلى مكان آمن يرونتي منه حين دنحوليء. 
فالتهب وجهى ححياء وازددت اضطرابًاء وبرز رأس 
الجارية مرّة أخحرى وهي تقول: 

ودخلت نخافض الرأس. فأرشدتني إلى باب على 
يمين الداحل مباشرة. فدحلت حجرة الاستقبال». وهي 
حجرة أنيقة ذات أثاث كحلّ. فاتجهت إلى مقعد 
يفصل بين كنبتين وجلست,ء بعيدًا عن سمت الباب. 
م أكد أصدّق أن بلغت حقًا مجلسي هذا من البيت. 
وجعلت أرهف السمع في خوف وقلق وهلع. وتيت 
لو يتأخر البك ريغا أستردٌ أنفاسي. ثم دفعني العذاب 
إلى تَني حضوره سريعًا لوضع حد لآلامي. ولا أدري 
كم انتظرت حب سمعت وقع أقدام تقترب. دمل 
البك فبضت قائّاء ثم سلّم عل في أدب وترحيب 
وأوماأ إلى المقعد وهو يقول: 

- تفضل بالجلوس. . . 

وجلس على الكنبة غير بعيد. كان طويلا نحيلا. 
في الخمسين من عمرهء له قامة حبيبتي وعيناهاء 
فسرعان ما أحببته؛ وكان يتلفع بعباءة فضفاضة ضاربة 
للحمرة» ويسطع من راحتيه عطر زكي» ونظر إلي 
مبتسمًا وقال مرحبا: 

- شرّفتنا يا أستاذ كامل, . . أهلا وسهلا. . . 

فقلت بامتنال : 

عق للق را بلك د 

ترى هل علم بالغرض من الزيارة؟. . . هل سمع 
قبل الآن ببذا الاسم الذي قرأه في البطاقة؟ 

على أنه مهيا يكن أمره فلا مناص من مفائتحته في 
الموضوع كا لو كان يجهله. وكنت قد كتبت صورة مما 
ينبغي قوله ىا تصورتهء وقرأتها مرارًا حيّى حفظتها 
قبل مغادرة البيت. فقلت بصوت منخفض: 

إني آسف على إزعاجي سعادتك ببذه الزيارة على 
غير سابق معرفة. . 

فقال والابتسامة اللطيفة لا تفارق شفتيه الرقيقتين : 


- إن تشرفت بمعرفتك يا أستاذ كامل!... تسرى 
أحضرتك من حينا هذا؟ 

فقلت وقد سررت بما هيا لي من سبب للحديث: 

نعم يا بك. إن من سكان منيل الروضة! 

حوع هادئ لطيف . 

فقلت وقد انست إليه: 

0 واف من مواليده أيضاء وقد أقام به جذدي 
الأميرالاي عبد الله بك حسن منذ أكثر من سبعين 
عاما! 

فقال متفكرًا : 

- عبد الله بك حسن!... أظئنى سمعت بهذا 
الاسم! أهو جدّك لوالدك؟ 

فقلت مضطربا: 

كلا. إنّه جدّي لأمي. أما أبي فمن أسرة 
لاظ.., 

وهل كان ضابطًا أيضا؟ 

فقلت وقد ترايد قلقي : 

كلا. . . كان أبي رحمه الله من الأعيان. . . 

فابتسم قائلا : 

حسبته كذلك لأنّ أهل المهنة الواحدة كثيرًا ما 
يرتبطون بالزواج فيها بينهم. . . 

وآمنت على قوله. وسكت الرجل فلم أجد ما 
أقوله. وعدت إلى تذكر محفوظاتي فحضرتني الجملة 
الخطيرة التى يتوقف عليها حظّي في الحياة. ولكن 
خانني لساني. فلذت بالصمتء. وما لبث أن عاودني 
الاضطراب واللع , والتهب رأسي حياء وارتباكاء وف 
تلك اللحظة جاءت الخادم الصغيرة ‏ التى تعرفني حق 
المعرفة ‏ تحمل صينية الشاي. فوضعتها على منضدة 
مُكُفْت سطحها بمرآة مصقولة. وتراجعت وهي تداري 
ابتسامة خفيفة! ورحّبت بدخوها وبالشاي الذي حملته 
لأنهها استنقذاني من حرج الصمت الذي ثقلت وطاأته 
علنّ. وملا البك قدحين ودعاني للشراب» فتناولت 
قدحي شاكرًا ورحت أرتشفه متمهّلّا وعقلي لا يني عن 
التفكير. وفرغت منه على رغمي » ووجدتي مرّة أخرى 
حيال جير بلك وابتسامته اللطيفة الغامضة الي 


تستحثني في صمت على الكلام. لا بد ثما ليس منه 
بذء وإلا انقلبت الجلسة إلى مهزلة تستثير السخرية. 
لأصطنعنٌ شيثًا من الرجولة أمام الرجل الذي أروم 
مصاهرته أن أصغر في عيئيه. ولممث أطراف سجاعتي 
وقلت وإن عبدّج صوتي وتخلخلت نبراته : 

سيدي» أردت... أعنيى... الحقٌ أن أرجو 
التشرّف بمصاهرتك ., . . 

وم تكن الخملة التِى كتبتها وحفظتها لتفترق عما 
قلت كثيرّاء وقد اعتراني الاضطراب بعد أن فتحت في 
بالكلام ولكنّ الله سلّم وأفصحت عن رأبي ار ا 
باس بها ونظرت إلى الرجل فوجدته ما يرال مبتساء 
وتريّث لحظات استغلظ وقعها في نفسي المروعة. ثم 
قال بأدب جم : 

أشكر لك حسن ظئك بنا, , , 

وصمت لحظات أخرى متفكرًا ثم واصل حديثه 
قائلا : 

- ولكن أرجو أن تمهلني أسبوعين لشاورة أصحاب 
الشأن الآخرين. 

فبادرته قائلا : 

- طبعًا. . . طبعًا. .. ولا يسعني إلا شكرك على 
كرم أخلاقك وحسن ضيافتك؟ 

ونمبضت قائمًا مستأذنا في الانصراف. ولكنّه دعاني 
للبقاء فترة أخرى. فاعتذرت شاكرًا له جمييل أدبيه 
وسلّمت وذهبت. وتبّدت في الخارج من الأعاق 
وشعرات كأن حملا ثقيلا رفم عن عاتقي . وبسدا لي 
الأمر هيّئًا لا يستدعي بعض ما عانيث من خوف وقلق 
وهلع, فابتسمت في ارتيساح, م اسيم رات 
ضاحكا. . , 


يض 
عليق دير الارتياح والظفر حيّى المساء. ثم عاودني 
القلق ذلك الرفيق القديم الذي لا يمل عشرتي... 
أيرضى جبر بك بموظف صغير مثلى زوجًا لابنته؟. . 
ألا ترجح كفة محمد جودت رغم دخلي من 
الأوقاف؟ . . . إِنْه مهندس كجير بك» وجار وصديق» 


السراب بام 


ولست من ذلك كله في شيء. ولكنّ رباب لا تودى 
ولو كان بها من رغبة فيه لا قابلتني وشجّعتنى على 
مقابلة أبيهاء ورطب هذا الخاطر قلبي المحترق 7 
إلى نشوتي» ولكنّه لم يستطع أن يستاصل الشكٌ والقلق 
من قرارة نفسبيى. وتتابعت أيّام الاننظار وما أزداد إلا 
كآبة وتشاؤمّاء ولذلك أخفيت سرّي عن أمّى حيّى لا 
تعلم بإخفاقي إذا كان مقدورّاء 520 الانتظار 
ومرارة الشكٌ في وحدة مخيفة» ومن عجب أنْنا لم نعد 
إلى موضوع الزواج منل ذاك المساء العنيف. وقد اعتور 
سلوكها شيء من التحفظ والتغيّر لم يخفيا عن إحساسي 
الدقيق. وبدث فى أحايين كثيرة كالطفل الغاضب 
والطرك قل سينا كنض 11 | فلك معني هي 
تلقتني بريبة لا تزايلها حيّى تطمئن إلى نوع الحديث. 
وأحنقني تغترها لكب لزمت معها الأدب والتودد. وفى 
أثناء ذلك أسرّ إل زميل من الموطّفين بِأنَّ «بعضهم» 
يتحرّى عب كما أخبره موظف بإدارة المستخدسين, 
وسرعان ما ذاع بين موظفي إدارة المخازن أني شارع في 
الزواج» وجعلوا يعرضون لي بما في أنفسهم مداعبين 
فأزداد امتعاضا وحئقّاء وليًا انقضت فترة الانتظار 
مضيت إلى مقابلة جبر بك السيّد. ولكيِي لم أذهب إلى 
بيته - حال دون ذلك حوفي من الخذلان ‏ فقابلته في 
وزارة الأشغال» ورحّب بي الرجل ترحيبًا جميلا وأعلن 
لي موافقته! هكذا انتهى عذابي وردّت إل الروح. وفي 
تلك المقابلة اتفقنا على يوم الخطبة. وإذا كانت حياة 
الإنسان خليطا من الشقاء والسعادة فقد بدا لي أن أيَام 
شقائى قد ولك وأف سأجزى عن صيبري وتعاستي 
ومحخاوقي سعادة صافية في! بقى لي من عمر. ورجعت 
إلى البيت ودعوت أمْى وأخبرتها بما تم. وقد استمعت 
إل في استسلام ودهشة وقالت لي متسائلة : 

- ولاذا أخفيت عي الأمر كلّه؟ 

فقلت متضاحكا فق ارثباك : 

2 كن أقدّر أن ينتهى مسعاي إلى ما انتهى 
إليه . , 

فقالت بحذة: 

يا لله!. أكنت تتصور أن يرفضوا يدك؟! يا لك 


4 السراب 


من طفل غرير! ألا تعلم أنْ الفتيات لا حصر غْنّْ. 
وخيرًا من فتاتك ألف مرّةء يرضين بك عن طيب 
خاظرا 

فقلت بلهجة مت عن عدم رغبتي الاسترسال في 
النقاش : 

- إفي أنتظر تبنئتك يا أمأه. , 

فهالت نحوى حبّى لثمت خذي وتمتمت: 

- إن أحقّ منك بالتهاني . 

ودعت لي طويلاء وكان وجهها كالصفحة المصقولة 
لا تخفى بها خافية» ول تكن تحسن مداراة ما يعتمل في 
عل صفوي. بيد أنْنى نجاهلتها وتظاهرت بتصديق 
كلماتبا» وسرعان ما شغلت عنها بسعادق» وكتبت في 
نفس اليوم لأحى خطابًا أخيرته بما كان ودعوته لشهود 
الخطبةء وزرت أختي راضية ودعوتها كذلك» وذهبنا 
جميعًا في اليوم الموعود. ولست أدري كيف واتننئي 
شجاعتي ذلك اليوم. لقد شبكت ذراعي بذراع 
شقيقى مدحت ورجوته أن يكون مرشدي» ولشد ما 
أتعبته بجمودي وارتباكى وحجري . 

لم أنبس بكلمة طوال السهرة» ول أرفع عينيّ عن 
الأرض» ولبثت محاصرًا بأعين المستطلعين رجالا 
ونساءء وم تزايلئي الرهبة حيّى بعد انصراف الأقارب 
واقتصار الموجودين على الأهل. وقد ضحكت حرم 
جبر بك وقالت ل : 

- أنت نحجول يا مي كامل... وقد أدركت الآن 
السرّ في أنّك كنت تحوم حول عروسك أشهرًا طوالا 
كالخائف . . . ! 

وخفق قلبي لقوطاء واختلست من أمّي نظرة لأرى 
وقعه في نفسها فوجلتها مشتبكة مع جير بك في 
حديث. وجلست طوال الوقت بجانب رباب دون أن 
أستطيع إرواء قلبي الظامئ لرؤيتها. وما ألقيت علبها 
إلا نظرة سريعة حيية حين دنحولها الحجرة في هالة من 
نور وبهاء ثم غبت في حيائي وارتياكي؛: ولما انفض 
الحفل العائلَ وغادرنا البيت ضحك أحى مدحت في 
الطريق مقهقهًا وقال لي بدهشة ' 


- ينبغي أن نجد علاجًا لخجلك., فوالله ما رأيت 
مثلك رجلا . 
وم أنه لانتشاده وسححريته . كيك و ا 1 


28 

...ثم هان عل عناء الزيارات»؛ اعتدتها وانست 
إليها. أمكننيى أن أضغط على زرٌ الجرس دون أن 
ينخلع قلبي؛ وأن أمضي إلى حجرة الاستقبال دون أن 
اع يقرت سياد إلى تطلينة: اناك بان الى ل 
الجدد غير خافض الرأس ولا ملهوج الحديث. بل 
أمكنني أن أتحدّث أيضا وأن أضحك إذا دعى الداعي 
للضحك. في حدود طاقتي. وأسرتي الحديدة أسرة 
لطيفة حقيقة بالمودّة» حبيبتي عنوابهاء وحسبها هذا 
تاد وتناني جوقة قر لقف الأسباب بيني وبين جبر بك 
السيد فصرنا صديقين, وقرّبت الألفة بيني وبين نازلي 
هانم فكأننا ابن وأمّ. وأسرني الصغيران محمّد وروحية 
بظرفهماء حبّى الخادم الصغيرة والخارية السوداء حظيتا 
بلصيب من ودّيء فأحببتهم جميعًا حا دل على ما 
بقلبى من هيام بحبيبتي وشوق مكبوت للمعاشرة 

والتودّد. 
وكان جير بك السيّد من أولئك الرجال الذير» لا 
يبرحون بيوتهم إلا للضرورة القصوى. فإن لم يكن في 
الوزارة أو في رحلة تفتيشية بالأقاليم فهو في بيته وبين 
زوجه وأبنائه؛ بدا لي من أوْل يوم لتعارّفنا مهذّبًا رفيق 
الحاشية. ولم خف عن عين ‏ على ضعف ملاحظبىي ‏ 
أنه من الأزواج المطيعين وأنْ زوجه هي الآمرة الناهية 
في البيت. ولكنّ ذلك لم يضعف من منزلته؛ ولعلّه 
حظي من حب أبنائه بما لم تحط به الأمّ نفسهاء ولم يخل 
من ميل للفخر والمباهاة على تجاوزه الخمسين. وما 
أسهل أن تلاحظ ذلك إذا سمعته محدّنًا عن عمله 
ومركزه وصلاته بأقرانه ومرءوسيه. أو منوها برحلاته 
التفتيشية وملاحظاته. وما أكثر ما ينتقد المهندسين 
السَبّان تمن تلقّوا علومهم في إنجلترا والمانياء فيقول إِنْ 
علم الهندسة في مصر هو علم الهندسة في أورباء وإِنّ 
القدم لا ترسخ في العلم إلا بالتجربة والممارسة. الأمر 


الذي يتجاهله الشبّان. وكان في تلك الأيّام قلقًا على 
مركزه بالوزارة» ولا يفتأ شاكيًا ما يلقى من اضطهاد 
سياميّ مردّه في رأيه إلى صلته بالوزير الوفديّ السابق» 
حي أنه صرّح مرّة بأله يفكر في طلب تحويله إلى 
المعاش والاشتراك في النشاط السيامي: ولكنه ا 
يستطع الاسترسال في شرح رأيه لتصدى زوجه لله 
بالمعارضة الحاسمة التي لا تحتمل مناقشة. وكنت أجد 
حياله شعورين متضادين: شعورًا بالضآلة لتفاهة 
مركزي في الحكومة وقلة حطّي من الثقافة» وشعورًا 
بالزهو لانتسابي لرجل مثله عظيم في قدره ومركزه 
وعلمه. أما نازلي هانم فعلى نقيضه ميّالة للقصر مفرطة 
في السمنةء وكانت على اقتراها من الخمسين ذات 
وسامة لا بأس بها تدل بلا ريب على ما كانت تتمتع به 
من جمال في صباها. وكانت على سملتتها المفرطة بالغة 
في نشاطها ويقظتها وسهرها على رعاية بيتها وأبنائها 
وزوجهاء وقد شكا زوجها مرة إل حرصها الزائد عن 
الحذ على تنسيق البيت وتنظيفه ومراقبة الخادم 
والطاهية» وإفراطها في ذلك إفراطًا هو أدن إلى 
الوسوسة والإرهاق. ولكنه لم يخل في شكواه تا يثى 
بإعجابه ورضاه., 

وبدت لي ظريفة في غير ما تكلّف. ولشدّ سا 
ضحكثٌ من ذكريات تطلعي الصامت إلى الشرفة 
والنافذة؛ وقارنت بين حيائي وبين وقاحة الشبّان. 
وعلّقت على ذلك قائلة : 

فمن حسن الحظ أن تكون لرباب» ومن حسن 
الحظ أن تكون رباب لك. فهي ليست كفتيات اليوم 
ايضنا: 

هذا حىّ. حبيبتي ليس كمثلها شيء. هي الحياة 
والذكاء والجمال» وإِنْ الأيّام لتزيدني مبا تعلّمًا وهيامًا 
وإعجاباء ما أرنحم صوتهاء وما أرشق إيماءتهاء وما 
اعدل :وزاتها. وكانف إل هذا كله افون تاضحة 
كاملة؛ وإِنْ عينيها لتطالعاني بالاخلاص والمودة 
والصدق من غير ما حاجة إلى خفة مصطنعة أو تكلّف 
غير بريء. وم أكن أفوز بها في خلوة أبدّاء وم تنهيًا لي 
فرصة للانفراد بها منذ إعلان خطبتئا. وشاقني كثيرًا أن 


السراب 45م 


أخلو إليهاء وأن أتمل بإدامة النظر إلى وجهها الصبيح 
في أمن من الرقباء. على أنّفي لم أخل من خوف من 
مثل هذه الخلوة المأمولة وما أنا حريّ بأن أعانيه فيها 
من عي وحصر وحرج واضطراب, فقلعت بالمبذول لي 
في حظيرة الأسرة؛ راضيًا آمناء مكتفيًا إلى حين بالنظرة 
الخاطفة والمحاورة المقتضبة. سعيدًا بالنشوة التي يبثْها 
وجودها في قلبي وروحي. توحتلات حرنها لطنا 
طبيعيّاء لا أثر فيه لشهادتها العالية ‏ وهو ما كنت 
أحاذره وأشفق منه ‏ فلا تفلسّف ولا ادّعاء ولا 
حللقة . 

وتم الاتضاق فيا بيننا على أن يكون الزواج في 
العطلة الصيفيّة. ولم يألوا جهدًا في إعداد الجهازء 
واقترحت نازلي هانم أن ينتقلوا إلى شفَّة كبيرة على أن 
أنضمٌ إليهم. ولكنٌ الاقتراح أزعجني وذكّرني بأمّي » 
فاعتذرت من عدم استطاعتي قبوله قائلا 5 لا يمكنني 
التخل عن أمّي » وعند ذاك قالت نازلي هانم : 

- والدتك سيّدة محترمة ولطيفة ولكن يبدو لي أمّها لا 
تميل إلى المعاشرة! 

وفهمت ما تعليه, والحنّ أن أمّي لم تزرٌ بيت 
خطيبتي منذ إعلان الخطبة إلا مرّة واحدة تحت ضغط 
وإلحاح. فقلت في ارتباك غير قليل : 

- لقد اعتادت أمّي الوحدة. .. ولم تألف الزيارات 
قط , , 

وقصصت عليهم جانبا من حياقي متحاميا الفجوات 
التي لا تطيب ذكراها. ولا أنكر أنْ ملاحظة نازلي 
هانم أزعجتني2. وذكرتني بأمور أخافهاء فدعوت الله 
مخلصا أن يقيني مغبّة الشقاق في حاضري ومستقبل . 

وفي مرّة» وكنت جالسا إلى فتاتي وأمّها فقط. واتتني 
الشجاعة فذكرت عهد تطلعي الصامت إلى «رباب», 
وعجبت كيف التهت إلى هذا الختام السعيد وهو ما لم 
أكن' لأحلم به وضحكت حبيبتى وقالت: 

ومع ذلك فلم تكد تخطو خطوة واحدة حبّى تج 
كل شيء في غمضة عين! 

5 نازلي هانم : 

طالما تساءلنا ماذا يريد هذا الشات؟! ولشسْدٌ ما 


حذّرت «رباب» أن تكون من الشبّان الذين يطاردون 
الفتيات في الطريق! وقدّرنا في وقت ما أنّك مشغول 
بالتحرّي عنًا ا يفعل طلاب الزواج. فلا طال تردّدك 
بعد ذلك داخلني استياء وتساءلت عمًا لم يعجبك 
فينا؟ ! 

فقلت مرتبكًا متالمًا: 

ما فعلت شيئًا من هذاء وحيّ الأسياء ظللت على 
جهل ببا حبّى اللحظة الأخيرة. . 

وكان لدي من المال ما يعد بالقياس إل ثروة» 
فأغدقت على حبيبتي الحداياء وجعلت من شقيقتي 
راضية مشيرتي في هذه الأمور التى أخفيتها عن أمي 
فمحضتني المشورة وأرشدتني إلى «الواجب» وخاضة في 
المواسم كعيد الفطر وعيد الأضحى » فأاصبحت بفضل 
رأيها خخطيبًا مشرّفًا؟ 

وظلّت العلاقة بيني وبين أمّي على ما يرام» على 
الأقل في الظاهرء وحرصت على أن أشركها في مهمة 
الإعداد للحياة الجديدة لتبدو وكائها تباركهاء فكلفتها 
بأن تبحث لنا عن شقّة جديدةء ووقع اختيارها على 
عمارة في شارع قصر العيني على بعد محطات ثلاث من 
عهارة حبيبتي» ولم يبدر منها ما يعكر صفوي» ولكتها 
بدت كشخص مغلوب على أمرهء تزحزح على رغمه 
إلى هامش الحياة» فانطوت على نفسها انطواء لم أجد 
في معالحته حيلة» وقطع قلبي . ولكن لم يكن في وسم 
شىء في الوجود أن يعتاق تثيّار السعادة المتدفق الذى 
يسكرني ليل نهار. والواقع أن تلك الفترة من حياتي 
هي أسعد ما لقيت في الدنيا من أيام. . . 


م 

وقالت لي نازلي هائم يوماء وكانت الأسرة قد 
أعدذت عذتها للزواج : 

- إِنّ رباب أوْل عهدنا بالأفراح فينبغي أن تكون 
ليلتها بالغة المسرة. 

وولى قلبي فرارّاء ول يعد بدّ من مواجهة الأمر 
الخطبر الذي طلما تحاميته إشقاتًا وجبئًا. وتساءلت في 
قلق : 


- أترين ضرورة في إحياء ليلة الزفاف؟! 

فرمقتني بنظرة استنكار كأن تساؤلي أدهشها وقالت: 

00 

فغمغمت في ذهول: 

- قيان وزفاف ورقص وغناء! 

- ينبغي أن تكون ليلة فريدة غناء. . 

وتملكني الخوف». ورفعت إليها عينين ملؤهما الرجاء 
والاستعطاف. ثم قلت بيأس : 

لا يمكنني أن أزفٌ بين المدعوين! هذا فوق ما 
أستطيع . 

فلاحت في وجهها الدهشة والانزعاج وقالت 
بغرابة : 

- لست أفهم شيئًا!. . . هل يعجزك الحياء لهذا 
الحد؟ 

فقلت بضراعة؛ ويحرارة من يدافع عن نفسه حيال 
ا موت : 
لا القطوىى لا القط بم متا 
سيّدي إن الموت أهون عل من الزفاف بين المدعوؤين 
والقيان. . . ْ 

- هذا شىء عجيبء. إنك تكون أوْل رجل مهبرب 
الات 

فقلت بأسى وقد شعرت بالسنة الخجل تلهب جبيني 
وخحدّي : 

- رئماء ولكن ما باليد حيلة, إن أستحلفك بالله أن 
ترحميئي . . 

فتساءلت في إنكار: 

- وما عسبى أن تفعل؟ 

فقلت بلهفة وقد عاودني الرجاء : 

- نكتب العقد في جمم من الأهل فحسب. ثم 
أمضي بالعروس إلى بيتنا! 

- وكيف يكون هذا فرحًا! 

لو كان الآمر قن ما تفل بالخس, لسليت :دون 
عناءء والحقّ أن سريع للمطاوعة مهما كلفني الأمر من 
تضحية إِلَّا إذا كنت بموقف الذائد عن حيائي. هناك 
أنقلب إلى الاستماتة والتشيّث. وقد استمددت من 


يأسمي وخو قوة فتوسشلت وضرعت وألخفت حي كت 
السيّدة عن المناقشة وهي تبر رأسها عجبّاء ولم يكن بي 
خحوف أن يظنوا بي تبرّبا من تكاليف الزفاف لا أبديت 
من سخاء كخطيب كان حديث الجميع؛ على أنَّ جبر 
بك السيّد أخيرني بعد ذلك بأنّه مصمّم على دعوة نفر 
من خاصة أصدقائه: وأنه سيولم للجميع وليمة عشاء 
فاشرة. ثم أخبرني بعد حين بأنْ أحد أصدقائه من 
هواة الغناء والموسيقى تطوّع بإحياء الليلة في حدودها 
القسقة و وال تنه عنى وقع الخبر: 

وهكذا يحبي ليلتك موظف كبير. . . 

فقلت محزونًا : 

- يؤسفني والله آلا أحقّق رغبتكم في إحياء ليلة 
زفاف باهرة ولك لا أحتمل أن أََفٌ! 

نهر كتفيه في عدم اكتراث وقال مبتسمًا: 

لا أحبٌ أن أضايقك فلك ما تشاء. , 

وحمل الجهاز إلى الشقّة الجديدة» وفرشت حجرة 
خاصة لأمّي» وانتقلنا من المنيل إلى الشمّة الديدة قبل 
الليلة الموعودة بأسبوع. وأشرفت شقيقتي على فرش 
شقّة العروس بنفسها. وببرت شقّة العروس عيني 
فجعلت أتنقل بين الحجرات في غبطة وفرح سماوي . 
ولا جاء دور المخدع اجتزت بابه بعد ترذد؛ وفى حياء 
شديد ورهبة. يا له من منظر خخليق بأن عبر الفؤاد 
هزًا! جعلت أقلب ناظريّ فيا حولي وأنا بين مستيقظ 
وحالم. فراش كالذهب, وأغطية حريريّة في لون الورد 
الزاهرء ومرآة مصقولة رقراقة. دبّت الحياة في قطع 
الآأثاث فلم تعد جامدة ولا صلبة؛. وحاكت ألوانها 
الجذابة تورّد الخدود والتماع الأعين. وندّت عن 
حواشيها المسدولة *مسات خافتة منغومة ححفق لما الفؤاد 
حفقانا متتابعًا . 

+ عند ند 

وفي صباح اليوم الرهيب ساءلت نفسي متى أعود 
بعروسي وقد خلفت ورائي الناس والضوضاء؟ ليت 
التقاليد كانت تقضي بأن ينتظر الرجل عروسه في بيته 
منغ 1 "البق كد :ا روزن مسد 1 علق 


لأمثالي. فلم يفارق قلبي الشعور بالرهبة والشوف. 


4١ السراب‎ 


وتقضى نصفه الأول في تبيئتي» فمضى بي شقيقي 
000007 00000008 
حال» حبّى قالت لي أختي في دعابة: 

- أنت أجمل من عروسك!. . . أليس كذلك يا 
أمَاه؟ 

وهت أي بالكلام» ولكتها أطبقت شفتيها دون أن 
لنسن + وحمت أتساءل عا أرادت قوله. وارتديت 
بدلة العرس السوداء على حرارة الج ثم ذهيبئا إلى 
بيت العروس قبيل العصر بقليل ومعي أمْي وأخحي 
وأختي وزوجها وعمي وبعض بناته وخالتي وأسرتها. 
ولمًا اقتربنا من مدشخل العارة رأيث الأرض قد فرشت 
رملا فاقع اللون. وتدلّت مصابيح كهربائيّة كبيرة من 
عمد ملونة» فداخخحلبي اضطراب وقلت لنفسبى: «هذا 
خروج عن الاتفاق!2 وارتقينا السلّم وقد يت إلا أن 
أسير في المؤخرة شابكًا ذراعي بذراع مدحث. .. وما 
كاد أوَّلنا يدخحل الشقّة حيّى استقبلتنا عاصفة من 
الزغاريد المجلجلة. فشددت على ذراع أخي وشعرت 
بسرغبة في التواري» ولكن أين؟ وخفضت عينى. 
وسرث». بل جرّنيٍ أي . إلى حجرة الاستقبال» دون 
أن أرى شيئًا ما يحيط بي وإن أحسست بأذلٌ وأنفي أن 
اليف مكفط سير اه الحروزر ال ار ملسف راننا 
متشبّث بذراع مدحت وقد همست في أذله : 

- أرجو آلا تفارقني. . . 

فردٌ عل هامسًا: 

- تشججّع وإلا بدث عروسك دونك تحجلا! 

ولم أكد أتنفس الصعداء لمرور لحظة الاستقبال 
المدعوّين» فوقفت مرتبكًا كالعادة» وراحت يدي 
تسلو ولساني يرذد كالآلة «تشرّفنا... تشرفنا» ثم 
جلست مرّة أخرى دون أن أحفظ اسرًا واحدًا. ودار 
حديث طويلء لم يفزع عقلي لفهمه فصلا عن 
الاشتراك فيه. ولم يغب عئى حرجي. فتضاعف 
ارتباكي» وخيّل إل أن الجميع يتغامزون بيء أو 
ونوك ب لاسر الزهون ادر الرفككاقانكا بد ذعيت 
إلى كتابة العقد., وخقف عتّى أن تم ذلك في حجرة 


7 السراب 


تكاد تكون خالية؛ ولكن انفجرث الزغاريد في تسابق 
عنيفء. وعاودتني مرّة أخحرى رغبتي في التواري. 
وعدت إلى مجلسى الصامت. ومر الوقت. ولم يكن 
بالنسبة إل إلا صمي وفكرًا محترقًا وشهفة على الفرار. 
ثم ذُغينا إلى سباط أَعِدَ غل سطم العارة في اطراء 
الطلق. والعشاء عناء جديد لثليى. ولكنّه محتمل 
بخلاف الحديث. لأنْ المدعوّين يشتغلون بالطعام عن 
عذاه فيجد من كان مثلى فسحة للطماأنيئنة 
والسكيئة. . . وعدنا إلى مجالسناء شابئها ذراعي بذراع 
أخي. ثم بدأ الغناء. وكان المغني الحاوي وفرقته ‏ من 
المواة كذلك . يتصدّرون حجرة الاستقبال وقد غَىٌُ 
ديا ما انت وحشبي» بصوت لا بأس بهء فاق في نظري 
صوت فئان حانة سوق الخضر. وجاء جير بك للجوقة 
بقبّتين من الوبسكي2 وقدّمت كئوس مترعة 
لآخرين» وقد همس مدحت في أذني: 

- ألا تشرب كأسا أو كاسين؟ 

فنظرت إليه نظرة لم يفهم معناها وقلت بإنكار: 

د عخال: .. 

فلتها بلهجة تنم عن الاستفظاع. ثم خلوت إلى 
ذكرياتي في صمت. لشْدّ ما همت بنشوة الخمر! أفليس 
عجبًا أنني لم أذقها منذ الساعة التى اجترأت فيها على 
مخاطبة حبيبتي؟... هجرتها في غير ما عناء كأتها ل 
تكن. ولم تنازعني النفس إليها ولا مرة واحدة! وتتابع 
الغناء والحديث وعلا الضحك. وكنت حريًا بآن آنس 
الجوء وأن يذهب عئّي الضيق وتوثّر الأعصاب. لولا 
شعوري بخطورة الساعة الى تترئص بي!... متى 
أتلقى عروسي؟ وأين... وهل يحدث هذا في خفية 
عن الأبصار؟! ومرٌ الوقت. ثم انتبهث بغتة على جير 
بك السيّد وهو يقف حيالي ويضع يده على كتفي قائلا 
وت محمد ١‏ 

- هلم يا سى كامل أزف الوقت, 

ورفعت إليه بصري في ارتياع وغمغمت: 

- آن وقت الذهاب! 

فقال ضاحمًا: 

- ليس في الخال ولكن بعد زفة بسيطة؟ 


فسرت في جسدي رعدة وهتفت في هلع : 

كلا. . . كلا. . . اتفقنا على آلا تكون زفْة! 

- ليس الأمر ىا تتصورء فقد أقفمنا فى الصالة 
الكبيرة منصة للعروسين. فتجيء بعروسك وتجلسان 
عليهاء الجميع يريدون أن يروا العروسين فا ذنبي 
أنا؟ ! 

كان كلامه ينقلب في مميلتي صوراء فرأيتني أمئي 
وسط الجميع إلى حجرة العروس وأعود بها والمدعؤون 
يحيطون بنا مهللين» ثمّ نجلس فريسة للأعين!. . . 
رباه. . . ساقع مَعمى علّ. 

وقلت بحرارة: 

- ولكن هذه الزفة!. , . ليس في مقدوري!... 
أرجو يا بك أن تعفيني. .. لا أستطيع . , . 

- الآمر أسهل مما تتصوّرء ولا بد مما ليس منه بد 
وإلا ماذا يقول المدعؤون؟ ! 

فهتفت في فزع : 

- دعهم يقولوا ما يقولون. لا أستطيع. . . سأنتظر 
العروس على بسطة السلّم ثم نذهب إلى بيتنا. . . 

ولم يتهالك الرجل نفسه فضحك وصاح بي حيّى علا 
صوته على صوت المغئ : 

- بسطة السلم. . . يا لك من عريس عجيب! 

وكان مدحت يصغي إليدا صامثاء فضغط على 
ذراعي وقال لي بحزم : 

- ما هذه الأفكار الصبيانيّة؟!... ألا تريد أن 
تجيء بعروسك؟! ألا تستطيع أن تشقّ طريقك بين 
لخبة من السيدات الفضليات؟ أتريد البك على أن 
بعتذر عن عدم ظهورك بأنك خجول لا تستطيع 
الظهور أمام المدعوات؟! وافضيحتاه! 

وتشجع جبر بك بكلام شقيقي». أمّا أنا فحدجت 
أخي بعينين غير مصدّقتين. لم أكن أتصوّر أن تجيئني 
الطعئة القائلة من اليد التي أعتمد عليها. وضحك 
أخي لفزعي وذهولي. وأراد أن يتكلم ولكيّ قاطعته 
رونا يان : 

- كيف تدفعبي إلى ما لا قبل لي به؟. . . أتريد أن 
تجعلنى أضحوكة المدعوّات؟ 


م 


وتأثّر جبر بك للهجتي الحزينة البائسةء فقال برقّة : 

- المدعوّات حميعًا من الأهل. وقد تعرّفت إليهنٌ 
يوم الخطبة» وسترى صدق قولي. . . 
لم يزل الفزع يتملكبي. وتناهى بي الضيق فقلت 
بتوسل : 

- نشدتكما الله أن ترحماني! 

وكأن أخي أدرك أن الكلام لا يجدي. فوجه خطابه 
لجر بك قائلد : 

- يمكن أن نتفق على حل وسط فتجيء العروس إلى 
المنصة بين صويحباتهاء وأذهب مع أخي إليهاء 
فيجلسان معًا بين الأهل ردحًا من الزمن قبل 
الذهاب. . 

وأوما إلى البك آلا يعارضء. فذهب الرجلء 
والتفثٌ إلى أخي مغيئا محنشًا وقلت له: 

- يا لك من أ خخائن!. . . كيف تسمي هذا حلا 
وسطًا وما هو إلا التدكيل بي. . . 

فنذت عنه ضحكة مجلجلة ذكرتئي بأبينا وقال لى : 

- إنك تعرٌ بلدّاء فدع النضالء. وسنذهب مما . . 
ليني أجد كل يوم زفة فاشقٌ سبيلا طريًا بين النساء! 

وصمت الحظة قصيرة. ثم لكزني في كتفي وعاد 
يقول : 

إذا حدّثتك نفسك بالنكوص فاهرب واستغن عن 
العروس ! 

واستسلمت إلى الواقع في يأس وضيق وهلم. 
وعزفت الفرقة نشيد الزفة فخفق قلبي بارتياع وشعرت 
بدنو الخطر. وقرعت أذىّ الزغاريد الآتية من الصالة 
فاممارت قواي, والتفتٌ إلى مدحت قائلا: 

أما من حيلة؟ أما من طريق؟ 

فَسْدٌ على ذراعي ومبض وهو يقول: 

- طريق واحد يفضي إلى المنصّة كأنّك طفل يُساق 


إلى الختان | 
وسارء فتتحرّكت قدماي وقلبي يفوص في 
صذري . : 


السراب ماة 


- ارفع رأسك. حملق في وجوه الحسان حي يغضين 
حياء ! 

ولك تقدمت على مهل خافض الرأس. لم أشك 
في أن منظري استثار الضحك المكتوم . وبلغ مسمعي 
صوت نسائيٌ يتساءل: «أتبها العروس؟» فأجابت 
أخرى ؛ «الطويل !). كان المكان مكتظلاء وفك رانك 
عديدًا من السيقان والأحذية البيض على جانبى 
الطريق الذي أفسح لنا. ثم سمعت صوت اح 
همس في أذي : 

- بلغنا المنصة؛ اصعد إليهاء وحيّ عروسك 
والكلسن. 

ارتقيت درجتين» ورفعت عينّ في حذر وإشفاق 
فرأيت حبيبتي جالسة تحت ظل من الأزهار, في ثوب 
العرس الأبيض وعلى رأسها هالة من الفل والياسمين 
تنسدل منها على الظهر ذيول من الخرير. وكانت بهاء 
ونورًا وقُلا وياسميئًا؛ وقد غضت بصرها ولاحت على 
ثغرها ابتسامة خفيفة. وصرت منها على قيد خطوة, 
وتذكرت قول أخي : «حئّ عروسك واجلس». . كيف 
أحبيها؟. أأسلم باليد؟. . . أم أوجّه إليها تحيّة المساء؟ 
وتردّدت مرتبكاء ورأيت في ابتسامتها الخفيفة الخجلة 
ما ينم عن انتظار نحيّتيء ثم شعرت با غاب عي 
لحظات قصارء أو عاودني الشعور بالأعين المحدقة بي 
تكاد تحرق ظهريء ففقدت جناني» وجلست على 
المقعد الخالي دون أن أنبس ,«كلمة أو أحرّك يدي . 

أخطأت بلا شكٌ؟! ماذا تقول النسوة؟ . . . ماذا 
هذا من قبل ما فكرت في الزواج أبدًا! . . . الموسيقى 
تعزف» والزغاريد تجلجل. وأريج الروائح الركية 
بتطاير في الجو. الموت أهون من الزواج! هل أظل 
الدهر ضحية للمئنصات؟ بالأمس قضت منصة الخطابة 
بكليّة الحقوق على مستقبلي. والليلة تكاد تقضي منصّة 
العروس على حياتي! ترى ماذا يقلن عن عييّ اللتين ‏ 
تزايلا الأرض؟! وذكرت بغتة أمي ١‏ ترى أين تجلس؟ 
إنها تراني في هذه اللحظة بلا ريب. وتضاعف حيائي, 
وتولاني شعور مُن يُضبط وهو يقترف عيبًا. ووجدت 


4 السراب 


إحساسًا لا قِبْل لي بمقاومته يدفعني إلى البحث عن 
موضعهاء وارتفعت عيناي في رفق وحذرء ولكتها 
كانت انر انمض ون كانت علس ل الفيلت الأول 
الذي محدق بالملصة. فالتقت عيناناء وتبادلنا ابتسامة 
رقيقة. وطار نخيالي إلى صورة من الماضبي البعيد. 
فرأيتني أقف وراء سور المدرسة الأولية وهي بموقفها 
على الطوار المقابل للسور» ترنو إل بعين التشجيع 
والتوديع» فشعرت بغمز على قلبي . 

وتنفّست الصعداء حين أقبلت نازلي هانم نحونا 
وقالت مبتسمة : 

- الآن إلى بيتا مصحوبين بالسلامة . 

ثم خخاطبتني هامسة : ْ 

- ستذهب الجارية صباح مع سيديمها الصغيرة لأنها 
لا تحمل مفارقتها!... وإ أوصيك بها خخيراء 
وستجد فيها خير طاهية . 

وتنحّت المرأة جانما مغرورقة العينين» ونمضنا من 


مجلسنا. وأحذت بيل غروسى وغادرنا المكان 2 لسار 


وئيد والزغاريد والأنغام تودّعنا حبّى باب العمارة. وكان 
أحد أصدقاء جبر بك قد وضع سيّارته تحت تصرّفنا 
حتى نبلغ دارنا. واحتوتنا السيارة معلل ثم انطلقت 
بنا. والتفثٌ نحوها متتيّدًا فكانٌ أراها لأوّل مرّة. 
وقلت بارتياح : 

- يا له من موقف قاس ! 

يا لك من خجول! . . . ألهذا الحدٌ؟ ! 

فئدت عني ضحكة أداري مهأ ارتباكي . وجعلت 
أقل غبطة تملا القلب والعين والروح. 


2 

أغلقت باب المخدع بيد مضطربة. كان هذا الجناح 

من الشقة خاليًا صامتاء تفصله صالتان صغيرتان 
متد ا حلتان عن الجناح الآخر حيث توجدل حجرتا أمّي 
والاستقبال. . , وكان ممدعنا مربعًا يتوسّطه الفراش, 
وعلى يمين الداخحل مباشرة مقعد طويل ذو لون وردىّ. 
وفي الجدار المقابل التواليت والمشجب. مضت رباب 
إلى آخخر الحجرة وجلست على مقعد التواليث بين 


صورها المعكوسة على مراياه الى ترسم حوفا نصف 
دائرة» وراحت تنزع إكليل الفل والياسمين» بينما 
وقفت في وسط الحجرة مرتفقًا حافة الفراش الخشبية, 
مرددًا بصري بين ظهرها الرشيق وصوّرها المتنافسة في 
الحسن. هذه الحجرة هي دنياي. وحسبي بها من 
دنيا» وهذه الفتاة هي نصيبي من الكون وحسبي بها 
من نصيبء هي حبّى وسعادتي وأملٍ ولن أسأل 
الدنيا مطمعا بعد اليوم . 

انتنهت حبيبتي من نزع إكليلهاء وأخذت تسوّي ما 
بعثر من خخصلات شعرها الكستئائي في تمهل من 
برغب في اكتساب أقصى ما يسعه من وقت. ولكن 
ستنتهي حت فترة الانتظار فما العمل؟ 

ربّاه إن قلبي يقظ متونب. وإنِ لأجد رعدة ترعش 
ركبقّ: وإني لأتساءل في حيرة عن الخطوة التالية بنفس 
هيابة وحياء شديد يدور مع دميى. وأدركت رغم 
اضطرابي أنه ينبغي أن نبدّل ملابسناء ولكتني لم أدر 
كيف يتم هذا وكلانا في حجرة واحدة مغلقة! وبدت 
لي وكأئها تننظر مثئي شيناء فقد انتهت من تسوية 
خصلاتها وإن تظاهرت بالعكس. ولاح في وجهها 
الارتباك والحرج. وإنٍ أعلم أمورًا ولكن فاتتي 
التفاصيل. وأعوزتني الحيلة والعزيمة. ليتني استعخبرت 
أخي مدحثء أو ليته كان لي أصدقاء أرجم إليهم في 
أمثال هذه الأسرارء ولكن قَائَلٌ الله الحياء الذي يقيم 
بيني وبين أخي والناس سدّاء تبّا له! لماذا لا يزايلني 
وقل صرنا وحدنا!! 

وبلغ ضيقي بصمتى وجمودي منتهاه. وثار بي 
الغضب عل نفسى» فصمّمت لاتكلمنّ ‏ وهو أضعف 
الإيمان - وقلت ات غريب أنكرنّه أذناي : 

ما أحملك . ! 

هته اذل كدمة قرن الدزويا وكات | عد نوق 
يدور يعيوها فحن شوق لاله و الراة وا سيت 
ثم غشت بصرهاء وشبكت ذراعيها على صدرها. ل 
يعد يجدي التظاهر بتسوية الشعر فشبكت ذراعيها في 
استسلام المنتظر. وازددث حرجاء وعضضت على 
شفتي قهرًا وغيظًا. وبدا لي تغيير ملابسنا كأكبر مشكلة 


في الوجودء فهل نبقى على لمذه الحال الأليم حت 
مطلع الصبح؟. . . لماذا لا أمضي نحوها فأضمّها إلى 
صدري حي تحل المسألة نفسها بنفسها؟ . . . ولكن 
كيف أقدم على هذه الخطوة العظيمة؟! إن أستطيم أن 
أتخيل. وأن أحادث نفسي ) أمَا الإقدام على عمل فهو 
المحال. وامتلاً قلبي غيظًا وألمّاء وازددت إحساسًا 
بالعجز والخزي» فصممت أن أخرج من صمت على 
الأقل. فقلت 

- هلا برّلت ملابسك يا عزيزي؟ 

فقالت بعد تردّد: 

كا 

لعلّها توقعت دعابة أو مغازلة ردًا على قولهاء ولك 
م أفكر في شيء من هذاء وتركز تفكيري في إيجاد 
مكان أتوارى فيه ريثا تخلعم هي فستان العرس. 
وتراجعت قليلُا جاعلا الفراش بي وبينهاء ثم جلست 
على أرض الغرفة مختفيًا عن عينيها وأنا أقول : 

- بذلي ملابسك يا عزيزي. . 

وحسبتني قد ظفرت بالحل السعيد. وانتهزت 
الفرصة فمضيت أخلع ملاسى في هدوء محاذرًا أن يبدو 
8 شىءء ووضعت البدلة على الفراش» وتناولت 
البيجاما وكالت ملقاة على المقعد الطويل» وحشرت 
فيها نفسي وأنا لا أزال ملازما موضعي على الأرض . 
وانتظرت مليًا ثم سألتها برقة : 

- هل انتهيت يا عزيزتي؟ 

فأجابتئي بصوت مهموس : 

ان 

فنبضت قائ] وهنا وقع بصري على صورتي في المرآة 
فرأيت الطربوش ما يزال على رأمسى فلزعته مبتسمً)! 
ونظرت صوبها في حياء فوجدتها بمجلسها السابق وقد 
التفت في روب من الحرير الأبيض. وأدارت المقعد 
مستقبلة به الحجرة. وعدت إلى موقفي مرتفقًا حائة 
الفراش» رانيًا إليها في غبطة وهيام. وكلما رفعت إلى 
عينيها غضضت بصري في حياء. التهينا من تغيير 
فلاستاء. لكو ليس هذا كل تشوءا بو يدت الليلة 
ركان الا عجان الشاكلها ,ري هيد أن قلي رياه 


السراب م 


يضمّها إليهء فاذا يغْلّني؟! 

إن هي إلا خطرة أقطعهاء فهل تكلف خطرة 
واحدة كل هذا العناء؟ كان قلبي متلهّمًا متعظشّا 
وكان حجلى حارًا ميرٌاء أمَا جسمي فكان ميئًا لا 
حراك به! أأظل فكذا أبدًا؟... لاذا لا أداري موي 
بالحديث؟. . . ولكن ما عسى أن أقول!. . . لقد عقد 
الاضطراب لساني» وكلّ دقيقة تمر تتركني أشدّ ضعمًا 
واضطرابا. وعلى حين بغتة الحرف ذهني إلى حجرة 
أمي دون 00 وتساءلت ترى هل نامتث؟ هل تتخيل 
ماذا أفعل الآن؟ وتضاعف اضطرام الحجل بنفسي. 
وشعرت با يشبه الاختناق. سلّمث من جانبي بالياس 
والعجز. وتساءلت هل نبقى على هذا الوضع 
المضيحك حي الصباح؟ ووجدت في أعاقى نزوعًا إلى 
الحرب. وهفًا عليه. وكدت أتَئى لولم يكن ما 
كان! , , . وأفقت من أشجاني على صوت حبيبتى وهي 
تقول : 

ار 

وتحؤّلتٌ صوب النافذة لتفتحهاء ووجدتٌ فرصة 
مواتية فدفعت نفسي وراءها وأكملت عنها فتح 
المصراعين وهمت حبيبتي بالعودة فقلت كالمستغيث: 

هلا وقفنا في النافذة قليلا. . 

ولبت حبيبتي نداء الاستغاثة. فوقفنا جنا لجنب لا 
يفصل بيئنا إلا قيراط. وكانت النافذة تطلّ على الناحية 
الخلفية للعمارة. وتقع تحتها مباشرة حديقة كنيسة تقوم 
بجنباتها أشجار عالية تتصاعد “مسات حفيفها في 
صمت الليل . وهفت على وجهينا نسمة رطيبة أتطلع 
إليها كما يتطلّع الطفل إلى القمر؟ ها هي ذي لا 
يشصلنا إلا قبراط. وملت بجسمي في تؤدة وحذرء 
فتماست ملابسنا. ثم شعرت رويدًا بملمس طري». 
والتصق الحنبان. وندّت عبتي تدهدة مسموعة أيقظت 
حيائي فتريّفت قليلا. وخفت أن تصني أو تبتعد عق 
حياء فأغلب على أمري ولا يعود ثمّة أمل. ولكتها 
لبثت بمكانها وارتفقت حافة النافذة . 

ودفعتٌ بيسراي إلى الوراء قليلاء ووجهتها وراءها 
حتى رسمت خلف خاصرتها نصف دائرة؛ وجعلت 


45 السراب 


أضيّقها على مهل وحذر وخوف حسٌش مسّت ثنيات 
الروب الحريري. فسرت من مسشها لقلبي رجفة وندت 
عي للمرّة الثانية تنبّدة مسموعة. ثم توثبت بمجامع 
قلبي وأحطت خاصرتها بذراعي . . . ول نبْدٍ حبيبتي لا 
معارضة ولا حراتًا. ونفضتٌ عب أفكار التردّد 
والهزيمة. وشددتها نحوي مستعيئًا بذراعي اليمنى. 
وتلقيتها في حضني وأسندت جبيها إلى صدري. 
فهويتٌ بشفتّ على مفرق شعرهاء وغمغمت وأنا لا 
أدري : 

أحيك . 

ولبثنا في عناقناء والله أعلم بما لبثنا ثم تراجعنا 
متماسكين إلى الفراش» وصعدنا إليه وذراعاي لا 
تتخليان عنها. وأسئدنا منكبينا إلى نمرقتين عاليتين. 
وحييبتي وما عليها من روب على صدري وبين 
ذراعيّ؛ ومن عجب أن بصري لم يتطفل عليها فاتجه 
إلى السماء خلال النافذة. وامتلأت نفسى حياة لا عهد 
0ل ا 00 
تدبٌ به حياة» كأنْ نفسي استائرت بكل قطرة من 
حياتي. أسكرتني نشوة روحيّة باهرة غنّاء طروب 
سامية» وظللت على حالي حيّى مطلع الفجرء ول أدرٍ 
كيف استرق النوم خطاه إلى جفني. . . 


2 

استيقظت ونور الشمس يملأ نصف الحجرة تحت 

النافذة المفتوحةء فوقعم بصري على المرأة» وعاودتني 
ذكريات الليلة الماضية في لمم البصر. ودارت عيناي في 
الحجرة فوجدتها خالية» وأدركت أنْ حبيبتي غادرتها 
وأنا أغط في نومي , فتندّى قلبي حنانًا وبعثت ها بتحيّة 
ودعاء. وقلت لنفسي إِنْ مشاعب الخخفطبة والزواج 
والزفاف قد انتهث. ولن يضمر لي المستقبل إل صفاء 
لا يكذره مكدّر. وراجعت ذكريات الأمس فساحت 
نفسى في متاهة النشوة والسعادة. بيد أنه لم يغب عن 
أنني لم أبدأ بعد. وأنّنى لم أكتب حرفا واحدًا في كتاب 
الزواج الضخم. وغادرت الفراش ونظرت في الساعة 
فوجدتها قد جاوزت العاشرة. فهالبيى تأخيري». 


وذكترعا اق العو اتيم وقساء لف هع نظن ينذا 
الاستيقاظ المتأخرء وشعرت بحياء أليم» زاد من أله 
أنه لى يحدث ما يستدعي التأخير قط. وأحسسثت بضيق 
ننْص عل سعادي» وكأئنيى أدرك لأول مرّة أن الليلة 
الماضية لم تخل من فشل وإخفاق. على أنّني قاومت هذا 
الاحساس الخائن» ورغبت عن الانفراد به فغادرت 
الجرة, وقابلتني في الصالة الحارية صباح - التي 
انضمت إلى أسرتنا - فهنائي «بالصباحيّة» وأخبرتني أن 
العروس تنتظرني في حجرة السفرة فمضيت إليهاء 
ووجدتها جالسة كالوردة اليانعة فالشرح صدري 
بمنظرها وأقبلت نحوها متهللا وقيّلت سحدّها. وتناولنا 
إفطارنا ما المكون من اللبن والشساي والبيش 
والحاتوه. وتبادلنا على المائدة حديعًا عاديّاء فسألتها متى 
استيقظت». وأجابتبي بأنها استيقظت في الثامئة. وبأنها 
تستيقط في العادة مبكرة مها تأخر بها وقت المنام. ثم 
جاءت أمْي فهئاتنا معًاء وجالستنا بعض الوقت. 
وانتقلنا إلى حجرتناء وقضينئا النبار في حديث عذب لا 
بلّ. وذهبت عب الوحشة فآنست بها وقصصت عليها 
قصة حبّي من البداية إلى النباية؛ وكنا نفل حديثنا 
بالقبل السعيدة المتبادلة. وسألتها متى أحست بوجودي 
في دنياهاء فقالت إِنْا فطنت سومان حولها وتطلعي 
إلى الشرفة منذ عام أو أكثر قليلا» وإِنْ أمّها لاحظت 
ذلك في نفس الوقت تقريبّاء ثم صرت بعد ذلك 
حديث البيت فكانت الخادمة الصغيرة إذا لمحتي من 
النافذة آتيا من طريق المنيل قالت لهم ضاحكة «عريس 
ست رباب؛؛ وكانوا يزجرونها بشدّة. وليّا طال بي 
المطال دون أن أتقدّم خطوة ظنوا بي الظنون. ونهتها 
أمّها عن الظهور بالنافذة أو الشرفة في الأوقات التي 
أكون فيها بالمحطة. وسألتها بلهفة : 

- ألى تشعري نحوي بعاطفة ما؟ 

فابتسمت ابتسامة رقيقة: فتحت فاها لتتكلم. 
ولكنبا أطقت شفتيها دون أن تنبس. وكان بي نهم 
شديد لساع ما يبل جوانحي فألححت عليها أن 
تتكلم, فقالت بصوت لا يكاد يسمع : 

دالا أدراق ده لا أذوق مق أحشعكا: 


ا 
؟. 


وشعرت بتخدير عميق وددت لو أنام به دهرًا. 
وجعلت وجهها بين راحقٌ متمليًا شفتيها اللتين برزتا 
نحت ضغط يدي». ثم وضعث عليهما| شفىٌ» وذبت في 
قبلة طويلة. وجدت حبيبتي فتلة. حديثها عذب. 
وبديبتها حاضرة» وذكاؤها باهر حيّى بدا حديثي على 
ضوء حديثها فاترًا باهنا. وبدت لي لطيفة خفيفة 
الروح فلم يكن وقارها إلا تأدْبًا واحتشامًا. ولا أدري 
لماذا كنت أتخيلها مثالا لضبط النفس». بل وللبرود 
أيضاء ولك لمست في قبلاتها حرارة تذيب القلب. 
وف نظرة عينيها عاطفة عميقة وإحساسًا مرهمًا. 
وانطلقت على سجيّتها بأمرع مما توقعت, ورثما 
شجّعها على ذلك ما رأت من شدّة حيائي . 

ولمًا جاء الليل وأغلقت الباب وراءنا قلت لنفسى 
وبي رهبة زحفت عل مع الظلام «الليلة يتم الأمر بإذن 
لله». لم تكن لي تجارب على الإطلاق» ولم أعرف من 
الحياة الجنسيّة إلا العادة الجهنّميّة التي لم أكد أنجو 
منباء ولك عرفت أمورًا بالسماع عفوًا في الوزارة ‏ 
لا أدري إن كانت تغني عني شيئًا. ورأيت حبيبتي 
واقفة حيال المرآة تمشط شعرها فراقني منظر قامتها 
الرشيقة الفارعة. وتدانيت منباء ولففت ذراعيّ 
حوهاء فاستدارت حيّى شعرت يس صدرها على 
قلبي. وضممتها إلى صدري في حنان وهيام إنّه 
الحبء ولكنني أدركت بغريزي أنه ينبغي أن أستنزله 
من السياء كشيرًا كي أقوم بواجبي!... ولكن 
كيف؟! . إنها تسكن إلى صدري كأئْها طيف من نسجج 
السحاب الطاهر. وإنيٍ أبدو كروح خالصة لا يحيط بها 
جسد فكيف أجد جسدي!؟ وسرعان ما انسربت إلى 
نفسي مشاعر قلق وخوف وتوئّر أذكتها جميعًا تجربة 
الأمس الفاشلة. ولم تكن تراءت لي كتجربة فاشلة إِلَا 
في هذا الصباح. وكذّبت رأبي أو كدت في أثناء 
النهارء ولكئّنى عدت إليه في تلك اللحظة بتسليم 
وبقين ويأس . ثم استحوذ على الحياء القاتل فأثلج 
دمي وأوهن عزيمتي. وركبنيى خوف شديد من الفراش 
الذي لا أجد لنفسي عذرًا عليه بينا أجد شبه عذر 


م 


السراب 417 


مرت هذه الخواطر برأسى وحبيبتي ما تزال بين 
بدي فالقلبت تمفالا بحامدً1 من كره الفكره..وضاعة 
نعاءة المنعهاة ة فدات ديه ولعا فنا نانك 
بالوقفة. فوسمرتني تتيّدتها ول أعد أطيق جمودي. 
ورفعتها بين يديّ؛ وسرت بحمل المحبوب إلى 
الفراش» وأفتها في رفق ثم اضطجعت إلى حانبها. 
ودفعني الشوق إلى تقبيل شفتيها وخدّيها وعنقها بسرعة 
وغزارة» فداخلتها رقة وأحاطت عنقي بذراعها البضّة 
والتضتنا طويلا وتنافى يننا الفطك واطننات: 
واصطرعت بقلبي أحاسيس الحبٌ والياس واللذَّة 
والخوف فكأني في متاهة حمّى يذهب بي هليائها ويجيء 
بين أخيلة السرور وأشباح المخاوف. إني في حلم 
سعيد ولكنّ الخوف لا يزايلبي واليأس يثير في وجهي 
غبارّاء وكيف لي بالنجاة وجسمي ميت لا حياة فيه؟! 
وأحرق جفاف الخوف حلقي» ووقفت حيال عجري 
ويأسى حائرًا أتساءل» ولكثّي لم أفكر لحظة واحدة في 
التقهقرء وأين المفر؟... بل دفعني اليأس إلى أن 
أنزع الروب عنهاء فجرت يدي إلى عقدة زثاره 
وحلتهاء وشعرت بصدرها يرنئجف تحت صدري. 
فأزحت جانبه عن صدرها فبدا جسمها الرشيق في 
قميص من الحرير الأبيض لا يكاد يستر شيئاء وبادرت 
تُرجع طرف الروب تستتر فأزحته مرّة أخرى فانحسر 
عن القميص الشفاف, ورنوت إلى هيئة الجسم الفاتئة 
بعينين لم يترك لما الاضطراب إلا قليلا من الإبصار. 
كان حالي ثما يرئثى له. ولم يكن عذاب محتضر يجاهد 
يائسا للاستمساك بحياة جسلده بأسوأ من عذابي. 
ورغم هذا كله ثابرت على عنادي: واستمددت من 
يأسي وعذابي قوّة وإن لم تكن تجدي. إِنْ الخجول لا 
يفرٌ إبَان المعركة لأنْ الفرار محجل حيال الغريم. أجل 
إن يتحامى المعركة» ويفرٌ منها بعيدًا عن الأعين. فإذا 
ولج ميداءها وغدا محخطا للأنظار بات الفرار كالعراك 
سواء بسواء - فوق احتهاله. لذلك أجلست حبيتي 
ونزعت الروب من ذراعيها وتركتها قميصًا شفافا 
وجسدًا باديًا. وأدارت عيّى رأسهاء وأخفته في 
الوسادة. ولم تكن تعلم بأن نفسي تحترق يأساء وبأن 


السراب 


هذا المشهد ما هو إلا مهزلة. فتضاعف ألمي وخجبلي . 
ومع ذلك مددت يدى مرة أخرى كأنْنى ما زلت أطمع 
في أمل لا أدريه. مددتها وهي ترتجف من اليأس 
والبرودة فندٌ عن حبيبتي صوت يمس ؛ 

- إني خعائفة. . 

واخجلتاه!... مم تخاف؟!... لقد أطبتي 
*مستها كسوط حُمّلت أطرافه بالرصاصء» ومع ذلك م 
أتوقف. . . لم تثنني لا المقاومة ولا الصدود... حت 
بلغ النظر غايته! ماذا دهاني؟ ليس الموت فحسب ما 
بي. إنه شىء جديد مفزع مزعجء ماذا دهاني؟! رباه 
حبيبتى جميلة لطيفة ولكنّه الجهل والخيال الأعمى ! 
كنت غرًا أعمى ل تر عيناي نور الحياة, فتخيّلت عنه 
خيالات صبيائيّة فليا أن رأت النور الحقيقي أنكرته! 
تا مأساة. ولعلّه لولا موت لما كانت مأساة على 
الإطلاق. وقد علّمتبي تلك التجربة القاسية أن الحبٌ 
يخلق الال كما يخلق الال الحبت... ومهما يكن من 
أمر فقد ركبني الفزع فوق ما بي من يأس ونحجل وم 
بعد ثمّة أمل. ولبئت جامدًا وحبيتى دافئة وجهها في 
الوسادة» مستسلمة تحت رحمة جلادها.. . لبنت 
جامدًا لا أدري ماذا أفعل ولا كيف أتراجع ووجدت 
في لحطة رهيبة قوّة عصبيّة متوترة تدفعني إلى الضحك 
لولا أن تماسكت وشعرت في اللحظة الغانية برغبة في 
البكاء؛ ولولا أن البكاء لمحجل لروّحت بالدمع عن 
ثم استثقلت الجمود كما خفته 
فضممتها إلى صدري وقبّلتها ومشاعر العطف 
والحزن - علينا معغا ‏ تسيل من شف كان رثاء 
بالقبل. ومرّ الوقت كأنْ دقائقه وتوانيه أسنان منثسار 
يحز عنقيء ومرّت دقائق ورثما ساعات. ثم انقلب 
الخال عله تنام وق حركة اطفة خراصت هن 
ذراعيّ. . . وتغطت بثياءها وبدا لي النوم نباية مضحكة 
ولكن ما حيلتى؟! رقدت حبيبتي دون أن تلتقي عينانا 
فلم أدرٍ متى رق الكرى بجفنيها. ولبثت مسهدًا متعبًا 
5 أدري بأ وجه ألقاها 3 الصباح , أي شيطان 
أغراني بالزواج؟... ألم يكن عذاب الحسرة القديم 
خيرًا من هذا العذاب؟... كيف خانني جسمي؟ 


نفسى الملتاعة. . 


البمن هو الجسم الذي يلتهم نارًا في العادة الجهئمية! ! 
وإلام يدوم هذا اليأس! . 4 ظلْ رأمي كقطعة محيأة 
من الحديد يتطاير عنها شرر الأفكار. 


5 

حبيبتي عطف ورحمة. وقد طالعتني في الصباح 

بالابتسامة المشرقة. ووثبت هنا وهناك ببشر وسرور 
ومرح, فلم يداخلنيى شك في أنْها عروس سعيدة. ولو 
بدا لي أئْها تتظاهر بالبهجة لتخقف عبّى الحرج لما 
وسعتني الدنيا شقاء ولكتّها كانت تصدر في مرحها 
عن وحي فطرة بسيطة سليمة لا تعرف التصئع ولا 
التمثيل. وشعرت بصدق وحقٌ بأن فتاتي تحبّني. وبأئها 
قلب كبير ملىء بالحنان والعطف والأنوئة. فعاودني 
الأسزع يوقت للفيى إننا هنا رلكاةن المنداية وإن 
مسرّات لا حصر لها تننظرنا إذا عيرنا الخطوة الأولى 
الشاقة. وقضينا النبار معاء بعضه في الحديث وبعضه 
الآخر في مشاهدة الرسوم والألعاب التى مهيرتٌ في 
إبداعها لأطفال الروصة. وحين المساء زارتنا أسرتهاء 
وجلسنا جميعًا في حجرة الاستقبال ومعنا أمّي أيضًا. 
وتحدّئنا طويلاء والتهمنا بلذّة الشيكولاطة والملنس . 
وحاولوا أن يجِرّوا أمّي إلى الحديث. ولكتها ‏ متلي ‏ لم 
تكن محذثة ماهرة. فبدت متحفظة, وخيّل إل أن 
محضرها لم يترك أثرًا حسنًا في نفوسهم. وأن رباب 
شاركتهم نفس الشعورء وما لبت أن سرت العدوى 
إل وكنت أجد نحوها إحساسين متناقضين. إحساسًا 
بالرغبة في وجودها معي وهو ما ألفته وطبعت علي 
وآخر بالخجل الأليم لوجودها في بيت الروجيّة. والحق 
أني ما كنت أذكرها حي يتندّى جبيني خجلًا. ولم 
انفض السامر وأقبل الليل الإتكيلنه كا وكرفه بون 
كاد باب حجرئنا يغلق وراءنا حتى نضب معين السرور 
والبشر من قلبي. وغاض منه الأمل الذي ابتعثه مرح 
البار. وبدا لي أن فتاتي تعاني بعض ما أعاني» وأنها 
تداري قلقًا لم تنفع لباقتها في مداراته. تولّت عت الثقة 
في أقل من ثانية؛ وتخايلت لعي ذكريات الليلة 
الماضية؛ وتيت لو كان في الإمكان أن ننام دون أن 


نجرّب محاولة جديدة» وأيقنت بالإحفاق قبل البدء. 
على أنْنى لم أجد بذًا مما ليس منه بِدّ. وأعدت التجربة 
بحذافيرها من قبل وعناق وإخفاق! أجل إخفاق 
وإخفاق وإخفاق. مسكينة حبيبتي». لقد استسلمت 
بادئ الأمر فيا يشبه الخوف. ثم انتهت بأن لمت نفسها 
في حياء وارتباك. انتهينا في ساعة متأخرة كما انتهينا 
أمس. فنامت هي. وبقيت مسهذدًا متفكرًا. ماذا 
بي!... إن أحبّها بكل قرة نفسي. بل إن أعبدها 
عبادة ولثن يخلو بيت منها بعد اليوم لأهلكنٌ لا محالة؛ 
أتكمن المأساة فيا دهاني به النظر من انزعاج لم أتوقّعه ! 
ولك بلا خضي اناراكء أذ مر منارى انر لبي 
فيها رأيت دعل فيهء بل إني آلف الحقيقة التي غابت 
عب سريعًا وتكاد تنهزم خيالات الوهم الصبيانيّة حيال 
الواقع الحقيقيّ. ول يتغيّر متي شيىء.. وقد أثْر في 
حياؤها وارتباكها - وهي ترتدي ثيامها - تأثيرًا عميقا 
فأقسمت لا أقربنٌ ثياها حي يغيّر الله ما بىي! 

ومضت بنا الأيام في حبٌ طاهرء فامتزج روحاناء 
حَبّى صارا روحًا واحدًا في جسمين غير متصلين. ولولا 
حبها العميق؛ ومرحها الطليق» وبساطة قلبها الكبير 
ل كما 

وإنها م عجيبة» وإنه شهر عسل غريب! وكانت 
حبيبتي مشالا للشعور الحىّ والرقة البالغة والحبٌ 
الصادق. وكثيرًا ما كنت أسترق إليها نظرات متفخصة 
مستريبة فلم أجد منها إلا الصفاء والوداعة والرضاء 
فكاد يقم في روعي أنه لا يعوزنا شيء. وأستطيع أن 
أقول إِنّني لم أنعم بالراحة إِلّا في تلك اللحظات. وفيهما 
عدا ذلك كانت حياقي جحيمً) مستعرًا لا يدري به 
أحدء لم تعد سعادتي إلا أويقات طارئة كأءئها إفاقات 
من يعاني سكرات الموت. وشعرت بشدّة حاجتي إلى 
الح راك عا ركد رد بايد 
كالجبل الراسخ فاستحالت عل المشورة حتّى محرد 
تميّلها كان يشبٌ في نارًا ويبعث في نفسى إحساسًا 
قاهرًا للفرار والاختفاء. وفضلا عن 1 وذاك فلم 
يكن لى صديقء وكانت أمّي - وهيى صديقي الوحيد 
في دنياى ‏ أبعد من أن أذكرها في هذا الأمر خاصة. 


السراب و4 

فكابدثت عذابي وحيدًا صامبًا يائسًا. وكان غارًا 
محتملاء بل بيجا بفضل حبيبتي الي تذيب روحها 
راكد الممّ. حيّى إذا جاء الليل غشيتنا كآبة لم تنفع 
حيلة في تبديدها: كان كلانا يشعر بالحرج والضيق 
والخوف. ولم تواتنيى الشجاعة على معاودة التجربة بعد 
إخفاق الليلتين المتعاقبتين» فكنت أقلم بأن نضطجع 
جنا إلى جنب» وأضمّها إلى صدري, منتظرًا الرحمة 
في خوف وقلق وهلع. حتى ينتشلني النوم من عذاي»ء 
ولذلك لم يزل الحياء حجابا بيني وبينهاء ولو أتيح لنا 
الامتزاج لرفع التجاب رويدًا رويداء فلم أستطم أن 
أشكو إليها بئي وهمّي. وطلما نازعتتي نفسي إلى 
الترويح عنها بالكلام » فا أكاد أفتح شف حبّى أطبقه] 
في ارتباك وخجل. وني إحدى هذه المزات قالت لي 
0 

- هل ترغب أن تقول :شيا ..: 

ووجدت وراء تساؤلها دعوة إلى الكلام. فخفق 
قلبي بعنف وقلت في اضطراب أخفيته بجهد شديد: 

- أرغب دائًا أن أقول إن أحيّك! 

هذا حقّ في ذاتهء ولك كنت أرغب بلا ريب أن 
لولج بش ار بو سريت قرا عيديعة الكارى 
الخفيّة. فجثم الكذب على صدري كالكابوس» 
وغمغمت بعد أن جاهدت حيائى جهادًا مريرًا: 

إنَّ ما مضى من حياتنا المشتركة لا يقاس إلى ما 
يننظرنا من عمر طويل. 

وخيّل إل أن وجهها تضرّج بالاحمرار وإن كنت أراه 
على ضوء المصباح الساهر الخافت» وداعبت شعري 
بأناملهاء ثم قبلتني قبلة عذبة على شفّ» وسألتني في 
أذني : 

أيضايقك شىء؟ 

فالتهب جسمي نخحجلا وألمًا. وقلت بإخلاص : 

معاذ الله , , . 

وصمتٌ على رغمى مليًاء وقلبي يخفق بشذة 
وعنفاء ثم قلت وبوذي لو أتوارى عن ناظريها : 

دا إئها مسالة وقت...-. 

هكذا تعاقبت الأيام. ومرّة أخرى أقول إنه لولا 


٠٠‏ السراب 


حبّها العميق ومرحها الطليق وبساطة قلبها الكبير لمت 
عا وكمدًا 
جد جد عه 

وذات مساء ‏ وكان مشى على زواجنا ثلاثة أسابيع ‏ 
لاحظت أنّا تخالسني نظرات تنم عن الحيرة؛ وأنَّ 
لديها ما تقوله. فقلت لما مدفوهًا برغبة قويّة في 
استدراجها إلى الكلام : 

- في عينيك كلام. . . 

فقالت مبتسمة في ارتباك : 

ا 

فمضيت إليها وكانت جالسة على المقعد الطويل 
وجلست لصقهاء وقلت مستسل) للشعور الطارى 
لفسة : 

ب هاتي ما عندك. . . 

77 

وانفجر الاسم في أذْيّ كالقنبلة, إنه لفظ واحد 
ولكنه يتضمّن كتابّاء وإني عل رغم غبائي أفهم ما 
يعنيه. ولعل الأمّ تواحهها بِبذا السؤال الطبيعي 
المعروف فتسمع ردًا على سؤّالها جوابًا واحدًا لا يتغير 
«كلا بعد...»2! ولمًا طال السكوت قالت حبيبتي 
برق ْ 

زتها انعا تسالي» :ول أدرى. تسافا انقنيد 
مره 
وقتلئي الخجل. ومَيَْرتٌ غيظًاء ثم قلت بهدوء: 

هذه شؤوننا الخاضّة. أليس كدلك؟ 

فقالت كمن تعتذر: 

طبعًا. . . إِنْ هي إلا تريد أن تطمئنٌ عليئا. هُذا 
كل ما هنالك. .7 

فسألتها ممزونا مغمًا: 

وماذا قلت لما؟ 

فقالت باهتام وعجلة : 

١ 8‏ أقل «شيكًا» مطلمًا. 
ذاقى العسحلة. 

00 


.. فقط صارحتها بأن لا 


فتفكرت مليًا كما لترن كلماتباء ثم قالت: 

- قالت لي إِنْ للموقف رهبته؛ وخاصّة بالسبة 
لشابٌ طاهر خجول, وإنّه إذا دعا الحال فلدينا صباح 
الحارية. , . 

فاتسفتة عيناي دهشة وقلت بذهول: 

- صباح ! 

فأومأات برأسها بالإيجاب في ارتباك. فتساءلت 
بدهسة : 

- وماذا تستطيع صباح؟ 

وترددت الحظةء ثم أنشات تشرح لي ما غمض عل 
أل وهلة؛. وأنصت إليها باهتمام حبّى أدركت كل 
شيىء. وأحذت أفيق من ذهولي رويدًا رويدًا. ولسثت 
أحفي أني شعرت بارتياح إلى اقتراح الأم. فهو يزيل 
عقبة من سبيل. ويخليني من بعض المسئوليّة؛ ويعفيني 
من مراقبة الأمّ. ولا أظنها تسأل بعد ذلك عن 
شيء. , . وسألت زوجي بحياء : 

- وكيف نخبر صباح؟ 

فقالت ببساطة : 

- لقد حضرت صباح جانبًا من حديث أي . . 

فهتفت بحياء وانزعاج : 

دا كنك ار كح بالق 

- لا عليك من هذا إِنها أمّى أيضا ولا نخفي عنما 

وتبادلنا نظرًا طويلًا صامنًا... ثم سألت في 
إشفاق : 

وهل علم أحد من الآخرين؟ 

قالت بلهجة لا تدع مالا للشكٌ : 

مطلقًا. , 

فداخلني ارتياح, ولكن شعرت بحاجة إلى مزيد 
من الاطمئئان. فقلث بلهجة ذات معنى : 

- أرجو ألا تخرج «أسرارنا» من هذا الباب! 

فحدجتنى بنظرة عتاب وتساءلت : 

أبداخيلك في هذا الشكُ؟! 


' 

ولكن ليس هدا كل شيء في الزواجح. وكيف يكون 
كل تىء وهو «واجب» قامت به صباح؟! وتساءلت قي 
سذاجة مضحكة عا يقص حياتي الزوجيّة. وهل هو 
ضروري لهذه الحياة! ومن عجب أنثني ترددت عن 
الجزم! وتساءلت ألسنا سعداء! نحن نعيش في هناء 
وغبطة» ويحبٌ كلانا صاحبه حا لا حدّ له ولا يداخل 
أحدًا شك في سعادتناء فلماذا تزعجني الأوهام؟! ولْكنّ 
الإنسان موكل دائ) بالتفكير فيها ينقصه. حيّى ليسبى ما 
بين يديه بما هو بعيد عن يديه فلم تزايلني الوساوس, 
ولى أستئم لحياتي. وفي ليلة من اللبالي» وكنت 
مضطجعا على ظهري أراود النوم وقد رئق الكرى 
اجر ضييم إعائه إى الدكن كارع ايعيده عي 
نسيت ما حولي أو كدت. فساوري شعور بالوحدة, 
قواه في نفسبى ما محيط بي من ظلمة. ورويدًا وجدت 
حياة تدذت ' جسدي. كتلك الخياة التي كان يستثيرها 

الظلام والوحدة. 
وسرعان ما استخْمنى الفرح فكدت أصيح من فرط 
سروري. ثم أقبلت على حبيبتي النائمة أيقظها بالقبل 
حيّى فتحت عينيها في انرعاج استحال دهشة. ومرّت 
ثوان قبل أن تستفيق من دهتتهاء ثُمْ مدّت ذراعيها 
إلى علقي فضممتها إلى صدري بلهفة وشوقء, ولكني 
ما كدت أفعل حيّى عاد كل شىء إلى أصله. وزحف 
الموت اللاردسن سيدق حدق شبيلة ا انر و 0 
وانقلبت إلى حيرة خرساء وحجل مخز! وتبادلنا نظرة 
غريبة على ضوء المصباح الخافت» وبدا في وجهها أنمها 

أقنت تحلم؟ 
ما أصدقها من كلمة وإن قيلت اعتباظاء ولشْدٌ ما 
زلزلتبى تلك الحادئة زلزلة عنيفة قضت قضاء مبرمًا على 
ما كان يتراءى لي أحيانًا من أمل واه وعرضت لي 
خلوات أخرى في ظلام الليل وحبيبتي غارقة في نومها. 
وعاودني دبيب الحياة الشريب» ولكن لم توائني 
الشجاعة مره أخرى على إيقاظهاء ووجدتني أتردّى من 
جديل قُْ اهاوية التي انتشلبي الزواج منبا قرابة شهري 


٠١١ السراب‎ 


وعدت وأنا لا أدري إلى أشر العادة الجهنميّة التي لم 
يعرفها زوج قبلي. ألا ما أشدٌ حيرتي وقهري! كيف 
يقع لي هذا وقلبي يعبدها عبادة! . . . بل كيف ونظرة 
إلى وجهها أنفس عندي من الدنيا وأنعمها!. إِنْها 
حياتي وسعادي ودنياي حميعا. 
ا 

وجدتبها يومًا وكاتبا تعاني رغبة الإفصاح عن شيء 
يعتلجح بنفسهاء فخفق قلبي قلقًا وخوفاء ولكن م 
يسعني أن أتجاهل ما رأيت مفضّلا أن ألقى الخطر 
وجها لوجه على أن أضيف جديدًا إلى ما أكتمه في 
نفسي من القلق والوساوس, فسالتها: 

- ماذا وراءك يا عزيرق؟ 

فلاح في وجهها التردد والضيق ولاذت بالصمت» 
فتضاعف قلفي وقلت بهؤاد منقبض : 

- هاتي ما عندك لا تخفي عتى شيئًا. . . 

فلفخت قائلة : 

ف لوي 

ووقع قوها من نفسي موقع الفزع والهلع. ما بال 
هذه المرأة لا تريح ولا تستريح؟! ولشد ما أبغضتها في 
تلك اللحظة. على أنْبى تساءلت متظاهرًا بقلّة المبالاة: 

حاجنا ونا 

فقالت نصوت منخفض وهي تنظر فيها بين قدميها: 

- لا تفتا تسألبى هل جد جديد في الطريق! 

ومن عجب أن فهمت المراد من هذا المجاز! فهمته 
بغريزتي» أو بالخوف الكامن في نفسي وبلا أدنى تردّد 
ولك تساءلت متمجاهلا : 

ناذا م اا 

فأومات إلى بطنها وعمست قائلة : 

- تعنى هل جد جديد هنا؟ ! 

تولاني فزع شديدء فأطرقت مرتبعًا محزوناء عم 
شال امرأة؟ لعلها ترود أن تغرفه :عفرن اخرى فيمنا: 
وحنقت عليها حنقًا فظيعًا. واختلست من رباب نظرة 
فوجدبها ساهمة الطرف. صامتة, . . أحقًا يضايقها 
تساؤل أمّها أم هي تبلغنيه وني نفسها غرض؟ أباتت 
بدورها تشارك أمَها قلقها وجزعها؟. . . ولاذا تتوارى 


١‏ السراب 


حلف أمّها؟ إِنْ المكر لا يجمل يمن كانت في مثل جمالها 
وطهارتها!' وما كان أغناها عن اللفٌ والدوران! هكذا 
حملي الفزع على عدم تقدير موقف فتاتي المظلومة, 
واسَتدٌ بي الحرج حيّ أرهقني وأعياني» ثم ترككز 
اهتامي في شبيء واحد. وهو أن أسير مدى ما تعرف 
نازلي هانم من أسرارناء فسألتها قائلا: 

- وماذا قلت ها؟ 

فقالت بسساطة : 

قلت لما اللحقيقة ! 

فتشنج قلبي تشنجة حادة وصحت بفزع : 


الحقيقة ! 
فحدجتبي بدلهسة وتساءلت : 
ما لك؟ ! 


فهتفت في انزعاج : 

أحقًا قلت طا الحقيقة؟! 

فقالت بعجلة ولوجة : 

- أجل قلت لا إِنّهِ لم يجدٌ شيء بعد! 

وتنفست الصعداء! إئْها تعني حقيقة غير التي تشغل 
بالي. على أنه بقي في النفس شبيء. فقلت بحرارة: 

- «رباب» أهذا كل ما قالت؟ لا تخفي عبّى شيا 
وأنت قلبي وحياتي. 

فقالت بارتياك وقد قرأ البراءة في عينيها: 

- عم نتساءل يا كامل؟ إِننى لم أقل لها كلمة واحدة 
زيادة عما قلت لك. لقد سألتني عن هذا الأمر فلم 
يسعني إلا أن أجيب بالحقٌ والصدق. وهو أمر كما 
تعلم لا ينفع فيه الكذب. فهل تراني أخطأت؟ أم 
كنت تريدني عل أن أتظاهر بالحبل؟ . . 

فقلت في ارتياح نسبي : 

عاكا با اعزير ورور القن اميد بغر تلاق .> 

لن أذوق طعم الأمان ما دامت هله المرأة على مقربة 
مئا. .. رباه» إفي أحنضن همي وحدى لا صديق ولا 
مشير. ولقد ضقت ذرعا بأمّها وبأمّي وبنسي ! وعاودي 
السؤال القديم: هل ما ينقصنا ضروريٌ للحياة 
الزوجية؟ هل تجد حبيبتي مثل هذا الاحساس الحيوانٌ 
الذي دفعي إلى اعتنئاق العادة الآثمة؟! أيمكن أن 


تعتري حبيبتى الطاهرة المحتشمة هذه الشهوة 
الوحشيّة؟ إِنْ هذا لأبغض مما أتصوّر! 


6 


وانتهت إجازي فعدت إلى إدارة المحازن بالوزارة, 
واستقبلني الموظفون استقبالا حافلًا؛ لم يكن لي بيهم 
صديق», ولكنّ المداسبة ‏ عودة عروس من شهر 
العسل - أنستهم تحفظهم فاآتبلوا علّ بين مه 
ومداعب وتلقيتهم في صمت وارتباك وخجلء» وتكلموا 
كثيرًا. وتطوع أحدهم بتحذيري من الإفراطء 
واستفاص الحديث حيّى أهاهم عبى,» وخاضوا في 
طبيعة الرجل وطبيعة المرأة.» واستشهدوا بالأمثال 
والحوادث والحكايات. أنصتٌ إليهم خفية وأنا أتظاهر 
بفحص الآلة الكاتبة» بقلب مكلوم ونفس معذبة. 
وكم غنيك أن مس1 أحدهم بحالة وكحالتي». 
ولكن حالتي لم تقع لأحدهم في حسبان» وامشلات 
نفس بما سمعت حبّى دارت بي الأرضء إِنْ رباب 
امرأة فهل يصدق عليها ما يصدق على النساء إن صِمّ 
ما يقوله هؤلاء الموظفون؟ أيمكن أن تضيق بحياتها أو 
تمل عشرتي؟! ولكتّها سعيدة؟ ما رأيت وجهها إلا 
متألَقَا بنور السعادة. وما رنت عيناها إِلّ إلا بالحبٌ 
والإخلاص. إن وجهها لا يعرف الرياء؛ وإِنّه لصفحة 
نقية ومرتاد طاهر لا يكتم كدبًا ولا يداري إثا. كذب 
هؤلاء الموظفون! إثْهم حيوانات فلا يرون الناس إلآ 
حيوانات مثلهم. بيد أنني غير مطمئنّ. ولن أذوق 
الطمانينة مهما أقنعت نفسي بباء لقد نبت دُمّل الشكٌ . 

ولنَا خلوت إلى حبيبتي ذلك اليوم جعلت أنظر 
إلتماطويلا مشكيرًا كون أن اسينح حو مسدكت 
وقالت لي : 

- هل عاودك الحنين إلى النظر الصامت القديم؟ 

وهفت على فؤادي نسمة لطيفة من قديم الذكريات 
حين فؤادي مضطرم وأملٍ مشرق وهذه البلوى لا 
تدور لي في خلد. وتمليت الذكرى مليّاء ثم سألتها في 
إشفاق : 


- رباب. 0 أأنت سعيدة؟ 


فنظرت إِلّ باستغراب وقالت بصوت ينم عن 
الصدق : 

سعيلة 01 ب 

فتساءلت وعيناي تطرقان من فرط الحياء : 

- أتحبينني؟ 

وكانت على بعد شير مثئي فتتحزحثٌ حي التصقتُ 
بي ورفعت إل وحها موردا وغمغمت: 

د أجل أحيك , . . 

فأحطت خاصرتها بذراعي وقبلت شفتيها وخدّهاء 
وتناولت يدها الصغيرة الحجميلة وجعلت أقبّل أناملها 
أغملة أنملة في حنان وهيام. وكنت في الواقم أمهّد بم 
قلت لما أرغب في الإفصاح عنه مما ضقت بكتمانه؛ ولمًا 
هممت بالكلام خانتني شجاعتي وانعقد لساني. أردت 
أن أبنّها همّي. وأن أعترف لا بن ما يعترينى حيالها 
طارئ غريب لا أدري كنبه. وأنني لم أكن كذلك بل 
نئي لست كذلك إذا خخلوت إلى نفسبى. وأن أسأها 
المشورة والمعوتةع هذا ما كته اريك البو به ولكن 
خانتني العزيمة فنكصت مغلوبًا على أمري. ثم سلّمت 
بال مزيمة كعادتي. وحعلت أسوغها لنفسي قائلا: إن 
البوح ببذه الأسرار حريْ بأن يسيء إليها ويغضبهاء 
وربما فنضى على سعادتها قضاء مبرما. 

وعندما آويئا إلى الفراش حدثتني نفسى بأن أعاود 
التجربة» ولكنْني نردت؛ وترددت طويلا حت ملكني 
الخوف فولى قلبي فرارّاء لقد بت أخاف جسمها بقدر 
ما أحبهاء وتأمّلت حياق في صمت الليل وظلمته. 
فبدث لي غريبة متنافرة» وضاق صدري فلم أجد من 
متنفس له غير البكاء فبكيت طويلا. . . 


وخخطر لى أن أستشير طبيبّاء وجاء الخاطر فجأة» بل 
لعلّه كان محض مصادفة» ولم أكن فكرت في استشارة 
طبيب للخجلي الشديد من ناحية» ولاعتقادي بأنْ حالتي 
لا شأن لها بالطبيب من ناحية أخرى, ولَكن بصري 
قد وقع يوما وأنا في طريقي إلى الوزارة على لافتة كبيرة 
مه على شرفة بشارع قصر العيني قد تُتب عليها 


١٠١7 السراب‎ 


بالخظ الكبير: «والدكتور أمين رضاء أحصضائي ِ 
الأمراض التاسليّة من جامعة دبلن» ولم أكن رأيتها من 
قبل فحدثتني نفسي فجأة باللجوء إلى الطبيب. ومع 
ذلك لم أستسلم للفكرة بغير تردّد. ثار خجل وخوفي. 
وكادا يثنياني عمًا خطر لي ولكنّ تلهّفي على النجاة كان 
أقوى من خجلى هذه المرّة. فصمّمت على الذهاب 
ذات مساءى وذهيبت... 

كان الطبيب مشغولا بفحص مريض. فجلست في 
حجرة الالتظار؛ وكانت الحجرة حالية فداخلبي ارتياح 
عميق: وإن شعرت بالاستهانة بالطبيب. ولم يطل بي 
الاتتظار. فدّعيت بعد دقائق إلى حجرة الكشف 
ووجلتها آية في فخامتها وأناقتهاء كاملة العددء ومبا 
من أدوات الرهبة ما رد إليّ الحارب من ثقتي. وإلى 
يمين الداعل مماشرة جلس الطبيب إلى مكتب كبير 
مزدحم بالكتب والكرّاسات. كان شانًا في الثلائين على 
أكثر تقدير. نحيف القوام. طويل القامة, جمد 
الشعره ذا بشرة سصسراء وقسلات دقيقة واضحة. 
وعيئين حادّتين اقمعاة وراء نطارة أليقة. وكال مما 
يلفت النظر إليه شارب كثيف فاحم غطى فمه وأكسبه 
وقارًا ليس من سنه. حيّبته فردٌ نحيتي باقتضاب. 
وحدجبي بنظرة مستفهمة قرأت فيها الترفم والكبرياء. 
وثقة بالنفس تبلغ حدٌ الغرورء فلم أرتح إليه. وكان 
منظره عامّة عيبا لأملى. لأني توقعت أن أرى شيخًا 
مهيبًا بِسَامًا كطبيب ذهبت بي أمي إليه مرّة منذ أعوام 
طوال. فاستأت ووددت لولم أكن قدت نفسي إلى هذا 
الشرك. وقال لى مهدوء: 

- تفضل بالجلوس . 

فأذعنت وأنا أرمقه بقلق. وجعل ينظر إل منتظرًا 
أن أبدا بالكلام. ولكنّ فكري تشنّت وجنت حلقي 
ولبنت ملازمًا الصمت حب قال متسائلا: 

أفندم؟ 

فاستجمعت قواي., ولكي لم أزد على أن قلت: 

فسالئق بداهشة : 

: ذا تشكو على وجه التحديد؟ 





14 السراب 

وعانيت عذابًا شديدًا قبل أن أقول: 

- إني رجل متزوج . 

سكت ارجا هري الحقسة لمان 0 
استئقلت السكوت؛ على حين استحئتني عينا الطبيب 
الحادّتان فاعترفت بكلّ شيء! تكلمت بادئ الأمر 
باضطراب وتعثرء تم تشسّعت بما لاح في وجهه من 
أمازاك القت اراك الس نفك برل ع مور وشتغررت 
كأنما ألقيت عن عاتقي حملا ثقيلًا. وكأنما بات هو 
المسئول من الآن فصاعدًا عن الشقاء الذي نص عل 
صفري . وسألني الطبيب : 

- مق تزوجت؟ 

فقت : 

ح ان ولق رايت 

- متى وجدت هذه الخال؟ 

قلت بامتعاضي : 

م د 

- هل انتابتك قبل الزواج؟ 

- لم يكن لي تجارب مطلقًا. . 

وسألني عن الأخرى فتردّدت لحظة ثم أجمبت 
بالصدق. وسألبي عن بعض التفصيلات فأجبته 
مرو جنات را لش ضعة لب الى اكد ان مر 
ساق 

ألم تمارس عادتك بعد الزواج؟ 

وأعجبت به لسؤاله الذي بدا لي فراسة ثاقبة 
فقلت: 

500 

فقال متفكرًا: 

- كأن طبيعتك لا تتغيّرٌ إلا حيال زوجك . 

فقلت بحيرة وأسبى : 

ا 

فسكت مليًا ثم قال: 

- سأطرح عليك أسئلة صريحة وأرجو أن تجيبني 
بالصدق. هل نحب زوجك؟ 


بل عحذا. . 


- أها شذوذ من أي نوع كان, أو برودة في 
الطبيعة؟ 

أبدًا. . . 

هل نشأتقا نشأة واحدة منذ الصغر؟ 

- إنها ليست من ذوات قرباي . . . ظ 

وألقى عل بعد ذلك أسئلة استفظعتهاء ولكن لم 
يكن بي شىء منباء فأجبته بصدق وصراحة. ونيض 
قاناء ثم 6 عل فحصه في أناة وعناية» فاحتملته 
بقلب واجف ونفس يصطرع بها الأمل واليأس. وعدنا 
إلى جلستنا السابقة. فراح يقيّد في كراسه ما يعن له 
ثم اعتدل في جلسته وقال ل: 

جسمك سليم . أجل إنك أساأت إلى نفسك 
بعادتك المرذولة فتركت بك أثرًا يحتاج لغسيل خاص». 
ولكن لا علاقة الحالتك الأخرى مِبْذا فيا أعتقد» فليس 
عجزك بنائئْ عن سبب فيزيقيّ) ولعلّك تعاني أزمة 
نفسيّة, أليس في بلادكم عيادات نفسيّة؟ 

فلم أفقه معبى للشطر الأخير من كلامه. وعجبت 
لقوله «بلادكم» كأنه أجنبيَ عن هذه البلاد. وقلت له 
بدهشة : 

- أنت أعلم مي بما تسأل عنه يا دكتور! 

فقال: مس : 

الحقّ أني حديث عهد بالوطن. وم أفتح عيادتي 
هده إلا منذ أيَام. . . 

فادركت لاذا وجمدت عبادته مقفرة» ولاذا لم 3 
لأفحه من قبل :بعد آنى. نت أدرك كذلك أنْ هذه 
المرمطة التي ابتليت بها قد انتهت إلى لا شيء» فعاودني 
القنوط والكمد. واستطرد هو قائلا: 

- ليس بك من نقص مطلقاء وإنّك تستطيع أن 
تقوم بالواجبات الروجية» وستقوم مها يوما ما فلا تدع 
لليأس سبيلًا إلى نفسك. كثيرًا ما يحدث هذا لبعض 
الشبان ثم لا يلبئون أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية 
بعد فترات متفاوتة. فانتظر يومك بثقة لا شلك فيها. 
وأنصحك أن تمر عل للغسيل حيّى تزول حالة 
الاحتقان الخفيفة. 

أصغيت إليه باهتمام وبكل جوارحي. وتنازعني 


اليأس والأمل بعنف وقسوة. متى يأتي هذا اليوم! وهل 
يأني حمًا! انتهى الطبيب من عمله وقوله. ولكتني م 
أَئْدٍ حراكًا وظللت متشْبكًا بمكاني, وثبتت عيناي عليه 
في استغاثة وضراعة. ثم سألت: 

ماذا عنيت بالعيادة النفسية؟ 

ف أوةة :.. انبا عيادات من نوع حديث ولا أحسبها 
توعك اق بالاذنا :ملكي الا قلق عالة :1 قلع بولة أضتاك 
في حاجة إليها. 

- قلت إننى ربما كنت أعاني أزمة نفسيّة . فيا معنى 
هذا؟! 

- قلت لك لا تلق بالا لما قلت قد غاليت في 
تقديري» ولست على أيّةَ حال طبيبًا نفسيًا فلا أخوض 
بك أمورًا عسبى أن نض أكثر ما تنفعم. إِنْ علاجك 
بيدك فلا تيأس ولا تفقد ثقتك بنفسك واقهر اللمنوف 
والقلق. وانتظر الشفاء بثقة لا شك فيها 

وبالو ال ا 

- أرأيك هذا حاسم لا شك فيه؟ 

فأجابني بثقة : 

ا 

وغادرت العيادة حيرًا نما دخلتها. عدت وبي أمل 
ورجاء. وقلت لنفسي. إن الطيب لا يكدب ولا 
يخطئ استخقني السروره وقطعت الطريق إلى البيت 
مشيًا على الأفدام. ومررت في طريقي بالسمارة التي 
تقطنها أسرة زوجي. عارة الذكريات» فحلّق بي 
الخيال بعيذًا» وعلى حين فجأة فتر حماسي واستحوذ 
عن القلق. ولم ألبث أن انقلبت إلى التجهّم, بيد أنني 
رحت أردّد على مسمعى ما أكده لى الطبيب متلمّسًا 
الثقة بأىّ سبيل . ْ 


م 
وبالرغم من قلمي الدائم كنت أعلل النفس 
بالشفاء. وواصلنا حياتنا اللريئة يحدونىي هذا الأمل. 
وكنت أسترق إليها النظر إذا اشتدٌ بي القلق وأسأل 
نفسبى ترى أهي سعيدة حمًا كما تبدو لي؟ أما تزال 
نحبنى؟ أمَا هي فكانت تبدو سعيدة راضية؛» محبة 


السراب ه١١‏ 


مخلصة. ولم تعد إلى ذكر أمهاء. فلم أدر إن كانت المرأة 
انلقطعت عن تساؤها أم كانت حبيبتي تخفي عبّى ما 
يدور بينهما من -حديث, لدذها اعيا يا إن 
امتزاجنا في حياة واحدة لم يدهب عنى سحرهاء بل 
أسكنها أعمق مكان في قلبي. وإني لأهيم بها وهي 
لصقي على المقعد أو الفراش كما كنت أهيم بها وهي 
تلوح في الشرفة أو وراء زحاج النافذة. وإنّه لمن 
التعاسة حمًا أن ينخّص عل سوء الحظ تلك الأيّام 
الحافلة بأشهى فرص السعادة واطناء, 

وكأن سوء الحظ لم يقدع بما رماني به في نفسى . 
فرماني بِأمي أيضا. . , 

وأمّي على تأدّبها لم تكن لتملح أبدًا في مداراة 
عراطفها. فإِن لم يخنها لسابمها حانتها عيناهاء وإن لم 
تخبا عيناها نمت عليها ما الترمت من حال عريبة 
سلبية. انطوت على نفسهاء وجعلت من حجرتها 
سجنًا لا تكاد تغادره. وكأنما فرغت للعبادة والصلاة» 
وم تخف على رباب هذه الجفوة الطويلة؛ وكانت على 
دماثتها ورقتها تنقلب حيال أمّي كأيّة امرأة من النساء 
الفعالا وغضيّاء فكانت لا تفتا تقول لي: «لشْدٌ ما 
تكرهني أمَك) . ولم تقبل ع أن تغيّر من سلوكهاء 
معتلة بأئها لم تعد صالحة للمجاملة والاخئلاط. وكدت 
إذا ذهبت للجلوس معها تلثّتني برقة وابتسامء. 
وحذثئنيى بخضوع واستسلام» فسرعان ما أشعر بغرابة 
الج وبأن حجابًا ثقيلا يفوم بين نفسيئاء وبا حياك 
شخص آخر غير الأمّ التى عرفتها طوال تلك الأعوام . 
وما أكاد أفاتحها بأنْ زوجي تضيق بتحفظها حيّى تقول 
لى بحدة : إن وفك تكرهني . هذا كل ما هنالك». 
كنت أتجلد وأتصتر والألم يمضٌ نفسي والكآبة تغثشى 
روحي.. 

وذهبت مرّة إلى أختي راضية لقضاء يومين» وكأن 
المكان أعجبها فمكثت اليوم الشالث وأوشكت أن 
يلحق ما اليوم الرابع. كان أوّل أيّام نفترقها في حياتنا 
المشتركة. فثقل على قلبي فراقهاء. ووجدت وحشة لا 
تطاق في خلو البيت منباء وذهبت إلى شقيقتى لأعود 
بها فلم تميّب رجائي وعدنا معًا. 


5 الصرات 


وقلت لما فى الطريق متودّدًا : 
- لم أحتمل البيت بغير وجودك. . . 
فافترٌ فغرها عن ابتسامة صافية» وكانت تتاشر 
بالكلمة الطيّة تأثر الأطفال ولكتها قالت لي : 
يخيّل إل أن وجودي في بيتك لا معبى له. ونه 
يضايقكم . 
فأحنقني قولحاء وقلت باستياء : 
ماع لك قا تسل بن قر زعننا مين فده اقللة زرالا 
تغيرتِ يا نينة بلا موجب فتغيّرت الحقائق في نظرك, 
ولا يسعني إِلّا أن أقول مرّة أخرى ساعحك الله . 
فلظرت نحوى بغرابة وقالت مهبدوء ويقين: 
- إن زوجك تكرهني. وبالتالي فهي لا تود بقائي في 
اليفت .وقن لقف نما توذه ( وحلف نيدن أن ثوذه 
أن ْ 
وشعرت بأنها لا تترفق بي متعمّدة فكاد ينفجر 
غضبي لولا رغبتي الصادقة في المسالمة والمصالحة 
فكظمت نفسي وفلت واحما : 
إِنْ زوجي لا تكرهك؛, وهي على العكس من 
هذا تظنّ أنْا موضع كرهك لما تبدين نحوها من تحقّظ 
وجفاء ومقاطعة. حرام عليك أن تقولي قولًا ينقٌّص 
علي حيات . 
فبدا على وجهها الارتباك ولى تنبس بكلمة. رناه. 
لشد ما تغيّرت!. . . ألا يمكن أن تملحي ابتسامتها 
المشرقة بدلا من هذه الابتسامة الباهتة؟. . . ألا تعود 
إلى فتتم صدرها لي في ثقة وطمأنينة؟ ترى هل يلبغي 
أن أكاشفها ,الامي لتعلم بأننى لم أتزوّج في الواقع 
وأنني أشقى إنسان في الوجود فتصفح عب وتعود إلى 
سابق عهدها؟ . . . 
ورجعت من الوزارة يومًا فوجدت زوجي باكية. 
فهالئي الأمره وأقبلت نحوها في جرع وام وانزعاج . 
وكانت صباح حاضرة فأخيرتني أنها صباح - كانت 
تباشر عملها في المطبخ حين دخلت عليها أمي 
وجرحتها بانتقاد مر فتدخلت زوجي لتصلح الأمر ف| 
كان من أُمي إلا أن رمتها بكلام قارص غادرت المكان 
على أثره باكية. . . 


وذهبت من فوري إلى حجرة أمي ثائر الأعصاب. 
فا روعني إلا أن أجدها محمرّة العينين من البكاء. 
ولحت عبوس وجهي فهتفت في توجع : 

هل أوسلتك لتؤدبني ! 

فرفعت رأسي إلى السماء وقلت من الأعماق: «يا 
رب السماء خذني وأرحبي من الدنيا ومّن عليها». 

ولكتها صاحت بي: 

- بل يأخطني أناء إني عحوز لا خير فيها. أما كان 
يجمل بزوجك أن تؤجل شكواها حتّى تخلعم ثيابك 
وتأكل لقمتك؟. ., ولكن هيهات أن تذعن لغير 
عنادها وتجيرها. . , 

فقلت في استياء وغيظ : 

- إِنّها تبكي بكاء مرًا. . . 

فصاحت بي وكأئبا فقدت أعصاببا: 

د لقد سبتي وشتمتنئي حَبّى شبعت». وها هي 
تستقبلك بدموعها الكاذبة لتوغر صدرك وقد 
أفلحت, , 

ما أضيع الحقٌ بين النساء! لقد أعياني الكلام 
والنضال ولم أنته إلى شيء. وأعجزني أن أصلح بينهما 
فنكد عيشنا طويلًا وساد البيت جوّ خصام. وكففت 
يدي يائسًا تاركا للأيّام أن توفق بأناتها فيا أخمقتٌ 
فيه . 

3 د 

وبدات أشعر في حياتي الزوجيّة بفراغ! ولم يداخلني 
سك في أن زوجي تشاركني هذا الشعور. ولم يعد 
الليل وحده الذي يثقل على أعصابناء فا كان انفرادنا 
الطويل بارًا مما يمكن أن نطيقه على وثيرة واحدة إلى 
الأبد. لذلك اقترحت عليها أن نقتل الوقت بأسباب 
التسلية حتى يجين موعد افتناح الدراسة وتجد ما 
يشغلها. وتقبلت اقتراحي بسرور ودعتبي لزيارة آلها 
الكثيرينء فتنقّلنا من بيت لبيت وزارونا بدورهم. ثم 
اقترحت على أن نذهب إلى السينا يومين في الأسبوع 
فقبلت» ولا أدري إن كنت أروم السلية حمًا أم 
أهرب من حياتي الضائعة! ووجدث في السينها راحة 


وإن كنت بطبعي أوثر الوحدة والعزلة» ولكئّى ضقت 


على عجل بالزيارات التي أفقد فيها نفمي وأقع فريسة 
للحياء والارتباك والعيّ والحصرء وما لبثت أن تخلّفت 
عنها تاركًا زوجي وحدها تقوم مها. 

وكان بوسعي أن أحملها على العدول عنها أسوة بي» 
ولكتّى لم أرد أن أحرمها سسا من أسباب التسلية 
وتزجية الفراغ. ولعلّني بت أخحاف في أعماقي أن تضيق 
بالوقت | أضيق به. كنت أودٌ بكلّ قلبي أن أهبّى لما 
جميع أسباب الراحة والسرورء. وما كنت أتردّد الحظة 
عن بذل جميع ما أملك في سبيل مرضاتهاء لقد صارت 
رباب كل شيء, ولم أعد شيئًا مذكورًا. 

ولكن بدا لي أنّ أمّي لا ترتاح لحيائنا هذه. وقد 
قالت لى يوما: 

- لا يجمل بك أن تسمح لزوجك بقضاء كل هذا 
الوقت حارج البيت. . . 

وضاق صدري بملاحظاتها فقلت باقتضاب : 

د أنسيت أنْ زوجى موظلفة؟ 

فقالت بلهجتها الانتقاديّة : 

انان كا 

وأشفقت من أن يتأدّى بنا الحدل إلى ما لا تحمد 
عقباه فقلت برجاء: 

- انسيها يا أمَاه تستريحي وتريحي ! 

فغلبها الانفعال وقالت: 

- لو كنت لسان دفاع لي كما أنت ها لما احتقرثني 


ولذتثت بالصمت لعلها بن ولكئبا استطردت 
تقول : 


- إنها تتيه بلا موجبء» فكيف لو كانت أما! | 

فقاطعتها صائحًا كالوحش وقد هوى كلامها على 
رأبى كالمطرقة ؛ 

- اسكتي. , . لا تنبسي بكلمة أخرى. 

وحدجتبي بارتياع دون أن تنبس» ثم أطرقت, 
ولكيٍ لم أرث ها وم أرحمها إذ أفقدني الغضب والأم 
وعبي . 

وحدث عقب ذلك بأيّام أن شعرتث بتعب ألزمها 
الفراش. وقال لنا الطبيب الذى استدعيناه إنه 


السراب /ا١٠١‏ 


القلب» ونصحها باتباع إرشاداته دوامًا لتتفادى من 
النوبات في المستقبل . 

وطال رقادها بالرغم من أن الطبيب أكّد لنا عدم 
خطورة الحال» ولكن بدا لي أنْها تعين المرض على 
نفسهاء وأنْ روحها توشك أن تنهار. ووقع في نفسي 
أن المسئول عن مرضها فعانيت مرارة التأنيب والندم 
في حزن وصمتء وكأنما أردت أن أكفر عن ذنبى 
مرك بنش .هل وغناقها وتعاماضنا بالكل 
والدواء؛ ولم يأل رباب في القيام بواجبها. لقد المتني 
حنا ولك عر عبنيو لي أما آنا فقك النها غامد الت 
تأئبر غضب مخيف. ومرّت بي أيّام قاسية مظلمة» كنت 
أرنو إلى وجهها الذابل الشاحب بفؤاد كسيرء وراحتها 
بين يديّ» ولساني يلهج بالدعاء. وكانت متعبة خحابية. 
ولكن قرأت في عينيها نظرة راضية سعيدة, كأنما نسيت 
ات ل 


2 

ومَلُ الخريف بجرّه اللطيف وسحابه الرقيق. 
واستقبلت المدارس عاما جديدال وكلت وزوجي 
نخرج معا في الصباح. ونستقل ترامًا واحدًا. وكانت 
الذكريات تنثال على قلبي في وجد وحزن. حيّى قلت 
مرة : 

- في مثل هذه الأيّام كنت أهرع إلى المحطة أكاد 
أموت شوفًا إلى اجتلاء مميّاك. . . 

فاتسمت رقيقة وقالت: 

- وكلت أنتظر بمثل هذا الشوق. . . 

الله محبوبتي!... ما وجدت مثلها مب راضية 
مسر ورة. 

كاذق سيوج شعردة ظلفة و لبر كان اد 
رياء. أكانت مهد آلاما ثم تتغلب عليها بما ُبعتْ عليه 
من موذة وطهر؟ ومن أدراني بما كان يعتلج في أعباق 
صدرها؟ وما كان يدور في خاطرها عنى وعن حياتها؟ 
ولكها كانت سعيدة مادق عه وفل من دا يدعوها 
إلى ذاك التظاهر المتواصل بالسعادة إذا كانت تعيسة أو 
كارهة؟! بيد أنه لم يداخلني شك كذلك في نضج 


خر+١1‏ السراب 


أنوثتها وعمق عواطفها. كانت أبعد ما تكون عن 
النزق والطيشء» ولكتّبا كانت عامرة القلب بالحيوية 
والخرارة والعطف. لعلّها كانت تحيا حياة يجدوها الأمل 
نفسه الذي أتطلّع إليه صابرًا متصررًا. على أنْ الحقٌ 
الذي لا مِرْيَةَ فيه أنْني كنت مشغولًا بهمومي على حال لم 
تَدَعْ لي إلا قليلا للانشغال بهموم غيري. ريما رجع 
ذلك قبل كل شيء إلى أنانيتي 5 وكان لجهلٍ 
كذلك نصيبه. ولعلي 0 حسب أتني الضحية 
الأولى - إن لم تكن الوحيدة ‏ في تلك المأساة. 

وف أوائل ذلك الخريف دعانا جير بك ونازلي هانم 
إلى وليمة غداء أقامها للأهل والأقارب لمناسبة شفاء 
محمد شقيق زوجي - من مرض ألم به. 

وذهبت وزوجي قل حيق تلفت ان مسار 
بالنظام الجديد الذي تتبعه في غذائها ينك اختار عليها 
الطبيبة ذلك -فضيتك فرتكنا كالعادة. لأنّ وليمة 
لاق ا لذ جع فهو فو امرك بولانا مهو رامكانا 
نن الععيات ب تعد إل ذهني ذكرى م لاه 
كانة "لقوق :رقن اتمتاته أن ادعب سكين لسن 
المدعوؤين حميعًا فلا أتعرّض لنظرات 5 حصين 
دخولي حجرة الاستقبال. ونجحت خطتي فوجدنا 
البيت قاصرًا على أهله. هم أهلٍ أيضاء وإفي لأحبّهم 
جميعًا وإن بت أخاف نازلي هانم خير فا قبن رد يكين ف 
نفسي 05 الألم. وأخذ المدعوؤون يتوافدون. فجاء 
أعهام رباب الثلاثة وأخموالها الأربعة مصحوبين 
بروجاتهم وأبنائهم وحضرت كذلك خالتاهاء واحدة 
مصطحبة زوجهاء والأخرى ‏ وهي أرملة - برفقة 
كبرى بناتها. ومضت نازلي هانم لتستقيل قادمًا جديدًا 
فسمعتها تقول له: «لاذا تأخرت يا مي أمين؟) فردٌ 
2 عليها معتذرًا بصوت خميل إلى أ سمعته قبل 
ذلك فتطلعت إلى الباب باهتمام . .. ودخل المدعو 
المجديد فعرفته من أوّل نظرة. رأيت أمامي ذلك 
الدكتور الذي زرته منذ شهرين وبحت له بسر شقائي 
كلهء ثبتت عيناي عليه في ارتياع باد الأمرء ثم 
تمالكت نفسي بسرعة وقوة؛ وإني على إنحفاء ما يعتلج 
بصدري لقادرء ولكثّ لم أجد حيلة مع قلبي الذي 


راح يدق بعنف تبائًا. تملكنى الملع وحجل قاتل. 
وئقل على صدري ضيق غليظ كأئما هويت إلى أعباق 
بثر سحيقة. وإذا بنازلي هانم تقدّمني له. ثم تقدّمه لي 
قائلة ؛ 

- هذا قريب لم تسعدنا الظروف بتقديمه إليك. لأنه 
عاد من أوروبا حديثاء ولأنّه يندر أن يتفضّل علينا 
بزيارة: الدكتور أمين رضا ابن عمتي . 

وتصافحنا كالمألوف. التقت عينانا لحظة قصررة؛ 
فلم أقرأ في عينيه إلا نظرة ترحيب باسمة لم تش, 
عيناه بأنّه تذكرني» وظل ملازمًا سمة المترفع المتحصن 
ضدٌ الانفعالات. ولمًا انتهى من مصافحة الجالسين. 
جلس إلى -جوار جبر بك وراحا يتحدثان» وتبت 00 
أفكاري الفزعة الشاردة.» ثرى هل تذكرني ! 
لسيئي شأن الأطباء الذين يلقون وجرمًا, بعلدذد 
الدقائق!... ولكنّه طببب جديد قليل الرواد!. 
ومسع ذلك فلم يبد في عينيه أله عرفني على 
الإطلاق. . . أم يكون عرفبي وتجاهلبي رآفة ي!. 

ليتنى أجد وسيلة للتحقق من هذه النقطة! وهَبه 
عرفني فهل يمكن أن يبوح بسرّي لقريبته نازلي 
هائم. . . ما أبعد هُذا عن التصوّر. ولكن ما أنعد 
عن الطمأنينة كذلك! وجدتي عريفًا في بحر َي من 
الوساوس والمخاوف فهل كنت فى حاجة إلى 
مزيدك!... 
ودُعينا إلى الطعام فخرجت من أفكاري وإن علقت 
بي آثارهاء كالخارح من نار. وجلسنا حول المائدة. 
وعند ذلك التفتت نازلي هانم وقالت مبتسمة: 

- أنت حجول يا سي كامل ولكن حذار فالولائم لا 
ترحم الخجولين. 

وعلّق بعضهم على قولها فسخطت عليها واشتدٌ بي 
الضيق. على أنْهم لم يلبئوا أن شغلوا عِبّى بما بين 
أيدييم من لذيذ المأكل. وم أكد أشعر بالارتباك الذي 
بركبني في أمثال هذه المجتمعات لشرود ذهنى فيما هو 
جل وأخطرء فلا يفل الارتباك إِلَا الارتباك! ثمّ عدنا 
إلى حجرة الاستقبال ودارت علينا القهوة. وتناولت 
الفنجان. وقرّبته إلى فمى » وعلى حين بغتة طار خيالي 


إلى الحانة القديمة بشارع الألفي وتراءى لعينيّ قدح 
الخمرا... كيف جاءتنى هذه الذكرى. ما الباعث 
عليها؟ . . . لقد وجدت دهشة صادقة» ولكئٍّ شعرت 
كذلك بارتياح عجيب» كسرور الحبيب بالحبيب» 
اسرد النشوقاء ماسوو لاف حا 
إل قوري كان عاد ولجنا قر وك 6 
لا يقاوم.. وعدت بالتباهي إلى ما حولي في حذر 
وخوف. واتبهت عيناي إلى الطبيب فوجدته منهمكًا في 
الحديث. يلقي أقواله بثقة وفصاحة وترفع. وكثيرًا من 
الحاضرين يتونبون للنقاش في اهتمام وسرور. وجرٌ 
الحديث إلى الحياة في بلاد الإنجليز فقال الدكتور: إِنْ 
دراسته شغلت جل وقته فلم يتمتّم بحياته هناك 
كسائح إلا فيا ندر. على أنه استطاع رغم ذلك أن 
يخبر عن كثب متانة الأسس التي ينبض عليها بنيان 
الحياة السياسيّة. وما يتمتع يه النيوت من مستوى 
عال للمعيشة» وحرّيّة شاملة تتناول كل شىء. قال له 
0 1 

- كأنك واظبت في إنجلترا على الاهتام بما كنت 
عبتم به في مصر قبل بعثتك . 

وقال أحد المدعوّين ضاحكا' 

أجل يا جبر بكء, ذكرْه بعهد كليّة الطب والثورة 
الوطئيّة . 

وقال أخخحر: 

- مَن كان يظنّ أنه سينتهى بك المطاف إلى بلاد 
العدوٌ وأنّك ستعود منها حاملا له هذا الإعجاب كله؟ 

فقال الدكتور مبتسما: 

العداوة لا تناقض الإأسجاب . . 

فعاد جير بك يسأله : 

2 1ل فونه قنهيه قرا كط ناكويون نقد 
مجشةاهوما نشتيية الونك! 

فقال الشاتٌ وقد مط بوزه برمًا: 

أرى الآن المصريّين جميعًا يعيشون في سجن كبير 
والحقّ يا سيّدي أنْ الأخبار الوحيدة التي كانت تسوؤنا 
ونحن في إنجلترا هي أخبار مصر. . . 

وقالت نازلي هانم مبتسمة : 


٠١4 السراب‎ 


- إِنك مغرم بتحميل نفسك الهموم على احتلافها 
كلك خرن عن اناد ارت لها ركز امالك ل 
عيادتك وحياتك ومسألة زواجك على وجه المخنصوص» 
ألا ترى أنك في الثلاثين وهى سن فاصلة؟ ! 

وهنا قالت إحدى خالتي و 

- اطمئئي يا أخحتي فلعلك أن تسمعي أخبارًا سارّة 
قبل استدارة هذا العام . 

ودار الحديث حول كريمة أحد كبار الأطباء. . . 
وقالت لي رباب همسًا ‏ وكانت تجهلس إلى جانبى - إِنَّ 
هذه الفتاة النى يتحدثون عبها حسناء مفرطة المي 
والوريثة المنتظرة لثروة طائلة» وإئْها زاملتها عهدًا في 
الدراسة. والظاهر أنْ أحد أخوال رباب كان مُن 
تجذبهم أحاديث السياسة» فما كاد حديث الزواج 
ينتهيى حتّى قال مخاطبًا الدكتور: 

لا داعي للتشاؤم فكل شيء مصيره إلى الصلاح 
وإن طال الزمن. وها نحن على أبواب انتخابات 
جديدة» ولعل الرياح أن تببٌ هونا ورخاء. 

فاشتدّت عينا الدكتور وقال بحذة : 

من الخير لهذا البلد أن تحكمه حكومة فاسدة. 
ذلك أن الحكومة الصالحة لا تستطيع أن تفعل شيكًا ذا 
بال في حدود الأوضاع القائمة, فالخير أن تستبدٌ 
الحكومة الفاسدة حيّى تعجل بالنهاية. .. النهاية 
المحتومة ! 

فضحك جير بك وقال : 

ما ؤلت ساخمظا متبرّمًا. ألا تجد في مصر ما 
يستحقٌ إعجابك وتقديرك؟ 

فأدار الدكتور عينيه البرّاقتين في الحاضرين وقال 
مبتسم) : 

ميمه اف لللرويهب. 

رضِجوا جميعًا بالضحك. وجعلت أصغي إليه 
باهتام واستغراب», ولكيّ لم أكد أفقه معنى لما يقول. 
وعجبت لمن يشغلون أنفسهم ببذه الأمور وأمثالماء 
أليس في حياتهم هموم تشغلهم عنها؟ وقثل لي في 
حديثه رجل عِلَم ورأي وثورة؛ بادي الخرور 
والعجرفة. وكم كانت دهشت كبيرة حين ذكر أمْ كلثوم 


٠‏ السراب 


كالشيىء الوحيد الذي يستحق إعجابه في البلد 
وتساءلت في حيرة: أيعشق الغناء حقًا من كان ذا جد 
وصرامة وحدّة كهذا الدكتور المجنون؟! ولمّا كنت 
أحبٌ الغناء فقد ارتحت لمذه المشاركة الوجدائيّة» بعد 
أن أعياني أن أجد صلة شْبّهِ بيي وبينه! وكان الدكتور 
أوْل المنصرفينء فقام الحاضرون حميعًا لمصافحته 
وصافحته بدوري وأنا أتفخص عينيه ببخوف واهتمام 
فلم أجد فيا وراء نظراته) المترفعة ما يريبني. ثم 
غادرنا نحن البيث في نحو الخامسة. عدنا مشيًا على 
الأقدام ولم تكف حبيبتي عن التعليق على المأدبة 
والمدعوّين طوال الطريق ولكقّي لم أستطع أن ألقي إليها 
انتباهي » واستسلمت لتيّار أفكاري الزاخخر المضطرب» 
كيف ألقى الحظ العائر في طريقي بِبذا الدكتور 
المجدون؟ وكيف قادني القدر إلى الاعتراف له بسي 
الذي أخاف عليه آذان الحخيطان! 


1ع 
أوصلت رباب إلى باب العمارة ثم عدت أدراجي 
إلى المحطة معتذرًا سعض أعمال خياليّة! استقللت 
الترام إلى العتبة.» ثم مضيت إلى شارع الألفي بك. 
كان قلبي يخفق في خوف ورهبة كما خحفق أول مره 
حملتنى قدماي إلى هذا الشارعء وتراءى لعبيّ خيال 
الكأس مفترة الثغر عن إغراء عنيف. كنت نسيتها فلم 
تخطر لي على بال منذ بلغ قلبي مناه حيّى رأيتها اليوم 
في فنجان القهوة فحرّك أعماق الفؤاد. أمّى + زوجي + 
الدكتور أمين رضا - الخمرء هذه هي المعادلة التي 
استقرّت في نفسي. عل أني تردّدت حين أصبحت من 
حانتي القديمة على قيد مطوة» وتساءلت في حزن وقلق 
ألا يُعَدّ إقدامي هذا خيانة لزوجي؟. ولكبّي أنكرت 
على نفسي هذا المدطق الغريب وشققت طريقي إلى 
الداخخل . وتراءى لي فجأة خيال أبي» وانثالت على 
ذهي صور من ذكرياته؛ فاستعرضتها في هلوء. وفي 
غير ما شاتة أو كراهية» ثم جلست إلى المائدة وأنا 
أغمغم. ورحمه الله وغفر لهه, 
وجاء النادل مسرعًا فحياني وهو يقول لي : 


- أين كنت من زمان؟ 

فأجبته مبسمًا وقد سررت لتحيته : 

الدنيا, , , 

ثم أريته حاتم الزواج فقال: 

- مبارك. . . مبارك. . . وهل أنجبت طفل؟ 

وشعرت بامتعاض وأم» وهززت رأسي سلبّاء ثم 
طلبت كأسًا من الكونياك وشربت في اعتدال» حي 
شعرت بدبيب النشوة في القلب والرأس» وارتسمت 
على فمي ابتسامة سخرت من جميع آلامي فقلت 
لنفسى : (أهاد وسيلا ومرحياعع وحرصت على ألا 
لاود الجدى لم غادرت الحانة زهاء السابعة. وم أكذ 
أنتهي إلى شارع عباد الدين حبّى تذكرت حانة سوق 
الخضر! وكان رأسى بحالة تستهين بالعقبات فتساءلت 
في شبه تأنيب: أأنسى في رغدي الحانة التي آوتني في 
فقري؟ وأوقفت تاكسى وركبته وانطلق بي إلى حانة 
الموظفين المفلسين والحوذيّة . ووجدتها في حالة غناء 
وعربدة كما توقعت. وكان الموطّلف العجوز يغبي ديا ما 
بكره نعرف» فيردّد الجميع «وبعده نشوف»». ولمًّ) 
لحني قادمًا توقف عن الغناء وصاح : 

- هس يا أولاد الجلال. 

وعرفني الرفاق القدماء فتصافحنا في حرارة. وما 
كدت أطمئنٌ إلى مقعدي حيّى سألنى العجوز متغئيًا: 

- كنت فين يا حلو غايب؟ 

فقهقهت ضاحكًا وقلت: 


- الدنيا. . . 
فقال أسحد الصحاب : 
أحبايه . 


فلعنتها معهم عن طيب خاطر. وحدث أن رأى 
أحدهم خاتم الزواج في إصبعي فهتف: 

دخلت دنيا يا بظ. . . 

وكان لإعلان الخبر أثر شامل فسألبى الموطّف 
المئان: ْ 

- كيف وجدت هله الدثيا؟ . . . 

وأفزعني تحوّل الحديث إلى هذا الموضوع الخطير, 


ولك لم أجد بدا من أن أقول: 

حلوة! . . . الست متزوجًا يا سيّدي؟ 

فضحك الرجل حبّى بانت أسنانه المثرّمة وقال: 

- المرأة إذا جاوزت الشباب لم تعد امرأة. . . 

فقال آخر مَؤْمّنًا على قوله : 

- صدقت. المرأة أقصر المخلوقات عمرًا وإن 
هرمت . 

وقال غيره : 

- إن زوجي تدر لي شجارًا نظير كل سهرة في 
الحانة.» وقد قلت لما: إني على أهبة الاستعداد لأن 
أهجر الحالة تحت شرط واحد وهو أن تمبجر هى 
الدنيا! ! ش 

وبدوا جميعًا ساخطين على حياتهم فداخلبي عزاء لم 
أجده من قبل» وعجبت لهذه الأسباب الغريبة التي 
تؤاي بين السكيرينَ. ثم لاحظت تغيّب «دفرّان) 
شيب اشتهر بيننا بإدمانه وصمته. فسألت عنه؟ 
فأجابني العجوز الفتان : 

- لم تعد الخمر لتؤثّر فيه فهو يمضي مساء كل يوم 
إلى البدّال ويشرب كحولا صرفا. . . 

وواصلوا ما انقطع من الغناءء ورحت أشرب 
كالأيام الماضية. ما أعجب قدرتي على الشرب! إن 
ضعيف رعديد حيال كل أمرء ولا ثقة لي في عقلي ولا 
في قلبي . أما معدي فقادرة على ابتلاع حائة! وغادرت 
الحانة في العاشرة مودُعًا بأطيب التحيّات» وتنقّلت من 
طريق لطريق لا تسعنيى الأرض من فرط النشوة 
والسلطنة» ثم هفا عل طيف حبيبتي فتخيلتها بعين 
السكران: وقد طال بها انتظاري فاستسلمت للرقاد. 
فانتشت نشوتي.» ونخفق فؤادي خحفقان الوله» وهتفت 
بنفسي الأشواق. وبحثت عيناي الزائغتان عن تاكسي 
ثم مضيت إليه لا ألوي على شيء وطلبت إلى السائق 
أن يسرع بأقصى ما لديه من سرعة» فطار بي يطوي 
الأرض طيّاء وغادرته عند العمارة» وارتقيت السلّم في 
عجلة ثم دخحلت الشقة وسرت إلى حجرت بلا ترذد. 
وأدرت مفتاح الكهرباء فوقع بصري على حبيبتي وقد 
استغرقت في نوم هادئ. وقد تحرك رأسها لدى سطوع 


11١ السراب‎ 


النور وغمغمت دمّن؟» ثم واصلتٌ نومها دون أن 
تستيقظ. وخلعت ملاسي في عجلة واضطراب ويداي 
ترتعشان» وأنفاسي تتردد في دهشة وسرور وجزع) 
وهرعت إلى الفراش». واندسست تحت الغطاء. 
ضممتها إلى صدري ووضعت شف على شفتيها حقٌ 
فتحت عينيهاء وأمطرتبها قبلا بهم ورغبة وسرور حي 
أفاقت وبادلتني القبل» وبدا ما بيننا كأنه حلم سعيد 
يضِنٌ به المنام. حلم لا يصدّق بيد أنه كان حلءًا قصيرًا 
اكد رن انك من الزاقئقة :بلقتت من سدره ذ 
طمأنينة وسلام» وبي من السعادة نشوة أضعاف ما بي 
من الخمرء واضطجعت في حبورء وأغمضت جفني 
مستسلً) لآمتم الخواطر والأحلام. على أن أحلامي ل 
تنسسج وشيها هذه المرّة من مادّة الخيال» ولكنبا 
استمدّته من الواقع. من صميم حياتي» وألذ العيش 
ما كان حلمه السعيد صدى للواقع الراهن! (: 
تلمّيت السعادة بامتئان العابد» وأيقنت أن همومي 
انجلت إلى الأبد. وفي صباح اليوم التالي جعلت أرءر 
إلى حبيبتي بثقة وسروره وشعرت حقًا بأل زوجء 
وبأل رجل... ولى تزايلني أحاسيس السعادة والفخار 
طوال اليوم» وعندما أ المساء ذهبت إلى شارع الألفي 
بك. ثم عدت إلى حبيبتي طائرا على جناجي نشوتي» 
وعللت من الكأس المترعة. بالسرور نفسه والسرعة 
نفسهاء ثم اضطجعت ضجعة المطمئنٌ» ما كان ثلي 
أن ينسبى ما تجرّع من غصص العذاب. ولكنّ السعادة 
الحقة تستثير عطفنا حيٌّ على ذكريات العذاب. 


م 

وتقضت أسابيع - لعلّها لم تجاوز الشهرين- في 
سعادة وطمأنيئة. وإنٍ إذ أعود إلى ذكرى تلك الأيام 
يمضبى شعور بالألم والأبى؛ لا حسرة على سعادة 
ذهبت» ولكن أسمًا على أكبر نخدعة ابتليت بها في 
حياتي. لم يكن هنالك ما يستوجب سعادة على 
الإطلاق. وإذا كنت قد تمتّعت بالسعادة زمئًا رغذّاء 
فيا ذلك إلا لأئي كنت غرًا جاهلا أعمى . وما من بأس 
أن يتمتّع الأعمى بسعادة وهميّة على شرط أن يواصل 


السراب 


عماهء أما إذا رد إليه البصر ورأى سعادته سرابًا فهل 
يجني من ذكريات سعادته إلا حسرة مضاعفة وهم 
مقيًا؟! وهذه هي حالي بلا زيادة ولا نقصان. وما 
فطنت إليها إِلّا في بطء شديد يوافق جهلي وبلادتي . 

لاحظت أن «رباب» تمفى النهار كلّه وشطرًا من 
الليل خارج البيت. بين ا وبيوت أملي 
3 وقد رافقتها بادئ الأمر رغم طبعي “ 

شقٌ عل الأمر فنكصت على عقبي؛ م 

0 إلا فيها ندر من الزيارات. وعادت أمَي تعلن 
عن ملاحظاتها في مرارة وأسبى وأنا أدافع عن زوجي 
بلا فتور وإن تجاوب لانتقادها في نفسي صدق عميق 
وكنت فيما مضى أشججع زوجي على هذه الزيارات 
لتتسل بها عنّا أشعر به من نقص حياتنا المشتركة, أما 
الآن فلم يعد من موجب في نظري للإفراط فيها. 
ولمت أطراف شجاعتي يومًا وقلت لما: 

- كأنك تقاطعين بيتنا يا عزيزتي» فهلا أقللت من 
هذه الزيارات المتواصلة؟ 


وحدجتي بنظرة مريبة وسالتني بحدّة لم أعهدها من 


قبل : 

أما زالت تشغل نهسها بانتقادي ؟ 

وفهمت أئْها تعنى أمَّي. وساءني أن تضمر لها هذا 
النفور. فأجبتها 1117 

إن أمّي لا تتدخل فبها لا يعنيها. وهذا رجائي أنا 

دون غيري. والحقٌ أني لا أطيق بيتنا إذا كنت 
خارجه , . , 
فقالت وقد استردّت هدوءها: هلم نخرج معًا 
لاذا تضيق بالناس؟ 

فقلت برقة: هكذا أنا. 

ولا أدري ماذا غيّرها أثر كلمتى تلك فقالت بحدّة : 

- إن الحياة لا تحتمل على غير هُذا الوجه. 

آه يا حبيبي. لم تكن رقتك لتسمح بمثئل هذا 
الضيق. فما الذي حدث؟ وليس هذا كل ما في الأمر, 
فإِنْ قلبي أحيانًا يرى ما لا تراه عيناي . بنبغي أن أشقٌّ 
ستار العمى وأن ألقى الحقيقة على مرارتها ورجهًا 
لوجه. . يخيّل إل أن «رباب» لم تسعد بشفائي كما 


سعدث به! أعجبٌ بها من حقيقة تحن ولكن إلام 
أكذّب نفسي! إنها تبدو كأئها تخاف الليل وتتحاماه. 
ولا نكاد نخلو إلى نفسينا حي يعتورها قلق تفصحه 
عيناها الصافيتان. ثم تفتأ في هذه الأيام الأخيرة 
خاصة ‏ تعتذر بشيّى الأعذار. فمن تَعَبِ إلى توعّكَ 
إلى رغبة ملحّة في النوم . وإذا أذعنت لي فإنما تذعن في 
تسليم لا سرور فيهع ثم تنتثر جسمها من جسمي في 
شبه استياء وغضب! وأقرٌ إلى هذا كلّه بأْنْها لم تعد 
فتاقي الضاحكة المستبشرة الصافية. شاب ضحكها 
العلضم بوذت ان ممسادسنا التعورم والملته وهنا 
توددا. حاشاي أن أقول إِنّْا أعلنت سخطا أو أساءت 
أدبا حبيبيق فوق هذا كلّى ولكنني أحس قلقها 
بقلبي؛ وأدرك حيرتها بغريزتي. ربّاه إن الدليا حميمًا لا 
تساوي خردلة إذا تأت حبيبتي؟ فاذا بها؟. . . إن 
أفتقد حبيبتي فلا أجدهاء ولا بل أن أجدهاء أو أمورت 


2 


كما . 
ربلغ شقائي غايته إذ ترك نفورها في نفسي آثرًا 
عميقاء تغلغل في حناياها فحرك الداء القديم. وَقَْل 
له الساحرى ول تنفع فيه الخمر. وتناهى بي الحرن 
حتّى أشفيت على الجنون. أيعاودني العجز؟ وهل أَرَدٌ 
إلى ذلك الياس المميت؟. وقلت لا مرّة في قنوط : 


ريأببا... ماذا بلك؟..., لست اللبيبة التى 
عهدتها. 

فللادت بالصمت»ء وغضت بصرها حيرة وارتباكاء 
فقلت بتضراع متسائل 


- إن قلبي لا يكذبنى فَحبّرينى ماذا غبّرك؟ 

فنهمست قائلة وقد لاحت 5-7 نظرة ساهمة : 

- لا شيء. . 

فهتفت من الأعراق : 

- بل شيء وأشياء ع ف زوجك يا رباب وحياقي 
كلها لك فلا تخفي عي شيئًا. آه يا رباب إن أبكى 
أيامنا الماضية , ا 

فتييلت ولاح في وجهها الارتباك والألى 
غمغمت فى حذر وإشفاق: 


- وإني أبكي أيامنا أيضًا 


فتولاني الذهول والانزعاج وسألتها في حيرة شديدة: 

- كيف يا رباب؟. . . إني لا أفهم شيئًا. أما كان 
ينبغي حياتنا أن تكون أوفر سعادة! 

نمم وجهها على أنها تعاني من ضروب الخيرة مثلم 
أعاني» فازددت ذهولًا وانزعاجًا وانتظرت أن تميط 
اللثام عا يحيّرها فتجلو لي ما يحيّرني بالتالي. وانتظرت 
في قلق وإن بات قلبي يحدس أمورًا يفرق لما رعبًا 
ويأسًا وخخزيًا. ولمًا طال بي الانتظار قلت: 

- لماذا لا تكاشفيني بذات نفسك! 

إنها ترغب في البوح بما ينوء به صدرها الرقيق 
ولكنبا لا تجد سبيلًا إلى الإفصاح أو لا تواتيها 
الشجاعة عليهء وَإِنِ أزداد خوفا وقنوظا حي تناهى بي 
الخحزع فقلت: 

- رباب . . . إِنْك لا ترتاحين لما جد في حياتنا! 

فحدجتني بنظرة غريبة» ثم خفضت بصرها 
وراحثت تقضم ظفرها في حيرة وارتباك. برح الثفاء , 
بيد أن صمتها أخذ يضايقني فتساءلت فيما يشبه 
الضحر: 

- أليس الأمر كذلك؟ 

ورنت إلّ بنظرة توسل واستعطاف وقالت بصوت 


- لنعد كا كثا؟ . . . كانت حياة طيبة ! 

وكأن لطمة هوت على وجهى فغخضضت عبن حياء 
وقنوظًا. ومع أن رغبتها هذه حقيقة بأن تبيّئ لي عذرًا 
أداري به ما عاودني من عجر إلا أنني تلقّيتها بخري 
عميت. ولعلها قرأت ما لاح في وجهي من أمارات للم 
فقالت برقة : 

د السك افق :كنينا مكن. أن يكدركة ولكب أهفر 
حياتنا الأفيف قلت حياة طاهرة سعيدة! 

فقلت كأنبى أكمل حديثها: 

- ولم يكن بها ما ينص صفوك؟ 

فطرفت عيناهاء وتجلت فيهما نظرة عطف وقالت 
برقة : 

كنا سعداء أليس كذلك؟ . . 
شيء على الإطلاق. . . 


١١ السراب‎ 


لا أدري لاذا آلمتني رقتها. ثم تذكّرت بعض ما 
سمعت في إدارة المخازن فقلت: 

- ولكن لا يمكن أن تتم سعادة المرأة إلا مبذا. . . 

فتورد وجهها وقالت بسرعة ويقين: 

كلا. .. كلا. . . أنث مخطئ في هذا. 

ورنوت إليها في حيرة! ترى حمًا تصدقني القول؟ 
ولكن ما عسبى أن يحملها على الكذب؟! م أكن إلا 
غرًا جاهلاء ولن تجد كالغرٌ الجاهل صبدًا سهلا للهجة 
التاكيدء نأثر فّ قوطا تأثيرًا عميمًا. . 

هل أكذّب حبيبتي وأصدّق سخفاء الموظفين؟! ألم 
يعر قولها هذا عن رأي قديم اعتنقته قبل أن يحولني 
عنه محون الزملاء بإدارة المخازن؟ . . . وفضلا عن هذا 
وذاك فليس بوسعىي وصالا بعد أن باحت؛» وبعد أن 
عاودني من العجز ما عاودني» لذلك كله تظاهرت 
بالارتياح» واصطنعت ابتسامة. ثم قلت بتسليم : 

- ليس لي وراء سعادتك مطلب يا رباب! 

وسَرّي عنباء ولاح في عينيها نظرة ارتياح» وتدانت 
بح التعشة ري وباتي | 

عدنا كا كنًا. عدت زوجًا عذريًا ذا عادة ذميمق 
ورحت أقول لنفسي: إِنّه لا ذنْب لي فيما التهيئا إليه . 
إني رجل كامل ولولا طبعها هي ما انشتابتني هذه 
النكسة! بل إني أتحمّل هذه الحياة الغريبة إكرامًا لها! يا 
له من عزاء كنت في مسيس الحاجة إليه! ولكن هل 
حقًا صِدقت نفسبى؟! ومهما يكن من أمر فإِنَّ ذكرى 
عهد السعادة لم تخب عن ذهنى لحظة واحدة)» كيف 
انقضى ذاك العهد بتلك السرعة التي لم أتوقعها؟ وكيف 
أذي حبيبي حتّى خرجت عن صمتها بهذه الشكوى 
السافرة؟ أليس معنى هذا أني شقيّ ولا حيلة لي في 
شقائي؟ آه... لشدّ ما نازعتني النفس إلى الحرية 
والفرار! وعاودتني ذكريات تشردي في الطرق بحنان 
ولحفة .. 
هل عاد كلّ شبىء إلى أصله؟ ! 

وما زال الحبٌ يجمعنا في عناق وعطف. وعادت 
حبيبتي إلى مرحها وحبورها وهي تقشي يومها ما بين 
مدرستها وبيوت الأهل والأقارب؛ وبحسبي أن أراها 


5 السراب 


سعيدة مسرورة. ولعلٌ طبعها اعتراه تغيّر طفيف يبدو 
في سهومها الحين بعد الحين كما يبدو في سرعة غضبها 
لأقل همسة تصدر من أمي . 

هل كنت سعيدًا؟ 

كانت حبيبتي سعيدة يبدو لي. فكان طبيعيًا أن أعدٌ 
نفسي سعيدًا. حمًا لم تنقطع بي الوساوس ولكني متى 
عرفت الحياة بلا وساوس؟... واطرد ثيّار الحياة 
تتقاذفي أمواجه . يسعذدي سرور حبيبتي» ويشقيئي 
حرن أمّيء أقضي وقنًا ثقيلا في الوزارة» وأنفق 
ساعات حالمة في الحانة على فترات متباعدة. وحص 
ضميري الذي عانيت طويلا من شعوره بالخطيئة لم آل 
أن أغضى عل أنانه وتأوّهاته بضحكات السرور 
والعربدةء وكنت كلما ألحّ عل وخر أقول لنفسي 
بصوت مرتفع إني سعيد؛ وكل شيء حسن! 

ومضى الشتاء فالربيع ثم الصيف. وعدنا نستقبل 
الخريف والعام الدرامي الجديد بما تبتدرنا من عزيز 
الذكريات . 


: 

وعرض لي أمر بدا تافهًا ولكنّه كاد يقلب حياتي 
رأسا على عقب؛ ومن عجب أنه تكشّف لي عقب 
مصادفة. فحقٌ لي أن أتساءل: أكانت حياي تستهدف 
وجهة أخرى لولم تعرض لي تلك المصادفة؟ ولكن ما 
هي المصادفة؟ ألا تبدو الحياة أحيانًا سلسلة متّصلة من 
المصادفات؟ ماذا ألقى برباب في طريقي غير المصادفة؟ 
وهل كان يتاح لي الزواج منها لو تأخخر موت أبي شهرًا 
واحدًا؟ بل ماذا كان يحدث لي لو أصث أبي على 
استردادي كما فعل براضية ومدحت؟ على هذا المنوال 
أتساءل: ألم يكن من الممكن أن تطرد حيات على وتيرة 
واحدة حي الموت لولم يطل اللقاء بيني وبين أمي 

دقائق معدودات ذلك اليوم الذي لا ينسبى؟! 
كنا في أواخخر الخريف. وكان الوقت عصرًاء وقد 
ودّعتٌ رباب وغادرت الحجرة لقضاء سهرتي المسائيّة. 
والتقيت بأمّي في الصالة وكالت متومّكة فمضيت معها 
إلى حجرتها ولبثت معها نتحذث فطال بنا الحديث» ثم 


مبضت مستأذثا وغادرت الحجرة. ولاحت مي التفاتة 
إلى حجرتنا- وكان بابها مفتونًا كما تركته - فرأيت 
رباب جالسة على حافة الفراش تقرأ خطابًا. وأدركت 
لتؤي أن ساعي البريد جاء به حين كنت منفردًا بأمي 
وإلا لعلمت به وقت وصوله: وظننته مرسلًا إل من 
أخي لأنْ رباب لم تكن تتلقّى خخطابات؛ فعدت إلى 
حجرت مستطلعًاء وشارفت بابها ورباب مغرقة في 
القراءة لم تنتبه لي حبّى قلت لها: 

- أهذا الخطاب لي؟ 

ورفعت رأسها نحوي في دهشةء. وطوت يدها 
الخطاب بحركة آلية سريعة؛ وسالتبي في اضطراب 
ظاهر: 

تقال اليف تننا؟ 

فقلت وقد تولاني قلق لا أدريه : 

كنت في حجرة امي ورأيتك عند مغادرتي لا 
تقرئين هذا المنطاب فظئنته لي. 

فنبضت من بجلسها وتراجعت صوب التواليت». 
وكانت بلا ريب تحاول أن تضبط عواطفهاء ولكنّ 
عينيها وشتا بما تركه حضوري المفاجئ في نفسها من 
وقع عميق لم تتوقعه وقالت وقد ندّت عنبا ضحكة 
مقتضبة جافة لم نجدٍ في مداراة اضطرابها : 

- ليس خطابًا كا تظنّ, إن هي إلا وريقة سجّملت 
بها بعض ملاحظات تتعلّق بعملي المدرسئ. . . 

وداخلني خوف تمنّى في مفاصلي. لعلّها لم تجاوز 
الصدق ولكنٌ عدوى اضطرابها انتقلت إلى نفسي 
فشعرت بذاك الخوف الغريب» كأنه نذير ش” عور 
يتجمع في أفقى المكفهرٌ. ما الذي يدعروها إلى 
الكذب؟ لكي رأيت في يدها خطابًا بلا ريب! وقد 
خفت أن أتمادى في إظهار الشك أن يكون الحقّ معها 
فأقع في حرج ما أغناني عنه. على أنني لم أتمالك أن 
قلت : 

ولك رأيت خطابا بيدك, . 

ووقع قولي من أذ موقعًا سيّئّا. فخيّل إن أنني م 
أحسن اختياره. وأنّه يفصح عن شك واضحء. ورمقتها 
في إشفاق. وانتظرت أن تبسط لي الوريقة فى حركة 


عصبيّة وأن ترميني بطرف ساخر مؤنّب» ولكتها كانت 
تعانى أحاسيس أخرى. وكأئما قهرتها عاطفة مجهولة 
فقالت وهي توليني ظهرها: 

قلق لك إتااوويقة امه فلاحطات هدرسية: 

ثم رأيتها تمزّفها بحركة مباغتة» وتحولت صوب 
النافذة ورمت مبا! كانت حركة مباغتة أبعد من أن 
أتوقّعها فتسمّرث في مكاني كأنما حل بي شلل. 
واستقبلتني بوجهها متظاهرة بعدم المبالاة فتملكني حنق 
وغضب ويأس. وشعرت بِأنْ جدارًا هائلا قد انقض 
على حياتي فدفنها تحت ركامه, وأنّْ عي تتفتحان ‏ بعد 
أوهام العمى ‏ على حقائق بشعة. وهل غير الحقائق 
البشعة ما يستشير هذا الاضطراب وذلك الخدام 
الماكر؟. وصلححت بلا وعي : 

- كاذبة. . . لم تكن وريقة ملاحظات كما قلت كذبا 
وحداعًا. ولكنّه خطاب كما رأيت» وقد مرّقته لتواري 
عب سواه. . 

وغاص الدم في وجهها فترك صفحته شاحبة كوجوه 
الموق» ولكن بدا أنْها لا تريد أن تسلّم بخير دفاع 
المستيئس فغمغمت ؛ 

أنت مغخطئ . . . وظالم. . . لم يكن خطابًا! 

فهتفت بها مغيظًا محنمًا والألم واليأس يطرقان رأسي 
بعلف : 

لماذا مرّقته؟... لماذا تولاك الذعر؟.. 
تكلّمي . . . لا بدٌ أن أعرف الحقيقة. .. سأنزل إلى 
الطريق ألتقط القصاصات . 

واتجهت نحو النافذة في عجلة واضطراب وأطللت 
على الطريق فرأيت العطفة الضيّقة التى تفصل مؤخرة 
العمارة عن حديقة الكئيسة؛ فداخلني يأس وأيقنت أن 
المواء قد حمل القصاصات إلى حديقة الكئيسة. 
واسودّت الدنيا في عييّ؛ وخيّل إل أنها تتمخض عن 
عالم من الشياطين الراقصة في تيار من لهيب. كيف 
أنتزع الحقيقة من بين شفتيها؟ ودرت على عقبي 
فوجدجما بموقفهاء يحاكي وجهها وجوه الموق. وتلوح في 
عينيها نظرة ذعر وارتباك» فاشتدت قسوة قلبي» 
ورميتها بنظرة طويلة رهيبة» وقلت بإصرار وحنق : 


السراب ه١١‏ 


إنه خطاب. ولن أرجع حي تعترني لي بكل 

تراجعت متأوّهة حبّى استندت إلى مرأة الصوان 
وقالت بصوت مرزْقه الشكوى: 

بالله لا تسئ بي الظن. لا شيء ألبثة يستوجب 
غضبك أو ارتيابك» أواه لا تنظر إل هكذا. . . 

ولك لبنت أرمقها بنظرة صارمة قاسية ونشسي 
تيف عل اللتقيقة» نكا اللبنادر زا الملالة, وناك إل 
لفي كابوس طاغ . وهل كان يقع في ظئي أن أقف 
منبا هُذا الموقف إلا في كابوس؟! واستدركت تقول 
بصوت متقطع الأنفاس : 

لا تنظر إل هكذا! لقد أخطات حمًا ولكئك أنت 
المسثول عن خخطتي ! لقد فاجاتني فركبني الاضطراب» 
فتورّطت في كذب لا داعي له. . . 

ربّاه ما أحوجني إلى النجاة» ما أشدٌ تلهقفي على 
قطرة غيث تبل جوائحي . .. وقلت في حيرة: 

كان خطايا . . . 

فبادرتني قائلة : 

أجل! وكان يبدو لي أمره تافها حبّى وقع في 
نفسك الارتياب. وتههُم وجهك فتخيّلت الأمر التافه 
جللا خطيرًا فالتمست محرجًا في الكذبء» وكان ما 
كان . 

فسألتها وما أزداد إلا حيرة: 

إذا كان خطاباء فمن أرسله؟ 

فقالت وبها مثلما بي من الحيرة : 

جلو ا 

فنفخت قائلا : 

ما هذه المعميّات؟ !| 

تولى عنها الذعر رويدًاء وتشبّعت بانفثاء غضبي 
فقالت بصوت مله الآمل : 

دعني أقص عليك قصّة هذا الخطاب المشقوم 
بالحرف الواحد: لقد تلقيته صباح اليوم بالمدرسة. 
نفضضته بدهشة لأني لم أعتد تلفي الخطابات» 
ووجدته غفلا من الإمضاء. وم يكن به سوى سخف 
وقح خطه قلم شخص سمج ! وملكني الحنق بادى 


5 أا١ا‏ السراب 


الأمره تم لم أعد أباله. وصمّمت على الاحتفاظ به 
لأطلعك عليه وني ظَيى أن أعدٌ لك مفاجأة تضحك 
منها طويلا. ولكتى غيّرت رأبي عقب عودتك وحفت 
أن يثير بنفسك ما لا داعي له من الاستياء. وأخحفيت 
عنك أمره حيّى ظننتك غادرت البيت فاستخرجته من 
حقيبتي وأعدت تلاوته وفي نيت أن أمزّقه ولكنك 
فاجاتني وقت تلاوته ولم يغب عب حرج مركزي» ولم 
يعد بوسعي الاعتراف بالحقيقة. فتورطت ىا قلت لك 
في الكذب. وجنيت من كذبي ما جنيت بمالا 
امف . 

أصغيت إليها وكلي آذان. ولمًا انتهت من قصّتها 
لبغت بموقفي جامدًا متحيرًا. فت وطأة الجنون الذي 
ركبني ولكيّ وقفت بباب التصديق والطمأنيلة متردّدًا. 
وجدت نفسى ف حيرة قاتلة دعوت الله أن يكشفها 
عثىء وأن عبني بصيرة نثرة أنفذ بها إلى أعماق هذا 
الصدر الجميل الذي كأنما خلق لتعذيبي. وأرهقني 
التفكير والتردّد فقلت وكأننى أسائل نفسى : ْ 

- من مرسله؟ ! ْ ْ 

وكأن السؤال آلمهاء فخضّت بصرها مقظبة وقالت: 

قلت كان غفلا من الإمضاء. 

فانفلت لساني يقول: 

هذا غير معقول. 

فضربت الأرض بقدمها وقالت وقد لاح في وجهها 
الآلم والتعسة : 

أتكذّبني يا كامل بعد أن صارحتك الحقيقة؟ إن 
لا أحتمل هذا. . . 

فاستطردت قائلا وقد نال مؤي تأللها : 

أعني ماذا يفيده الخطاب إذا لم يثرك به إشارة تدل 
عليه؟. ألم يرسل لك خطابًا قبله؟ 

.. . هذا أول خطاب أتلقاه. , 

وماذا كان به؟ 

فغضت بصرها وهيى تقول بضضيق : 

- كلام سحخيف عن الإعجاب والجبال. . . 

ووثب إلى خيالي منظر يديها وهما تَرّقان الخطاب 
فلسعني الشك وانتفض جسمي في هلم فصحت بها 


وكأنني ففدذدت وعبى : 

لماذا مرّقته. . . للماذا مزقته؟ 

فنفحت فب] يشبه اليآاس». ولزمت الضيمت ملياء 
ثم قالت بهدوء واستسلام : 

- لقد تسلّمت هذا الخطاب المشئوم في المدرسةء 
ولا أظئتك تشك في هذا لأنه من الجنون أن يرسله إلى 
البيت. والآن اطرح على نفسك هذا السؤال: ما 
الذي يدعوني إلى الاحتفاظ بالخطاب وحمله إلى البيت 
إذا كان به ما يريب؟ لاذا لم أمزّقه في المدرسة بعد 
قراءته ! 

وعقد الصمت لساني حيال وجاهة الحجّة ولعلي 
أسفت على ما بدر ميّى من صياح كاسر. أما ورباب» 
فعادت تقول: 

- لو كنت مذنبة لما وجدتني ببذا الموقف السب ولا 
علمت بثيء وهيهات أن أغفر لك سوء ظنك بي. . . 

فآلمني قوطاء وداخلني شعور أليم بالحجل فخفضت 
بصري أن ترى به آي المزيمة. على أنْ ألمى لم يُنسني ما 
أحب أن أجلوه من غامض الأمور فقلت بصوت 
منخفض : 

- إِنْ قولك مصدّق... ولكن لعل صاحب 
الطاب لم يوقم بإمضائه لظنه أنه من السهل 
الاستدلال عليه.؛ كأن يكون ممن يعترضون سبيلك 

ول يخقُف لين ذبراتي من المهاء بل لعلّه جعلها 
تتادى فيه» وقالت بامتعاض : 

د من .عادتي أن أسبر فلا ألوي على شيء ولا ألقي 
بالا لإنسان. ْ 

لم أكن في حاجة إلى قوها وقد خبرته بنفسبي» ولكن 
لاح لعي شبحا الرجلين اللذين قاساني الإإعجاب بها 
فيا مضى. فقلت متسائلا: 

ألا يمتمل أن يكون جارك الذي شرع في طلب 
كلو أعنى محمد جودت؟ 

فقالت بلا ترذد: 

هذا رجل وقور لا ينزل هذه الأساليب الوقحةع 
وفضلًا عن ذلك فهو وشيك الزواج كها علمت منذ 


قرابة شهر في بيت أبي. . . 

- كان يوجد رجل سمين يواظب على التهامك 
بعينيه في ذلك العهد الذي كنت أحوم فيه حولك» 
أفلا يجوز أن يكون هو؟ 

فرؤت ما بين حاجبيها مستذكرة» ثم قالت وهي 
تبز رأسها : 

لا أعلم عنه شيئًا. . . 

وحاولت أن أذكرها به ولكتها بدت وكأئها لم نحس 
له وجوداء فقلت بيأس وغيظ : 

أريد أن أعرفه كي أَؤْدْبه. 

فقالت بصوت دلت نيراته على التعب: 

- ليكن من يكون! لولم يدفعني الارتباك إلى تمزيقه 
لكنا نقرأه الآن ضاحكين. فهلا نسيته وحسبنا ما نالنا 
من كدر! 

فعضضت على شفتي. وجنحت إلى الصمت مغيظًا 
مقهوراء فاستطردت قائلة: 

إِنّه أمر تافه. بل أتفه من أن يستحقٌ كل هذا 
الاهتهام . . . 

فتبّدت قائلا وأنا لا أدري : 

- ليتك لم تمزقيه ! 

والتمعت في عينيها نظرة غاضبة وتساءلت بحدّة : 

آلا زاليساورك: الفيك؟ 

داكا و ولكئّي لن أهدأ حيّى أؤدّبه! 

- ولكنًا لا نعرفه فها العمل؟ 

وأحنقني قوهاء ولكبي تحاميت الإفصاح عن حنقي 
أن أستثير غضبها. وكأنّ الوقوف أرهقها فمضت إلى 
كرسي التواليت وجلست عليه؛ وشعرت عند ذاك بأل 
56 فدلفت من الفراش واقتعدت حافته. إنها 
صادقة بريئة. والأمر جد تافه, فليتئي أستطيع أن أو 
من مخيلتي صورة يديها وهما تمرّقان الخطاب! لعل 
المجرم أحد أولئك الفضوليّين الذين يراقبونها في ذهابها 
وإيابها! فليتني لم أخلق فريسة سهلة لأنياب الغيرة. إن 


١119 السراب‎ 


أعرف نفسى جيّدَاء وإني لأغار من الوهم ومن لا 
شيء! فأين متي جزيرة نائية لم تطأها قدم رجل! 

وطار الخيال بغتة إلى حجرة أمّي فسرت في جسدي 
قشعريرة وخلتها تقول لي «ألم أقل لك؟) فنفختٌ كمن 
يزيح عن صدره كابوساء ولاحث مب التفاتة نحو 
«رباب» فوجدتها تحملق في وجهي بدهشة». فخطر لي 
خاطر جديد ١‏ أتوان عن الإإفصاح عنه فقلت برقة ؛ 

- رباب» لاذا تواصلين نخدمتك في الحكومة! لاذا 
تتجشمين هله المشفة بلا ضرورة؟ لماذا لا تقنعين 
ببيتنك كغيرك من الأزواج؟ 

فتفرّست في وجهي بإمعان وأناة» ثم قالت مهدوء : 

الا فقن" 

فابتدرتها قائلا: معاذ الله ولكبي. . . 

وقاطعتني قائلة : 

إذا كنت لا تثق في فالأولى لي أن أغادر بيتك! 

- رباب| 

فلم تبال جزعي وقالت: 

- إذا كنت ما تزال تثق بي فسأبقى في وظيفتي . 

- لك ما تشائين 

فقالت باللهجة نفسها: 

- لا أحبٌ أن أسمع كلمة أخرى عن هذا 
الموضوع , 

وقد كان. وغادرت البيت. وأخحذت أضرب في 
الأرض على غير هدى حتى تناهى بي الإعياء» فرجعت 
إلى البيت» وتلاقينا وكأن لم يكن بيننا شيء وتناولنا 
العشاء معال م آوينا إلى حجرتنا والتقت أعيئنا في 
نظرات ذات معن , 

ولم نتالك أن انفجرنا ضاحكين. ومضينئا إلى 
الفراش فاضطجعنا وقبلتها قبلة النوم. ولا أدري لاذا 
نازعتني نفسى إلى معاودة ما تعاهدنا على اجتنابه . 
لاسي سن هذا 1401 انكو بن لزه من ملق ومع 
ذلك كدت أهمٌّ. . . لولا أن ردّنٍ الخوف إلى وعبي ! 
ثم خطر لي أن أسألا عا يجعلها تقضى على نفسها 
بالحرمان؟ وانفجرت شفتاي ولفظ صدري القولء 


م١١‏ السراب 


ولكنّه جمد على طرف لساني! إنه الخوف أيضًا. 


.0 
وعنلدما فتحت عي في الصباح الباكر عاودتني 
ذكريات الأمس» فتأمّلتها في دهشة. وقد خيّل إل أنْه 
لم يكن هنالك ما يستحقٌ كل ذلك العناء والألم. وقلت 
لنفسبى: لو أنها مقت الخطاب في الروضة لما علمت به 
أبدّاء وفي هذا آية صدقهاء ثم تمثلت لعيىّ وهي مزق 
الخطاب وترمي به من النافذة. فكأنئما هي مزق قلبي 
ونتلثر شظاياه في الحواء.» وسرت في جسدي رعدة 
عنيفة. وهززت رأمى غاضيًا كأني أنفض الأوهام 
وغادرت الفراش. ولا فرغنا من فطورنا جلسنا عل 
المقعد الطويل نحتبى الشاي. استرقت إليها نظرة 
فترانك وها الماعتوب هادا باسمً ينم عن جمال 
وسلام. فغضبى الندم على ما فرط مئّى في حمّها وقلت 
لنفسي : د إن الشيطان غْوّى رجيم». وني اللحطة 
التالية لاح لي خماطر كالبرق» أليس من الجائر أن 
تكون قد تسلّمت الخطاب في البيت وأنّه ل يكن 
بوسعها أن تمرّقه في مكان آخر؟ ولكتى سرعان ما 
نبذته» إذ إنه غير معقول - كما قالت بحقّ ‏ أن تبلغ 
الحماقة من شخص أن يرسل خطابًا غراميًا إلى بيت 
الزوج! آلا سحمًا للأوهام, إِنْ حبيبتي أهل لكل ثقة. 
والثقة هي كل شىء. ولولاها ما حمال دون الْشْرَ 
حائل . ْ 
وتخرجنا معا. وركيبنا الترام . لعل كثيرين يرمقوننا 
بعين الحسدء فهل يتصورون كيف نحيا معًا؟! ألا ما 
أعجب العوالم التي تنطوي عليها النفوس. وأعجب 
من هذا أمر رباب» فكيف ترغب عن المساشرة 
الزوجيّة مهذا الاصرار العريب؟ لشد ما يشوقني أن 
أغوص في أعاقها. عند ذاك شعرت بحاجتي إلى 
مرشد أقصٌ عليه وأصغي إليه. لم أشعر من قبل بمثل 
ما شعرت به وقتها من الوحدة والعزلة وقلة الحيلة. 
وكان طبيعيًا أن أذكر مرشدي الوحيد في الحياة؛ أمّي» 
ولكن سرعان ما تملكبي إحساس قو بالخجل 
والغيظ. حي لكأن تَثْر همومي عل املأ أهون عل 


مِن أن أسارٌ أمي بها. 

هل أستطيع أن أجلو السرّ بنفسبي؟ أيكون الله قد 
خلقها خلقًا طاهرًا لا تطيب له الحياة إلا بالعمّة؟! هذا 
فرض محتمل يؤيده الواقع. ولست أسى عليهء فلولاه 
لكنت في مأزق حرج. والحقٌ أن اتُصالي بها حيّى في 
أسعد أوقاته ‏ لم يخل من قلق وخوف غامضين. وقد 
عاودني العجز في إِبَانْ جنوحها إلى النفور؛ ولكبِّي كنت 
أنبإلا أذ انون ىفق عبوز الضحتة: عدر 
حبيبتي» والفداء 0000 ولمًا بلغت هذا الحد 
من التفكير- وكنت أشارف الوزارة- اضطرب ذهني 
وشعرت بقلق طاح لم أدركه. بدا لي الأمر وكانه 
يستدعي الطمأنينة التامّة» ومع ذلك لفتني حيرة معذبة 
فدخلت الوزارة ذاهلا. . . من عسى أن يكون الوغد 
الذى كتب الخطاب؟ معقول جدًا ألا يكون الرجل 
الوقور محمد جودت. فمن يكون؟ لاذا لا يكون الفتى 
الآخخر ذا الجسم البدين والنظرة المتغطرسة؟ وليس هذا 
ببعيد. إن في متناول يدي» وإني لأعرف موقفه الذي 
ينتظر به كلّ صباح. . . ترى هل حمًا جهلته أم كانت 
تتجاهله؟ على أنْني تنيت بقلبي ألا يكونه. إذ لم يخف 
عن لحظة أنه قادر على أن يبطش بي بضربة واحدة؟ 
ذلك لتفي تايط ليق آنا يقت فلن" الشطات 
لأمكنني كل شيء. أي شيء أعني؟ لا أدري على وحه 
التحقيق. لكب وجدت عليها مرّة أخرى بعد أن عد 
الأمر منتهيًا. والله ما مرُقنُه إلا خوفا من اطلاعي 
عليه. ربّاه هل أتردّى تانية في الجحيم؟ حذارٍ أن 
تتمادى! إن مَن يسمح لنفسه بالشكٌ في رباب لا 
يستحقٌ أن يكون إسانًا. ألا يحسن بي أن أسأها بي 
التليفون عنًَا إذا كانت تلقّت خطابًا جديدًا؟ نازعتني 
إلى ذلك رغبة حامحة ولكن حال دون تنفيذهما 
الخوف... ودعان صوت من الأعباق إلى الهرب! 
ولكن من أهرب؟ وإلى أين؟ إِمّا أن أكون مجنونًا أو 
سخيفا . نا زوجان سعيدان في الواقع, ولكنّ عقلي 
شقيّ » فآه لو أستطيع حذف الأمس من الأيّام. آه لو 
محى ذكرى تمزيق الخطاب من خيالي. وإليك خاطرا 
جديدًا: إذا كانت قرأت المغطاب في المدرسة فلاذا 


أعادت قراءته في حجرتنا؟ . . . ألَذَّها أن تعيد تلاوته 
أم كانت تستوئق من الميعاد؟ أوشك جبيني أن يتفجر 
فون ل 

ولا غادرت الوزارة أسعفني هواء الطريق اللطيف 
سروح فخ عئذه التتنشك تفش اميق .واحتسيت 
انتعاشًا ردّني إلى السكينة. وجعلت أردّد: ما أحمقنى! 
وفي البيت لافتنى رباب بابتسامة وصاءة فالبسطت 
أساريري » وسألتها ضاحكًا: 

- هل من جديد؟ 

أتعبى خخطابًا جديدًٌا؟ 

فلك وها أزاله فاعكا: 

52-5 

فقالت مبتسمة: 

كلا انقطع البريد. . . 

وغادرت البيت عصرًا وليس لى غاية. وما كدت 
أستقرٌ بمكاني في الثرام حثّى نشأت في صدري رغبة 
جميلة» هي أن أزور «السيّدة» طالما كانت ملجثي 
وملاذي , وم أتردّد عن تنفيذ هذه الرغبة التي يلكت 
نفسى. وعندما عبرت عتبة المسجد سرت إلى صدري 
أ ارتياح سعيدة» وطافت برأسيى ذكريات محببة إلى 
قلبي. رأيتني بعين الخيال أسير ممسكا بيدي أمّي إلى 
الضريح الطاهر. وذكرث يوم جاءت بي لأتوب عن 
الذنب الذي أكاد آلفه وأعتاده, يا لما من ذكرى 
أعقبت ندمًا وخجلا حي شعرت برغبة في التواري 
والفرار» ولكنّْني واصلت السبرء فطفت بالضريح قارئًا 
الفاتحة. وتشجّعت إدلالا بمنزلتي منذ الصغر عند 
صاحبته الطاهرة» فوضعت راح على الباب 
وغمغمت في ضراعة: «يا م هاشم. أنت أعلم بقلبي 
وطيبته: وبأنيٍ لم أضمر في حياتي أذى لإنسان فاجعلي 
جزائي من جس عملى. هذا دعائي يا ست». 
وانتبذت ركنا وتسربّعت على الأرض. سطعت أنفى 
رائحة ذكيّة لعلّها كانت رذاذًا يرضَّه أحد المجذوبينع 
وتجاوبت في الأركان أصوات الدعاء يردّدها الطائفون» 
على حين مضى شيخ غير بعيد يرثّل بصوت مهموس 
آيات من الذكر الحكيم. وذكرت كيف انقطعت عن 


١١89 السراب‎ 


فرائض الدين حي لم أعد أواظب إلا على الصوم في 
حينه. ألست حقيمًا إذا عدت إلى هدى الصلاة أن 
يطمئن قلبي ويخف عن ظهري وقر القلق والمخاوف. 
وكان قلبي على أله يتفيّا ظل النبّة الظليل» ويعبٌ من 
ثمير صافب مثلوج. ويغمره سكون عميق يدعونيٍ إلى 
الاستزادة من صقاء الساعة المبىء. وفي نشوة من 
نشوات السلام تراءت لي آلاميى كخبط رقيق من 
نسيج القضاء المهيمن على كلّ شيء فنزعت إلى الرضى 
والتسليم. ودَوْمَ بنفسيى صفاء روحيّ سما بي إلى ذروة 
من البهجة فوق المنى فكأنّ القلب يعلو غصنًا من 
أغصان اللئة عهدل عليه حمامة السلام. ولبثت في 
نشو زمنًا لا أدري كم لبثت حيّى اندسٌ إلى خيالي 
على حين غرّة صورة رباب وهي تمرّق الخطاب وقد 
تملكها الحلع فأفقت بقسوة وعنف كمن يفيق من نوم 
على زلزال عنيف. وتنبّدت من قلب مكلوم ثم نيضت 
قائّاء وتلوت الفاتحة مرزة أخرى وغادرت الجامعم» وقد 
وقع بصري لدى ختروجي من الباب على رَمَال بمن 
يستطلعون الغيب. إني أومن ببؤلاء الناس إيمان أمي 
بهم. وقد انلتظرت حتّى انفض من حوله جماعة من 
السائلين واقتربت منه على حياءء وسألته أن يقرأ لى 
الطالع. وراح الرجل ينكت بإهامه في نقرات الرمل 
ويئقل فيها بينها قواقعه. كان نحيلا كالمومياء. شاحب 
اللون. متلفْعًا بكساء أبيض» فتقال من فم لم تبق فيه 
إلا ثنيتاه العلييان: 

- كثير الهم والفكر. 

فقلت لنفسي : لقد صدقء وأرهفت السمسع 
بانشيام» فاستطرد قائلا: 

ولك عدو ماكر. 

فخفق قلبي ! أليس هو صاحب الخطاب؟! وواصل 
الرجل حديئه قائلا : 

- إن يمكر مكره وسيردٌ أله كيده إلى نحره. . 

ألا يعني هذا أن «رباب» بريئة؟ 

- وستنجيئك ورقة تسر بها طويلا. . . 

- أتعني خخطابًا؟ 


- رتماء إني أرى أمامي ورقة. . . 


السراب 

ما معبى هذا؟! كان الأمر يزداد غموضاء وسالته: 

- هل تأق من قبل العدو؟ 

ارين كلذ . لاحية أنحرى فتنجل مها 
اه ٍ 

أيه ناحية؟ 

- يأتيك الخبر من حيث لا تدري . 

فتولنني الحيرة وتيت لو يزيد بياناء ولكنّه عاد 
يقول: 

باإذا جدذت: فغاب فيد اليا هذا لكات ادن 
الله , 

وأعطاني لفافة صغيرة جِدا من الورق مربوطة بخيط 
رقيق ثم قال : 

ضعه على القلبء وتوكل على الله. . . 

جد جد عبد 

ذكرت في طريق العودة ما عانيت من ألم مند عصر 
الأمس فأيقنت أنْ سعادة عام لا تزن شقاء يوم واحد 
لم أهتد إلى مرسى وما أزداد إلا حيرة وتبلبلًا. إِنْ ما 
يظلني أحيانًا من طمأنينة ما هو إلا سحابة صيف. 
ولن بدأ لي جانب حيّى ألقى الحقيقة وجهًا لوجه. ما 
كنت أحبٌ أن تلوّث نفسي بالشك في الوجه الصبيح 
الطاهرء ولكنّ بدرة الشَلكٌ قد ألقيت في أعماقها ولن 
تزال تنمو وتثمر شوكها الحهنميّ. لقد شددت بقوة 
اليأس على أهداب الطمأنينة فتهتكت وتخحرّقت. وما 
أطيق أن أحتمل الحياة متردّدًا بين ساعة سلام نخادعة 
وساعات عذاب طويلء فيا من محيد عن أن أرى وراء 
الحجب. قد يكون ني ذلك هلاكي ولكنّ الحياة تقضي 
عليئا في أحايين كثيرة بأن نجرى وراء هلاكنا كأنّه أل 
المنى. إني أحّك يا حبيبتي ولعل القدر قد رماني ببذا 
الحبٌ ليقضى به علّ. ولك مهل اأمللك بز اناف 
لعلي أدرك الآن اذا لم يكن يزايلني القلق حتّى في 
أصفى ساعات سعادتي. أكان قلبي يشهد لمحات من 
المقدور وراء ستار الغيب؟ . . . على أثني لا أحبٌ أن 
تمادى في التشاؤم. فقد يكون المخبوء على غير ما توقم 
قلبيى. وقد أجد به ما أتلهّف عليه من طمأنينة 
وسلام . 


فها العمل إذن؟ الصواب أن ألتمس إجازة من 
الوزارة» ثم أفرغ للمراقبة في خحفاء لا يدري به أحد. 
أمهون عل أن أتجسّس على «رباب»؟! ألا ما أشقٌ هذا 
على نفسي. ولكن كل شيء يبون إلا عذاب 
الخلف.: 


أه 

تونّبت للعمل وبي من الألم ما لا يعلمه إلا الله 
فخرجنا معًا كعادتنا كل صباح وركبنا الترام معّاء ثم 
نزلتٌُ في محظة الوزارة وناديت «تاكسى» وأمرت السائق 
تالنعاننه إن (السناضنة ز. سماتنيا :| سكاف سانيا ان : 
لنفبى موضعًا يصلح للمراقبة. وكانت الروضة تقع 
بشارع كال - المتفرع من الطريق العام إلى اليسار 
على يمين الذاخل بعد فوات بيتين من مدخخله. وقفت 
في المحظة أتفشخص ما حولي فرأيت شارعًا فرعيًا يقابل 
شارع كمال على الناحية اليمنى من الطريق تقوم على 
ناصيته قهوة صغيرة. بدا لي أن أجلس في هذه القهوة 
حيث يسهل رؤية المدرسة من بعيد. ومراقبة زوجي 
حين دخولها وحين خروجها. واتحهت إليها ‏ وكان بامها 
يفتح على الشارع الجحانبيئ ‏ واخترت مجلسًا على عتبة 
المدخل يمكننى أن أرى منه ما أريد رؤيته. وأن أتوارى 
اذا رفغا الال ترحرحة الكريية فلجلة إل: الووا 
وأدركت من نظرة واحدة مقدار حقارة القهوة. فكانت 
موائدها قديمة وكراسيها باهتة رثّة وروّادها من 
النوبيين. ولكن ' انال هذا. بل وجدت به مدعاة 
للطمأنينة. جلست وعيناي لا تتحؤلان عن شارع 
كبال؛ وكلّما جاء ترام من المدينة اشتدٌ انتباهي 
ويقظتي. ولم يطل بي الانتظار فيا لبتت أن رأيت زوجي 
وهي تعبر الطريق متلفتة يمسة ويسرة لتتفادى مس 
المركبات حيّى بلغت «الطوار» الأيمن لشارع كال» تم 
سارث بمعطفها الرصاصي المتمنم. بطولها الفارع 
الرشيق ومشيتها اللطيفة المهذبة. في احتشامها المعهود 
ووقارها المحبوب ثم انعطفت إلى مدخخل المدرسة وقد 
وقف لما البؤاب اسحتراماء غلببيى الخجل والألم لوقفي 
ذاك؛ وترطب قلبي المحترق بالعطف والحبٌ وأنا أذكر 


ع عير :1ران الرقوو أزل سي اللي إذا 
كانت حبيبتي ملاقًا فلتحرقني بنقمتك وإذا كانت 
شيطانًا فلتحرقنا جميعّاء ولتحرق الدنيا معنا فيا يكون 
بها شيء يستحق الرحمة» وارتفعت عيناي إلى السهاء 
وغمغخمت: (ري! إذا شاءت حكمتك أن تذْرٌ سموم 
الغدر في حنايا هذا الحال فلتغفر لي الجنون 
والثورة!). 

وتخصت الطريق أمامي متسائلًا في رهبة: ترى 
هل أرى بعد ساعات من يقف منتظرًا بموضع من هذا 
الطريق؟ هل أراهما وهما يتبادلان إيماءة أو ابتسامة أو 
يلحق أحدهما بالآخر؟ ما عسى أن أصنع لو انقضت 
هذه الصاعقة على رأسي!! وانتفض جسمي غضبًا 
ورعبا! وتخيلت الكارثة كما لو كانت قد وقعت. تخيلتها 
حتّى تجسمت لناظري» ثم تساءلت مرّة أخصرى عن 
عسبى أن أفعل! ليس أسهل من البطولة والنصر 
والبطش في أحلام اليقظةء ومع ذلك فلم يسعفني 
الخيال بنفحة منباء ولعلّه تمرّج لأنْ النطر الذي 
تهدّدني لم يكن بعيدًا بحيث يسمح له بالاستمشاع 
بأحلام كان على العكس قريبًا محتملا» فشكم 
الأحلام؛ وتمثْل لي الموقف البشع في حدود الواقع. 
فتصوّرته بقلب هيّاب ونفس مهلخلة القوائم» تمثّل لي 
العدوٌ شخصًا حقيفيًا في طريق مزحوم بالارّة فم 
أسعفنى الخيال على التصدّي له جهارًا ونشر فضيحتي 
على الملا أو خوض معركة لا أشلكفٌ أن سأكون فيها 
من الخاسرين! تصوّر زوجًا محدوعًا صريعًا بلكمة من 
خادعه! تيا لي! لكم حنقت في تلك اللحظة على 
ضعفي ! غضبت غضب من يروم دك الجبال. وتنيّدت 
تيّد مَن يعجز عن رفع حصاةء ولكن ما من الإقدام 
بذ! أأرى «رباب) مم صاحب الخطاب لم أقف 
مكتوف اليدين؟! محال. .. لأهجم إذن على غريمي 
وليكن ما يكون, أو أقنم بمشاهدة الحريمة الساعية في 
الأرض» ثم أنتظرها في البيت حيّى تعود وأقول لما 
بهدوء واستهانة: «لقد رأيت كل شىء بعي» عودي 
إلى بيتك بسلام!). لماذا أقدمت على هذه الخطوة 
الجنونيّة؟ لماذا تزوّجت؟ ما كان ينبغي لثلي أن يتزوج. 


١7١ السراب‎ 


وارتفعت في القهوة ضجّة ضحك فاتتشلتني من 
الأحلام. فعدت إلى وعبي متعبًا كالمريض» وألقيت 
نظرة على الوجوه السود الدائبة على ثرثرة لا تلقطع 
بأصوات عريبة مكهربة. ونطرت بين يدي فإذا 
بفنجان القهوة لم يمس فرفعته إلى فمي ورشفت منه 
رشمات باردة؛ وعدت ببصري إلى الطريق حتى استقر 
على باب الروضة. إن «رباب» تباشر الآن عملها في 
طمأنينة؛ ومّن يدري فلعلّ هذا الرعب كله أن 
يتمخض عن لا شيء, ولعلى أن أذكر موقفي هذا يومًا 
فلا أداري خحجلي. أتكذب هاتان العينان الصافيتان؟ 
أيغدر هذا القلب الطاهر؟ وتتابعت الدقائق في تفكير 
متواصل» حيّى انتبهت على طقطقة نافذة وهي تفتح. 
فاتجه بصري بحركة عكسيّة إلى اللحانب الآخر من 
الطريق. فرأيت النافذة في الطابق الثاني من عهارة 
كبيرة وقد أطلّت منبا امرأةء ولعلّها عجبت لخلوس 
أفندي مثلٍ في قهرة النوبيين. فنظرت صوبي باهتمام. 
كان في عينيها جراءة؛ فارتدٌ بصري في حياء. ومع أنَّ 
عيئّ لم تثبشا عليها إلا لحظات إلا أنئْبما عادتا منبا 
بصورة واضحة لوجهها الغليظ وصدرها المكتنز. 
وداخلني إحساس بالقلق, لأنْ النافذة تطل على مجلسي 
مباشرة. وقد رفعت عي في حذر شديد فرأيتها تدخن 
سيجارة وتنظر إلى شىء بين يديبا على حافة النافذة, 
نتشجّعت بتحول عينيها عبني وأدمت إليها النظر. 
كانت فوق الأربعين إن صدق نظري - وقَلٌ أن يصدق 
في تقدير الأعمار - وكانت على رغم تأئقها وتريّهها أقرب 
للدمامة منبا للحسن» ذات وجه مستدير غليظ. 
وعيئين بارزتين ثقيلتي الجفنين» وأنف قصير أفطس. 
وشفتين متلئتين» ووجنتين متكورتين منتفختين» وشعر 
جعدل لامع . وما لبثت أن غابت من الدافذة فكاد 
يذهب عب القلق. ولكنّ باب شرفة تجاور النافذة فتح 
على متصراعيه وبرزت المرأة منه تجرٌ كرسيّاء ثم وقفت 
قليلا مرتفقة حافة الشرفة» فرأيت جسمها المكتئز المائل 
إلى القصرء ثم جلست على الكرسيّ واضعة رجلا على 
رجل. كانت الشرفة أقرب إلى الطريق العام من 
النافذة. فأمكنني أن الحظ من فيها دون حاجة إلى 


١5‏ السراب 


عطف رأسي , فاختلست نظرات من ساقيها المرتويتين 
السمراوين. وشبشبها الأحمر الفاقع. وأنقذني وجودها 
من تيار أفكاري الجهنميَ وإن استحوذ علّ ذلك القلق 
الطارئ» وراحت تنفخ الدخان من شفتيها الغليظتين 
وتقلب عينيها فيا حوطاء وكلما التقتا بي تفخصتاني 
بجراءة منقطعة النظير حتّى شعرت بحرارة الخجل 
تله وجهي» وتساءلت في ارتباك: متى تختفي؟ فلقد 
أربكني تفرّسها في وجهي, ولعلّه ترك في نفسي أئا 
آخر غريبًا لا يخلو من ارتياح حذر وانفعال جنسي م 
أعرف له سبيًا. وكنت كلما رفعت إليها عييّ حولت 
رأسها نحوي وحدجتتي بنظرة وقحة ثاقبة كأئها ترى 
بأذنيهاء أو أثها تتمتع بحساسيّة خارقة تتقل إليها 
النظرات التي تصوب نحوها سن أيّ مكان كان. 
فركبني الخوف والحذر. وحرصت على ألا أرفع بصري 
القلق إليها. نرى هل يطول بي هذا الحذر والتوثر؟ 
وعلى حين فجأة رن صوتها - صوت متلق رنان - وهي 
تقول وكأتها تخاطب أحدًا في الطريق: «إني قادمة يا 
ماما) ثم خبضت قائمة ومضت إلى الداخل! وم أتمالك 
أن ايتسمت في استغراب واستدكار» فقد هالني أن 
تقول ماما وهي المرأة التي جاوزت سن الشباب». كيا 
أدهشني أن تستجيب لنداء أمها ببذا الصوت الذي رن 
في الطريق بلا داع » وكان بوسعها أن تذهب إليها 
دون أن تنبس بكلمة. أو أن تخاطبها عقب دخوها إلى 
الحجرة؛ فبدت لي - إلى جراءتها ‏ غريبة الأطوار» عبة 
للظهور ولَفت الأنظار. متجاهلة لسئن العقل الذي 
تعتل ذروته. على أنْفي سررت لذهاماء ولتخلصي من 
سطوة نظراتها» وعدت إلى نفسى» وإلى الطريق الذي 
عل أن أراقبه حي ينطوي النهار. وتتابع الوقت 
فأتعبني تثاقله, واستحوذ عل الضجر. ألا يحسن بي أن 
أمضى هنا وهناك حي يقترب موعد انصراف الروضة؟ 
ولكن مَن يضمن لي ألا تحدث أمور في أثناء تجوالي؟ 
فلأظل رهين مجلسي هذا حي يقضي الله أمرًا كان 
مفعولا! ولبنت بمكاني متجرّعًا الصير دقيقة فدقيقة. 
وجاءني صوت من الشرفة. فرفعت عيئٌ» فرأيت المرأة 
وهي تنقل الكرمئ إلى موضع من الشرفة تملاه أشعة 


الشمس ثم تستقرٌ عليه... ولاحت منها نظرة إلى 
القهوة. فلا وقعت عل لاح بعينيها الاهتام والدهشة 
وكأنهها تتساءلان عمًا دعانيٍ إلى ملازمة مكاني يذه 
القهوة الحقيرة طوال هذا الوقت. وتعمّدتٌ أن تظهر لي 
دهشتها بغير ما حياء فلم يبق إلا أن تسألني عنّا يبقين 
في مجلسي ذاك؟ وأشعلت سيجارة؛ وراحت تدخن 
بتلذّذء وتتسل بالنظر إل من وقت لآخر. وصمّمت 
على أن أركز انتباهي في هدفيء؛ فأرسلت بناظري إلى 
الطريق. ولكن ظلّ شعوري في شغل شاغل! وتبدّدت 
قوة إرادتي في مقاومة ما يجذبني إلى رفع بصري. 
وغلبني الحياء والارتباك إذ تيأ لي - لضيق الشارع ‏ 
أنني والمرأة في حجرة واحدة. ول أخل من إحساس 
بالارتياح منشؤه أثني أجد نفسي محط نظرة امرأة لأوّل 
مرّة في حياق؛. وم يعد يخفى عل ذلك الانفعال 
الحسيّ الذي بعثه في أعصابي وجهها الغليظ وساقاها 
المرتويتان؛ ولئن كانت جرأتها قد أزعجتي فلم تعدم 
في نفسي إثارة من ارتياح غامضء لعلّه نوع من 
الإأعجاب الذي لا يريد أن يفصح عن نفسهء 
وتساءلت في دهشة: ترى لو كان لجميع النساء ما لهذه 
المرأة من جرأة أكنت أقطع ما خملا من زماني موحوحًا 
بغير رفيق؟! وانسقت وأنا لا أدري إلى مقارئة هذه 
الجرأة الحذّابة بذاك الاحتشام الجميل الذي تتحلٌ به 
زوجي المحبوبة» ولكئّي سرعان ما أنكرت المقارنة 
الوقحة. فامتلأت سخطا وتقرّرًاء ولبثت المرأة 
بمجلسها ساعة ثم عادت إلى الداحل وأغلقت باب 
الشرفة, فتنبّدت في ارتياح عميق وغمغمت: ولا 
أرجعها الله»؛ وائفرد بي الانتظار. ومرٌ الوقت في إعياء 
وسأم؛: فجعلت أتسل بمراقبة سنّة أو سبعة من النوبيّين 
هم كل من بقي بالقهوة من الزبائن. وقد واصل ثلاثة 
منهم الثرئرة على حين حمد الآخرون على مقاعدهم 
كتاثيل من البرونز. وحين) أرمي بنظري إلى الطريق 
العام أحصي الارّة نساء ورجالاء وأشاهد مركبات 
الترام الذاهبة الآتية» أو أتساءل كلما قرع أذْنَ أزيز 
ترام أت من بعيد أن يكون رقم " أم رقم 277 وهل 
ع مركبة مكشوفة أو مغلقة ثم أحصي مرّات الصواب 


والخسطأ. ولمًا آن وقت انصراف الروضة عاودتنى 
اليقظة» ثم اشتدٌ بي القلق والجزع , وجالت عيناى ف 
جنبات الطريق ثم استقرّتا على باب المدرسة. ولشدّ ما 
خحفق قلبيى حين رأيت جماعة من المدرّسات يغادرن 
الروضة. وعلى أثرهنَ خرجت «رباب» بصحبة فتاة 
من زميلاتهاء واتجهتا نحو شارع العباسية وهما 
تتحادثان وتضحكان. وافترقتا في الطريق العام واتنمجهت 
الفتاة إلى اليساره وسارت زوجي إلى المحطة؛ ولمً 
كانت وقفتها بحيث يتجه وجهها صوب شارع القهوة 
الجانبن فقد تراجعت بالكرسيّ إلى الوراء منتحيا عن 
مرمى بصرهاء وتشفخصت الطوان بعناية وقلبي يكاد 
يئب من موضعه من شدَّة الخفقان فقد حدّثتني نفسى 
بأنني سأتلقى الضربة لاسي يناد كلطاتا. :ركان هل 
يواوه الع ديت من الال والتسناف ولد 
زوجي انتبذت طرف الطوار البعيد ووقفت وقفتها 
المحتشمة لا تميل برأسها نحو أحد. وتنظر من أن 
لآخر من وراء كتفها صوب اللهة التي يأتي منها الترام» 
م أر ما يريببي. وم تتحول عنها عيناي -لحظة واحدة 
حتّى جاء الترام وصعدت إليه. وبارحت مكاني متعجلا 
وناديت تاكسى وركبته وطلبت من السائق أن يتبسع 
الترام عن بعد وجلست لصق النافذة اليسرى وعيناي 
إلى مقصصورة السيّدات» حي بلغنا العتبة.» ونزلت 
زوجي من الترام واخترقت الميدان إلى محطة الترام رقم 
0 الذاهب عن طريق الروضة» فدرت بالتاكسبى حت 
وقف بي على كثب من قسم الموسكي » رأبتها تقف في 
زحمة من الخلق فجعل بصري يدور في الحلقة التي 
تحيط بها ويثبت عليها في سرعة وجئون» وجاء الترام 
فصعدث إليه. ومضى بباء فتبعته محطة بعد محطة حي 
طوى الطريق إلى محطة عمارتنا ورأيتها تغادره وتعبر 
الطريق صوب البيت! وانطلق بي التاكسي محطة 
أخرى.ء ثم غادرته وعدت إلى البيت مشيا على 
الأقدام.» وشعرت في طريق عودتي براحة مشوبة 
بخجل» وتساءلت في حيرة: ترى هل فتاتي بريئة أم 
ينطوي الغد على ما لم أعثر به في يومي؟ ولم) التهيت 
إلى الشمّة وجدت أي فلقة لتاخري » وكذلك «ورباب» 


١77 السراب‎ 


فأخبرتها بأنّ العمل يستدعي بقائي في الوزارة هذه 
الساعة مذة أسبوع على الأقل: وحين الأصيل أخيذت 
«رباب» في ارتداء ثيامها وقالت لي إِئْها ستزور أمّهاء 
ودعتني - كعادتها كلما خرجت - إلى مرافقتهاء 
وتساءلت كيف يمكلني مراقبتها في المساء؟ ليس الأمر 
سهلا كا في الصباحء فالبيوت التي تتردّد عليها في 
أحياء متقاربة. وهي تقصدها مشيا على الأقدام. فيم| 
ندر فلا أستطيع أن آمن على نفسبي - إذا تبعتها من 
الافتضاح. ولكيّ إذا لزمتها في تجوالها أمنت المساء. 
ول أدع لها فرصة لأمرء ما يضطرّها إلى مقارمة الإثم ‏ 
إن كان ثمّة إثم ‏ في نصف النهار الأول فتقع في 
شباكي من حيث لا تدري.. لذلك تقبلت دعوتها 
بسرور وقلت لما ضاحكا: 

- سأذهب معك تفاديًا من الملل الذي يقتلبى بي 
غيابك . ْ 

فسَرّت لقبولي دعوتها وقالت برجاء : 

- ليتك تخرج معي دائمًا فليس أحبٌ إل من أن 
تذهب ونجيء معا. . , 


6 

وف صصاح اليوم الثانى حرجنا معًا كعادئناء وأعدت 

ما صنعت بالأمس» فاستقللت التاكسي إلى قهوة 
النوبيّين واتخذت مجلسى بمدخلهاء وجاءت رباب في 
موعد الأمس يت إلى الروضة؛ وخطر لي وأنا 
العيااغية أنه لو كان بدا يكتاقتة الراة الحريةاء 1 
كيهان طاخركه النتائئة بالناكتوى انين من رفن 
لذهني هذا الخاطر ‏ فالتفتت صوبي ووقع بصرها عل 
فدارت على عقبيها وجاءت إل في دهشة تسألني عا أى 
بي إلى هذه القهوة؟! تصورت هذا الملظر في فزع. 
فانكمشت في مجلسى هلعا وعصني الندم والألم. 
ولكن زوجي مالت إلى المدرسة آممة مطمشة. غافلة 
عن العينين اللتين ثراقباءها في حذر وارتياب» حتى 
غيّبها الباب عن ناظريّ» فذهب عي التوثر والخوف. 
وشعرت برهبة حيال الانتظار الذي كان عل أن أعانيه 
في تصثر وتجلد نبارًا آخخرء وألقيت نظرة دائريّة ضحرة 


غ7١‏ السراب 


على شارع القهرة الجحانبي وما يبدو لي من شارع 
العئاسيّة والقهوة بزبائنبا السود. تلك الأماكن التي 
قضى عل بأن أمكث بينها كالسجين المجنون أتخبط في 
جين الأفكار وشوارد الأخيلة الجهئّميّة... ولكني 
كنت ذكرت المرأة الغريبة وأنا أراقب زوجي في ذهابها 
إلى المدرسة؛ فرفعت عينّ إلى العمارة على الجانب 
المواجه للقهوة, فرأيت النافذة والشرفة مغلقتين؛ 
وتساءلت كيف لي بتحمّل الانتظار نبارًا كاملا بلا 
تسلية أقتل بها الوقت؟ وكان تال مريبا أداري نه 
رغبة في رؤيتها كرهت الاعتراف بهاء ولكن ماذا 
يدعوني إلى إنكار هذه الع وهل هي رغبة في 
التسلية وقتل الفراغ؟ أجل إِنْ المرأة قد أهاجت في 
فيدوق: انقدالا مدا بولك بين ف كنا بعادي 
فقد كنت ولا زلت أتلقى هذه الانفعالات الجنسيّة من 
أقبح الآدميات» وأقذرهن. ولم يغيّر الزواج من حالي. 
ولم يشفني من دائي » فَرٌدِدت إلى عاداتي القديمة جميعًا, 
وعاودت النظر إلى النافذة مرّة أخرى؛ وكأني أعانىي 
انتظارين! فلأحاول فهم نفسي أكثر من هذاء لست 
طالب تسلية فحسب. إن أرغب في رؤيتها مرّة 
أخرى. لتلتهمني بنظراتها كا فعلت بالأمس فيعاودني 
ذاك الشعور العميق بالارتياح والرهوء وأستردٌ بعض 
الثقة المسلوبة؛ ولم أكد أستغرق في أفكاري حَبّى قرع 
أذبَ طقطقة النافذة» فرفعت عيئنٌ» فرأيتها وهي تنفتح 
على مصراعيهاء ولاحت وراءها المرأة. والتقت عيناناء 
ول تكن تتوقّم رؤيتي بطبيعة الخال. فتجلّت في عينيها 
دهشة واضحة,. ولبثت دقيقة أو نحوها وهي ترنو إل 
ثم تحولت عثى واختفت. وداخلني سرور لا يتناسب 
له المهمّة التي جئت من أجلها إلى هذا المكان. 
وانجه بصري صوب الشرفة المغلقة منتظرًا أن تفتح . 
وقد كان. ا ال لا يت 
بالحائط على الجانبين» ثم دحلت المرأة تجرّ الكرسيّ 
بجسمها 000 وقد 000 السرو 
الوردي كبرميل إلا أنه مفصّل تفصيلًا يميا 

ووضعت الكرسيّ في ركن الشرفة البعيد. وجلست 
عليه مستقبلة القهرة بوجهها ومدّت ذراعيها على حافة 


الشرفة الخشبئ وجها لوجه. وليس بالشارع اللحانبي 
دكان. ولا يكاد يمرٌ به أحد إلا فيها ندرء وأمًا زبائن 
القهوة فعاكفون على ثرثرتهم في الداخمل لا يرون شيثًا. 
ومائدق بموضعها من المدخل وحيدة. فنخلتنا منفردين 
على نحو ما. وشعرت في اللحظة التالية بالارتباك 
والحرج. ولم أدر كيف يمكنني البقاء هكذا تحت رحمة 
عينيها الوقحتين, فتمثيت لو لم تحقق رغبتي الخفية. 
وجعلت أنظر إلى الطريق البعيد تارة. أو أعطفف 
بصري من فوق كتفي إلى داخل القهوة ثارة ألحرى» 
شاعرًا في أثناء هذا وذاك بوقوع عينيها الثقيلتين على 
دبي إن رات كنع با ل حاون بجا 

ولكثي لم أحتمله. وما من مرّة أسترق إليها نظرة إلا 
وأجدها متفرّسة في وجهى ف هدوء وإمعان وبلا حياء 
أو تردّدء وَإِنّ هذا ليملأني سرورًا وخفة ولكنه يسومي 
ما لا طاقة لي به من جل وارتباك. إِنَّ عينيها تنظران 
طويلا ولكتّه) لا تنظران فحسبء إتْبها تتحدّثان بأجلى 
لسان؛ كلما التقت عينانا خلتها تخاطبني فأغضٌ الطرف 
وكأني أفْرٌ فرارًا. ونظرت نحوها مرّة فوجدجمها تشعل 
سيجارة» وأطفأات عود الثقاب مهتين ثم رمت به 
نحوي لولا أن أرجعه المواء. وأحدثٌ فسا عميمًا وقد 
اتسمت عيناهاء فخحفق قلي بعنف له ريقي 
بصعوبة. كيف تواتيها 
الجرأة على هذا النظر العارم الوقح؟ بل كيف تطاردني 
هذه المطاردة الصامتة وهى لم تسبق للا بي معرفة. وم 


. مادا تريك هذه المرأة؟ 


ترني إلا مرّة بالأمس ومرّة أخرى اليوم. واستحوذ عل 
الاضطراب. وشغلت بالشرفة انشغالا تامًا فلم أعد 
لقي على باب الروضة إلا نظرات سريعة لا تكاد ترى 
شينًا. ورأتني أنظر نحوها فوضعتٌ رجلا على رجل 
جاذبةٌ عييّ قهرًا إلى جانب عريض من فخذيها أحدث 
التقاؤعما واشتباكهها طيّات سمراء مثيرة فشعرت بمثل 
سورة اخمر وجفٌ حلقي وطغت عواطفي على حيائي 
فذاب كيا يذوب الثلجح تحت أشعّة الشمس النارية 
فحملقت فيها بلا خجل ولا تردّد؛. وما لبثت أن 
مبضت قائمة وغادرت الشرفة! تركتبي في ثورة جامحة. 
وقلت لنفسي ساخطا: أيّة هاوية تنفغر تحت قدمي! ثم 


ثبت إلى الحدوء رويدًا فأمضي الأسف وا لفحل وألقيت 
على الشرفة نظرة غاضبة وغمغمت كما غمغمت 
بالأمس : «لا أرجعها الله!». قد يكون الانتظار مؤلما 
ولكنّه خير من هذا الشْرّ الذي يتهددي وم يكن 
يساورني شك في أنها ستعودء وكان بوسعيى أن أغادر 
القهوة إلى غير عودة» وأن أبحث عن مكان جديد 
يصلح للمراقبة والانتظار» ولكبّي أقنعت نفسي بأن 
هذه القهوة المتوارية هي أصلح الأماكن قاطبة لمهمتي. 
ولم تطل غيبة المرأة فعادت إلى مجلسها وفي عينيها نظرة 
باسمةء وتملكبي الغضب لا لعودتها ولكن للسرور 
الذي استحفّبي. وقلت امرأة وقحة ما رأيت أغلظ ولا 
أقبح منباء ولكبّي عدت أخالسها النظر وأتمتى لو تأخذ 
راحتها وتضع رجلا على رحل. وعدت تمل إيثارها لي 
بالنظر والاهتام فازدهاني عطفها وشعرت بهم اللتائع 
إلى الاستزادة منهء وهل كان هذا الاهتام إلا لجال 
وجهي ورشاقة قوامي! وقلت لنفسي في غرور صبيان 
لعليا كه «الاعن فين والبشرة ايفاك العامة 
الفارعة. وعلى حين نغتة انسل إلى خاطري صوت 
هامس يتساءل في سخرية. «وهل أغنى عنك جمالك 
عتينا؟ انب وعقليتق لعيني تعاستي الزوجية فكأنْ قطعة 
كبيرة من الثلج وقعت على فورة حماسي فأحمدتها 
وخئقت أنفامي , فترت نشوي وحل محلها شعور بالغ 
بالشقاء والخيبة» وتناسيت الشرفة. وهرعت أفكاري 
إلى الروضة فتمنيت لو تنكف لي الحقيقة مهما كانت 
بشعة قاسية لأنتهي من الأمر كله. تمنّيت ‏ إذا لم يكن 
من الأمر بذ أن أرى صاحب الحطاب يلاقي رباب 
ويحادثها اليوم لا غدًا ولا بعد غد. بل كان في ذهني 
شىء آخر ‏ في تلك اللحظة ‏ لا أدري كيف أعبر عنه . 
كانني تنيت أن يصدق سوء ظقِي! لست عخطئاء كان 
هذا هو الواقع. ولكن كيف أفشّره؟!. هل ثقل عل 
الشلكٌ فرغبت أن أنجو منه ولو مِبذا الثمن الفادح؟ أو 
ضقت بنذا العجز الغريب الذي جعل من حياتن 
الروجيّة مهزلة فتمئيت أن أجد في جريمة زوجي مهرب 
من حياتقي؟! أو كان ضميري الرارح تحت وطأة 
الشعور بالإثئم يلتمس عقابًا وتكفيرًا؟! على أنه لم يكن 


السراب م ١‏ 


إلا إحساسًا عابرّاء ولم يبق منه أثر في اللحظة التالية . 
وغشيتني بعد ذلك كآبة وامتعاضء؛ وم تلبث المرأة أن 
غادرت الشرفة تلبية لنداء من الداخل كا دلت عليه 
استجابتها فلم تعد للظهور. وانتظرت طويلًا تتناوبني 
الأفكار والأخيلة المفزعة حبّى انطوى يوم الانتظار 
ورأيت رباب . كالأمس - قادمة لحو المحطة . وم جد 
جديد فرجعناء هي في الترام وأنا في التاكبى. وعند 
المساء اقترحث عل أن نذهب مما إلى سينا رويال 
اهايا ترك رذهيا يا 


م 

وفي صباح اليوم الثالث حملي التاكني إلى نفس 
المدف. وذكرت في الطريق المرأة الغريبة فتمثلت لعيني 
بوجهها الغليظ وجسمها القصير المكتنز. ولم أكن 
أذكرها لأوّل مرّة ذاك الصباح. فقد لاحت لخاطري في 
البيت وأنا آخذ زينتي أمام المرآة فكانت داعيًا لمضاعفة 
العناية بتمشيط شعري وعقد رباط رقبتي» وتولاني 
إحساس بالخجل والذنب والقلق». وألقيت تبعة هذه 
الورطة على رباب وسوء تصرّفها الذي ساقي إلى هذه 
المراقبة الحمقاء! ولكن هل أستطيع أن أتمَيى عدم 
ظهورها في الشرفة صادنًا؟ هل يمكننى احتمال يوم 
الانتظار الطويل بغير وجودهاء وبغير وقاحتها الممتعة؟ 
واتكدت مجلسبى من القهوة فجاءني النادل ذو الحخلباب 
اللاعضم والطافتة اللائلة إن “ذال كاشنة عن. ووانة 
متصلّبة» والنعل المنجرد. وحيّاني تحيّة لعله لا يلقيها 
إلا للزبائى القدماء. فطلبت القهوة التي أحسوها بتقزز 
واستكراهء وتساءلت ممتعضا ماذا وراء هذا التتجسس 
المقيت؟! ألا يجمل بي أن أقلع عا أخذت نفسي به 
ظلًا وسوء ظنٌ؟ لقد عاشت زوجي يومين كاملين بي 
متناول بصرى فهل وقفت منها على ما يريب؟! هل 
لاحظت عليها ضيقًا أو تبرّمًا؟ أليس كالعهد بها صفاء 
ومودة وسعادة؟! وطاب لي الفكر فداخلبي شعور 
بالطمأنينة والارتياح» ومرٌ وقت فسارع إل الملل 
ونظرت في الساعة. ترى هل أستخبرها عا فات من 
زمن أم أسألما متى تفتح النافذة؟ ومههما يكن من أمر 


١ "5‏ السراب 


فقد فتحت النافذة ولاحت وراءها المرأة بغلاظتها 
وترّحها. اتسعت عيئناها البارزتان دهشة ورفعت 
حاجبيها المزججتين كأنها تقول: «أما زلت ملازمًا 
مكانك!» ثم خفضت رأسها لتواري عن عينّ 
ابتسامتها وخفق قلبي خفقانًا سريمًا في سرور. 
وعاودني الخجل من نفسي فجعلت أقول لضميري 
بأنني لا أتطلع لإثمء وإنْ مكل حقيق بأن يس إذا ما 
وجد من امرأة اهتمامّاء أجل إني بريء. وصا جئت 
عند القييرة له شرفي عبان لله تنه المرانة 
وسأنقطع بعد يوم أو يومين عن هذا الحي كله فلا 
أعود أذكرها بخير أو بش. أمَا المرأة فقد احتفت من 
النافذة. ثم نتحت الشرفة ودخلت بكرسيّهاء, 
وجلست في الركن المواجه لي» وفي عينيها ابتسامة مَن 
لم يعد بحاجة إلى تعارف. بت اليوم أقدر على احتمال 
هذا الموقف, ولكنّنى ما زلت أتظاهر بالنظر إلى الطريق 
العام مختلسا من أن لآن نظرة إلى الساقين المدملجتين 
خلال قضبان الشرفة الحديديّة» وم يفارقني الارتباك 
بل لعله تضاعف هذه الابتسامة التي تلوح في عينيها 
كل" التق عا بلاطا هق مره تيون «ترمهها اذ 
تفعل ما تشاء بلا خوف. أمّا أنا فليس لدي إلا غض 
البصر! أيدور لها بحلد أنني متروج؟ وأنني ما جئت إلى 
هذه القهوة إلا كي أضبط زوجي متلبّسة بجريمة 
الخيالة؟! ترى هل تبقى على اهتمامها بي إذا عرفت 
هذا كله؟ شعرت عند ذاك بخزي أليم. ثم ساءلت 
نفسى علها من تكون. أهي زوجة أم أرملة؟! وماذا 
تريد؟! وحدث أن ارتفقت المنضدة بيساري وافترشت 
ظاهر يدي بذقني. فا كان منها إلا أن ارتفقت حافة 
الشرفة بيسراها وافترشت يدها بذقنها وهي ترنو إلّ في 
دعابة!. وتلقيت الدعابة بخجل جعلني ٍِ أرى شيئًا 
وأرسل قلبي ضربات عنيفة طنّت في أذن. إِنّها تخازلني 
صراحة. وأشعر بأن «الرجولةة تقضى بأن أخرج من 
هذا الجمود ولكثئى لا أبدي حراكًاء واشتدٌ بي الارتباك 
فبت في حال يرثى لها. وسحبت يسراي». وشبكتها 
بيمناي على صدري فا أسرع أن سحبت يدها 
وشبكتها بالأخرى على صدرها وقد ازدادت ابتسامتها 


انّساعًا. وغلبتني ابتسامة فابتسمت وأنا أطرق في 
خجل لا يوصف. وأطلقت هذه الابتسامة شحنة 
حبيسة من ارتباكي فَمُرَّي عب قليلا» واستطعت أن 
أحسٌ بما يستخمني من سرور. وشعرت شعورًا قويا 
بالفارق بين عمرينا فلأني هذا الشعورء وتّنّيت لو 
يتقهقر بي العمر إلى العشرين أو ما دوتها. رباه. . , 
إن أهوي بلا وازع. ولكي لم أعد أبالي شيئًا. ولاحت 
مي التفاتة إلى شارع كال فصادفت عند ناصيته شبح 
فتاة تنعطف إلى اليسار فحال بيئ وبينها جدار القهوة. 
خلتني رأيت معطمًا رصاصيًا كمعطف رباب فخفق 
قلبي خفقة عليفة كاد ينخلع ها. ما الذي دعاها إلى 
مغادرة المدرسة في هذه اللحظة؟ وما الذي جعلها 
تنه إلى اليسار على حين أن طريق المحظة إلى اليمين 
فيها لو فرض أنْ عذرًا دعاها للعودة؟. . . وانتفضت 
قائا وهرولت مسرعًا إلى الطريق العام بلا تبصّر ولا 
احتراس» ثم نظرت صوب المنعطف الذي سارت إليه 
ذات المعطف الرصاصيّ. فرأيتها: كانت امرأة في 
الخمسين تحثٌ الخطى على الطوار! وتنبّدت من الأعياق 
وغمغمت كعادتي كلما نجوت من مأزق «أعوذ بالله من 
الشيطان الرجيم؛ة. وعدت إلى مقعدي وبي ما يشبه 
الاعياء والخور. لن أنسى هذه الخفقة التي كاد يتصدع 
لما صدري. فماذا يكون أمري لو وقع المحذور! 
ورفعت رأمبى صوب الشرفة فرأيت المرأة تحملق في 
وجهي 52 وعيساها تتساءلان عرًا حل بي؟! 
وارتسمت على شَفْقّ ابتسامة! أجل أنساني الانزعاج 
خحجل فابتسمت. لم يعد يخفى ما بيننا من ابتسام, 
وحديث صامت يعبّر تارة بالعين وتارة بالحاجب! ولم 
يعد كي كن ا يج ال سعد ري هن خا طبه 
جهنميّة. ولو كان ما بي حبٌ لركبني الخوف وقدّرت 
العواقب. ولكن بدا لي الأمر واضسًا لا لبس فيه فلم 
تزايلبي الثقة. ولبئت ساعة أو أكثر أتلقَى هذا الغزل 
في صمت وحياء وسرور جسيّ عجيبء ثم نمضت 
المرأة قائمة وهي تتمطى فانفرج الروب عن صدر ريان 
منتفخ يكاد يتهّك من ضغطه القميص الورديّ 
الشفاف. ثم ألقت عل نظرة وداع باسمةء وغمزت 


بعينها قبل أن تغيب وراء الباب. تركتني في سعير 
التهمت ناره ساعات الانتظار البافية. وثفي ميعاد 
الانصراف غادرت رباب المدرسة واتّممهت كالعادة إلى 
المحطة. وعدنا إلى البيت كل على طريقته. ولم نخرج 
مساء إذ زارتنا أختي راضية وزوجها فقضينا سهرة 


6 

اليوم الرابع» قالت لي رباب ونحن ننتنظر الترام 
على طوار المحطة : 

سأتأشر اليوم عن ميعاد عودتي لأني سأعود زميلة 
مريضة تغيّبت عن المدرسة من يومين. 

وألقيت عليها نظرة مريبة لو رأتها لساءت العاقبة . 
ثم حفضت بصري بسرعة., كاظًا عواطفي. وسألتها 
بصوت ينم عن عدم الاكتراث : 

انق سني ؟ 

- في مصر الخحديدة. 

- ومتى تعودين؟ 

وقت الزيارة ومسافة الطريق... لن أتأخر عن 
التائعة, 

بدأت تتملص من ظلٍ الثقيل! واختلست منها 
نظرة فبدت لى حميلة رائعة. ثم ركبتني نزوة طارئة 
فتمئّيت لو أهوي عليها بفأس فأشمّها نصفين. وجاء 
الترام فصعدنا إليه وأنا في أسوأ حال» وغادرته عند 
محطة الوزارة وناديت التاكسبى. فطار بي إلى ثهوة 
لوقي املك لنافقة الخلقة بكر بطرئلة أن 
عدت إلى أفكاري . تلك الزيارة في مصر الجديدة! لن 
أدعها تذهب وحدها. كان تصميًا لا رجعة فيه ولكن 
هل ينجح مسعاي؟ هبني تأثّرتها إلى مصر الجديدة ثم 
رأيتها وهي تدخل بيا أو عمارة فمن يدريني مما يفع 
وراء الحدران؟ قد تكون في عيادة زميلة حقاء وقد 
تكون في أحضان عشيق! وانتفضت انتفاضة قاسية. 
وعضضت عل أسنئاي حي سمعت صريرها 
كالطقطقة, لكي أبيت أن أثبط عريمتي. لأتبعنها 
فلعل أراهما معًا في الطريق. ولعل أحد ضبط الجرعة 


السراب با" ١‏ 


أيسر مما أتصوّر. ما أفظع هذاء ولكن ما أروحه لي 
كذلك؛ فإذا لم يكن من الكارئة بدّ فمن الرحمة أن تقع 
سريعاء واستحوذ عل القلق والجزع, وأيقنت أثني لن 
أستطيع مع اليوم صبرًا. ولاحت مثّي التفاتة إلى النافذة 
المغلفة فتعلّق بها بصري في| يشبه الاستغاثة» وتملكبي 
إحساس عنيف بالضغط الذي يبتصرني وتلهفت نفسي 
على منفذ تتسرّب منه بعض الأبخرة المزمجرة ثي 
أعماقها. أيّ تنفيس ولو جرٌ وراءه الإتم والخنزي . 
وعند العاشرة متحت النافذة وطالعنى الوجه الغليظ 
بابتسامة مشرقة. وتحوّل التباهي إليها فأنقذني من 
نفسي. وثبتت عيناي عليها في جرأة لا عهد لي بهاء 
والسظات أساريري وأنا لا أدري فردت التحية بمثلها . 
واختفت من النافذة فسبقتها عيناي إلى الشرفة ولكن 
طال الانتظار عن المعتاد. ثم بدت مرّة أخرى في 
النافذة: فإذا بها قد ارتدت معطفا وأخذت أهبتها 
للخروج. وخخطر لي خاطر كالبرق. هل تدعوني إلى 
مرافقتها إلى مكان ما؟ وغصرتني موجة من السرور 
والحيرة والخوف. ما أحوجني إلى هذه الدعوة» ولكن 
هل أترك رباب في هذا اليوم الحاسى؟! إِنّه بالعمر 
كله وإِنْ مصيري معلّق بمصر الجديدة فكيف أقاوم 
دعوة المرأة إذا دعتني؟ | وفرغت المرأة من زينتهاء ثم 
وقفت تنظر إلمّ في هدوء وابتسام. ونظرت إلى شىء 
بين يديها فتتبّعها بصري فإذا بأناملها تطوي ورقة 
صغيرة؛ ثم تثليها من الطرفين» وتفخصت الطريق 
بنظرة شاملة ثم رمت بها فسقطت عل كثب من 
قدمئّ... وتناولتها بعجلة وبسطتها وقد سطع منها 
شذا طيب مدر فوجدت بها هذين السطرين «انتظرني 
اليوم في تمام السابعة مساء عند الجسر في نهاية خط 
الترام». وداخعلني ارتياح إذ إثها منحتني مهلة عن غير 
قصد. ولكن ترى هل يسعني إنجاز الوعد إذا ارتبطت 
به ألا يقع في مصر الحديدة ما يعوقني عنه؟ ولم أجد 
فسحة للتفكير والاختيار فقد حدجتني بنظرة متسائلة 
وهرّت رأسها مستفسرة. فلم أملك أن حنيت رأسي 
بالإيجاب. وابتسمت إل ابتسامة حلوة وحيّتني بإيماءة 
من رأسها ثم أغلقت النافذة» فأدركت أنْها ذاهبة إلى 


8 السراب 


زيارة أى نحوها. هكذا ارتبطت بالموعد مدفوعًا 
بضعفي الذي يجهل المقاومة وإن كنت لا أدري أين 
أكون وقت أزوفه. وهكذا سقطت في نفس المشطيئة 
الى أتنم بها ازوتجي] لق بي أن أن يله الخطرة 
الجسور أم أندم عليها؟ وهل ينتهي اليوم بحبٌ أو 
فاساة؟ لشييد ما كرهت الخحياة في تلك اللحظة. 
واندمجت في ثيّار شعوري ألوان من المشاعر المتناقضة 
من سرور إلى خحوف. ومن أمل إلى يأس» ومن حماس 
إلى تون ثم علته موجة طاغية من التلهؤف على 
المغامرة لواذا من الحم الذي ينيخ عل فيكاد يخرم بي 
الأرض. وطويت الورقة بعد أن تلوتها عشرات المرّات 
كم دسستها في جيبي . وانفرد بي الانتظار حي فتحثت 
الروضة أبواءها ولاحت لي رباب قادمة من بعيد. هذه 
هي الساعة التي أترتص بها منذ أربعة أيَام هي أشقى 
أيَام حياتي. سأتبعها ما في ذلك شك تاركًا الموعد 
للقاروف وحدها. وتوقّعت أن تميل إلى اليسار» صوب 
محطة الترام الصاعد إلى مصر الجديدة» ولكنّبا عدلت 
إلى اليمين؛ إلى المحطة المعتادة التي تنتظر بها كلّ يوم | 
وأدركت لتوّي أنْها اخختلقت قصّة الزميلة المريضة 
لتنتحل عذرًا لغيابباء واضطرب صدري اضطرابًا لم 
أدر كيف أتمالك أنفاسي. هل آن لي أن أنتهي من هذا 
العذاب؟ ورمقتها بموقفها من الطوار بنظرة ناريّة وأنا 
أعجب لهذا الاحتشام الزائف الذي يطوي في أعباقه 
شرا فظيعًا وفسمًا لمحجلا. ثم جاء دور المطاردة التي 
أرجو أن تكون مجدية هذه المرّة. فصعدت إلى الترام 
وناديت التاكبى؛: وجعلت ناظري إلى مقصورتا لا 
تتحولان عنها. ترى أين تغادر الترام؟ أين تفعسل 
فعلتها؟ لشدّ ما يكبر عل أن أتصورها في أمثئال هذه 
المواقف المريبة! ولئن تكذّبني الحقيقة الواقعة وتكشف 
لي عن وجهها الشائه الذميم فها يشبعني ويطفئ غل أن 
أدكُ رأسها بأحجار هذه المديئة المائلة. ماذا يدفعها إلى 
هذا الانزلاق الآثم هي التى تعفٌ عن علاقة الروجية 
المشروعة؟ أم إِنْها لا تبغيها إلا عوجًا؟ لشدٌ ما مرّقنني 
الخيرة؛ لشدّ ما عذّبني الغضب والحقد. على أن 
منّيت نفس بالراحة من هذا العذاب كله والخلاص 


من هذه الحياة المرّة الطافحة بالخيبة والشكُ. سينتهي 
كل شيء بعد دقائق معدودات» فلا يبقى داع لأن 
أسأل نفسى أهي بريئة أم مذنبة» ولا يسوقني دراي 
لتجشم أهوال المراقبة والتجسّس» وسيخلو البيت إلا 
من الوجوه القديمة الآمئة. والحياة المادئة الوادعة. 
أجل وددت لو أحطم الرأس الذي حطم قلبي : 
ولكنني أضْنّ بنفسى عن أن تضيع بسبب امرأة آثمة. 
كان غضبي قويًا وحشيّاء ولكنّ حبّى السلامة كان 
أقوى وأعمق. ألم يكن غريبًا أن تدور أفكاري حول 
حور الخوف والسلامة حيّى في تلك اللحظة المخيفة؟ ! 
وتراءث لي العتبة فتساءلت مرة أحرى أين تغادر 
الترام؟ ورأيتها في محطة الميدان شأنها كل يومء فنزلت 
من التاكسي أن أفقدها في الميدان المكتظ. ثم رأيتها 
تخترقه إلى المحطة الأخرى التي تنتظر بها عادة» فدرت 
مع محيط الميدان ووقفت عند جدار القسم . وما أحنقني 
إلا أن تقف في احتشامها المألوف هادئة ساكنة كأثني لا 
أشتعل من أجلها نارًا. . . واستبعدت أن تقابل أحذًا 
في هذه الزحمة فتطلعت إلى رؤية الترام الذي تصعد 
إليه. وتتابعت المركبات بأرقامها المختلفة حبّى جاء ترام 
الروضة فسارعت إلييه واستكئت في مقصورة 
السيّدات. وتولتني الدهشة. أيكون الأمر في حيّنا؟ ! 
وهرعت إلى تاكسيى وتبعت الترام. وجعل قلبي يدق في 
عنف. وتشتدٌ ضرباته كلما مررنا بمحطة. . . ثم دخلنا 
شارع قصر العينيى» وقطعنا محطة وثانية وثالثة ورابعة 
حتّى بلغنا محطة بيتناء فا راعني إلا أن أراها تغادر 
الترام. ونظرت من نافذة التاكسي الخلفيّة فرأيتها تعبر 
الطريق وتدخل باب عارتنا! وتوسدث مسند المقعد 
وأغمضت عي في إعياء وذهول. ماذا وراء هذا كلّه؟ 
هل فقدت عقل؟ أما من مهاية لهذا العذاب؟ وعدت 
إلى البيت فوجدتبا لم تكد تفرغ من ارتداء الروب بعد 
أن خلعت ملابسهاء وبادرتها قائلا في دهشة: 

حسبتك في زيارة زميلتك! 

فافترٌ ثغرها عن ابتسامة وقالت: 

- لم يكن بها إلا وعكة خحفيفة وقد عادت اليوم إلى 
عملها دون أن تشم أحدًا مشقّة عيادما. 


ترى هل تنتهي وساوسي جميعًا إلى قبضة من 
الريح؟ ولا أتمئّى على الله من شيء إِلّا أن أسكن إليها 
في طمانينة وسلام. وقالت لي وأنا أبدّل ثيابي : 

دعتنيى خالتي بالتليفون إلى زيارتها مساء اليوم 
وكلفتني أن أنوب عنبها في دعوتك. . . 

فقلت لما وأنا لا أدري ماذا أقول: 

إن شاء الله . 

وأدركت في اللحظة التالية أنْنى تسرّعت بإجابتي 
تلك إذ ذكرت الموعد عند جسر العباسيّة. ولكن هل 
أروم حمقًا أن أذهب إليه؟! إن الآن بعيد عن النافذة 
والشرفة وتأثيرهما أفلا أزال أفكر في المرأة تفكيًا 
جِدّيًا؟... أي شيطان يغرّر بي؟! إن قلبي حيبي 
دون سواهاء فما بال نداء المرأة الغريبة قهارًا لا 
يقاوؤم؟! وتفكرت طويلا وما أزداد إلا استسلامًا للنداء 
الشيطان, حيّ لم يعد يحول بيني وبينه إلا ما أخيذت 
به نفسي من ملازمة زوجي مساءً. ولكن أكانت 
تدعوني إلى زيارة خالتها لو كانت تضمر سوءًا؟! 
وعاودت التفكير في جهد لأنه ليس أشقٌ عل من 
الاختيار بين أمرين. وتردّدت طويلًا قبل أن أقول: 

- أوه لقد نسيت. . . إن مرتبط بموعد هامُ. . . 

فتساءلت فييا يشبه الكدر: 

- أتعبي أنّك لا تستطيع الذهاب معي؟ 

فقلت وأنا أشعر بِأنْ قدمي تنزلق إلى هاوية ما لها 
من قرار: 

- اعتذري عب للست خالتك, . . 


686 

بلغت جسر العباسيّة قبل الميعاد بدقائق. . . كان 

الج لطيفًا والظلام شاملا فاخترت موقفا تحت مصباح 
غازي. . . ذهبت إلى الموعد بحال من القلق والتوثر 
ذكرتنيى بحالي يوم حملتني العربة إلى حانة شارع الألفي 
لأوّل مرّة. . . كل هذا من أجل امرأة لا جمال لما ولا 
رشاقة, يخجلني والله أن أظهر معها أمام الناس! ولم)ا 
اقترب الميعاد ركبني الخنوف الذى تناوبنى كثيرًا في فترة 
الألتظاق مد الغصر- اذا عدف لدو تقزر اقتوة 


١" السراب‎ 


المأساة؟... آ... لا يزال أمامي متسع للهرب. 
ولكئي لم أبدٍ حراكًا. إن هذه المرأة هي فرصتي الوحيدة 
لااسترداد الثقّة الضائعة . وملكتنيى روح مغامرة لا عهد 
لي مها قالت لي: جَرّبء لن تخسر شيا وعلى أسوأ 
الفروض فلن تخسر شيئًا جديدًا... واستيقظت من 
أفكاري على سيارة متوسطة الحجم تقف أمامي بحذاء 
الطوارء ثم انخفض زجاج نافذتها الجانبيّة وبرز منه 
وجه المرأة الغريبة وهي تجلس أمام عجلة القيادة. 
ابتسمت إلى ودعتني إلى الالتفاف حول السيارة 
لأجلس إلى جانبها من الباب الآخرء فاطعت في 
اضطراب وفي أقل من ثانية كنت إلى جانبهاء فجذبت 
الباب والتصقت به وأنا لا أكاد أشعر بما حولي مز 
فرط الحياء. وأحسست بعينيها على دي اليسرى» 
فلازمت النظر إلى الأمام؛ حيّى ضحكت ملء فيها 
بصوث يُعَدٌ إلى غلظة وجهها وجسمها رقيقًا وقالت 
بلهجة تنم عن التحريض : 

- لم يعد من داع للحياء! 

والعالفكو يلسا ره لوشيارة بوكر بويع اتقرن»: 

- لنذهب إلى طريق لاشرام يم 

الندفعت بسرعة فائقة فولى قلبى خوفاء وجعلت 
كلما اعتاقها عن الاندفاع زحام أو إشارة المرور أتنفس 
الصعذداء. 
سرعتها الحنونية حين تركت وراءها الطريق المزحومة. 
واسترددت أنفاسى» واسترقت إليها النظرء فرأيت 
جانبًا من عي الغليظ عن كثب» وذاك الصدر 
المكتيزء وتمثل لعينيّ صورة ساقها البرونزيّة المرتوية. 
وذكرت أن قيراطا واحدًا يفصلها عن ساقي, 
فاضطرب دمي . وأدهشئي هدوؤها وطماأنينتها فكائها 
تصاحب زوجها أو أخحاها لا رجلا غريئًا لا يتئالنك 
نفسه من الحياء والارتباك. سألتني دون أن تحول 
عينيها عن الطريق : 

ب مأذا أدعوك؟ 

فقلت في اقتضاب: 

- كامل رؤبة. , . 

واكتفيت بذلك عن ذكر اللقب الذي كثيرًا ما يثير 


السراب 


الضحكء» فتمتمت قائلة وعاشت الأساء)» وشعرت 
بأنّه ينبغي أن أسأها كذلك عن اسمها. وتخّرت عبارة 
مناسبةء واستجمعت قواي للفظهاء ولكبها لم تنتظر 
وقالت ببساطة : 
- ادعني عنايات إذا شئت . 
وغمغمت في خجل «عاشت الأساء؛ ولكتّها م 
تسمسع إلا همشاء والتفتت نحوي فجأة وقالت 
مبتسمة : 
يا له من -حياء غريب! ألم تعلم بأنْ الحياء موضة 
قديمة؟ وأنّ العذارى أنفسهنٌ نبذنه بلا أسف؟ ففيم 
:انه انك 
فشدّت عنّى ضحكة مرثبكة ولم ألبس بكلمة, 
فاستطردت قائلة : 
- ولكن دعنا من هذا الآن فالدواء الناجح لا ينفع 
إلا في حينه. وخترني بالله عليك ما الذي دعاك إلى 
مخالطة النوبيين بي تلك القهوة القذرة؟! 
وتفكرت قليلٌ متحيرًا حتّى وجدت في الكذب 
- كنت يومًا راجعا من مشوار طويل فلم أجد من 
مكان أستريح فيه إلا هذه القهوة. 
- هذا عن أوْل يومء وما قولك عن اليوم الثاني 
والئالث؟ 
وجاءني على البداهة جواب حسن, فتغلبت عل 
الحياء وقلت بصوت منخفض : 
إِنْك المسئولة عن بقيّة الأيام . . . 
فلحظتني ضاححة وقالت بمكر: 
أحمًا تقول أم أردت التهرّب بالغزل؟ 
فعمغمت : 
- بل قلت النٌ. , . 
فرمَتٌ بنظرها إلى الطريق في دلال وقالت: 
- فلياذا إذن تلتصق بالباب مبتعدا عنى كأنك تكره 
7 . 
وتولاني الاضطراب؛. ول أدر ماذا أفعل. ثم قلت 
كالمعتذر: 
ولكنّنا في الطريق ., . . 


وأغرقت في الضحك ثم قالت: 

نحن في السيّارة لا في الطريق. إلا أن الطريق 
نفسه لا يمنم أمثالنا من الالتصاق إذا شاءوا. لا تتوار 
وراء الأعذار الكاذبة. شري ما عمرك؟!. 

- في الثامئة والعشرين من عمري . 

يا للعارا. . . وكم امرأة عشقت؟ 

ولذت بالصمت شاعرًا بأنه لا قبل لي مها. وكاأئها 
عجبت لصمتي فقالت بإنكار: 

- أتريد أن تقول إنْك لم تعشق امرأة من قبل؟!. 
وهل أنا أوٌّل امرأة في حياتك؟... ريّاه وعيونك 
الخضر ألم تجذب أحدًا!؟ لا شك أننى أدركتك وأنت 
مشرف على الغرق؛ فليجزني الله على صنيعي خير 
الجراء, . . ربّاه من يصدّق هذا؟ كيف تعيش وماذا 
تصنع بحياتك؟ 

ولم أحر جواباء وأثْر فيّ قوها تأثيرًا موجعًا لم تدرك 
كنبه. ولعلّها قرأت في وجهي الارتياك ف رحمتني 
بالصمت مليًا. ثمّ سألتني عن عملي فأجبتها بألني 
مونّلف. . . واستدركت قائلا إنّني في إجازة قصيرة. 
وساد الصمت مرّة أخرى. وفي أثناء ذلك تزحزحت 
قليلا صوبي حي مسن منكبها منكبي في رفق» فبعثت 
وخجل ولا لازمت جمودي والتصاقي بالباب قالت 
باقتضاب وهى تكتم ضحكة : 

مت خطوة ومنك خخطوة. آلا زلت هيّابًا؟! 

ولاقى مي النداء نفْسًا راغبة وقلبًا خائفاء ولكن 
جالدت الخوف مجالدة وتزحرحت في حذر وإشفاق 
حي مسن جانبي ‏ من أسفل الساق إلى أعلى المنكب ‏ 
لحا طريًا يتطاير منه عرف طيّب ساحرء ولبثت هنيهة 
متملْيًا مسّه اللذيذ وكل جوارحي تنتفضء. حي 
التمتت نحوي وشعرت بأنفاسها تتردد على حذيء 
وغمست في أذني : 

أما زلت هيابا؟! 

كلاء لقد أسكرتني العاطفة. وكانت أنفاسها لا 
تزال تتردّد على دي فال رأسها نحوي حي غاص 
فمى في شفتيها الرأبيتين وسرعان ما حوّلت رأسها عي 


إلى الطريق أمامهاء فأحطت خاصرتها الغليظة بيسراي 
واخبلت على جانب عنقها تقبيلا. وانحرفت بالسيّارة 
إلى جانب الطريق وهي تغمغم ضاحكة «رويدك» ثم 
أوقفتها وهي تقول: 

- لنسترح هنا قليلا فهذا مكان آمن. , . 

وألقيت نظرة على الخارج فوجدتها اختارت موقفًا 
وسيطا في المسافة بين مصباحين من مصابيح الطريق, 
تشمله الظلمة ويكتنفه الخلاء من الحانبين. وفيها عدا 
أزيز السيّارات التي كانت مر بنا مرور البرق كان 
الصمت عميقًا محيطاء سألتها هامسًا: 

د الفين اقكنا خط ؟ 

فقالت وهي تلف عنقي بيمناها : 

- إِنّه آمن من بيتك؟ 

واستدارت في جلستها حتى مس متكبها المسند. 
وثنت ساقها اليمنى تحت فخذها اليسرى» فصرنا وجها 
لوجه. وانيرى لى صدرها العالي ينصسر عنه عنئق 
الفستان ومال وجهي نحو صدرها فتوسده في حنان 
وذهول. وأسكرتني رائحة جسم آدميّ أشهى من 
العرف الذكيٌ. وسكنت إليه ما طاب لي السكون 
ويدها تعبث بشعر رأمى. ثم رفعت إليها وجهي 
والتهمت شفتيهاء والتهمث شفتَ. وكأنّ كلينا يأكل 
صاحبه ويزدرده؛ وولى الخوف إذ لم يعد له مسوغ! 
وامتلأتٌ حياة وجئونًا وثقة لا حدّ لهاء لا أدري كيف 
واتتبى الثقة» كانت المرأة سيّدة الموقف فوجدت فيها 
المرشد الذي ضللته حياتي كلهاء أعادت إل الثقة 
والطمانينة لأنّها أخلتني من كل مسئوليّة وأخذتني 
بالهوادة والرفقء أدركث في تلك اللحظة ‏ أكثر من أي 
وقت مضى - أن إلقاء أيّةَ تبعة عل خليق بأن يفقدني 
نفسى. وأنّنى لا أجد هذه النفس التهافتة إلا بين يدين 
تانعين لوي ايك النائنا' فى لقره موتراية جره 
خرجت متها سكران بخمر الظفر والارتياح العميق. 
وشعرت من الأعماق رغبة إلى هذه المرأة ليست دون 
الرغبة إلى الحياة» بل هي الحياة نفسها والكرامة 
والرجولة والثقة والسعادة. افترٌ ثغري عن ابتسامة ظفر 
وسعادة. ورمقتها بنظرة امتنان لم تدرك عمقه وهيهات 


١7١ السراب‎ 


ها. إني بين يديها أتمرّغ في التراب» ولكنّه تراب طيّب 
حنول جود بالئقة والسعادة, وأدركت أخطاء الحياة 
الماضية, وذكرت روج ىق المحبوبة 2 حزن وقلوط 
أوشكا أن يقصفا بعمر الساعة الساحرة. وم أتردد عن 
تحميلها تبعة تعاستي كلها!.. . هكذا بدا لي الأمر, 
على أن قلبي هفا إليها حبّى في تلك اللحظة وني ذلك 
المكان! أمَا المرأة فقد ضربت أنفى بأملتها وسألتنى : 


ارط ا 


فقلت من قلبي : 

0-7 

وأخذث سراق بين براحتيها بورنت إل طوياذ ثم 
000 


يا لك من طفل رائع ! 

فتضاحكت قائلا في حياء : 

طفل في الحلقة الثالثة ! 

ولاحت في عينيها نظرة جد واهتام» وانتبهت إلى 
أصابعها وهي تتحسّس شاتم الزواج» ثم ألقت عليه 
نظرة ذاهلة وهتفت بي: 

- أأنت مترؤج؟! ل يدر لي هذا بخلد!! 

واستحوذ عل الخوف ونظرت إليها صامتا. وعادت 
تقهقه ضاحكة ثم قالت: 

كيف لم يخطر لي هذا على بال؟! ولكن كيف 
أصدّق هذاء؟! رباه لماذا جريث ورائى؟. .. ألا 
تعجبك زوجك؟! يا لك من فاسق1 0 

فخفقت عيني في حيرة وارتباك وم أنبس بكلمة. 
فسألتبى باهتام : 

- ألا تحب زوجك؟ 

وضايقني السؤال» وترذدت لحظة لا أدري ماذا 
أقول. ثم أرغمنى حرج الموقف على أن أقول بصوت 
لا يكاد يسمع : 

دإ ما “هيت طيية] 

إف أسألك ألا تحنها؟ 

وشعرت بأن الكذب ينقلب فضيلة في حضرة 


1١‏ السراب 


النساء فقلت باستياء أخخفيته بارتسامة : 

د كلذو 

فانبسطت أساريرها وسألت باهتمام : 

- كم مضى على زواجك؟ 

فقلت وقد أهاجت سيرة الزواج أشجاني : 

- قرابة عامين ! 

- ألم تكن تمبها قبل؟ 

كادي 

- زوجوك منها بغير سابق معرفة؟ 

العو 

يا له من إثم لا يغتفرء وهي ألا تحبّك؟! 

فقلت صادقًا لأوّل مرّة: 

انال عت ليك | 

وانّسعت عيناها دهشة» وفتحت فاها ‏ رأيت في 
جانب فمها سئتين ذهبيتين لأوّل مرّة ‏ وقالت: آه ! 
(بصوت عمطوط). . .فهمت كل شيء. توجد نساء على 
هذه الشاكلة؛ لم لا. ليس كل النساء بالكاملات. , 

وتبادلت نظرة طويلة في ابتسام وصمتء» ثم سألتها 
ضاحكا: 

- وأنتء ألست متروجة؟ 

فقالت وهي لا تحول عيليها عن : 

- لست إلا أرملة» كان زوجي لواء عظيًا يدعى 
علي باشا سلام؛ تزوجني على كبر وتزوجته على صغرء 
ثم مات من بضع سنين فعدت إلى أمّى نعيش معَاء 
والله وحده يعلم مع من أعيش غدًا!! 

جعلت تصفر بفمها وهي تبسم إِليّ. ثم تلاولت 
حقيبتها واستخرجت منبها فرشاة بودرة ومسحت على 
وجهها وعنقها وصففت خصلات شعرها المبعثرة, 
وراحت تلقي نظرة على وجهها في مرآة صغيرة مثبتة في 
جانب السيّارة وهي تسالب : 

- متى تنتهي إجازتك؟ 

- بعد أيام قلائل. . . 

فقالت مبدوء: 

- سئلتقي كثيراء كل يوم إن أمكن. ولا في السيّارة 


متسع حي نجد مكانًا صالخًاً. , . 

واستوت جالسة أمام عجلة القيادة, ولكفٍ أمسكت 
بمعصمهاء ثم أحطت عنقها بذراعي. وضحكت 
ضحكة قصيرة» وضمتنى إلى صدرها الرابي وهي 
تقول : 

-الماذا تركدق استعيد زيدي إيا:شناطر؟ | 


65 

عدت إلى البيت في تمام العاشرة, ولم أسائل نفسي 
عا إذا كنت قد أخطات لأنْ ما استرددته من السعادة 
والثقة كان فوق الخطأ والصواب» وكالت مي قل 
نامتء أمّا رباب فقد جلست في الفراش تطالع مجلة. 
ما إن رأيت وجهها الصبيح حبّى أشرق بروحي نور 
ببيج وأحسست بأنني أنتقل من دنيا إلى دنيا أخرى. 
والني تقزّز مفاجئ لما صئعت بنفسي. ولكنه لم يتمكن 
مي . فأنسانيه ذلك الحجاب الكثيف الذي يحول بيني 
وبين زوجي... واستقبلتني بابتسامة وأبلغتني سلام 
خالتها وعتابهاء ثم أخبرتني بن عشائي جاهز على 
السفرة فمضيت إليه والتهمته بهم متعب جائع, 
وعدت إلى مخدعنا وأنا أتساءل عيّا تفعل رباب لو 
علمت بذنبي؟! وأخبرتني بأمها دعيت إلى إعطاء درس 
خاص لابئة قاض كبير بالسنة الأولى الابتدائية 
وسألتني عن رأبي. ومع أنني لم أقف منبها على ما يريب 
إلا أنني لم أرتح للاقتراح وقلت: 

- حسبك ما تتجشمين من مشقّة طول النهار! 

فقالت بغير اكتراث : 

د فيك فك 

وسررت لموافقتها السريعة؛ وقلت لنفسي في شبه 
ندم: «هيهات أن أقع على شبهة شكَ؟». 
واضطجعت إلى جانبهاء فحت المجلة جانبّاء وأطفات 
النور واضطجعت بسلام. كان النوم حريًا بان يسارع 
إلى جفنيّ؛ لكن حالت دونه يقظة غريبة في النفس. 
طار خيالي إلى عنايات» والسيّارة في طريق الحرم؛ إن 
خائن! أعجبٌ بها من حقيقة! فمن يصدّق أن يتَخل 
الزوج العاجر عشيقة؟! تنيت في تلك اللحظة لو تعلم 


زوجي ببذه الحقيقة العجيبة» على أتها لم تكن إلا لعظة 
عابرة» وسرعان ما تقبّض قلبي خوفًا وخجلا. لقد 
تعقّبت زوجي وبي شك في خيانتها فعدت حائنًا لا 
شك فيه. أمّا هي فا وقفت منبها على غير الاستقامة 
والاحتشام. كيف كان نصيبي متها العجز والإختفاق 
على حين أنني نعمت بسين يدي المرأة الغليظة بِبذه 
السعادة الحنونيّة؟! لقتني حيرة شديدة» تلهقفت نفسي 
على بصيص من النور. 

وزاد من حيرتي أنْئي شعرت شعورًا عميمًا بأني لا 
غنى لي عنها معًا. بل لم أجد سبيلا إلى المفاضلة 
بيهماء فهذه روحي وتلك جسدي. وما عذابي إلا 
عذاب من لا يستطيع أن يزاوج بين روحه وجسذه. 
ماذا تكون قيمة الدنيا بغير هذا الوجه اميل المتّسم 
بالطهر والكمال؟ ولكن ماذا يبقى لي من لذَّة ورجولة 
إذا فقدت المرأة الأخرى؟ وأغرقت في التفكير إغراقًا ل 
َدَعُ للنوم سبيلا إليّ ومضت تتراءى لعينيّ رباب ثم 
عنايات» وانحرف الخيال بغتة إلى أمّي بلا داع 
فاتخلث مكانما في شريط هذه الصور المتلاحقة! 
وتنساهت بي الحيرة حيّى شملتني حال من الزن 
والقانة .. 

بيد أن أحاسيس الليل قل أن تعيش في ضوء 
البار. إثها في الليل تندمج في تيار لحن غامض ينطلق 
في جو أثيري يكتنفه الضباب» فإذا طلع عليه النهار ل 
ببق منه إلا أصضداء خفيفة لا تمتعنا من أن للتمس 
سبيلها في الحياة. جاء صباح اليوم الخامس فانطلقت 
كالعادة إلى العبّاسيّة:» ترى أقتفي أثر رباب حمًا أم 
ألبّي ذاك النداء المطاع؟ إِنْ سيرة زوجي لا تدع مالا 
للشك. مِرها كجهرهاء فلا شك أنّْا صدقت فيا 
قالت عن الخطاب المشكوم» وإذا كان ثمّة خائن فهو 
أنا , 

وذهبتٌ إلى قهوة النوبيّينء فا أؤفقها رمرًا لبي 
الجديد. وانتظرت حي فحت النافذة فتبادلنا التحية 
بابتسامة لطيفة. وغابت برهة ثم بدت لي مرّة أخرى 
وقد أخذت أهيتها للخروج. وأشارت إلى إشارة ذات 
معنى أن أنتظرها في مكان الأمس. لم أتوقم أن نتقابل 


١ السراب‎ 


صباحا بيد أن ١‏ أتردد فناديت النادل ودفعت له 
الحساب ومضيت من فوري إلى الجسرء وخخيل إل - ف 


75 


طريقي القصير. أنبي أدركت حقيقة من حقائق الحياة, 
هي أنه لا توجد ثمة حركة بين الرجال إلا ووراءها 
امرأة! المرأة تلعب في حيائنا الدور الذي تلعبه قوة 
الجاذبيّة بين الأجرام والنجوم. فيا من رجل «حيئ» إلا 
وفى سخياله امرأة. حاضرة أو غائبة» ممكنة أو مستحيلة , 
نحبّة أو كارهة مخلصة أو حائئة. وفهمت فهمًا جديدًا, 
كأنه لقوّته بكر جديد. معنى قوطهم: إن الحبٌ الحياة 
والحياة الحبٌ: لم تكن حياة ثم كان حبّ. ولكن كان 
حبٌ فكانت حياة» وأقسمت في تلك اللحظة ألا 
أعرض عن الحبٌ ما حييت! 

وجاءت السيّارة فاخت مكاني كالأمس. وتساءلت 
المراأة ضاحكة : 

ما الذي جاء بك الآن؟ ألم يكن موعدنا المساء؟ 

انيه انك اسح 

فابتسمت ف سرور وقالت: 

يجب أن نلترق بالغرا فلا نتفصل أبذا. . , 

وتصاعد أزير المحرّك ينذر بانطلاق السيّارة فقلت 
برجاء : 

- الدنيا نهار فهلا عدلت عن الطرق المزدحمة ! 

أتخاف أن يراك أحد؟ 

ا لع 

- آه! نسيت أنك متزوج!.. . لا تؤاخذني يا 
حضرة الزوج لنذهب إلى مصر الجحديدة! 

وانطلقت السيّارة بالسرعة الحشوئيّة» وسأالتني في 
الطريق قائلة : 

- ماذا فعلت يزوجك الأمس؟ 

فقطت وأنا لا أدري, وم أحر جوائاء» فقالت: 

لهذا الحلٌ لا تحبٌ ذكرها؟ 

آ تساءلت متجاهلة صمتي وارتباكي : 

ألا تنامان في فراش واحد؟ 

وحاولت أن أغتصب ضحكة ولكثئى عجزت. 


١4‏ السراب 


وشعرت بامتعاض كدر عل صفويء, فقهقهت 
ضاحكة وقالت' 

- لشدٌ ما أرغب في رؤيتها. . 

وأرادت أن تسرّي عي بطريقتها فداعبت شفت 
بأصبعها وقالت محاكية الأمّ التي تداعب طفلها: 

- كتكوق., . . 

ووقفت السيارة أمام مشرب شاي . . . فجلسنا معا 
نقلَب الحديث ظهرًا لبطن في لذة وسرور. وأخبرتني 
أن اختيارها قد وقع على بيت الخبّاطة ليكون مهدًا 
لغرامنا. وعند الظهر غادرنا المكان. وقد أرادت أن 
تدفع الحساب ولكئني أبيت عليها ذلك» وافترقنا بعد 
أن تذاكرنا موعد المساء. وتكرّر اللقاء. ولمًا انتهت 
الإجازة بعد ذلك بيومين واصلنا لقاءنا في الأماميّ. 
وأقنعتني التجربة الناجحة بأنْ الحبّ صحّحة وعافية. ول 
بيخت على أحد دأبي على السهر. ومع أن رباب كانت 
تفضل - على حدّ قولها- أن أمضي سهراتي معها في 
زياراتها التي لا تنقطعء إلا أمّها تحاشت مضايقتي, 
فباشر كلانا حياته بالسبيل الذي يرضاه. ولم يخ 
ذلك عن أمّي أيضاء وقد قالت لي: لاحظت يا بن 
أنك لم تكن على حالك الطبيعيّة في هذه الأيّام 
الأخيرة» وقد خمت أن أعلن لك ملاحظتي أن 
تغضب. فإذا وجدت في السهر راحة فاسهرء هكذا 
الرجال حميعًا!! 


/اه 

وانقفى شهر أو أكثر على حياة سعيدة لا يشوب 
صفاءها كذر. حل السلام مكان الشكٌ وعادت 
علاقتي برباب إلى أصفى ما كانت عليه من الود 
الطاهر والحب اليريء. أمَا من الناحية الأخرى فقد 
أسلمت نفسي لعنايات في حب مضطرب وسرور 
ظافر. إنها امرأة موفورة الثروة. وما من مرّة نذهب إلى 
مهدنا المحبوب ببيت الخيّاطة إلّا وتنفحها بريال وأحيانًا 
نصف جنيه؛ وأبت عل كرامتي إلا أن أكون كريمً 
كذلكى ولو في حدود طاقتي. وهيّات لي وهي لا 
تدري - معاودة الشراب على حال لا تنقطع؛ فكانت 


الخقياطة تحتفظ لنا بقوارير الويسكي والصودا دواماء 
بل أوشكت أن تعودني التدخين» وكأنْ لما مزايا وأيّ 
مزايا. كانت كاملة الأنوثة والحيويّة. فهىي متعة 
للعشاق على كهولتها ودمامتها المحبوبة» بيد أمّبا كانت 
كزللة عل امهنا راوسا رة يفكي نا لبد عندها 
لحب كل شيء. وفي سبيله تستبيح أي شيء. ولعلّها 
لم تكن من النوع الحلوك. ولعلّها لم تكن إلا امرأة 
هالعة.» تشعر دوامًا بإدبار الحياة الزاهرة. وذبول 
الشباب اليانع» فلا تطيق أن يمضى يوم بلا حبٌ. 
وكان أعجب ما في حبّى لما ألّنى قُتنت متا بم هو 
حري أن يعد من النقائص في نظر الغي. بكهولتها 
ودمامتها وجسارتهاء وكانت تملؤنى ثقة لا حد لهاء فلم 
أكن أحمل لشيء هما. ولولا ما كان ينتاببي من قلق» 
منشؤه ذلك الانفصال المخيف بين روحي وجسدي» 
لتمليت الحياة صفاء خالصًاء على أنّْبا كانت حياة 
معد 

وفي ذات يوم» وبعد فراغي من الغداء مباشرة. 
ذهبت إلى ححرة أمّْي لأشرب فنجانًا من القهوة 
وأجاذبها الحديث كعادتي كل يوم» وسرعان ما لاحظت 
أنها تردّد في وجهي عينيها الصافيتين في قلق وتفكر. 
فتفرّست في وجهها الذابل الذي فقد مرحه وسعادته. 
فأدركت لتوؤي أنْهبا تريد أن تقول شيناء وداخلني 
القلق. ولكقٌ قلت مبتسما: 

- ماذا وراءك: هات ما عندك! 

فلاح التردّد في عينيها لحظات ثم قالت: 

بالأمس سمعت أمورًا أدهشتني . فيلك حيرتني عم 
بين رباب والستّ والدتها؟ 

كل شيء توقعته إلا هذا. وغامت عيناي بسحب 
ذكريات سود وتساءل قلبي الخافق: هل عادت المرأة 
إلى لجاجتها القديمة؟! ولم تكن رباب قد أخبرتني شيئًا 
عن زيارة أمّها لها بالأمس إلا أن أقرأتني سلامها. 

وعدت إلى أمى أقول لا بصوت هادئْ أو جعلته 
هادثًا : ْ 

- ليس بينها إلا كل خير. . . 


فهرّت أمَي رأسها في ارتياب وقالت: 

- لعله غابت عنك أشياع أمَا أنا فلم أستطع 
استقبال نازلي هانم لأنْني كنت متعبة» ولبًا جاءت 
صباح لتخبرنيٍ بقدومها تصئعت الدوم. وطالت 
الزيارة» فانسللت من الحجرة لقضاء حاجة. ودنوث 
من باب حجرة الاستقبال» فا راعني إلا أن أسمم 
الست وهي تقول في انفعال وغضب: «هذا شيء لا 
يحتمل» فتردٌ عليها رباب بعنف قائلة: «لا تتدخلي في 
شكوني!4» فا ملكت أن تراجعت إلى حجرق. . . 

التهب جبينيى حياءء ثم ركبني الغضب. فشعرت 
مقت شديد نحو هله المرأة الفضوليّة. واقتحمث أمّي 
عل أفكاري متسائلة : 

ألم تعلم عنبهما شيئًا؟ 

فقلت بحرم : 

الأ شان لناامي: 

وعدت بعد ذلك إلى مدعي فوجدت رياب 
مستلقية على المقعد الطويل. فلا رأتني الصقت ساقيها 
موده تنيع :لمانا ديك انه او فك للك 
عن ذاك النزاع؟ هل أشفقت من إزعاجي؟ ولعلّها م 
تلحظ تغيّر حالي فراحت تقول لي: إِنْ اليوم الجمعة. 
وإنها تقترح عل أن نذهب معًا إلى السينا» فتركتها 
تتحدّث حي انتهت فسألتها قائلا: 

كيف حال والدتك؟ 

فأجابتبيى بأئها على ما يرامء فلظرت إلى عينيها 
وتساءلت : 

هل مرت زيارة الأمس بسلام؟ 

فلاحت في عينيها نظرة ارتباك وقالت: 

ماذا تعني؟ 

فقلت بحزن وكابة : 

ربابء لا تخفي عني شيئًا. أعادت والدتك إلى 
ذاك ا موضوع القديم؟ 

فلاذت بالصمت مليًا وقد تجهُم وجههاء ثم 
تساءلت بحذة : 

- من أدراك بذلك؟ أريد أن أعرف كل شيء! 

فأخيرتما بما قالت لي أمّي. وكانت تصخي إل 


السراب هم ٠‏ 


باهتام ثم انفجرت قائلة : 

أمك . .. أمك, . . ودائيًا أمك! 

ووحزني الألم الذي مجر في نفسي كلما لاحت لي آي 
الكراهية المتبادلة بيسباء وقلت: 

0 داعي للغضب » اجاح ع ميا نيت 
اتفاقاء ونقلته إل بقصد حسن كما هو ظاهر. بالله لا 
تستسلمي للغضب» وختريني هل عادت أمّك إلى ذاك 
ا موضوع القديم؟ 

وسحبت سأفيها من ورائي» وألقتها على الأرض» 
وأطرقت في تجهم وغيظ وقالت: 

الأمر الذي لم أشأ تعكير صفوك به أئها اقترحت 
عن أن أعرض نفسي على طبيب ليرى أسباب عدم 
الحمل. فرفضت اقتراحها بطبيعة الخال فتشاجرنا! 

وواصلنا الحديث البغيض مليًا حَبّى طلبتٌ إل أن 
اججانين ران اقول جا لاز الحة من انيه سوم 
فأذعنت لمشيئتها ومضيت إلى الفراش واستلقيت عليه 
محزونًا مكتئبًا. ومضى وقت ليس بالقصير قبل أن 
أغفوء ولا أدري كم غفوت, ولكبّي استيقظت على 
شيء أطار عن عي النوم. وفتحت عي في انزعاج 
فسكُتُ مسامعي ضوضاء آتية من الصالة» فأرهفت 
السمع. ولم ألبث أن أدركت أن رباب وأمّي تتبادلان 
أقسى الكليات في ضجة وصباح. وقفزت من الفراش 
في هلع ووثبت إلى الباب ثم مرقت منه إلى الصالة فإذا 
برباب تصيح وقد تطاير الشرر من عينيها : 

هذا تجسس لا يليق بسيدة محترمة. 

ووقع بصر أمي عل فخفضت بصرها وهي تقول: 

- لا يسعبي أن أجاريك في قلة أدبك! 

وهتفتٌ برباب قائلُا: «رباب. ..» ولكتها تحامتني 
ورجعت إلى حجرتنا في غضب جنونّ. ودارت أني 
على عقبيها وسارت إلى حجرتها بخطوات ثقيلة 
فانجهتٌ نحوها صامبًا متألًا. رأيتها تمسك بأكرة 
الباب ثم تقف دون أن تضغط عليها كأنها عدلت عن 
الدحول, ورأيتها تضع راحتها على جبينها فخيل إل 
آنا تنحني رويدّاء وأسرعت نحوهاء فا كدت ألمسها 
حبّى سقطت على يدي فتلقيتها مها في رعب وفزع. 


١‏ السراب 


وناديتها فلم تجب. وتدلى رأسها وذراعاها. وصرحت 
مناديًا صباح فجاءت تجري ؛ فحملناها معًا وأنئمناها على 
فراشها. وجثت بزجاجة كولونيا ورششت منها على 
وجهها وعنقهاء ودلكت بها أطرافهاء وجعلت أناديها 
بصوت متهدّج مبحوح دون توقفء وغشيها الإغماء 
دقائق مررن بي كالساعات, ثم فتحت جفنيها عن 
عينين غائمتين. فهتفت بها وأنا أزدرد ريقي : 

أماه. . . 

فشخصت ببصرها إِليْ: وأشارت بيدها إلى قلبها 
دون أن تنبس بكلمةء والطلقتٌ مغادرًا الشنّة إلى 
البدّال في أسفل العارة» وتلفنت إلى طبيبها أن يحضرء 
ثم صعدت إلى الشقّة وجلست إلى جانبها في حال من 
الذعر والمزن لا توصف. لم تفارقها عيناي لحظة 
واحدة حت استلت نظرة عينيها الغائمة دمعي 
الحبيس. شعرت بأنْني أشقى إنسان في الوجود. 
وأفعمت نفسي كآبة وامتعاضا. ثم جاء الطبيب 
وفحصهاء وقال إنّها نوبة قلبيّة» تستلزم رقادًا طويلا 
وعناية كبيرة؛» ووصف الذواء كالعادة. وكنت قد 
قصصت على الطبيب كيف أغمي عليها عقب شجار 
مع الخادم! فقال لي: إِنْ الشجار سبب طارئْ ولكنٌّ 
الداء قديم. وقضينا ليلة عبوسا. أمّا رباب فقد توارت 
في حجرتنا في شقاء بالغ وقد ناءت بثقل تبعتهاء وما 
زالت تبكي حي انفطر قلبها من البكاء فلم يسعني إلا 
أن أطيّب سخاطرها وأريّت على منكبها قائلا: 

حسبك بكاء. هذا قضاء الله؛ وربنا يجعل 
العزاقته ساس .: 


بره 
وامتلاً البيت بالعواد؛ فزارتنا أسرة رباب ومع من 
أقارمباء وجاءتنا أخي راضية وأسرتهاء وعادت رباب 
المريضة وقبّلت يدها واستوهبتها العفو بعين باكية حي 
رجوت أن نبدأ بسبب هذا الحادث ‏ حياة جديدة 
خالية من كدر القلوب. وتميّدت راضية فرصة خلوٌ 
الحجرة من الأغراب وثالت لى : 


- إني أستأذنك في أن آخذ أمي إلى بيتي حبّى تسترد 


فواها؟ فهالني الاقتراح وقلت بارتياع : 

هذا مستحيل . 

فابتسمت إلى متلطفة واستطردت قائلة : 

ألا ترق انها تتام للتدمة وغناية في كل مدن 
فَمَنْ ذا الذي يقوم بخدمتها هنا؟ وأنت مشغول 
بعملك. وزوجك مشغولة بعملهاء وصباح تقوم على 
خدمة المنزل» فإلى من نكل أمر آمنا؟ 

ولكبي استفظعت اقتراحهاء وثرت على ما قدّمتٌ 
من حجج قويّة. وقلت بإصرار صادر من أعماق 
قلبي : 

- لن يطول رقادها بإذن الله ولن تحتاج إلى مَن 
يلازمها إلا في الأسبوع الأوّل كما قال لي الدكتور 
ولأجدنْ خادمًا خاصّة تتوفر للعناية مبا. 

وحاولت راضية أن تثنيني عن إصراري ولكن لم تجدٍ 
محاولتهاء وانتهى النقاش بأن قرّرت الإقامة في بيت 
حتّى أوفق لإيجاد حادم . وفي اليوم الثالث لمرض أمّي 
حضر أختى مدحت - وكنت أخبرته بمرضها في خطاب 
7 وجاءت معه زوجه. وقد اشتّت وطأة 
المرض على أمي في الأيّام الأولى لمرضهاء ل تكن تبدي 
حراكاء ولا تكاد تنبس بكلمة. كابت إذا فتتحت 
عينيها المتعبتين لاحت فيهها نظرة ذابلة غائمة تقلبها 
بيننا في صمت وتسليم فتمزق قلبي إربًا؛ ولم نكن 
نفارقهاء. وكانت إذا عاودتها يقظة خحفيفة تردّد عينيها 
ببئناء وترسم على شفتيها الحافتين ابتسامة: أو تبسط 
راحتها وترفع بصرها إلى أعلى وتغمغم داعية لنا 
بصوت منخفض وانِ. ولكن لم تطل بها الغيبوبة. 
فتحسّنت حاها قليلا في ماية الأسبوع الأوّل من 
الأزمة. واستطاعت أن تدرك بوضوح أن أبناءها جميعًا 
يحيطون بهاء ولعلّها رأتهم كذلك لأوّل مرّة في حياتها. 
وقد جمعنا الفراش مرّة فجلست راضية تلظر إلينا في 
صمت طويل.» ثم طفح وجهها بالبشر؛. وهمست 
بصوت ضعيف : 

- ما أسعدني بكم!. . , الحمد لله والشكر له. 

ولاحت في عينيها نظرة رقيقة تنم عن الحنان 


والتأثر» ثم استدركت قائلة : 

إذا كان المرض يجمعنا هكذا فكم أمتّى آلا 
بزاولك: 

وبذت ‏ عل مرضها - سععيلة ٠‏ فانتقلت سعادتها 
إلى قلوبنا. التأمت أسرتنا التى قضى الله على عقدها 
بأن ينفرط منل البداية: بتنا تحت سقف واحدء وأكلنا 
وشربنا معال وانتظمت قلوبنا خحفقة والحلة , با لها من 
أيَام ردّدت أنفاسنا فيها الإشفاق والحئان والسعادة. 
بيد أثها كانت أَيَامًا قلائل. فقد تقدّمت صححة أمْي 
تقدّمًا حسناء وزال الخطر عنها وإن حتم الطبيب عليها 
بألا تبرح الفراش شهرًا كاملا على أقلٌ تقدير. وعند 
ذاك ودْعَنا مدحت وعاد بأسرته إلى الفيّوم واعدًا 
بالزيارة من آن لآن. وعادت راضية كذلك إلى بيتها - 
وكنت قد وَفْقتٌ إلى اختيار نخادم لأمّي ‏ على أن تعود 
أمها كل يوم . انفضص السامري وتفرق الشما » وعاد 
كل شيء إلى أصله. ولم يكد يمضي أسبوعان حت 
تجلس إلى الفراش مستندة إلى وسادة منكسرة. ولشسْدٌ 
ما سرّني أن تقوم رباب بواجبها نحو حماتهاء ولن أنسى 
ما عانت من مرارة الم والقهر 2 الأيام الأولى 
عفرن 

ولمما عاودتنا الطمانيئة وم يعل أمام أمّي ألا رقاد 
وإن يكن طويلا إلا أنه مامون» عدنا إلى. سيرقنا المألوفة 
في الحياة. عادت رباب تروح عن نفسها بزياراتها 
المسائيّة» وانطلقتٌ على سبي القديم. وقد استأذنتها 
يحيأس ؛ وأفصحت لي عا كان يساورها من ألم لبقائي 
إلى جانبها كالسجين. وغادرتٌ البيت متفكراء متسائلا 
ترق لو كنت آنا المريض أكانت تستاذن هى في مغادرة 
الحجرة ترويخًا عن النفس؟ وبدا لي منطق الحياة قاسيا 
ولكن لا حيلة لنا فيه! 

وطرت إلى عنايات. وكانت تتلفن لي كل صباح 
بالوزارة فبينت لما الأسباب التى حالت دون لقائنا. 
وعدنا كما كنا نلتقي في مهدنا فنسكر ونحببث كانت 
حياة غريبة؛ وأخوف ما أحافه أن تكون الذاكرة قد 


السراب بام ١١‏ 


خانتني ولو في القليل من تفاصيلها. أكنت سعيدًا 
حمًا؟ كان قلبي مورّعًا بين أمّي وزوجي وعنايات. 
وبين الذكريات العميقة والهيام السامي والحبٌ العارم . 
وحسبتني قل أويت من زوابع الحياة إلى مرف هادئ, 
ولكنّ القلق القديم عاد يطرق بابي في حذر وتردّد كأنما 
يمنعه الخجل من اقتحامه بلا سبب ظاهر. أجل كنث 
أمضي في طريقي. ثم أتوقف حيئًا بعد حين في تردّد 
كأنّني أتساءل عن شيء أنسيتهء هل أجدّ في السير آم 
يحسن بي أن ألقي نظرة إلى ما حوليء ثم يتين لي أنه 
ليس ثمة ما يستوجب التردّد فأمضى على وجهي . . . 

ويومًا وجدت رباب على غير ما عهدتها من المرح 
والنشاط فسألتها عا مها؟ فقالت لى: إثها قضت غبارًا 
متعبًا بالمدرسة, وإئْها ترجّح أن تكون مصابة 
بإنفلونزا. وعدلت ذلك المساء عن الخروج. وفي 
صباح اليوم التالي» وعقب استيقاظها بقليل تفيّات 
بغتة. واستلقت فى إعياء ووهن» فاقترحت عليها أن 
أستدعي لها الطبيب» ولكنّها لم توافق قائلة: إِنّهِ برد 
خفيض وستعالحه بغير معونة الطبيب. وجاءت أمها 
تزورها فلبثت الهار كله بحجرتمهبا. على أن رباب 
أصِرّت في صباح اليوم الثالث على استئناف عملها 
وقالت لىي: إنْبا تشعر بأئْهبا استرقت صحّتها تماماء 
ومضت بالفعل إلى الروضة على رغم نصحي لا بالبقاء 
في البيت يوما أو يومين آخرين. وعادت من الروضة 
في ميعادها فوجدتها أسوأ مما كانت في الصباح» ولكتها 
أصرّت على أنها متمئعة بكامل صحّتهاء وم تقنع مبذا 
فارتدت ملابسها وغادرت البيت يوما أو يومين 
أخرين. وعادت من الروضة في ميعادها وكلت في بيت 
الخياطة ولمًا عدت إلى البيت في منتصف الحادية عشرة 
م أجد رباب في حجرتنا. وكأن صباح كانت تنتظر 
عودتي فجاءتبى على عجل وقالت لي: 

- ستبيت ست رباب عند والدتها وقد أرسلوا الخادم 
لتخرنا بذلك. . . 

ووقع الخبر من نفسي موقع الدهشة والانزعاجء 
فسالت صباح قائلا : 

وما الذي دعاها إلى ذُلك؟ 


4 السراب 


فقالت الحارية بلهجة تنم عن الإإشفاق: 

- نبا بخير يا سيدي. ولقد زرتها ورأيتها بنفسي. 
إلا أنّ حرارتها مرتفعة قليلًا فلم توافق الست الكبيرة 
عل تعريضها للهواء» وآثرت عل أن تبيث عندها حت 
تنخفض الحرارة , 

وغادرت الحجرة بلا تردد وأنا أقول في حنق : 

- لقد حذّرتها من هذا ورجوتما مرارًا ألا تبرح 
الشث 

وقابلتني في الصالة نفيسة نخادم أمي » وأخبرتني أن 
مي ترجو أن أذهب إليهاء فمضيت إلى حجرتها 
فأفصحت لى عن أسفها وكلفتني بأن أحمل دعاءها إلى 
«رباب»؛ فشكرت لاء وغادرت البيت حانقًا قلقًا. 


د 

كان البيت نائًا تشمله ظلمة إلا نورًا ينبعث من 
حجرة الأمّ. فقصدتها لا ألوي على شبىء. ووجدت 
درباب؛ مضطجعة في الفراش» والأمٌ جالسة في فراش 
يقابله بالناحية الأخرى من الحجرة. فقابلتبي بابتسامة. 
وانزلقت الأم من فراشها وأقبلت علّ وهي تقول: 

هذا ما قذرناه! قلنا سينزعج ويجيء من توه 
والأمر لا يعدو أن يكون إنفلونزا. 

والجيت صوب فراش «رباب». وتناولت يدهاء 
وقلت لما معاتبا: 

- ألم أنصحك بعدم مبارحة البيت؟... ماذا 
بك؟. . . لماذا لم تعودي إلى بيتك؟ 

فابتسمت إل وقالت وهي تشير بأصبعها إلى أمها: 

- أردت أن أعود ولكنّ «ماماه لم توافق . 

فابتدرتني نازلي هانم قائلة : 

إن خاها لا تدغو للقلق مطلماء بيد أنّ تعرّضها 
للهواء أمر شديد الخطورة . 

فقلت بحزم : 

- سأدعو الطبيب بلا إبطاء . 

فقَالت الأم : 

- لم يفتنا هذاء والطبيب نفسه الذي نصح بعدم 
تعريضها للهواء؛ ليس في الأمر خطورة البنّة» وستعود 


إلى بيتها بعد أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر. 

وعُلبت على أمري فجلست على كنبة وثيرة تتوسّط 
الفراشين» بيد أنْ هدوء الأمّ الظاهر انتقل إل رويدًاء 
وجعلت الأمّ تقول: إن الإنفلونزا بسيطة في ذاتها 

فأصغيت إليها بغير وعى على حين رنوت إلى 
محبوبتي بعييٌّ وروحي», وتطلّعت إلى رباب مبتسمة 
ابتسامة فاترة» يلوح في عينيها الإعياء وقد رانت على 
نظرتبا العذبة اللامعة غشاوة. وساد الصمت حيئّاء ثم 
تذكرت جير بك فجأة فسالت عنه. فأجابتني الام أنه 
في رحلة تفتيشية يعود منها في نباية الأسبوع. ولما 
دقت الساعة منتصف الثاليةعشرة استأذنت في 
الانصراف. وقبّلت جبين زوجي. وغادرت البيت. 

* 

وفي صباح اليوم التالي تركت البيت قبل ميعاد 
خروجي اللمعتاد بثلث ساعة. وكانت «صباح» قد 
استأذنتني في زيارة رباب» فعهدنا بشئون البيت إلى 
نفيسة؛ ومضيت من توي إلى بيت جبر بك». فقابلت 
على السلّم محمّد وروحيّةء فسلمت عليها وسألتهما 
عن رياب؟ فأجابتني الأخعت الصغيرة بأئها بخير. 
ودخلت الشقّة وذهبت إلى الحجرة فوجدتها في 
الفراش. والأم جالسة على الكسة. وردّت تحيّتي برقة 
وابتسام. ولكمي رأيت في عينيها ذبولا شديدًا كأتها م 
تلم ساعة واحدة في ليلتها الماصية» وساورني القلق 
واستحوذ عل الانقبااض. ولكنّني أخفيت ما قام سفسي 
أن أخيفها. وقلت متعمّدًا الكذب: 

ازالة حمق خالا ؟ 

فقالت باستسللام أوجع قلبي . 

اللحمد لله , , , 

وجلستٌ على طرف الكنبة قريبًا منباء وتيت على 
وجهها عينئ. كانت عاصبة وجهها بمنديل بن يبدو 
وجهها نتحته شديد الشحوب,. وتلوح في عينيها 
الذابلتين نظرة ساهمة. فغشيت صدري كابة» وضاقت 
بي الدنيا وبدا لي وجهها قبيخًا كالماء ولاحظت نازلي 


هائم كابتي فقالت بدهشة : 

ألم تجرّب وعكة البرد قبل اليوم؟ إِنْك تدللها يا 
مي كامل أكثر مما ينبغي . . . 

ومرّي عي قليلا بأنّ التي تستهين بالحال هي أمّها 
ولو كان بروجي ما يدعو للقلق لما ملكت الأم نفسها. 
وملتٌ نحو الفراش قليلاء ووضعت راحتىي على خدها 
فوجدته ساخئاء ولكئبا ابتسمت إلى وقالت: 

فا انين تعن والمسيفر لمعنه ارق نأ وي اللئلة 
الماضية. وسأاستردٌ انتعاشى إذا ما نمت ولو 

فقلت لا برجاء : 

حاولي أن تنامي مهما كلّفك الأمر, . . 

ونظرثٌُ في عينيها طويلاء فرنت إل دقيقة ثم 
خفضت عينيها بلطف. وم أجد بدا من الانصراف, 
فنبضت واعذًا بالزيارة عقب عودتي من الديوان, 
وذهبت . 

بلغث الديوان بعد الثامنة بعشر دقائق,» وعكفت 
على عملي. ولكنّ العمل لم يستطع أن يغيبني عن 
نفسبى. وعدت بفكري إلى رباب فتمثلت لي نظرة 
ينها الساهمة واستشعرت وحشة لم در لا سي ان 
وحاولت أن أنفنى في العمل ولكيّى لم أفز بطائل. 
وغلبتني على أمري نفسي التي تخلق المخاوف من لا 
شي فاشتدٌ بي القلق وجعلت أقول لنفسبي: إن 
رباب عجرت عن العودة إلى بيتهاء وهي تبدو مهزولة 
متضحعضعة فكيف أطمئنٌ؟... كيف أتركها؟! ول 
يكن تهافت قلبي حيال أخف الملّات بجديد علي. 
وطالما جافاني النوم لوعكة خفيفة تنتاب أمّيء فلعل 
ذلك الخوف كان أثرًا من هذا التهافت المقيم . أفظع 
بها من كآبة ثقيلة! إِنَْ قلبي ينقبض في خوف وألم. 
وكأنّه يكاتم صرخخة استغاثة تحاول أن تنطلق. لماذا 
أعذذب نفسي بتجرع غصص انتظار لا موجب له؟ 
وعند ذاك طويت الأوراق واستأذنت في الانصراف 
معتذرًا بمرض زوجي . وغادرت الوزارة في منتصف 
العاشرة. فبلغت البيت قبل العاشرة بدقائق... 
وكنت كلما اقتربت من البيت ازداد قلبي وحشة؛ حي 


١8 السراب‎ 


دخلته فيها يشبه الهلع» ودققت الحرس» وفتح الباب 
بعد قليل» ولشدٌ ما كانت دهشتي حين رأيت أمامي 
الدكتور أمين رضاء وكان هو الذي فتعحم الباب. 
وكانت الصالة الصغرى التي يفنح الباب عليها مغلقة 
الأبواب وليس بها سواهء ولم أكن رأيته منذ اجتاعنا في 
مأدبة الغداء بهذا البيت. ترى ما الذي جاء به في هذه 
الساعة المبكرة؟! وما الذي أبقاه وحده في هذه الصالة 
المغلقة؟ ومددت له يدي وأنا أقول: 


دا الجلؤم غلك | 

فمدٌ لى يده قائلا: «وعليكم السلام». وكأنني 
لاحظت أنه يحدجنى بنظرة غريبة من وراء عويناته. 
فقلت له: ٠‏ 

ألا تتفضل بالدخول؟ . . . 

فتحول عنى وهو يقول: 

إن منتظر في حجرة الاستقبال. 

واتجه بالفعل لحو باب الحجرة» وفتحه. ودخل» 
ومضيت إلى باب الصالة الكبرى وفتحته ودخلت. 
وسرت نحو حجرة نازلي هانم. ولكئني ما قطعت 
خطوتين حي قرع أذيّ صوت غريب لا أدري كيف 
أصفهء أكان تنّدًا طويلا؟ أكان صراخًا مكتومًا؟ 
ولكنّه كان آتيّا بلا ريب من وراء باب الحجرة المغلقة؛ 
حجرة رباب» واندفعت نحو الباب». وأدرت الأكرة 
وفتحته. ودخلت خافق الفؤاد من الهلع» وانجه بصري 
إلى الفراش فرأيت رباب نائمةء مغطاة إلى عنقهاء 
وقد التفٌ منديلها حول وجهها من قمّة الرأس إلى 
أسفل الذقن مارًا بالأذنين» كانت عيناها مغمضتين» 
وبشرة وجهها شاحبة باهتة» يشوبها بياض مخيف. لقد 
بعث الوجه المعصوب في نفسي ذكريات غامضة لم أجد 
وفنا لتوضيحها ولكنّه حرّك رعبًا كامنًا في أعماقي» ثم 
تبي لي في اللحظة التالية أن نازلي هانم جالسة على 
طرف الكنبة دافئة وجهها في وسادة الفراش» مغرقة في 
نحيب موجع» وأنْ «صباح» واقفة عند أسفل الفراش 
تولول باكية فلم تنتبه لدخولي. . . 

رباه! . . . هل حقًا مانت رباب؟! 


٠‏ السراب 


١ 

هتفت كالمجنون : 

خترانى ماذا حدث؟ 

والتفتت نحوي صباح وصاحت وهي تنشج : 

- سيدى . . . سيدي . . 

ورفعت المرأة وجهها في فزع ظاهرء وحملقت في 
وجهي بعيئين محمرّتين» ولبثت لحظة جامدة لا تكلم 
ولا تبكي. كأن محضري كان عليها أشدّ من الموت, 
ثم تنيقت وافيفيك في البكاء. رددت بصري بين 
المراتين في ذهول ثم استقرٌ بصري على الوجه 
الملعصوب. كيف أذعن لحكم هذا الواقع المحخيف! 
ونازعني قلبي المتفتّت إلى أن أرتمي على زوجي» وأن 
أبكي وأصرخ حيّى أموت. بيد أنَني لم أَبْدٍ حراتًاء 
سمرتني قوة غسريبة في مكاني. وملاتني قسسوة 
وحنونًا. .. واجتاحتني ثورة عارمة تتحدّى قوّة الموت 
نفسه وبطش القضاء. أبيت أن أصذّق عي 
واستعصى عل الاقتناع. ما معنى هذا؟ ولوحت بيدي 
للدم وسألتها بصوت كنت أسمعه لأول مرّة: 

ليقي و وي كر يا 

فبسطت ذراعيها في قنوط وقد خخنقتها العبرات. 
ولكنّ صباح أقبلت نحوي في حال من الهذيان مرعبة 
وصاحت بصوت مبحوح : 

- العملية المشكومة!. .. لعن الله العمليّة. 

وتحوّلت إلى الجارية في ذهول وصحت بها: 

دعملية؟ ... . آنه غملة!!؟ 

وأدركت عند داك أنني أشمٌ رائحة غريبة» فأدرت 
بصري في الحجرة حت وقع على خوان في ركن منها 
صَفْت عليه أدوات طبَيّة وأوعية وزجاجات وقطن. 
اقتربت من الخثوان وتفخصته بعينين زائغتين» متى 
جاءوا مبذا كلّْه؟ ومتى استقر الرأي عليه ؟ كيف حدث 
هذا؟... ونظرت إلى المرأة فوجدتها ترمق الجارية 
بلظرة قاسية غريبة. كازداد ذهولى وحيرقي». ثم حجر 
قلبي قسوة وجنوناء فألقيت عليها هذا السؤال بصوت 
ربيب : 


ونظرت المرأة إل بارتياع وارتباك ثم قالت بصوت 


مختلق بالعيرات : 


- اشتدٌ حال ابنتى فجأة فاستدعيت الطبيب فأشار 


فبالنها وكنت: اسعيلة:قنع] معدي | باهر 
الشخص الذي عرفه العالم قرابة ثلاثين عاما: 

- ف أي عضر؟ 

فقالت المرأة : 

قال الدكتور إِنه البروتون. , . 

وكنت أسمع الاسم لأوّل مرّة. ولكيّى لم أبال. 
ذلك؛ وسألت بالصوث الرهيب نفسه: 

هل أجرى العمليّة؟ 

- نعم... وانتهت بما ترى! 

فضربت الأرض بقدم حانقة وصحت مبا: 

- ولكبّي كنت هنا منذ ساعتين ولم يكن بها شيء! ألم 
تؤكّدي لي أن الخال أبسط من أن أجزع لما؟ ! 

فقَالت بصوت تخلقه الدموع : 

- اشتدذت وطأة الألى فجأة!. . . ما حيلتي؟... ما 
حيلتي ! 

تالف دون أن تأخدني بها رحمة : 

ومن عسبى أن يكون الدكتور القاتل؟! 

فرمقتني بنطرة كسيرة خلال دموعها وغمغمت: 

- لقد بذل ما في وسعه. ولكن قصاء الله سبق! 

من عسبى أن يكون؟ 

فصمتت لخطة كأنها تأخذ نفسهاء ثم قالت: 

- الدكتور أمين رضا. . . 

فُسَرت في جسدي رعدة شديدة. رذدت قوطا في 
ذهول: «أمين رضا!ك. ثم هتفت بها في غضب 
وازدراء : 

- الدكتور أمين رصا؟ ! . إنْه شاب مبتدى!. . . ثم 
إِنْه أخصائيٌ في الأمراض التناسلية ! 

فتولاها الارتباك» وراحت تقول: إِنّه كان أقرب 
طبيب إليهاء وإنّْبا ظنّت أنْ الطبيب يفهم الأمراض 
كافة مهما كان اختصاصه. وإنْ الوقت لم يكن يسمح 


بالتردّد ألخ ألخ. . . فانتظرت حي انتهت وأنا أنتفض 
غضبًا وحنقا, ثم الطلقتٌ مب ضحكة باردة كرئين 
النحاس وصحت: 

- طبيب تناسلّ ويجبري عملية في البروتون!. . . لا 
عجب إذا كنتم قتلتموها. . . 

ودرت على عقبي واندفعت إلى الياب وصصيحث 
بصوت كالرعد: 

نا 3 مسو : 

وكرّرت النداعء حبّى جاء من أقصى البيت ممتقع 
الوجهء ودخحل الحجرة في خشوع لا يوائم كيرياءه 
المعهود. فشعرت تحوه بحنق وكراهية تضيق عبهيا 
الأرقى هد وناذوتة كاناة: 

أخبرتني المانم أنك أجريت العمليّة التي فتلت 
زوجي فهلا دللتني على ما جعلك تأحذ على عاتقك 
إجراء عمليّة جراحيّة خطبيرة على رغم أن الجراحة 
اسك هن اندوا فاك | 

وبدا في وجهه الانزعاج. وحدج نازلي هانم بنظرة 
غريبة أعادت إلى خيّلتي نظرة المرأة إلى صباح فطفح بي 
الحنق. وداخلني شعور غامض بأنهم يدارون عثي أمرا 
خطيرّاء وصحت به بوحشية : 

- أجبني ! 

فالتفت نحوي مقطبًاء وصمث لحظة كأئما يشاور 
كبرياءه الضائع , ثم قال بصوت منخفض : 

- كانت في حاجة إلى عمليّة عاجلة. . . 

فقلت وأنا ري اد كت 

لماذا لم تدعوني؟... لاذا لم تستدعوا طبيبا 
جرّاخا؟ ! 

فقالت الأم بجرع : 

- لم يكن في الوقت متسع! 

فزعقت عها: 

- ولكن كان فيه متّسع لقتلها. . . 

وحملقت المرأة في وجهي يجنون وجعلت تردد: 
«قتلها... قتلها... قتلها!» ثم انفجرت بغتة 
ففقدت صواباء واغبالت على خذّيها لطبّاء وقد أرادت 
صباح أن تحول بين كفيها وخدّيهباء ولكتها ضربت وجه 


السراب ١4١‏ 
الجارية بقبضة يدها ضربة هائلة فتراجعت الحارية في 
فزع. ثم التفتت نحونا ممسكة عن اللطم وصرخحت في 
وجهينا - أنا والطبيب ‏ بصوت كالرثير: 

أنتها اللذان قتلتهاها. . . اغربا عن وجهي . 

وانفلت الطبيب من الباب» ولبئت وحدي أحدجها 
بنظرة قاسية لا تأبه لثورتها. «أنتما اللذان قتلتاهاء. إِنّ 
المرأة مذي . ولن تأخذني بها رحمة. ولن يبدأ خاطري 
حبّى أعمل عملًا ترتجٌ له القلوب. إن حيال جريمة. 
إلا نكن جريمة جهل وغباء» ولا بد أن يؤدّي الثمن 
غاليًا. لقد تمخض خضرع العمر فيّ عن ثورة جائحة 
وغضب ناريّ وشرٌ مستطير. نسيت الجحثة والحزرن 
وتخايلت الشياطين لعي . لتنقض الدواهي على رءوس 
المجرمين . 

وكانت المرأة تعول بصوت مزعج» وصباح تنتحب 
انتحابًا متواصلاء فتحوّلت عنها بحركة مفاجئة. 
وغادرت الحجرة لا ألوي على شيء؛ ثم مرقت إلى 
الخارج مهرولا كأن أفرٌ فرارًا. 


5١ 

بدت الدنيا لعي حمراء قائية. وركبني عناد جهنّمئَ 
دفعبي دفعًا لا قِبّل لي به إلى ارتكاب أيّ شر أنفس به 
عن صدري. وكنت في شك من بلوغ أَبْةَ نتيجة تشفي 
غليل ولكبّي لم أتردّد لحظة واحدة. وناديت تاكسي 
وأمرته أن يذهب بي إلى النيابة. ودخلت دار النيابة 
وليس في ذهني خطة معيئة أو مهمة صريحة. وجدثني في 
زحمة خانئقة وصكّت مسامعي ضوضاء غير تميزة كهدير 
اللجوع اللبيكا عاديا لفظات عد ترايت ربلا 
فتقدّمت منه وسألته أن يدلني على حجرة وكيل 
النائب. فقال لى يخشونة. «في الطابق الثاني 
فارتقيت السلّم واسترشدت بموظف إليهاء ثم 
استأذنت ودخلت. رأيت مكتيًا في مواجهة الداخل 
جلس وراءه شابٌ قصير نحيل» مكيبا على أوراق بين 
يديه» فرفم رأسه حين دخولي» وتفخصني بنظرة 

ثاقبة» ثم سألني : 

ماذا تريد؟ 


١5‏ السراب 


صدمني هذا السؤال البسيط فاستحال عق خواء. 
ووقست ذاهلا كائق لا أدري على وجه التتحديد لاذا 
جثت . ولاح التساؤل على وجه الشات فأعاد سؤاله 


قائلا : 

ماذا تريد؟ 

ينبغي أن أتكلم مهما كلفني الأمر. فقلت تاركًا 
مقودي للساني : 

- زوجي.. (كدت أقول قتلت ولكبّي عدلت عن 


دللفدكون ديزي ماتكاى . . 

فقطب الوكيل فيا يشبه الدهشة وقال: 

- وما شأن النيابة في ذلك؟! ولكن مَن حضرتك؟ 

وتنفست تنفْسَا عميقاء ووجدت رهبة النوف 
تزايلني. وعرفته بنفسى ثم قلت : 

كاه فصني يا سعادة الوكيل: تركت زوجي 
متوكة في بيت أمّها صباح اليوم. وعدت إلى البيت 
بعد مغادرتي إياه بساعتين فوجدتها ميتة. وقالوا لي | 
وطأة التعب اشتدّت عليها فجأة فاستدعوا طبيبًا قرينا 

من أقرباء أمهاء فرأ ى أن حالها تتطلب إجراء عمليّة 
عاجلة فقام مها وماتت على الأثر. . 

وازدردت ريقي وأنا أرمق الرجل بنظرة طويلة. 
ولم)ا وجدته غير قانع بما سمع استطردت قائلا : 

- الواقع أن هذا الطبيب أخصّائيّ في الأمراض 
التناسليّة» فهل يجوز أن يجري عمليّة جراحية؟ وإذا 
انتهت هذه العمليّة بالوفاة ألا يُعَذّ مسولا عنها فيجب 
أن ينال جزاءه؟ ! 

فصمت الرجل لحظة ثم سألني ٠‏ 

- هل ثقلت إلى مستشفى؟ 

ماكلا العريك العمليّة في البيت حيث ترقد 
ميتة الآن. 

من الذي استدعى الطبيب؟ 

- حماتق. . . 

وكيف انتدعتة: طيا ناسنا لا شان ل« رضن 
زوجك؟ 

- لقد سألتها نفس السؤال فقالت لي إنه أقرب 
الأطباء إليهاء وإنّْبا تظنّ أن الطبيب» مهما كان 


اختصاصه فهو يفهم الأمراض جميعا. . 

وهل هو الذي أشار بإجراء العمليّة؟ 

- نعم . 

وهو الذي أجراها؟ 

- نعم! وقد سألته كيف يجري عمليّة جراحية على 
حين أنه ليس جرَّاخًا؟ فقال لي إِنْ الحال كانت 


فتفكّر الرجل مليّاء ثم سألني : 

هل نهم هذا الطبيب اتهامًا معينا؟ 

فلم أفهم ما يعنيه» ورئنوت إليه في حيرة دون أن 
أنبس بكلمة» فسألنى : 

مغل الديلك لمات ما يحملك على اتبامه 
بقتلها عمدًا؟ 

نخفق قلبي . وهززت رأمى سلبّاء فقال متسائلا: 

هل تشْكٌ في حدوث خطأ أثناء العمليّة أدْى إلى 
الوفاة؟ 

اكلا عات جد اننا متشافة اللفى بولق يكون عرد 
خطأاء ولكنه مطأ رجل ليس له خيرة بالجراحة, 
فمسئوليته لا شك فيها. 

فعاود التفكير مرة 0 

- لا أستطيع أن أفضى برأي قبل أن يفحص 
الطبيب الشرعئ الحثّة» ويوضح أسباب الوفاة. . 

فاستحوذ عل خوف وكآبة. ولم أطق تصوّر عبث 
الطبيب بالحئة وفاض بي الألم فقلت: 

مهاد سكعت ان 

فلم يحفل باعتراضي., وأمسك بسناعة التليفون 
وطلب رقاء لم سمعته يحادث الطبيب الشرعيّ» ثم 
سألني عن عنوان البيت. وطلب إليه أن ينتقل إليه 
لعفن : نك و ركذي قور الغرق تعيب لوقنف انين 
الحديث ثم التفت نحوي قائلا : 

إذا كان ثمة مسئوليّة جنائية فسأذهب 

وغادرت دار النيابة بعد إتمام الأجراءات الرسمية 
وقد فقدت تبوري»ء فاستشعصرت خطورة ما أقدمت 
عليه. ليس الأمر لعباء إنه نيابة وطبيب شرع 


وبوليس وفضيحة وقيل وفال» وقد يتمخخض التحقيق 
عن لا شيء فلا يبقى لنا إلا الفضيحة والقيل والقال. 
بأيّ وجه ألقى الناس بعد ذلك؟ كيف ألقى أهلها 
وأهلي والئاس جميعًا؟! وألم يكفب زوجي ما قُدَّر ها من 
مصير تعيس حبّى أجعلها معرضًا للأطبّاء الشرعيّين 
ومضغة للأفواه؟ واحرٌ قلباه! هكذا عدث صوب 
البيت مثقل النفس بالهم والفكرء ولما طالعتني العمارة 
توقفت متردّدًا وقد أهاب بي نداء أن أنكص هاربًا! 
ولكن لم يكن لي مهرب, ولم يكن بدّ من أن أترّعَ 
مرارة الكأس حيقٌّ الثالة, , . 
ودققت اللترس. ثم دخلت واحما مستخزيا. . , 


15 

كانت الأبواب مغلقة إلا باب ححجرة الاستقبال كان 
موارباء ولم يكن بالبيت أثر من الضججة التى تشمل 
البيوت -حين الموت» فتولتني دهشة عفت على 
اضطراب نفسي. لقد جاوزت الساعة الحادية عشرة 
فكيف لم يطيروا الخبر المفجيع إلى بيوت الأهل 
والأقارب! وعاودني شعور بالارتياب والحنق. . . 

فنظرت إلى الخادم الصغيرة التي فتحت لي وكانت 
ملتهبة العينين من البكاء ‏ وسألتها ألم يحضر أحد؟ 

فهت رأسها سلبًا في صمت وحزن» فاشرت إلى 
باب حجرة الاستقبال الموارب وسالتها: 

هل تمه أحد هنا؟ 

فغمغمت قائلة «الدكتور أمين» فانتفضص جسمي 
غضبًا ومقنًا. ثم مضت الخادم إلى باب الصالة الكبيرة 
فدفعته ودخحلت وذهبت إلى الحجرة التى ترققد فيها 
رباب في أقصى البيت. لبثت وحيذا في الصاللة 
الصغرى لا أدري ماذا أنا فاعل» تنتابني مشاعر الرهبة 
بما أقدمت عليه وأحاسيس الغضب والمقت التي يثيرها 
في نفسي الحو المحيط بي. ثم سمعت وقع أقدام آتية 
من الداخل. وظهرت من باب الصالة الكبيرة نازلي 
هانم مكذلة في السوادء تألقت عل نظرة باردة وسألتني 
بانفعال قائلة : 

حدايق كنكاايا سدى؟ 


السراب 1 


فاستثار منظرها وسؤالها خوني وشعور الخزى الذي 
ركبني منذ فارقت دار النيابة ولم أعد أطيق حيس السرٌ 
الرهيب في صدري. نازعتني نفسي إلى الاعتراف. 
وإلى لقاء الخطر وجها لوجه. فقلت بهدوء: 

- ذهبت إلى النيابة وطلبت إجراء التحقيق! 

فانتسعت حدقتاها وفغرت فاهاء وجعلت تحملق في 
وجهي كأنها لا تصدّق ما سمعت أذناهال ثم غمغمت 
بذهول : 

النيابة . , . ! 

فقلت بهدوء رهيب»؛ وبصوت مرتفع لأسْمِع من في 
ححرة الاستقبال : 

- أجل ذهبت إلى النيابة وسيجيء الطبيب الشرعيّ 
إلى هنا عما قليل . 

وسرعان ما بدا الدكتور خارجًا من الثوى. فوقف 
غير بعيد ممتقع اللون ساهم الطرف. وعادت المرأة 
الذاهلة تسأل: 

- أيْة جهمة وجهتها إلينا؟ 

فقلت وأنا أقل الحقد والتشمي بوحمشية : 

- ليس ثمّة تهمةء ولكن أجزم بوجود خخطأ خخطير 
نجمت عنه الوفاة. خط خليق بأن يقع فيه من ليس 
له خبرة باللجراحة وهو يتصدّى للعبث بأرواح 
العباد! , , . 

وساد صمت متوثر أليم قلاقت فيه الأعين 
وافترقت. ثم شهقت المرأة شهقّة عصبيّة وهتفت بي : 

كيف هان عليك أن تسلّم جنّة زوجك للنيابة؟ 

ووخمزني ألم عميق فكادت تنهار قواي» ولكيّْي 
غطيت على الألم بغضب مفتعّل وصحت بعنف قائلا : 

- هّن علّ ذلك ألا تضيع حياتها هدرًا! 

وفغر الطبيب فاه ليقول شيئًا ولكنّ الجرس دق بقَوّة 
هلعت لما القلوب. فمضيت إلى الباب وفتحتهء فبدا 
شرطيّ ابتدرني قائلا : 

- هل توجد في هذه الشمّة المرحومة حرم كامل 
أفندي رؤبة الموظف بالحربيّة؟ 

فاجبته بالإيجاب» فتنخى الرجل جانبًا وهو يقول 
«(سعادة الطبيب الشرعئ». ودخل رجل ربعة يحمل 


8 السراب 


حقيبة طبية وتبعه الشرطيّ على الأثرى وصادف الطبيب 
الشرعيٌّ الدكتور أمين في مواجهته فسأله : 

- هل حضرتك الزوج الذي بِلَعْ النيابة؟ 

فقلت له وأنا أغلق الباب: 

نا الزوج يا بك. وهذا هو الدكتور الذي أجرى 
العملية. 

ورذد الطبيب عينيه بيننا في دهشة. وجرت على 
شفتيه ابتسامة خفيفة» ثم سأل الدكتور أمين قائلا: 

- أيّ عمليّة كانت؟ 

فقال الدكتور أمين بصوت منخفض : 

عملية في البروتون. . . 

- وما سبب الوقاة؟ 

حدث ثقب في البروتون نتيجة خطأ خارج عن 
إرادق. . . 

وقلت عند ذاك في انفعال شديد موجهًا حطابي 
للطبيب الشرعي : 

بح اادالة نا سعادة الطبيب عمًا جعله يجري عمليّة 
جراحية وهو ليس جراحا. . . 

فتردد الرجل لحظات ثم قال بصوت مرتفع : 

- لقد جنت للهمة أخرى. أين الجثة من فضلكيم؟ 

وكانت نازلي هانم واقفة بمكاها على كثب من باب 
الصالة الكبرى تردّد عينيها المحمرّتين في وجوهنا في 
صمت وذهولء. فلا أن سمعت الطبيب يسأل عن 
مكان الجئّة ندّت عنها آهة وهتفت بلا وعي قائلة : 

- هذا لن يكون أبذًا. . . 

فرمقها الطبيب بنظرة سريعة ثم قال لا نرقة : 

- تجمل بالصبر يا سيّدتي. . . 

وألقت عل المرأة نظرة مشتعلة بالغصب تم عادت 
إلى الطبيب تقول برجاء : 

- إِنَ المتوفاة كريمة رجل من كبار موظّلفي الدولة. 
جبر بك السيّد. كبير مفتشي الوجه البحري». لعلك 
تعرفه يأ سيدي». فارحم ضعت امرأة مثلي وانتظر 
عودئه. لقد أبرقت له بالفاجعة , 

فقال الطبيب برقّة : 

- ينبخي فحص اله بلا إبطاء حي يمكن التصريح 


بدفنها في الوقت المناسب. لا تفرعي يا سيدتي 
فسيلتهي كل كىء في دقائق . . . 

وارتك اماه عل بتكيس قاور عا أمرنقاة ود لحك 
تنشج باكية» على حين سرت أنا بين يدي الطبيب إلى 
حجرة رباب! ولم) بلغت الباب جاءني نحيب صباح 
من الداخل» فدفعت الباب وناديتها دون أن تواتيني 
الشجاعة على النظر صوب الفراش» ولبْت الجارية 
ندائي فنحيتها جانبًا موسعًا للطبيب الذي دخل 
الحجرة بلا ترددء ثم رددت الباب وراءه؛ وسألتني 
الجارية عن الرجل الذي جثت به فنهرتها في جرع 
ودفعتها خارج الصالة. ورحت أذرع المكان جيئة 
وذهانا في اضطراب شمل أعصابي جميعًاء ورانت على 
صدري كآبة قاتلة.» فتصورت جثة زوجي اللحبيبة بين 
يدى هذا الطبيب الغريب» بنزع عنبا الأستارء 
ويعبث بها في برود لا يعرف الرحمة . 

لقد ند عثي أنين موجع. وشعرت بأم حادٌ يمزّق 
قلبي إرباء ومرّت بي لحظات ذهول فخيّل إل أني 
فريسة كابوس شيطانٌ» وتلفتٌ فيها حولي كأئما أتلمّس 
نيد ا للتحاق تولك لاقيف الودهه الشاهي 
المعحصوب يجثم على جبيله شبح الموت الرهيب؟. 
رباه... إني أثوب إلى نسبى رويدًا رويدّاء تاركًا دنيا 
الجنون الذي ركبني إلى عالم الفجيعة الواقع» تمثّلت لي 
الحقيقة المرؤعة في شيء من الهدوء المحزن فكأتني أدرك 
أو لدقرة أن ريات مدخو اكد لم تعد من الأسحياء . 
وخلت منها حياتي إلى الأبد لن تعود إلى بيت كما 
قالت أمهاء وى أصحبها صباخًا إلى الترام» ولن 
أستقيلها مساء عقب عودتها من المدرسة وهيى تغالب 
التعب بابتسامة حلوة» انتهى الشباب الريّان. وانطفاً 
الحب الباهر.ء وصوحت آمال وآمال. أين ميّى ذاك 
التاريخ السعيد الذي بدا على طوار المحطة. 55 
ذكرياته من مادّة الحبٌ الأثيريّة» وطاف بي في وديان 
السعادة. ثمّ خلقني خلفًا جديدًاء أين مي هذا 
التاريخ الساحر؟ هل النتهى حقًا في دقيقة من الزمان 
بخطأ طبيب أحمن؟ , , , وما ذنبي أثا وم “اموت 
كارثة فظيعة بيد أنه غير مقنع!... ألم يكن أحدّثها 


منذ ساعتين؟ ألم تكن كالوردة اليانعة منذ يوم أو 
يومين؟ فكيف أصذق أنها صارت وأول ميت منذ 
ملايين السنين سواء. ثم إثها حيّة في نفسي. إني أراها 
رؤية العين. وأسمعهاء والمسهاء. وأشمهاء إنها ملء 
النفس والقلب» فهل من سبيل إلى إصلاح خطأ 
بسيط؟ ! 

وحدثت حركة ‏ لا أدري إن كانت جاءت من 
الصالة النارجيّة أو من اللججرة المحزونة - ولكنها 
أعادتني إلى وعيى فعلق نخاطري بالطبيب وما يفعله. 
عاودني اضطرابي وقلقي وتخخاوني. ماذا أفعل لولم يعثر 
الطبيب بشىء ذي بال؟ كيف ألقى القوم فييما بعد؟ 
لشدّ ما تنيت أن يُنزل الله عقابه بالقاتل؟ بيد أني 
لبثت على حال من الاضطراب لم نترك لي سبيلا إلى 
نفسي أو عقلي. وطال الزمن واستطال حيّى خيّل إن 
أني شخت وهرمت وأنيٍ أموت. ثم فتح باب الحجرة 
ولاح وراءه الطبيب بوحه جامد لا يبين عن شىء. 
وتقدّم خخطوات فصار في منتصف الصالة. فوقفت 
حياله فاغر الفم شاخص البصرء ومسح بأنامله على 
جبينه ثم قال بدبرات واضحة : 

لقد انتهيت من كتابة تقريري» وسأحوله إلى 
النيابة في الحال» وأظنّه يستوجب تحقيقًا عاجلا. . . 


+ 
كان ينبغي أن أشعر بارتياح وتشفٌ, ولكن خارت 
قواى فجأة فارتميت على أقرب مقعد ومددت ساقي 
والكيتلقية لا نكتة النوم , وم يحدث فى فثرة الانتظار 
التي أعقبت خحروج الطبيب إلا اندفاع نازلي هانم 
وصباح إلى حجرة المتوفاة. وتصاعد النواح والبكاء , 
ولاحت متي نظرة إلى الصالة الصغرى فرأيت الدكتور 
أمين رضا يذرعها في بطء وتثاقل. وقد جلس الشرطيّ 
على كرسي عند باب حجرة الاستقبال. 
وعنن متمك الطاعة الوالحذة ون درسي ترقز 
الشرطئ وفتح الباب». ودخخل وكيل النائب يتبعه كاتب 
وشرطع, وخفق قلبي في ارتياع لرؤية رجال الحكومة. 
ونبضت قائرًا واتمهت صوب الرجل. ثُمْ رفعت يدي 


١5 السراب‎ 


بالتحيّة. وسأل وكيل النائب عن حجرة المتوفاة ثم 
مضى إليها توًا يتبعه الكاتب. ولم أجد الشجاعة للْحاق 
بماء فانتظرت خارجًا. ولم يطل غياءما فعادا مرة 
أخرى» ونظر الرجل فيم| حوله ثم سار إلى حجرة 
الاستقبال وأنا في أثره: وجلس على كنبة؛ واقتعد 
الكاتب كرسيًا قريبًا باسطا أوراقه على نضد. ووجّه إل 
أسئلة عن اسمي وعمري ووظيفتي وطلب إل أن 
أروي معلوماتق عن الحادث. فصدعت بأمره والكاتب 
يسبّل كل كلمة أقولها. ثم استدعى الدكتور أمين 
رضا فجاء الدكتور جامد الوجه شاحب اللون؛ وسمح 
له بالجلوس أمامه. ثم وجّه إّ الخطاب قائلا : 

بوسعك أن تبقى معنا إذا شئت! 

وتخيّل إل أنى وجدت في لهمجته ما يشبه الأمر, 
وكانت رغبتى في حضور التحقيق لاا توصف». فجلست 
على مقعد ملاصق للكنبة التي جلس عليها المحقّق وقد 
ملكتي الرهبة والتاثّر. وبدأ الرجل يلقي عليه أسئلة 
عام عن الاسم والعمر والمهنة , ثم قال له: 

أخبرني كيف اتصلت ببذا الحادث من بادئ 
الأمر؟ 

فقال الدكتور أمين بلا تردّد : 

استّدعيتٌ إلى عيادة المريضة زهاء التاسعة صباحًا 
فوجدتها في حال سيّئة من الألمء ففحصتها فتبيّن لي أن 
البووتون ملتهب وأنه يستوجب عمليّة عاجلة فقررت 
إجراءها إنقاذًا لحياة المريضة. وأعلنت رأبي لأمّها 
فوافقت..وق الخال أجرعها» ,ولكن عدت أن تق 
الغشاء ثقبًا خطيرًا. وذهبت مجهوداتق في إنقاذها 
سدىء فتوفيت. . 

هل سبق لك أن عالحت المتوفاة؟ 

0 

ولا في هذا المرض الأخير؟ 

كلاء وقد علمت أنّا رقدت ليلة واحدة وكانوا 
بظنونها مصابة بنوبة برد. 

هل من عادة هذه الأسرة أن تستدعيك فيها يلم 
بها من أمراض؟. . . 

ل صل هذاء إلى أن لم أزاول مهنتي إلا منذ 


5 السراب 


شهور لا تجاوز العام ولا أذكر أنْ أحدًا من الأسرة قد 
مرض في هذه الفترة. . 

- هل تظتهم كانوا يستدعونك في مثل هذه الحال؟ 

- الواقع أئْبم استدعوني في أوّل حال عرضت هم , 

ألا يعرفون اختصاصك؟ 

- بلى ولكن شدّة الال جعلت الأمّ تستنجد بي» 
لقرب عيادتي من ناحية» وللقرابة التي تربطني بها من 
ناحية أخرى, 

لا أرى في هذه الظروف ما يمكن أن يور في 
اختيار الطبيب» ثم أنت كيف توافق على تلبية دعاء 
لحال مرضيّة تعلم أئّبا ليست من اختصاصك؟ ألا 
يشير الأطباء في أمثال هذه الظروف باستدعاء الطبيب 
المناسب؟ 

دزايت اللياقة تتفي بأن ألبي الدعوة على الفور. 
فذهبت وفي ظَئ أنْها حال إغماء أو مغص شديد أو ما 
شاكل ذلك ما لا يُعجز طبيبًا على الإطلاق» وأظنّ 
هذا ما دار بخلد الذين استدعوني. 

ولكنّك وجدت الأمر أخطر مما تصوّرت فكيف 
كان تصرفك؟ ١‏ 

فأمسك الدكتور عن الإجابة وخفض بصره في 
ارتباك وترو» هبادره المحشّق قائلا. 

- للاذا لم تُشِرْ باستدعاء جرّاح؟ 

كانت الحاجة ماسّة إلى عمليّة عاحلة. 

- هل مارست الجراحة قبل ذُلك؟ 

في الكليّة طبعًا! 

- أعني بعد ذلك؟ 

ا 

- يدهشني أن أتصور إقدامك على إجراء هذه 
العملية المخطيرة. 
فقال الدكتور أمين وقد تخيّرت نيرات صوته قليلا 
واعترتها حذة عصبية : 

قلت إِنْ الحال كانت خطيرة وتستدعي إجراء 
سريعًا! 

وكيف أحضرت الأدوات الطبيّة اللازمة لهذه 
العمليّة! هل كانت توجد بعيادتك؟ 


ولأوّل مرّة تردّد الدكتور قبل الإجابةء ثم قال: 

قاد رون 

الل 

دوقع ريل 

جرّاح؟ 

ا 

- ولاذا لم تحضره؟ 

- كان مرتبطا بعمل في نفس الوقت. . 

من عسبى أن يكون هذا الدكتور؟ 

فتردّد مرّة أخرى, ثم تورّد وجهه الشاحب وقال 
بصوت ملخفض : 

الحق أني أحضرتها من المستشفى» مستشفى فؤاد 
الأول. 

- بصرف النظر عا إذا كان هذا التصيئف سليًا أم 
لا من الناحية الإدارية؛ ألم يكن الأخلق بك وقد 
رأيت أنك لا بد منفق وقشا غير قصير في إحضار 
الأدوات بطريقة غير مشروعة؛ ألم يكن الأخلق بك أن 
تستدعي جرّاحًا خصوصًا وأنْ استدعاءه لم يكن 
يستنفد من الوقت أكثر ما يستنفده إحضار الأدوات؟ 

فتفكر مليّا ثم بارتباك ظاهر: 

- كنت متأثرًا بحال المريضة فلم أفكر في هذا. . . 

الأقرب إلى المنطق أنه كان ينبغى أن تفكر في هذا 
بسبب هذا التأثر نفسه. وهب الحىّ كا تقول» فلاذا 
لم تنقل المريضة إلى المستشفى حيث يوجد الأخصائيون 
بوفرة؟ 

لم توافق أمّها على نقلها. . . 

- ألم يكن هذا أقل خطورة من تسليمها ليد غير 
خبيرة؟ ولكن لندع هذا الآن. . . 

رسظ :لحتل مصعيقة ون وتيف رض يضر عل 
سطورهاء ثم قال وهو يعتدل في جلسته : 

ما رأيك في هذاء إني أراجع الآن تقرير الطبيب 
الشرعيّ فإذا به يؤكّد أنْ التهاب البروتون لا يستوجب 
هذه السرعة التي تتحدّث عهها كما تستوجبه بعض 
حالات الزائدة الدوديّة مثلاء فا رأيك في هذا؟ 

فلاذ الدكتور بصمت عميق., ونم لمعان عيئيه عن 


تفكره وقلقه. وعاد المحقّق يقول: 

- ويقول أيضًا إِنْ العمليّة تستدعي بضع ساعات 
للتاهب لما يتناول المريض في أثنائها شربة عادة» ألم 
تعلم مبذه المبادئ الأولية في فنْ الجراحة؟ 

- علمت أن المريضة تناولت شربة مساء أمس ولم 
تذق بعدها طعاما. . . 

هل أخذتها استعداذًا للعمليّة؟ 

كلا... أخذما بسبب ما ظنّ بها من برد, أمَا 
فكرة العمليّة فلم تنشأ إلا بعد حضوري اليوم . 

واشتدٌ انتباهى عند ذاك؛ وعجبت كيف لم يذكر لي 
أحد أنَّ زوجي تناولت شربة. وذكرت كيف أبقيت 
نذا البيت مع أنه كان بوسعها أن تعود إلى بيتنا ولو في 
تاكسبي, وداخلبي شعور ثقيل بالغموض والخيرة. 

وعاد المحمّق يقول: 

إي حيال عمليّة أجريت سرعة جنونية لغير ما 
سبب في يستدعي ذلكء وبي طبيب غير جراح كان 
بوسعه ولا شك أن يدعو جرَّاحًا مختصًا. . . فها معنى 
هذا؟ 

وألقى المحمّق على الدكتور نظرة نافذة باردة» فتردد 
بصري بينها في قلق متزايد وخوف غريب,. وبعث 
الاضطراب في نفسي توّرًا حادًا. ثم سمعت المحقق 
يقول: 

- إني أتساءل عن الضرورة التى حتّمت أن تكون 
أنت الجرّاح. وفي هذا الوقت بالذات؟ 

وسكت مليًا ثم استدرك متسائلا : 

- وما سيب الوفاة؟ 

ثقب البروتون... 

فقال المحقق ببرود: 

- يقرّر الطبيب الشرعئ غير هذا. 

فتساءل الدكتور أمين رضا مستنكرًا : 

فيا عسبى أن يكون السبب إذن؟ 

هذا ما يخلق بك أن تدلني عليه بنفسك! 

فقال الدكتور وقد اعتور نيرات صوته ذلك التوثّر 
العصبىٌ : 

لا أفهم ماذا تعبي. . . 


السراب /ا8١‏ 


- سازيد لك المسألة بياناء يقرّر الطبيب الشرعي 
أن التووتون قن نشي بحنا ولك ,رفك انهل روسن له 
شيء على الإطلاق من مرض أو التهاب؛ وأنْ حاله لم 
تكن لتستدعي علاجًا على الإطلاق فضلا عن عمليّة 
جراحية | 

- ولكئّى أجريت العمليّة بنفسي . 

- م تمر عمليّة على الإطلاق فيما عدا ثقب 
البروتون. 

فقال الدكتور بصوت متهدّج وبحذة غاضبة: 

- أتريد القول بأني ثقبت البروتون بلا داع !. . . ما 
00000" ْ 

أنت ثقبت الروتون فقتلتها! 

- في أثناء إجراء العمليّة. . . 

أؤكد لك أنْك لم تر عمليّة البروتون. . . 

فصاح الدكتور في غضب: 

- أتتهمني بأني تظاهرت بإجراء العمليّة كي 
أقتلها؟ . . . أتتهمني بالقتل يا حضرة المحقّق؟ 

فقال المحقّق مهدوء : 

إنْني أتّبمك بالقتل حمّاء وستوافقني عا قليل على 
رأبي. وسترى بنفسك - بغير حاجة إلى نصيحي - أنه 
لن مبيّىء لك بعضى النجاة إلا الصدق والصراحة. 

انكف وجه الدكتور وازداد تجهًاء وركبته حال تعسة 
من القهر. أمّا المحقّق فقد ألقى نظرة أخيرة على تقرير 
الطبيب الشرعيّ؛ ثم استطرد قائلا: 

لماذا أحدثت هذا الثقب القاتل باليروتون؟ 

فقال الطبيب في تجهم» وفيما يشبه اليأس : 

- لقد أجبت على هذا من قبل! 

يجدر بك ألا تتغلبى وأنت بلا شلكٌ شابٌ ذكئ. 
لقد أحدثت هذا الثقب لتخلق سببا ظاهرًا «مشروعا» 
للوفاة التي ظئنتها لا محالة واقعة. . . 

أطرق الدكتور صامبًا وبدا كشخص يعترف 
مستسدلماء واستطرد المحقق قائلا : 

كنت تجري عمليّة حمًا ولكن في موضع آخر من 
الجسمء ثم حدث ثقب خطأ ني هذا الموضع الآخر 
فظئنت لقلّة خيرئك بالجراحة أنه سيقضى على المريضة 


4 السراب 


حتًا فيا عسى أن تفعل؟ لو عرف سبب الوفاة الحقيقي 
لكشف الغطاء عن العمليّة الجراحيّة وهى غير 
مشروعة, وهنا هذاك عقلك المضطرب إلى حيلة 
جنوئيّة» وهي أن تثقب البروتون فَيِظنْ أنه سبب 
الوفاة» ثمٌ تدّعي كذبًا بأنك كنت تجري عملية في 
البروتون» بذلك تحكم الستار على جرية العمليّة 
غير المشروعة؛ أما قتلك مريضًا خطأ فلا يقع تحت 
طائلة القانونء ولكنك أخطات» فلمريضة لم تمت من 
الثقب الأول ولكنّك قتلتها وأنت تثقب البروتون. 

انتفض الدكتور انتفاضة عصبيّة عليفة. وهتف 
بالمحقق وكأنه فقد وعيه : 

كلا. . . كلا. . . لقد توفيت تامًا قبل أن أثقب 
البروتون. . . ! 

وجرت على شفتي المحقّق ابتسامة خفيفة» ألقى 
على الدكتور نظرة ظافرة» على حين أطبق الآخر شفتيه 
في صمت وذهول» ورفع عينيه مرّتين إلى وجه المحقق 
في حنق وقنوط بدا لي وكأنه قد صُرع تحت وقع ضربة 
قاضية فكُلب على أمره. بيد أنْنى لم أل بالا إليه. كان 
عقل ينتفض حرارة حركة وهياجاء عملية غير 
مشروعة! عملية البروتون ما هي إلا خدعة زائفة 
للتسكر على جرية! إمَّا أن أكون مجنونًا أو يكون 
الرجلان مجنونين!... توفيت تمامًا قبل أن يثقب 
الروتون!... رباه! أكاد أخرج عن طوري فينفلت 
لساني هاذيًا رغم وجود هذا المحقّق المخيف. على أن 
المحقق خرق الصمت الثقيل قائلا في هدوء: 

اتفقناء وأظنٌ أنه آن أن تعترف بأنّه وقع الاختيار 
عليك بالذات دون أطبّاء مصر حميعًا لإجراء عملية 
إجهاض ! 

1 يتوققف عند هذا الحدّء ولكنّه واصل حديئه, 
ولعلّه ذكر فيها قال البنج وآثره أو شيئًا من هذا القبيل. 
ولعل الآخر نطق ببضع كلات كذلك, ولْكيُ لم أعد 
أعي شينئًا مما يقال. تعلق ذهنى بقوله: «عمليّة 
إجهاض» وامتنع عن السير. لقد وفعت عل هذه 
العبارة فشطرتني شطرين» ثم مقتني إرباء ودوّت في 
رأسي حيّى ذهلت بها عن كل شيء؛ غاب الرجال 


النلائة عن ناظريّ, وظلافت: لكر »ور انك تتراما 
يفا تمتزج فيه الحمرة بالسواد. وتتراقص فيه أشباح 
مرعبة من الذكريات والخواطر... عملية 
إجهاض. . . كانت رباب حبلى!. الخنطاب. هذا 
الطبيب الشابٌ... يستطيع الشيطان ولا شك أن 
يؤلّف من هذه الحقائق المتنائرة جريمة مروّعة. ساخيرًا 
من شكّي الذي دفعني إلى التجسّس حيئناء هازنًا 
بالطمأنينة التي آويت إليها سادرًا حينًا آخر... إن 
المحقّق يسعى جاهدًا وراء جرية طبَيّة. وسيعثر بي 
طريقه الشائك بجريمة أدهى وأمرّ. ألم يحدس قلبي 
الكارثة من بادئ الأمر؟! أيكون الطبيب هو صاحب 
الخطاب؟ أم إنْهم استشفعوا بقرابته على التستر 
والكتمان؟ ولكن لا شك أنْ الأمّ كانت تعلم كل 
شىء.. كل شىء عن حياتي الزوجيّة.» وزلة ابنتها. 
ركلوا أ رافك أن كلمن آنار: ا تيه ب العماك را 
أن هتك الموت تدبيرها. آه يا رباب! إِنْ كل عذاب 
نُصِابٌُ به في هذه الدنيا حقّ وعدل لأثنا نتفانى في حبّها 
عل حين أئَّا لا تستحقٌ إلا المقت. 

واستيقظت على صوت المحقّق وهو بهتف بي: 
زهو .. اصمّ !) فرفعت إليه عيني تعر هنا وعدت 
رويدًا رويدًا إلى الشعور بما حولي. قال الرجل : 

- إني أسألك ألم تصارحك زوجك بكراهيتها 
للحَبّل؟ ألم تفض إليك برغبتها في إجهاض نفسها؟ 

واسترقت من الدكثور أمين نظرة سريعة. وقلت 
لنفسي إِنّه يعلم السرٌ كلّه من بادئ الأمرء ولعلّه يعلم 
أضعاف ما أعلمء. فعرٌ عل أن أاكذب وأن أعررض 
نفسبي لإهانة جديدة» وتمتمت قائلا : 

او 1 

- أكنت تراها مسرورة بحبلها؟ 
فقلت في غير مبالاة وقنوط : 

لم أعلم أثّْبا كانت حبل إلا هذه الساعة! 

فارتفع حاجبا المحقق فوق عويناته. وثبته على عينيه 
وهو يفدح فكره ثم سألني : 

- كيف تعلّل إخخفاءها الأمر عنك؟ 

لد ما زلزلبي هذا السؤال! إنها كلمة واحدة ثم 


يصبح سرّي نادرة المتددرين .. إِنّْ مشاعر الحقد 
والانتقام تستفزني - حميعًا إلى نشر هذا السِرٌ الدفين كي 
أهتك سر الآثمة ل استقامي بالمجرم. أريد أن أقول 
نه لى يكن في حياتنا ما يدعو إلى الحبل ليضع المحقق 
يده القاسية على الفاسق. ولشدٌ ما نازعتني نفسي إلى 
ذلك وأوشكت الكلات أن تثب إلى طرف لساني. 
ند لق ل انيسن بكلمة. وحل بي شلل عامٌ لا أدري 
ما كنبه. هل يمكن أن يكون للخجل أثر حتّى في مثل 
هذا الحال؟ . . . هل يمكن أن تفوق رغبتي في التستر 
على عجزي تحرّقي إلى الانتقام؟ لم أستطع التفوه 
بالكلمة الفاصلة: وكلّما مرّت ثانية ازددت عجرا 
ونكوصًاء ثم تمتمت قائلا وأنا ألحث : 

1و1 

وما أدري إلا والدكتور ينتفض واقفا ثم يتراجم 
خطوتين شابكًا ذراعيه على صدره في تحد وكبرياء 
وغطرسة! ويقول للمحقق بثبات وعجرفة : 

- تسأله عا لا يدري. إِنْها لى تكن زوجه إلا رسميًا 
فحسبء وإِنِ أنا المسئول عن كل شيء من البداية إلى 
النباية . . ْ 


55 

غادرت البيت دون أن أرى أحدًا من أهله. فلم 

يعد البيث بيتي ولا الأهل أهلي. ووقفت عند باب 
العيارة فجرى بصري إلى المحطةع ممطة الذكريات» 
وطاب لي أن أرذده بينبا وبين الشرفة. ' لم أغمض 
عي لأرى موكب الذكريات يمر كلمح 0 صورة 
صادقة من الحياق. جامعًا بين طرفي ملهاتها ومأساتبا. 
ثم انطلقت في الطريق بلا غاية كأنئما أجدٌّ في الهروب». 
استحال قلبي جمرة من نار يتطاير عنها شرر الغضب 
والشفاء والمقت. وقد خخيل إلى أنْ هذه الدنيا العاكفة 
على «مومها ستتنابى شجوبها غدذًا وتغرق في الحديث 
عن فضيحتي. على أنْني لم أكن قد أفقت من دهشتي 
ولم أزل أتساءل عا حمل الدكتور المجرم على الاعتراف 
بالحقيقة الحائلة! لقد هاضني الحبن فكتمت الحقيقة, 
ووهبته بذلك فرصة للهرب لو أراد هرباء ولكنه 


١4 السراب‎ 


انتفض واتفًا غاضبّاء وألقى بالحقيقة من بين شفتيه في 
غطرسة وكبرياء: «لا تسأله عمّا لا يدري إنها لم تكن 
زوجة إِلَّا رسميًا فحسب». ربا لماذا لم أدقٌ عنقه. ؟ 
لاذا لم أرم بنفسى عليه وأنشب ب أظافري في قلبه.؟ 
لتَلهبئني هذه الذكرى حيّ الموت بمثل السوط اشتعلت 
أطرافه بالنار. ولكن ما الذي جعله يرمي بنفسه إلى 
الحلاك!؟ 

هل حمله اليأس من تيرئة نفسه من إحدى التهمتين 
على الاعتراف بالأخرى؟ أو أنه راعه ما جنى الحبٌ 
على حبيبته فنازعته نفسه في ساعة يأس |[ إلى أ 
يشاطرها المصير الأليم؟ أهي ثورة ضمير أم ثورة قلب 
أم الاثنين معًا؟! مَن لي بأن أطلع على سر هذا القلب 
التغطرس؟ بيد أنْنى ازددت حيرة وجعلت أتساءل: 
كيف هان عليه أن يرسلها إلى القبر مكفنة بالفضيحة؟ 
ألم يكن الأخلق به أن ينتهز الفرصة المبذولة فينقد 
نفتسية سين شرف المبرأة الق؛ احنهها , : 
.. أتراه نادمًا الآن على ما بدر منه أم لا 
يزال منتصب القامة غطرسة وعجرفة؟. . . إِنّه لغزء 
وسيظل لغرًا بالنسبة لي إلى الأبد؛ وكان قلبي متورما 
من الحقد والخغضب فوجدت في المصير الذي قضىي 
عليهما به هي في القبر وهو في السجن راحة 
وغبطة . 

وكانت قدماي قد حملتاني إلى ميدان الإساعيليّة 
فلم أجد مهربًا خيرًا من حدائق قصر النيل فانجهت 
صوب الحسر. . . آه لو أستطيع أن أغيب عن القاهرة 
عامًا! ولم يدرٌ لي ببخلد أن أشيّع جنازة المرأة الي كانت 
زوجًا لي إذ لم يعد بوسعي 
يعلمون بحقيقة المأساة. 1 هل تروّجت حمًا؟ لم 
نكن إِلَّا مهزلة طويلة, أو مأساة على الأصمٌ. ولشدّ ما 
تملكت الدهشة أهلي اليوم أو غدًا إذا علموا بِأنْ زوجي 
مانت ودفدت دون أن يدعى أحد منهم لتشبيع الحنازة, 
ولكن سرعان ما تذهب دهشتهم إذا عرفوا الحقيقة 
وسرعان ما يلهيهم التندّر با عمّا عداه» ويا لما من 
أحدوثة حقيقة بأن نحبي محافل السمر! وتفبض قلبي 
وشعرت ببرودة تسرى في أطراني . لشدّ ما تعاودني 


وأحيّته؟! . 


سعي أن أبدو أمام أحد ممن 


هن ١‏ السراب 


تلك الرغبة القديمة في الههرب! أين منى بلد بعيد لم 
يطرق أبوابه طارق» من لي بأن أقطع كل صلة تربطني 
بماضيّ السغيض! آه لو يمكننى أن أولد من جديد في 
عالى جديد لا تطالعي فيه ذكرى من ذكريات هذا 
العالم, أجل لن أستطيع أن أواصل حياق على حين 
يتبعنى هذا الماضى كالظل الثقيل... وقضيت بفيّة 
النبار متخبطًا في الطرق أو جالسًا شاردًا في الحدائق. 
لذ اكبعر وندة نولا رفول بقلما :عق ادف التتفيين 
بالمغيب وانتشرت سمرة المساء فوق رءوس الشجرء 
فعدت من حيث أئيت فى خطو ثقيل؛. ودلغت ميدان 
الإساعيليّة وقد هبط الظلام على الكون فملكتني الخيرة 
ولى أعرف لنفسي مذهباء ثم وثبت إلى ذهني صورة 
الحائة فجأة فتبّدت من الأعباق» وندّت عن أعصابي 
المتوتّرة المكلومة آهة ارتياح كأئما حظيت بفرحة بعد 
طول اختناق. وفي اللحظة التالية كان التاكسي ينطلق 
بي إلى شارع الألفي . بيد أن ارتياحي ولى سريعاء 
وحلّ محله قلق والقباض وتردّدء وجعلت أتساءل: ألا 
يجمل بي أن أولي وجهي وجهة أخرى! وغادرت 
التاكسي حيال الحابة ولكيّ لم أمض إليهاء ورحت 
أتمَنّى على الطوار في خطى بطيئة مثقل الرأس 
والقلب» وغلبني اليأس» فانسقت معه إلى داخخجل 
|الخانة ا منفردّا» وشربت كأسًا وأخرى. 
وعللت. وما تكاد رأسي تستجيب للخمر. ولكبي 
شعرت بالجوع بغتة فأكلت بهم وشهوة عجيبة وما 
كدت أفرغ حبّى حل بي تعب شمل معدتي ورأمي 
وأعضائي حيعًا فكأنَ جهد اليوم المبرّح قد وجد غرّة 
فزحف عل بجحافله وناخ عل بكلكله. ونبضت 
مترنّخّاء وغادرت الحانة إلى تاكبى واقف غير بعيد. 
فانطلق بي صوب قصر العيئي» علاني التعي واللتهد. 
وسرى في جسدي تخدير: وتولاني شعور طارئ بعدم 
المبالاة» فرمقت مأساق بعين ساخرة. فبدت لي لحظة 
كأئا مأساة شيخص غريبء أو كأئّها انترعت من حياتي 
الخاصّة واحتلّت موضعها من موكب المأساة الإنسائية 
العامة. وجعل التاكبي بطوي الطريق حتّى شارف 
موقع العمارة التى امتحنتنى بها الدنياء وانطلق بصري 


صوببا لا يغمض وقد تقلّص قلبي وتوالت ضرباته 
فرأيت النور يشِمٌ من الشرفة والنوافل. أمَا أمام مدخل 
العبارة فقد أقيم عمودان طويلان يتدلّ متبها مصباحان 
كبيران مضاءان. قفي الأمر. . . 


م6" 

ذكرت وأنا أرتقي سلم بيتنا أمّى فارتعدت فرائصي 
واستحوذ عل حنق فظيم كأنه شيطان, ترى ماذا 
أحنقني؟. . . وسألت نفسي في حيرة عا عبى أن أقول 
ها.. . ريّاه! ما الذي جاء بي إلى البيت؟ هل ظننت 
أنه يسعني أن أقضي هذه الليلة في حجرة «رباب» وعلى 
فراشها؟ على أنني واصلت ارتقاء السلّم كأنّه قضاء 
محتوم » ودخلت الشقة بصدر منقبض ووجه مكفهرء 
وجاءنىي صوت أي وهى تتساءل في لهفة وجرع قائلة : 
«من؟» فجمدت في مكاني غاضبًا حانقًا ثم قلت 
بخشونة : «أنا) فهتفت بي بصوت بالك: 

- كامل. تعال يا بن . . 

فخفق قلبي بعنف. وأيقلت أنها علمت بمصير 
«رباب» وذهست إلى حجرتها وكانت جالسة في 
الفراش» فمدّت إل يديها وهي تنشج باكية وقالت 
بصوت تمنقه الععرات : 

- ليتى كنت فداءها!.. كان ينبغى أن تبقى هي 

فوقفت في وسط الحجرة متجاهلا يديها الممدودتين» 
وسألتها فى حمود وغلظة : 

كيف عليت اندر 

فهتفت بصوتها المختئق : 

- كيف نسيت يا ببىّ أن تخبرني؟ إني أدرك من هذا 
شدّة حزنك. وقد تفتّت قلبي رثاء لك. . . ليتيي كنت 
الفداء لك وطهاء أنا العجوز المريضة» ولكئه قضاء 
ربنا. 
لم يدل تأثرها جمود نضي. فلم أستجب هاء 
وسألتها وكائني لم أسمع كلامها: 

انو ادر 

- لقد انتظرت عودتك اليوم في قلق» ولمًا أن جاء 


المساء ولم تحضر بلغ مث الخوف. فوصفت للخادم 
موقع العمارة وأرساتها إلى هناك, فعادت إل بالخبر 
الأسود. . 

ورمقتها بنظرة مستريبة وسألتها بصوت منخفض : 

هل علمت كيف ماتت؟ 

فعاودها البكاء وهي تقول: 

- كلا يا بيّ! ولا زلت في حيري وذهولي. أسفي 
على الشابّة المسكينة.: كيف وافاها الأجل على غير 
ميعاد؟ 

وداخلني ارتياح سرعان ما فتر وحمد... ففيم 
أخصدع نفسي براحة كاذبة وما من قوةٌ في الأرض 
تستطيع أن تواري فضيحتي؟ وأضجرني بكاؤهاء ووقر 
في نفسى أنه أمارة حزن كاذب نما يصطنعه النساء 

ماتت كيها يموت الئاس آناء الليل وأطراف التهار, 
وكيا مات جدّي وأبي وكما سئموت جميعا. . . 

وضغطت على «جميعًا في حنق» ثم بادرتها متسائلا 
في سأم : 

6 

فرنت إل خلال دموعها بوجوم وكابة وتمتمت: 

وددت لوا كنت قذاءها. . . 

فغلبئي الانفعال وقلت بحذدة: 

كذب؟!.. . محال أن يرضى إنسان بأن يفتدي 
آخر من الموت . . . أكنت تقولين هذا لو كانت ما تزال 
على قيد الحياة؟ ! 

وأحدقت في وجهي بارتياع» ثم غضت بصرها في 
وجوم وألم. وساد الصمت مليّا حيّى خرقته متمتمة: 

أسأل الله أن ينزل سكينته على قلبك . 

فقلت بجفاء : 

لا حاجة بي إلى الدعاء. بيد أثني أكره الرياء 
ولا يمكن أن أنسى أنك أبغضتها حيّى قبل أن تقع 
عليها عيناك . 

فرفعت إل وجهها في استعطاف واألم وقالت: 

كامل! رحمة بأئفك... يعلم الله أثني لا 
أخادعك. ولكن مثل ما كان بيئنا من نقار لا يكاد 


السراب أه١ا‏ 


ولكي لم أرحمهاء ولم أفهم في الوقت نفسه كنه القوة 
التي دفعتني إلى تذكيرها بالماضي الأسيف كأتما آسي حمًا 
على «رباب». بل غاليت في الحئق عليها كا لو كانت 
السبب فيها حل بي من كارثة. وضاعف من حنقي ما 
وقع في نفسى من أنها تداري ببذا الحزن فرحًا وشماتة» 
فأردنت في غضب قاثلا: 

الح أنْ الدنيا لا تسعك من الفرح!. . . إن 
أعرفك حى المعرفة ىا أعرف نفسي سواء بسواءء فلا 
تحاولي خداعي., إنَك تدارين فرحك ذه الدموع 
الكواذب , 

فتأوؤهت هاتفة : 

- كامل لا تقس على أمّك, لا تقل هذاء لم أكرهها 
علم الله يحزني ما يزنك . . . 

فبدرت منى ضحكة باردة كفرقعة السوط في المواء 
وقلت: 

لأزيدك فرحًا فاعلمي أنْها لم تمت ولكن قتلت! 

فحملقت في وجهي في فزع ولعلها حافت عل 
الحنون وغمغمت: 

قصحت باستهانة وجنون : 

قتلت حين كان الطبيب يجهضها. 

فضربت صدرها بيدها وهتفت : 

يجهضها!. وهل كانت حبلى؟ رباه لم أكن أعلم 
هذا. 

ولا أنا!... أخفته عني لأثنى لم أكن أبا 
الجنين. . . ! وصرخحت أمي في فزع: 

كامل. رحمة بنفسك؛, رحمة بي» أنت لا تدري 
ماذا تقول. 

بل أدري أكثر مما تتوقعين, لقد عرفت في يوم ما 
لا يعرفه مثلي في جيل. قلت لك أخفت الأمر عني 
وذهبت إلى والد الجنين ليجهضها فأخطأ وقتلها. . . 

الله تفلت يا اريت الراحمين. 

ألا يزال أرحم الراحمين؟ وداعًاء فلن أعبده بعد 
اليوم! أمًا أنت فلعلّك تقولين لنشسك في سرور 


م١‏ السراب 


ظبويث؟ :ولقنه كالك الال عقي سنا حمل م 
جزاء؛ لقد حدّثئبي قلبي بذلك من أوّل يوم ولكنك م 
تصغ إِلْ!1. 

فزفرت أمي في شقاء وتعاسة وقالت بصوت 
كالآنين: 

- لشدّ ما يحرنني كلامك, إِنك تقتلني بلا رحمة. 

فصحت بها كالمجئون : 

اشمتي ما شاءعت لك الشياتة» ولكن إِيّاك وأن 
تتصوّري نا سنعيش ممًا. انتهى الماضي بخيره وشره 
ولن أعود إليه ما حييت. سآنفرد بنفسي انفرادًا أبديا. 
لن أعيش ساف كت سرود وساطلب من 
الوزارة نقلي إلى مكان قصيّ أقضي فيه البقيّة من 
1 

أشرق الدمع بعينيها وعقد الآلم لسانها ولبشت ترنو 
إل في فزع ووجوم. وكأنه لم يكفني ما قلت فأردفت 
مرغيًا مزبدًا: 

اذهبي إلى أختي أو إلى أخي واحسبيني مند اليوم 
في عداد الأموات . 

ووليتها ظهري وغادرت الحجرة ونحيبها يقرع 


أذن. 


"5 

لم يحطر لي لدظة واحدة أن أذهب إلى حجري» كان 

ذلك أبعد شىء عن تصوّري. حت النظر إليها 
تحاميته , 5-57 إلى حجرة الاستقبال وارتميت على 
الكنبة في إعياء وقنوط. ومضى الليل فيلا مضجرًا فلم 
يعد نصيبي من النوم إغفاءات متقطعات تتخللها 
أحلام مرعجة. ثم أخذ خصاص النوافذ ينضح بلور 
خافت إيذانًا بمطلع الصبح فتنفست الصعداء وقطيت 
متعباء ثم مضت قائيًا وغادرت الحجرة مدفوعًا برغبة 
3 المروب والاختفاء. واقتربت من الباب الخارجي ف 
خطو خفيف حذر حبّى وضعت يدي عل مقبضه., 
ولكنّ حمدت متردّدًا دون أن أبدي حراقاء ثم 
تراجعت في سكون نحو حجرة أمّيء ودفعت بابها 
الموارب في حذر بالغ وأدخلت رأسيى. كان شخير 


الخادم يتصاعد في انتظام . وعلى الفراش رقدت أمي 
في سكون عميق لا يكاد يُرى من وجهها إلا نصفه 
الأعلى. ألقيت عليها نظرة قصيرةء» ثم تراجعت إلى 
الخارج؛ واتمهت نحو الباب الخارجي مرّة أخرى 
ومرقت منه ثم لقف دوق أن | حلت صو ال وتر امن 
إلى أذيّء أو خيّل إل أنْ صونا يبتف بيء فظننتها 
استيقظت على حذري وحرصي وأمْها تناديني . وتوقفت 
ويدي على الدرابزين على حين تراخى قلبي ورق؛ 
ولكئّى كنت على حال من القنوط لم أحسن معها التدبير 
فهززت منكبئ استهانة ونزلت. واستقبلت الصباح 
الباكر في طريق مقفر أو يكاد فهفا على وجهي نسيم 
رطيب باردء وتلبّثت متحيرًا لا أدري أين أذهب ثم 
قصدت محطة البترول حيث موقف التاكسى واستقللت 
واحدًا إلى ميدان الإسماعيليّة. ومال بصري إلى العمارة 
الأخرى في الطريق فرأيت نوافذ مغلقة وسكونًا مطبقًا 
والمصباحين المعلّقين وقد انطفا نورهما. وانتهيت إلى 
الميدان فمضيت إلى لبان وجلست إلى مائدة في أقصى 
المحل» وتناولت فطورًا بسيطاء وعلاني تعب مباغت 
فمددت ساقيّ؛ ثم زحف على جوارحي نعاس قهار م 
عل انلك بقن بر امع ا لاسقيا ميف لاطا م ورا 
ها حك ا ا وعاودتني اليقظة فوجدتني 
منكفئًا على المائدة وقد توسّدت ساعدى. فرفعت 
رأمى ناظرًا فيها حولي في دهشة وارتباك. وسرعان ما 
000 

وغادرت المكان مغمضًا عيئء عن الجلوس وما كان 
امد دهشتي حين رأيت ا الميدان تجاوز الثانية 
عشرة! نمت دهرًا طويلا غائبًا عن دنياي المتجهّمة فا 
ألذّ أن أنام إلى الأبد! واتمهت صوب حدائق قصر 
النيل وأنا أشعر شعورًا أليمًا برثائة هيئتى وذبول 
منظري! وساءلت نفسي وأنا أجدٌ في السير عا عسى 
أن أصنع بحياي» ولكن وسوست لي النفس أن أؤجل 
البتّ في هذه المسألة جريًا مع طبيعتي التي تدكص عادة 
عن مواجهة المشكلات اللخطيرة. ثم وجدتني أفكر في 
رباب! إنْ بنفسى غضيبًا عليها لا يزول كأنه عاهة 
سكا شه ها الى :لو يقاس ولو تيه وراتمه 


ريثا أبصق على وجهها! وهل أنسى أنني فرحت لموتها 
فرح حاقد شامت؟... هكذا أنا ولا داعي للخفاء! 
بد لعل طالمن لكف بصع نيديا إن أذ 
وأن أتأمقل. ومن عجب أنني على أنانيّق المفرطة 
أبخل على خصمي بالإنصاف العم لا حبًا في 
الانصاف والعدالة ولكن لأنبيى ألفنت لفت أن ن أقيم الأعذار 
للخصم مداراة لعجزي عن الانتقام فئة] لذللت 
تلمّست الأعذار لرباب في مأساتباء وقلت لنفسى : 
إنفي أخحطأت فى تصديق ما ادّعت من أنْها تكره لحت 
الجسيّ» وإِنّ عجزي حيالها هو الذي رمى بها إلى 
5-5 الغواية» وكيف يمكنني أن أشك في أنْها أحبتني 
بإخلاص؟ وهيّت على خيالي الذكريات كما تبفو نسائم 
عطرة على نار مؤججة» ذكريات النظرات اللمتبادلة, 
واللقاء الخالد في الترام» وصدودها عن خطيبها الأول 
وميلها إِلّ في سحر هو أبسج ما اقتنيت من تحف 
السعادة المولية . كان حا كنا ولكن عرضت له 
ريح تلجيّة فاقتلعت جذوره وأغاضت مما ماء الحياة. 
ألست شريكًا في قتلها؟! ودعوت الله في تلك اللحظة 
أن يختصر الطريق فيقيم القيامة ويرحم العباد من محنة 
الحياة» كان حبّي سرورًا إهيّا م مضى مْلَفًا وراءه مقنًا 
وغضبًا. ولكن هل مضى حمًا؟ هب ما حل بي قد 
مخض بمعجزة عن حلم مزعج ولا شىء غير هذا ألا 
بعود حبّي أقوى ثما كان؟ بلى» فهو موجود إذن تحت 
ركام 0 واللقتء إن العضو الذي ينفصل عن 
انمق أله غوف النقد اذا اقوو قبن مسرن تا آنا 
الحبٌ الذي يعود فلا يمكن أن يكون قد ذهب حمًا. 
ولكن ما جدوى هذا التفكير الأليم؟! وقظبت كأنما 
لأخيف الذكريات التي تنثال علّ. وصممت على 
الهمرب منها ولو بمواجهة المشكلة الخطيرة التي تسربت 
منها منذ حين قصير ألا وهي مشكلة حياتي وماذا أصلع 
بها. لا ينبغي أن أترك أموري للمقادير. سأجد طريقة 
للتخلّص من أثاث رباب ثم أنتقل إلى حيّ جديد. 
- حمًا إلى الانتقال لبلد بعيد؟ لشدّ ما تنازعني 
ل. الفران: :نيد أ لطن ان لمر 
0 هذا شعوري ويقيي . فهل أهجر أمّي حقًا؟ 


السراب بدن ١‏ 


هل يسعني هجرها! طلما رفت على خاطري الرغبة في 
هجرها في صور أحلام غامضةء ولكن هل يسعني حقًا 
أن أهجرها؟يا ها من نخطوة خخطيرة ما أخلقنى أن أقف 
منبا موقف التفكر المتردّد. لماذا أقسو عبوز ننه أنتقم 
منها! وإ لأعلم أنْ خطرة منها تخطر على الفؤاد حقيقة 
بأن 0 أحضافما ثاذمًا باكياء يا له من حب 
بغيض لا أجد إلى الخلاص منه شدلا 

ورجعت إلى الميدان بعد الساعة الثانية بقليل» 
ووجدتني أذكر شارع الألفي بلهفة معهودة. وعلى كثب 


و لحت زميلا لي من الوزارة فتجاهلته. 
ولكنّه لمحني أيضًا وأقبل نحوي في اهتمام ووجوم 
وك ل يده انلك 


البقيّة في حياتك يا كامل أفندي 

فسرت في جسدي رعدة وتساءلت في قلق كيف 
علم بالخير وماذا علم عنهء وتمتمت في ارتباك : 

حياتك البافية . 

فقال الرجل وهو يضغط على يدي : 

عن إذنك ريثا أتناول لقمة ثم أعود للاشتراك في 
تشييع الجنازة. 

ربّاهء كنت أظنّ أنْ الجنازة شُيّعت أمس أو صباح 
اليوم وانتهى المأزق الحرج. ولكتّها لا تزال تنتظر 
مقدمي وقد أذاعوا النعي في الصحف! أي مأزق 
يترئص بى!. . . وسألته بصوت منخفض : 

هل قرأت النعي 5 الأهرام؟ 

فقال لى يدهشة : 

كلاء لا أظنه ظهر في الأهرام وإلا لكنًا علمنا به 

في الوزارة» ولكيّى اطلعت عليه في البلاغ . 

واستخرج الجريدة من تحت إبطه وفتحها ثم أشار 
إلى عمود وهو يقول: «دهاك النعي» وتناولت ا 
في ارتباك وتحجل وجرى بصري على السطور القلائل 
الآتية: «انتقلت إلى رحمة مولاها كريمة المرحوم 
الأميرالاي عبدالله بك حسن, والدة مدحت بك رؤبة 
لاظ من أعيان الفيّوم وكامل أفندي رؤبة لاظ الموظف 
بالحربية وحرم صابر أفندي أمين . . . : 

حملقت في وجه صاحبي كالمجنون. ثم أعدت تلاوة 


4 السراب 


النعي» وجميع جسمي ينتفض» وصرخت بلا وعي : 

هذا محال. . . هذا كذب. . 

ركضت لا ألوي على شيء نحو تاكسي غير بعيد 
وارتميت داخيله وأنا أحتثٌ السائق على السرعة. إِنْه 
لكذب وافتراء, ولأعلمنٌ جليّة الخر وعندها أعرف 
كيف أؤدّب من رامني مبذا العبث السخيف. وانطلق 
التاكسى يطوي الأرض وعنقي مشرئبٌ صوب 
الطريق» حبّى تراءى لعي سرادق مقام أمام بيتناء 
وتشرق قلبي في صدري وارتعشت أطرافي جميعاء 
وتوقف التاكسي فغادرته زائغ البصرء لم أكن حزيئًا أو 
متألًا ونا كنت مجنوئاء ها هو عمّى جالسًا عند 
مدخل السرادق. وهذ! أخي مدحت قادمًا نحوي . 
وقد هرعت إليه فاقد الوعي وقبضت على رباط رقبته 
وصرخت في وجهه: 

- كيف تخفون عي الخبر! 

وتخلص أخي من قبضة يدي بجهد وهو يرمقني 
بقلق وانزعاج؛ على حين تدانى مثا عمّي وهو يقول: 

- أين كنت يا كامل؟ لقد بحثنا عنك في كل مكان 
فلم نعثر على أثر. . . 

فرذدت بصري بينماء ثم ألقيت على السرادق نظرة 

أحنّ هذا؟ 

فقال لي عمي : 

تمالك نفسك وكن رجلًا. 

فسألت أخى في همس وإشفاق: 

عطاك سنك رلك مق مايق 

فقال مدحت في كابة: 

- تلقيت برقيّة في التاسعة صباحًا. هذا قضاء ربنا, 
أين كنت؟ لشدٌ ما أرعببي أن نضطرٌ إلى الشروج 
بالجنازة في غيابك , 

فصحت به في غضب: 

- فيم هذه العجلة؟ لاذا ل تؤْجّلوا الجنازة إلى غد؟ 

فقال أخحى معترضا: 

أكد اللي أن الوفاة حصلت عند منتصف 


الليلة البارحة فقرٌ رأيدا على أن نخرج الجنازة 
اليوم . . 

وارتعد جسمي المحموم وتمتمت في ذهول: 

- منتصف الليلة البارحة؟ ولكبِي رأيتها نائمة في 
فراشها هذا الصباح! . . . 

ولاحت في عينيى مدحت نظرة حزينة وقال برثاء : 

- لم تكن نائمة. إِنْه القلب يا كامل . 

نحيّلت صورة ما بدا لي في وجهها من قنوط. 
وأطرافي ترتعش» وأعملت ذاكري لأستحضر الصورة 
كا رأيتها. وساءلت نفسي أكان وجه ميت ما 
وخارت قواي. ثم قلت بصوت ضعيف: 

- أريد أن ألقي عليها نظرة الوداع. . 

فوضع أخي يده على منكبي وقال: 

- أصبر حبّى تتبالك قواك. ثم إِنْ الحجرة ملأى 
بالستانة: 

ولكقٌى نحّيته عن سبيلي والدفعت إلى داحل 
العمارة» وجرى أحي ورائي » فارتقينا الب وثباء ثم 
مرقت إلى الشقّة وأصوات البكاء تملأ أذنٌ» فا راعني 
إلا أن أجد نفسي حاضًا بالنسوة من جميع الجهات. 
وزاغ بصري وحل بي إعياء وارتباكء ولكن أدركني 
أخي فقض على ذراعي واتّجه بي إلى حجرة النوم وهو 
يقول: 

- لا تقاوم. . . ينبغي أن تخلو إلى نفسك قليلا. . . 

وأجلسني على المقعد الطويل» وأغلق الباب. ثم 
جلس على حافة الفراش أمامي وقال بحزن : 

- ثب إلى رشدك. لا ينبغي أن يغلبنا الحزن 
كالساف البسف فى اتى: انضاة ولكننا رجانه .+ 

وراح عقلي يتردّدء كبندول الساعة؛ بين أمرين في 
تركيز جنوي بين شجار الأمس المشئوم وبين رؤيتي ها 
هذا الصباح» وعلى حين بغتة وثبت إلى ذهبي ذكرى 
فهتفت بأخي : 

كلذب الطبيب!... لم ثحت عند منتصف 
الليل. . . لقد سمعتها تناديبي وأنا أغادر الشقّة. . . 

فلاحت الدهشة في وجهه وسألبي : 

- وهل ليت نداءها؟ . . . هل تحدّثت إليها؟ 


فتبدت من الأعباق في شقاء مميت وقلت: 

ل ألبٌ نداءها لأنني كنت ناقمًا عليها!. . . لشد 
لاقت فطا غليكلا سعها :..., 

وسادنا صمت وحزن. وكان رأمى يكاد ينفجر من 
الأ والحمّى. ثم قلت وكأنني أحدّث نفسي : 

لقد قتلتها ما في ذلك ريب. ربّاه. كيف هان 
عل أن أقول لما ما قلت! 
فرمقني أخحي بوجوم ) وقال بلهجة تنم عن تحذير: 

إِيَاك وأن تستسلم هذه الأفكار!. . . 

فقلت بعناد ورأسى يدور جنوليًا : 

1 عب لخن ان نبول قود مكييا» الا 
تفهم؟. . . إذا أردت أن تستوثق من صحّة قولي فادع 
النيابة والطبيب الشرعي . . . 

فتأوه مدحت قائلا فيا يشبه الخوف: 

د الك عيدئ: بذ رسيةة .وإلا تالف نفك فلن 
أسمح لك بالسير في الحنازة , 

فلت منئى ضحكة باردة وقلت: 

ان أسرتنا مصابة بداء قتل الوالدين: ولقد حاول 
والدنا أن يقتل جدّنا فأخفقء. وأعدت الكرّة على أمنا 
فنجحت» وهكذا ترى أنْنىي كنت أعظم توفيقًا من 
أبي . 

فلاح القلق في وجه الشابٌ ونبض قائما. ثم لبت 
عينيه في وجهى وتساءل: 

اذا قري أنا تعيم وقبالن وى لوقه إل 
ساعة على تشييع الجنازة . 

فقلت في دهشة: 

أتسمح بتشبيع اللخنازة دون تحقيق؟ يا لك من أخ 
رحيم! ولكنّ الواجب فوق الأحوّة. ادحٌ النيابة, 
وسأدلّك على الطريق إليها فقد عرفته بنفسي أمس, 
وقل لوكيل النيابة إِنْك تدعوه للتحقيق مع الشخص 
الذي دعاه أمس للتحقيق في مقتل زوجه. 

وبدا أخي كأنه تذكّر أمرًا مزعجًا فصاح: 

يا له من حدث أليم!... كيف لم تبرق إل يا 
كامل؟ لقد أخيرتنيى الخادم اليوم فلم أكد أصدّق. . . 

فقلت فيبا يشيه الهذيان: 


السراب هه ١‏ 


- صدّق يا أخي, إنك إذا لم توطن نفسك على 
تصديق هله المأسى وأمتالها حرجت من الدنيا كما 
دخماتها عدا جاهلد. لقد قتلتٌ زوجي أيضًا ولكن كان 
د وا المرعي” 

وضرب مدحت كفا بكفف وهتقا بي : 

- لا يمكن أن تغادر الحجرة وأنت عإن هذه 
الخال. . 

فهززت رأمي في غضب ونبضت قات وأنا أقول: 

هلم بنا. 


ول أكد أتمّ هذه الجملة حيّى غبت عن الوجود. . 


51 

لا علم بي بالساعات الطوال التي قضيتها في غيبوبة 

ئامّة. ولكن ثمّة أويقات أخريات كنت أتخبط في 
ظليات بين الغيبوبة واليقظة. إنها دنيا غريبة معتمة. 
تتوزّعها الأحلام؛ فكان يداخلبي شعور أنْني حي. 
ولكن ع كميت وَهْئًا وعجزراء وكم من هرة جهدت 
في شقاء ويأس كي أحرّك عضوا من أعضائي فأعيانٍ 
الجهد وسلّمت للضغط الحائق والخنوف المبهم. وفي 
أحوال أخرى عابئني الوهم فخيل إل أني غير بعيد من 
اليقظة» وأني أكاد أميّز أصوانًا مألوفة وأرى وجوها 
أعرفها حقٌّ المعرفة فاستصرختها أن مبرع إلى نجدتي. 
وناديت أمي كثيرًا حقى أحلقني تقاعدها عني وعجبت 
له عجبًا شديدّاء وطافت برأسي المحموم أحلام 
غريبة» فرأبت فيا يرى النائم أني مت منكب أمّي 
وأنبا تذهب بي وتنجيء كبا كانت تفعل على عهد 
طفولتي. ورأيتني حينًا آخر ممسكًا بتلابيب أخي 
مدحت في نضال عنيف في جو صاخب وهو يصيح 
ي: لا تقتلني» وخيّل إل أني رأيت أحلامًا كثيرة ولكن 
تنتهي» ثُمّ تفتحت عيناي» وعدت إلى نور الدنياء 
وتبّدت من الأعياق. ووقع بصري على مرأة تعكس 
صوري» وشعرت بوجود شخص عند رأمي فحرّكت 
عي نحوه فرأيت أختي راضية جالسة على الفراش 
ويدها على رأمي» والتقت عينانا فابتسمت أساريرها 


١‏ السراب 


ولاحت في عينيها نظرة إشفاق وغمغمت بصوت 
حتوك : 

- كامل, . . 

وحاولت أن أبتسم. وندّت عمها تنهّدة حازة 
وفتويت : 

أشهد أن لا إله إلا الله . 

تشهدت بصوت ينم عم برّح بها من خوف 
وعذاب» ووجدتها لا ترفع يدها عن رأمى» ثم 
شعرت في اللحظة التالية بوجود شيء نحت راحتها, 
فسألتها بصوت ضعيف وقم في أذيّ كالصفير المكتوم : 

ما هذا الشىء عل رأسي؟ 

فجاءني صوت آنخر يقول: 

ين الع باد 

فالتفتٌ إلى الناحية التي جاء منها الصوت فرأيت 
أي مدحت جالسًا على المقعد الطويل» وأدركت في 
تلك اللحظة أين أكون. وهجمتٌ عل الذكريات التي 
فريك شا نه الخرية القتلاو ولس اليه 
بوجهها الكالح مرّة أخرى» ووقع بصري على المننه 
فإذا بعقربه قد جاوز العاشرة بقليل؛ العاشرة صباحًا 
كا يدل عليه ضوء النبار. وإذن فقد انقضت الليلة 
الكثيبة وأنا في نوم عميق! ونظرت إلى أخي بطرف 
كسير وتساءلت: 

عه شت الخنارة؟ 

فأالقى عل نظرة طويلة ثم قال باقتضاب : 

- طبعا, , . 

وصمت مليًا ثم استدرك قائلا : 

- لعلّك لا تدري أنّك غبت عن الوجود ثلاثة أيَام 
كاملة . 

ورنوت إليه بدهشةء ثم أغمضت جف في ذهول, 
وتمدمت في حزن بالغ : 

- قفبى الله بألا أشيّع لا أمّى ولا زوجي إلى 
مرقدهما الأخير. 

وتحوّل بصري إلى أختي فرأيت عينيها مغرورفتين 
بالدموع , فغشيتئي كابة موحشة بدت الحياة خخلالها 
كالموت. لشدّ ما بدت لي الحياة في تلك اللحظة 


الرهيبة غريبة خالية. وشعرت بفراغ ميف جدًا. فقد 
خلا البيت» وخلت حياق. وخلت الدنيا جميعا. 
وكنث في حياتها أجد طماأنينة راسخة» وأشعر في أعماق 
قلبي بأنّه مهما نكدت الدنيا فلي فيها حجرة دائمة 
الإاشراف بالابتسام والحنانء. أمَا الآن فها أشبهني 
بقارب تمزقت حبال مرساته في بحر هائج عاصف 
وحيّى شقيقتي التي تحنو علّ في مرضي فا أسرع أن 
تعتذر لي غدًا أو بعد غد ببيتها وأولادها وتتركني 
وحيدًا. رباه هل شلقت - أنا الطفل المدلّل ‏ لمثل هذه 
الحياة؟ !| 

ونظرت إلى أحتي طويلا في حبّ وامتنان» وأنعمت 
النظر في وجهها بشوق لا تدريه مجذوبًا إلى مشابه فيه 
من وجه أمّىء فاهترٌ صدري ودرٌ حنانًا وحزنًا عميقًا. 
وألقيت على ما حولي نظرة حائرة فوجدت أثاث رباب 
يحدجي بنظرات غريبة» فقلت في ضيق : 

- هيهات أن تطيب لى الإقامة في هذا البيت. 
سأقيم عندك يا أخعتاه . . 

فقالت أختي بصدق وإخلاص: 

- هذا ما كلت عقدت العزم عليه .. 
وسهلا! 

وسألتها أن تقرّب أذنا مث ثم قلت لها بحزن' 

خخذيني إلى حجرتها لألقي عليها نظرة. . . 

فأظلمت عيناها واغرورقتا بالدمع. وقالت لي 
تمسًا: 

لا يمكن أن تفارق الفراش الآن» ثم إنه لى يعد 
بالحجرة شيء . 

نخيلت الحجرة الخالية: أربعة جدران وستفا 
وأرضًا. ما أشبهها بحياتي. وتتبّدت محزونًا وتمنمت: 

ما أشقاني !| 

فقالت راضية برجاء وضراعة : 

هلا أجلت الحزن حيّ ترأ!! 

ا د 


أهلّا بك 


أشيوعا لم عادت إلى بيتها مضطرة ولكئها دأنت على 
زياري كنّ يوم عصراء ول تكن تفارقني قبل أن 


يُغمض النوم جفنيّ... وعاد مدحت كذلك إلى 
الفيُومء ولكنّه كان يمضى عندي نهاية الأسبوع . 

ولمًا دخلت طور التئقاهة كانت الحمى قد عرقتني 
وخلفتبي جلدًا على عظم. وم تكد تبقى ثمّة حياة إلا 
في خيالي فازدهرت حيويّته وامتلاً قوّة ونشاطا فكاد 
يبلغ حدّ الهوس. وم يكن شعور الوحشة والخوف 
ليفارقي ساعة من ساعات اليقطة. فبدت لى الحياة 
شاقة مرعبة لا قِبّل لي بهاء وامتلأت أذناي بذاك النداء 
القديم الذي يبيب بي - عند الشدائد ‏ أن أولي فرارًا. 
ولكن أين المفر؟ ليتني أخلق شخصًا جديداء سليم 
الجسم والسروحء لا يعشّش بأركان نفسه الخقوف 
والجفاء. فالقي بنسى في خضمٌ الحياة الإنسائيّة بلا 
خجل ولا نفورء أحبٌ الناس ويحسونني» وأعينهم 
ويعيئوننى» وآلفهم ويألفونني. وأندمج في كائعهم الكبير 
عضوًا عاملا نافمًا! ولكن أين مبّى هذه السعادة؟! 
وفيم أعلّل النفْس بالأماني الكاذبة؟ لم أخلق لشيء من 
هذاء وَإِعْما خلقت للتصوف. ومن عجب أن وردت 
هله الكلمة على ذهنى بغير قصد, لكن سرعان ما 
: .. التصوّف؟ لست أدرىي 
ما هو على وجه التحقيق! ولكنّه وحدة وعزوف وتفكير 
وما أحوجني للوحدة والعزوف والتفكير عجبًا ألم أكن 
أشكو الوحدة طوال رقادي؟ الحقٌّ أثني لم أشك الوحدة 
التي ألِفْتها العمر كله ولكتّني استوحشت الوحدة التي 
خلّفتها أمّي . أمّا الوحدة المعهودة فا أشدّ لفت إليها؟ 
ينبغي قبل ذلك أن أطهّر جسمي ظاهره وباطنه» ثم 
أكرّس قلبي للساء. لقد خلقت في الواقع متصوّفا 
ولكن أضلتبي نوازع الحياة» ونصوّرت نفسي في طهر 
عجيب» يستحم جسدي باء عَطِرء وتتسامى روحي 
في صفاء ونقاء» فلا مشهد أرنو إليه إلا السماء ولا 
خاطر ينبثق في نفسي إلا الله وهذه بلابل اجئة تسجع 


تشبشت بها بدهشة وحيرة. 


السراب لاها 


في أذضَ» وتلك طماأنينة السلام تقر في قلبي! كان 
خيالي نشيطا ولكنّه كان غادرًا في كثير من الأحايين, 
فلم يكن يصعد ب إلى ذاك المرتقى حتّى يتخل عب 
بغتة فأهوي من عَلُ ثم أعود إلى قلقي القديم وخوني 
لقو 
ع 6 

وفي ذات صباح من أيَام النقاهة الأخيرة جاءتني 
الخادم العجوز وقالت لي : 

جاءت سسيّدة تريد مقابلتك وقد أدخلتها حجرة 
الاستقبال, 

فرفعت إليها عي في دهشة وسألتها: 

ألا تعرفينها؟ 

فهرّت المرأة رأسها قائلة : 

- لم أرها يا سيّدي قبل اليوم . 

ووثب إلى خاطري طيف فانتفض قلبي الضعيف 
واشتدّت غرباته حقّى انبهرت أنفابي. ريّاه أتكون 
هي حمًا؟ وهل واتتها الجرأة على اقتتحام البيت؟ م 
تقدْر العواقب؟ ونظرت إلى الخادم في حيرة شديدة ثم 
متمسا: 

أدعيها إلى حجرتي... 

وألقيت على المرآة نظرة متفخصة, ثم تناولت المشط 
ورّجُلتَ شعري على عجلء وني حياء شديد انهه 
بصري نحو الباب. ترى هل يصدق ظني؟ وكيف 
غابت عن ذاكرق طوال العهد كائها كانت كامنة في دم 
الصِحّة الذي نضب؟ ثم سمعت وقع أقدام تقترب. 
وأطلّ عل وجه القادم يبتسم في شوق وإشفاق. 
فهتفت فيها يشبه الاستغاثة وقد وى صوتي بما شاع في 
صدري من الانفعال: 


دالت | 


“0 

ألقى الضابط نظرة كتثيبة على الردهة الطويلة التي 
تفتح عليها فصول السنتين الثالثة والرابعة» وقد شمل 
المدرسة ‏ التوفيقية ‏ سكون عميق» ثم مفى إلى فصل 
من فصول السئة الثالثة.» ونقر على الباب مستاذناء 
ودحل متجهًا صوب المدرّس وأسرٌ في أذله بضع 
كلمات». فسدد المدرّس بصره صوب تلميذ يجلس في 
الصف الثاني وناداه قائلا : 

حسنين كامل على . 

فقام التلميذ وهو يرذد بين المدرس والضابط نظرة 
مليئة بالترفب والقلق؛ وغمغم: 

- أفئدم؟ 

فقال المدرس: 

اذهب مع حضرة الضابط. 

فخرج التلميذ عن قِمَطره. وتبع الضابط الذي 
غادر الفصل في خطوات بطيئة. ولم يطمئنٌ قلبه هذه 
الدعوة» وراح يسائل نفسه: ترى أجاءت سبب 
المظاهرات الأخيرة؟ وكان قد اشترك في المظاهرات. 
وهتف مع الطاتفين: «ليسقط تصريح هور» و«ليسقط 
هور ابن الثوره. وقد ظَنٌ أله نجا من الرصاص 
والعصئ والعقوبات المدرسيّة جميعا. فهل كان مغاليا في 
ظده؟ ار وراء الضابط في الردهة الطويلة متفكرًاء 
يتوقّع بين لحظة وأنحرى أن يجبهه بما عنده من خهمء 
ولكن قطع عليه تفكيره وقوف الرجل حيال فصل من 
فصول السئة الرابعة ودخوله مستأذناء ثم بلغ مسمعه 
صوت المدرّس وهو ينادي قائلا : 

- حسين كامل عل . 

شقيقه أيضًا؟! ولكن كيف يمكن أن توجه إليه مهمة 
من هذه التهم وهو لا يشترك في المظاهرات بتانا؟! 


بداية ونباية ١51‏ 


وعاد الضابط يتبعه الفتى واجماء وما إن وقعت عيئاه 
على شقيقه حتى غمغم في دهشة : 

- وأنت أيضعا؟ ! . . ماذا حدث!؟ 

رفاولة لكا جاترة ننه الضايطة اللاي ممق 
متسمّتًا حجرة الناظر. وسأله حسين في لمجة رقيقة 
مؤذبة : 

ما الذي أوجب استدعاءنا من الفصل؟ 

فأجاب الضابط بعد تردّد قائلا : 

د ستقابلان حضرة الناظر. 

وقطعوا بقيّة الردهة دون أن ينبس أحدهم تكلمة. 
وكان الشقيقان متشامبين لدرجة كبيرة, فكلاهما له هذا 
الوجه المستطيل؛ وعينان عسليتان واسعتان. وبشرة 
سمراه ضاربة إلى العمق» إلا أنّْ حسين في التاسعة 
عشرة. يكير أنحاه بعامين ودونه طولاء على حين يمتاز 
حسنين بدقة في قسمات وجهه أكسته وضاءة ووسامة. 
ومضى قلقهما يتزايد وهما يقتربان من حجرة الناظر. 
وتخايل لعينيهها منظره الصارم في رهبة وخحوف. وزرر 
الضابط سترته. ونقر على الباب» ثم دفعه برقة ودئخحل 
وهو يومئْ إليهما أن يتبعاه. ودخلا وها ينظران إلى 
الرجل وقد انكبّ على مكتبه في صدر الحجرة يقرأ 
رسالة بعناية دون أن يرفع بصره نحو القادمين كأنه م 
بشعر بحضورهم. وحيّاه الضابط بأدب جم وقال : 

- التلميذان حسين كامل عي وحسئين كامل على . 

فرفع الناظر رأسه وهو يطوي الرسالة بيديه. وأطفاً 
عقب سيجارة في النافضة» وجعل يرذد بصره بينهاء 
ثم تساءل : 

حا فى أ سنة أنتيا؟ 

فقال حسين بصوت متهدّج : 


رابعة رابع . 


بداية ونباية 


وقال حسنين: 

ثالثة ' ثالث 

فنظر إليهما مليًا ثم قال: 

- أرجو أن تكونا رَجُلِينِ كا ينبغي. لقد توثي 
والدكما كما أبلغني أخوكا الأكبر والبقيّة في حياتكا. . 

ووحما في ذهول وانزعاجح» وهتف حسئين وهو لا 
يدري قائلا : 

عاثوق' أن اا ايمفجيل ! 

وغمغم حسين وكأنه يحدذث نفسه + 

- كيف؟ لقد تركناه منذ ساعتين في صحة جيدة 
وهو يتأهب للخروج إلى الوزارة. . 

فصمت الناظر قليلا ثم سالها برقة : 

تاذ يعمل أخرى الأكد؟ 

فقال حسين بعقل غائب : 


- أليس لكما أخ آخر موظف أو شيء من هذا 
القبيل؟ 

في" خسين رانة قائلة: 

ا" 

فقال الرّجل : 

- أرجو أن تتحمّلا الصدمة بقلوب الرجالء واذهبا 
الآن إلى البيت كان الله في عونكما. . 

0 

وغادرا المدرسة إلى شارع شبرا يلتمسان طريقهما 
خلل الدموع . وكان حسئين أسرعهما إلى البكاء فأراد 
حسين أن ينبره في حال عصبيّة ولكن أفحمه البكاء 
واختئق صوته فلم ينبس بكلمة. وعبرا الطريق إلى 
الخانب الآخرء وحثًا خطواتهها قاصدين عطفة نصرالله 
على مسيرة دقائق من المدرسة. وتساءل حسئين وهو 
ينظر إلى شقيقه كالمستغيث : 

ل كيف مات؟ 

فهزٌ حسين رأسه واحما وتم : 

ف لا «أدز: لا أستطيع أن أتصور. لقد تناول 


فطوره معناء وتركناه في صِحّة جيّدة. لا أدري كيف 
رقع هذا. . 

وحاول حسنين أن يتذكر الصباح القريب بتفاصيله 
فذكر أنه رأى أباه أوّْل ما رآه وهو عائد من المرافق 
فحيّاه كعادته قائلا وصباح الخير يا بابا» فأجابه مبتسمًا : 
«صباح الخير» ألم يستيقظ أخوك؟» واجتمعوا بعد ذلك 
حول المائدة؛ دعا الرجل الأمّ إلى مشاركتهم الطعام 
فاعتذرت أن نفسها مصدودة فتذمر الرجل قاثلا: 
«إذا جلست معنا انفتحت نفسك» ولكتها أصءت على 
الاعتذار» فقال بعدم اكتراث وهو يقشر بيضة: «على 
كيفك. لا يذكر أنه سمعه يتكلم بعد ذلك, اللَهم 
إل افحينة متقضية , بوكان آخر ما ءاه امنه: ظهره وهو 
يدعل حهرنه عننا بدمة ىقلت ثم انتهى . 
انتهى, أبشِعْ مها من كلمة! واسترق إلى حسين نظرة 
مروّعة فوجده عحزونًا واجمًا كأئما كبر وشاح. وعاد إلى 
ذكرياته وهو يكابد لوعة حارّة: لا أصدّق أنه مات لا 
أستطيع أن أصدّق. ما هو الموت؟ لا أستطيع أن 
أصدّقه. انتهى؟ لو كنت أعلم أن هذا آخر ما بقي لنا 
من عمره ما غادرت البيت. من أين لي أن أعلم؟ 
أيموت الإنسان وهو يأكل ويضحك؟ لا أصدق. لا 
أستطيع أن أصدّق. وانتبه على أخيه وهو يجذبه من 
ذراعه إلى عطفة نصرالله التي كاد يفوتها في ذهوله. 
وسارا في طريقها الضيّق تصطف على جانبيه البيوت 
القديمة والحوانيت الصغيرة إلى ما يعترضها من عربات 
الغاز والخضر والفاكهة. وسبقههما البصر إلى عبارتهما 
ذات الأدوار الثلاثة والفئاء المستطيل الترب» م ترزاميخ 
إلى أذنيهما الصوات فتبيّنا صوق أمهما وأختهما الكبرى 
وهرّهما حتّى الأعاق فأجهشا في البكاء. وجريا لا 
يلوبان على شيء» وارتقيا السلّم مهرولينٍ إلى الدور 
الثاني فوجدا باب الشقّة مفتوحًا فتدافعا إلى الداخل, 
وقطعا الصالة إلى حجرة الأب في نبايتها ثم دخلا وهما 
يلهئان. وثبتت عيناهما على الفراش وقد وشى الغطاء 
بالجسم الممدّد تحتهء ثم اقتربا من حافته وارتميا عليها 
وأغرقا في نشيس حارٌ. وكفت الأمّ والأخت عن 
الصوات على نحين غادرت الحجرة امرأتان غريبتان. 


وأرادت الأمّ أن تتركها| ينفسان عن صدرهما فتراسكت 
واقفة في جلبامها الأسود وقد احمرت عيناها وانتفخ 
حداها وأنفهاء أمَا الأخت فقد ارتمت على كنبة 
وأخفت وجهها في مسندها وراح جسمها ينتفض من 
البكاء. وكان حسين يبكي ولسانه يتلو بطريقة آلية 
فقن اللدون المتقيرة الوقن لة اللرضة .ركان تعيلين 
يبكى في جو من الخوف والذهول والإنكار. وقف 
حال الرث. بخن :انإ راكع الع انقب "الوعة تالا 
يائسًا. «ليس هذا بأبي.. لا يمكن أن يسمع أبي هذا 
البكاء كلّه دون أن يتحرّك. ربّاه لماذا جمد هكذ|؟ 
إنْبم يبكون ولكن في تسليم من لا حيلة له. لم أكن 
لأتصوّر هذاء ولا أتصوره. الم أره يمثى في هذه 
الحجرة منذ ساعتين؟ ليس هذا أبي. وليست هذه 
حياة). وبدأ الانتظار وكأن لا ناية له. فاقتريت الأم 
من الشابين ومالت نحوهضما قائلة : 

- حَسبك|. قم يا حسين عل أخخاك خارجا. 

زاغاقت اقول مق لال سحيو وا ترشن أخاة ولكتن 
لم يغادرا الحجرةء وقفا يلقيان على الحدث المسجى 
نظرة طويلة غائمة بالدموع. ولم يستطع حسين أن 
يقاوم رغبة حارّة غامضة فانحبى على الحثان وكشف 
الغطاء عن وجهه دون مبالاة بالحركة التى بدرت من 
مُه فطالعه الوجه الغريب موسوما بميسم القناء 
تشوبه زرقة مروعة, ويرين على صفحته سكون غير 
دنيويّ» في عمق العدم ولامائيته. فسرت رجفة في 
أوصاله. لم يكن أحد منبها قد رأى ميثا قبل هذه المرة 
فركبها الخوف والأبى. ونفذ إلى أعماقهها حزن قهار 
إلى حيث لم تنفذ عاطفة من قبل . ومال حسين نحو 
اميت ولثم جبينه فعاودته الرجفة. ومال حسنين نحوه 
كذلك ولثم جبيئه في شبه غيبوية . وأعادت الأم الغطاء 
على الرأس الفاني» وحالت بيها وبين الفراش» ثم 
قالت لها بلهحة حازمة : 

أخرجا. . 

فتراجعا خصسطوتين» وتولى حسنين عناد طارئ 
فتوفء وتشجّم به حسين فتوقف كذلك. وجال 
بصرهما بالحجرة فيا يشبه الذهول؛ وكأئها كانا يتوقعان 


بداية وحباية 1551 


تغيرًا شاملا لا يدريانه. ولكتبها وجداها كالعهد بها لم 
يتغيّر منبا شيء. هذا الفراش على يمين الداخل. 
والصوان في الصدر يليه المشجب,. وإلى اليسار الكنبة 
التي ارتمت عليها الأخت وقد أسئد إلى حافتها عود 
انغرست ريشته بين أوتارهء وثبتت عيناهما على العود 
في دهشة ممزوجة بالحزن. طلما لعبت أنامل الراحل 
به الأزتانه توظالا الك حضوا الامجدقاء متطرين 
يستعيدون ويعيد, فيا أعجب ما بين الطرب والحزن 
من خيط رقيق» أرق من هذا الوتر. ثم مر بصرهما 
الخائر بساعة الراحل على خوان غير بعيد من الفراش, 
لا تزال تدور باعثة دقاتها ال امسة. ولعلٌ الراحل قرأ 
فيها آخر تاريخ له في الدنيا وأول عهدهما باليتم. وهذا 
قميصه على المشجب وقد لاحث آثار عرقه ببنيقته. 
فرئوا إليها بحنان عميق» وقد بدا هما في تلك اللحظة 
أن عَرّق الإنسان أشدٌ ثبانًا من حياته العظيمة. ولبثت 
الأمُ تنظر إليهما في صمت. لم تجرٍ لما خواطرهما على 
بال ولكمّها كانت تدرك من هول الكارئة ما لم يَذَرْ 
بخلد. وندت من حسنين تنهدة حارة لفتت إليه شقيقه 
فوضع يده على كتفه وهمس في أذنه : 

عل كا 

وألقى الشابّان نظرة أحيرة على الجثهان المسجى وهما 
يعتقدان ‏ بحكم العادة المنوارثة ‏ أن عيئي أبيه) 
تريام) رغم الموت فلم يولياه ظهرهما أن يسبيء 
إعراضهها إلى شعورهء وبعثا إليه بتحية قلبية وتقهقرا 
إلى الباب ثم غادرا الحجرة. ولاحت من حسنين نظرة 
إلى أخيه فطالم في وجهه حزنًا عميقًا مؤثْرًا فخفق قلبه 
وأحسٌ نحوه بالعطف, كما أحسٌ بحاجته الشديدة إلى 

ان 

وغادر الشقيقان الشقّة إلى باب العمارة حيث 
اصطمّت بعض الكراسى فوجدا أنحاهما الأكبر . حسن 
مالقا بق مسيم رك ا رسطلعاا إن مجاه ونا كاده 
صمته وكأبته . لم يكن لديها فكرة عمّا ينبغي عمله. 
أمّا حسن فكان ذا تجارب كثيرة. وكان يشبه أخويه إلى 
حدّ كبير بيد أنه اختلف عنب| في نظرة عينيه التى تنم 


14 بداية وغباية 


عن جرأة واستهتارء فضلا عن أن طريقته في ترجيل 
شعره الكثيف المنفوخ. ولبس البدلة» دلت على عنايته 
بنفسه من ناحية, وعلى قدر غير قليل من الابتذال من 
ناحية أخرى. كان حسن يعلم بما ينبغي عمله ولكنّه ل 
يبد حراكًا لأنه كان ينتظر مقدم شخص هامٌّ. وقد 
سأله حسين بتأثر: 

كيف مات والدنا؟ 

فأجاب قائلا وهو يقظب : 

مات فجأةٌ فأذهلنا جميعا. كان يرتدبي ملابسه 
وكنت جالسًا في الصالة فا أدري إلا ووالدتنا تناديني 
بفزعء فهرعت إلى الحجرة. فوجدته ملقى على الكنبة 
وصدره يعلو وينخفض. وجعل يومئ في ألم إلى صدره 
وقلبه فحملناه إلى الفراش» وقدّمنا له كوب ماء ولكنه 
لم يستطم أن يشرب. ثم غادرت الحجرة مسرعًا 
لاستدعاء طبيبء. ولكيّى لم أكد أبلغ الفناء حي صكٌ 
مسمعي صوات حادٌ فعدت فزعاء ووعكدنك: أن كل 
خوط ننه ْ ' 

ورأى وجهي شقيقيه يتقلصان من الالم فازداد وجهه 
كآبة. كان يشعر بحرج شديد جعله يتوجس خيفة من 
شقيقيه أن يظئًا بحزنه الظنون. كانا يعلان بطبيعة 
الحال بما كان يقع بينه وبين والديه من شقاق وملاحاة 
بسبب حياته المضطربة المستهترة؛ فخاف أن محسباه 
ذوضعا خطرنا وامنا: ولق أنه عد التوفة لسن 
والأمبى. والحقٌ أنه لى يبغض أباه قط على رغم ما 
كان . وإذا لم يكن حزنه كحزنها فمرجع هذا إلى تقدمه 
عنبما في السنّ ‏ كان في الخامسة والعشرين - وإلى 
ممرّسه بالحياة حلوها ومرهاء ومرّها على الأكثر الأمر 
الذي يلظف عادة من مرارة الموت. حقًا كان قلبه 
يحدثه بأنه لن يد بعد اليوم من يصرخ في وجهه 
قائلا: «لا أستطيع أن أعول رجلا خائيًا مثلك إلى 
الأبدء فيا دمت قد نبذت الحياة المدرسيّة فشْىٌّ سبيلك 
بنفسك ولا تلق بنفسك علّ». حفًا لن يجد من يقول 
له هُذا بعد اليوم. ولكنه لن يجد كذّلك من يؤويه إذا 
ضاقت به السبل وكثيرًا ما تضيق به حتى لا يوجد بها 
منفذ لأمل. إنه أعظم إدراكًا لحقيقة الكارثة التي 


وفعت من هلين الطفلين الكبيرين فكيف تنقصه 
دواعي الحزن والأسف!؟ واختلس من الوجهين 
المحزونين نظرة سريعة من عينيه البرّاقتين ثم عض 
شفتيه. كان محبههما على رغم الظروف التي تدعوه إلى 
الحقد عليههما وفي مقذمتها جميعًا نجاح حياتهي| المدرسية 
وتمنّعه| بعطف أبيه. ولكنه لم يكن يرى في المدرسة 
ميزة محسد عليها أحدء ومن ناحية أخرى كان مقتنعا 
بأنْ أباه يحبّه كشقيقيه وإن ران على حبّه السخط 
والغضب» وأهمٌ من هذا كله أنّ الشعور برابطة 
الأسرة كان ولا يزال قويًا في آل كامل بفضل الأمّ قبل 
كل شيء. 

وعند الضحى أقبل عليهم رجل وامرأة في ثياب 
ريفية فعرفوا فيهم| خالتهم وزوجها عم فرج سلييان» 
وقد عزاهم الرجل وشاركهم جلستهم. على حين 
هرولت الخالة إلى الداخل وهي تصرخ ويا خحراب 
بيتك يا اخحتي» فدوّت العبارة في آذاهم دويًا مفجمًا 
وعاود الشابين البكاء. وراح عم فرج سلييان يحادث 
حسن بينا خلا الشقيقان إلى نفسيهها في صمت طويل . 
والتفت أفكارهما وهما لا يدريان في مصير أبيهما بعد 
ألموت , وكان حسين راسخ العقيدة عن وراثة وبعض 
العلم فلم يداخله شلك في النباية. وسأل الله بقلبه أن 
يلقى أباه في ذلك اليوم البعيد وهما على أحسن حال 
من رضوان الله. وأمًا حسنين فكان في حيرة من كرب 
الموت لا يدع للعقل راحة للتأمّل والتفكر. وكان يسلّم 
بالإيمان تسلييًا ورائيًا لا شأن فيه للفكر. وقد حملته أمّه 
يوما على أداء الفرائض تأذاها دون وعي»؛ ثم هجرها 
ف شيع من التردّد دون تكذيب أو زيغ. وم تتسلّط 
العقيدة على فكره. ولم تشغل باله كثيراء ولكنّه لم يجد 
نفسه خارجًا على حقائقها قط. وقد دفعه الموت إلى 
التفكير ولكنّه لم يطل به. وسرعان ما عاوده التسليم 
تؤيده هذه المرّةَ عاطفة حادّة: وهل الموت هو النباية؟ 
ألا يبقى من أب إلا الثراب ولا شىء وراء هذا؟ معاذ 
لله. لن يكون هُذا. إِنّ كلام الله لا يكذب». ولبث 
حسن وحده لا يشغله شىء من هذه الأفكار وم يستطع 
الوك تشمنة: أن هوا إن رامن كانه كان رقنا 


بالفطرة. والحقيقة أنه لم يتأثّر بأيَ نوع من التربية أو 
التهذيب. كان ابن الشارع كا كان يدعوه أبوه في 
ساعات الغضب. وقد طبع على العبث فلم يعد قلبه 
تربة صالحة لبذور العقيدة. وما انفك يتََحْلْ منها مادّة 
لزاحه ودعابتهء وحتّى الأثر الخفيف الذي علق بقلله 
من وحي أمّه ضاع في خضم الحياة التي اكتوى بنارها . 
لذلك تاه به الفكر في وديان بعيدة عن الأبديّة تتركز 
حول هذه الحياة وحظه وحظ أسرته منها. بيد أنه لم 
بطل به المكث مع شقيقيه وزوج خالته فقد تراءى عن 
بُعْد رجل يبرول قادمًا ما إن وقم بصر .حسن عليه حت 
قال بارتياح كأنه كان ينتظره : 

- فريد أفندي محمد! 

وكان القادم يجفف جبينه بمنديل على رغم لطافة 
الجوٌ الخريفيم. ولكنه كان بديئًا مفرطًا في البدانة» ذا 
كرش عظيمة» ووجه مستدير مكتنز لاحت فيه قسماته 
دقيقة صغيرة. على أنْ بدانته وكهولته وأناقته أيضا 
أضفت عليه وقارًا نما يعترّ به موظفو الحكومة والكتبة 
منهم خاصّة. وعلقت به أعين الإخوة برجاء يستحقه 
من كان جارًا مثله وصديمًا قدا لأبيهم» وأقبل الرجل 
عليهم معزيا. ثم خاطب حسن قائلا : 

- طلبت إجازة اليوم من الوزارة. هلم بنا إلى ديوان 
المرحوم لصرف الدفنة لم لابتياع اللوازم الضرورية. 

وجعل يسأل عا كان وضاه به قبل ذهابه إلى الوزارة 
من إجراءات تستدعيها الوفاة» ثم تأبط ذراعه وذهبا 
معا. . 

0-5 

وعند اقتراب موعد الحنازة بلغ الاضطراب بحسنين 
مداهء اضطراب من نوع جديد كان يشغله عن الحزن 
نفسه. كان يرجو لأبيه جنازة رائعة تليق بمقامه ويمكانته 
هو التى يحبٌ أن يظهر بها أمام الناس. لم يكن أخخواه 
ليكترئا كثيرًا لهذا الأمرء أما هو فكان يعد إخفاق 
الجنازة كارثة كالموت نفسهى غضبًا لأبيه الذي نحيهء 
ولنفسه هو. وقلب عينيه فيمن تجمّع من المشيعين فلم 
بر أحدًا يملأ العين إلا جارهم الكريم فريد أفندي 
محمّدء أمّا زوج خالته فكان في حكم العّال» وليس 


بداية وعباية ١6‏ 


عم جاير سلييان البقّال بسخير منه؛ والحلاق أدهى 
وأمرٌء ونفر غيرهم غيابهم أشرف من حضورهم. 
وانقبض صدره وغشيه كدر عميق. ولكنّه كان قليل 
الصير ف) وافت الساعة الرابعة حَيّى تدفقت جماعات 
الموطّفِين حيٌٌ سدّوا عطفة نصرالله سدًا. وردّت إليه 
الروح فعاد إلى حزنه خالصا من القلق. ثم حدث ما 
لم يدر له في حسبان, فجاءت سمّارة فخمة تنطق بالعز 
والجاه» ووقفت على بعد يسير من البيت وغادرها ساع 
ففتح بابها ثمّ نزل منها رجل ينم مظهره على الألقاب 
والرتب. وتقدّم بجسمه الطويل العريض الذي 
عقدت عليه الخمسون هالة من وقار فهرع إليه الاوخوة 
بأدب. واندسٌ بينهم فريد أفندي محمد ليحظى 
باستقبال الشخصيّة الممتازة التى ينبغي أن يقدّرها ‏ 
كموظف ‏ أكثر من سواه. وتساءل القادم في صوت 
منلخفض : 

ة السن هذ] بيت المرحوم كامل أفندي علي 1 

فبادره فريد أفندي قائلا باحترام : 

- بلى يا سعادة اليك , , 

وم يجدوا ما يقدّمونه له إلا كرسيًا خيزرانًا على 
قارعة الطريق فشعروا بحرج غير قليل. وكان حسنين 
قد امتلاً ارتياحًا لمقدمه ولكنّه وجد ضيقًا لسؤاله عن 
بيت المرحوم ما دل على أنه لم يعرف البيت» واقترب 
من أخخيه حسن يسأله : 

- من يكون هذا الرجل؟ 

فقال حسن : 

أحمد بك يسري» مفتش عظيم بالداخلية, 
وصديق حميم للمرحوم . . 

فسأله بغرابة : 

- لماذا سأل عن البيت كأنه لا يعرفه؟ 

فحدحه حسن بنظرة غريبة وقال: 

كان والدنا كثير التردّد على بيته» أما هو. . إِنه 
رجل عظيم كما ترى. . ! ' 

وصمت الشابٌ لحظة ثم استدار قائلا: 

كان المرحوم يحبّه ويعدّه أعز صديق. 


وتنابى حسنئين هذاء وم يشأ أن يفسد على نفسه 


5 بداية ونباية 


زهوهاء وودٌ لويراه ‏ ذلك المفتتش - المشيعون جميعًا, 
ثم حلت اللحظة المفجعة فخرج النعش من البيت 
وعلا الصوات من الشرفة والنوافذ. انتظمت الجحنازة 
بالمشيّعين جميعا يتقدمهم النعش. وعلقت أعين 
الشقيقين بالنعش في ذهول وإتكارء وتساقط دمعهها 
طوال الطريق. وبلغوا المسجد وأخذوا في توديع 
المشيّعين وشكرهم. وأظهر البعض استعدادًا لمرافقة 
النعش حيّى مستقرّه الأخير» ولكنّ حسنين همس في 
أذن أيه الأكير قائلا: 

- لا تسمح لأحد بالذهاب مهما كلفك الأمر. 

كان حريصًا على ألا تقع عين على القبر حفشّ 
لكرامة الأسرة. ووفقوا إلى صرف المشيّعين. وركبوا 
سيّارة الموق وليس في ركابهم إِلّا عم فرج سليمان 
وفريد أفندي محمد الذي أبى الرجوع إباء لم ينفع فيه 
الرجاء. وانطلقت السيارة بهم إلى باب التصر, 
ووقفت بهم احية قامت بها القبور في العراء ثم وورِي 
جئان كامل أفادي في قبر غير بعيد من الطريق الملتوي 
الذي يش المدافن كأنه من قبور الصدقة. ووقف 
حسنين غارقًا في الحزن والبكاء. ولكنّه على حزنه كان 
يسترق النظرات إلى فريد أفندي محمد في خحجل 
واستياء «لو علم التلاميذ بالوفاة لحاءوا معزين»؛ 
ولرافقني بعضهم حا إلى هذا القبر. الحمد لله الذي 
لا يحمد على مكروه سواه. لا مقبرة ولا يحرنون. لماذا 
لم يبن والدنا مقبرة تليق بأسرتنا!؟». 

- © 

انتصف الليل أو كاد؛ وخخلت الشِقّة إلا من أهلها. 
وآوت الأسرة إلى الصالة ومعهم الخالة وزوجها. 
وراحت الأمّ تعيد قصّة الوفاة للمرّة العشرين في ذاك 
اليوم الحزين» وأنصت إليها حسين وحسنين باهتام. 
على حين وجم حسن متفكرًا , 

وتحدّث حسنين عن أحمد بك يسري متحاشيًا مسألة 
جهله للبيت لوجود خالته وزوجها من ناحية» ولأنه لم 
يكن يحبٌ أن يذكرها من ناحية أخرى. وكان شعور 
العطف نحو والده يملأ عليه نفسه فجعل يرنو إلى باب 
حجرته المغلقة بطرف حزين», ويتخيّل فراشه الخالي 


بإنكار وأسف. ثم نظرت الم إلى الأبناء وقالت: 

- قوموا للنوم . , 

وأذعنوا لمشيثتها بلا اعتراض بعد يوم شاقٌ أليمء 
ومضوا إلى حجرتهم. وكان بالحجرة ثلاثة أسرّة صغيرة 
فأخلوا واحدًا لزوج خالتهم الذي لحق بهم على الأثرء 
وشارك حسنين حسين في فراشه. ولكّهم لم يستسلموا 
للنوم» أو تأبى النوم عليهم. فراحوا يتحدّثون عن 
أبيبهم بحزن وحنان. ويذكرون أيّامه الأخيرة. وميتته 
المفاحئة , ثم قال -حسين: 

كانت جنازته تليق عقامه حقا. . 

فقال عم فرج سليهان بوطاهل تراه 

كان رحمه الله رحمة واسعة رجلا عظيئاء فلا 
عجب أن تكون جنازته عظيمة مثله. ولقد امتلأات 
عطفة نصرالله بالمشيعين من البيت إلى شارع شيرا. . 

ولم يرتح حسنين لصوت الرجل» وكان يشعر 
لوجوده بضيقء ثم ذكر حانمًا أنّه رأى القبر العاري, 
فقال: 

العجيب أن والدنا وقد أفنى مالا كثيرًا لم يفكر في 
بناء مقبرة تليق بالأسرة . 

هل كان يظنٌ أنّه سيهلك في مثل هذه السنّ؟ إِنْ 
رالدكة ق: اتسين وعيدنا فى الحريك كرون 
يتزوجون للمرّة الثانية أو الثالثة في هذه الس . 

وصمت الرجل مليًّا ثم استدار قائلا: 

- ولا تنس أنّ والدك قد هاجر مع جدّته من دمياط 
إلى القاهرة وهو في مثل سنك يا مبى حسنين» فلستم 
من أهل القاهرة الذين يتوارثون المقابر جيلًا بعد 

فقال حسنين بامتعاض : 

سنا لبتاءمق اهل القاهرة وإ كانت أسبابنا نالنا 
في دمياط قد انقطعت. 

وذكر في .حزن أنه لا يعرف لئفسه أقارب غير خخالته 
هذه. وسيبقى هذا القبر المغمور في العراء رمرًا 
لضياعهم المخجل في هذه المدينة الكبيرة. وازداد ضيقًا 
بوجود هذا الرجل الذي احتل فراشه. فآثر الصمت 
حب يقطع عليه سبيل الكلام. وساد الصمت حي 


َنْقَ النوم بأجفاههم. وني الصالة لم تبارح الأمّ وأختها 
وابنتها مجلسهنٌ. ولم يتعبن من الحديث عن الفقيد 
العزيز. وكان الشعور بالفاجعة هنا أعمق من الحجرة 
الأخرى. وقد ارتسمت أماراته على وجه الأمّ النحيل 
البيضاويّ وعينيها الملتهبتين. وكانت بأنفها القصير 
الغليظ وذقنها المدبّب وجسمها النحيل القصير توحي 
بأبا وهبت الأسرة خير ما فيهاء فلم يبقّ من حيويتها 
إلّا نظرة قويّة تنم عن الصبر والعزم . 

وكان التغيّر الطارئ عليها من العمق بحيث يتعذّر 
تصوّر ما كانت عليه أيّامم شبابهاء إِلَا أن ابنتها نفيسة 
كانت تعيد حياتها وصورتها بدقة كبيرة. كان لها هذا 
الوجه البيضاويئ النحيل والآنف القصير الغليظ 
والذقن المدبئب» إلى شحوب في البشرة. واحديداب 
قليل في أعلى الظهرء فلم تكن تختلف عن أمّها إلا في 
طولها الماثل لطول شقيقها حسئين. كانت بعيدة عن 
الوسامة وأدنى إلى الدمامة. وكان من سوء الظ أن 
خلقت على مثال أمهاء على حين ورث الإاخوة خلقة 
أبيهم. وكان الحزن قد أى عليها فبدت في صورة 
بشعة واستغرقت فكرها ذكريات والدها الحبيب. أما 
الأمّ فعلى حزنها الشديد دارت برأسها خواطر أخرى. 
كان يداخلها نحو أختها شعور بعذدم الارتياح. وم 
تستطع أن تنسبى أنّبا كانت تنخُص عليها حياتهاء وأنّها 
كان يحلو لما كثيرًا أن تقارن بين حطظّْليها فتقول: إِنْ 
أختها تزوّجت من موظف أمّا زوجها هي فعامل في 
محلج قطن.؛ وإنّ أختها تقيم في القاهرة وهي مقضيّ 
عليها بالحياة في الريف. وإنْ أبناء أختها تلاميذ 
وأبناءها هي لا حطّا لهم إلا حظّ العّال» وإنّ كرار 
أختها لا ينضب معينه أما بيتها فلا يعرف السعة إلا في 
المواسم. لعلّها لا تجد الآن ما تحسدها عليه. وامتلأت 
نفسها امتعاضا إلى ما بها من حزن. إِثّْها تدرك من 
هول الكارثة ما لا يدركه أحد. انتهى زوجهاء وإنها 
لتتلقّت ينة ويسرة فلا تجد أحدًا تعرفه إِلّا هذه الأخحت 
التي لا يُعقد بها رجاء. لا قريب ولا نسيب. وم يلف 
الراحل شيئًا. وهيهات أن تأمل في معاش مناسب وقد 
كان مرئّبه كله يُستشد في ضرورات الأسرة. وقد 


بداية ونباية /1 ١5‏ 


وجدث في محفظته جنيهين وسبعين فرشا هي كلّ ما 
تملك من نقود حبّى تنتظم الأمور؟ ورنا بصرها إلى 
حجرةٌ الأبناء في سهوم , اثنان في المدرسة. معفيان من 
المصاريف حقّاء ولكن هيهات أن يغنى هذا عنبما 
شيئًا. أمّا الثالث ففي حكم الصعاليك! وتنّدت من 
الأعماق. ثم حولت عينيها إلى نفيسة فتقطع قلبها 
ألًا. فتاة في الثالئة والعشرين من عمرها بلا مال ولا 
جمال ولا أب. وهذه هي الأسرة الى باتت مسئولة 
عنها بلا معين. بيد أمْها لم تكن من النساء اللاتي 
يفضضن همومهنٌ بالدموع. وإن حياتها الماضية وإن 
أمست حلًا سعيدًا موليًا إلا أئها لم تكن يسيرة خصوصًا 
في مطلعها حين كان المرحوم موطَفًا صغيرًا ذا جنيهات 
معدودات» وقد علّمتها الصبر والجلد والكفاح. كانت 
دائًا قويّة. وكانت محور البيت الأؤول. يل كانت على 
الأرجح تقوم بدور الأب. على حين كان المرحوم أدنى 
إلى حنان الأمّهات وضعفهنٌ. والأبناء أنفسهم مثال 
حي على التباين بين الأب والأمّ, فكان .حسن شاهدا 
تعيسا على رخاوة الأب وتدليله؛ وكان حسين وحسنين 
شاهدين على حزم الأمّ وحسن تربيتها. أجل كانت 
أرملة قويّة» ولكتبها لم تملك في تلك اللحظة من الليل 
إلا اجترار الحزن والقلق. . 
ع 

في مساء اليوم التالي لم يبقّ في الدار أحد غير 
أهلها. وقد كُوْمٍ أثاث حجرة الراحل في ركن هنها 
وأغلق بامها. واجتمع الأبناء حول أمُهم وهم يشعرون 
بأنه آن لهم أن يسمعوا لها. وكانت الأمٌّ تعلم بأنه 
ينبغي ا أن تتكلم. ول يختلط عليها الأمر فيها يجب 
قوله. فقد كانت فكرت فأطالت التفكيرء ولعلّه لم 
يكن يحبّرها شىء مثل هذا التناقض بين ظاهرها الدال 
على الحزم والقوة» وباطنها الذي يندى رحمة وعطفا 
على أسرتها البائسة. وخفضت عيئيها متحامية النظرات 
المصوّبة نحوها وقالت: 

مصيبتنا فادحةء ليس لنا إلا الله والله لا يسسى 
عباذة . 

لم يكن بوسعها أن تتساءل ما عسى أن نفعل؟)» 


8 بداية وباية 


وهيهات أن تنتظر جوابًا من أحد من المحيطين بهاء 
حبّى كبيرهم حسن. وليس في الدنيا أحد تستطيع أن 
تلقي إليه بهذه الاستعانة فتشركه في بعض همّها. 

شعرت بالخلاء يكتنفهاء ولكتبا أبت أن تستسلم 
لليأس» واستدارت تقول: 

- ليس لنا من قريب نعتمد عليه. وقد رحل العزيز 
الغالي دون أن يترك شيئًا إلا معاشه. ولا شك أنّه دون 
المرتتب الذي كان لا بكاد يكفينا. فالحياة تبدو كالحة 
الوجهء ولكنّ الله لا يسى عباده. وكم من أسرة مثلنا 
صبرت حبّى أخذ الله بيدها فشقّت طريقها إلى بر 
الأمان. , 

واختئق صوت نفيسة بالبكاء وهى تقول : 

لا أحد يموت جوعا في هذه الدنياء وسياخذ الله 
بيدناء أمّا المصيبة التي تجل عن العزاء فهى موته هو. 
أسفي عليك يا بابا. 

وم تحدث هله الدموع أثرّا عميقًا لأنْ كلام الأم 
أنذر بأمور خطيرة استأثرت بجل اهتمامهم. فثبتت 
أعينهم عل أمْهم الى عادت تقول : 

- لا يجوز إذن أن نيأس من رحمة الله» ولكن ينبخي 
أن عرق راهنا مره قدمنا وال ملكناء وأن. وطن 
نفوسنا على تحمل ما قَدّر لنا من حطّ بصير وكرامة. 
ورينا معنا. 

وأحسّت بأنْ معين الكلام العام قد نفد, وأنّه 
ينبغي أن تخاطب الأبناء. كل بما يعنيهء ورأت عن 
حكمة أن تبدأ بمن هو أقل خطورة. تمهّد به لمن هو 
أشدّ خطورة»: فنظرت صوب حسين وحسنين». وقالت 
بصوت هادئ أن تكشف عا لحق قلبها من تأثر: 

- لن يكون في الإمكان إعطاؤكما أي مصروف 
يوم » ومن حسن الخظ أن المصروف ينفق عادة في 
وجوه تافهة. . 

وجوه ثافهة! اشتراك نادي الكرة» السيئهاء 
اللروايات. أهذه وجوه تافهة!؟ وقد تلقى حسين 
الحكم في وجوم. وتاه عقله متخيّلا الحياة بلا 
مصروف. ولكن دون أن ينبس بكلمة. أمَا حسنين 
فقد انقض الحكم عليه كالصاعقة» وسرعان ما قال 


معترضاء وبلا وعي تقريبًا: 

- كل المصروف؟! ولا مليم؟! 

فحدجته أمّه بنظرة طويلة ثم قالت بحزم : 

عرولا عليه 

أحزها اعتراضه. ولكنها رحبت به لأنّه أتاح للها أن 
تؤكّد قولها بما لا يدع سبيلًا إلى الشلكٌ فيهء ولكي 
يسمعه شخص آخر تخئى متاعبه أكثر من شقيقيه . 
وفتح حسنين شفتيه؛ وهمهم دون أن يبينء ثم قال 
بصوت منلخفض : 

- سنكون التلميذين الوحيدين اللذين تخلو جيويهما 
من مضب وقد 

فقالت أمّه بحذة : 

- إِنْك واهم» المصائب كثيرة؛ والتلاميذ المصابون 
لا حصر لهم. . ولو أنْك فنّشْت جيوب التلاميذ جميعًا 
لوجدت أكثرها فارعًا. ومَبْكا الوحيدين الفقيرين فيا 
في هذا من عيب. ولست المسثولة عا وقع. . 

ولاذ حسئين بالصمت متذكرًا أله يخاطب أمّه. كان 
دائمًا يجد عند أبيه من التسامح ما لا يجده عندهاء 
وكان الرجل يحبّه كثيرًا فلم ينزل من نفسه هذه المنزلة 
إلا ابنته نفيسة. أمَا الأمّ فلم تكن تتخلى عن حزمها 
قط. وليًا فرغت من الردٌ على اعتراضه استطردت 
قائلة : 

كذلك أحذركا من ترك نصيبكها من الغداء 
المدرسئ كا تمعلان عادة . 

وكان الشفيقان رفغا من عذانهن] الدرسء بلقرات 
معدودات كي يتناولا وجبتهما الرئيسيّة في البيت. وكان 
التلاميذ الذين يأكلون في المدرسة حيّ الشبع موضع 
غمز عادة. فتساءل حسنين برقة : 

لماذا لا تأكل في بيتنا كعادتنا؟ 

فقالت الأم بامتعاض: 

من يدري فلعله لن يتاح للبيت الطعام الذي 
تحب ! 

وارتسمث عسلى شفتى حسن - الذي أصغى إل 
الحديث كله في صمت عميق - شبه ابسامة؛ أخفاها 
بتقطيبة مصطنعة. ولكتّها لم تخف على الأمّ. فصمتت 


على أن تواجهه بالحقيقة ‏ إن كان حمًا في حاجة إلى 
ذلك بعد هذا التمهيد الطويل فتساءلت بلهجة 
حزينة : 

- وأنت يا حسن؟ ! 

هذا أكن الأنثاة. أرل من انقظ أموفتياة الس 
الأول ولكته وليل ملمومن عن أن الأمومة قن اتتائر 
بأمور لا تمت للفطرة بسبب. لا يعني هذا بطبيعة 
الخال أمْا كرهته. إِنّبا أبعد ما يكون عن هذا. ولكنها 
أسقطته من حساببها فتوارى من مرموق أمالها في حسرة 
بالغة. انزوى في ركس مظلمء ولم يعد حبه يتحرك في 
فؤادها إلا مصحوبًا بالأسف والحزن وقاتم الذكريات. 
وقد كان ولا يزال المشكلة المستعصية لمذه الأسرة. 
كان في البدء ضحيّة لفقر أبيه وتدليله. فلم يبعث إلى 
المدرسة إلا في سنّ متأخرة. وسرعان ما ظهر تمرّده على 
الحياة المدرسيّة. وتكرر هروبه من المدرسة؛ وتوالى 
سقوطه عاما بعد عام, حيّى انقطع عما ولم يجاوز السنة 
الثالثة. واستحال ما بينه وبين أبيه إلى نقار وشجار ثم 
لها كيه العنداوة اللقة:.:تكيان يطرده احيانا هد 
البيت فيقضي أيَامًا متسكعًا ثم يعود إلى اليك «ويين 
اكتسب شرورًا جديدة من مخادنة الأشقياء والغوص في 
الإئم والإدمان وهو دون العشرين. ولما بلغ اليأس 
7 0 اك 
طرده صاحبه بعد معركة كاد يذهب الحانوت ضحية 
ها. ثم عمل في شركة سيّارات وطرد منها أثر عراك 
أيضا. ولم يعد يأبه لا بغضب أبيه ولا بحزم أمّه 
ففرض نفسه على البيت فرضاء يلقى سخطهم 
باستهانة أو بدعابة أو بشجار ولكنه لا يتزحزح ولا 
يبحث جادًا عن عمل. وبدا وكأنه لا يعمل للمستقبل 
حساباء وظلٌ سادرًا مستهترًا حيّى فاجأه موت الأب. 
نه يدرك خطورة الجال. فهو الوحيد الذي عرف 
مرتّب أبيهء وقذّر على وجه التقريب معاشه. وفهم ما 
تعني الأم بتساؤطها «وأنت يا حسن). وأنت تقولين إِنْ 
الله لا يسى عباده. وأنا عبد من عباده. فلننظر كيف 
يذكرنا. لاذا أذ والدنا؟ ولماذا يعلن عن حكمته على 
حساب أمثالنا من الضحايا؟) ولكنّه طالعها بابتسامة 


بداية وماية ١54‏ 
مؤدبة ع وشعور تمل عطفًا وتقديرا للمسئولية. لم 
قال : 

إن أدرك كل شيء. . 

فقالت المرأة في ضيق متسائلة : 

- ما عسبى أن يجبدي الإدراك وحدم؟ 

- لا بذ من عمل شىء. 

فقالت في انفعال: 

هذا ما نسمعه كثيرًا. 

- الآن تغيّر الحال. 

- أليس ثمّة أمل أن تتخثر أنت؟ ! 

فقال حسن في نبرات قوية : 

- مثل لا يضيع في الحياة, إني أستطيع أن أشقٌ 
سبيل. والفرص كثيرة والأسلحة في يدي لا حصر ها. 
أصغ إل يا أمَاه لن أطالبك بغير المأوى واللقمة!. . 
ينتهي وكأنه يطالب بحقوق جديدة. المأوى واللقمة. 
وماذا يبقى بعد ذلك؟! ورمقته باستياء وقالت: 

إِنْ حالنا لا يحتمل هذا المذر, . 

الحذر؟ 

- أجل. نحن في حاجة إلى من يطعمنا فكيف نبمئ 
لك اللقمة؟! لماذا تضطرّني إلى مصارحتك مِبْذا؟ 

فابتسم ابتسامة باهتة وقال: 

- أعني إلى حين. حص تفرج. لن يضيق البيت بي» 
أم حريدين أن تطرديني؟! وسوف التقط رزقى ما 
وجدت إليه سبيلا. ولكن هبي أيّامّا انقضت دون أن 
اخ غيل لذ ا حسف ترفيون أن: اموت حدر ا وش 
الأ كال ما تاسيف وفنا ند الجددعيلة! 

9 : 1 

وتنبّدت في يأس . إنها حيال مشكلة حقا ولا تدري 
ماذا تفعل. وأخحوف ما تخاف أن يستسلم لحياة البطالة 
والكسل والتسكّع خاضة إذا فتر تأثره بموت أبيه فقالت 
برسجام : 

- أرجو أن تبحث بجدٌ وإخلاص عن عمل. . 

فقال بلهجة تنم عن الصدق: 

- أعدك مبذاء وأقسم لك بقير والدنا. 

وأثار قسمه عاصفة حزن في الصدور لموقعه 


بداية ونباية 


الأليم. . وهرّتهم «قير والدنا» هرّة عنيفة. فأجهشت 
نفيسة في البكاء. وغاص قلب حسئين في صدره. على 
حين رمق حسين أخاه بنظرة حيرة وعتاب. ولبثت الأم 
صامتة مليًا تكابد جرحًا عميقًاء ولكتها لم تنس حي 
في هذه اللحظة ‏ أنها لم تفرغ بعد من قول ما تريد 
قوله. فردّدت عينيها اللتين انتفحم جفناههما واحمرّت 
أشفارهما بين أبنائها ثم قالت : 

أما نفيسة فتحسن الخياطة. وهى تخيط كثيرًا 
لجاراتنا محبّة ومجاملة. ولست أرى بأسًا في أن تتقاضى 
على تعبها مكافأة. 

وهتف حسن بحاس : 

ب عين الصواب. . 

ولكنّ حسنين صاح بغضب وقد اصفرٌ وجهه 
غضبًا: 

خخبّاطة؟ ! 

فأجابه حسن معترضا: 

دافا غيت» إلا الحيب» فلتكن ... 

فقال حسنين بحدذة: 

- لن تكون أختى خيّاطة. كلاء ولن أكون أنا 
لخباطة ‏ ْ 

وقطبت الأمّ في غضب وصاحت به: 

- أنت ثورء تأكل وتنام» ولا تدري عن الدنيا 
شيئاء وهيهات أن يفهم عقلك الغبئّ حقيقة حالنا! 

وفتح فاه ليعترض ولكنّبا صاحت به: 

د ارس 

فنفخ دون أن ينبس بكلمة. ورأت الأمٌ أنْها فرغت 
من معارضته فالتفتت إلى حسين» فالتقت عيناهما برهة 
قصيرة» ثم خفض الفتى عينيه وتمتم على مضض : 

- إذا لم يكن من هذا بد فالأمر لله . . ! 

فقالت الأم ا 

- ما عيب إلا العيب كما يقول حسن. لست أحبٌ 
لأحد منكم المهانة ولكن للضرورة أحكام. ولا حيلة 
- 

وساد صمت مؤْلم. وكان حسين أشبه الأبناء 
بأخلاق أمّه في صيرها وعقلها وإخلاصها للأسرة. وقد 


تألم كثيًا لمصير أخحته ولكنّه استسخف الاعتراض على 


اقتراح أوحت به الضرورة. وشعر في أله بأنّه تعلّم في 
هذين اليومين ما لم يتعلّم في حياته كلّها. أمَا نفيسة 
فسكتت مغلوبة على أمرها. ولم تكن تسمع الاقتراح 
لأول مرّة فقد أقنعتها أمّها بضرورته ووجاهته معا., 
وكانت اللخياطة هوايتها وملهاتهاء فلم يبقّ إلا أن توظن 
النفس لقبول الأجر. لمذا كله تضاعف حزهبها على 
أبيها الذي لم تعد بعده شيئًا. ثم قطع حسن الصمت 
فائلا بلهجة تنم عن الحسرة : 

من المؤسف حمًا أن المرحوم أبى على نفيسة أن 
تواصل تعلّمها في المدرسة. تصوّروا لو كانت أختنا 
مدرسة الآن! 

وحدجوه بغرابة فادرك أنه تورّط فيهما يشبه الدعابة 
وهو لا يدري . أفلم يكن الأولى به أن يعرف للتعليم 
قيمته فيواصل حياته المدرسيّة؟! وقظب مغيظًا وقال: 

- التعليم ينفم أمثالها من لا حيلة لهم. . 

5 

وفي صباح اليوم التالي مضت الأم إلى وزارة 
المعارف مصطحبة معها حسن أكبر الأبناء. ولمَا علم 
هناك أئْا أرملة المرحوم كامل عل أفندي أظهر كثير 
من زملائه استعدادهم لأن يكونوا في خدمتها. وطلبت 
المرأة صرف المستحقٌ من مرّبه فدلا بعضهم على 
إجراءات إثبات الوراثة. وسألت عن معاشه فذهب 
معها خف اماق إل 'إذازة السشدين: ون أن 
المرحوم خدم الحكومة حوالي الثلاثين عامًا فبلغ مرتّبه 
١١‏ جنيهًا واستحقٌ معاشًا قدره خمسة جنيهات لورثته . 
لم تكن اللمرأة تتصوّر هذاء ولا كانت تعلم شيئًا عن 
نصيب الحكومة في معاش المتوق. ولكنّ الذي أفزعها 
حقا هو ما قيل عن الإجراءات الطويلة التي تسبق 
صرف المعاش» والتي تستغرق أشهرًا طوالًا. هال 
الأمر فلم تملك أن قالت: 

- وكيف يتيسّر لنا الانتظار طوال فترة الانتظار؟ 

وقال حسن مسوَعًا قلق أمّه: 

- نحن لا نملك إلا هذا المعاش المنتظر؟ 

وندم حسن على قوله عقب إلقائه مباشرة لأنّه بدا 


غريبًا من شخص في مدر اطرنه ورجولته؛ ولكنّ 
الموطف قال دون أن يلقي بالا إلى هذا: 

أعدك يا سيّدتي بألا نضيّع دقيقة واحدة بلا 
عمل . أمّا إجراءات وزارة الاليّة فلا حيلة لنا فيها. . 

ما جدوى هذا الكلام الطيّب؟ ولكن أبّةَ فائدة 
تنتظرها من التذمر والشكوى؟! وغادرا الوزارة في شبه 
ظلام من القلق والياس. وهتفت المرأة: 

- كيف نلقى الحياة هذه الأشهر؟! وكيف نعيش 
بلخمسة جليهات بعد ذلك؟! 

وخحفض الشابٌ بصره في وجوم وضيق. ولاح لعيئي 
المرأة المكدودتين بصيص من نور فقالت: 

- سازور أحمد بك يسري . إِنْه مفتش عظيم نافذ 
الكلمة. وكان صديقًا عزيرًا لأبيك. . 

فقال حسن بأمل : 

5 رأي لحسن , إن الكلمة مله تغثر إجراءات 
الحكوهة . 

فنظرت إليه باهتام وقالت : 

- لا تضيّع وقتك معي. لعلّك تدرك حالنا على 
حقيقتها فاذهب وابحث لك عن عمل مهما كلفك 
الأمر. . 

وعادت إلى شبرا بمفردهاء ولبثت في البيت حتى 
العصر ثم قصدت شارع طاهر أو حي الأعيان كما 
يسمُوئه. وكان يقع شمال عطفة نصرالله بشلاث 
محظات. متفرّعًا من الطريق العامٌ. تقوم على جانبيه 
الفيلات الأنيقة والعمارات الحديثة. واسترشدت ببعض 
السابلة حيّ استدلّت على فيلا البك. وكائت بناء 
حميلا مكوّئا من دورين تحيط به حديقة مونّقة. وذكرت 
للبؤاب صفتها «حرم المرحوم كامل أفندي علٌ) فعاد 
إليها مسرعًا وقادها إلى مهو استقبال فار موصل 
بفراندة كبيرة» ثم أخبرها أنْ البك قادم بعد ارتداء 
ملابسه. وخيّل إليها أنْ فترة الانتظار قد طالت» 
ولكنّها لبثت بمكانها دون أن ترفع النقاب الأسود عن 
وجهها. وقد شغلت بأفكارها المضطربة عن رؤية 
المنظر النفيس الذي يكتنفها. بيد أنها كانت كبيرة 
الرجاء في هذا الصديق العظيم. طلما ذكره المرحوم 


بداية ونباية ١1/١‏ 


أمامها بالحب والفخار» وطالما لمست ينفسها أنعم هذه 
الصداقة في أقفاص العنب والمانجو تهدى إليهم في 
المواسم. وكان المرحوم يقضي أكثر سهرائه في هذه 
الفيلا, ورتما في هذا الموضم منها حيث تجلس الآن ‏ 
وقد ألقت على ها حوها نظرة حزينة - يلعب بأوتار 
عوده» ويسمر هزيعًا طويلا من الليل. فليس بعيدًا أن 
تغادر هذه القيلا مجبورة الخاطر. وإنّْها لمغرقة في 
أفكارها إذ متح الباب الداخلٌ للبهو وجاء البك 
بجسمه الطويل العريض. وشاربه المفتول بعناية 
بالغة» فقامت المرأة في أدب» وسلّم عليها البك وهو 
يقول برقة : 

- تفضلي يا ست بالجلوس. شرّفتنا. رحمة الله على 
زوجك. كان صديقًا عزيرًا أحزنبي فقده. وسوف 
يحزنني طوال العمر. . 

فاستبشرت المرأة خميرًا ذا اللقاء؛ وشكرت له 
عطفه. وراح البك يحدّئها عن الفقيد حتّى اغرورقت 
عيناها بالدموع. وزادها الموقف استفاضة فلم تحاول 
منعها مدفوعة برغبة غريزية في استثارة عطفه. ثم ساد 
الصمت حينًا فأدركت رغم حزهها واضطرابها أن 
شارب البك وسوالفه مصبوغة» وأنّه يغالي في العناية 
بمظهره. إلى ما تطيب به من روائح زكية عميقة الأثر. 
ولا تكرم بسؤاطا عن طلبتها قالت: 

- جئت مستشفعة يسعادتك لاستعجال صرف 
معاش المرحوم. قالوا لي يا سعادة البك إِنْ إجراءات 
صرفه تستئفذل أشهرًا. 

فتفكّر الرجل ملياء ثم قال: 

لن أدّخر وسيلة في سبيل ذلك» وسأقابل وكيل 
ماله ليف 

فأئلج دون ارتياخا. وشكرته. ثم تردّدت 
لحظات وقالت: 

الحال يا بك تستدعي السرعة, والله المطلع . 

فقال الرجل باهتمام : 

- طبعٌاء طبعًا. إن فاهم كلّ شيء. هل. أنتٍ في 
حاجة إلى مساعدة؟ ! 

يا له من سؤال! إثّا لا تملك إلا جنيهين هما ما 


بداية وخباية 


تبقيا من المبلغ الذي وجدته بمحفظة المرحوم. ولن تجد 
سواهما حيّى يصرف لما ما يستحقٌ من مرثبه حقٌّ 
تاريخ الوفاة. ولكن كيف تفصح له عن هذه الحقيقة؟ 
لم تتعرض لاثل هذا الموقف من قبل» وإنه لموقف 
يستوجب أن تألفه. وعقل الحياء لسانها فسكتت قليلا 
ثم قالت بصوت منخفض : 

أحمد الله على الستر. بوسعي أن أنتظر قليلًا. . 

وارتاح البك للجواب. لقد انزلق إلى السؤال متاثرا 
بالحياء والذوق. ولم يكن ارتياحه لبخل مركب في 
طبعهء ولا لأنّْه يكره أن يمد يد المساعدة إلى أرملة 
صديقه. ولكن لأنه كان على ثرائه لا يكاد يبقي على 
شىء لكثرة نفقاته على نفسه وأفراد أسرته. كان يضايقه 
أن يأخل بيد هذه الأسرة حبّى تبلغ بر السلامة. ولكنه 
كان على استعداد للبذل لو سألته المرأة إيّاه. وقد غاب 
عن المرأة أن زوجها لم يكن صديقًا للبك بالمعنى الذي 
ينيمه البك من الضصداقة. ولعله كان ضديثا من 
أمكدقاكالفوسة التالن. "كان عله وز به ومو هده 
وله قون أن يعدة 3 [الهه أو :هيديا كمائر اكرات 
والباشوات. ولكنٌ نيته صدقت على السعي لخدمة هذه 
المرأة حثى يصرف طا المعاش., إكرامًا لذكرى الراحل, 
وتفاديًا من التورّط في مساعدتبهاء ونبضت المرأة 
مستأذلة في الانصراف فودّعها بالاحترام . ولمّا خلصت 
إلى الطريق تتبّدت في أمل. ولكتها قالت لنفسها في 
شبه ندم: «لو أتيت قدرًا من الشجاعة لما ضِيّعت على 
نفسى معونة أنا في أصسن حاجة إليها. .). 

ع 

وخلا حسين وحسنين لنفسيهها أوْل مرّة بعد الوفاة, 
كانت نفيسة في المطبخ والأمٌ في وزارة المعارف سعيًا 
وراء همومها الجديدة. وبحسن لا يعلم بمكانه إلا الله 
وكان حسين متربّعًا على فراشه. والآخخر ججبالسًا إلى 
مكتب المذاكرة بركن الحجرة يرعش بن أصابعه قلا في 
نرفزة ويقول : 

- يبدو أن الحياة لم تعد تطاق, . 

وانتظر أن يتكلم حسين. ولكنه تجاهل ملاحظته 
فرفع إليه بصره في حنق. كان -حسنين آخر عنقود هذه 


الأسرة فلم يكن غريبًا أن يبحث للشكلاته عن حلول 


ما رأيك؟ 
شيا ل انجسيت وتعا يل 
؟ 


عاقيا قالك! أسي حم أن خالا علذا السودة 

فهر منكبيه قائلا: 

ولماذا تكذينا؟ 

فتألقت عينا الفى بيريق أمل وقال : 

- كى تكسر من حدّتنا. كي لخاف ونتئد. وليس 
هذا عجيبًا فالشدّة مركبة في نه ولولا المرحوم 
والدنا ما عرفنا المرح! 

فقال حسين بحزن: 

- ليتنا ما عرفناه قط! 

- ماذا تقول؟ 

- أقول ليتنا ما عرفنا الندلّل أندَّاء إذن لانت علينا 
الجياة الجديدة المقضيّ علينا مها! 

فقال حسنين وقد ساوره الخنوف: 

- إذن فأنت تصدّق ما قالت! أحمًا لم يترك والدنا 
شيعًا؟ ألا يسدٌ المعاش نفقاتنا؟ 

فتمّد حسين قائلا : 

- إن مؤمن بكل كلمة نطقت بها. هذه هي 
الحقيقة . 

لتساءل حستين جرع 

كيف نطيق هذه اللحياة؟ 

فارتسمت على شفتى حسين ابتسامة حزيلنة. كان 
يشارك أشماه حرنه وقلئم اكد رارم الاك أن يقف 
مله موقف المعارضة فقال : 

- كيا يطيقها الكثيرون. أم حسبت الناس حميعًا 
يحظون بأب كريم ورزق موفور؟!.. ومع ذلك فهم 
يعيشون ولا ينتحرون. 

فامتلأً حسنين غيظًا وهو يحدّق في وجه أخيه وهتف 
به : 

- لشْدٌ ما يحنقني برودك. . 

فقال حسين مبتس]: 


- لو جاريتك في عواطفك لركبك اليأس وأجهشت 
باكيا . 

فقال حسئين بسخط: 

- إن من يستسلم للأقدار يشجّعها على التمادي في 
طغيانها! 

فابتسم الآخر ابتسامة ساخخرة وقال في شبه دعابة: 

- هلم نثرٌ عليها. دعنا خبتف لتسقط الأقدار كما 
هتفنا ليسقط هور. 

- ألم تفدنا ليسقط هور؟! 

هيهات أن تفيدنا الأخرى. 

وقطب حسنين في كدر وتساءل: 

- من لنا الآن؟ 

فابتسم حسين ابتسامة عريضة فَرْطحَت أنفه الذي 
بدا في تلك اللحظة شبيها دأنف أمّه الغليظ. وقال 
باقتضاب : 

الله . , ! 

وزاد الجواب من حنقه! إِنّه لا يشكُ في هذا ولكنه 
لا يقنع به. الله للجميع حقًا ولكن كم في الدنيا من 
جائع ومصاب! الم يتنكر يومًا لعقيدته ولكنّه يتليّف في 
خوفه على سبيل محسوس للطمأنيئة. وتومّم أن أخاه 
يحرجه ليتخلص منه فتشبّث بعناده وقال: 

- لقد شاء أن يأنحذ والدنا ويتركنا بلا معين! 

فقال حسين وكأنه يمعن في إثارته : 

هو المعين . , 

فانفجر حسنين قائلًا: 

عن هدوءك الكاذب لا يجوز علي. 
حمًا؟ 

فأصغى حسين إليه في امتعاض وألم. ثم قال ولعله 
كان يداري عواطفه : 


. أأنت مطمئن 


المؤمن لا نخونه طمأنينته , . 

- إفى مؤمن وقلق معا! 

فقال حسين في غير إيمان بما يقول: 

هذا من ضعف الإيمان . 

فقال حسئين بحئق : 

د أووهد ليكن: و إى: اعرف #الامدل ارون 


بداية وماية 11/7 

بالشكٌ! 

- أعلم هذا. 

- هم أذكياء ومطلعون. 

أتحبٌ أن تفعل مثلهم؟ 

فقال في خحوف: 

- كلا. لست من هواة الاطلاع. أنت نفسك تقرأ 
كثيًا؟ 

فقال حسين منتسمًا؛ 

هذا حقٌ ولكتي لم أنتزع الله من قلبي . والحقٌ آنا 
نغالي في تحميل الله مسئوليّة مصائينا الكثيرة. ألا ترى 
أن الله إذا كان مسئولا عن موت والدنا فليس مسكولًا 
بحال عن قلّة المعاش الذي تركه. . 

وشعر حسنين أن تطوّر الحديث نأى به عن محاوفه 
الحقيقيّة فقال بضيق : 

- دعئا من هذا وخترني كيف نعيش بلا مصروف؟ 
أي بلا سينا ولا كرة, والأدهى من هذا كله أن كنت 
شارعًا في تعلّم الملاكمة! 

- تحامّ ما يوم أمناء إذا لم يكن في وسعنا أن 
نساعدها فلا أقل من أن نريحها من مننْصات لا داعي 
لها. واذكر أنها وحيدة فلا أعمام لنا ولا أخوال! 

- لا أعيام ولا أخوال! كان هذا يبون لولم تصبح 
أختنا خياطة! رباه ما عسى أن يقول الئاس عنًا؟ ! 

وضاق صدر حسين. وغلبه الحمزن. وقعت لفظة 
«خياطة) من نقسه موقعا مؤلمّاء فقال بغضب: 

- نستطيع أن نعيش دون مبالاة بما يقول الناس . 

وأراد أن يقطع الحديث فنهض قائمًا وغادر الحجرة. 

4 

شعرا بحرج وهما يدخلان فناء المدرسة لأؤل مرة 
بعد الوفاة. لن يستطيعا مواصلة الحياة الأولى وسيتغير 
كل ثبىء» هيهات أن تخفى شافية على أعين التلاميذ. 
كان مدا ناتاه مق «17ئ1] شمر :0لا ونا اروف خرمنة 
أللها. ولم يكن قد علم بالوفاة إل قليل فسرعان ما ذاع 
الخير بين الأصنقاء وأقبلوا عليهما معرّين. وقال 


أحدهم محذّرًا ٍ 


5 بداية وخباية 


- يجمل بذويكا أن يحسنا اختيار الوصئّ عليكماء 
فإني لم أدرك حقيقة الفاجعة بموت أبي 0 ابتليت 
بوصاية عمي ! 

الوصئ! وتظاهر حسين بالإصغاء إلى نفر يتحدّثون 
عن المظاهرات الأخيرة والممساعي الملمذولة لضم 
الصفوف. ولكنّه سمع حسنين يجيب صاحبه قائلا : 

- نحن مطمئنُون إلى الوصيّ كل الاطمئنان. . 

فقال محلثه : 

إِنْ أغبطكىا على حشطّكياء بيد أنْ الأمر يتوقف 
على نوع التركة» فإذا كانت أراضي زراعية تيسشرت 
سبل الخداع. وإذا كانت عقارًا ضاقت السبل على 
الوصيّ بعض الثىءء أو هذا ما تقول أمي. . 

فقال حسنين مهدوء : 

من حسن الح أنْ تركتنا عقارًا! 

وأصغى إليه حسين في غيظ. لم يحنقه الكذب 
فحسب ولكنه أشفق من عواقبه. «كيف نواجه الحال 
الجديدة إذا ظنّ بنا الإخوان اليسار؟ ماذا نفعل وماذا 
نقول؟. . إِنّه يكلب بلا مبالاة. سسمقًا له!» وصوّب 
جه لتقن احيه بهد فتحاشاه الفتى في تذمّر. ثم 
تساءل تلميذ كيف مات والدهما فأجاب حسنين في تأثر 
قائلا : 

- قيل لنا إنه مات فجأة. ومن عجب أنه لما راني 
خارجًا إلى المدرسة صباح اليوم الذي توفي فيهء وقبل 
أن يتوق بساعة واحدة» وضع يده على منكبي ورنا إل 
في حنان وقال لي بلا دل ظاهر ومع السلامة.. مع 
السلامة !و . ., 

فمن كان يدريني أنه يودّعني!؟ 

لم يكن شىء من هذا قد حصل. ولا يدري كيف 
قاله. والأعجب من هذا كله أنه قاله بتأئْر صادق ىا 
لو كان وقع حمًا. وقد نطق به ارتجالا مدفوعًا برغبة 
غامضة في تبجيل والده. وعجب حسنين لوصفه ثم 
دهش لتأثره فكاد يغلبه الابتسامء ونحًّى وجهه جانبًا 
فرأى عن بعد قريب رئيس فرقة كرة القدم فأراد أن 
ينفّس عن ضيقه بمواجهة الحقائق فمضى إليه وحيّاه ثم 
قال: 


أرجو أن تعفيي وأخي من الإشتراك في نادي 
كهرا... 

ولاحت الدهشة في وجه الرئيس» وأزعجه الطلب 
خاصّة فيها يتعلّق بحسنين ‏ جناح الفريق الأيمن ‏ فقال 
معترضا : 

- لعل أمرًا ضايقى)! 

فقال حسين بتأثر: 

توق والدنا! 

فوجم الرئيس مليّاء ثم عزّاه برقة» وصمت للحظات 
ثم قال: 

- ألا ترى أنْ هذا لا يدعو إلى حرمان النادي من 
عضوين بارعين مثلكيا؟ 

فقال حسين بلهجحة خاطفة : 

إِنْ الحداد يقضى مبذا! 

فقال الفتى باشّاء 

- إن ظروفنا تقضي بِبْذا. إن آسف! 

ثم حياه مرّة أخرى وغادره متحاميًا النظر إلى عينيه 
وانضم إلى أصدقائه. ووجدهم يتحدثون في السياسة, 
وكان أحدهم يقول : 

رحمة الله على شهداء الآداب والزراعة ودار 
العلوم ! 

فقال آخخر: 

لا بد من التضحية فالدم هو اللغة الوحيدة التي 
يفهمها الإنجليز. . 

فقال ثالث: 

- م يَضِعِ الدم الطاهر عَبَنّاء ألم تسمعوا عن 
الدعوة إلى الاتماد؟ 

- وهذه التيمس تلمّح إلى المفاوضة. . 

ودقٌ الجرس فاتجهوا إلى الفصول وهم يتناقشون. . 

اس 

قطعا فناء البيت في صمت حاملين كتبهماء ثُمْ قال 
حسنين وهما يرتقيان السلم : 

- عا قليل يبدأ فريق نادي شيرا في التمرين 
استعدادًا للمباراة القادمة! 

فلاذ حسين بالصمت. وجعل يتخيل الملعب 


واللاعبين. فكأنه يسمع الرئيس وهو ينبىء الآخرينٌ 
بانفصاله) «لظروف الأسرة الجديدة!» لا لعي ولا 
مسرة ولا رحمة من شكوى حسنين المتواصلة. وطرقا 
الباب ثم دخلا. وتسمرت أقدامهما وراء الباب منظر 
غريب لم يتوقعاه. رأيا أثاث البيت مكوُمًا في الصالة في 
اضطراب شامل وقد رضت المقاعد فوق الكنبات 
ولَقْتَ الأبسطة وفكّت الدواليب, ولاحت الأمّ ونفيسة 
مشمّرتين يعلوهما التراب وتتصبّبان عرقا على لطافة 
الحو. وهتف -حسئين: 

ماذا ‏ حصل؟ 

فقالت الأم : 

- سنترك الشقة , 

- إلى أين؟ ! 

- إلى الدور التحتانّ. ستتبادل السكن مع صاحية 
الت 

شقّة أرضيّة بمستوى الفناء التربء لا شرفة لماء 
ونوافذها مطلّة على عطفة جانبيّة تكاد تبدو منها رءوس 
المارّة؛ وطبعا محرومة من الشمس والحواء؛ وتساءل 
حسئين في امتعاض ولو أنه كان يعرف الجواب مقدمًا : 

لماذا؟ ! 

فقالت الأم بصوت واضح : 

لأنْ إيجارها ١6١‏ قرشا! 

فقال الشات متذمرًا: 

- فَرْق الإيجار أقلّ من 50 قرشًا لا يتناسب ميم 
الفرق بين الشقّتين! 

فسألته الم ساخطة : 

- هل تتعهّد بدفم الفرق التافه؟ 

لماذا رضيئا إذن بأن تشتغل نفيسة خياطة؟ 

فالتهمته الام بنظرة من نار وصاحت به: 

- كي نأكل» كيلا تموتوا جوعًا! 

وحافظ حسين على طلاقة وجهه أن يفتضح 
امتعاضه وسأل أمّه بلهجة لا أثر فيها للاعتراض : 

دق تم هذا يا أمام؟ 

فقالت المرأة وهي تمسح جبيها بكم ثوبها الأسود: 

- عرضت الأمر على صاحبة البيت غير مخفية شيئًا 


بداية ومباية ١16‏ 


من حالناء فأظهرت روحا طيّبة ووافقت بلا تردّد. 

فقال حسئين في استياء : 

- لو كانت ذات روح طيّب حقًا لنزلت لنا عن فرق 
الإيجار مع إبقائنا في شمّتنا! 

فقالت الأم في حذة: 

- للناس أعمال أخرى غير العناية برفاهيتك! 

- وكيف ننام ليلتنا؟ 

فقالت نفيسة بصوت كسير دل على أئها لم تفق بعد 
من صلمة الوفاة : 

سننام في الشقّة الجديدة. 

وترع ولاك اللححطة. جسن نين جور الرجوم 
حاملا بين يديه المشجب وهي آخر ما بقي من الأثاث 
في الحجرات وقال بسرعة : 

- كفاكم نقارًا وهلموا نرفضع الأثاث إلى الدور 
التحتانٌّ فليس بيننا وبين الليل إلا ساعتان. . وأراد أن 
يضرب هم مثلا عمليًا فرفع كنبة من جانب وخاطب 
حسين قائلا : 

- أرقع . . . 

وفتحت نفيسة الباب على مصراعيه وسار الشقيقان 
بحملهه| الثقيل» وجعل حسين يتساءل وهو بهبط في 
السلّم بحذر: ترى هل يراهما أحد من أسرة فريد 
أفندي عحمّد جارهم الكريم بالدور الشالث؟! «ليس 
الفراق شر ما في الموثت. إِنْ الفراق حزن المطمئنٌ. 
متاعبنا تتلاحق بحيث لا تدع لنا وقنّا للتفكير في 
الحرن. لشدّ ما نتخيّر ونتدهورء ولكن ينبغي أن نصير 
أو في الأقل أن نتظاهر بالصبر. أكبر جريمة في نظري 
أن نضاعف بجزعئنا شقاء أمنا. سأخاطب حسلين 
بحزم أكثرا ثم تبعتهما الأمّ والأحت يحملان ما 
يقدران على حمله من قطع الأثاث. ولم يستطع حسنين 
أن يقف متفرجًا فانضمٌ للعاملين. وما زالت الأسرة في 
نزول وصعود والأثاث يتحول من فوق لتحث. وكانث 
صاحبة البيت قد أخيلت الشمّة وجمع أثائها في الغناء 
إلى جانب الحيالين الذين وقفوا ينتظرون دورهم في 
العمسل. وكانت الأسرة جميعا ‏ الصامت منهم 
والساحط ‏ سواء في الحزن والألم. ولم يكن وجه الأمّ 


كلا( بداية ونباية 
ما تسهل قراءته» أمّا نفيسة فابتلّت عيئاها بالدموع. 
واشتغل حسن ببمّة كأنّه يتملق بجهده أمّه فلا تلحف 
في تأنيبه على تعطله. وكان أقل الإحوة تأنْرًا للتغير 
الذي قلب الأسرة كا ينبغي لرجل ذاق التشريد وألف 
التسكع. ومس حسنين في أذن حسين وهو يلهث من 
الجهد: 

ألا ترى أنّْ خسارتنا موت أبيئا لا تعرّض أبدًا؟! 

وانسابث من عينيه دمعتاك , 

207 

غادر حسن البيت مبكرّاء عقب خروج شقيقيه 
للمدرسة. لم يكن ثمة داع ضروريّ لهذا الخروج 
اليكرء ولكنه أراد أن يتفادى من الاصطدام بوالدته أن 
يصحبها بنقار هي في غنى عنه بما تكابد من تغيّر الزمن 
وتجهّم الحظ. انطلق من عطفة نصرالله بلا غاية ولا 
أمل . وابحث عن عمل! لا تفتأ تردّد على مسمعي 
هذه الجملة. أين يوجد هذا العمل؟ صبيٌ بقّال؟! 
هذا معناه الإسعاف ثم البوليس . ) ولكنه لم يكن يائسًا 
للحد الذي توجبه حاله. كان كبير الثقة بنفسه. وكان 
في طبعه تفاؤل لا يدري من أين يأتيه. ولكنّه لم 
يستطع أن يتجاهل دقّة موقفه وراح يخاطب نفسه 
قائلا: ديا أبا علّء مات الوالد رحمه الله ففقدت 
الركن الذي كنت تأوي إليه. حمًا كنت تلتقط رزقك 
بالشجار والنقار. وتتحمل في سبيله السب واللعن. 
ولكنّه كان على أيّ حال رزقًا مضموئًا. هذه البدلة 
الى تجعل منك أفنديًا لا بأس به من نقوده رحمة الله 
عليه. أجل أبى أن يبتاعها لك بادئْ الأمر ولكنّك 
هدّدته بأن تمشى في الطرق باللباس والفائلة وأن تقتحم 
عليه مجلسه بقصر أحمد بك يسري شبه عار. فأذعن 
على مضض وكلف الخيّاط بأن يفصّلها لك. الآن لو 
مشيت عاريًا بلا لباس ولا فائلة فلن تجد من يسأل عن 
صحّتك إلا الشرطئ!». كانت البدلة حسئة وإن م 
تخل من بقع باهتة عند ثلية الركبة. وكان يربط رقبته 
بابيّون فبدا القميص في حال لا محسد عليها. وكان 
شعره أعجب ما فيه: فقد تركه حتّى غزر واسترسل » 
وتصاعد في جعودة جعلت منه رأسًا مستقلا فوق 


الرأس الأصلّ. أمَا وجهه فكان حسن كشقيقيه إلى 
جسم طويل مفتول العضلات عريض العظام. سار 
متفكرًا فيا حاطب به نفسهء ثم وانته ثقته بنفسه فجأة 
فقال ويا سيّدي لا تسمح للهم بأن يركبك فا يجوز أن 
يركب إِلَا البهائم من عباد الله. سوف تعيش طويلا 
وتلقى الحياة بخيرها وشرّها. لم أسمع عن إنسان مات 
جوعًا. الأغذية تسد الطرق سدًا. ولستث طمّاعًا فيا 
تريد إلا اللقمة والسترة وكم كأسًا من الكونياك» وكم 
َمْسا من الحشيش» وكم امرأة من النساءء وكلّ أولنك 
متوفرة بكثرة» أكثر من الهم على القلب. توكّل على الله 
ولا تحمل هماه ولم يكن خلو الجيب فقد أشرف على 
جنازة أبيه» وخرج منها بأربعين قرشًا لم يعلم بها أحد 
وقد تساءل ألم يكن الأخلق به أن يعطيها لوالدته؟ 
كلا لو نزلت عنبا ما أفادت أمّى منها نفعًا مذكوراء 
ولْكنّ ضياعها يضرني ضررًا لا شك فيه. لا أدري 
متى يتاح لي الحصول على مثلها!» وأخحذت قهوة الليّال 
تلوح لعينيه الحادتين فحت خطاه حبّى التهى إليها. 
هي قهوة صغيرة لم تَؤْتَ من ميزة إلا وجودها على 
الطريق العامٌ. ول يوجد بها في هذه الساعة المبكرة إلا 
زبونان جلسا إلى مائدة على الطوار يتشمسان ويحتسيان 
القهوة على حين قبع في ركن بالداخل شان ثلاثة 
يدل مظهرهم ونظرات أعيتهم الحائرة على الفراغ 
واليأس. فلم يكن عجيبًا أن يقصدهم الشابٌ وينضمٌ 
إلى مجلسهم . وما لبث أن طلب أحدهم الورق فتهيئوا 
للعب الكومي . وكان كل منهم يمثى نفسه بأن يربح 
رزق يومه - خمسة قروش فوق الكفاية - من رفقائه . 
بيك أن نخسن كقرا :ها ركوان: الفزاكن لها رقف مين تأنفية 
ولخفة بده وعينيه من ناحية أخرى. هذا قال أحدهم 
قبل البدء في اللعب: 

ل نزيك غشًا. 

فقال حسن : 

- طبعا . 

فقال الشاتث: 

فلنقرأ الفاتحة. . 


وقرأوا الفانحة حميعًا بتسوات مسموع. ولعل جسن 


تعلّم حفظها حول هذه المائدة» ثم لعبوا مقدار ساعة 
فريح أحدهم دورّاء وربح حسن دورين. كان صافي 
ربحه أربعة قروش ونصف بعد خصم نصف قرش 
ثمن فلجان القهوة. واقترح بعضهم أن عدوا وقت 
اللعب»ء ولكن دََْلَ القهوة شابٌ ما إن رآه حسن حت 
نض قائاء وأقبل نحوه في احترام وسرور وهو يقول: 

صباح الخير يا أستاذ عل صبري . 

فمدٌ له القادم يده في حركة تشي بشعوره بقدر 
ذاته وقال: 

ميات اللتا... 

وجلسا إلى مائدة متقابلين. واجتاحت نفس حسن 
موجة كرم عاتية فنادى النادل وطلب للأستاذ صيري 
قهوة, ثم قال الأستاذ للنادل قبل أن يذهب: 

و 

وغاص قلب حسن في صدره أن يلزم بدفع ثمن 

النارجيلة أيضًا فيضيع عليه ما ربح باللعب والحظ 
واليد والعين. ولكنّه سرعان ما تناسى قلقه ليفرغ إلى 
استطلاع وجه الأستاذ. وكان علي صيري في منتصف 
عقله الثالث. متوشسط القامة تحيل العود» صغير 
القسيات» أمّا شعره فأشبه ما يكون بشعر حسن.ء إلى 
سوالف تزحف حيّى منتصف خدّه. وكان مظهره بوجه 
عامٌ يدل على سوء الحال ولكنّه يغطيه بنفخة كاذبة 
وغرور غير محدود. قال حسن بأسف وهو يستطلع 
وجهه : 

لم نسمع صوتك من زمان! 

وكان أذاع مرّات من المحطات الأهليّة وبدا وكأن 
الح يبتسم لهء فنا ألغيث المحطّات الأهليّة وأنشعت 
محطة الإذاعة الرسميّة حيل بيئه وبين إحياء الحفلات. 
وضاعت مساعيه وراء هذا الأمل هباء. وكان حسن 
أحد أفراد تخته المعظل» وطبيعي أن العمل لم يكن يدر 
عليه أكثر من قروش في الحفلة, ولكنه كان يحبّه ويؤثره 
على العمل الجحدّيّ الذي لم يصادف فيه توفيقًا على 
مشْقّته ووحقارته»! وقال الأستاذ: 

سأبداً نشاطا جديدًا عا قريب. 

فخفق قلب حسن وقال برجاء : 


بداية ونباية /ا/ا١ا‏ 
- نحن رجالك., وفى الخدمة دائ). . 
فهر الأستاذ رأسه في رضى لأنْه لم يكن يشعر بالعة 
إلا إذا خاطبه أحد أفراد تخته المتسكعين. خصوصًا 
حسن, ذلك الشرس الجبّار» الذي ينقلب بين يديه 
وديعًا متملَقّاء ثم قال: 
- طبعًا. إِنْك تردّد ترديدًا حسناء وصوتك لا بأس 


فانطلقت أسارير حسن في بشر وقال: 

ولقد حفظت كثيرًا من الطقاطيق. . . 

- مثل ماذا؟ ! 

- اللي حيّلكء ظاماني ليه لما انكويت بالثار. 

فهرٌ الأستاذ منكبيه استهانة وقال: 

إِنْ مك الفنّ الدور والليالي. ماذا يُسمع الآن في 
الراديو؟ لا شيء. هذا زعيق فارغ وليس بغناء. ولو 
كانت المحطة تراعي وجه الفنّ وحذه لكنت المذيع 
الأول بعد أم كلثوم وعبد الوهاب. وعبد الوهاب 
نفسه. يخاف كثيرًا أن تخونه حنجرته فتراه يتحامى 
النفس الطويلء ويشطره أجزاء قصيرة متواريًا وراء ما 
يسميه بالتجديد». ثم يغطي ضعفه بضجيج الآلات . 
إليك كيف عي «يا ليل» في الحفلة الأخيرة, . 

وتنحنح ثمّ راح يغئي يا ليل مقلَدًا عبد الوهاب . 
وجاء النادل بالنارجيلة والقهوة وهو يغْئي فتناول 
الخرطوم دون أن يمسك عن الغناء حتّى انتهى . 
وحينذاك هتف رفاق حسن «الله , , الله . . » فأخد نَفسَا 
من النارجيلة دون أن يلتفت إليهم . ثم قال لحسن 
همسا ' 

هذا إعجاب بالصوت 0 اسمع هذه 
اللبالي في نَفْس واحد كا ينبغي أن تُعْيّى. . 

وأنشد بصوت ملا القهوة الصغيرة حتّى رفع 
صضاحب القهوة رأسه عن صندوق االماركات وأسارير 
وجهه تراوح بين الابتسام والاعتراض . وانتهى الأستاذ 
عل صيري», وعاد إلى النارجيلة وني نيته أن يشكر في 
هذه المرّةِ للرفاق استحساءمم إذا أبدوه؛ ولكن ساد 
الصمث فلم يُسمع إِلَا قرقرة الماء في قنّيئة النارجيلةء 
وقطب الأستاذ وقال في ثقة : 


8 بداية ونهاية 


هذه أصول الفنٌ. . 

فقال حسن بحاس : 

لا شك في هذا. . 

فقال بلهجة الناصح : 

عل مواق ا اكت عو الستروو كا فين 
الليالي. ولا نّنِ عن مص السكر الات 

يا سلام! 

مسقي سان ورا عتذ] الو ايععطلة عن الفمكر 
وأذنت للصلاة فهو خير مران للحنجرة» وهو ما كان 
يفعله سلامة حجازي . . 

فضحك حسن وقال: 

ولكثئي أنام عادة قبيل الفجر. . 

- إذن قبل النوم . 

في مسجد؟ ! 

المهمّ الأذان نفسه في هذه الساعة المبككرة. في 
مسجدء في حالة» كيفا اتفق! 

- وإذا كان الإنسان من غير مؤاخذة سكران أو 
مسطولا؟ 

يكون أفضل. فها تستطيعه وأنت غائب عن 
وعيك أضعاف ما تستطيعه وأنت صاح. . 

- ينبغي أن نتقابل كثيرًا حي يفتح الله علينا. . 

ثم التفت صوب الرفاق الثلاثة وسأطم : 

ماذا كنتم تفعلون؟ 

كنا نلعب الكومي . . 

فقال الأستاذ عل صيري باهتهام : 

هلم نجرّب حظنا. . 

وبض الرفاق وأقبلوا نحوهما بلا تردّدء ثم تحلقوا 
المائدة والطمع يلعب بقلوبهم جميعٌاء بيد أنْ حسن كان 
قلمًا مشفقًا من مغبّة هذا اللعب. دما عسبى أن أصنع 
مع ابن القديمة هذا؟ إذا كسبت أغضيته وإذا خسرت 
ضاع اليوم هدرًا؟ !؛. 

2 

لا أدفم مليًا واحدًا أكثر من الثلاثة الحنيهات. 

قالها تاجر الأثاث وهو يلقي نظرة على فراش 
المرحوم. ولم تعد تجدي مساومة الام . وكانت قل 


أجمعت على بيع الفراش ولوازمه لما يشيره وجوده من 
الأحزان» ولأنها باتت في مسيس الحاجة إلى نقود. 
وكانت ترجو له ثمنًا أكثر من هذا لعلّه يسدٌ بعض 
عوزها الملسّ إلى النقود. ولكتها لم تجد بدا من الإذعان 
فقالت للتاجر: 

- غلبتنا سامحك الله ولكتّنى مضطرّة للقبول. . 

ودفع الرجل إليها بالجنيهات الثلاثة وهو يشهد الله 
أنّه المغلوب» ثُمْ أمر تابعين بحمل الفراش . 

واجتمعت الأسرة في الصالة تلقى نظرة الوداع على 
فراش فقيدها المحبوب. وتمفّل الراحل لهم فكائهم 
يرونه رؤية العين» وغلب الحزن نفيسة فأجهشت في 
البكاء وأطبقت الأمٌ شفتيها كاتمة آلامها. كانت حرم 
على نفسها البكاء أمام أبنائها أن تعاودهم حدّة الحرن. 
لم يكن لهم من أحد يعتمد عليه سواها فوجب أن 
تظهر بمظهر الرجولة. لو وجد هذا الشخص للاذت 
بالدموع كسائر النساء ولكن لم يكن لها محيد عن 
التصبر والتجلّد. وفضلا عن هذا كله فلم ثُواتها فرصة 
للتنفيس عن حزنها بما جبهها من هموم العيش وأثقاله. 
ووجدت نفسها في الغالب مضطرّة إلى تناسبي أحزان 
القلب لتناضل ها يتهدّد أسربما من الضرّاء. «يحز في 
نفسى ألا أجد فراعًا للحزن عليك يا سيّدي وفقيدي . 
ولكن ما الحيلة؟ حي الحزن نفسه محرّم على أمثالنا من 
الفقراء». ولم يكن حسين يتصور أن يفرّطوا في 
غلّفات أبيه ولكنّه لم يفكر في الاعتراض. والواقع أن 
حال الأسرة لم تعد تخفى على أحد. ومضى التاجر 
بالفراش وأغلق الباب فساد الوجوم حيناء وأرادت 
الآمّ أن تبدّد سحابة الحزن التي أظلتهم فقالت مخاطبة 
حسين وحسلين : 

- هيا إلى حجرتى! للمذاكرة. . 

وقبل أن تبدأ حركة قالت نفيسة بانفعال: 

لن أسمح لمخلوق بأن يمس ثياب أبي. . 

فقال حسن مِوْمَّئا على قوها: 

وما من فائدة ترجى من بيعها. . 

وساذ الضيحت خينا لم قال حسن مستدركا وكأنه 
يواصل حديثه : 


وفضلًا عن هذا فلن ينقضي وقت طويل حي 
تشتدٌ حاجتنا إلى الملابس ! 

فتساءلت نفيسة في ارثياع : 

أيمكن أن تستعملوا ملابس أبي؟! 

وم يجرؤ أحد على الاعتراضء ولكنٌ الرقة مشت 
قلب الأمّ فقالت: 

ما في ذلك من ذنب. وليس فيه ما يسيء إلى 
المرحوم» بل لعلّه مما يطبّب ثراه. ولكيي ساحتفظ بها 
بنفسي حبّى تمس الحاجة إليها حمًا. . 

وتشجع -حسن بقوها فقال في ارتياح : 

- نطقت عن حكمة. وإلى أذكرك بأني الوحيد 
الذي لا أكاد أختلف طولًا أو عرضًا عن المرحوم أبي. 

وتناسى الشقيقان الحزن الذي ران على صدريبم) 
فقال حسنين محتجا: 

إِنّ وإن كنت أطول منك قليلا إلا أنه يمكن مد 
ثنية البنطلون! 

وقال حسين بلهجة ذات معن : 

أو ثليها مرّة أخرى. . . 

فقالت الأم في ضيى : 

لا داعي للنزاع. توجد أكثر من بدلة في حال لا 
بأس مها وسأورّعها تبعًا للحاجة إليها. . 

ثم بلغ المسامع طرق على الباب فقطع عليهم 
الحديث. وخفت نفيسة إليه ففتحته» فدخلت نخادم 
فريد أفندي محمّد حاملة سلة مغطاة بغطاء أبيض 
وضعتها على السفرة وهي تقول: 

سئي تسلّم عليك يا سئي وتقول إِنَّ هذا فطير 
القرافة , 

فحمّلتها الأم السلام والشكر وذهبت الخادم من 
حيث أتت. واقترب حسن من السلّة وحسر عنها 
الغطاء. فبدت الفطائر بألوانا الورديّة وطار عرفها 
الشهئ إلى الأنوف. ولم يكن تيأ للأسرة طوال 
الأسبوعين المنصرمين طعام شهيّ لا أت به الام 
نفسها من الحذر والتقتير. ولاحت الرغبة في أعين 
الإخوة. ولكنّ الأمّ كانت تتجهّم لما الخواطسر. 
والحقيقة أنْ تلك الأيَّام لم تكن تضمر لها خيراء وحقّى 


بداية ونباية ١1/8‏ 


خيرها لم يخل من نكدء وبدا التفكير في تجاعيد وجهها 
رهي تقول : 

- هديّة مشكورة ولكنّ الواحب أن نهدي ما يماثلها 
عقب العودة من القرافة» فيا العمل؟! 

وجد الإخوة خيبة» وأراد حسين أن يف عن أمّه 
فقال: 

- فلنُعِدٍ الهديّة إلى أصحابها شاكرين! 

فقالت الأم في حيرة : 

يعد مثل هذا العمل معيبًا لا أثر للمودّة فيه. . 

فقال حسن متحمسًا لقول أمّه: 

- بل يُعْدٌ سلوكًا عدائيا. . . 

وتناول فطيرةء وشمها ثم قال باستهانة : 

لا تحملوا هما. إنما تُرَدٌ هذه الهدايا في أوقاتباء 
فإذ1 ماف فريك افتلدى :يعد عمر طويل اععدينا إلى أمرانة 
سلّة فطائر» ولن يعجزنا صنعه وقتئذ بإذن الله . 

وراح يلتهم الفطيرة. وتبادل الشقيقان نظرة ثم مدا 
يديها إلى السلّة, حيّى نفيسة سمعت تمطقهم فلم تعد 
تقاوم . . 

ف 1 اك 

جلست نفيسة على الكنية في الحجرة التي تنام فيها 
مع أمّها مكبة على ماكينة الخياطة) وقد نثرت على 
أرض الحجرة قصاصات من الأقمشة. كانت الأمّ في 
المطبخء والشقيقان في المدرسة, أمّا حسين فحيث لا 
يدري أحد. وقد باتت الفتاة تضمر لشقيقها الأكبر مر 
اللومء فلو أنّه وجد لنفسه عملا لما وجدت نفسها في 
الوضع التي هي فيه. لا يؤمن أحد بأنه جادٌ ‏ كما 
بقول ‏ في البحث عن عمل» ولكنّه يغيب النهار 
ونصف الليل ثم يعود كما خرج صفر اليدين. ولم تعد 
الأيّام تطالعهم إلا بما يسوء فاليوم اضطرّت الأمّ إلى 
الإستغناء عن الخادم الصغيرة لتوفر أجرتها فاصبح 
عليها هي واجبان يوميّان: أن تبتاع حوائج البيت من 
الطريق لتسدٌ الفراغ الذي تركته الخادم وأن تعكف 
سحابة يومها بعد ذلك على ماكينة الخياطة. وقد 
مهّدت لا الأمّ سبيل العمل بنفسها منذ يومين فقالت 
لصاحبة البيت حين جاءت بقطعة من القماش 


٠‏ بداية ونباية 


لتفصيلها : 

هل عندك مالع من مكافأة نفيسة على عملها؟ 

فقالت المرأة بلا ترذد: 

أبدًا يا ست أمّ حسن . هذا حقٌ وعدل. وهيهات 
أن نوفي ما علينا من دين لست نفيسة . 

ما زال سمعها يرجّع هاتين الجملتين. وما تذكر أنها 
وجدت نفسها في مثل هذا الموقف طوال عمرها. لقد 
تصاعد الدم إلى وجهها الشاحب فكاد ينضح به 
وشعرت بأئْها بوي من علء وأنها أمست فتاة أخرى. 
ليس بين الكرامة والضعة إلا كلمة. كانت فتاة محترمة 
فانقلبت خيّاطة. وأعجب شيء أنه لم يستجدٌ جديد 
بالنسبة إلى العمل نفسهء فطالما خخاطت ثياب صاحبة 
البيت. وامرأة فريد أفندي وابنتها وغيرهن من 
الجبران. فالخياطة هوايتهاء ولما فيها من البراعة ما 
يجعلها قبلة الجيران والصديقات, لشِدٌ ما تغيّر 
شعورها. أحسّت بالخزي والحوان والضعة. وتضاعف 
حزنها على أبيهاء فبكته بكاء حاراء وبكت نفسها فيه. 
مات الفقيد المحبوب فات بموته أعر ما فيها. 

كانكف تترهل سق العنقي الذ ل الف ا 
مترئمة كعادتها فيا ولى من أيّام. وكانت تنتظر حضور 
صاحبة البيت بين آونة وأخرى لتفصل لا بعض ثياب 
داحليّة بعنت بها إليها هذا الصباح. أجل بعثت بها 
هذا الصباح فحسب» عقب حديث أمّها بيومين» ما 
جعلها تظنْ أنها أرسلتها على سبيل الإحسان! وقد 
أفضت بأفكارها إلى أمها فانتهرتها قائلة : 

لا تسلّطي هذه الأوهام على نفسك وإلا خاب 
مسعانا حميعا. 

ولم تكن تجرؤ على معارضة أمّها إلى ما باتت تكله 
لها من الرثاء في هذه الأيّام الأخيرة. «ما أغباني. هل 
حسبتها راضية عن حالي؟ إنْها تكابد حيرة قاتلة وهي 
أحقّنا بالعطف. إن التعاسة تنفذ في لحمئا كا تلفل 
هذه الإبرة في قطعة القماش . ما كان أبي ليسمح بشىء 
من هذا ولكن أين هو؟ إن حزني عليه يتضاعف يومًا 
بعد يوم لا للضي الذي مسّنا بعده فحسب ولكن لأنْ 
هذا الضِرّ نزل يمن يحبّهم ويحبٌ لهم الخير. إن آلم 


لأله. لا بد أنه متام لناء لشدٌّ ما كان يحبّني. كأله 
بحدس ما يرصدني من شقاء. اضحكي. ما أحبٌ 
ضحكتك إلى نفسي. هكذا كان يقول لي كلما تعالت 
ضحكتي الرئانة. وكان يقول لي أيضًا الاقة أنفس من 
الجمال كأنه يعزينى على دمامتي. لله ما الطفه وما 
أعذبه» لم يكن مثله أحد في الرجال. مات. مات . 
لن أنسبى ما حييت إيماءته إلى صدره وهو ملقى على 
الكنبة : أبي يستغيث ولا مغيث. لتندك الجبال على 
الأرض. حياة بغيضة مفجعة لا خير فيها. أبي ميت 
وأنا خيّاطة. عدا قليل تجيء صاحبة البيت لا ضيفة ى) 
كانت ولكن زبونة. كيف ألقاها؟ بأي عين تنظر إليّ؟ 
حسبيى ع حسبىي ٠»‏ دام رأسي» . وسمعت أمّها مخاطب 
شخصًا في الصالة فكفت يدها عن الماكينة وأرهفت 
السمع فقرع أذنيها صوت تاجر الأثاث وهو آخخذ في 
مساوماته التي لا تنتهي وأمها تحاوره بصوت مله 
الإشفاق واللوم. «ليست أمّي بلهاء. وما كانت لتغلب 
في مثل هذا الموقف. ولكتّها الحاجة القاسية التي 
تركبهاء. متى يصرف لنا المعاش؟ لا أدري», ولا أحمد 
يسري يدري. هيهات أن يكفينا المعاش. خمسة 
جنيهات؟! كارئة. جاء الرجل ليحمل المرآة الكبيرة 
بحجرة الاستقبال ولمَا يمض أسبوعان على بيع 
الفراش العزيز. وسيأي غدًا وبعد غد حص يترك الشقّة 
أرضًا عارية. لماذا شلقنا أسرى أذلاء للغذاء والكساء 
والمسكن؟ هذا س_ متاعبنا». وخفت إلى باب الحجرة 
ففتحته ورأت التاجر ومعاونيه محملون المرآة الطويلة 
إلى الخارج وقد فتح باب حجرة الاستقبال على 
مصراعيه ووقفت أمّها على عتبتها. وكان الرجل الذي 
حمل مؤخرة المرآة قصيرًا فحُملت المرآة في وضع مائل 
ورأت سطحها ينعكس عليه ركن سقف الصالة 
متأرجحًا بحركة الرجلين كأنمًا سرى بأوصال البيت 
زلزال. وذكرت وهي لا تدري نعش أبيها. واشت 
انقباض صدرها وهي تلقي نظرة الوداع على المرآة التي 
عاشربها منذ رأت النور. وعادت إلى مجلسها: «ينبغي 
أن تكون المرآة آخر ما أحزن عليه. لن تعكس لي 
وجها أس” به. الخفة أنفس من الحجمال! هذا قولك يا 


أبى وحدكء ولولاي ما قلته أبدًا. لا جمال ولا مال ولا 
أب. كان يوجد قلبان يساورهما القلق على مستقبلٍ. 
مات أحدهماء وشغلت الحهموم الأخر. وحيدة. 
وحيدةء وحيدة في يأسى وألمى», ثلاثة وعشرون عاما! 
العم 1 أت الزوج بالأمس والدنيا دنيا 
فكيف يأتٍ اليوم أو غدًا؟! وهبه جاء راضيًا بالزواج 
من خيّاطة فمن عسى أن يقوم بنفقات الزواج؟ لاذا 
أفكر فى هذا؟ لا فائدة. لا فائدة. سوف أظل هكذا 
ما ححييت» . 

ودقٌ الباب, ثم جاءت صاحبة البيت متهذلة 
كعادتها, واعتصحها وقبّلتها. ثم جلستا جنا إلى جنب 
وتحدّئت المرأة برقة ومودّة, 0 حرصت على الرقة 
واللرقة اكد هرق انف اقلرا. موتظ اهرت الفينة جالرضهنا 
والارتياح تداري بها ارتباكها ونحجلها. ولكن من 
المؤكد أنْ مبالغة المرأة في إظهار مودتما آلمها وآذاها 
وضاعف من ارتباكها رايا وقد جرّبت المرأة 
الفستان الذي انتهت نفيسة من خيطه. وقاست 
الثياب الداخليّة» ثم جلست لصقها وغمرت يدها 
بنقود فضيّة وهي تقول : 

هيهات أن نوقثي ديئك السابق . 

ومكثت معها ردحُحا من الزمن ثم ودّعتها 
وانصرفت . وسطت نفيسة يدها فرأت قطعئين من 
ذوات العشرة القروش. وثبتت عيناها عليهها وصدرها 
جيّاش وقلبها حافق . ثم قهرها الحياء والهوان لاشىء 
مؤلم . ولكن ينبغي أن أفكر في هذا. ما جدوى وجع 
الدماغ؟ روضي نفسك على قبول ما لا بل منه. هذه 
حياتي ولا حياة لي غيرها..؛ وجاءت الأم وهي لا 
تزال تنظر إلى النقود فأخذتها من يدها وسألتها: 

أجرة الثياب كلها أم الفستان وحده؟ 

فخمغمت الفتاة؛ 

عل أدري . ٌ 

فقالت الأمّ وهي تزدرد ريقها بصعوبة: 

أجرة حسئة على أيه حال. 

وتحاشت الأمّ أن ينم وجهها على شيء مما يقوم في 


بداية ونهاية ١81١‏ 


فدات 

ومضت أسابيع . وكان الليل قد أرخبى سدوله 
وشفلت الشقة كابة وفا يشية الصية:. وكان 
الشقيقان يجلسان إلى المكتب متقابلين» منبمكين في 
المذاكرة؛ على حين جلست الأمّ ونفيسة في الصّالة في 
شبه ظلام قانعتين من النور ‏ على سبيل الاقتصاد ‏ بم 
ينبعث من حجرة الأبناء. وتناجتا في صوت منخفض 
شأمها كل مساءء وكانت هموم العيش أكثر ما يستأثر 
بحديثهما. لم تزل الحاجة همّههما الأكبرء وما انفك 
الخوف يقض مضجم الأمْ ويجعلها ترم المستقبل بقلق 
وحزن عميق . بيد أن العادة كانت تحدث أثرها 
الملطف في تبوين الخطب وإساغته. فلم يعد التقشّف 
في الغذاء مزعجًا كيا كان بادئ الأمر» وأحذت نفيسة 
تالف مهنتها الجديدة. وتتطلع إلى زبائن جددء في 
شيء من الانكسار وكثير من الرجاء. 3 الشقيقان. 
تعوّدا أن يجعلا من غذاء المدرسة وجبتهها الرئيسية. 
وأن يبينا بلا عشاء في صير وجلد. كانت العادة تحدث 
أثرهاء وكان حزم الأم يسيطر على ضبط أعصساب 
الأسرة المنكوبة. وف ذاك المساء جاء فريد أفندي محمد 
وزوجنه يزوران الأسرة فاستقبلتها الأمٌّ ونفيسة 
بترحاب وقادتاهما إلى حجرة الاستقبال. 

وكان فريد أفندي يرتدي جلبابا كاتا أما حرمة 
فقد التفت بالروب» وكأئها في شقته| بغير ما كلفة. 
وجلس الرجل على الكنبة ليفسح المجال الخسمه المكتنز 
وراح يحذث حديثه الودود في لطف وإيئاس. وكانت 
زوجه م دبا افاي بل إلى القصر. 
إلا أنبا كانت تُعدَ أجمل امرأة في العمارة لبياض بشرتها 
وزرقة عينيها. وقد قالت تخاطب أم حسن متسائلة في 
هجة تنم عن العتاب : 

لماذا تلزمان البيت هكذا؟ لاذا لا تروّحان عن 
نفسكى| بزيارتنا كا كنت) تفعلان؟ 

فقالت الأم : 

هجم برد الشتاء وما إن يآتي المساء حيّى يركبنا 
الكسل» أمّا مهارنا فلا يخلو ساعة من هموم البيت. . 

فقال فريد أفندي : 


١‏ بداية وباية 


- نحن أسرة واحدة. ويلبغي أن غغغضى جل فراغنا 
معا. 

كان فريد أفندي من لا يبرحون بيوتهم بغير داع 
قهار» ويرى طيلة فراغه متربَعًا على الكنبة ومن حوله 
زوجه وببية ابئته وسالم ابنه الصغيرء يسمرونء 
ويمصّون القصب أو يشوون أبا فروة. وكانت الأمْ تكن 
مودة صادقة لعطفه ومروءتهء ولا تسبى له ما تَِشّم من 
تعب يوم وفاة زوجها. وفضلًا عن هذا كله فقد 
أقرضها بعض الال لحين صرف المعاش. ولم يكن يني 
عن الذهاب إلى وزارة الماليّة للاستعلام والاستعجال, 
نيك أله كان هولق أثاقة الشأن وهو ما غاب عن تقدير 
لمرأة. ول يرق إلى الدرجة السادسة إلا حديئًا على 
بلوغه المخمسين. وكانت جيرته للأسرة ترجع إلى عهد 
بعيد. وتوثّقت أواصر الصداقة بينهها لطيب معشرهما 
وقرب أسباب المعيشة بين الأسرتين. وكانت حياة لا 
بأس بهاء ولا تخلو من ألوان الترفيه. ثم نعمت أسرة 
كامل أفندي برفاهية جديدة حين رُفَى المرحوم إلى 
الدرجة السادسة قبل وفاته بخمسة أعوام. واستقبل 
فريد أفندي عهدًا جديدًا منذ عامين. فورث بِينًا 
بالسيّدة زينب يدر إيجاره عشرة جنيهات شهريّاء وبلغ 
به دخله ثانية وعشرين جنيهاء مما يعدٌ ثروة في عام 
7 . وبات فريد أفندى سيّد عطفة نصرالله » وزاد 
ترهلا على ترهّل. ولولا حرص زوجه على الاقتصاد 
لمواجهة مستقبل فتاتها وابنه| الصغير لنقّذ الرجل ما 
أراده يوما من الانتقال إلى شقّة بشارع شبرا. 

وتنشّل مهم الحديث من واد لوادء ثم قال فريد 
أفندي مفصحًا عن رغبة لعلها كانت أوّل ما بعثه إلى 
هذه الزيارة : 

ديا ست أمْ حسن. إن قاصدك في رجاء. . 

فقالت الام : 

- مر يا سيّدي . . 

- إبني سالم» وهو في السنة الثالثة الابتدائية. 
ضعيف في الإنجليزي والحساب. وقد رأيت على سبيل 
الاقتصاد ‏ لأنْ المدرسين طّاعون كا تعلمين ‏ أن 
أعهد إلى -حسين وحسلين بالقيام بِبْذه المهمّة» ساعة 


كل يوم أو يومًا بعد يوم. هذا رجائي يا ست أم 
حسن . 

وأدركته المراة أن الرفسل عل سل غنين مام 
بالكرامة لنفح ابنيها بمصروف شهريّ يرفه عنها. هذا 
واضح كالمبار ويتفق مع ما طبع الرجل عليه من دمائة 
ورقة. وقالت برقة وحياء: 

إِنْ حسين وحسنين ابناك. وهما طوع أمرك. . ! 

فقال الرجل بسرور: 

- فليسعفاني بسرعة إذنء وليبدءا يوم الجمعة 
القادم . . 

وعادوا إلى حديئهم الطويل» ثم غادر الرجل 
وزوجه الشمّة حوالي التاسعة. وهرعت نفيسة إلى 
حجرة أخويبا حاملة خيرًا سارًا لأؤل مرّة مئذ عهد 
ليس بالقصيرء؛ وقالت بمرح وفك استرذت شيثا من 
طبيعتها الأول : 

مفاحأة! 

فرفعا رأسيهما إليها في استطلاع فقالت: 

- فريد أفندي راغب في اختيار مدرس لسالم. . 

- وما شأننا في ذلك؟ 

- منكيا. 

لأ ماذة؟ 

- الإنجليزي . . 

فصاح حسئين : 

- أنا طبعًا! 

والحساب أيضا. 

فقال -حسين وهو يتنهد : 

ناه + 

مولي مقا ووبقا نبا ان 

فهتفا معًا في سرور وقد أدركا ما وراء كلامها: 

ب طبعا! 

0 

لم يكن ثمة ما يدعو إلى ارتداء البدلة في ذهابهها إلى 
شقة في نفس العارة فارتديا معطفيهما على البيجامتين . 
وإلى هذا كانت أمّها تحرّم عليها ارتداء البدلة ‏ أن 


يبليها طول الاستعيال ‏ إلا للضرورة القصوى. وكان 
الضحى بسام الشمس فلطفت حرارتها من برودة 
الجوٌ. وارتقيا السلّم يملأهما السرور والأمل. ومرًا في 
صعودها بباب شقّتههما القديمة فألقيا عليها نظرة 
صامتةء وانتهيا إلى الشقّة العليا فوجدا الباب مواريًا 
ووقفا حظات متردّدين . ثم اقترب حسلين من الباب 
ورفع يده لينقر عليه ولْكنّ يده جمدت في الهواء ورنت 
عيناه إلى الداخل على رغمه. رأى فتاة مولية الباب 
ظهرها ومنحنية على شيء بين يدبها - لعلّها تبحث في 
درج من أدراج البوفيه ‏ وقد برز ردفاها اللطيفان. 
وانحسر الفستان عن ساقيها وباطن ركبتيهاء» ساقان 
مديجتان يكسوهما بياض ضاحك تكاد العين تَحسٌ 
طراوتهها. وثبتت عيناه على المنظر فلم يبد حراكا. 
وعجب حسين لوقفه فدنا منه في اهتام وألقى ببصره 
من فوق كتفه وهو يشرئبٌ بعنقه فغمرته دهشة» ولكن 
سرعان ما ارتك عن فرجة الباب كالهارس وجذب أنخاه 
من ذراعه وهو يرمهيه بنظرة حادّة كأنا يقول له «أمجنون 
أنت؟». ولبئا حيئا وقد ركبهما ما يشبه الشعور 
بالذنب. وكان المنظر ذرٌ في شقوق صدربهها الشطة. 
ومال حسنين على أذن حسين وهمس : 

فغمغم الآخر متظاهرًا بعدم الاكتراث: 

لعلّها. . 

فتردّد حسنين وف عينيه بسمة شيطانية ثم قال: 

- ألا نسرق نظرة أخرى؟ 

فلكره في كتفه ونححاه جانبًا ثم اقترب من الباب 
وطرقه. وسمعا وقم أقدام أتية. وفتح الباب عن وجه 
جميل» مستديره ممتلئ» أبيض مشوب بشحوب 
خحفيفء تزينه عينان زرقاوان صافيتان. وما إن رأثت 
الكادين اح وجاك وخر الم كخاء يمن يعد 
صوت فريد أفندي وهو مهتف: 

- تفضّلا يا حضرتي الأستاذين الكبيرين! 

ودلا إلى الصالة ‏ حجرة السفرة أيضا ‏ فرأيا 
فريد أفندي جالسًا على كنبة في مواجهة البوفيه. في 
جلباب فضغفاض. جعل منه كهيئة المنطاد. وسلّم) عليه 


بداية ونباية ١41‏ 
وهو يتصفح وجهيهم| باهتام وترحيب» ثم نادى سالم 
فجاء الغلام ووقف في حياء وارتباك» فقال فرييد 
أفندي : 

عضلم ضلن: امنا بلقا انك تدوقين] طكاالكتني 
من الآن فصاعدًا شخصان جديدان. هما أستاذاك 
فتأذب في محضرهما ى| تتأدذب أمام معلّميك. . . 

فاقترب منهما الغلام في أدب وهو يغالب ابتسامة 
حيال الشابين اللذين لم يألف احترامها بعد. وأشار 
الأب إلى حجرة إلى يسار الداخل وقال: 

- حجرة الاستقبال أوفق حجرة للدرسء, وبها 
الشرفة إذا أراد أحدكا أن يتشمس. , 

ومضى الأستاذان إلى الحجرة يستقبله التلميذ. 
وبادر الغلام إلى الشرفة ففتح بابباء ثم أغلق باب 
الحجرة. وكانا يدخلان الشمّة لأوّل مرّة لأنه لم يكن 
لفريد أفندي ابن في سئهها فتدعوهما صداقته إلى التردّد 
عليها. ووجدا حجرة الاستقبال بمنزلة حجرتها بوجه 
عام فهي مكونة من طاقم قديم ذي كنبتين إفرنجيتين 
وسنّة كراسئء ومرآة كبيرة ذات حوض مذهّب يحوي 
وردًا اصطناعيًا بيد أنَّ حجرتمها بقيت على قِدّمها 
وبيعت مرآتباء أمّا هذه فيبدو أنْ يد النجّاد قد جدّدت 
حشوها وكساءها. وجلس حسين على كنبة فجاء سام 
كرسي وجلس قباله واضعًا بينهها خوانا صُفت عليه 
الكتب والكرّاسات؛ على حين حرج حسنين إلى 
الشرفة في اتتظار دوره. وجعل حسين يتصفح كرّاسات 
الغلام وكتبهء ثم قال له: 

ع مناعك التدوونى بي نار لواشا دكا سا تين 
عليك على أن نبدأ في الدرس التالي بتسميع ما تم 
شر جه , 

وبدأ الدرس في اهتيهام جذَي . 

ووقف حسنين في الشرفة مرتفقًا حافتها كما كان 
يفعل أيَام كان لهم شرفة. وكان المنظر الذي أثاره لا 
يزال ناشبًا في ميّلته. الساقان البديعتان. والوجه 
البدريّ ذو العينين الزرقاوين. نظرة هادثة رزيئة نوحي 
بالثبات لا بالخقّة. جمال يبهر وإن شابه شيء من ثقل 
الدم ولكنّه لم يترك أثرًّا سيّئًا في نفسه. لا يزال دمه 


4 بداية ونباية 


يتدفق حارًا في عروقه» وقلبه يخفق بنشوة المنظر. 
ورأسه لا يمسك عن سخلق الصور والأحلام , هذه 
أسطح البيوت المحدقة به وهذه عطفة نصرالله في 
أسفلء وهؤلاء حلق كثيرون ذاهبون آثبون. كل 
أولئك يلوح وراء غلالة حمراء نشرها خياله المحتقن 
الدم. متى تعود السكينة إلى نفسه؟ إنه يذكر مهية . 
كان يراها كثيرًا وهى صغيرة تحجل في فناء العمارة. 
ولكّبا لاع د الثالئة عشرة» وانقطعت عن 
المدرسة أيضًا قبل أن تلتحق بالمدرسة الثانويّة. ولعلها 
في الخامسة عشرةء ولكن كان كأنه يراها لأوؤل مرّة. 
دإفي بحاجة إلى مثل هذه الفتاة. نذهب إلى السينما 
متا تلفت متاك دو عع اه كن زر توما عون برق لل 
أقبلها وأعانقها. ليس في حياتي وجه جميل يجذببي إليه. 
وحسبى ما صادقت من فتيان المدرسة ونادي شسيررا. 
أريد فتأة. أريد هذه الفتاة. في أوربا وأمريكا ينثا 
الفتيان والفتيات معًا كا نرى في السينا. هذه هي 
الحياة. أما هذه فا إن رأتنا حّى توارت عن الباب 
كأتنا وحوش نروم التهامها. وكان أجدادنا يقتنون 
الجواري. لو نشات في بيت مليء بالجواري لعرفت 
حياة أخرى على رغم أمْي وإنذاراتها ولكاتها. حقى 
الخادمة الصغيرة طردت لفقرنا. ما يخبء لنا المستقبل» 
أظنّ أكبر ذنب يؤخل به في الآخرة هو أن نترك هذه 
الدنيا دون أن نستمتع بحلاوتها. أجمل منظر حمًا هو 
بطن ركبتها. في وسطه عضلة رقيقة مشدودة تشف 
بشرتها عن زرقة العروق. لو انحسر الفستان قليلا 
لرأيت مطلع الفخذ. أجمل منظر في الدنيا منظر امرأة 
تخلع ثيابها. أجمل من المرأة العارية نفسها. يقولون إِنْ 
مدرّس التاريخ زير نساء. متى أجد نفسي رجك 
حرًا!؟ عندنا غدًا حصّة تاريخ ويجب أن أحفظ هذه 
الليلة القبائل الجرمانية. انكحوا ما طاب لكم من 
النساءء هذا أمرك يا ربٌ ولكنّ هذا البلد لم يعد يحترم 
الإسلام». وتابع أحلامه في نشاط حيّى ترامى إليه 
صوت حسين يدعوه إلى درس الإنجليزي فغادر 
موفقشقة . . 

وعئد الصرافهها بدت لما الفتاة جالسة في الحجرة 


المقابلة الحجرتهاء أمًا حسين فقد غض بصره في وقاره 
المعهود. وأمًا هو فقد رنا إليها بنظرة قوية فخفضت 
عينيها في حياء . 
311 

- كم تظنٌ أن يكون أجرنا؟ 

فقال حسين متظاهرًا بعدم الاكتراث : 

لا تكن شحَادًا ثقيلا. . 

فقال حسنين بأمل : 

- نحن ندرّس لسالم يومًا بعد يوم وقد مضى زمن لا 
بأس به فلعلّه ينقدنا أجرنا أل الشهرء نيئة لا تستبعد 
أن يعطي كلا منا نصف جنيه وهو مصروف عال! 
ستعود أيام الكرة والسينا وشيكولاتة المقصف في 
الفسحة , . 

كانا يرتقيان السلَّم وقد غاب بهار الشتاء القصير في 
ظلمة المساء المبكر. وطرقا الباب كعادتها وانتظرا أن 
يجىء من يفتحه وهما يطويان في صدريها أملا يتجدد 
مساء بعد مساء دون أن يتحقّق. وجاءت الخادم 
وقادتهها إلى حجرة الاستقبال. كانت الصالة خالية 
والضوء ينبعث من حجرة نوم الوالدين في ماية الصالة 
فسار حسلين وهو يلحظ المكان بجانب عينيه دون 
جدوى ثم جاء سالم وأغلق وراءه الباب وجلس أمام 
حسين وبدأ الدرس. وشعر حسنين بخيبة وملل . 
وكان أحضر معه كتابًا يذاكره حبّى يجيء موعد درسه 
فراح ينظر فيه بعيلين غائبتين. وجعل يرفم بصره إلى 
الباب المغلق بحبق شديد» ثم تساءل: بمكر: 

ألا يحسن بنا أن نغلق الشرفة اتقاء للبرد ونفتح 


الناب؟ 

وهم سالم بالنبوض ولكنٌ حسين أشار له بالخلوس 
وقال: 

أغلق الشرفة إذا أردت على أن يبقى باب الحجرة 
نا 


ورمقه بلظرة ذات معى فتلقاها حسئين باستياء 
مكتوم. وضاق بمجلسه فقام إلى الشرفة متناسيًا أنه 
كان يقترح إغلاقها منذ لحظات. ووجد حيال الظلمة 
كآبة مثل تلك السحب التِى كانت مرئقة بصفحة 


السماء تزيد الظلمة عمقًا ووحشة. لم يكن بالآفاق 
نجم واحدء ولاحت أضواء المصابيح خافتة تحت 
غاشية من الضباب» وخيم على الكون سكوت ثقيل 
وبرودة صامتة كأنما كتمث أنفاسه. «حنبلق) حنبي. 
خب أن يكون: .رجلا وقورًا قبل :الأوان:. :ولا ,يبدو أله 
يريد أن يعاونني. من يدري لعلها لو كانت لما أحث 
لتغئر سلوكه. إنْه كأمّه جادٌ صارم. ينبغي أن أفض 
هذه المشكلة بالحلٌ الموفق» وراح يتفكر باهتهام حيّى 
سمع صوت سالم يناديه فغادر موقفه إلى التجرة. وقال 
له الغلام : 

- تفضل شايًا. 

ورأى قدحين من الشاي على الخوان فتناول أحدهما 
وقد خشف منظر الشاي من توثّر أعصابه. وقبل مضئ 
دقيقة سمعا صرير الأكرة فنظرا صوب الباب ففتح 
قليلّا وبدت بهبيّةَ! كانت تحمل السكريّة فأعطتها لسالم 
وهي تقول : 

خخذ هذه فربما لم يكف ما بالشاي من سكر. . 

كانت ترتدىي فستانًا نيا تكاد تمس أهدابه أعل 
القدم فأضفى طوله على قامتها المائلة للقصر ملاحة. 
وحملق الشقيقان في وجهها وهي لا تحول عينيها عن 
الغلام. ثم غض حسين بصره ولا يفق من وقع 
المفاجأة بينا ظل حسنين يحملق في وجهها كأنه عجر 
عن استرداد بصره. ورأى الغلام يجبيء جالسكرتة؛ 
وأحذت الفتاة تردٌ الباب فملأ الجزع قلبه الخافق. 
وعز عليه أن تختفي وهو غارق في ذهوله وجموده. 
وطفرت من أعماقه رغبة في الافصاح لا تقاوم. فقال 
بعجلة : 
شكرًا. الشاى به الكفاية. . ! 

وتحولت عيناها إليه في ارتباك؛ ثم اختفت دون أن 
تنبس بكلمة؛ ولعل عينيها عُتا عن ابتسامة مكتومة. 
وتحاشى النظر صوب أخيه فحصر بصره في قدح 
الشاي. «مفاجأة لم أكن أنتظرها. حلم سعيد. عل 
الرغم من الباب المغلق!» ورشف رشفة كبيرة من 
السائل الساخحن فلسعت لسائه وسقف حلقه وجعلته 
يلفخ في جزع. ولكنّ سخونة الشاي لم تغيّبه طويلا 


بدابة ونباية ١8626‏ 

عنًا يعاني من إغراء. «جسم لدن. عينان جذابتان. 
هيهات أن يخفي هذا الفستان الطويل ها انطبع في 
حسي من صورة الساقين. وبطن الركبة خاصة. لا 
الفستان ولا الباب ولا الظلام . أعظم واجب في هذه 
الدنيا أن تلاعب فتاة جميلة تحبّها. إن أعجب كيف أن 
فتاة يمنعها الحياء من التحديق في وجه حبيبها تستطيع 
يومًا أن تنزع ثياها بين يديه دون مبالاة! هذا التطور 
خاصة خليق بأن يبعث بهيج الأمل في موات النفوس . 
أو لعلّها العادة؟! يجوز. هذه العادة التى جعلتنا نألف 
المبيت على الطوى! كيف يحق لي أن أفكر في اللحبٌ 
على ما نكابد من قساوة الحياة! شكرًاء الشاى به 
الكفاية! أحسنت بشكرها صنعًا. لا يحب طبعي الجبن 
والتردّد. وبذلك يمكن أن أقتنص فرص الحبٌ وسط 
برودة الفقر. الفقر! لو كان الفقر رجلا لقتلته! ولكنّه 
امرأة. تقتلنا ونحن راضون. ترى هل يتأ أبي لخالنا؟ 
ترى ما هيئته الآن؟ فى عليك يا أبي. حقًا إن الحياة 
اكنوبة سكي ركنا ادك نوا لقره 
جاءت لي أنا في الواقع. أريد أن أكون شالرلمان 
عصري . لو عدت يومًا إلى عطفة نصرالله حاطا بعظمة 
فروسيته لألقت بنفسها علي من الشرفة. .» وما بدري 
إلا وحسين يقول له: 

- دورك, . 

اللغة الإنجليزيّة! وحلّ محل أخيه؛ وألقى درسّا 
متلكًا عطفًا وح للغلام الذي يجري في عروقه الدم 
الذي يجري في عروقها. ذلك الدم الذي استشفّه في 
بطن ركبتها. وانتهى بعد زمن لم يدرك له طولاء ثم 
غادرا الشقّة معًا إلى السلم المظلم. ولم يعد يطيق صر 
فقال: 

- كان ظهورها اليوم مفاجأة بديعة! 

فقال حسين بلهجة تنم عن الانتقاد : 

- حاذر لا تكن وقحًا. هذا بيت محترم! 

ماذا فعلت فأستحق هذا التأنيب؟ 

- لا تفعل شيئًا تندم على فعله إذا كان فريد أفندي 
معنا . 

وغلبه السرور فقال وكأنه يناجي نفسه : 


5 بداية ونباية 


جاءت بنفسهاء لله ما الطفها! 

ليس في هذا ما يعجب. . 

ترى أكلّفها أبوها بإحضار السكرية؟ 

فقال حسين بملل: 

من أدراني بذلك! 

- أم جاءت من تلقاء نفسها؟ 

ليكن هذا أو ذاك. 

وإذا كان من تلقاء نفسها فهل جاءت تحت بصر 
والدمبا؟ 

فلم يجبه الآخر وإن ظلّ منتبهًا لما يقول في اهتمام 
شديدء فعاد حسئين يتساءل : 

أو جاءت خخحفية!؟ 

ل خحفية؟ ! 

فضغط الشات على ذراع أنيه وقال وهما يغادران 
آخر درجات السلم : 

ألا يقولون «من القلب للقلب رسول!؟». 

- ١1/ 

جئت ألآن وحدي» وسيجيء حسين بعدي. 
حب لا يضيع وقتنا بلا ضرورة! 

فقال سالم بأذدس : 

ا هذا أفضتل.... 

واتل كلاهما مجلسه. ولكنٌ حسنين قال قبل أن 
يدأ درسه: الأوفق أن تغلق الشرفة وتفتح الباب! 

ونبض سام فحقّق رغبة أستاذه. ورأى الصالة 
مظلمة صامتة ولكن لم يفتر أمله. فلا يزال في الوقت 
متّسع للشاي. ثم للسكريّة! وأراد سالم أن يتودّد إلى 
مدرّسه بأن يفضى إليه بما في نفسه فقال: 

ينانا نان عل 

فخفق قلبه بعنفء. ونظر إلى الغلام طويلاء ثم 
سأله ' 

- متى ذههما؟ 

بعل العصر. . 

وساوره القلق أن تكون قد ذهبت معهما فتساءل: 

- وكيف تبقى وحدك في البيت؟ 


فقال الغلام : 

معي أبلة بهيّة. . 

وابترد صدره بلدّة الارتياح والأمل: «الشاي 
والسكر. السكر خاصّةء بل السكريّة. سأتحقق اليوم 
ا إذا كانت تتعمّد الظهور أمامي!». وأمر الغلام أن 
يطالع وبدأ الدرس؛ وأصغى إليه دقائق ثم مضى 
بغيب عنه. «هل أطلب شايًا؟ قلة ذوق! ولكن إذا 
تآخر الشاي فلا بد من طلبه. إفي مضطرب أكثر ما 
ينبغي . إِنْنا وحيدان في الشقة أنا وهي . لا يخدش هذه 
الوحدة سام أو الخادم الصغيرء فنحن وحيدان. 
فلأنعم طويلًا ببذه الوحدة الخباليّة. لو كانت الدنيا 
بسيطة كبساطتها الحلوة الأولى لقمت إليها وأنحذتها بين 
ذراعيّ» وسألتها باطمئنان كامل أن تكشف لي عن 
ساقيها. ما الذي يجعلبيى أحجم عن رغبة كهذه؟ هذا 
سخف الدنيا الذي قتل أبي وأنزل بنا ما نحن فيه؛. 
وانتبه إلى سالم وهو يسأله عن معنى كلمة فذكر له 
معناهاء وأمره أن يواصل المطالعة. وقبل أنْ يغيب عنه 
صوت الغلام سمع وقع أقدام تقترب فاتنجه بصره 
ناحية الباب المفتوح. م رأى صيئيّة الشاي تتقدم 
حاملهاء ووقع بصره على الساعدين اللتين محملانما 
فخفق قلبه خفقة عنيفة ونبض قائم) كمن به مسء 
وجاءه صوت رقيق وهو يخطر نحو الباب يقول بصوت 
كالهمس : 

مسال 

فظهر حيالحها وهو يتفخصها بنظرة عارمة ثُمم همس : 

ألف شكر. , 

وتورّد الوجه الأبيض المائل للشحوب ولعله لم يتوقع 
ظهوره؛ ثم غضّت بصرها في ارتباك. ومدٌ حسئين 
يديه فتناول الصيئيّة. فاطبقت يده اليمنى على أصابع 
يسراهاء وسرى مسّها في يذه. وذراعه. وجسمه. 
وروحهء في أقَلٌ من الثانية. وم تقف به جرأته عند 
جة اتشغط عل اصنابها سه شين ناف 
فاستخلصت يدها في استياء. وي وجهها عبوسة., 
وتحوؤلت عن الباب في حدّة الغضب. وعاد إلى اتلثوان 
بالصيئيّة شديد التأئّر. ثم جلس على مقعده وهو يقول 


للغلام في ارتباك : 

00000 

«ترى هل تعججلت الأمر قبل أن ينضج؟ ما أقل 
صبري »؛ هكذا أنا دائًا. يا ا من عبوسة! عبست 
وتولت. إن يكن حياء فهو عر المنىء وإن يكن حتقًا 
فلعله الختام. هيهات أن أتراجعم. هيهات أن يطيب 
لي التردّد أبدّاء لماذا جاءت بنفسها؟ لاذا لم تكلّف 
الخادم بحمل الصينيّة؟ جاءت لي أنا. هذا واضح. لا 
داعي للخوف». وكان ينتبه إلى سالم في أويقات 
متقطعة. ويم عليه بعض الأسئلة. ثم يغيب عنه في 
قلق يراوح بين الإشفاق والسرور. ولمًا أن انتهى 
الدرس خطرت له فكرة فصمم على تنفيذها دون 
ترذد. ونبض قائماء وغادر سالم الحجرة ليبوسع سه 
الطريق فاخرج منديله من جيب معطفه وتركه على 
المقعد» لم غادر الشقّة. ولكنه ١‏ يبرح مكانه بعد 
إغلاق الباب. وقف يرهف السمع إلى خطوات الغلام 
حتّى ضاعت,. وتريث لحظة ثم نقر على الباب. وانتظر 
وقلبه يئب وثبًا من شدّة الخفقان. «إذا جاءت الخادم 
ضاع تدبيري هباء. ولكن من المحتمل أن تأت هي . 
أمري لله؛. وأضاء نور الصالة وسمع وقع أقدام قادمة 
ثم فتح الباب. هي . ولم يبال ما ارتسم على وجهها 
من آي الدهشة. ولم يضيّم وقته سدّى فتساءل في رقة 
وإشفاق: 

أنخاف أن أكون أغضبتك! 

فتراجعت نخطوة دون أن تفتح فاها فقال بعجلة: 

- لا أطيق أن تغضبي أبدًا. . . 

فغمغمت في استنكار كائّها لا تحتمل أن يوجّه إليها 
خطابا : 

لاء لاء لاء هذا كثيرا 

ولم يستطع أن يتكلم لأنّْ سالم ظهر على عتبة الغرفة 
اليسرى وهو يتساءل : 

جاءت ماما؟ 

فقال حسنين بصوت مرتفع : 

- نسيت منديلي في الحجرة! 

وجرى سام إلى الحجرة» وسارعت الفتاة بالعودة 


بداية ونباية /الى ١‏ 


إلى الداخل. ثم جاءه الغلام بالمنديل فتناوله ومضى 
وقد نسبى أن يشكره. . 
ْ 00" 

ورفع حسين رأسه عن المكتب وتفخصه بدهشة ثم 
سأله : 

ما لك؟ 

فضحك حسنين ضحكة قصيرة دون أن مجيبء 
فسأله الآخر بلهجة ذات معبى : 

أأعطيت درسك؟ 

فارئمى حسنين على فراشه وتساءل: 

هل أبدو متغيرًا؟ 

- بلا ريب . 

فتمبّد الشابٌ قائلا : 

- يحقٌ لي أن أحمد الله على أن أمّنا تجلس في! يشبه 
الظلام . 

ماذا حدث؟ 

هل يخبره بما حدث؟ ولكن هلى يلقى منه إلا زجر!؟ 
قال: 

- لم يحدث شيء؟ 

- واضطرابك؟! إنك إذا اضطربت تور أنفك 
كالخار. 

قال حسين ذلك ثم تساءل في نفسه هل يتوئّر أنف 
الجمار حمّاء كيف اختار هذا التشبيه؟ ولكنٌّ الآخر 
تضاحك قائلا: 

- هيجان شعورء هذا كل ما هنالك. , . 

وبعد؟ 

- ولا قبل | 

فقال حسين بجدٌ واهتمام : 

- أريد أن أعرف مقصدك . 

- لا أفهم ما تقول. 

لا تتجاهل ما أعني أنت تفهم كل شيء. اذا لا 
تتركها وشأءا؟ ألا تحاف أن يفطن فريد أفندي إلى 
عفلك أو أن يلق امرك عر «ظر وق الفناة تفسينا» 
سترمي بنا إلى مركز حرج . . . 

فقال -حسنين منتسمًا : 


4 بداية ونباية 


- والله يا أخي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر 
في يساري على أن أتركها ما تركتها أو أهلك دوها. . . 

فضحك حسين على رغمهء ثُمْ قال وهو يستعيد 
مظهر الحد والرزانة : 

- ماذا تريد منها؟ 

يا له من سؤال! يبدو غاية في البساطة ولكن من له 
بأن يجيب عليه؛ ولم يكن طرح على نفسه هذا السؤال 
فلم يدر له جوابا. كان اندفاعه بوحي من عواطفه 
وغرائزه دون حاجة إلى تفكير. ثم قال في حيرة: 

في مثل حالتي لا تفرّق بين الباعث والغاية. 

- لا أفهم ما تقول. 

- ولا أنا بفاهم ! 

- إذن دعها وشأها ىا قلت لك. 

- لن أزال وراءها حي . . . 

فتفخصه حسين بنظرة كتيبة وتقتم متسائلا : 

- حب ماذا؟ 

- حقّى تقع كما وقعت. 

0 

فقال الشات الحائر؛: 

حسبي هذا! 

فهر حسين رأسه في حدّة وقال: 

- أنت خط : إثها فتاة مهذية »: ومن أسرة طبية 
ولن ترضى عن سلوكك. . 

- هي ما قلت وأكثر ولكئي لن أتخلٌ عن أملي. . 

وقام إلى المكتب فآأخل كتبه وكرّاساته وعاد إلى 
الفراش ثم وضعها على حافة النافذة المغلقة التي تلي 
فراشه مباشرة» وجلس متربَعًا حياها كأنه جالس إلى 
مكتبء فسأله حسين متعجّبًا : 

2 لا خلس إن الكت" 

- أريد أن أتريع لأدو ساقي . 

وكان يفكّر في أمر ذي بال ففتح كرّاسة واقتطع منها 
صفحة وأمسك بالقلم وراح يعمل ذهنه في اهتهمام 
ووجد واضطراب. «سأكتب لحا كلمة. لن تتاح لي 
فرصة لمخاطبتها فلا حيلة لي إلا هذه. ولكن ماذا 
أكتب؟0. وركز فكره مستعيئًا بالسكون الذي يغشى 


الع ل سدشه قش اله خسوسة اوزاف الكةابية 
[ذ] قلها جسنت كه أحذت أذناه تستبين صوت 
راذيو يتسذل من النافذة المغلقة وانيًا من ببث من بيوث 
العطفة. وقطب متظاهرًا بالضجر ولكنه ارتاح إلى 
سماعه هربا من حيرة أفكاره. وأصغى إلى «عادت ليالي 
الهناه فسلّم سريعًا بمجامع نفسه وجاش صدره بالحنان 
وندى بالعطف وهفا قلبه نشوة للحبٌ والحياة. وغمرته 
موجة حماس فامتلاً نشاطا وتمقٌ لو ينطلق إلى الخلاء 
متلقُعًا بالظلام . وجعل يغيب عن النغم رويدًا بعد أن 
فتح لروحه أبواب جئة عامرة بالأحلام والرؤى. «يجب 
أن أكنين كلقن فعلنين تعس عق له إسزه لا 
ورقة صغيرة إذا رميت مها عند قدميها لم يستبنها أحد» . 
وحرّك القلم كاتبًا: عزيزي ببيّة إني آسف جدًا لأني 
أغضبتك. «أليس الأفضل أن أقول: لا تخضبى يا 
عزيزي؟.. سيان. ثم ماذا؟ ينبغي أن أعترف لها 
بحبيى. أريد جملة غير مبتذلة. اللْهم عونك . » وقطع 
حسين عليه تفكيره متسائلا : 

ماذا تكتب؟ 

- موضوع إنشاء . 

ما هو؟ 

فقال بلا تردد: 

- أثر الموسيقى في حبضة الأمم. . . 

عزيزق مميّة» إن أسنفتك" عدا لأ أغضبتك. أيحقّ 
لك الغضب لأني أحبّك؟ «يكفي هذا فخير الكلام ما 
قلّ ودل. كل لا يكفي. النغمة ناقصة. استشهد 
ستة ام الشعور. كلا فيذا يفي الضحيك ماذة, 
وضحكة واحدة خليقة بأن تفوت عل الغرض. جملة 
أخرى مؤثرة. يا ربٌ يا معين!» ووثبت إلى ذهنه عبارة 
لا بأس بها فشرع يكتب: والله ما فعلت ما فعلت. . 
ولكن حسين قاطعه مرّة أخرى قائل: 

- هل انتهيت من نقط الموضوع؟ 

فانزعج حسنين في غيظ مكتوم : 

- تقريبا. . عن إذنك للحظة واحدة! 

وعاد إلى الخطاب في تصميم من يريد الفراغ منه 
فكتب: والله ما فعلت ما فعلت إلا لأ أحبّك. 


وسأحبّك ما حييت؛ ولا حياة لي إلا برضاك ع . 

وأعاد قراءتها بعناية: ثم تنهّد في ارتياح عميق» 
وطواها وثنى طرفيها ثم أودعها جيبه. «سأنتهز فرصة 
اقترابا من الباب. أو مروري بها في الصالةء ثم أرمي 
بها إليهاء وليكن ما يكون». .. 

15ت 

وجدت نفيسة نفسها في حجرة متوسطة الحجم. 
قامت على جالبيها كنبتان كبيرتان وبضعة مقاعد, أما 
أرضها ففرشت ببساط أسيوطيّ, وفي جدارها المواجه 
لمدخلها شرفة تطلّ من الدور الرابع على شارع شبرا. 
كان الأثاث قديًا والظاهر أنْ الحجرة كانت معدّة 
لجلوس الأسرة في أوقات الفراغ ىا يمكن أن يُستدل 
عليه من وجود الراديو بداخلها على كثب من الباب . 
وقد لاحظت الفتاة مذ وطئت قدماها الشفة أنْها على 
قدر وافر من الجاه يبدو في الصالة الصغرى التي أنْنت 
كمدخل للبيت» والصالة الكبرى الفاخحرة المعذة 
للسفرة؛ فحقٌ ما أن تصدق صاحبة بيتهم بعطفة 
نصرالله حين قالت لها وجثئت لك بزبونة ملاآنةء 
عروس ومن أسرة كريمة. تأرجو أن تخيطي ثياها بما 
تستحقٌ من عناية علّها تفتح لك مغلق الأبواب». 
وكانت نفيسة مضطربة لدخوها بيتا غريبًا للعمل أوّل 
مرة. وجلست على مقعد قريب من الباب تنتظر. 
وكانت ترتدي ثوب الحداد وقد أرسلت شعرها الأسود 
في ضفيرة قصيرة فبدا وجهها العاطل من الزواق 
والحسن شاحبًا بائسًا. «بيت غريب وأناس غرباء. 
خحطوة جديدة في سبيل المهئة. لست إلا خيّاطة. ليست 
كرامتي التى تعزّ علّ ولكن كرامتك أنت با أبي». ولم 
بطل مبا الانتظار إِدْ جاءت من الحجرة فتاة في العشرين 
على حسن ورشاقةء فقامت تستقبلهاء وسلمت عليها 
القادمة وهي تلقي نظرة متفخخصة ثم قالت: 

أفقلا وسهلا. جقبركك: ليت نفيسنة الى 
أرعيلتك :عع زنننت؟ 

فقالت الفتاة في حياء : 

- نعم يا هانم . وحضرتك العروس؟ 

فأومات بالإيجاب مبتسمة» ثم جلستاء وهي 


بداية ونهاية ١84‏ 

تقول: 

- مستّ زينب تثنى عليك جميل الثناء. وإنٍ أتوسّم 
فاق اين .. 

فابتسمت نفيسة ابتسامة باهتة والفرجت شفتاها 
دون أن تنبس بكلمة. «لعلّها قالت إن خمّاطة ماهرة. 
هذا حسن. أمذّْح أم ذم؟ لا أدري. ترى هل قصت 
علبك 0 أمرساء كان إن ايلك ركم ميد 
مثلك. وطلما انتظرت العريس ولكنه لم يأث. ولن 
يأني». وسألت العروس في رقّة وهي تعلم الجواب : 

- لماذا ترتدين السواد؟ 

تأجابتها في حزن : 

- توفي والدي منذ شهرين. وكان رحمه الله موظمًا 
في وزارة المعارف. 

حدّئتنا بذلك ست زيئب. البقيّة في حياتك. 

حياتك الباقية. نحن من بنهاء وخالتي تقيم هناك 
مع زوجها الذي يملك محلجا للقطن . 

ودخلت عند ذاك حادم حاملة بقجة فوضعتها إلى 
جانب سيّدتها وذهبت. وحلت العروس عقدتها 
فانحسرت عن كوم من ال حرائر مختلفة ألوانها. وأدركت 
نفيسة من النظرة الأولى أنْها أقمشة للثياب الداخلية. 
ولعليا ارسلت «الفساتين: إل ستاطة كبيرة» :وازتافت 
لهذا لأثها كانت تشفق من أن تعرّض سمعنتها لتجربة 
شاقّة لا قبل لحا بباء عمل في حدود طاقتها وربح 
مضمون. وقامت إلى مجلس العروس وراحت تتفخحص 
الأقمشة وتتحسسها قائلة : 

مارك عليك. يا له من -حرير نفيس, 

فافترٌ ثغر العروس عن ابتسامة سعيدة وقالت: 

نبدأ الآن بالقياس. وعلى فكرة أعندك مانع من 
مباشرة العمل هنا في بيتنا؟ عندنا ما تحتاجين إليه من 
الأدوات كلهاء وليس ثمّة أطفال في البيت» وفضلًا 
عن هذا كلّه فبيتنا غير بعيد من عطفتكم فتستطيعين 
الحضور كل يوم في غير مشقّة . 

ول ثّرَ نفيسة بذَّا من أن تقول : 

- لك ما تشائين يا هانم. . 

وقامت الفتاة ووقفت أمامهاء وجعلت نفيسة تقيس 


4 بداية وعباية 


الأقمشة عليها. امتلاً أنفها الغليظ برائحة الجرير 
الجديد. وشعرت لسّه وهو ينزلق بين أصابعها 
بإحساس غريبء فيه اشتهاء وفيه ألم. بيد أنْها أحسشت 
كذلك. حيال استسلام الفتاة وما تعقده على مهارة 
يديها من رجاء بنوع من السيادة. فكأئها ظفرت بأمل 
في العزاء» ولكنّه سرعان ما فتر وأخلف وراءه يأسَا 
قاتا «(عروس وحرير أحقًا أخيط هذه الثياب اه 
العروس؟ . كلا هذه الثياب الداخليّة تهيًا للعريس قبل 
العروس!.. ستداعب أتامله أهدابها الناعمة ومادتها 
اللطيفة. إن أشارك في هذا الزواج. وسأشارك في 
زيجات كثيرة دون أن أتزوج. قانعة من هذا كله 
بأحلامي المحرقة. يا لها من فتاة مليحة وسعيدة. تكاد 
السعادة تتوّج في عينيهاء اليوم تجهز الحرير؛ وغدا 
تنتظر الحبيب» وتتنسم أنفاس الأمومة الحارّة جمفو 
عليها من أفق ورديّ. طالما حلمت مبذا وأبي يقول لي 
إن الخفة أنفس من الممال» ثم بلغت الثالثة والعشرين 
بين الاشفاق والرجاء. ويموته مات الرجاء. لاذا 
خلقت هكذا دميمة؟. لاذا لم أخلق كإخوتي الذكور؟ 
ما أجمل حسنين» وحسين. حيّى حسن. إني ميتة 
كأبي» وهر ني باب النصر وأنا في شبراء وسمعت 
العروس تسأطا: 

- أتحيّين أن تسلّمي بعض أجرك مقدّمًا؟ 

فقالت بعجلة : 

لا داعي لذللك فطلم 

ثم عضها الندم على ما قالت فتضاعف حنقها 
ويأسها. وسمعت أطيط حذاء يقترب فرفعت رأسها 
نحو الباب قرأت شابًا يدخل الحجرة هاشّاء وأقبل 
على العروس فالتحمت يداهماء وتبادلا ابتسامة 
سعيلةٌ ع م ساها: 

- أين والدتك؟ 

- في حجرتها. 

ثم التفتت إلى نفيسة وقالت تقدّم لها الشابٌ : 

- حسّان خخطيبي . 

نم عطفت رأسها إليه قائلة : 


نايت الفيسة الشناطة ١.‏ 


5 0 

وغادرت بيت العروس قبيل الأصيل متعبة. وكانت 
عطفة نصرالله تبعد عن البيت محطتين فشقت طريقها 
بين السابلة على مهل وتراخ . وأنعشها الحواء البارد 
فحنت خطاها. ووجدت ذكريات نما مرّ بها في بيت 
العروس تنثال على مميّلتها في لذّة وألم معًا: كانت 
تجلس على كنبة وقد جلس الخطيبان على الكنبة 
المقابلة . كانا ملتصقين. وكانا يتحدّثان في صوت 
مسموع حيئاء وينخفض حيئًا فيصير مناجاة وهمسًا. 
وكم ودّت وقتذاك أن ترفع رأسها عن الاكيئة إليهس| 
ولكمّبا خافت وعقلها الحياء أن تلتقى عيناهما بعينيها. 
ومرّة رفعت عينيها من تحت رأسها الملحني فوقم نظرها 
على ساقين ملتصقتين؛ ثم انتبهت على العروس وهي 
تضربه على يده قائلة في لهجة تنم على الدلال 
والوعيد: 

حذار! 

استغرقها الخيال حبّى كادت تصطدم بالمارة» ثم 
دخلها إحساس بهم بالتحرّق إلى الحبٌ. لم تحظ طوال 
حياتها بقلب يحبّها ويعطف عليهاء ولم تجد من متنقفس 
عن توثّر أعصابها إلا في الضحك والسخرية من نفسها 
وإخوتها والناس فاشتهرت بالعبث الضاحك الذي 
تتوارى سخلفه مرارة في الأعماق. ولم تكن لما حيلة بي 
إحساسها فالواقع أنْ غريزتها الأنشويّة كانت الشيء 
الوحيد بها الذي سلم من النقص والضعف واستوى 
ناضجًا حارّاء فلم يخل صدرها من عذاب سجين 
وقفت له تربيتها وكرامتها وأسرتها بالمرصاد. ولكنّ 
منظرًا كالذي رأته اليوم ببيت العروس كان خليقًا بأن 
بهزها هرّة عنيفة قاسية. ولمًا تخايلت لعينيها عطفة 
تصرالله عابثها أمل جديد داعبها كثيرًا في الأيّام 
الأخيرة. هنالك بقّالة عم جابر سلان التي تقع قبل 
عمارتهم بقليل» أو هناك سلان جابر سلمان ابن عم 
جابر وصبيّه . ولقد اعتادت التردّد على البقالة بعد طرد 
الخادم لابتياع ما يلزمهم فعرفت الفتى معرفة أخيذت 
تزداد بكرور الأيام . واستحضرت صورة الفتى بقامته 
الطويلة المائلة للامتلاء ووجهه البيضاويّ الأسمرء 


وعينيه الضيّقتينء وتساءلت ترى هل حمًا يبدي نحوها 
اهتمامًا أو أثْها واهمة؟ خيّل إليها كثيرًا أنّه يبتسم إليها 
في تردّد ولعلّه لم يستطع أن ينسى بعد أثّْبا كريمة كامل 
أفندي علّ. وكانت على جفوة طلعتها محظى بمظهر 
الفتيات المحترمات», أمّا سليان فما هو إلا ابن بمّال 
بسيط ى ولا تعلو منزلته في دكان أبيه عن صبىٌ. 
وكانت تعلم بهذا كله ولكن لم يكن بوسعها أن تنفر 
من إنسان أيّا كان إذا أبدى نحوها ميلا. لا يسعها إِلَّا 
أن تحب مَن يحبْها. بيد أنها ردت فجأة إلى فتور 
وامتعاض وأطبق عليها شبح الياس القديم؟ وكان 
قلبها يقول ها: لا تغرري بنفسك ولا تسمحي 
لكواذب الآمال أن تعبث بعقلك. ارتضى الياس. 
واقلعي مله بالراحة وهي السلوى الوحيدة لفتاة مثلك 
لا مال ولا جمال ولا أب ها. ولكتها كانت تعلم أمّْا 
لن تطيع قلبها أو على الأصمحٌ ‏ صوت محارفها. 
وكانت تزداد استسلاما كلما قربت من عطفة نصرالله 
وعاودها الأمل والحنان. الله قادر على كل شىء. وكما 
يقضي عليها بالأحزان ببب إذا شاء الأمل لي ما 
لي من رجاء سواه. ولن مخيب عنده رجاء. لم أجن ذنبًا 
أستحقٌ عليه الموان. ولم تجن أسرثنا ذنبًا. فلا بد أن 
تتكشف هذه الغمة. ولكن من سلمان؟ هل يرضى به 
حسئين؟ إثْهم جميعًا ذوو كبرياء ولا أظنّ الفقر بغالب 
على كبريائهم. وحسن ليس له من الأمر شىء. 
حسن!! ليته يغْيّر من طبعه ويلتشلنا مما نحن فيه. لا 
معاش أبي ولا عملي بكافيين فاذا صنع هو؟ لن يرفضى 
أحد بسليمان ولن يأ من هو خير منه. ومن أدراني أنه 
يفكر فّ حمًا!؟ . » ومالت إلى العطفة تسبقها عيناها إلى 
بقالة عم جابر سلمان حيّى بلغتها. وخطر ها أن تمفى 
إليها لتبتاع شيئّاء أيّ شيء؛ ومضت إليها دون تردّد. 
كان عم جابر سلان العجوز جالسًا إلى مكتبه الصغير 
عاكفًا على دفتر الحسابات» بينا وقف ابنه الشابٌ 
سلمان جابر وراء الطاولة التي تعترض مدخل الدكان. 
وانتبه الفتى إليها حال وقوفها أمامه فنظر إليها متهلل 
الوجه وقد لمعت عيناه الضيقتان. كانت فساته تشى 
بالغباء والحيوانيّة والجبن: وكان شاربه الصغير الشيء 


بداية ونباية ١41‏ 


الوحيد الذي يمكن أن يتصف بالجمال في وجهه. وأبى 
إلا أن يبادرها بالكلام فقال: 

أي خدمة يا ست نفيسة؟ 

فقالت الفتاة وهي ترمش ارتباكا : 

حلاوة طحينية بقرش . 

فتناول السكين وقطع لها قطعة وافية» ثم قشط 
قطعة صغيرة وهو يقول بصوت منخفض : 

هذه الزيادة إكرامًا لك يا ست نفيسة , 

ولف الحلاوة في ورقة وقدذمها لحاء ثم أذ القرش 
وهو يلحظ أباه بطرف خحفيّ. ولمًا وجده مكبًا على 
الدفتر. تشجع وقال فيشسا؛ 

سأحتفظ بقرشك بركة! 

فايتسمت ابتسامة خفيفة وذهبت, ابتسمث عمدًا 
كأئها تشجّعه وترحب به. وقد كلفها هذا جهدًا كبيًا. 
« يعد يقنم بلغة العيون فتكلّم, وحسنًا فعل». وعلى 
رغم ضآلة شأنه ومنظره اهترز قلبها سرورًاء وجاش 
صدرها بالانفعال. وكانت تمخيّلت هذا الموقف . قبل 
أن يحدث ‏ وهي غاكفة على عملها ببيت العروس فلم 
يفترق الواقع عن الخيال إِلَّا قليلا. تخيلت نفسها واقفة 
أمامه لتبتاع الحلاوة فجعل يلتهمها بعينيه ثم قال لها 
وهو يتئاول القرش «أنت أحلى من الخلاوة). حقًا م 
يقل هذا ولكنّه قال قولا يضاهيه. وتتيّدت بارتياح ثم 
طار خيالها إلى ذكريات عشّاقها الغابرين! كان أُوَهُم 
وزيرًا وقد رأته في صفحة مجلة المصور ثم راحت تنسج 
حول صورته وشيًا من أحلامها حَبّى أنجبت له غلاما 
فريدًا وكان فريد أفتدي محمد نفسه العاشق الثاني. 
وبسيبه خاصمت في الخيال زوجه وأسرته. أمّا سلمان 
فهو أسوأهم حالا ولكنّه العاشق الوحيد الحقيقي. 
وليًا بلغت منتصف الفناء حافت أن تلومها أمها على 
قضاء النبار خارج البيت فضاق صدرها وقالت كأنما 
ترد عليها: 

- كفي عن لومك فيا عدت أحمل أكثر ما بي . 

وعلا صوتها ورن في بثر السلّم فنظرت فيا حولها 
بحذر؛ وكتمثت بأصابعها ضحكة كادت تفلت من 
شفتيها! ! 


بداية ولباية 


ف 71ت 

غادر حسنين شقّة فريد أفندي محمّد» وأغلق الباب 
وؤافده كان فن: الكابة ف غابة » :والد تحن السلم 
طاويًا صدره على الياس والقهر ولكنّه توقف ويده على 
الدرابزين» ورفع رأسه متتبْعًا حفيف ثوب. فرأى 
طرف فستان أو معطف وقد عير صاحبه بسطة السلّم 
الأخيرة المفضية إلى سطح العمارة. من؟! من عسى أن 
يرتدي هذا اللون الأحمر من سكان العمارة الذين 
يعرفهم حقٌ المعرفة؟ ودقٌ قلبه بعنف وشعر بقوّة تدفعه 
إلى أعلى فألقى على الباب المغلق نظرة حذر وأنصت في 
انتباه وقلق ثم تحؤل عن موقعه وقطع الردهة أمام 
الشقّة على أطراف مشطه مبّجهًا صوب السلّم الأخير 
الصاعد إلى السطح: لعلّها هي. لم يعد يراها منذ 
ألقى برسالته المطويّة تحت قدميهاء لا في الحجرة ولا 
في الصالة. احتفت غاضبة ولا شلك غير عابئة برسالته 
وعواطفه. ولم تعد ساعات الدرس بعدها إلا عذابا 
وضجرًا. وقد ارتقى السلّم دون أن يحدث صورثًا حت 
بلغ البسطة الأخيرة فرأى شعاع الشمس المائلة 
للغروب في مستوى عيئيه؛ ونسمت على جبيله موجات 
لطيفة من المواء. وألقى على السطح نظرة شاملة ما 
بين سوره المطل على عطفة نصرالله وسوره الخلفيَ فلم 
يجد أثرّا لإنسان. ول يكن به من قائم إلا حجرتان 
خشبيّتان للدجاج. إحداهما في مواجهة باب السطح. 
والأخرى في ركن السطح عند طرف السور الخلفي 
وهى الخاضة بأسرة فريد أفندي» واقترب من الحجرة 
البعيدة في سكون ووقف قريبًا من بابها مرهف السمع 
ول يسمع بادئْ الأمر إِلَّا قوقأة الدجاج. ثم سمم 
صونًا يدعو الدجاج دك ك ك ك» فلم يستطع أن يتبين 
حقيقة صاحبهء وخاف أن تكون الأم الى بالداخل 
فتراجم خطوة مضطرباء وهم بالحروب» ولكن فت 
الباب وبدت على عتبته ببيّة في معطف أحمر. وانّسعت 
عيناها الزرقاوان دهشة. وثبت بصرها عليه في ذهول, 
ثم تضرج وتفههنا تحمرة شسدذيذة كان صفحده 
استحالت رقعة من تحمل المعطف. ولكن لم يدم هذا 
إلا الحظات, ثم تمالكت نفسها فجاوزت العتبة 


وأغلقت الباب» وابتعدت عن موقفه متجهة إلى 
الباب. ولم يسمح لما بالإفلات فوئب خطوتين ووقف 
معترضًا سبيلهاء فحدجته بنظرة غضبى واستقام رأسها 
في حذة وقالت مستدكرة : 

هذا كثيرا 

فقال الشابٌ بجرأة ورقة معًا: 

- دائًا غضبى ! إني أعجب لحظي فما أجد منك غير 
الحفين! 

فلاح في وجهها الضجر وقالت باستياء : 

دعني أمرٌ من فضلك. . . 

فبسط ذراعيه كأنّه يريد سدّ الفراغ كله وقال: 

هذه فرصة لم يكن بوسعي أن أحلم بها فلا يمكن 
أن أدعها تفلت من يدي. ويحقٌ لي أن أستبقيك بعض 
الوقت بعد اختفائك اللمتعمّد الذي عبني أشدٌ 
العذاب. لاذا تختفين؟ أو دعيني أسألك ماذا وجدت 
برسالتي؟ 

فقظبت في استياء وقالت بحدّة: 

أتذكر هذه الورقة! يا لها من جرأة غير محمودة لا 
أوافق عليها. . ! 

وكان يرنو إليها بين الأمل والخوف. «هل أصدّق 
هذا الغضب الظاهر؟ . . قلبي يحدّئئي بأنه مبالغ فيه . 
لعلّه عرض من أعراضن الحياء. إِنْه كذلك حترًا. لو 
أراذت: أن تسق طريقها ما وسعني منعها. لا أريد أن 
أصِدّق. ولكن لاذا أصكت على الاختفاء؟: وقال 
باستعطاف : 

جرأة ملت عليها بعد أن أعياني الصير! 

فهرّت رأسها متيرّمة وقتمث: 

ب الصير! لا تعبث ببذه الألفاظ. ودعني أذهب من 

فقال في صدق وحرارة: 

- ما قلت إِلَّا الصدق. والصدق وحده كان محرّضي 
على كتابة رسالتي الصغيرة» فكل ما بها صدق. وإِلّه 
ليسوعءني كلّ الإساءة ألا تلقى عواطفي منك إلا 
التعي نو الور | 

وازدرد ريقه وهو يلهث ثم استدرك قائلا بصوت 


متهدج : 
أجل إفي أحبك . . . 

وأدارت وجهها جانبّاء وهي لا تزال مقطبة كما بدا 
من انقباض حاجبها وزئّة شفتيهاء ولكتّها لاذت 
بالصمت قليلاً ‏ مما بعث فيه روحًا جديدًا من الأمل ‏ 
نم قالت بصوت بدا ألطف موقعا ما سبقه: 

دعني أذهب , ألا تحخثى أن يقتحم السطح علينا 
أحل؟ ! 

رباه! ألم يعد يضايقها شيء إلا أن يقتحم السطح 
عليها أحد؟! وتمشّت فى جوارحه نشوة سرورء فقال 
بحاس وعيناه العسليّتان تضيئان بنور مبيج : 

- دعيني أفصح لك عن شعوري. إلى أحنك. 
أحبّك أكثر من الحياة نفسها. بل ليس في الحياة من 
حير إلا أن أحبّك. هذا ما كتبته. وما أقوله وما 
أعيده. صدّقيني ولا تلزمي السكوت فا أطيق هذا 
السكوت . . 

فعطفت وجهها نحوه فطالع في صفححته النقية 
الرزانة والجدّ ولكن شيل إليه آنه يرى نوعًا من التأثر 
لعلها بالغت في كتمانه. ثمّ سمعها تقول بصوت 
ملخفض كالممس : 

حسبك! . . هلآ تركتئي أذهب؟ ! 

تألى أن تجلو هذا القناع ! لشدٌ ما تستكين لحيائها. 
وتنهبد بصوت مسموع وتهتم : 

لا أريد أن أعود لعذابي بغير نفحة أمل. لقد 
فنتحت لك صدري وأريتك قلبي ولا أطمع في أكثر من 
كلمة طيبة ترذ إل روحي . . . 

ولكئبا بدت أعجرز من أن تقول هذه الكلمة. 
واشتدّت عليها وطأة الارتباك فندّت عنبا هذه العبارة : 

- ركاه! . . كيف أغادر هذا المكان! 

فغلبه التأثّرء ولكن زاده التعلّق بالأمل عنادًا 
وإلحاحًا فقال بحرارة : 

لا تجزعي هكذا؛ إني أحلك. ألا يثير هذا 
الاعتراف في نفسك إلا الضيق!؟ لن أعود يائسًا إلى 
العذاب. لن. لن. . 


ب وبعده!؟ 


بداية ونباية ١41‏ 


وتفخص وجهها المورّد في سمرة المغيب الحادئة 
فاستفرٌته عاطفة هيام جاعحة فشعر بأنْ الهلاك أهون من 
التراجع وقال باستعطاف منبعث من الأعماق : 

- كلمة واحدة! إذا لم تستطيعي فإهاءة... وإذا 
تعذّر هذا فحسبي صمت أستشفٌ منه الرضى | 

فتحرّكت شفتاها دون أن تلبسء ثم التصقتاء ثم 
عطفت عنه وجهها وقد اشتدٌ تورّده عمقًا. ووثب قلبه 
في صدره من حرارة النشوة» وهتف في طمع متزايد: 

أهذا الصمت الذي أريده!؟ إني أحبك. 
وأعاهدك أن أكون لك حتّى الموث . . 

ومال وجهها إلى الوراء أكثر دون أن تحرج عن 
صمتها المحبوب فسرت في جسده هرة سرور طاغية 
حَبّى سكر بصره؛ وما يدري إِلّا وهو بهفو إليهاء 
ولكنّبا تراجعت في جفول كمن يستيقظ من حلم 
عميق على هرّة عنيفة وتفادت منه فيها يشبه الوثب. 
ثم ولت مسرعة , وتسمّر في مكانه مرسلا وراءها بصرًا 
هائمًا حنونًا حبّى غيّبها الباب. وتعبّد من القلب وأطلق 
بصره بعيدًا في سمرة المغيب» والأفق أطياف وشيات. 
فأحسٌ بروحه تذوب في الكون وتفنى في بهائه. ثم 
تمرّك في بطء محمورًا متوهصًا حيّى شارف الباب. 
ولكنّه شعر وهو يمرٌ بالحجرة الخشبية الأخرى بشيء 
يجذب إحساسه فلاحت منه التفاتة إلى يساره فرأى 
الى و مهم بواقنا بور وسار لسر 

11 

وقال بدهشة : 

حسين] 

وسرعان ما لاحظ تغير لوئه. كان الشابٌ غاضبًا 
مكفهر الوجه. وكان يبذل غاية جهده ليضبط أعصابه 
وبتهالك نفسه. وتساءل حسنين عمّا جاء به إلى السطح 
ورجح أن يكون ‏ حين صعد لإعطاء درسه ‏ لمحه وهو 
يرتقي السلّم محاذرًا إلى السطح فشك في الأمر وتبعه! 
هذا هو التفسير المعقول. بيد أنْ التواري وراء الجدران 
لاستراق النظر والسمع ليس من شيمه! ولم يدر له 
بخلد أن يسأله عمًا جعله يقف هذا الموقف. وعلى 
العكس من هذا تولاه الحياء والارتبك. ول يكن الآخر 


4 بداية وغباية 


تاغل تروب يقل مل .شمياء وارتناكا. “لعله اراد أن 
يداري حياءه وارتباكه بالتّادي في الغضب فقال: 

- رأيت أمورًا ساءتبي كثيرًا. كيف تطارد الفتاة هذه 
المطاردة الوقحة؟! هذا سلوك شائن لا يليق بجار يحترم 
واجبات الخيرة! 

ووجد حسنين في لحجة أنحيه القاسية ما أنقذه من 
حيائه وارتباكه فقال عابسا : 

ما أئيت منكرًا!! ولعلك سمعت ما قالت! 

فأغضى حسين عن ملاحظته الأخيرة وقال بحذة 
شيل 

- وهل من منكر وراء اعتراضك لسبيلها على هذا 
النحو غير اللائق؟ ! 

حل احتييا تغذه كذلك] 

فقال -حسين : 

ستخير أباها, . , 

2 

فتناهى الحلق بحسين وقال بحدّة : 

- لشدٌ ما خفت أن تتهجم عليهاء ولو فعلت 
لأديتك تأدينا قاسيا! . . . 

ودهش حسئين لهذا الوعيد المتأخر فكاد يطيح 
الغضب برأسه. ووثبت كلمات شديدة إلى طرف لسانه 
ولكنّه نجح بأعجوبة في القبض عليها. وصمت مليًا 
حتّى ذهبت عنه وقدة الغضب ثم قال: 

- ما كان لك أن تحاف حدوث شيء كهذا. . . 

فتفكر حسين قليلا ثم قال متراجعا: 

- يسرّني على أيّة حال أن أسمع هذا القول. وإذا 
حق لي أن أنصحك فنصيحتي إليك أن تلزم دائمًا جادة 
الشرف . 

فقال الآخر ببرود: 

- لست في حاجة إلى مثل هذه النصيحة. , 

وغادر موقفه فتبعه حسين, ونزلا معا دون أن ينبس 
أحدهما بكلمة. وم يذهب حسين إلى شقّة فريد أفندي 
ولاحظ حسئين هذا دون تعليق. أمّا الأمّ فقالت 

ما الذي عاد بك سريعا! 


فقال -حسين: 

لم يحفظ سالم درسه السابق وسأعود إليه غدذًا. . . 

وذهبا إلى حجرتبها فجلس حسين إلى كرسيه من 
المكتب» ومغبى حسنين إلى النافذة ففتحها وجلس على 
حافة الفراش. «أسوأ نهاية لأحسن بداية: ما أحمقه! 
كبن مراع له تيه التحتين. عد اند عا” 
شاعريّة الموقف السعيد. كلا لا يمكن يد 
شيء. سيزول كل شىء وتبقى هي وضيئة سعيدة 
باهرة. هيهات أن أنسى لحظة الصمت الناطق. قالت 
كل شىء دون أن تنبس بكلمة. ..2. 

- أغلق النافذة هل أنت مجئون؟ | 

أفزعته صيحة أخيه. ثم ركبه الحنق والعناد فقال: 

دا لفقم افاي 

فصاح به حسين : 

أقلق النافنة رذ مكان قد 

فحملته لمجة أنخيه على التادي في العناد فقال: 

- انتقل إلى الكرسيّ الآخر تبتعد عن تيّار ا حواء إن 
كان شمة ثان؟ 

فنفخ حسين متغيّظًا وقام إلى النافذة فأغلقها بشْدّة 
ففرقعت في السكون طقطقة مزعجة وتحطم لوح من 
الزجاج. وساد صمت ورعبء. وسرعان ما أعمه 
الغضب فلطم حسنين صارنحا: 

د انك السيية! . 

وحن جنون حسلين فضربه بقبضة يده في رأسهء 
ثم اشتبكا في عراك. وما لبثئت الأمّ ونفيسة أن هرولتا 
إلى الداخمل» وبحضور الأم كف كلاهما وهو يدمدم 
وهيئم. ووقفت الأم حياهما تردّد بينبها بصرًا غاضباء 
ثم استقرّت عيناها على الزجاج المحطم. وتساءلت في 
هدوء ينذر بالعاصفة : 

ما خخطبك)؟ 

فقال حسئنين بعجلة ولهوجة: 

- كان يغلق النافذة بقوّة فتحطم الرجاج ثم 
لطمني. . 

وقال حسين بصوت متهدّج : 

فتح النافذة في هذا الحو البارد فطلبت إليه أن 


يغلقها فأبى بوقاحة فقمت لأغلقها بنفبي وحصل ما 
حصل . . 

فزفرت الأ قائلة : 

رحماك يا ربي ألا يكفيني ما بي! 

وقبضت بيديها على منكبيها وجذبتهم) إلى وسط 
الحجرة وصاحت في وجه حسين قائلة : 

ألا تمحجل من نفسك وأنت في سن الرجال. 

ودفعته في صدره بقبضة يدها مرتين» ثم لطمتدى 
وانقضت على حسنين الذي تراجع وهو يصيح : 

هو البادئْ بالغفرب» وهو الذي حطم 
الزجاج. . . 

ولكتّبا هوت بكفّها على فمه. ثم كلت له 
الضربات على رأسه ووجهه حتّى حالت بي) نفيسة. 
وصاحت المرأة : 

حذار أن أسمع لأحدك) صوئًا.: أمَا النافذة 
فستبقى مكسورة حيّى تصلحاها بنفسكا. . . 

وغادرت الحجرة منكفئثة الوجه تملأها تعاسة لا حذ 
لها. ولبثت نفيسة بينهما برهة محزونة ثم تمتمت: 

زمن العراك انتهى . أنتها رجلان الآن! 

ثم خاطبت حسين مبتسمة : 

ضقت باهراء لحظة فاذا أنت فاعل الآن وقد 
فتحتها إلى الأبد؟! ألصِقا جريدة مكان الزجاج وإلا 
تعلية اعون فكاء.: 

ولا لى تجد لقولها الآثر الذي انتظرت غادرت 
الحجرة. وعاد حسين إلى كرسيّه صامتًا على حين ارتمى 
حسنين على الفراش منفعلا, كثيرًا ما ينتهى الشجار 
بيغههما بتدخل الأمْ على هذا النحو. ولم تكن حياته| تخلو 
من ملاحاة وشجار على صذاتقتههم) الوطيدة؛ وصحبتهما 
التي لا غنى لأحدهما عنها. وكانت الغيرة كثيرًا ما تعكر 
عليهها صفورهما ولكئه| ظلا رغم هذا صديقين يتبادلان 
الأخوّة والحبٌ ولا يستغنى أحدهما عن صاحبه. وكان 
حسين أعقل الأخوين وحسنين أقواهماء فكان الأول 
يقوم بمهمّة الإرشاد والتوجيه فيا يعرض شما من 
مشكلات يتعلّق أغلبها باللعب والمسائل الاقتصادية 
الصغيرة؛ وكان الآخر يحمل عبء الدفاع الأكبر في| 


بداية وباية ١56‏ 


يشتجر بينهم| وبين الآخرين من عراك؛ خصوضًا وأثهما 
كانا يتفاديان من الاستعانة بحسن إذا اشتدٌ الخصم 
عليهما أن يتحول النزاع من عراك بين تلاميل 
متخاصمينٌ إلى معركة حقيقيّة دامية وخيمة العواقب» 
بيد أنه أصبح من النادر جدًا أن يتشاجرا في الأعوام 
الأخيرة» وندر بالتالي أن تؤدبها الأم بالضرب. وقد 
سُبقت المعركة الأخيرة بفترة سلام طويلة كادت تقارب 
العام . ومهها يكن من أمر فلم يكن أثر الخصام ليحول 
بينه]| أكثر من يومء ثم يبدأ المعتدي بمخاطبة أيه في 
شىء قليل من الارتباك. ولا يلبثان أن يتناسيا العراك 
كانه لم يكن. شخص آخر كان يعاني من شجارهما 
أكثر تا يعانيان» هي الم فكان يترك في نفسها ألما 
عميقًا ونكدًا متغلغلا. ول تجد من وسيلة لتأديبهها خيرًا 
من الضرب لعلّه يصلح ما أفسد الأب بتدليله لما. ولم 
يكن أبغض لنفسها من أن يشذ أحد أبنائها عن 
حدوده» أو أن يبدر منه ما يعد افتثانا على رابطة 
الأسرة المقدّسة. وكان لها مِن حَسّن عبرة بذْل الحياة 
أهون عليها من أن تتكرّر. وحسن نفسه لم ينج من 
لكماتها ولكن بعد فوات الأوان وضياع الفرصة. 
وكانت لا تفتا تلوم نفسها وأباه على تلفهء ويعدّيها 
أشدّ العذاب أنّه كان ضحيّة للتهاون والفقر. ومَرَ 
شطر من الليل والشقيقان صامتان جامدان» واشْتدٌ 
السكون بعد أن آوت الأمٌ ونفيسة إلى حجرته|. ثم 
بدأ حسين يطالع في كتاب محاولا أن يركز انتباهه 
المشنّت. وراح حسنين يراقبه اختلاسا وهو يتساءل 
ترى هاذا يجد نحوه؟ وكان يحظى بذكريات جميلة 
خليقة بأن تعرّيه عا أصابه وبأن تثيبه إلى طمانينته . 
وسرعان ما رفت على شفتيه ابتسامة. «كل شيء 
سو الأنات بالسيت :رسلا نا فقوي علا 
لشدّ ما يشوقني أن أسمعها قولًا تتحرّك به الشفتان 
الشهيّتان. رويدك. كلّ آت قريب. الصمت بداية أمَا 
العباية؟!؛ ولاحت منه التفائة نحو أخيه فعاوده 
الابتسام . دما كان ضبني لو أغلقت النافذة؟! يبدو أنه 
لا يستطيع متابعة القراءة. لو وهب مثل حي السعيد 
لما أعياه النسيان!» وداخله نحوه شيء من العطفف. 


7 بداية وخهاية 


2-0 

عادت نفيسة إلى عطفة نتصرالله عند الغروب» 
كعادتها في هذه الأيام الأخيرة. وكان يبدو عليها أنها 
أخذت تعير نفسها اهتمامًا وعناية. وهو ما أشهملته 
دريل سن 31 مزل تؤفناةوالذهاة كعات سييهنا 
وصبغت خخحديها وشفتيها بحمرة خفيفة. شىء خير من 
لا شيء بل إن دأبه على التودّد إليها ومغازلتها خحلق بها 
بعر الثقة بنفسهاء والطمانينة والأمل. ولم تعد تذكر 
أنه ابن بقّال وأئها ابئة موظف فاهتامه مها أنزله من 
نفسها منزلة أثيرة رفعته فوق مقسام أفضل الناس في 
نظرها. وانساقت إلى تشجيعه بدافع من عواطفها 
المشبوبة المكبوتة. ويأسها الخائق. والرغبة في الحياة 
الي لا تموت إلا بالموت. وبات مع الأيام صورة 
مألوفة. بل حبوبة» أنبتت ها في جدب الحياة زهرة 
مترعة بالأمل. فلم تعد تستقبل يومها بعين نخابية لا 
تنتظر جديدًا. وها هي تثنقل خطاها في عطفة نصرالله 
بعد نهار حافل بالعمل فيهزها سرور حار دافق يسري 
من القلب وينتشر مع دمها في الأعصاب والأعضاء. 
قال ها مرّة وتريدين حلاوة؟ ما الحلاوة إلا أنت!». 
وغزا قوله نفسها فابتسمت في بهجة ومرح. وقد 
حدثتها نفسها أن تقول له ولا تكذب» لست من 
الجلاوة في شيء) ولكنا أمشسكك فق صيرة وتيك 
وذكّرت نفسها بقول القائل «لكل فولة كيّال» مَن 
يدري فلعلها ليست بالقبح الذي تظنْ. وجعلت 
تطوي الطريق وعيئاها إلى الدكان حي وقفت أمامه 
وجها لوجه. ولاح السرور في وجه سلمان فقال: 

أهله وسيل كنت أتساءل مىّ تأتين؟ 

ومرت بنظرة إلى مقعد الأب فوجلته خاليّاء ثم 
لمحته يصل وراء العمود القائم وسط الدكان عملا 
بالعلب والبطرمانات فداخلتها طمأنيئة وقالت في 
دلال : 

- ولاذا تتساءل؟ 

فضيق عينيه الضيّقتين وقال مبتسم)ا: 

باحر وق 1ن : اسالي قلبي . . . 

فرفعت حاجبيها المرجّجين وقالت: 


أسأل قلبك؟؟. . ماذا وراءك يا قلبه!؟ 

فقال الشات همسا؛ 

- يقول قلبي إِنْه سر لرؤياك وبننظره على لهفة! 

محفا؟ !أ 

فاستدرك في جد أكثر من ذي قبل : 

- ويقول أيضًا إِنه يرغب في أن يلقاك الآن في 
الشارع ليفضي إليك بأشياء هامّة, . , 

والتفت إلى أبيه فسمعه يقرأ التحيّات فقال طا 
بعجلة : 

- في وسعى أن أغيب عن الدكان فاسبقينى إلى 
الشارع العامّ! ْ 

ونظرت إليه في اضطراب وحيرة. وجدت في نفسها 
رغية إلى ملاقاته. ولكتها أبت أن تذعن دون ممانعة من 
جانبها وإلخاح من جانبه فقالت: 

أخاف أن أتآخر. . . 

فقال بجزع وهو يومئ فتوثي )له ةا 

- دقائق معدودات. اسبقيني قبل أن يختم الرجل 
صلاته . 

ولم تجد في الوقت متسعًا للتمئع والدلال فتحوؤلت 
عن موقفها وقلبها يدقٌّ ثم اتجهت بعد لحظة تردّد إلى 
شارع شبرا. ركبها الاضطراب والقلق والخنوف. 
ولكنبا أمعنت في السير دون أن تفكر في العدول. 
خطوة جديدة هون من وقعها طول ما حلمت بها. وما 
لبثت أن تغلّبت على الخوف فارغة للأمل الحلو الذي 
يتخايل لعينيها في نهاية الطريق. ولا انتهت إلى 
الشارع نظرت وراءها فرأنه يحثْ خطاه وقد ارتدى 
جاكتته على جلبابه؛ فالت إلى اليمين وأوسعت خطاها 
مبتعدة عن حيّها. ولحق بها مهرولًا فقال بسرور: 

- استأذنت من أبي دقائق , . , 

وألقت على زيّه نظرة لم يخف عنه معناها فقال 
كالمعتذر : 

- لا يمكن أن أرتدي البدلة إلا ساعات العطلة! 

وكان يبدو فرحًا مسرورًا. لم تكن عينه العاشقة من 
العمى ببحيث تراها جميلة ولكنّه كان من أبيه المستبدٌ في 
ضيق وحرمان فرحب ببذه الفرصة التي تتيح له الممكن 


من الحبّ. فتى في مثل حالما من اليأس والدمامة 
والعجزء. ووجد فيها ‏ مهما تكن - أنثى تنتسب 
للجنس المحبوب العزيز المنال. وخاف أن تمفى 
الدقائق دون أن يقول ها ما يريد فقال بعجلة: ْ 

الدكّان يغلق عادة عقب ظهر الجمعة, فقابليني 
عصر الجمعة ومن ثم نذهب معا إلى روض الفرج. 

فقالت باستثكار: 

نذهب معًا؟! هذه طريقة لا أرضاها. 

ماذا عليئنا لو فعلنا؟ 

- لست من أولئك الفتيات! 

- حاشاي أن أظنْ بك السوء. ولكن ينبغي أن 
نجد مكانًا آمئًا للحديث. 

أخاف أن يرانا أحد من إخوتي. 

من السهل أن نتفادى هذا! 

فهرّت رأسها وقالت في حيرة : 

لا أحث هذه الحياة المليئة بالمخاوف. 

- ولكن ينبغي أن لتقابل . 

فتفكرت مليًا ثمّ تساءلت: 

لماذا؟ 

فنظر إليها في دهشة ثم قال: 

ع كنم كي التقابن! 

«الاى لان السك هذا! 

- أليس لدينا ما نقوله؟ 

دالا ادرف 

الذي" الكتين, 

فا هو؟ 

ستعلمينه في حينه. ليس لدي الآن متسع من 
الوقت, . . 
فساورها الشكُ حيئًا ثم قالت وقد تورّد وجهها: 

- قلت لك إن لست من أولئك الفتيات! 

فقال الشابٌ بلهجة تنم عن الأسف: 

- يا سلام يا ست نفيسة! أنا رجل سوق وأفهم 
الناس! 

فداخلها الارتياح. وإن تساءلت لماذا لا يقول 


بداية ونباية /51 ١‏ 


الكلمة التي تتلهف على سسماعها ويربح قلبها؟ وعاد 
وهو يسأل : 

هل نتقابل إذن يوم الجمعة القادم ؟ 

فترددت قليلا ثم غمغمت: 

- إن شاء الله . 

وعادت إلى البيت كثيرة الفكر. هذا بدء الحبٌ 
الذي طاما تلهفت عليه. نفض قلبها الغبار عن جوهره 
ودبت فيه حياة مفعمة بالنشوة والحرارة والأمل. كل 
هذا حقٌّء بيد أمْها قلقة متحيرة لا تدري شيكًا عا يمكن 
أن يتمخخض عنهء ولا عا يمكن أن يقابل به نبآه في 
أسرتها! 

2 7ت 

انتهى حسنين إلى باب السطح ثم تنهّد بصوت 
مسموع ليبلغها صوته ولكئّها تجاهلته وسارت متمهلة 
صوب الحجرة الخشبية: فتنحنح. ثم اندقع تنحوها 
بجسارة والشمس تلقي عليها أشعّة الوداع» فدارت 
على عقبيها وطالعته بوجه كتوم يأبيى أن يعلن عن 
غضب أو رضى. ثم تمتمت: 

أما لهذا من آخجر؟ 

فضحك ضحكة قصيرة وقال: 

إنك تؤذبيئني أدبا لن أنساه. , 

فقالت وهى متحافظ على سكون وجهها: 

- ليتنك تزدجر. 

ففرقع بإصبعه وهتف : 

هيهات! 

ثم تعد بصوت مسموع وكان يطير من الفرح لا 
أنسه من رغبتها في محادئته , 

هيهات أن أنثني عن حبك . 

فتوزد وجههاء وعبست قائلة : 

لا تردّد هذه الكلمة . 

فقال بعئاد وهدوء وتوكيد: 

أحيّك! 

- أتروم إغاظتي! 

لا أروم إِلّا حبّك. 

فقالت بحذة: 


بداية ونهاية 


- سأصم أذقّ, 

فرفم صوته قليلا قائلا : 

ءاقن املف احتف" 

فلاذت بالصمت؛ وجعل يلتهم وجهها بعينيه في 
شوق وانجذاب حيّى لم تعد تحتمل وقع نظراته فولته 
ظهرها مبتعدة ولكن اندفعم وراءها فالتفتت نحوه 
مقطبة» وقالت: 

أرجو أن تدعنى وتلهب . 

فقال بدهشة : ْ 

لا محل لهذا القول الآن. مضبى زمنه وبات قديما. 
نحن الآن في وأحيّك»! 

عاذ تيد ؟ 

أن أحّك؟ 

وعمّت بانتهاره فغلبها الابتسام الذي أعياها كتمانف 
ثم ضحكت ضحكة مقتضبة مكتومة خرجت من أنفها 
نفحة لطيفةع ول تملك أن خفضت رأسها حياء , 
وهرّته هله الحركة فهاجت صبوته وأقبل نحوها 
متشْجعًا طامعًا ومدٌ يده ليمسك يدهاء ولكتها 
تراجعت فيها يشبه الرعب, وخخاطبته بلهجة جاذة لا 

- لا تسن ! 

فنغاضت ابتسامة الظفر في شفتيه ولكتها لم تباله 
واستطردت قائلة بنفس اللهجة الحدية : 

لا تحاول أن تمسْني أبدا. لا أسمح ببذا ولا 
تزه 

فوجم قليلا ثم قال بدهشة : 

- إن آسف. ما قصدت سوءًا. إني أحبّك بكل ما 
تحمل هذه الكلمة من معنى صححيح . . . 

فقالت وهي تنظر إلى قدميها وقد نم مظهرها على 
شعورها بمخطورة ما تقدم على قوله: 

0 شاكرة لك هذاء ولكن ليس «أنا» الذي 
أملك الردٌ عليه! ! 

ووقم قوطها من نفسه موقم المفاجأة والدهشة. كان 
يجري وراء عاطفته مستغرقًا فيها دون أن يفكر فيه 
عداها. كان يحب ولا يرى إِلّا الحبّ فأعاده قوها إلى 


رشاده. وفهم ما فاته فهمهء وأدرك أنْ الأمر جد لا لهو 
ولعب. ولم يأسف على هذا بل زاد سرورًا ولكن 
غشيته غاشية خوف وقلق لم تخف عليه دواعيها. 
وخرج مس ححيرته بأن قال: 

إِنّ أدرك وجاهة رأيك. وأوافق عليه» ولكن 
ليس كذ كل ىه إن اال قليك أولا..:؟ 

ولانت ملامحها ولكّها لم تفقد السيطرة على إرادتهاء 
فقالت : 

أرجو ألا تستدرجني لحديث لا أحنه! 

لا ينه | 

ولم تكن تعني ما قالت بالضبط ولكتّها لم ثَرَ بدا من 
أن تغمغم قائلة بصوت ضعيف: 

1 

فقال حسنين بارتياع : 

هذه طعنة دامية في قلبي ! 

فقالت بحيرة وارتباك وحياء : 

لذ اعت ذا الك متر كا ال اقول قرلا فحن 
الاخفاء! 

فلم يملك أن ابتسم قائلا: 

- ولكن هذه ضرورة لا بد منهاء وما فيها من 
عيب ! 

فلم ترتح لفوله ولا لابتسامته واشتد تود وجهها 
فقالت بكىء من الحذة : 

كلا!. لا أحبٌ المداعبات ولا الغزل! 

ولكب أحبّك حبًا صادقًا. . . 

أف. لا تقسرني على سماع ما لا أطيق سماعه! 

نتشاء لمعن : 

- هل أقتل نفسي؟ 

فاتسمت أفكارها دون أن يبدو شيء على وجهها 
وقالت: 

لا داعي مطلقًا لقدل نفسك. لقد قلت ما 
عندي ! 

وأعادته العبارة الأخخيرة إلى حيرته وخوفه. فقال بعد 
تردة : 

. لست إلا شايًا في السابعة عشرة» وتلميذ بالسئة 


الثالئة الثانوية. فكيف أفتح هذا الحديث؟ 

فنحخت عنه وجهها قائلة ببرود: 

- انتظر حيّى تصير رجلا! 

فقال في دهشة ممروجة بالاستدكار: 

عي 

فقالت في هلوء: 

دنا تمق شيا إلا هذا 

شعر بغيظ. وضاق با تلقاه به من حزمء ولكنّه 
احسٌ في الوقت نفسه بحبها يغلبه على أمره ويطيح 
بخوفه وقلقه. فقال باستسلام : 

لك ما تشائين. سأحدّث مَن بيدهم الأمر. . . 

فرفعت إليه عينيها لحظة ثمّ حفضتهماء وبدت حيئا 
كأّها مهم بالكلام ولكن غلبها الصمت فقال: 

سأحدّث فريد أفندي , 

أنثت! 

- نعم . 

فلاح في وجهها الاعتراض دون أن تلبس», 
فتساءل : 

هل من الضروري أن تقوم أمي مبذه المهمّة؟ 

فتردّدت قليلا ثم قالت بصعوبة ووجهها يتضرّج 
بالا حمرار: 

أظنَ هذا! 

وضاق صدره مبذا القول الصريح الذي يساوره 
الاعتراف في قلقه. تخايلت لعينيه صورة أمّه الجزيئة 
وهي قابعة في الصالة التى لا يضاء مصباحها توفيرا 
للنفقات فاضطرب صدره.ء وقال بصوت متخفض : 

- سأحدّثئه وأقنعه بمفاتحة أمي في الأمر. 

فتساءلت الفتاة في دهشة : 

ولاذا لا تحادثها بنفسك؟! 

أوشك أن يقول «لا أستطيع» ولكنّه أطبق فاه ثم 
قال متتجاهلا سؤالمًا: 

- لشدّ ما أخاف أن يسخر مثئّي» أو أن يعترض على 
استبقائك في الانتظار حبّى أتمّ مرحلة التعليم 
الطويلة, 


وقالت بصير نافد وبلا وعي تقريبًا: 


بداية وغباية ١95‏ 

- سيوافق على الانتظار ما دمت أوافق عليه! 

وعضّت على شفتيها في حياء وألم فتطلّم إليها في 
هفة وشغفء ومدٌ إليها ذراعيه وقلبه يضطرم 
اضطرامًاء ولكنها تراجعت عنهء مقطبة لتخفي 
تأثرهاء وتتمت : ا 

كلاء كلاء أنسيت ما قلت لك؟! 

ه؟ - 

كان الشقيقان يجلسان حول المكتب كعادتبيا كل 
مساء. وكان حسنين يعتمد وجهه بيده غائبًا في أفكاره 
تلم نظراته وقضمه لأظافره من أن لآخر على قلقه وتوثر 
أعصابه. وحسين نفسه لم يبدُ عليه أنه يجني ثمرة تُذكر 
من نظره في كتاب مفتوح أمامهء وكان يمختلس من وجه 
أخيه نظرات متقطعة فلا يتهالك نفسه من التبسّمء 
وعواطف شق تتناوب قلبهء وضاق بالصمت فقال 
بلهجة ذات معنى : 

طالت المفاوضات! 

فانتبه إليه حسنين في فرع ثم تعبّد قائلا : 

مت ساعة. بل أكثر. ترى ماذا هناك؟ 

فقال حسين ساحرًا: 

- انقلبت الآية» فالمتبع أن يذهب آل الشابٌ لطلب 
يد الفتاة» ولكن في حالتك يجبيء والد الفتاة لطلب يد 
الفتى ! 

فقال حسنين بنرفزة وحنق : 

يحقّ لك أن تسخر مثي فلا وف عليك. ترى 
ماذا يقال الآن في حجرة الاستقبال؟ ماذا تقول أمّي؟! 

فقال حسين في هدوء: 

- عا قليل ستعلم بكل شيء! 

- أتظئها ترفض رجاء رجل كفريد أفندي؟ 

- من يدري؟ الذي أعلمه علم اليقين أنْنا سنخسر 
في حالة الرفض - مرثّبنا الشهريّ الذي لم نحلم به! 

فرماه حسئين بطرف ححائر ثم تساءل: 

إلامّ يطول هذا الانتظار الموج ! 

وعادا إلى الصمت وكانا قلْبا المسألة على جميع 
وجوههاء وطال حديثه)ا عنها في أوفات متقطعة مئذ 


أفضى حسنين إلى شقيقه بما كان من حديث بيئه وبين 


٠‏ بداية ونباية 
فريد أفندي محمد. وقد رحب الرجل بطلب الشابٌ 
ترحيبا وقع من نفسه موقع الدهشة, فلم يكن ينتظر. 
ولم يكن ينتظر بعضه. ثم وعد بمخاطبة الأمّ وتذليل 
أي عقبة مهما تكن حطورتها! ولمّح حسين - تفسيرً 
لهذا إلى أزمة الزواج من ناحيةء وطيبة فريد أفندي 
وحبّه المأثور لأسرجهم من ناحية أخترى. ول يبقٌ الآن 
إلا أن ينتظر النتيجة الوشيكة الظهور! وجعل قلق 
حسنين يتزايد بمرور الوقت. «بعد دقائق أعلم كل 
شيء. هل تكون ببيّة لي أو أدفن هذا الأمل الوليد؟ لا 
فيل رلنها الاعرداى إل اروليعنا رامق ل عتنا. 
ترى فيمَ تفكر هي في هذه اللحظة؟ ألا يتوزّعها القلق 
على مصيرنا؟ إنها تحبنى بلا ريب. حسبي هذا من 
الدنيا جميعًا. نا له إِنّه يطالع في هدوء. ويستمتع 
بمراقبة المعركة من بعيد لا حبٌ ولا قلق. لشد ما 
تسومنا هذه العاطفة الطاغية من عناء. من قال إمْها 
تقيم في القلب؟ الأرجح أثها تعشّش في العقل؟! وهذا 
سر الحنون!؛ واستيقظ على صوت حسين وهو يقول: 

ب إنهها خارجان! 

وأرهف حسئين السمع فبلغه ما يتبادل الرجل 
وزوجه وأمّه من عبارات المجاملة المألوفة. ومضوا إلى 
الباب الخارجي إِلَا نفيسة قد جاءت إلى باب المنجرة 
ووقفت تنظر إلى أخيها بغرابة ثم قالت: 

- يا ما تحت الساهي دواهي! أتريد حمًا أن 
تتروج؟! 

وغمغم «حسين : 

- أول الغيث قطر! 

وانتقل -حسئين مدفوعًا بغريزة الدفاع عن النفس 
من كرسيّه إلى فراشه في أقصى الحجرة لصق النافذة 
الي حل ورق الصحف عل زجاجها المفقود. ثم 
سمعوا وقع أقدام الأمْ وهي قادمة. ودخلت تسير في 
خطا ثقيلة صلبة القسيات جامدة النظرة؛ وبحثت 
عيئاها عن حسنين حّ استقرّتا عليه في آخر الحجرة 
ولبئت تنظر إليه حيئًا ئمّ مضت إلى الكرسيّ الذي تركه 
وجلست عليه في شبه إعياء. ساد الصمت مليًا فلم 
يجرؤ أحد على خرفه حيّى نظرت المرأة إلى حسين 


وسألته في هدوء: 

ألا تدري فيم كان يحادثني فريد أفندي وزوجه؟ 

فارتبك الشابٌ الذي لم يكن يتوقع استجوابًا وظنّ 
أله - بالنسبة للمسألة كلها من المتفرّجين. فلم يحر 
جواباء حيّى قالت الأم بخشونة : 

ا 

فتحول بصره صوب حسنين في حيرة واستغاثة. 
فاقتنعت الأمْ ببذه الحركة وسالته : 

- متى علمثت؟ 

قال في إشفاق: 

وأأرل أعينا 

- ولاذا أخفيت عي ؟ 

فلاذ بالصمت لاعمًا أخاه وحظه اللذين أورطاه في 
المسئوليّة بلا ذنب جناهء وتنّدت عند ذاك وقالت 
بأمى : 

- الأمر لله إن شقائي بكا فاق ما ألاقى من زماني 
الأسود! 

وكانت نفيسة تكره جو الشقاق بطبعها فأرادت أن 
تلطف من حدّته. ولا يعنى هذا أنها كانت تشبججع 
أخاها على رغبتهء ولعلّها كانت أشدٌ غضبًا من أمّهاء 
بل إثْها عدّت الأمر كله تدبيرًا دنيئًا لاختطاف شقيقهاء 
ولكتبا رغبت صادقة في تحامي نزاع لم يعد يجدي. 
فقالت مخاطية أمها: 

- لا تبيجي دمك . ما كان كان فارحمونا من وجع 
الدماغ , 

فانتهرتها أمّها بسحذة قائلة : 

- أخخرسي ! 

والتفتت إلى حسنين قائلة بازدراء : 

لعلّك ملهوف على معرفة ما انتهى إليه مسعاك 
الذى دبرته بليل؟ . . . 

وهزت رأسها في أسى ثم قالت: 

- لك قلب تسد عليه إن يستطيع رغم فجيعتنا 
وتعاستنا أن يعشق. وأن يستهين بنا جميعًا في سبيل 
سعادته؛ والحق ني ذهلت حين حدئئي فريد أفندي 
عن آمالك الواسعة. وهيامك العجيب. ولكبِّى حدّثته 


بدوري عن كمفاحنا وتعاستنا. حدثته عن أثاثنا الذي 
نبيعه قطعة قطعة لنحصل على الضروري من القوت 
وعن شقاء أحتك التي تمتهن الخياطة وتقطع النبار بين 
هذا البيت وذاكء ثم صارحته بأنْ أحدًا من أبنائي لن 
يتزوج حبّى يمبضص بأسرته المنهارة . 

وسكتت المرأة وعيناها لا تتحولان عن وجهه وهو 
خافض العينين تعلوه كابة وقنوط. ثم استطردت قائلة 
بحزك : 

ومهما يكن من أمر فلا يسعني إلا أن أشكر لك 
عطفك وإنسائيّتك! 

وقامت المرأة وغادرت الحجرة لا تكاد ترى ما بين 
يديها من الغضب والحزن وخلفت وراءها صمنًا 
ثقيلا. وبلغ التأثّر من نفيسة فتناست غضبها الدفين 
واقتربت من حسنين وقالت متظاهرة بالمرح: 

- نيئة لم تقل كل شيء. وأؤكّد لك أنْ ثمّة ما يدعو 
حمًا لحرنك. وما كان بوسعها إلا أن تبقى على صداقة 
فريد أفندي ومودته. ومن ذا يستطيع أن ينسى حميله 
ومروءته؟! قالت له إمّبا تعد موافقته على طلبك شرفًا 
كبيرًا بيد أمّْبا ذكرت له حالنا الذي يعرفه حقٌ المعرفة 
وسألته أن ينتظر حب تمض أسرتنا من عثرتها مكتفيًا 
بكلمتها على أن تعلن الخطبة في حينها إذ أنت رجل 
مسكول. وقالت له أيضًا إِنّه يسعدها أن تختار مبية 
زوحًا لابنباء فلا داعي للحزن على الإطلاق, . . 

ونظرت الفتاة إلى وجه أنحيها والاشراق يعاوده 
فدخلها غيظ مفاجئ ولكها أحسنت كتمانه وقالت 
بلهجة لم تخل من حذة : 

- اعذر نيئة فهى مسكينة حزيلة» وما يعزيها ولا 
شك أن نشاركها يه أمَا إذا وجدت مئاء. . . ما 
عليناء لا أحبٌ أن أعود إلى هذا. وحسبي أن أقول 
لك إِنْ الأمور تسير كا تحبٌ (ثمّ ضاحكة) لعنة الله 
عليك وعلى الحبٌ معا. . ! 

1 37 بت 

قال سليان جابر سليان: 

فلا يداخحلك شك في هذا. سنتروّج كما قلت 
لك, وهذا عهد مث أمام الله . 


٠١ ١ بداية ونباية‎ 


فانصتت نفيسة باهتتام وقلبها يتابيع ضرباته. لم يعد 
جديدًا أن تسير متأيّطة ذراعه في شارع من الشوارع 
المتفرّعة عن شارع شبرا حيث يغلب الظلام على 
جنباتها ويقلٌ المارّة. وكان يبدو لا دائئّا. على دمامته 
وحقارته. فتى رائعا لحرارة عاطفته وشذة انكبابه 
عليهاء وكانت ذا محبّه من أعاقهاء بل باتت مجئونة 
به, 

شش(غظ21 
سواهء ولن يكون ها سواه فتعلّقت به بقوّة الأمل. 
وبقوّة اليأس» وأحيّته بأعصابا ولحمها ودمهاء 
ووجدت فيه غرائزها المشبوبة العارمة أداة نجاة تنتشلها 
من الأعياق . 

كان أل رجل بعث فيها الثقةء وطماها إلى أنْها 
امراة كقية النساع. وكات :إذا قال ا تاف لق 
خلقًا جديدًا فترى الدنيا ‏ على كثافة الظلام المحيط ‏ 
نورًا وبهاء. بيد أها لم تقنع بكلمات الحبٌ» تلهفت إلى 
لىء آخر ليس دون الحت منرلةع أو لعلهما شيء والحد 
في نظرها. فلم تفع تستدرجه حّى قال ما قال ثم 
تشجّعت بالظلمة وتساءلت: 

- وماذا أنت فاعل؟ 

فقال بلا تردد: 

- كان من الطبيعيّ أن أعلن أبي برأبي ثم ذهب 
معًا إلى والدتك لنطلب يدك» أليس كذلك؟ 

د أظه هلبا 

فتمهد بصوت مسموع وقال: 

ديجا لبيت1"هذا|: امل عفية المسال ف :«التوفك 


الراهن. . . 
لماذ!؟ 
فقال بغيظ : 


أي!. . لعنة الله عليه. رجل عجوز أحمق عنيدى 
ويطمع أن يروّجني من ابنة جبران التوني البقال عند 
تقاطع شبرا بشارع الوليد. ولست في حاجة إلى أن 
اقول لك إني .م أوافق» ولن أوافق» ولكنّني لا 
أستطيع أن أقترح عليه الزواج من أخرى في الوقت 


؟ ٠٠‏ بداية ونباية 


الحاضرء وإلا كان جرائي الطرد. . . 

وأحسّت جفافا في حلقهاء ورمقته بازدراء» ثم 
تساءلت في قلق : 

والعمل؟! 

- نصبر» ثم نصبر. ولن تحولني قوة في الأرض عن 
غايتي. بيد أنه يجب أن ناخد حذرنا أن يفطن الرجل 
إلى علاقتنا. . . 

- وإلامّ نصير؟ 

فترذد في حيرة ثم تمتم : 

حتّى يموت!| 

فهتفت بانزعاج : 

يموت؟! هبنا متنا قبله ! 

فضحك ضحكة جافة في ارتباك وقال: 

دعي هذا لي وللزمن. لم تضق بنا اليل بعد! 

كلام عائم لا يروي غلة. «لا استطيع أن أقول له 
إن أخاف أن يتقدّم لي أحد في أثناء الانتظار لطلب 
يدي . هذه حججة وجيهة في يد غيري تمن يحظين بقسط 
من الجبال أو المال. أما أنا فمَن عسى أن يتقدّم لي في 
هذه الأيّام التي لا يزوج فيها أحد. رضيت باهم 
ولكنّ الهم لا يرضى بي. ابن بمّال! إِنّ البدلة تبدو على 
جسمه قلقة تابية؛». وشعرت بيد القهر تقبض على 
عنقها. وزادها الخوف تعلْقًا به فلو وزن في هذه 
اللحظة بالدنيا كلها لرجح بها في قلبها. مها لا تدري 
على وجه الوضوح كيف يمكن أن تتروج منه حيّى ولو 
ذلل ما يعترضه من عقبات, فإنَّ أمُها لا تستطيع أن 
تقدّم لها شيئّك فضلا عن أنْ الأسرة باتت لا تستغني 
عن القروش التي تربحها لهاء ولْكتّها تريده» تريده من 
الأعماق. وبأيّ ثمن. وتجهّم وجههاء وفتحت فاها 
لتتكلم ولكن لاحت منها التفاتة إلى شبح قادم فجمد 
الدم في عروقها؛ وشهقت شهقة فرعة وكادت تطلق 
ساقيها هاربة لولا أن مر القادم تحت المصباح فتنوّر 
وجهه وتنبدت تنهد الأمان بعد الرعب» وعجب سلبان 
لشأغبا فساها: 

ما لك؟ 

فقالت وهي تلهث: 


حسبته أخي حسن ! 

وانتهز الشابٌ الفرصة ليفصح عن رغبة طال 
احتضانه لما فقال: 

- لن تأمن الخوف ما دمنا نخبط على وجوهنا في 
هذه الطرق. أصغي إِلّ. لماذا لا نذهب إلى بيتنا 
فنمكث فيه قليلا بعيدًا عن الأنظار؟ 

فصاحت به في دهشة : 

بيتك؟ !| 

- نعم أبي يقضي مساء الجمعة حي منتصف الليل 
عند شيخ الطريقة الشاذلية. وأمي في الزقازيق عند 
أختي التي جاءها المخاض اليوم؛ ليس في البيت أحد! 

فقالت في ذهول وقلبها يدق بعنف: 

- كيف أذهب معك إلى بيتنك؟ , . أجننت يا هذا!؟ 

فقال بضراعة حارة: 

- إفي التفسن مكانا اما بيتى أمن ودعوتي بريئة . 
أريد أن أخلو إليك في أمان فنعالج همومنا في رويّة 
بعيدًا عن المخاوف والعيون. . . 

كان يتكلم وكانت تصغي مقظبة. وكانت تتخيّل 
على رغمها البيت الخالي في قلق وخموف. وحاولت أن 
تطمس شخياله بالتمادي في الغضب ولكنه ظلّ قائعًا في 
رأسها. وقالت فى حذة: 

00005898 

فقال الشابٌ باستعطاف وهو يشدٌ على راحتها : 

- لم لا؟! ظننتك ترحّبين بدعوتي. أليس لك ثقة 
في؟ اليس لك ثقة في نفسك؟ أريد أن نخلو لذاتناء 
وأن نتحدّث. وأن أطلعك على مدى حبّي وآمالي 
رخططي. ليس فيا أدعوك إليه من عيب ولن يدري 
بنا أحد. 

فهرّت رأسها في عناد وقلبها يوالي ضرباته 
الشديدة. ودّت لو تستطيع أن تخلو إلى نفسها لتتفكر 
طويلا. وشعرت برغبة في الهروب. ولكتها لم تبدٍ 
حراكا وسارت إلى جالبه وراحتها في يده وعيثا 
حاولت أن تبعد نحياها عن البيت الخالي المنتظر. ثم 
جاءت لحظة فشعرت بِأنْ باطنها ينقلب رأسًا على عقب 
وأنها تشوص في أعباق مالهامن قرار. وازدادت 


اضطرابًا وقلمًا فقالت في ضيق : 

- ليس في بيتك ! 

فشْدٌ على يدها بيد مرتجفة وقال: 

بل في بيتي. فكري قليلا. هاذا تحافين؟ إني 
أحبك وأنت تحبّيني ونريد أن نتحدث عن حينا 
ومستقبلنا في أمن عن العيون. هذه فرصة وهيهات أن 
نجد البيت خحاليًا مرّة أخرى. إني أعجب 
كود لمي + 

وإنما تشاركه عجبه من ناحية أخرى. إنها تشردّد 
حمًا. ولو أرادت أن ترفض رفضًا حاسيًا لما أعياها 
البيان. ولكنها يبدو أمْها تداب على الرفض المتردّد 
الذي لا يحكم إغلاق الباب. إنها في الغالب خائفة 
وحجلة ولكن لم تعد تستطيع تجاهل الانقلاب الذي 
حدث في باطنها. وفاضت نفسها بالقلق والاضطراب 
والتوثرء ثم قالت بصوت ضعيف: 

- الأفضل أن نواصل المثى. . . 

فجذبها بإغراء وهو يقول : 

- قد تلشقٌ الأرض في أي موضع وفي أي لحظة عن 
أخحيك حسن! 

فوجدت نفسها تجاريه في تخوفه في استسلام : 

إن أنخاف هذا! 

فقال وهو يتتبّد في ارتياح زافرًا من صدره شواظًا 
من نأر: 

فقاومت يله في وهن وهي تقول : 

كلا. , لن أذهب . 

دقائق معدودات. عطفتنا معتمة ولن يرانا أحد. 

وسار بها وهي تتبعه في تثاقل قائلة : 

كلا. . . 

وكان قلبها يدق بعنف يكاد تصدع له الضلوع. . . 

31397 د 

وفتح الباب بمفتاح معه وهمس في أذنها «تفضلي» 
فقالت بتوسل : 

١ دالفعلة‎ 

فدفعها برقة وهو يقول: 


بداية وعباية ٠١1‏ 


لا بد أن تشرّفي البيت. . . 

ودخمل وراءها وأغلق الباب فوجدت نفسها في 
ظلام دامس. وارتفع وجهها إلى السقف في انتظار 
النور» ولكتّها شعرت بيده تتحسّس منكبيها فسرت بها 
قشعريرة ومست في خوفف: 

- النور. 

فقال معتذرًا: 

مصباح الصالة تالف. . . 

- أشعل 3 مصباح نستضىء بوره . 

فأحاط خاصرتها بذراعه وجذبها معه وهو يقول: 

- إفي أعرف الطريق إلى حجرتي. .. 

وحاولت أن تتملّص من ذراعه ولكنّه شدّ على 
خاصرتها فلم يتخل عنها وسار بها ببطء وجنباهما 
ملتصقان. فجثم على صدرها ضصيق خائق وجعلت 
تتساءل في نفسها «ماذا فعلت بنفمبي؟) مم أحذت 
تألف الظلمة رويدًا فلاحت لما ني الظلام أشباح 
كراسي وصوان وأشياء أخرى لم تتبينها. وقطعا الصالة 
في بطاء وحذره ثم مدّ يده الأخرى ففتح بابًا مزّق 
صريره الصمت المخيفء ودفعها أمامه من مخاصرتيها 
ثم رد الباب بقدمه. سرعان ما تخلصت من يديه 
وقالت بحلة: 

- أشعل المصباح فقد ضقت بالظلمة. . . 

فجاءها صوته يقول برقة وحذر في لحفة تنم عن 
الاعتذار: 

- آسف يا سيّ فإنْ شقّة عمّي ملاصقة لشقتنا ولا 
أمن إذا رأوا نورًا ما أن يطرق أحد متهم بابنا! 

فسألته في دهشة واستدكار: 

ببسل عي و العام ؟ 

فقال متودذا: 

في نورك الكفاية . . 

فقالت في توسل : 

- دعي أخرج . . . . 

فتلمس يدها في الظلام حيّى عثر بها ورفعها إلى فمه 
فقبلها مرة ومرّة ثم قال بصوت مضطرب: 


ع ٠٠‏ بداية ونباية 

- بل تجلسين لست ريحي . وستألفين الظلمة فلا 
تزعجك , 

ومال نحوها ‏ فيما يشبه الانقضاض - فرفعها بين 
يديهء وسار بها إلى ماية الحجرة وأجلسها على كنبة 
وجلس لصقها وهى مستسلمة من شذة الاضطراب 
والذهول» ثم قال: 

- دعينا من الأحذ والردٌ. ينبغي أن نجلس في 
هدوء وأن نتحدّث. لقد تجشمنا مشقة كبيرة في سبيل 
المجيء إلى هنا وسيّان أن نمكث في الظلام أو النور. 
ليس هذا بذي بال ولا يصح أن يكدر صفونا. . . 

وتناول ساعدها وأمطره قبلات من شفتيه الغليظتين 
وهي ترتجف وتحاول عبئًا أن تجمع شتات أفكارها. ثم 
تزحزحت بعيدًا عن جنبه الملتصق بها لتستردٌ أنفاسها 
فيال نحوها ولكئها حالت دونه بيديها وهي تقول 
لااهئة : 

- دعني وحدي» إني تعبة. . 

فاستردٌ أنفاسه وقال ضاحكا: 

- تشبجعي . ما لك خايفة مرتجفة! . . انك يتل 
في بيت زوجك. 

وكانت نبضات قلبها تدق في أذنيها وتقرع رأسهاء 
نتنشست من الأعاق. وشعرت بيده تشناول يدها 
فهمّت بجذبها ولكتّهبا عدلت عنه وكأئها استسخفت 
نفسهاء فأبقاها بين يديه وقال بصوت تغيّرت نيراته : 

كل شيء هادئ ولطيف. إني أرى جمالك رغم 
هذه الظلمة. 

فقالت بلا وعي تقريبا: 

فدلك يدها براحتيه وقال: 

- دعي تقدير هذا لي: 9 لا أجن للاشيىء. . 

وساد الصمت مليًّا فتركز انتباهها وهي لا تدري في 
راحتها التى تلتهمها كفا وسرت فيها دغدغة بنّت في 
ساعديها وذراعيها وصدرها تخديرًا فاقشعرَ بدنا 
وفيت 

فقال بصوت متهلّح : 


افطن. شفداتك تنبا عن قلي 1لا يانه قداة 
أو التافه) لي تعس مويف . 

واندلق عليها وقبل شفتيها قبلة طويلة شرهة حت 
مال رأسها إلى مسند الكنبة ثم أمطرها قبلا نبمة 
حامية» ورفم وجهه عن وجهها أثملة وعمس : 

- قبليني. .. أريد أن أشعر بشفتيك تأكلان 


ط ثم 


وكانت بحال من الإعياء لم تدع لها قدرة على 
العصيان فرفعت وجهها قليلا وقبّلته» ثمّ غمغمت: 

- لم نجئع هنا لهذا. . . 

- إذن لماذا؟ 

لنجلس ونتحدّث! 

فأطبق شفتيه على شفتيهاء ثم عطف وجهه فجعل 
يده على فيها وهمس في أذهها : 

هذا أفضل . لقد تكلّمنا كثيرًا. وأعيد عليك أنَك 
زوجي. زوجي ولو تاصبتني الدنيا العداء , هي فسالة 
وقت لن يطول. . . 

لعلّه يظنّ أثّها جزعة متعجّلة. فلتدعه في وهمه. 
ولعل الانتظار أوفق لحال أسرتنا التي لا ترححب 
بزواجها الآن. ولا تستطيع أن تعد العدّة له. ليس في 
الانتظار ضرر ولكتها لن تعلن عا في ضميرها. وعاد 
سلان يقول: 

- مسألة وقت. ولكن ما أحوجنا في فترة الانتظار 
إلى الترفيه! 

ومذ يسراه وراء ظهرهاء ويمناه حول صدرهاء 
فشعر بثدييها تحت ساعده ناهدين صلبين فغلى دمه 
وضمّها إليه بوحشيّة. وانهمرت أنفاسه على خذها 
وعنقها. وعاودها الذهول والتخدير والرغبة والثوف». 
وامتزج في صدرها القلق واللذّة واليأاس» ثم اشتدت 
الظلمة؛ ظلمة عميقة غريبة» كأنها تنشر أجنحتها على 
فضاء لا نبائيّ. فلا مكان ولا زمان. . . 

#6 

قالت لطا أمها: 

- تأخرت أكثر من كل يوم . 

فقالت واحمة: 


- أردت أن أنتهي من عملي وقد انتهيث . . , 

ثم وضعت في يد الأمّ حمسة وسبعين قرشًا 
واستطردت قائلة : 

- أعطوني الحساب كله وساحتفظ لني ببقيّة 
اللخدية, 

وسكتت الآمّ فمضت الفتاة إلى حجرتها وأحذت 
تخلم ملابسها. وفي السكون الشامل ترامى إليها 
صوت حسنين وهو يطالع فترك في نفسها أثرًا عجيبًا لم 
تدر إن كان خوفًا أم حزئًا خالصًا. . . 

- 78 - 

- مبيّة ولطافة المغيب هما شىء وحد في نفسي. . . 

قالها وهو يومى: إلى الشمس الغاربةء رائيًا إلى 
وجهها الأبيض البدرئّ» وقد افترٌ ثغرها عن دز. 
فقالت: 

- لن تفتأ تتبعني إلى هنا حّى يرانا أحد! 

فقال حسنين بزهو: 

- إن خطيبك» ولي الحقٌ في كل شيء! 

لا حىّ لك على الإطلاق! 

فضحك من قلب جذل ضحكة من لا يصدق 
قرلماء وملا عيئيه العاشقتين من منظرها. كانت ملتقّة 
في معطفها الأحمر. ينحسر جيبه في أعلى الصدر عن 
فستان رماديّ, وتعبدل على ظهره ضغيرتان مكتنزتان . 
وكان عمق حمرته يضفي على بشرتها البيضاء وعينيها 
الزرقاوين نقاء وبهاء. «هي ميّالة إلى القصرء فلو 
التصقتٌ بها لمس مفرق شعرها ذقني. ولكنها بضّة 
ريّانة فتبًا للمعطف الذي يمخفي قسبات هذا الجسم 
وثناياه» حريصة محافظة. تعجبني بقدر ما تغيظبي!)» 
وقال متعبجنا: 

لا حقّ لي على الإطلاق! ! 

فقالت في هدوء ينم عن القوة : 

ليها 

أتعني ما تقول حمًا؟! يا لها من جميلة. لقد سما بها 
هذا السطح عن الدنيا وجعل من أفاق السماء إطارًا 
لصورتها. وما من شىيء يشامبها كهذا الإطار في هدوئه 
وحشمته وتنائيه . تقول نفيسة عنبها إنها ثقيلة الدم» وما 


بداية ونباية ٠١65‏ 

هي بالخفيفة: ولكن هيهات أن يقل هذا من قيمتها. 
نه يحبها بعقله وجسمه؛ أو لعل إحساسه غالب عن 
عداه. اتعنى حمًا آلا حنّ له؟! عجياء لقد حسب أن 
الخطبة ستملكه حقوقًا؟ وحقوئًا؟ قال بدهشة: 

يميّل إل في بعض الأحيان أنه لا قلب لك! 

فتورد وجههاء وخفضت عيليها في حياء. ثم 
رفعتهما قائلة في خشونة : 

ما دليل القلب عندك؟ 

فقال فى حماس : 

أن تصرحي لي بأنك تحبينني. . . . وأن. . 

وان 

وأن نتبادل قبلة. . . 

فقالت بحذة: 

- إذن حقًا لا قلب لي . 

يا عجبا آلا تحبيبي يا مبيّة!! 

فلاذت بالصمت في ارتباك وضيق . 

ألا تحبيننيى؟ 

فتدبدت قائلة : 

- إذن اذا تم ما تم؟! 

فابتل صدره المحترق وهتف برجاء : 

د أحبّ أن أسمعها بأذنٌ. . . 

لا تكلفيي ما لا أطيق! 

فتدبّد بدوره في شبه يأس» ثم قال بلين: 

إن أعياك الكلام فلن تعييك قبلة. 

ايا سر أسود. . . 

يا خخير وردىّ كالشهد! من غير هذه القبلة أموت 
كمدا. 

إذن فليرحمك الله! 

لا تطيقينها أيضًا؟! لن تكلّفك شيئًا. ابقي كما 
أنت ثم أتقدّم خطوة وأضع شف على شفتيك فتكون 
الحياة الى ما بعدها حياة. . . 

- أو الفراق الذي ليس بعده تلاقي! 

ا 

أفندم ! 


أنت لا تعئين ما تقولين. . . 


5 بداية ونهاية 


- أعني ما أقول تماما. 

- ولكنها قبلة وليست جريمة! 

جريمة في نظري . . . 

ما سمعت هذا قبل الآن. . . 

- ولكيٌ سمعته كثيرا. . . 

أين؟ 

فعاودها التفكير, تردّدت مليّاء ثم قالت بصراحة 
وسذاحة: 

- ألم تقرأ ما تنشره الصباح عن فتيات مهجورات 
لاستهتاره"؟ ألا تسمع الراديهو؟ 

ففغر فاه وندّت عله ضحكة. م صاح : 

- مَنْ يقول إِنْ القبلة استهتار؟ ألم تقرئي ما قال 
المنفلوطي في القبلة وهو الشيخ المعمم؟ إِنْك تحرّمين 
على نفسك ما أحل الحبٌ الطاهر لنا, الصباح؟ . . . 
الراديو؟. . . كلام فارغ ! 

فرمقته بريبة وحذر وقالت : 

لا تضحك مبْى. هو الحق. قالت أمّي لي مرة 
دإ الفتاة التي تتشبّه بالعشّاق كما يظهرون في السينا 
فتاة ساقطة خائبة الأمل». . . 

بنت الكلب!... أهي التي قالت لك هذا؟. . . 
القصيرة الماكرة. أفسدتها عل وأفسدت حياتنا. إنَّ 
الغيظ يقتلبى. ماذا أفدت من الخطبة التى تجرّعت 
بسببها تقريعًا ولومًا مرًا؟! لا شىء. فدات عنيدة 
غقونة:. الى" امهنا نت الكلب وحمالة الخطب: 
وتساءل في يأس : 

ع اتاغنين قات ل :الشعف صق 

0 

- إذن هو حب اسميّ فحسب؟ 

- ليكن . 

وتفخصها بنظرة طويلة فرآها ثابتة عنيدة قوية. 
وجرى بصره مع عنقها الرقيق» وتخبل أصله المتواري 
تحت الفستان, والمنكبين. والصدر الناهد. فركبته 
عاطفة جامحة حارّةء وأفلت زمامه من يده فانقض 
عليها وهو يسدّد ثغره صوب شفتيها. وم تكن تتوقع 


انقضاضه فتقهقرت فرعة وتلقته براحتيها ثم هتفت به 


لاهئة ؛ 


لم 2 عيئيها غ2 غضما يتقد فخمدت حذته وارتد 


حجلا مرتبكاء فغمغمت: 


- احذر أن أغيّر رأبي فيك. . . 

ثم استدركت في جرع : 

أَظنّ آن لك أن تعود. . . 

ودارى ارتباكه بضحكة قصيرة وتمتم : 

- على شرط ألا تكوني غاضبة. . ؟ 

فسكتت هنيهة قبل أن تقول بلهجة رقيقة : 

- وعلى شرط ألا تعود هذا مرّة أخرى. . . 

وتحول في خطوات ثقيلة» يلوح في مظهره الارتباك 
واليأس فرق قلبها له وقالت وهي لا تدري : 

- إِنْ سعادتي في أن أصون لك. . . 

وكأنما تنبّهت إلى نفسها فعضّت على شفتيها وم 

184 د 

وجاء عيد الأضحى فجذب أفكار الأسرة وعواطفها 
إلى واد واحد تلتقى فيه ذكريات الأمس واليوم. 
واجتمعت الأسرة ليلة الوقفة في الصالة حيّى حسن 
كان بينهم» واستعرت في الصدور رغبة كظيمة في 
الاحتفال بالعيد. وطافت برءوسهم ذكريات الأعياد 
الماضية في حنين دافق لم تعلن عنه السنتهم. كان 
الخروف ‏ في مثل هذه الليلة ‏ بمربطه في شرفة شقّتهم 
الأولى يشرئبٌ بعنقه بين قضبانه ثائجاء مذيعا بتؤاجه 
في عطفة نصرالله احتفال الأسرة بالعيد. ولم يكن 
الشقيقان ليفارقانه. فها إِمَا يعلفانه ويسقيانه. أو 
يناطحانه أو يجلمان بالغد القريب في أمل وفرح . 

وفي الصباح وعقب ذبح الضحيّة يبدأ سباق إلى شي 
اللحوم والتهامهاء والأم مشغولة بهذا وبتوزيع 
الصدقات على بعض الفقراء كالكئاس وصبئ الفرّان 
وغيرقاء: آنا الأب فيعتاول: ققتطوره يمن اشوا عل 
السفرة ثم يأوي إلى حجرته في البساط فيضم عوده إلى 
صدره ويمضي في مداعبة أوتاره. وهناك ‏ غير هذا - 


العيديّة والملابس الجديدة ونزهة الصباح في الخلوات 
وفسحة الليل في السينيا وما بين هذا وذاك من ألوان 
الحلوى واللعب والمفرقعات. وها هي الأسرة مجتمعة 
ولكن بلا أب. وإئّْهم لينظرون فيا حولم فلا يجدون 
بشيرًا بمقدم العيد ولا أملا في ببجته. ثمّ يسترقون 
النظر إلى أمَّهِمِ المتلفعة بالسواد بأعين مستطلعة وألسنة 
قلقة مشفقة. كلاء لا عيد» ولا بشيرًا به. وتساءل 
حسنين في سرّه «ترى هل يمكن أن بمضي العيد كما كان 
يمضى غيره من الأيام!؟). وقال حسين لنفسه ولا 
عيد. إن أعلم ذلك. انتهى» انتهى؛». حسن وحله 
كان أدناهم إلى التفاؤل. ولعل كثرة تغيّبه عن البيت 
جعلته يمناى بعض الشىء عن نوع الحياة الى يحياها 
أهله. وكان إلى هذا شأنه شأن بقيّة الاخوة ‏ يعلٌ 
أمّه قادرة على كل شيءء. وكثيرًا ما يتعزّى عن كسله 
وتلفه فيقول لنفسه «لديهم معاش وأرباح نفيسة!) وقد 
اعتاد دائمً) إذا رجع إلى البيت أن يخلو إلى نفيسة 
فيسأها «كيف الحال؟) فكانت تجيبه بالشكوى المرة 
ولكنّ قلبها لم يكن يطاوعها على تجاهل يده إذا مدّها 
لما طامعا في بضعة قروش . كان متفائلا رغم ما يحدق 
به من تجهم» ومنته نفسه بلصيب هائل من اللحم 
يعرّض عليه أيّامًا طوالا انقضت دون أن يذوق للحم 
طعّاء وضاق بالجو الكئيب الصامت فيال على أذن 
نفيسة وساطا همسا 

ب ماذا أعددتم للعيد!؟ 

وفطنت الأمّ إلى همسه فعاجلته متسائلة : 

ماذا أعددت للعيد يا رجل الأسرة؟ 

فضحك قائلُا : 

لنا أمّ تحسد عليها! خفيفة الروح وبنت نكتة 
ولطيفة. ما أقول يا أماه؟ لم يأمر الله بالرزق بعد. 
وحسبكم أن كفيتكم شري فلم آكل لقمة في بيتكم 
منل وفاة أبي إلا مرّات معدودات. . 

وكالت كسث من نصحه ولومه معا فتنئّدت 
صامتة وتشجع حسئين بفتح باب الكلام فتساءل : 

ماذا سئاكل في العيد؟ 

فتطوع حسن بالإجابة قائلا : 


بداية ونباية ٠١17‏ 

لحا طبعا. هذا أمر ريّنا لا حيلة لنا فيه! 

وندّت عن نفيسة ضحكة ولكنها لم تسترسل خشية 
أن تنّهم بتشجيعه وقالت الأمّ بحزن: 

- هذا أمر ربّنا حفًا ولكن كيف لنا بتحقيقه؟ 

فقال حسن في ملق بارع : 

- نحقّقه بفضلك أنت. أنت الخير والبركة. أنت 
الحزم والتدبير. ثم إِنْك أعظم طاهية في العالم. كيف 
يبمضى العيد دون أن نشبع من المشويّ والمسلوق 
والمحمر والكفتة والكستليتة والممبار والموزة؟ سفرة 
الست م حسن ع أنعم بها وأكرم . . . 

وسرى في الحو القائم نسيم مرح لطيف. وجرت 
على فم الأمّ الجافٌ بسمة خفيفة. ولكنها قالت 
بأسف : 

طاهية ماهرة ولكتها مقطوعة اليدين! 

ونظرت نفيسة إلى أمّها نظرات ذات معنى ثم قالت 
لإخحوتها : 

اسمعواء علمنا أنّْ فريد أفندي سيهدي إلينا 
عل رركا 

وتطلّعت إليها الأبصار في دهشة ووجوم. ولم يعد 
في وسم المرأة السكوت فقصّت عليهم كيف حادثها 
فريد أفندي في الأمر بلباقة وكيف رفضت شاكرة فتأثر 
الرجل لد الغضب وذكرها بأئهم أسرة واحدة. ألخ . 
وكانت تلوح في عيني حسين نظرة كئيبة» وبدا حسئين 
وهو يزدرد ريقه بصعوبة أمّا حسن فقال: 

يا له من رجل فاضل وفي! 

فهتف حسئين في ضيق وألم : 

فبادره حسن قائلا : 

- ليس في الأمر ما يِمسٌ الكرامة» إن هي إلا تقاليد 
مرعيّةء وليس فريد أفندي بالرجل الغريب. . 

وخافت نفيسة أن يفضى تصريحها إلى فتلة فقالت: 

لا داعي للنزاع. فإذا أبيتم قبول الهدية فلنشتر 
بضعة أرطال من الضان . 

فتساءل حسن فى حدّة: 

- كم رطلا؟ 


4 بداية ونهاية 

تقأ يمتعنا ‏ شراؤه: عشررة مغلا 

فصاح حسن في انزعاج : 

- عشرة أرطال على أربعة أيَام! إياكم أن ترفضوا 
الحديّة. النبئّ قبل الحديّة يا هوه. أم تريدون أن 
تَعْضِبوا أسرة تود مصاهرتكم! 

فصاح به -حسنئين : 

هذه شحاذة ! 

فقال حسن بيقين: 

كلا. الشحاذة شيء آخر اسألني أنا عنه. أمّا هذه 
فهدية, هدي هلية. 

وتكلم حسين لأوّل مرّة فقال: 

هدية من النوع الذي كما عبديه في الأعياد إلى 
الكئاس وصبيم الفرّان. . . 

وغضب حسن لأنه كان يطمع أن يضم حسين إلى 
رأيه أو أن يبقى على الحياد على الأقلّء وقال محتدًا : 

لا تخلط بين الهديّة والصدقة, إذا أعطيت 
الكئاس فهى صدقة:» أما إذا أعطيت صديقًا فهى 
هدية . , ' ْ 

وكان حسنين يعلم بِأنَّ مناقشة حسن هذر غير مجدٍ 
فخفض عينيه وقال في حياء وألم : 

د التواغي أن يكيرة العندى عر اللتسطي :لا 

فقال حسن ساخرًا: 

هذا إذا كان هو الذي طلب يد الخطيبة. أما إذا 
كانت هي التى طلبت يله. , 

م ا 

أرخنا من الفلسفة التي لا تشبع من جوع. إا 
عيب في قبول هذه الحديّة. كانت هذايا أحمد بيك 
يسري تحمل إلينا في المواسم, على فكرة ما باله نسينا 
هذا العام ابن الكلب؟! هذا رجل غير وفيّ. فريد 
أفندي رجل الوفاء حمًا. من حسن الخلق أن نقبل 
هديّته. ثق بأنه إذا كان في القبول ما يمس الكرامة 
لكنت أوؤل الرافضين. 

فقال حسين بكابة : 

تصور ماذا يقولون عنا! 


تصوّر الشواء وأنت تقلبه على النار والرائحة 
الشهيّة تملأ البيت. 

والتفت حسنئين إلى أمّه وسألها: 

علام نويت!؟ 

فقالت المرأة دون أن تنظر إليه : 

- لم يسعني إلا القبول. . . 

وساد الصمت؛ لا لأنْ أحدًا لم يجرؤ على الاحتجاج 
فحسب ولكن لأنّْ هذا القبول أنقذهم من النزاع 
القائم في صدورهم بين غضبة ضائرهم ورغبتهم في 
الاستمتاع ببهجة العيد ولذائذه. وهم إلى هذا كله 
يؤمنون بأمّهم إيانا كبيرّاء كائها لا يمكن أن تخطئ. 
فإذا كانت قد ارتضت قبول الهدية فلا ضير من قبوها. 
هذا ما قالوه لأنفسهمء أو هذا ما قاله لنفسه الخائر 
منهم لينجو من حيرته. وكانت الأمّ أسوأ حالا منهم . 
وم تجد من عزاء إِلَّا في هذه الحقيقة وهي أن فريد 
أفندي اضطرها إلى القبول بإلحاحه وحرارة صداقته 
وقد رحبت بإثارة نفيسة للموضوع لعلّها تجد في قبول 
الأبناء عزاءء فلا أنست من الابنين المهمين معارضة 
تضاعف ألمها وصرّحت بالحقيقة فيا يشبه الاعتراف 
بالذنب» وضاعف من آلامها أثْهم باتوا لا يشبعون إلا 
في الأعياد شأن المساكين الذين كانوا يقصدونهم فيمن 
يقصدون من أهل الخير. الحدار يعقبه انحدار ولا 
تدري أين يقف. أمّا حسن فقد اطمانّ. ولم ير بأسًا 
من أن يتفلسف فقال بلهجة الوعظ : 

- قبل النبئ مرّة هديّة أهداها إليه يهوديٌ فهل 
يكون فريد أفندي شرًا من اليهود؟ ! 

فتساءل حسين في دهشة : 

من قال هذ|؟ 

التاريخ ! 

ا تاريخ ! 

فصاح به حسن: أحسبت أنّْهم يقولون لك كل 
شىء في المدرسة؟ 

فقال حسنين بحدّة: 

حدّئنا عن التاريخ الذي تعلّمه الشوارع! 

فتظاهر حسن بالغضب وقال: 


افع رت الى ف ل كسس حل اللخ 
لكسرث رأسك. 

هاسعو لقان 

- وعلى هذا كله كان الواجب يقضي بأن يهدوا إلينا 
خروفا كاملا لا نصف خحروف (ثُمٌ ملتفثًا إلى نفيسة) 
احذري أن تقبلى المهديّة إلا إذا كان فيها نصف الكبد 
ايها 00 

ع ات 

وقفا متقابلين ينتظران الثرام. هي في معطفها 
القديم الذي تود أن تستبدل به أحسن منه ولو نصف 
عمر. وهوفي البذلة التى تبدو عليه قلقة جافية. وكان 
يلوح في وجهه التردّد» والرغبة المعذّبة في الإفصاح عن 
شيء يثقل عليه الإفصاح عنه. ثم خاف أن يجيء 
الترام قبل أن يتكلم فقال في ارتباك: 

- نفيسة. . . يخجلني جدًا أن أصرح لك بأمر. . . 

فتساءلت الفتأة : 

ماذا بك؟ 

فقال همسا : 

- أصسرني أبي أن أصحبه اليوم إلى حضرة شيخ 
الشاذليّة فرفضت حيّ أثرت غضبه, . . 

وشعرث بخوف لم تدر كتهه. لعل ذكر أبيه الذي 
دجون وتو تمت بك )ا( غير عنا زه . الرففقة جين تاكاه 
دون أن تنبس.» فقال بصوته الحهامس : 

- ثار غضبه لعنادي وحرمني أجرة يومي ! 

وحلّت الدهشة محل الخوف وسألته: 

- أليس معك نقود؟ 

كلا. أي رجل ججّارء ريّنا يأخذه. , 

فقالت لنفسها «أمين» ثم تمتمت: 

- معي بعض اللقود. . . 

هل تدفعين ثمن التذكرتين أمام اللجالسين؟ 

وفطنت إلى ما يريد» فرقت لهء وفتحت حقيبتها 
وتناولت شلئًا وأعطته إيّاه فأخذه وهو يلحظ الواقفين 
بحذر ثم قال: 

شكرًا لك, سأردّه إليك في اللقاء الآتي. 


بداية وعباية ٠١4‏ 


ثم قال مستطرذًا بعد تردّد: 

- أو خذي إذا شئت به حلاوة أو جبئا. 

فتساءلت مدفوعة بغريزة احرص : 

ألا تخاف أن يلاحظ أبوك أنْني لا أدفع ثمن ما 
آخذه؟ 

فنضحك قائلا : 

- إِنّه لا يرى أبعد من موضع قدميه. . 

وجاء ترام روض الفرج قصعدا إليه وجلسا 
متجاورين. «كيف أبذّر نقودي على هذا النحو؟ الببت 
في شديد الحاجة إلى كل مليم أجني من عملي الطويل. 
أمّي لا تفتأ تبيع قطع الأثاث. حبّى أخيى حسن أحقّ 
نذا الشلن من هذا المفلس. ماذا أقعل بنفسبى؟ إني 
أبعثر نقود أخرى لابتياع البودرة والأحمر. اه نه 
ليس رجلًا. لو كان رجلا لما تعلق بأبيه هذا التعلّق 
المضسحك. ولما خخافه هذا الخوف, حرمه الرجل يوميته 
كا يحرم الطفل مصروفه. بيد أن أحبّه وأريده. إن له 
نفسًا وجسدًا. ليس لي سواه. من أين لي هذه النفس 
البتي تسيمني هذا كلّه؟!) وسمعته يهمس في أذنيها : 

من المؤسف حمًا أن أمّي عادت من بلدة أختي 
فلم يعد البيت خخاليًا. . . 

ليست بحاجة إلى من يذكرها ببذاء فهي تعلمه 
حقٌ العلم. بيد أنها سرت في أعاقها بنتحه هذا 
الباب. ودبت في جسمها يقظة فنشط خياها وتذكرت 
الظلمة الشاملة والأصوات المهامسة. تذكّرت هذا في 
حرارة مشوبة بخوف. ولم نشا أن تعلق على قوله 
فتجاهلته عن حياء: وتورّد وجهها الذي جعله الزواق 
مثيرًا للنظر. أمي عادت ٠‏ وأي لا يرضى! متى ينتهي 
هذا كلّه؟... متى تملكه بلا خوف. وبشرع الله؟! آه 
ثمّ آه لشدٌ ما يركبها الخوف أحيانًا فتودٌ الموت نفسه 
والراحة من الحياة حميعًا. وعاد صوتئه الحامس يقول: 
- ولكيٌ سأخلق الفسرص بنفسي. لا بد أن تعاد 
الفرصة. وأن يخلو البيت. . . 

فقالت بصوت بارد: 

رم ا لا داعي 007 

الله يساعك. . . أنسيث؟ , . . أنسيت حمقًا؟! لا 


٠‏ بداية وهباية 


يجوز أن ثموت في فترة الانتظار. لا أحبٌ الانتظار. . . 

أليس الانتظار خيرًا مما فعلت بنفسها؟ بلى. كلا. 
بل كلا. بى بلى. كلا كلا. بلى بلى بلى. كلا كلا 
كلًا. وتبّدت في حيرة» وعاودها شعور اليأس الذي 
ألفته ولكتبا قالت: 

لا أحبٌ الانعظار مثلك, ولكيّى لا أحبٌ هذا 
أنضا و 

فقال بمكر: 

كاذبة. تحبيله وتحبينه. هل نلسيت...؟ 
تحال. , , 

علا اذك ممتانز. 

- لن أنسى ما حييت!.. أنت غاية في الحرارة 
والحياة كأنّ حرارتك لا تزال تلفحبي. . . 

افنين اناق تون ولا شيك ! 
- مهما يكن من أمر فسنجد حت|ا طرقات خاليا 

شلا فرق افيف تأجاف اوفك سب 
الطريق خاليًا والشرطئّ أمامك! 

البركة في عينيك أنت. . 

ثم قال متتبّدًا بعد لحظة صمت: 

- متى يتاح لنا الزواج؟ ! 

فآلمها تساؤله وأغاظهاء وأخجلها في الوقت نفسه. 
ولازمها فتور ووجوم بقية الطريق . 

1ن 

اتتصف الليل ول يكد يبقى في قهرة الجمّال إلا نفر 
قليل» وكان حسن يجلس إلى مائدة خالية بعد أن 
فارقها أصحابه تاركين في جيبه ما استطاع أن يظفر به 
من قروشهم. كان يجلس كالتفكر ملقيًا على المقهى 
نظرة جامدة من عينيه المتعبتين. هذا صاحب القهرة 
وقد أخل يراجع حساب اليوم مكوّمًا الماركات في طبق 
صاج كبيرء على حين وقف النادل مستندًا إلى إحدى 
ضلف الباب واضعا إحدى يديه في جيب المريلة يعبث 
بالقروش فيتصاعد وسواسها في إغراق شَهيّ : «رحمك 
الله يا أبي» ألا تعلم بأنٍ تعبت كثيرًا بعد موتك؟ كان 
نزاعنا لا بهدأء وكنت أشعر أحيانًا بأ أمقتك. ولكن 


أين أيَامك؟ فيا عدا أيّام العيد لم أتناول لقمة في بيتنا. 
وماذا يأكلون؟ الفول غذائي الوحيد. فول. فول. 
الحمير تجد شيكًا من التنويع .» لماذا لا يبحث جادًا عن 
عمل؟ جرّب حظّه مرّتين فانتهى في كل مرّة بمعركة 
كادت تودي به إلى السجن : كلا ليست هذه الأعيال 
الشافهة بمبتغاه. ولا يزال يؤثر عليها حياة التسكع 
والمقامرة الحقيرة. الواقع أنّه يتعبّش من السرقة» إِنْه 
ورفاقه يعلمون ذلك سق العلم. إدّهم يتصيّدون 
الزبائن الأغراب ويوهموهم بأنهم يلاعبوهم على حين 
أئْهم يسرقوهم. حياة شاقة محفوفة بالمخاطر في سبيل 
فروش» كيف يستنيم إلى هذه الحياة! لم يكن لا سعيدًا 
ولا راضيّاء وكأنّه كان ينتظر معجزة تنشله من وهدثه 
إلى حلم من الأحلام . كانت حياته عادة ضارية 
كالمخدّر المهلك. اعتاد أن يعيش بلا عمل حقيقي 
حائرًا - رغم هذا مركرًا مرموقًا مرجعه الرهبة 
والخوف فلم يحتمل أن يبدأ من جديد صانعًا بسيطا أو 
عاملاً مطيعًا وم يكن يغيب عنه مدى حاجة أمّه إلى 
جدّهء ولا تزال تطنّ في أذنيه شكاتها المكروبة. تطارده 
كلا أفاق إلى نفسه. إِنَّه يحب أمّه ويحبٌ أسرته. ولكنّه 
ينتظرء وينتظرء دون أن يحرّك ساكنا. لا أزال في 
البداية. عمل حيوانّ طويل بقروش. حماقة نخير 
منها. , 

- مساء الخير يا سى -حسن . 

ورفع 0 من سحابات أفكاره فرأى 
الأستاذ عل صبري يجلس قبالته في هدوء وكبرياء فاهترٌ 
صدره فرحا وهتف به: 

ب مساء الخير يا أستاذ. 

ونادى الأستاذ النادل وطلب نارجيلة ثم التفت إلى 
حسن وقال دون تريث: 

قرّرت أن نعمل معًا!... أعنيى أن أضمّك إلى 

وانّسعت عينا حسن ولاح فيههما بريق خاطف. إن 
التخت هو العمل الوحيد الذي يحبّه, لا لميل فب 
مركب في طبعهء ولكن لأنه يسير ولذيذ وينسم جوه 
عادة بأريج الخمر والمخدّرات والنساء. ومع أنْ أمله في 


عل صبري كان دائًا محدودًا إلا أنّه كان يراه شيمًا خيرًا 
وما ولعلّه عتبة لما بعده. أجل من يدري؟! 
قال: ا 

حمّا يا أستاذ؟ 

د ندون شك 

هل نعمل في صالة أو قهوة؟ 

فتخلّل الأستاذ شعره الثائر بأصابعه الطويلة التحيلة 
وقال: 

سترسى إلى هذا يومًا قريبًا. وربما غزونا الراديو 
نفسه , ولكبّنا سنقتصر بادئ الأمر على الأفراح. . . 

وسرعان ما حمد الحماس. ولو كان علّ صبري 
شخصًا لا يعقد به رجاء ولو ضئيلا لصعقه بضربة 
الحفلات العائليّة نظير ريال والعشاء. وما كان هذا 
ليحدث إلا مرّات في العام فيا الجديد في هذا!؟! 
وشعر أن هذه الدعوة أمرًا وداعيه أمل جديدء فتظاهر 
بالسرور وقال: 

ستحتلٌ المكانة التى تليق بك يومًا بلا شك . أنت 
لك بحّة ليست لعيد الوهاب نفسه. 

فانبسطت أسارير وجههء ثم سأله: 

ماذا تختار من آلات التخت؟ . . . كلت حذثتني 
عن المرحوم والدك كعواد بارع؟ 

لم أتعلّم آلة على الإطلاق. . . 

ولا الدق؟ 

فقال حسن بقلق : 

- سبق أن جرّبتني كسئيدء أظنني ألفسع 
وسكة ال 

فهر الأستاذ رأسه قائلا : 

كما تشاء. هل تحفظ أدوارًا كثيرة؟ 

- مواويل وأدوار وطقاطيق . . . 

أحب أن أسمعك منفردا. . . 

وشعر حسن في أعباقه بسخرية. نفخة كذابة 
وامتحان لحساب أمل ضعيف! ولكنّه كان مصمُّمًا على 
مجاراته إلى النباية. كان يحلم بأن يغني لحسابه الخاص 
يوما ولو في المقاهي البلديّة. وانتظر حيّى جاء النادل 


بداية ونهاية ١١؟‏ 


بالنارجيلة واستمتع الأستاذ بالأنفاس الأولى» وتنحنح 
ثم سأل الأستاذ : 

ازا للش تنه يمري ليه كك ؟ 

ل 00 

وراح حسن ينشد الموال في صوت غير مرتفع . 
ميلا ما وسعته الاجادة. والآخخر يذهب معه برأسه 
ويجيء متظاهرا بالاستغراق. حتّى انتهى حسن. 
فقال: 
هذا فوق الكفاية بالنسبة لسئيد. أحبٌ أن أسمعك 
في الهنك أيضاء هل تحفظ «في البعد يا ما كنت 
أنوح؟2 , 

فتنحدح الشابٌ ميرّة أخرى وقد حميت حنجرته 
واشتعل حماسه واندفع يعني الدور حتّى أن عليهء فقال 
الأستاذ: 

عال. عال؛: هل تعرف أصول النغم» السيكا 
والبياي والحجاز وغيرها. 

وكان لا يداخله شك في جهل الأستاذ ببْذه 
الأصول فقال بجرأة ندر أن توجد في غيره: 

ب طبعنا, 

- أسمعني ليالىي رست . . . 

فأنشد بعض الليالي كيفما اثفق. فهرٌ عل صبري 
رأسه قائلا : 

- برافو. . . أخرى نهاوند. . . 

وانطلق يغْئى وهو يغالب سخريته القلقة في صدره 
والآخر يتابعه باهنمام ظاهري» ثم لاح في وجهه 
التفككر فجأة وبدا كأنه يريد الإفصاح عن شىء هام. 
وكان حسن ينتظر هذه اللحظة بغريزئه فتساءل متحيرًا 
ترى هل يريد أن يندبني إلى معركة؟. .. ماذا يريد 
على وجه التحقيق؟. . . وقال الأستاذ: 

صوتك حسن. بيد أن العمل في التخث يتطلب 
مهارة أخخرى. ينبغي أن نتفاهم تماما. وعلى سبيل 
المثال أقول لك إنك يهب أن تأخذ بقسط وافر من 
أساليب الدعاية. , 

الدعاية؟ ! 

نعم. كأن تنوه بفئي في المناسبات. أن تسعى 


بداية وعهاية 


لإغراء البعض يطلبي لإحياء الأفراح ولك جزاء 
طبعًا. أن تكون في حفلة يحبيها مغن ما فتعلن نقدك 
لصوته وتقول لمن حولك آه لو كان عل صبري في 
مكان هذا المغثىي. وهكذا. , . 

فابتسم حسن قائلًا: 

هذا هين. وأكثر منه. , . 

فقال عل صبري بعد فترة تفكر : 

- ثم إِنْك شابٌ قويّ وجريء وينبغي أن تستغل 
مواهبك إلى أقصى حدّ. ولكن دعني أسألك سؤالا قبل 
كل شىء: أي المخدّرات أحبٌ إليك؟ 

ما الذي يدعوه إلى هذا التحقيق؟ أيريد أن ينفيحه 
مسديّة؟! إِنّهِ يجيد قبول الحديّات» أمَا الحود مبا فهذه 
عادة لم يمارسها. أم يرمي إلى إشراكه في عمل هام؟ 
ودقٌ قلبه لهذا الخاطر. طلما حلم بتجارة المخدّرات, 
على أنه آثر الحرص والحذر فقال بمكر: 

أظنْ المخذرات تؤذى الحنجرة. . . 

نفبدان عل صبري» لم انطلق يخي من. اللياي ما 
شاء في صوت كالرعد وفي نفس طويل قوي. ثم 
تساءل : 

- ما رأيك في هُذا؟ 

- لم أسمع له مثيلا! 

فقال ساخخرًا: 

- هذا نتيجة خمسة عشر عامًا من تعاطي الحشيش 
والأفيون والمنزول» منها خمسة أعوام أدمنت فيها 
الكوكايين. . . 

- يا سلام! 

المخدّرات دم الغناء» وما من مغن يستحقٌ هذا 
الاسم إلا وقد تعاطى من المخدّرات مثلم النَهُمّ من 
الوقن والفون: المدس: 

فضحك حسن وقال بلهجة تنم عن التسليم : 

هلا لو اليشرنت:... 

- صدقت, وهذا ما حمّنته. إنك لا تكره المخدّرات 
ولكنك لا تستطيعها. وإذن فاعلم أنه من اليسر أن 
نجعل الأنهار حمورًا والحبال حشيسًا. إِنْكْ جريء قو 
ولكئّ لا أخفي عليك بأل خفت كثيرًا. . . 


فت ماذا؟ 

فضحك عل صبري ضحكة قصيرة كشفت عن 
أسئائنه الصفر وقال: 

أكرة الناس إل من يقول «أخلافي لا تسمح لي 
بكيت وكيت» أو من يقول «اتق الله» أو من يتساءل في 
خوف «والبوليس؟!». . . فهل أنت أحد هؤلاء؟ 

فقال حسن مبتسً)ا وهو يُشعره أن صيره الطويل 
يوشك أن يظفر بحسن الحمراء: 

إفي أعيش في هذه الدنيا على افتراض أنه لا يوجد 
با كلذ ولا رول تراس 

فضحك عل صيري بقوة زلزلت القهوة كغنائه 
وقال: 

- فللقض بقيّة الليل في بيتي فا زال في الحديث 
ولبث حسن متفكرًا دون أن تخونه ثقته بنفسه لحظة 
واحدة. كان قليل الثقة في محدّثه ولكنّه لم يكن يائسًا 
منه كلّ اليأس. كان يشعر في أعماقه بِأنْ ثمّة انتظارًا 
طويلا لا يزال أمامه قبل أن تثبت الأرض القلقة تحت 
قلهيه . 

5 

كانت الأمّ ونفيسة جالستين بالصالة قانعتين من 
النور بما يشم من حجرة الإخوة حين زارتهها صديقتهما 
صاحبة البيت. ورحبتا بها ترحيبًا يليق بأياديها البيضص 
على نفيسة. وجلست المرأة بينهها على الكنبة. أبت 
حبّى أن تضيئا مصباح الصالة. وجعلت هي والأمُ 
تتسليان بالحديث على حين ذهبت نفيسة إلى المطبخ 
لإعداد القهوة. وكانت الأمّ تنتظر دائمًا من وراء زيارة 
صديقتها عملا مربحًا لنفيسة. وقَّلٌ أن شيّبت لا 
رجاء. لم يكن عقلها يخلو أبدًا من هموم العيش. 
خاصة بعد أن استدار العام واقتربت العطلة المدرسيّة, 
وبات من المتوقع قريبًا أن يضاف إلى واجباتها واجب 
جديد هو تغذية ابنيها بدلا من المدرسة. كانت تشكو 
إلى صاحبتها ما عانت من حياتها في الأشهر المنقضية 
والمرأة تواسيها وتشْجّعهاء حي عادت نفيسة بالقهوة. 
وأرادت المرأة أن تعلن عبًا دعاها إلى هذه الزيارة 


فقالت وهي تبتسم ابتسامة حلوة تلم عن طيبة قلبها: 

جئتك بعروس جديدة. , 

فضحكت نفيسة ضحكة سرور وقالت: 

يمن لي أن أطلق على نفسبي خيّاطة العرائس! 

أسال الله أن تعدّي ناه عراف شيك تراه 

فتمتمت الأم قائلة : 

00 

وأمّنت نفيسة على الدعاء بقلبها. على ما أثار في 
نفسها من قاتم الذكريات. «متى يمكن أن أكون 
عروسًا؟ ليس قبل أن يموت عمم جابر سلمان. يا 
للسخرية! أمل كلفني نفسيى وجسدي. هل يدور هذا 
لأمّى في خحلد؟! إنْها تحسب أنْ هموم المعيشة أكبر 
الرزايا. يا لما من جاهلة بائسة!» وتساءلت الأم : 

- من تكون الزبونة الجديدة؟ 

- العروس الجديدة هي كرية عمٌ جبران التوني 
البقّال. . 

وتنبّهت حواسٌ نفيسة لهذا الاسم الذي لا يمكن أن 
تنساه فدق قلبها بعنف وقالت متسائلة : 

دكّانه عند تقاطع شارعي شبرا والوليد؟ 

بالضبط , 

وضحكت الأمْ قائلة : 

أصبحت جوالة يا نفيسة كشيخ الحارة. . 

فضحكت الفتاة ضحكة آليّة وقالت لنفسها «هي 
دون غيرها». هي الفقاة التي كات عم جابر سلبان 
يرغب في أن يزوجها لسلمان كما قال لما الفتى. 
فلتتزوج ولترفم عن صدرها كابوس ذكراها. وتساءلت 
الأم : 

وهل جيران التوني هذا غني؟ 

على جانب من اليسار لا بأس به. . . 

1 

فضحكت المرأة وقالت: 

إِنّه أقرب مما تتصوّرين. هو سلان ابن عم جابر 
سلان البقّال. 

مسلان! 

لدت عن نفيسة كالصرحة» فالتفتت المرأتان صوبها 


بداية وعباية “717 
في دهشة. وظلّت الضيفة أنه كبر على الفتاة أن يحظى 
بمثل هذه العروس شاب تافه كسلمان فقالت: 

- نعم سلمان. والظاهر أن عم جبران لم يمانع 
لصداقته لعمّ جابر سلمان. وربّك يعطي الأرزاق بلا 
حبانة.... 

أدركت رغم هول الصدمة أثْبا كادت تفضح نقسها 
فتماسكت في جهد شديد. لقد انفجرت الصرخة في 
صدرها بلا وعي وانطلقت من فيها دامية. ولم تعد 
تستطيع أن تتابع حديث المرأئين وشعرت بأنها تموت 
مونًا سريعًا منقضًا. وساعدتها الظلمة على إخفاء معالم 
وجهها نشِدّت عل أصابعها حيّى لا تصرخ مرة 
أخرئ. ماذا قالت المرأة! ليس ما عبا كابوسس أو 
جئونء إِنّْه حقيقة بلا ريب؛ سلان جابر سلهان» دون 
غيره. وعاودتها ذكرى محاوف قديمة كانت تنتابها من 
حين لآخر في ساعات انفرادهاء حاوف غامضة أحيانًا 
كقلق ينشب أظافره في صدرهاء أو واضحة أحيانًا 
أخرى تتبدّى في صور بشعة يقشعرٌ لها البدن. وبحالت 
في ذهولها لحظة أن ما با ليس إلا حالة مرعبة من هذه 
الحالات» ولكن لم تكن إلا لحظة واحدة ثم عاودها 
هذا الشعور الثقيل الرهيب بأنا تمورت. لقد ذاقت 
قساوة الدئيا مع أسرتها جميعًا ولكتها لم تصدّق أتْها 
قاسية إلى هذا الحدٌّ. وعضّت على شفتيها وهي لا 
تدري كيف تقاوم هذا الانحلال والتهدم. الساريين 
في روحها وجسدها. ما هي بخيبة الحبّ. هي نحيبة 
الحياة كلّهاء ولكن يجب أن تتيالك نفسهاء وعسى أن 
تدعوها الضيفة إلى الحديث لأيّة مناسبة فلا يصمٌ أن 
ترتعش ثيرات صوتهاء أو تختنق من شدَّة التأثّر. ولعله 
من الخير أن تلوذ بالفرار إلى حين. ولم تن عن تحقيق 
نيّتها فتناولت قدح القهوة ومضت إلى المطبخ . هنالك 
زفرت من الأعياق» وشدت بيديها على ضفيرتيها 
القصيرتين بشدّة وهي تحملق في سقف المطبخ الملوث 
بالمباب وقد عشّش العنكبوت باركانه» وليثت في جمود 
كالذاهلة. ول يكن أملا. ولكن خدعة» كذبة مفزعة, 
ضربة قاضية» سرقة» لطخة؛» جرخا لا يندمل» 
وَحْلاء لقد انتهت. انتهت بلا أدنى ريب. لا يمكن أن 


6 بداية ونهاية 


تتخيّل أمها هذاء أمًا حسين وحسنين فهيهات. رباه 
كيف استطاع خداعها إلى هذا الحد؟ كانا معا يوم 
الجمعة الماضى فأيّ محرم هذا وأيّ إجرام. ماذا يجدي 
الغضب أو الحقدء أو الكراهيسة؟ شعرت نحوه 
بالكراهية تقتل أي أثر للخير في النفس. ما أشدٌ 
حاجتها إلى التفكير والتدبرء. إنها تتلهف على مكان 
قصيّ خال, ينأى بها عن هذا المحيط الذي بانت تضمر 
له البغض أشدٌ البغعضص؛ مكان تستطيع أن تسأل فيه 
نفسها كيف هوت بمثئل هذه السهولة., وبمثشل هذه 
السرعة؛ وعمثل هذا الهوان. . . 

- نفيسة . . ! 

بلغ نداء أمها مسامعها فانتفضت في ذعرء ثم 
حنقت عليها حنقًا شديدًا كأنّه المقت. ولم تأت حراكًا 
فأعادت الأمْ النداء فذهبت وهي تعض على نواجذهاء 
ووجدت الضيفة متأهبة للذهاب وأمّها تودّعها علد 
الباب الخارجيّ. وقالت لها وهي تسلّم عليها: 

- تعالي إِليّ بعد غد فتنذهب معا إلى بيت 
العووسن ب 

فأوماث برأسها بدلالة الإيجاب دون أن تنبس» 
وليًا أغلق الباب قالت الأم : 

- سلان!. والله ما يستاهل هذا الحظ. . . 

فشعرت بخنجر ينغرس في شغاف قلبهاء ولم تعلق 
بكلمة. وضاق صدرها بالمكان والجو وأيقنت بأنها 
أعجز من أن تتحمُّل المكث إلى جانب أمّهاء وخطر لا 
خاطر كلسان من لهب انشقٌ عنه صدرها فمضت بقدم 
ثابتة إلى حجرتباء ثم عادت وقد ارتدث معطفها 
فسألتها أمها بدهشة: 

أذاهبة إلى الخارج؟ 

فقالت وهي تتوجه صوب الباب : 

- نعم سأشتري شيئًا للعشاء وربما ذهبت إلى شقّة 
فريد أفندي ساعة... . 

ات 

ومالت نحو فناء البيت وأنفاسها تتردّد في ثقل 
وصعوبة. كانت السهاء صافية مرصعة بالنجوم. والجو 
باردًا بعض الشيء تتخلله نسمات لطيفة من طلائع 


الربيع. وسارت إلى الباب الخارجي ثم عرجت غير 
هيّابة إلى دكان عم جابر. كان الرجل العجوز عاكفا 
على مراجعة الحساب الختاميّ لليوم. على حين وقف 
سلمان مرتفقًا الطاولة ناظرًا فيا بين يديه في شرود. 
واقتربت منه وهي تلقي عليه نظرة حاذة ملتهبة فرفع 
إليها عينيه الصغيرتين ولم تلبث أن لاحت فيهما نظرة 
جفول وارتباك ثم قال ببلاهة: 

أيّ خدمة يا ست نفيسة؟ 

فقالت بعرم وثبات : 

الحق بي في الخال. . . 

فأومأ لها بالإيجاب وهو يتظاهر بأنّه يقدّم لها شيئًا 
من الدكان. ومضت إلى الشارع ووقفت تنتظر عند 
رأس عطفة نصرالله وهي تتفخص ما حوها بعناية 
وحذر. وطابت نفسها بما فعلت. فيا كان في وسعها أن 
تصبر دون حراك حيّى مطلم الصباح. وجعلت تنظر 
داخل العطفة حيّى رأته قادما بجلبابه وجاكتته مسرعًا 
في خطاه الملهوجة. حقير تافه» شىء تعافه النفس» 
تخادع مخاتل كذّاب. ما أحقر هُذَا] ماذا هي فاعلة به؟ 
أترتمي على قدميه باكية مستعطفة؟ هل تضرع إليه أن 
يظلُ لها وحدها؟ بدا أن هذا كلّه ثشيء فظيع مستنكر 
وعل هذا فقد وشى بمشاعر عميقة صادقة لا ندري 
كيف تفصح عن نفسهاء فقبل ساعة واحدة كانت 
تعذّه رَجلها وتعدّ نفسها امرأتهء والهلاك أهون من أن 
تنفصم هذه العروة بين يديها. كانت شيئًا وليست الآن 
شيئًا على الإطلاق. عدم ميف ويأس قاتل. واقترب 
منها في. حذر وغمغم دون أن يلتفت إليها: 


د خخير؟ 
وأثار صوته حنقها ولكبا كظمت نفسها وقالت 
وهي لسار: 


- اتبعني إلى شارع الألفي . 

ومضت إلى الشارع الجحانبيّ بعيدًا عن الأعين 
المستطلعة. ثم أبطات الخطو حيّى لحق بباء وبادرته 
قائلة وقد نفد صيرها: 

د لين عندك ما ترى إخباري به؟ 

فتساءل متجاهلا في قلق وخوف: 


عا تسألين؟ 

فغحاظها لدرجة الحلون وقالت بحذة مخيفة : 

ألا تدري حمًا عن أسال؟!. هات ما عندك 
وكفاك خخحداعا! 

فتنهد في تسليم وغمغم في خوف: 

- تقصدين مسألة الزواج. . . 

فقالت في سخرية مريرة: 

أظنّ هذا. ألا ثراها مسالة تستحقٌ السؤال؟! 

فقال بصوت شاك : 

أبب؟ 

فصاحت بحدّة وجسمها ينتفض غصبًا وهياجا: 

- أبي» أبي» أرجل أنت أم امرأة؟! 

فقال بذل وخنوع وتسليم : 

رجل ولكن كعدمه! 

- يعبى امرأة! 

سامحك الله . لا أسمع إلا خهرًا وتقريعًا سواء منك 
أو منه. ماذا أصئع؟ 

ورمته بنظرة حامية وصدرها يستعر حنقًا وغيظًا. 
امرأة» جبان. حقيرء كيف أحبته» كيف هانت عليها 
نفسها فسلّمت له! إن سع+يها إليه؛ وتعلقها اليائس 
به وحرصها الذليل على استرجاعه. هي شر ما 
تسيمها الدنيا من بؤس وعذاب. وصاحت به: 

يا لك من شاك باك حقير. كيف سوّلت لك 
نفسك الغدر بعد ما كان. كيف أخفيت عنى الأمر؟ 
أجب. .. 
فلفخ قائلا : 

مغى أبي إلى هدفه على رغمي , غير مقيم لرأبي 
وزنًا حبّى وجدت نفسي بين أمرين لا ثالث لم|: فإمًا 
البزول عند إرادته. وَإما الموت جوعا. 

- لماذا لا تبحث عن عمل في غير دكان أبيك؟ 

فتمتم في نبرات يائسة : 

لا أستطيع» لا أستطيع. . . 

فاحتدم الغيظ في صدرها وقالت: 

يا لك من جبان حقير. ألا تعرف ماذا يعنى هذا 
بالنسبة إِلي؟ ! 


بداية ونباية 516 


فقال بلهجة تقطر أسمًا وحرْنًا: 

أعرف واأسقاه. الله وحذه يعلم بحإني 
اسان 

فألقت عليه نظرة حامية وقد أثارتها لهجته الأسيفة 
لحد الكراهية القاتلة وقالت بصوت مرتعش : 

حزين وآسفء يا لك من مسكين! وماذا تظنني 
صانعة بحزنك وأسفك؟! إن الحزن وحده لا يصلح 
الخطأء فاذا تظئّني صائعة بحزنك؟ لقد أوقعتني في 
ورطة قاتلة فلا يجوز أن تدعني وحدي وتبرب: آلا 
تفهم هذا؟ 

وبدا وكأنّ الحيرة تمسك بلسانهء ونظر صوبها في 
خوف دون أن محر جوابًا. وأثارها صمته كما أثارها 
تظاهره ‏ كانت متأكدة من هذا بالأسف. فقالت 
بحذّة ' 

ما عسبى أن أصنم؟ ! 

فازدرد ريقه وقال بصوت متقطع منخفض: 

- واأسفاه. . . إن أدرك حرج موقفك. . . لشدّ ما 
أصنع أنا؟ ! 

فقالت بحقد وهي تكعظم عواطفها الثائرة : 

- ارفض هذا الزواج. لا نجاة لي إلا بهذا. .. 
أرفضه؟! ... فات الوقت. . 

- يجب أن ترفضه. الم يفت الوقت بعد. يجب أن 
تفكر فّ... لا نجاة لى إلا بأن ترفضه. . . 

وقال بلهجة اليائس وهو يشعر بخوف: 
00-089 

وتولاها القنوطء ولم يوح لها الشخص الخائر المائل 
أمامها بأقل رجاء. وصاحت بانفعال: 

كان في وسعك أن تفعل ما فعلت. وكان بوسعك 
أن تقبل الرواج من هذه الفتاة. ولكن ليس بوسعك 
أن تصلح الخطاء ليس بوسعك أن تمد يذا 
لونقاذي . . . 

ما أشدٌ ضيقي ! إِنْ أسفي لا حدّ له. . . 

ماذا يفيدني هذا الأسف؟ 


وليّا وجدته صامثًا صرخت في وجهه : 


5 بداية ونهاية 

- ما يفيدني أسفك؟ 

فغمقم : 

ماذا عسبى أن أصنع؟ 

وركبها شيطان الغضب واليأاس فالتفتت تحوى 
وانقضت عليه بسرعة البرق وأمسكت بتلابيبه وهي لا 
تدري ماذا تفعلء وصاحث في وجهه: 

- أتسألني عمًا تصنع! هل حسبتني لعبة تلهو بها 
حين تشاء وتحطمها حين تشاء؟ | 

فقال وهو يحاول عبمًا أن يخلص سترته من يديها: 

- نفيسة» اعقلي» نحن في شارع. . . 

فصاحت به وقد فقدت وعيها: 

جبان» سافل» وغد؛ غادر. . . 

وسحبت يدها سرعة وهوت بقبضتها على وجهه 
بقسوة جنونيّة» مرّة» وأخرى. حي رأت الدم يسيل 
من أنفه» وجعلت تلهث وصدرها يضطرب في عنف 
وعدم انتظام» وتحسّس سلان أنفه بيده وبسطها أمام 
ناظريه في صمتء» ثم أخرج منديله من جيبه ووضعه 
على فمه وأنفه. وبدا هادثًا ساكنًا على غير ما كانت 
تننظر. شعر بادئ الأمر بخوف, ثم حل محل المخوف 
ارتياح غريبء: كأنّه جاز منطقة الخطرء ولم يعد ثمَة ما 
تخافه. انفرجت الأزمة» وزال الخطر. وسقّط ما كان 
لها من شبه حقٌ عليه بعد هذا الدم المسفوحء وقال في 
هذوء وصير: 

- سامحك الله يا نفيسةء» أنا عاذرك . 

وهيجها حديئه فجأة فعاودها الجنون» وانقضت 
عليه مرة أخرى بدافع غريري» ثم أمسكت بتلابيبه 
كثىء يريد الإفلات وتأى عليه بكلّ قواها ‏ أن 
يفلت. وركبه اللعر فائحلٌ تماسكهء ونتش سترته 
فجأة فخلّصها من يدها وتراجع صارخًا : 

ياك وأن تلمسينئ , ابعدي عي , ابعدي لض 

وهجمت عليه ولكنه دفعها في صدرها وصاح بها في 
هياج أحليه الذعر: 

- لا تلمسيني. لم أجبرك على شىء. لقد ذهبت 
معي إلى البيت راضية. لا تلمسيني وإلَّا نساديت 


القرطك! 

وواصل تراجعه حتّى ابتعد عنها مسافة غير قصيرة 
ثمّ دار على عقبيه ومضى مهرولًا كأنّه يفرّ فرارًا. . . 

وتسمّرت في مكاها وجسمها ينتفض انتفاضًا. 
فقدت سلطان الإرادة على جسدها وروحها وعواطفها. 
وبدا لها الأمر كحلم, أو هذيان مَرَضء أو حال لا تت 
بصلة إلى عالم الحقيقة. هذا شارع وهذه شجرة وهذا 
مصباح وهؤلاء بعض السابلة» أشياء هذه آم أشباح؟! 
إنها لا تدري. بدا كل شيء بعيدًا عن الواقم 
والحقيقة. ولعلّها لم تثب إلى وعيها إلا' حين انفجرت 
باكية بدموع حازرّة ملتهبة صاعدة من أعماق 
صدرها, . 

75 س 

كان سلان يبمسح الطاولة حين رأى ظل شخص 
ينعكس عليها فرفعم رأسه فرأى حسن واقمًا حياله. 
وسرت في جسده قشعريرة رعب فكأن صاعقة انقضت 
على رأسه. وكان حسن يقف بقامته الطويلة» منفوش 
الشعر» وقد حال لون بدلته من كثرة الاستعيال» 
ينبعث من عينيه نور حادٌ ينم عن العنف والجحرأة. 
وقال سلان لنفسه «إني هالك. إذا كانت نفيسة قد 
أفضت إليه بسرّها فساعتي فد دنت ولا شك» ونظر 
إليه كما ينظر الفأر إلى القط دون أن ينبس. وقال 
حسن بصوت مرتفع رن في أذنيه رنيئًا مؤلمًا ميمًا : 

ء الفلام صليكو: .د 

ورد عم جابر سلمان من وراء مكتبه قائلا: 

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. كيف حالك 

وذهل سلبان في خوف عن رد التحيّة وقال لنفسه 
دما هذه بتحيّة» هي نذير. ربّاه كيف تعرّضت لفتاة 
لها مثل هذا الأم؟!» 

وقال -حسن : 

الحمد لله لقد جتتكم لأحدّثكم في أمر هام 
عد الو 

نه يعلم ببذا الأمر. عا قليل يعلم أبوه بالفضيحة 
ها هو الشيطان يقترب. لقد رفع طرف الطاولة ومرق 


إلى الدكان, لا يفصله عن قبضة يده شير. أيه حماقة 
جعلته يعتدى على نفيسة؟! ليته يمهله حتى يرفضص 
الزواج ويصلح خخطأه. ومال حسن على المكتب معتمذا 
حافته بكلتا يديه, وردّد بصره بين الأب والابن» 
وسلمان مُظرق في توقع مروع للضربة المجتمعة. وقال 
حسن : 

- علمت أنْ زواج سلمان قريب؟ 

فقال عم جابر: 

إن شاء الله 

- وليلة الفرم؟ 

قريبًا جدًا إن شاء الله . 


. العقبى لك. . 


فنقر حسن بأصبعه على المكتب وقال بجرأة: 

نحن جيران يا عم جابر واحسبني نخير من يجبي 
هذه الليلة! 

وانّسعت عينا سلمان الصغيرتين. إن لا يصدق 
أذنيه. .. أهذا الغرض جاء؟١‏ كيف غاب عنه أن 
نفيسة تفضّل الموت نفسه على البوح بسرها لهذا الأخ 
الجبار!ا وندّت عنه ضحكة. وأردفها بأخرى. ثم 
الجر قاد قد ةاعم 1 بج نكيت انس يدر 
التفت حسن وأبوه نحوه في دهشة وإنكارء وسرعان ما 
أمسك , ثم خاطب حسن قائلا في أريحيّة وسرور: 

لا كانت الليلة إن لم تحيها أنت. . 

وابتسم حسن في رضا وخاف الأب عواقب هذا 
الوعد الأحمق فقال: 

- على العين والرأس يا 0 . لا يمكن أن 
يوجد مانع من ناحيتناء ولكئنى أخشى أن يكون لوالد 
العروس رأي آخر. . , 

فرمقه حسن بريبة ثم قال : 

ف الرافة رأي والد العريس 

فقال عم جابر برقة : 

- أنت من نفضّل يا مي حسن, ولكن أمهلني حي 
أشاور عم جبران التوني. . 

فتفكر حسن مليًا وقل أخل دم الغيظ مجرىي في 
عروقه ثم قال بلهجة ذات معنى : 

- شكرًا لك يا عم جابر. ولكبّى أحبٌ أن أذكرك 


بداية وعهاية 117 ؟ 


بالفوائد التي تقترن بإحيائي ليلة الفرح. وأهمٌ هذه 
الفوائد في نظري ا ة والشر 
لن تحدّثه نفسه بالاعتداء على الحفلة كما يحدث كثيرا. 

فلاح الاهتيام في وجه الرجل العجوزء وأدرك 
بسهولة ما وراء هذا الكلام الطيّب من الوعيد» ونظر 
في وجه الشابٌ المخيف مبتسًا وتساءل في لين ورقة 
وابنه يتابعه فاغرا فاه: 

- لا تخلو ليلة من حفلة فرح تمر يأمن وسلام . 

فضحك حسن ضحكة غريبة وقال: 

- يوجد كثيرون لا همٌ لهم إلا الشرٌ والاعتداع. 
وهم يتصيّدون الأفراءحم عادة للعبب والاعتداء . . 

فقال العجوز بحذر: 

كان هذا في الزمن الغابرء أمَا 
يخافون الشرطة . 

فقال حسن وهو ببز رأسه مبتسما : 

- إنهم لا يحسبون للشرطة حسابا. ويلتهون من 
عدوانهم عادة قبل حضور الشرطة. وما أيسر عملهم 
الذي يتوجه بادئ الآمر إ إلى نخطيم المصابيح » فإذا 
انقلب الفرح ظلامًا وركب الخوف النفوس أ 
المدعوون عملهم وهم يتخبطون في الظلام لا يدروث 
أين تقع أرجلهم. فتهار الزينات وتنقلب المقاعد 
ويندلق الطعام وتسرق الملابس ويصاب أهل 
العروسين بجروح خطيرة. وإذا انجابت موجة الشرٌ 
يجد القوم أنفسهم أشد حاجة إلى رجال الإسعاف منهم 
إلى رجال الشرطة. وأين الفاعل؟... مجهول.. 
وإذا أرشد إليه أحد عرّض نفسه لخطر أكبير يحرل 
القضيّة من محكمة الجنح إلى محكمة الحنايات. وأعطي 
عقلك ما جدوى العقاب على فرض نزوله بالجاني بعد 
ضياع الأنفس والأموال؟ ! 

وأنصت عم جابر بانتباه» وفي تشاؤم ثقيل» وشعر 
بعجزه حيال الشْرّ الماثل أمامه الذي يعرف من سيرته 
ما يعرف الجميع. ول يدر كيف يدفعه فتعزّى قائلا إِنّه 
على أيّةَ حال يحسن الغناء لدرجة لا بأس بها» وابتسم 
الرجل ابتسامة باهتة وقال: 

مهما يكن من أمر هؤلاء الأشرار فلن تسول لحم 


الأن فلعلهم 


4 بداية ونباية 

فابتسم حسن قُْ ارتياح وقال: 

- إنْك رجل كريم يا عم جابرء ولعل الأيْام 
تسعدني بإحياء فرحك أنت إذا نويت الزواج مرة 
أخرى . 

فضحك سلاإن ضحكة من ينعم بلذّة النجاة بعد 
الخطر المحقق. أمًا الأب فابتسم ابتسامة صفراء 
وغمغم: 

عفا الله عنك . . , 

وسعل جسن سعالة مصطنعا وقال بلهجة جديلة 
ودول تلعثم : 

لا أحبٌ أن أطيل عليك. آنْ لي أن أذهب شاكرًا 

فقال العجوز بجزع : 

ب الآن؟! 

خخير اليرّ عاجله. لست إلا مغئيًا متواضعًا لا 
تتعذى أتعاره 0 هو وتحته الخمسة جنيهات. وأقنم 
الآن بجنيه واحدل. . . 

وصمت الرجل متحيرًا حيئا. ثم قال لنفسه «الأمر 
لله من قبل ومن بعد وفتح درج المكتب وتناول جنيها 
ووضعه على المكتب فأخذه حسن وذهب وهو ايقول: 

عزكايت ارين 

- ”6 

جاء الترام فركبت نفيسة وتبعتها على الأثر صاحبة 
الببت. أرادت المرأة أن تصحبها إلى بيت عم جابر 
التوني لتقدّمها إلى آله بنفسها وقد أخمذت نفيسة زيتتها 
وارتدت أحسن ما عندها من الثياب , وم يكن يغيب 
عن شعورها لحظة واحدة ما في رحلتها من غرابة. وقد 
قالت لنفسها كثيرًا إِنّه من الجنون أن تذهب إلى هذا 
البيت ولكتها لم تدر كيف تنبذ هذه الفرصة السعيدة 
التي فرحت بها أمها يما فرح. والحقٌ الذي لا مريّة فيه 
أن حديثها لنفسها هذا لم يعبّر عن حقيقة رغباتهاء أو 
أنه دارى هذه الرغبات مداراة لم تخف عنبها. كانت تودٌ 
رؤية العروس مهما كلفها هذا من عناء» وكانت رغبتها 


من القوة والتغلغل بحيث لا يمكن مقاومتها. وليس 
يمكن القول بأئّها كانت تريد أن تقيس جمالها بجمالهاء 
فهي تعلم بالبداهة أنْها ‏ العروس - أجمل منهاء وليس 
في هذا من جديدء ولكن على رغم وضوح هذه 
الحقيقة ظلّت رغبتها في رؤية الفتاة مشتعلة لا تقاوم. 
وكأنْ رباطا وثيقا يصل أسبابها بأسبابهاء ويقرن 
مصيرها بمصيرها. وم تكن أفاقت من أثر الصدمة 
العنيفة التي هرست نفسها وجسدها هرسّاء ولكنّ 
انقضاء أُيّام أحمد الثورة الحائجة» في ظاهرها على 
الأقلّء وأحلٌ محلها مرارة سامّة ويأسًا مميتاء وشعورًا 
معذّبًا بالوحشةء كأئها غريبة بين أهلهاء شلأة عن 
المخلوقات؛ إلى إحساس بالظلم طاغ بعث في نفسها 
رغبتين متناقضتين تناوبتاها تناوبًا متواصلاء رغبة في 
التمرّد والجموح ورغبة في الاستزادة من الظلم 
والتعذزيب حتى الموت. وقد ركبت الترام وهي على 
هذه الحال. وتلهّفت على اللقاء القريب وهاتان 
الرغبتان المتناقضتان تتعاوراهها. وغادرتا الترام بعد 
محطات أربع واتبهتا إلى شارع الوليد. ثم مالتا إلى 
عمارة كبيرة تقوم في أسفلها بقالة عمٌّ جبران التوني. 
وصعدتا إلى الدور الثاني ودخلتا شمّة به. واستقبلتهما 
سيّدة في الخمسين متوسطة القامة مفرطة في السمنة» 
فعا اشرو "بورك د عر ادر الايكقباله ونان 
استقرٌ بهم المجلس حيّى قالت الست زينب صاحبة 
بيبا بمهيسة . 

- هذه ست نفيسة» وستشهدين لما بالمهارة 
والذوق . 

فقالت السيّدة : 

د بخدلغا ميث زينتب غنف كدراي أهلا وسهاف .. 

وآللها الثناء كأئه سب وهجاء. وأغاظها وأحئقها 
لسبب لا تدريهء وتزعزعت ثقتها في أعصابها أن يفلت 
زمامها من يدها. أما السيّدة فيالت نحو باب اللحجرة 
ونادت بصوت مرتفع «عديلة» ودقٌ قلب نفيسة, 
ورجحت أنها تنادي العروس وخيّل إليها أنْها تسمع 
سان وهو يبتف مِبذا الاسمء وخالته يضمّها إلى 
صدره وقد أذهلته حرارة العاطفة وراح يقول ها بصوته 


المتهدج «عديلة. . . أحبّك. أحبّك أكثر من الدنيا 
والآخرة معاو. فهذا قوله عادة إذا أذهلته حرارة 
الإحساس. وهو قول كاذب أو هكذا كان بالنسية 
إليهاء والغالب أن الدنيا كذبة كبيرة. وتوبّه رأسها 
نحو الباب. متألّة قانطة حانقة» وعندما سمعت وقع 
أقدام آتية داخلها إحساس آخر بالخوف فودّت لو كان 
بوسعها أن تختفي, ولعلّه كان إحساسًا عارضًا 
سطحيًا. وجاءت فتاة في مقتبل العمرء متوسّطة القامة 
كأمها بيضاء البشرة» بيضاويّة الوجه. كبيرة القسهات 
ولكن في تناسق حسنء» بيد أُنّبا سمينة الحدّ الإفراط . 
وتساءلت نفيسة في نفسها كيف تصير إذن إذا تزوجت! 
واضطربت في أعاقها ضحكة ساخرة متوثّرة» لم يتح 
نها التنفس. وذهب عنها الشوف العارض وشعرت 
باضطراب عصبي بذلت جهدًا شديدًا للتغلّب عليه. 
وتم التعارف وتبادل السلام دون أن تنبس خشية أن 
تخونها نبرات صوتها. ولدغتها الغيرة بغتة فمزّقت قلبها 
شر تمزق. هذه التي سلبتها رَجُلهاء رجلها دون غيرها 
بعد ما كان. فلا توجد أمرأة لما مثل ما لها عليه من 
حقوق2 فكيف تكون هذه الخاموسة عروسة وتكون 
هي الخيّاطة التى نعدّ لها ثياب العروس؟! من أجل 
هذا تستحق الدئيا أن تكون طعمة للنيران» ولن تكون 
أحمى من النيران التي تلتهم قلبها. رباه كيف تستطيع 
العمل مبذه الأعصاب المريضة؟! وغادرت المراتان 
الحجرة تاركتين الفتاتين معا. وجاءت خادم بالأقمشة 
ووضعتها إلى جانب نفيسة على الكنبة فوجدت فيها 
مهربًا من أفكارها وراحت تتفخصها باهتيام ظاهري 
وعيناها المنكستان تسترقان النظر إلى قدّمي العروس. 
وسألتها العروس قائلة : 

- هل سبق أن خطت ثياب عرائس؟ 

ورفعت إليها عينيها فيها يشبه الدهشة كأنها لم تكن 
تتوقع أن توجّه إليها نخطابًا وقالت باستهائة : 

د كقين عد ار 

- أَظَنّ هذا يجعل العمل يسيرًا عليك. 

لا أجد فيه أثرًا لصعوبة. . . 

كانت إجابتها تعبيرًا عن إحساس بالتمرد والثورة 


بداية ونباية "١9‏ 

يتجمع في أعماقها لم تعبا معه بالحقيقة والواقع. 
وصمتت العروس هنيهة ثُمّ عادت تسأها قائلة : 

- هل تسكنين في عمارة ست زينب؟ 

فقالت مدفوعة بالإاحساس نفسه: 

- نعم. منذ أعوام طويلة. كان المرحوم أبي موظفًا 
بوزارة المعارف. . 

- أخيرتنا مبذا سبّ زينب. ألا تعرفين أنّ بقّالة 
العريس قريبة من عمارتكم؟ 

ووجدت شكة دامية في قلبهاء وخفضت عينيها أن 
ترى الأخرى ما ارتسم فيههاء ثم تمتمث: 

- تعنين عم جابر سلمان؟ 

- هو نفسه. العريس ابنه. ألا تعرفوته؟ 

«أعرفه أكثر منك!.. لن تعرفيه مثلي قبل 


. وستجليئه حيوانا وغذا». قالت ؛ 


ط 


أشهرا . 

نعرفه حقّ المعرفة. ألم ثريه؟ 

قابلته هنا مرة واحلة. . 

وسألتها بدافع لم تستطع مغالبته : 

هل أعجبك؟ 

فضحكت ضحكة كرهتها على أثر ساعها أضعافاء 
وقالت: 

كانت الحجرة مزدحمة بالمدعوين». وأنت تعرفين 
هذا الموقف طبعًا! 

فقالت بلهجة باردة : 

اينيك أعرفة: 

نضحكت العروس قائلة: 

- دعيني أسالك أنت الي تعرفينه حق المعرفة. ما 
رأيك فيه؟ 

ودهمها السؤال. لم تكن تتوقعه. واحهارت القوّة التي 
تغالب بها أعصابها. امهارت بغتة كأنما انفجرت فيها 
قلبلة خفيّة. واجتاحتها موجة طاغية من التمرّد 
والجموح والجلونء فقالت بصوت غريب: 

- ليس هو من النوع الذي يعجبني. , . 

وغاضت آثار الضحكة في عيثي العروس» وانّسعت 
عيناها في دهشة وإنكارء وجعلت تنظر إلى نفيسة -حظة 
ساهمة واحمة كأتها لا تصكق أذنيها. ثم تساءلت 


بداية وبهاية 
بغرابة : 

حمًا؟! ترى ما النوع الذي يعجبك؟ 

فقالت ببرود دون أن تفارقها هذه الروح الجنونية : 

دعك من هذا. . . المهمٌ أن يعجبك أنت؛ اليس 
كذلك؟ 

فقالت ولمًا تفقٌ من دهشتها: 

أظنٌ هذا. . . 

افون لل لا ب 

ولكنّ الفتاة لم تقبل أن ينتهي الحديث عند هذا 
الحد. أفاقت من دهشتها وكر عليها قول الأخرى فثار 
بها الغيظ وقالت متسائلة في تبكم : 

- وزبوناتك الأخريات من العرائس ألم يكن 
أزواجهنْ من النوع الذي يعجبك؟ 

وأدركت نفيسة ما في قولها من التهكم والتحدّي 
فتهادت بها روح الشرٌ التي ركبتها واندفعت قائلة وكائها 
تلقي عبئًا ثقيلا عن كاهلها: 

- جميعهم جديرون بالإعجاب حفًاء فهم موظفون 
مخترمون | 

فاستنكرت العروس هذه الوقاحة التي لم تكن 
تتوقعها وتساءلت بغضب: 

ألا يكون الإنسان محترمًا إلا إذا كان موظّلفًا؟ 

فقالت نفيسة بصوت مرتعش الديرات أعياها 
التحكم فيه ' 

أعتقد هذا. . . 

فصرخت العروس قائلة : 

- وإذا كان خيّاطة؟ 

فقالت نفيسة بحقد وغضب: 

لا عل أن أكون خبيّاطة. إخوي طلبة مثقفون, 
وكان أبي موطظّفًا محترمًا. . . 

حقًا لا يستاهل الرحمة كلّ المساكين ما دام يوجد 
بينهم من هو في قلّة أديك! 

- لا يدهشني هذا السباب من ابنة بقّال. . . 

فهبت العسروس واقفة وهي تنتفض غضبا 
وصاحث : 

يا مجرمة. يا قليلة الأدب؛ اغربي عن وجهي قبل 


أن أدعو الخدم ليرموك خارجًا. . . 

ونبضت نفيسة فاقدة الوعي». وتناولت بقجة 
الأقمشة وقذفتها في وجهها فانتثرت الحرائر على كتفي 
العروس وتحت قدميهاء وتلووت على الأرض فى ألوامما 
الزاهية» ثم غادرت الحجرة مهرولة وصراح الفتاة 
ينطلق وراءها بأقذع أنواع السباب» وتركت الشقّة في 
لهوجة الفرار. وتراخت أعصابها المتوثّرة وداخملها ارتياح 
غريب. وكاد يغلبها الضمحك ولكن هذا لم يدم طويلا 
فسرعان ما انقلبت واحجمة متفكرة وبدا لها سلوكها على 
حقيقته. «ما هذا الذي فعلت؟ سيقولون كل شيء 
لست زينب وستقول هذه بدورها كل شيء لأمي. لا 
بذ أن تغضب أمّي وستحزن كثيرًا على الربح الذي 
أضعت بحمقتي . ولكئنيى أقول لا إِنَّ العروس نخاطبتني 
بعجرفة» وأهانتني بلا سبب حّى ثرت لكرامتي. وإذا 
م تقبل عذري أبث شكواي بصوت مرتفع ليبلغ 
وينتهي كلّ شىء. هذا حسن. ولكن كيف اندفعت 
إلى هذا! أيّ جنون! لم يكن في نيت شيء من هذا 
فكيف حدث؟ وضاع عمل مربح. ولكن لا داعي 
للأسف. لدي عمل لا بأس به في هذا الشارع نفسه. 
لست أسفة على ما وقع» . وانتهت إلى شارع شيرا وم 
عرو من نان دحوي إلا ار كليس 1 قزل 
الدور. وسارت على الطوار في اتجاه المحظة فمرّت في 
طريقها بجراج لإصلاح السيارات؛ وكانت غائبة عا 
حوها في تيّار أفكارهاء فما تدري إلا وشخص يعترض 
سبيلها وهو يقول دأهلا وسهلا؛ ورفعت رأسها فرأت 
شابًا ذا بنطلون وقميص حاكيّين» مشمّرًا عن 
ساعديه, يدل مظهره على أنه من عرّال الجراج» فألقت 
عليه نظرة شذراء وتنححت عن موقفه. ولكنّه اعترض 
سبيلها مرّة أخرى وقال: 

- حلمك يا ست هانم» انظري إلى يسارك» هذه 
السيّارة ملك العبد لله. وهي على قدمها تستطيع أن 
تحملدا إلى أئّ مكان شئتء, محسوبك محمد الفل 
صاحب هذا الجراج ولا فخرا 

فصاحت به: 


ابعد وإلا ناديت العسكرئ. . . 

فضحك الشاتث وقال: 

لا داعي لذلك. أنا أحبٌ النسوان ولا أحبٌ 
العساكر. . . 

- 55 

في الأسابيع التالية أذى الشقيقان امتحان النقل في 
حتام العام الدراسي. كلل اجتهادهما بالنجاح فانتقل 
حسين إلى السنة الخامسة. وحسنين إلى السئة الرابعة . 
كانا يعلمان أنّه لا بد هما من النجاح» وأنّ حال الأسرة 
لم يعد يحتمل العثرات, فواصلا العمل بعريمة صادقة 
وجاءت النتيجة كما يحبّان. وبدأت العطلة الصيفية 
التي تمتك حوالى الخمسة الأشهر فاستجدّت متاعب 
جديدة للم تتعلق بغذاء الشابّين. وكانت الأمّ وابنتها 
تقنعان عادة بأبسط الطعام» وتعتمدان في الغالب على 
ما تجلبان من السوق من طعام جاهز اقتصادًا لنفقات 
اللحم والسمن والوقود» فوجدت المرأة نفسها مضطرة 
إلى تعديل هذا النظام القاسى مها كلفها الأمر من عناء 
وتدبير. وهكذا لم يُسَرٌ أحد بالنجاح إلا قليلا» وبدت 
الحياة وكاجها تزداد مع الأيام نمه وتطالعهم بعبوس 
بعد عبوس. و ذات مساء جاء حسن بعد انقطاع 
دام ثلاثة أسابيم متواصلة» وأقبل على أسرته ضاحكاء 
كعادته. وكثيرًا ما يداري بضحكته حرجه وارتباكه. 
وقال: 

- مساء الخير يا أمّى» مساء الخير يا أولاد. 
أوحشتموني كثيرًا. . . 

ورد [خحوته التحيّة وهم يرمقونه بدهشةء أما أمه 
فلبثت تنظر فيما بين يديها معللة على سخطها بالصمت 
والتجاهل. بيد أنها عدلت عمًا كانت تلقاه به من 
التعنيف والحساب أو الح على العمل. هيهات أن 
يجدي الكلام بعد ما كان. وألحّ عليها الحزن الذي 
يغثى نفسها كلما فكرت في أمره أو وقعت عليه 
عيئاها. حبّى السؤال عن غيابه الطويل لم يخطر لها على 
بال وإمّها لتعلم سلفا بما أعنّ - طبعًا ‏ من جواب», 
سيقول بصوت مؤثر إِنْه يختفي حيّى يوفر عليها نفقة 
إطعامه وإيوائه» وإنه لا يني عن البحث عن عمل 


بداية ونباية ١؟7؟‏ 
أل . أما إخوته فالحقٌ أثْهم سُروا برؤيته بعد اخحتفائه 
الطويل. كانوا يحبونه كا كان يحبّهمء وسألته نفيسة: 

حمدًا لله على السلامة. أين كنت طوال هذه 
الأسابيع؟ 

وخلع الشابٌ سترته وطرحها على المكتب» ثم 
جلس على الفراش وقال باسمًا: 

- أكل العيش يحبٌ التعب! (ثمّ ملتفتا إلى أمّه). , 
أبشري يا ست أُمّ حسن. أخحرث تفرج ! 

فرفعت الأمْ رأسها ونظرت صوبه بريبة واهتام 
معاء ثم تمتمت في شبيء من الأمل : 


ححهًا؟ ! 

فضحك سرورا بإثارته لاهتامها بعد ما لاقى من 
تجاهلها وقال: 

سبق أن أسيرتكم بأنَ الأستاذ علي صبري ضمَني 
إل تخته. , . 


فتبّدت الأمْ في جرع وقالت: 

- لا أعتقد أنْ هذا عمل جِذَّي, , . 

لقد دعي الأستاذ منذ أسبوع إلى إحياء ليلة فرح 
ببولاق وذهيبت جعرك لقاء ريال غير العشاء طبعا. إن 
أعلم أنه مبلغ تافه ولكنّ الرزق دأبه التمّع بادئ 
الأمر. . . 

فقالت الأم في ضيق : 

- أتوسّل إليك للمرّة الألف أن تبحث لك عن 
عمل جدَّيْ لخير نفسك إن لم يكن لخيرنا نحن. ما 
عقى أن ونيا عبسو الذ عل ]نا له كاه اريم 
أبذ!؟ 
الشريفة الوحيدة التي يخفق بها قلبه. ولعلّها الأثر 
الوحيد الذي تركته أمّه في خلقه. وغمغم قائلا: 

نافدرك لم أفرغ من كلامى بعد, . . 

وهنا قاطعه حسنين قائلا : 

- أنظنّ أنْ عل صبري هذا يمكن أن يكون يوما 
0 

فرفم حسن سحاجبيه الكثيفين قُْ إنكار. وأراد أن 
يزيل أثر حديث أمّه في مرح: 


7 بداية ونهاية 


سفخص على هذا البلد الذي لا يقدّر! الأستاذ 
علّ صيري فئان كبير. إِنْ ديا ليل» منه شفاء ودواء. 
هل سمعته وهو ينتقل من البياتي إلى الحجاز ثم يعود 
إلى البياتي؟ لم يفعل هذا إِلَا الحمولي» وسلامة 
حجازي مرّة أو مرّتين. أما محمد عبد الوهاب فإذا 
خرج من البياي فقلٌ أن يعود إليه إلا في حفلة تالية. 
وليس يعيبه أنه أحيا ليلة بجنيهات معدودات فلا يزال 
في أو الطريق» والتاريخ يحدّئنا بن من كبار الفانين 
من أحيا أولى لياليه لقاء بضعة أرغفة! 

وضحك إخوته لهذره أما الأ فتنهدت قائلة : 

- سلّمت آمرك لله! 

فألقى حليها نظلرة بن ل وقال: 

لندع حديث الفْنْ جائبًا. لمهم أن تعلمي أني 
سأحيي حفلة عرس غذًا. . . 

علخ عل صيري” 

- وحدي ! سأحييها بنفسي !| 

ونظرت الأمّ نحوه بإنكار» وسألته نفيسة : 

ءالأفدعدف ظ سياه 

يمحدث أحيانًا أن يُختار أحد أفراد التخت من 
المشهود هم لإحياء حفلة كمطرب. خطوة لما ما 
بعذلها. . ! 

وسألته أمّه بلهجة لا تخلو من تكلم : 

- ومّن الذي دعاك لإحياء ليلته؟! 

- عم جابر سلبان لإحياء ليلة زفاف ابنه سلمان. 

وخفضت نفيسة عينيها وقد خبا حماسهاء وران على 
تفضيها قن او . 

ودهشت الأم وخاطبت حسن متسائلة وهي تومئ 
إلى نفيسة : 

- بعدمأ حدث؟ ! 

فضحك حسن قائلا : 

ا الاتفاق بينئا قبل معركة ست نفيسة في بيت 
العروس» ولم يجرؤ الرجل على خخرقه! 

وساد الصمت قليلا والأعين تحدّق فيه في غير 
تصديق. كان في صوته حلاوة ولكن ليس للدرجة التي 
تجعل منه مطربًا. وأخيرًا سألته أمّه في حيرة: 


العا ها اقول" 

- نعم ورحمة أبي. . 

أجر ؟ ! 

ل خمسة جنيهاتء لك متها جنيه كامل . 

وسكت حيّى تغلغل أثر كلامه في النفوس ثُمُ ردد 
عيئيه بين شقيقيه وتساءل : 

ما رأيكما في أن تعملا معي سئيدين في التخت 
وكوك دو سرت لأ بان بور 00 

وانفجر الشقيقان ضاحكين؛ وواصلا ضحكهاء 
حتى قال: 

يا لكا من غيبّين. هذه فرصة نادرة للاشتراك في 
البوفيه الحافل بما لذ وطاب من المآاكل والمشارب . 

ولم يكف الشابّان عن الضحك في استهزاءء ولكن 
مدل لعيئيها منظر المائدة وقد صمت عليها الأطباق. 
وراح خيالهما يثب من طبق إلى طبق» في عجلة. 
وبلا رحمة. حب صاحت به نفيسة بحدة وغيظ : 

- أتريد أن تبعل من شقيقيك متسولين في بيوت 
البقَالِينَ؟ ٠‏ 

فقهقه الشابٌ قائلا لأخته : 

- إن أدرك تغيّظك يا ست نفيسة فإِنْ اعتداءك على 
العروس حرمك حقٌ الدعوة إلى هذه الليلة» ولكن ما 
دنب هديق المتشكينين؟ 1 ليس" الأمر موا ولعبا :ولكن 
طيورًا ولحومًا وفطائر وخضيًا وفاكهة وحلوى... 
ففكرا ثم فكرا. . . 

وم يجد لدعوته من صدى فهر منكبيه استهانة وم 
يعد الكرّة. كان حسن النيّة وأراد لأخويه خيرًا ولكنّ 
حماقتهها ضيّعت عليههما هذا الخير. هكذا قال لنفيسة في 
أسف. ولم يشاركه الشقيقان أسفه ولكنّ نفسيههما اهترّنا 
في حنان لذكر الطيور واللحوم والفطائر والخضر 
والفواكه والحلوى. ونشط يلما في حسرة وألم زاد من 
شدّتهها اقتراب وقت العشاء الذي يندر أن تعترف به 
أمهها. لم يكن للأسرة عشاء عادة» وكانوا يتحامون أن 
يجهروا بالجوع أن يضاعفوا من تعاسة أمّهم وسخطهل 
فلاذ الشابان بالتخيّل دون أن ينبس أحدها بكلمة. 
على حين عكفت نفيسة على أفكارهاء وهي أبعد ما 


تكون عن لذَة الطعام ولِذَّة الحياة عامّة. ردّها حديث 
حسن إلى أشجانها ويأسها وتخاوفهاء وتساءلت في 
دهشة أحقًا يحبى حسن . شقيقها ‏ ليلة الزفاف؟! 
الا 

وحوالى التاسعة من صباح اليوم التالي لليلة الزفاف 
كان حسن يسير في ميدان الخازندار متجهًا إلى كلوت 
بك حيث دعاه الأستاذ علّ صبري إلى مقابلته. وكان 
متعبًا عقب سهرة الأمس التي لا زالت ذكرياتها تدور 
نراعنة. ‏ كنانك ليلة:توكان جريئا ليس كمف حدراتن» 
شىء . وقد شق طريقه في السرادق الذي أقيم عل 
سطح بيت عم جابر سلان بقدمين ثابتتين حيّى بلغ 
لمنضّة بين أيدٍ تصفق وحناجر تهتف للمغقِّي الجديد, 
ورد تحيّاهم برزانة وجلس وسط تنته المكون من عواد 
وقانونجي وكانجي عملوا معه كعازفين وسئيدة معا. 
ثم غتّى «قدٌ ما أحبك زعلان منك؛ وما لبث أن لمس 
بنفسه الفتور الذي استحوذ على الجميع, ولكنّه واصل 
الغناء دون مبالاة» وأكثر من الشراب. وعند بدء 
الوصلة الثانية تصايح كثيرون يطلبون دفي الليل لم 
خل» ول يكن يحفظها فغْيٌ وبستان جمالك» وسرعان ما 
انقطعت الأسباب بين المدعوين والمطرب» هذا يذبح 
صوته بغناء لا غناء فيه وأولئك يشربون ويضحكون ثم 
بلغ الحرج غايته حين وقف سكران مترنحًا وقال بلسان 
ثقيل موجها خطابه للمطرب: 

والله لولم تكن فتوّة لقلت لك اسكت. . . 

وعرفه حسن» كان حدَادًا في أول عطفة نصرالله » 
وتوعّده شرًا ولكنّه واصل غناءه «والله زمان. زسان 
والله والله زمان. زمان والله» ذكر هذا ضاحكًا وهو 
يحثّ خطاه ثم قال لنفسه: «ما كان كان. لا داعي 
للأسف ما دمت قد التزعت الخمسة جنيهات). وليمس 
هذا فحسب.ء وهل يمكن أن ينسى البوفيه؟ لشدٌّ ما 
أبل فيه بلاء حسنًا وقد بلغ القمّة حين ازدرد حمامة 
بعظامها. لم يكن أكلًا ولكن كان التهامًا وخطمًا وسلبًا 
وعراكاء وبلغت المعركة ذروتها حين فرغت صحيفة 
اللحم البقريّ فا كان منه إل قبض على يد المدعو 
الذي يليه واستصفى ما فيها من شرائح. أما حسن 


بداية وغباية 7517 
الختام فكان عقب انتهاء الحفلة وقد التف حوله أفراد 
التخت يطالبونه بأجورهم فقال لهم ببساطة: 

- أليس حسبكم ما التهمتم من طعام؟! 

والأجرة؟ ! 

فقال يوحشية : 

خذوها بالقوة إن استطعتم! 

وانفصلوا عنه ساخطين غاضبين يائسين. شيء 
واحد أسف له أشدّ الأسف هو أنَّ أسرته لم تشاركه 
طعامه الشهئّء. أمه ونفيسة وحسين وبحسنين. وكان 
بودّه أن يعطي أمّه فوق ما أعطى ولكنّ تشرّده الطويل 
علّمه الحرص. على الأقلّ ما دامت هذه الخال. وها 
هو يقصد كلوت بك؛. بل درب طياب بالذات حيث 
يننظره عل صبري الذي مناه بضروب من العيش 
توافق مزاجه وتلهب حماسه. وكان عل صيري قد 
أخيره بأنّه ينتظره في قهوة وسط الدرب أمام بيت زينب 
الخنفاء: فارتقى السلّم المفضي إلى الدرب وبحت نخطاه 
بين بيوت مغلقة لم تستيقظ بعد. وجد الدرب كالمقفر 
حتّى المقاهي الصغيرة كان عالها ينفضون عنها رماد 
سهرة الأمس. وبلغ وسط الدرب ورأى الأستاذ عل 
صبري جالسًا أمام باب القهوة فاته إليه وسلّم وجلس 
على كرسي إلى جانبه. لم تعد قهوة كما كانت يومًا ما 
ولكئها بانت مشروع قهرة جديدة إذا صدق ظنّْه 
فبعض العّال يعكفون على تبييض الحتدران وإعدادها 
للحال الجديدة. قال علّ صيري مزهوا: 

هنا حيث تراني جالسًا سنبدأ حياة جديدة. . 

فتولت حسن الدهشة لأنّه لم يكن سمع عن هذا 
المشروع على كثرة ما سمع عن مشاريعه وتساءل : 

- والتتخت والأفراسم؟ 

فصق الأستاذ بصقة أصابت جدران بيت زيئب 
الخنفاء أمامهما ‏ وكان لا يزال مغلمًا ‏ ثم قال : 

- سيعمل التخث في هذه القهوة. أمّا الأفراح فريّنا 
يجعلها مآتم. انتهى زمان الأفراح» ولا نسمع الآن إلا 
عن «حفل عائلّ اقتصر على آل العروسين8 والراديو 
احتكرته أمْ كلئوم وعبد الوهاب وشرذمة من المطربين 
المختصّين بالنشازء وهيهات أن يكون لنا عيش في هذا 


4 بداية وماية 


البلد. . 

فقال حسن متظاهرًا بالاستياء : 

- صدقت يا أستاذ (وسكت لحظة ثم تساءل) ولكن 
ماذا يفعل التخت هنا؟ 

فمدٌ الأستاذ ساقيه فبلغتا منتصف الطريق الضيّق 
وقال مشيرًا إلى القهوة التى يعذها العمال: 

- إليك قهوة بالنبارء وحانة بالليل وسيرقص فيها 
نسوان الست زينب الخلفاء ‏ وهي على فكرة شريكتي 
- وبين ساعة وأخرى أغني . مجال العمل وأسع. 
والرزق مضمون. ولكن عليك بحفظ أغاني عبد 
الوهاب يا حلو. . . 

لا أكاد أحفظ مما شيعًا! 

لا بد مما ليس منه بدّ. وطقاطيق أمْ كلثوم أيضاء 
هذا حكم الزمان! 

فقال حسن ضاحكا: 

عر نكا عفنا : 

فقال عل صيري باطمئنان : 

- إن متفائل خيرًا. هذا المكان مبارك. وهو أصل 
ثروة محمد العربى نفسه. 

وتساءل حسن من أين للأستاذ الثروة التي يبدأ بها 
هذه الحياة الجديدة؟ زينب الخنفاء؟! هي فوق 
الأربعين على أحسن الفروض.» وليس بها من جمال فيما 
عدا جسمها البقرئء ولكتها لقية وذات ساعدين 
متقلتين بالذهب. لا داعي للحسد ما دام سيحظى 
بنصيبه من هذه الثروة. فرجت» ولعل ليالي التسكم 
والجوع قد غارت إلى غير رجعة. ثم سمع الأستاذ 
يقول : 

- ولكنّ عملك كسئّيد ثانويّ بالقياس إلى ما يُننظر 
منك! 

- وماذا ينتظر مئى؟ 

ألقى سؤاله بغقة وزهو كأنّه عالم حمًا بما يُنتظر من 
قال الأستاذ: 

- إنك أدرى الناس ببذه الأحياء؛ ففي كا مر 
مربّع بلطجي أو برجي أو سكير عربيد فمن طؤلاء؟ 
أنت! وهناك المخدّرات وتجارتها فنّ هائل يطلب مهارة 


رقو اقل 1 الت 

وابتسم حسن ابتسامة عريضة؛ ظلْت مرتسمة على 
شفتيه طويلا. وداخله سرور وحماس وفخار. هذه هي 
الحياة 0 حياة تدث تحت مهاوي النبابيت ومساقط 
الكراميّ وني دهاليز الغرزء» حيث السماء ذهب 
والأرض أشواك والطريق مسارب شتّى يفضي بعضها 
إلى اللذة والعرّة وبعضها إلى السجن والموت فهاهنا 
وطله ومراحه. وما هو بالغريب في هذا الدرب المتعرج 
المنلاطم الشرفات. حيث تختلط آهات الدلال بعواء 
العربدة» وأريج البخور بعرف الخمور» وسباب 
المتعاركين بقيء المخمورين. إلى غناء وعزف وقصفا. 
بوسعه أن يقضي بين أحضانه أعمارًا دون ملل» يأكل 
ويشرب ويربح ويسكر ويحشّش ويغيّي. وأشرق وجهه 
بنور الأمل وألقى على ما حوله نظرة. كان السكون 
يتبدّد تحت وقع أقدام القادمين» فهذه ضحكات 
نمطوطة. وأرداف متأرجحة. ونظرات فاجرة عارمة. 
رتعف الأواية واعرف الصتوي: ..وفدك القاقت: 
وطقطقت ضحكة ولعلعت أخرى... صباح 
الخير. . 

- 58 

قال حسنين بتأئر: 

3 | اللعوف! 

فتساءلت في حياء وهي تدري ما يعني : 

+ لاذاتشكن السيفن؟ 

- لأنه جرّدك من معطفك السميك فتبديت في 
فسان يجلو محاسنك ومفاتتك , . . 

فتورّد وجههاء وقطبت تداري لمعة السرور الذي 
يعثها الثناء» وقالت: 

- ألم أعبك عن هذا ؟! لا تفتأ تتمادى في ما 

وأصغى إليها على شفتيه ابتسامة حائرة» وعيئاه 
تلتهمان جسمها البضٌ بارتياح. فستان مؤدّب محتشم 
ولكنّه على تحفُظه يكشف عن الساعدين وأسفل 
الساقين والعنق الرقيق الشمّاف» ويشى بقسمات الجسم 
اللدن المدملج. ثم علق بصره بالمشرّبية الدقيقة 


المكوّرة فوق الصدر صوّرتها الخيّاطة حقًا لنديين 
انون وان 8ه تفجو لباق ار لقنا كينا 
من صدر أبيض صاف.ء تيل أنه يدغدغهما بأنامله 
فانبعث في جسله قشعريرة الرغبة» وتخيل أنه شد 
عليههما وأتهما يقاومان الشدّ بصلابتهها فازدرد ريقه في 
ظمأ. ولكتها لا تريد ولا تتسامح وتص على عنادها 
بغير هوادة. وكان يظبها تلين مع الزمن ولكن لم يعد 
ثمَهَ أمل وقال بحزن: 

- مبيّةء إنّك تتكلمين بقسوة شأن من لم يذق قلبه 
00 

ولااحت في عيئليها نظرة اعتراض وقالت؛ 

- إني أنكر الحبٌ الذي تريد» وإنّك تسبيء فهمي 


7" 


عمذا, . . 

ولكنّ الحبٌ واحد لا يتجرّأ. . . 

فقالت بإصرار وحذة: 

كلاء كلاء لا أوافقك على هذا الرأي. 

فتمبّد في قهر وألقى بنظره إلى الأفق البعيد. كانت 
التنعين. قن توارك اغلفة وراعها حالة خراء ما امية: 
أقصاها حمرة دامية» تخفٌ عند الوسط كأمها تقطر من 
ورد مصفى. ثمٌّ تشحب عند أطرافها الدانية حيٌّ 
تبتلعها زرقة عميقة صافية تنمنمها هنا وهناك سحائب 
رقاق كتبّدات وانية. وارتدٌ بصره إلى وجهها وقال 
برجاء : 

- إن أحبّك. وإني خطيبك؛ وما أريد إِلّا أن يحطى 
حبّنا بحقّه من الحياة البريئة, , , 

فتجلّت في عينيها الحيرة» وبدت حيئًا وكأئها 
تتعذّبء ثم قالت! 

- لا أستطيع ولا أريد. . . 

فابتسم ابتسامة لا معنى لما وقال: 

- إنك تدفعينبي إلى أحضان وحشة غريبة لا 
أطيقها. إن أتحرق إلى أن أطبع قبلة على شفتيك وأن 
أضمّك إلى قلبي . هذا حقي, وحقٌ حيّنا. . . 

كلاء كلا إنك تخيفنى. . . 

- ألا تمتيني؟ 000 

- لا تسأل عا تعلم. . . 


بداية وهباية ©6؟؟ 


- إن أعجب ألا توذين حمًا أن تنطبع شفتاي على 
شفتيك؟ 

- يَسْرُك بلا شك أن تغيظني! 

- وأن تستنيمي إلى دقات قلبي وذراعاي تشدّان 
عل عام رتلف 

فأعرضثت عنه عابسة» فقال في ضيق : 

- إذا لم يكن هذا هو الحبّ فا هو؟ 

- كها كنا طوال العهد الماضى. . . 

لقاء وحديث واحتراق؟1 2 

لقاء وحديث فحسب ., 

سامحك الله . 

- أو تحين بلا قلب! 

ب ساعك الله . 

فضرب الأرض مغيظًا محنقًا وجعل يذهب ويجيء 
أمامها في حيرة وعبوس » قبدا في وجهها القلق وقالت: 

- اعتقدت أنك تناسيت طلباتك المزعجة وطبت 
نفسًا بحياتنا الوديعة اللطيفة فيا الذي ينزع بك اليوم 


إلى إلجاحك المخيف القديم؟ كن طفلا مهذّبًا وأمييكُ 
عن الإلحاح والطمع. الحبٌ الحقيقي لا يعرف هذا 
العبث . , 

فهرٌ رأسه في قهر وياس وعجب. وما أدراها بالحبٌ 
الحقيقي !؟ أيّ لغر!؟ أتمحبّه حمًا؟ لا يسعه أن يشكٌ في 
هذاء ولكنّه حبٌ لا يفهمهء أو أنّه لا يستطيع فهمها 
هي. يا لها من شابّة رزيئة هادئة. عيئان زرقاوان 
صافيتان. ليس فيه ذرّة من شيطنة أو خفة» ولا 
حرارة» باردتان. ومن عجب أن يكون هذا الجسم 
الفتان لصاحية هاتين العينين المادئتين الباردئين. إنْ 
نار الحبٌ لا تُروى بالماء ولكن بنار مثلها أو أشدّ منها. 
ورهكذا يمضى اليوم كبا مضى الأمس وكا يمضي الغدى 
بلا أمل. وكثيرًا ما يبدو له أنْ حديث الحبٌ يزعجها 
ويقلقهاء وأئها تستردٌ طمأنينتها حين يشوبا إلى 
الصمت؛ أو إلى حديث آمالما البعيدة» وهي لا تمل 


5 بداية ونباية 


الحديث عن هذه الآمال. وبه تسى نفسها والزمان 
والمكان» فتشمٌ عيناها نورًا مبيجاء وتتدفق في أطرافها 
حيويّة جديدة. وفي هذه الساعة يحبها بمجامع قلبه بيد 
أنه حب لا يخلو من تكذّرء أو من غيظ وحنق في 
بعض الأحيان؛ وينقلب متسائلا لماذا لا ينشرح 
صدرها أيضا بالحبٌ نفسه؟ لاذا تخافه وتجفل من ذكره 
وإشارته؟ وإلامّ يبقى هذا الحجاب قائمًا بينه وبينها؟ 
وتفْرّس في وجهها طويلا فيا يشبه الحنق ثم تساءل: 

هل أكابد هذا الحرمان إلى الأبد؟ 

وابتسمت ‏ على رغمها ‏ وقد زادت الابتسامة من 
حقده وقالت: 

- ليس إلى الأبد! 

وشعر برجفة في قلبهء رنا إليها لا يحول عنها عينيه 
لم قال باقتضات : 

- الزواج؟! 

فخفضت عينيها حتّى لم يعد يُرى إلا جفنين 
مسدلين وخدذين موزدين» وحينذاك شبّت بنفسه رغبة 
في الاتقام والإيذاء ولو باللسان فقال : 

- وإذا تم الزواج بذلت لي ما تتمتّعين عله بنشس 
راضية أليس كذلك؟ تببينني شفتيك وصدرك وجسدك 
وتنزعين عنك ثوبك فتبدين عارية كالبلور. . . 

ولكئّبا كانت قد غادرته كأئها تفرّ وحدّت خطاها 
نحو باب السطح , وكانت الكليات تُقذف من فيه 
بحرارة وحئق وتَشَْفُ . 

ا 

أصبحت قهوة عل صبري ملهى صغيرًا بما تحفل به 
من غناء ورقص وحمرء وقد ركبت على هامتها لافتة 
كبيرة سُطر عليها بالخظط العريض «علّ صبري». 
وأقيمت في جايتهاا مس الداحل منصّة للتختء 
اتنليفه ]مز انس و لكر ان عدن الا تسق وعدا 
مدخلها. وكان الأستاذ عل صيري قد انتهى من 
الوصلة الأولى وآنس الجلوس بكئوسهم وسمرهم. 
حين جاء زنجيّ - طويل رشيق مفتول العضضصلات 
يتطاير الشرر من عينيه - فوقف على عتبة القهوة وصاح 
بصوت وقح مرتفع : 


أين صاحب القهوة؟ 

فجاءه الأستاذ عل صبري مداريًا دهشته بابتسامة 
باهتة وتساءل: 

أفندم؟ 

فقال الزنجيّ 0 

سمعت أن لديك أقذر خمر توجد في هذه 
الناحية» ولا كانت الخمر الجيّدة لم تعد تؤثْر في فقد 
قصدتك لأسكر, , ! 

وأزاحه عن سبيله بحركة غليظة وانجه صوب مائدة 
يجلس إليها نفر من الأفنديّة فألقى عليهم نظرة وحشية 
وقال بلهجة أمرة: 

أنحلوا هذه المائدة! 

ول يسع الأفنديّة إلا أن ينبضوا صامتينَ وغادروا 
القهوة» فجلس الزنجيّ على كرسي وطرح ساقيه على 
كرسي آخر وهو يتفرّس في الوجوه بتحدٌ وقحة. 
واقترب صب القهوة من الأستاذ عل صبري وهمس في 
أذنه قائلا : 

- محروس الرنجئ. فتوة رهيب يعرفه الحيّ 
كله , , . 

فسأله الأستاذ بقلق : 

- ترى هل يمكث طويلا؟ 

- نه يرتاد ما يشاء من القهوات فيأكل ويشرب 
دون أن يجرؤ أحد على مطالبته بثمن شيء مما يلتهمه. 
ولعلّه جاء ليعرّفك بنفسهء أو لعل. . . 

وتردّد الغلام قليلًا فحنّه الأستاذ قائلا: 

لعل أحد أصحاب المقاهي في الدرب اتفق معه 
على تخريب قهوتنا!. . . 

واختلس عل صبري نظرة من الزنجيّ فرأه 
كالنائم, آمئًا مطمئثًا كأنّه في بيته» وقد أخلى الزبائن 
الموائد القريبة منهء فانقبض قلبه خوفًا وإشفاقاء ثم 
تراجع في سكون إلى منصّة التخت حيث يجلس .حسن 
مع بقيّة الأفراد. وأومأً إليه ثم انتحى به وراء 
المقصف, وأسرٌ إليه ما قال الغلام ثم سأله : 

ألا سن بنا أن نستدعي المعلّمة زينب الخنفاء 


لتعالج هذه المصيبة بحكمتها؟ 

فقال حسن وهو يتفخص عن بعد الزنجيّ 
خعروس: 

- لا أوافق على أن نستغيث بامرأة. لن تهدي هذه 
السياسة في هذا الدرب» دع الأمر لي. . 

يقولون إنه فتوة شديد الباس. 

فابتسم حسن قائلا : 

- هذا ما يقال عيّى أيضًا ولكنّ أهل الدرب لا 
يعلمون» دع الأمر لي. . . 

وخطر له خخاطر فقال لنفسه سائخيرًا «ليست أمّي 
يعدمة اك اتقانه مو معان از سيل السك 1ت 
قال للا ستاذ: 

- ستكون معركة شديدة» لكن هيهات أن يكون لنا 
عيش هنا بلا معركة ظافرة! 

وإذا لى تكن ظافرة! 

- اعتمد على الله وعلي. . 

اشر عن الحرجة مهي لحن المج بوردل من 
سبيل إلى رفع مكانته عند الأستاذ وفي الحيّ كله إذا 
تفادى من هذه المعركة؟ ولعل عل صبري على حقّ في 
تخوّفه. فالقهوة قهوته والمال ماله ولكن مستقبله هو 
يتوققف على نتيجة هله المعركة. وفي سبيل هذا 
فليذهب علّ صبري نفسه إلى الجحيم. ولا ينبغي أن 
ينسى إلى هذا كله فتيات زينب الخنفاء فها من سبيل 
إليهنّ إلا بنصر إن آجلا أو عاجلاء فحئّله فى الحياة, 
ورتما حظ أسرته المنهارة ‏ خطرت له هذه الخاطرة 
كالمعنى المتداعي - يتوقفان على خوض المعركة , 

وتحرّك الزنجي محروس وهو يتمطى ويتجشّا ثم 
صاح بوحشية : 

أين الكوئياك القذر الذي حدّثونا عنه كثيرًا؟ ! 

وغادر حسن موقفه في ثبات وهدوء واقترب من 
الزنجيّ بخطو وئيد حبّى وقف أمامهء ثم قال مهدوء : 

سلام عليكم | 

فرفع الزنجي عينيه الملتهبتين صوبه في تكثر. 
وتفشخص جسمه الصلب وعينيه البراقتين بريبة وشرء. 
ثم عبس في حنق فاستحال وجهه هيئة غير آدمية 


بداية ومباية 7717 


وصانح به : 

وعليك وعلى أمَك اللعنة» ماذا تريد؟ 

وحافظ حسن على هدوئه الظاهرئء وقال بثيرات 
وافبحة: 

سمعتك عبتف طاليا كونياك فرأيت من واجبى أن 
أخيرك بأنْ الدفع هنا مقدم. . . ا 

فسحب محروس ساقيه من الكرسي أمامه وأغرق في 
ضحك طويل مفتعل وهو يضرب على ركبته من شذة 
الانفعال. ثم أحذ يبدّئ من انفعاله حيّى ذهب عنه 
الضحك. ورمى ببصر هازئ إلى الشابٌء وتساءل 
سانخوا : 

حامي القهوة؟. . هه؟ 

فقال حسن بهدوء: 

وأحبٌ أن أقول لك أيضًا إِنْ هذه المعاملة خاضضة 
بالزبائن عن العترنين.. 

ومرّت ثوان. وني أثنائها كان الربائن القريبون 
يتدافعون إلى سخارج القهوة. وامتلاً الطريق فيهما يلٍ 
مدخل القهوة بالمارّة والنسوة من كل لون وسنّ. على 
حين نشط عال المقصف إلى إخفاء القوارير وما يخافون 
عليه من التلف من الأكواب والآلات الموسيقية 


وغيرها. وحمد محروس وعلى شفتيه الغليظتين بسمة 
هازئة . لم دقع قلمه بعئة بقوة فأصابت ساق حسن 


اليسرى فيال مترنحًا إلى الوراء. كان يراقبه بيقظة 
وحذر بيد أنه ركز انتبأهه قٍِ يديه متَوقّعًا أن يقذفه 
بشيء أو يشهر عليه خنجرًا فلم يتنبه إلى قذيفة قدمه 
حسٌ كانت منقضة عليهء فانكمش متاسكاء وتفادى 
يعضٌ على نواجذه ليتغلب على الألم الذي بعث جنون 
الغضب قُْ دمه فم بذعة 2 
عليه كمن يثب إلى الماءء وات حسن أن يؤخذ 
إلى الخلف بسرعة عجيبة فاصطدم بجدار القهوة زائعًا 
فيها توازنه فانقض عليه موجها ضربة إلى بطئه فحال 
الآخر دونها بيديهء ولكتّها كانت ضربة خادعة قصد 


ثانية واحدة قوب 


فابتسم حسن ابتسامة ذات معنى وقال: 

- لكنّه حبٌ لا نفع فيه. التظر وسنرى. . . 

وودّع الأستاذ وقام ثم تتبّع الغلام إلى البيت الذي 
يواجه القهوة. وطرق الغلام الباب ففتح عن شى في 
حذر فمرق منه الغلام وتبعه حسن. ثم أغلق الباب . 
ووجد حسن نفسه في مدخل البيت وقد انتثرت على 
الكنبات بأركانه فتيات» انتحت كل برجل تشاربه 
وتداعبه. وعلى كرسي في الصدر جلس رجل ضرير 
يلفخ في الناي . على حين اتخذت المعلمة زينب الخنفاء 
مجلسها على أريكة عالية ملتفة بملاءتها السوداء وعلى 
وجهها برقع ذو عروس ذهبيْة كبيرة تخفي به أنفها 
المتاكل. وألقى حسن على الحاضرين نظرة متفخصة 
فلم ير فتاة خالية» ولكنٌ الغلام مال إلى الستار المسدل 
على مدخل السلم وأزاحه ودشمل فتبعه. وارتقيا 
الأدراج معا في سكون حتى تساءل حسن: ٠‏ 

و هي ؟ 

ع لفت سام 

وذكرها لتوه؛ امرأة غرفت بسمرتها العميقة وشعرها 
الجعد وجسمها المكتنزء واشتهرت بشفئين غليظتين 
وعدي تعوازيق ركانت لبن مساب انيار عل 
كرسي عند مداخل البيت واضعة ساقها على ركبتها 
كاشفة عن فخذها حبّى السروال الحريري الأبيض. 
وانتهيا إلى الدور الثاني وسارا في دهليز طويل يفضي 
إلى صالة صغيرة تحدق بها أبواب ثلاثة» ومضى الغلام 
إلى الباب الأوسط وطرقه ثلانًا فجاء صوت له رنين 
النحاس يبتف : 

عدا تل + : 

ودفع الغلام الباب قليلًا وتنحى جانبًا فتقدّم حسن 
إلى الداخل وقبل أن يرد الباب وراءه شعر بيد الغلام 
تربئت ظهره فالتفت صوبه فضحك الغلام وقال وهو 
يبتع : 

اقرأ لنا الفاتحة, , . 

وأغلق الباب فوجد نفسه في ظلام دامس. وحذّثته 
نفسه أن يتحسشس وضع الزرٌ الكهربائيَ ليضيء الحجرة 
ولكن سرعان ما عدل عن نخاطره: ووقف مستئدًا إلى 


بداية وعباية 79 ؟ 
الباب منتظرًا أن تألف عيناه الظلام. وساد صمت 
شامل حيئًا ثم مضت أذناه تلقطان حسٌ أنفاس تتردّد 
فصغى إليها مبتسيًّاء وتوقّع قولا أو فعلا ولكن لم 
يحدث شيء. وانجه على مهل إلى يساره متسمّنًا 
الأنفاس المتردّدة حي مست ركبته شيئًا صلبًا. جسه 
بيده قأدرك أله حافة فراش حشبئي. ووقف ينظر إلى 
أسفل بعينين برّافتين حبّى شفْت الظلمة الشاملة عن 
كتلة مظلمة ممتذة لا تبين لما معالم. وهوى بإسبامه 
رويدًا رويدًا حبّى انغرست أغلته في لحم طري ثم 
انبعثت تحت أصبعه رجفة وندّت عن الظلمة ضبحكة 
0 

عاد ند 

نم أضاء النور وأخذ يرتدي ثيابه. وأخرج من جيبه 
نصف ريال ووضعه على الفراش والمرأة تراقبه بعينين 
ضاحكتين؛ ثم وثبت إلى أرض الحنجرة وسسارت 
بجسمها العاري إلى صوان ففتحته وعادت بورقة مر 
ذات الخمسين قرشًا وحطتها فوق نصف الريال درن 
أن تنبس بكلمة» فتساءل ضاحكا: 

- أهو الباقيى؟ 

فقالت مبدوء: 

رذ 

وأكم ارتداء ثيابه في هدوء متظاهرًا بعدم الاكتراث 
ضابطا عواطفه حي لا ينم وجهه عن فرحه, ثم تناول 
النقود ودسها في جيبه. وسألته وهى ترمقه بنظرة 
0 : 

1 

فقال مسئعيئًا بالكذب : 

- لى رفيقة! 

فتساءلت في اهترام بدا في لمعة عينيها : 

في هذا الدرب؟ 

- ف الأخخر: 

عا نرتعلة 

- بنت عرب! 

وساد السكون دقيقة, ثم سألته : 

ألا تزال لك فيها رغبة؟ 


بداية ونباية 


بها روس أن يكشف خصمه عن عنقه» وبسرعة 
البرق فبض بيدين حديديتين على رقبته وضغط بوحشية 
ليكتم أنفاسه. وبدا للجميع أنْ المعركة في حكم 
المنتهية.» ودارت الأرض بعل صيري» وأبيضت وجوه 
رجال التخت والعّال» وتبادلوا نظرات زائغة لا تخلو 
من دعوة إلى العمل. ولكنّ أحدًا منهم لم يحرّك ساكنّاء 
أما الفتيات فشرعن في الصوات استقالا للجة التي 
ستقع. وتأكد حسن بعد تكن خصمه من عنقه - وفي 
بدء غيبوبته ‏ بأنه لا قبل له بفكٌ الحصار القاتل» ونه 
نت لا محالة إذا توان» فعض على نواجذه وشدّ على 
عضلات رقبته ليركز فيها قوّته. ثم ثنى ساقه اليمنى 
وطعن أسفل بطن خصمه بركبته بكل ما تبقّى فيه من 
قوة. وشعر في اللحظة التالية بتراي قبضة الزنجي 
حول رقبته فاستطاع أن يتنفس وهو يرتجف حقدًا 
وحنقًا, ثم ثناها بطعنة أخرى. حدثك هذا كله في 
نصق الدقيقة الأولى لمحاولة كتم أنفاسه. وانفكٌ 
الخصارء وتراجع محروس بوجه تلعقل في عبوسته 
الضغيئة وعينين تغشى نظراتمهها الحمراء سحابة ذهول 
قاقة. ولم ضع حسن وقنًا مطمئنًا إلى سيطرته على 
الموقف فانقض على خصمه الذي بذل مجهودًا جبَارًا 
للتغلب على ألله ونطحه بجبهته بقوّة خارقة في رأسه. 
مرّة أخترى» فكان لاصطدامهما! طقطقة تقشعرٌ لما 
الأبدان. دون أن يثنيه ع هدفه ما كال له الآخر من 
لكات مزلزلة. وتفجر الدم من رأس محروس وسال 
على وجهه كأنه لهب ينبعث من قطران؛ وبدا وكائه 
يترنح من دواري وتغلّب حسن على الام ساقه وعنقه 
وصدره ووجه لعنق خصمه المكشوف ضربة من حافة 
كفه ‏ كالسكّين - فشهق الزنجيّ وسقط على الأرض 
غانا عن الوجود, وقفا -حسين علل رأس خصمه 
وصدره يعلو ويدخفضء. تبهزه نشوة الظفر. وتبرس 
عظامه الام قاسية أخل صراخخها الباطّ يتعالى بعد 
زوال الخطر. ولعلَه لو غابت الأعين لارتفهى أن يرتمي 
إلى جانب خخصمه ولكن أقام ظهره الأبصار اللمتطلّعة 
إليه فتجلد وتقاسك. وانثال على أذنيه صراخ وغوغاء 
وضجيج 2 وشعر بحركة غريبة تسري في القهوة كلها, 


ثم أحس بيد نوضع على كتفه ورأى الأستاذ عل 
صبري يبتسم إليه بوجه تعلوه صفرة الموثت. وسمعه 
يمس في أذنه ؛ 

- تعال معي أقدّم لك كأسًا من الكونياك, . . 

فسار معه دون أن ينبس. وجلس على كرسيّه على 
منصة التخت وجاءه الرجل بكأس مترعة فتجرّعهاء 
وطلب أخرى فأحضرها له ثم قال بإشفاق : 

نشد هااتعيت! 

- كانت معركة لا بد منها. 

وجاء النادل يقول ضاحمًا: 

أطلق الناس عليك لقب «الرومي) لأك صرعته 


برأسك! 

وشعر حسن برغبة في تحاشي الأنظارء فقال لعل 
صارى : 

دعنا تمح أثر المعركة فابدأ الوصلة الثانية. . 


3320 

استعاد حسن توازنه بفضل قوته وحيويّته واعتياده 
العراك يومًا بعد يوم. وكان الليل قد جاوز منتصفه 
بساعة أو أكثر. وأخجيذت قهوة «علّ صبري» تلفظ آخر 
الترنْحين من رؤّادها. وأطفئت الأنوار المارجيّة في 
الدرب فساده شبه ظلام ومضت البيوت تغلق أبوامها 
مفتتحة سهراتها الداخلية التي لا تنتهى عادة قبل 
الفجر. على حون مرٌ شرطيّان يبزان الأرض بوقع 
أقدامهما الثقيلة. وكان حسن يجلس على كثب من عل 
صبري في باية القهوة يعلقان على إيراد الليلة حين 
قصدهما غلام يعمل نادلا ببيت زينب الخنفاء فحيّاه 
ثم مال على أذن -حسن وعمس باس : 

- بعضهم يريدك. . . 

وسمع عل صبري ما همس به الغلام فلاح الاهتام 
في وجهه وتمتم : 

- امرأة؟! 

فقال حسن يعدم اكتراث : 

أظنّ هذا., , , 

- ألا تفضل مثل الحبٌ الطياري؟ 


بداية ونباية 


فلم يشا أن يجيب بلا أو نعم. قانعًا بابتسامة ذات 


- أين تقطن؟ 

دترا 

ما أبعذها عن مكان عملك. هل ثمة ما يضطرّك 
إلى المبيت هناك؟ 

كادي 
تعرفها؟ 

سوف أعرفها من الآن فصاعدًا. . 

- 51 - 
كانت الشمس تميل إلى الغروب حين غادرت نفيسة 


بيت إحدى زبائها بشارع الوليدء وكان يلوح في 
وجهها الضيق. وهي حال لا تفارقها إذا خملت إلى 
نفسها. ولكن زادها تعاسة أنّا لا تمنى من عملها إلا 
مبالغ زهيدة تبتلعها حاجة أسرتها الشديدة فلا تكاد 
تبقي لها على شيء. وكانت إلى هذا تبدو في مظهر 
جديد ينم عن تغيّر دي بال» فتزيدت في فستان برتقالي 
مزخرف بأزهار البنفسحج أعلن عن جسمها الطويل 
النحيل. وأخذت زينتها في غير تحفظ , وسارت وشارع 
الوليد حتى انتهت إلى شارع شيراء وانعطفت مع 
الطوار وهي ترمي ببصرها إلى الجراج عن بعد فدبْت 
في قلبها يقظة وحيوية. وأعادها منظر الجراج ‏ 
وصاحبه محمد الفل ‏ إلى ذكريات صراع عنيف نشب 
في نفسها في غير ما رحمة ولا هوادة طوال الأسابيع 
الماضية. وجعلت تقدم رجلا وتؤخر أخرى حيٌّ 
توقفت عن السير تامّاء وعقل الخوف قدميهاء ومع 
أئّا كانت قد انتهت من تردّدها المعذّب إلى نهاية, إلا 
أن 0 ركبها وهي تخطو لخنطوات الأخيرة. «ألا 


حسن ين أن ن أستزيد من التفكير؟ كلاء كلاء لن أجني 
من التفكير إلا وجع الدماغ . سيعترض سبيلٍ كا يفعل 
كل مساء. لا أستطيع أن أنكر أنْني ابتسمت لدعاباته 


فاذا بعد هذا؟ فات أوان التراجع. وهو لا يخفى 
دواعية ولا مقاصلة: :؛ ولعيت أجهلها. 5 أدرك كل 
نشي م أدرك اذا يذعونىي إل سيارئةة لا يحاول 


خداعي كا فعل غيره, فالأمر واضحء فهل أقُدم على 
هذا؟ لاذا يتعلّق بىي؟ لست جميلة. وهيهات أن يغير 
هذا الزواق من الحقيقة شيئًا. ولكنّ الدمامة نفسها 
سلعة لا بأس بها في سوق الخلاعة؛ وعشّاق اللذّة ‏ أو 
بعضهم - لا يرعوون عن مطلب. هذه هي الحقيقة , 
الزواج أمره مختلف أمّا اللذة فلا اختلاف عليها. هل 
أدَعْ نفسي بوى! ولاذا أمنعها؟ لن أخسر جديذدًا. 
ليس ثمّة ما أخاف عليه. ولكن ألا يحسن أن أمد 
لنشسبي حبل التفكر؟؛ وعاودتها ذكريات اليأاس الذي 
أمرّت غصصه ريقهاء وكيف لم يعد ثمّة أمل على 
الإطلاق. على أنْ الأمر لم يكن مجرّد يأس فحسب» 
فهناك هذه الرغبة المشبوبة الى تشتعل في دمها ولا 
حيلة لها فيها. وكلما استنامت إلى قبضة اليأاس شكتها 
في الأعماق كشوكة مستعرة. هذه الرغبة وحدها تأبى 
عليها أن تعتزل الحياة وتتوارى حتّى كرهتها فيهما تكره 
من حياتها. بيد أنها لم تعترف بها أمام شعورهاء 
وأنكرتهاء وقالت لنفسها إنها ترضى «اطوان» في سبيل 
النقود ا أسرتها إليها. ولم تكن في هذا 
كاذبة, فإنّه حقّ لا شك فيه ولكتا صارحت نفسها 
بحقيقة وتجاهلت الأخرى؛ وسَّرّها ‏ إن كان ثمة 
سرور - أن تبدو لعينيها شهيدة.» وضحيّة لليأس 
والفقرء وبرز الفتى عند ذاك من الجراج ووقف يحدّث 
بعض العّال فخفق قلبها ولم تتحول عنه عيناها. 
وأدركت بغريزتها أئّها لن تتراجع فسلّمت ‏ على البعد ‏ 
وهو موليها ظهره. سلّمت تسليئمً) نهائيّاء وانتهى في 
تلك اللحظة الصراع العنيف المحزن الذي نشب في 
قلبها منذ أسابيع . وزفرت في يأس وحرارة وغادرت 
موقفها. واقتربت منه في خطوات وئيدة متجاهلة إياد. 
ح الطتا يه عرق شنينها قل سبدرانذ الالونة: 

الصخر نفسه يلين يا ست هاك السيّارة عند 
منعطف الطريق تنتظرك مندذ أجيال. 

ثم سار إلى جانبها متشجعا بابتسامتها وهو يقول: 

- كفاك تدلّلاء لو كان لي صبر أيُوب لنفد. , 

ما ألذّ الغزل ولو كذبء. حال لمحزية ولكتها تردٌ 
إليها اعتبارها وكرامتها كأنئى مهيضة الجناح. «ليته 


يدري من أناء ومن كان أبي4. ثم سمعته يقول بلهجة 
تلم عن وعيد: 

هاك السيّارة فإذا لم تصعدي إليها رفعتك بذراعيم 
أمام الرائعم والغادي . 

وكانا بلغا موقف السيّارة في العطفة الثانية فقبض 
على يدها وفتح بالأخرى باب السيّارة. وازدردت ريقها 
والتأفعنة إل الداتفل قن حركة عصنةء وجلست» 
فأغلق الباب وراءهاء. ودار حول السيّارة ودخخل من 
الباب الآخر وهي لا تكاد ندري بهء ومالت إلى الوراء 
لتباعد بين وجهها وبين النافذة المشرفة على الطريق؛ 
ثمّ غشيتها غرابة. بدا لها كل شيء غريبًا خياليًا لا 
يمت للواقع بسبب» الطريق الذي تتساقط عليه ظليات 
المساء وأشباح المارّة» والسيّارة الهرمة المتهلهلة, 
ونفسهاء وأصوات الناس» ودوئّ عجلات الترام, 
واستعدّت إرادتها بقوة لتعود إلى وعيها واسترقت نحوه 
نظرة وهو جالس أمام عجلة القيادة بقوام فارع ووجه 
معروق صلب ووجتتين بارزتين وأنف ضخم صخري 
وفم عريض كفم البولدج فأعادها منظره إلى عالم 
الحقيقة. والوعي والأعصاب, والدم والمفوف. 
واستخرج الرجل قارورة من نحت مقعده وفص 
سدادتها ثم نظر فيها حوله في شيء من الحذر» ورفع 
فوهتها إلى فيه وأفرغ في جوفه جرعات غزيرة» والتفت 
إليها بوجه متقلص العضلات وساها: 

ألا تشربين قليلا من النبيذ؟ 

فقالت بعجلة واضطراب : 

كلا لا أتعاطى الخمر. , . 

فرفم حاجبيه دهشة وهو يمصمص. وأعاد القارورة 
إلى موضعهاء وبدأت السيّارة تتحزك وهو يقول: 

من اللحكمة أن أشرس الآن حيّى إذا بلغنا مقصدنا 
بلغته في سلطنة, , . 

والطلقت السيّارة مقرقرة تشىٌّ سبيلها سرعة 
مستهترة. وعجبت نفيسة من جرأته وبدا لا قويًا 
جسورًاء وفي الوقت نفسه غير أهل للثقة أو الشرفف. 
ولكن ما حاجتها إلى الرجل الشريف؟ لم تعد أهلا لى 
ولم يعد ضالتهاء ولا تخاف شيئًا في الوجود بقدر ما 


بداية وحباية 77١‏ 

تنخافه على نفسها. وسمعته يقول ضاحكا في زهو: 

- ما أطول تَفْسك في التدلل!.. ولكن طالما قلت 
لنفسبي مصير الحلو أن يقع. وها هو قل وقع. . . 

ورحبت بالكلام لتهرب من أفكارها واضطرابهاء 
فارتسيفت غل شفتيها انسافة وتتاءلت: 

- ومن أدراك أني وقعت؟! 

فضحك ضحكة وقال: 

- سئرى ما يكون في صحراء الماظة. . , 

وتساءلت في قلق : 

- صحراء ألماظة؟ . . هل نغيب طويلك؟ 

- مح منتصف الليل, . ! 

فتملكها فزع شديد تراءى لما خلاله وجه أمّها 
وشقيقيهاء وقالت بلهجة المستصرخ : 

- يا خبر اسود. يجب أن أعود إلى البيت قبل 
العشاء؟. . أوقف السيّارة بريك. , . 

فقال بدهشة وفتور: 

حنا؟ 1 لااعان عدو قا الا ركم ناذا 
تحافين؟ 

- أهلي. . . 

فلحظها بارتياب ساخر وسأها بلهجة ذات معنى : 

أهلك! . . ألا يعلمون؟! 

ووخزها قوله حتّى خرم قلبها كالطعنة الحادة. أهلها 
يعلمون؟ ماذا يظنّ بها؟! واندفعت تقول: 

- كيف يعلم أهلى! إخوتي طلبة بالجامعة» وكان أبي 
موظفا , 

وهر رأسه متظاهرًا بالتصديق» وقال لنفسه ساخيرًا : 
دلا أمّ غسّالة إلا أمّيء ولا إخوة صعاليك إِلَا إخوتي» 
الأمر لله» وضاعف من سرعة السيّارة ليبلغ هدفه في 
أقصر وقت. ومضى يستشعر حميّا النبيذ فطاب نفسًا 
وسأها: 

ما اسمك؟ 

ولم يعجبه الاسم فسألماء 

دالاذا 1 تفي اسن ارشيق هنه؟ 

- إله يعجبنى ! 


بداية ونهاية 


عاشت الأسراء يا ست نفيسة, لا مؤاحذة. . 

وأخيرًا مالت السيارة إلى الطريق الصحراوي 
تفوين: ق.ظلنة قاملة ولالحك الدينة عن عد فى 
أنوارها الموصوصة كأئها مارد جبار ذو أعين ناريّة لا 
حصر لماء وأخل ببدّئ من سرعة السيّارة حيّى أوقفها, 
وأطفأ مصابيحهاء وبغتة مد ذراعه حول خصرها 
وجذبها نحوه بعنف ل تتوقعه. فاندلقت عليه متأؤّهة. 
ففغر فاه العريض وأطبق على فمها حي منتصف 
ذقنهباء وضمها إلى صدره بوحشية وأنفاسه تتردّد في 
أنفه في نخير شرج فشعرت بادئ الأمر بألم وقلق. 
ثم مضت الامها غيب في ظلمة باطنية غريبة ىا غاب 
شبحاهما في الظلمة المحيطة الشاملة وآمنتث بأئها مدينة 
للظلام بالشىء الكثير. فقد شجعهاء وي الوقت نفسه 
أخفى عيوبهاء وبذلت قصارى جهدها ‏ مدفوعة بحافز 
فطريّ ‏ لإرضائه. ولعلّها وجدت بادئ الأمر حياء إلى 
ما تجد من قلق وخوف ولكن سرعان ما شملتها حرارة 
نوكه ددني توركو القلق واطرات: 

ثم قال لها بإغراء : 

ألا يحسن بنا أن ننتظر تمرة أخرى؟ 

فقالت بضراعة وهي تَقف العرق المتصبّب من 
جبينها : 

- لا أستطيع. أرجو أن بعود في الحال. . . 

وتناول القارورة وأروى ظمأه بجرعات متتابعة. ثم 
انطلق بالسيّارة بوجه جامد. وظلٌ صامًا حيّى بلغا 
ميدان المحطة» وقال بغلظة : 

- توجد ثمرة دانية» ألا نعود؟ 

فقالت برجاء وجزع : 

كلا كادي ل اسقط 

وقطب ساخخطًا فجأة. وقال بفظاعة لم تتوقعها: 

- الله يقرّفك, هذه رحلة لا تستاهل البترول الذي 
احترق , 

ووقع قوله من نفسها موقع السوط فانعقد لساهباء 
وأفعم فؤادها خيبة ومرارة وخجلاء ونظرت نحوه في 
ذهول. ولكنه لم يلتفت إليهاء ودفع السبّارة صامثًا 
ساخطا إلى شبرا. عسبى أن تكون رغبته في المزيد عذرًا 


ولكن أما كان يجمل به أن يترفق بها أو في الأقلّ أن 
يمسح خشونته بكلمة رقيقة؟ وواصل انطلاقه صامتّاء 
ثم عرّج إلى شارع جانبي لينزها في أمن من الأعين. 
وأوقف السيارة إلى جانب الطوار. وتساءلت وهي 
تغادر موضعها عن تفعل إذا سمّى لا موعدًا آخر أتقبل 
رغم إهانته أم ترفض على رغمها؟ وجابهتها حيرة لم 
تستعدٌ لماء بيد أنه مد لها يده بنصف ريال وهو يقول: 

هذا يكفي لَرّة واحدة. . 

ولَا رأى ححمودها ترك القطعة الفضيّة عند قدميها 
والطللق :انيار لها بوورا ردقا من اسان ما لق 
وقرقرة مزمجرة. وركبها جلون غضب أعمى فتسمرت 
في موقفها وجسمها ينتفض. واتصل انتفاضها وهي 
تعضٌ عل نواجذهاء ثم مضت تزفر في عجلة كأنما 
تنفّس عن صدرها أن ينفجر. لم يتكلّف موعدًا آخر. 
مرّة عابرة. كأنبي... ربّاه. مرّة عابرة. ثُمْ يرمي لي 
بنصف ريال! وخطر لها خاطر فباخ غضبها وحمد. 
وحلّ محله جل وخيبة, أجل» آلا يجوز أئهَالم ترق له 
ولم تعجبه؟! هذا محتمل. هذا مرججح. هذا مؤكد! 
وأمضها شعور أليم بالحزن والقهرء ثم تنهت لموقفها 
من الطوار فهمّت بمغادرته ولكتّبا ذكرت القطعة الملقاة 
عند قدميها فنظرت إليها بغرابة دون أن تدري ما هي 
فاعلة» ثمّ ذكرت لتوها القطعة ذات الحمسة قروش 
التي اقترضها سلان منها يومًا على محطة الترام. ثم يوم 
فادها إلى مسكنه. والظلام الدامس وشجارها معه في 
الطريق. وتخزّل أبيها بِحمّة دمهاء ثم عاد انتباهها إلى 
القطعة الفضّيّة تحت عينيهاء فرنت إليها طويلا دون 
أن تعحول عنها. أي شيء ثمّة يدعوها إلى 
تركها؟! . . 

57ت 

وفي ذات ليلة زار حسن الأسرة زيارة غير متوقّعة 
بعد انقطاع غير قصير» وكانت الأسرة مجتمعة بحجرة 
الإخوة التى تتخذ منها مجلسًا مختارًا في شهور الصيف. 
جاء هذه المْرّةَ وبيده قفة فوضعها وراء الباب وأقبل 
عليهم مسلا ضاحكا فاستقبلوه بترحاب كالعادة, أعلنه 
الإخوة في غير تحفظء أمَا الأمّ فرمقت القفة بنظرة 


متسائلة وغمغمت ساخرة «إيش جاب الغراب لأمه؟ع 
فقال ضاحكًا وهو يتخل مجلسه بينهم . 

بيد أنّهم لم يلقوا بالا لقفْته. ولم يكن من عادتهم أن 
ينتظروا خيرًا مله قالت له نفيسة : 

لا نراك إلا كالزائر! 

أخوك سائح في أرض الله الواسعة. يلتقط رزقه 
في جهد ومشقّة ولكن لا تعجبي إذا لم تُريني إلا زائرًا 
فقل وحدت لنفسو مسكنًا! 

هل هداك الله أخيرًا ووجدت عملا؟ 

تخت عل صبري ولا شيء غيره ولكنٌ الله فتح 
عليه وعلينا. 

فقالت الأمّ بامتعاض: 

لا يدحل عقلى بحال أنْ هذا عمل بالمعنى 
الصحيح . . . 

لم يا أمّاه؟!! إني في التخت أغيّ بينا في المهن 
الأخرى أتشاجر كيا تعلمين. . . 

وسأله سان : 

2 . 5 

- وهل وجدت لنفسك مسكنا حقا؟. . أين؟ 

فسكت مليا ثم سأله : 

ولماذا تريد أنْ تعرف؟ 

- كي نرورك بدورنا! 

كا ليسن مسكبي فقينا للزيارة» ولبهن صو 
خاضًا بي إذ يقطنه أفراد التخت جميعّاء دعونا من هذا 
وختروني متى أكلتم اللحم آخر مرة؟ 

فقال حسئين سائحرًا : 

الحق أنا نسيناء دعنى أتذكر قليلا. . ٠.‏ تتخاييل 
لعي شريحة لحم في ظلام الذكريات ولكن لا أدري 
أين ولا م , 

وضحك ححسين قائلا : 

فتساءل سحيسسل ١؛‏ 

- ومن يكون المعري هذا؟. , أحد أجدادنا؟ 


بداية ونباية 711 


كان فيلسوفًا رحيماء ومن أي رحمته أله امتنعم عن 
أكل اللحوم رحمة بالحيوان. . . 

إني أدرك الآن لاذا تفتح الحكومة المدارس» إنّبا 
تفعل كي تبغض لكم اللحوم فتأكلها دون منافس. . . 

وممض حسن وذهب إلى حيث ترك القفَة وعاد بها 
ووضعها أمام أمهء ثم نزخ عنها غطاء من الورق 
فيدت تحته فخذ خروف مكتئز تتصل على سطحها 
حمرة اللحم ببياض الدهن. وإلى جانبها علية من 
الصفيح متوسطة الحجم. وصاح حسنين : 

لا أصدّق عيني». وما هذا داخخل العلبة؟ 
مين 

ودبت في الإخوة حيويّة ولعت أعيهم» وسرت 
عدوى الفرح إلى قلب الأمّ فابتسمت وققدمت: 

د قروا للعة غداء قاهرا ! 

وهتف أكثر من صوت: 

- بل عشاء فاخحرّاء الساعة . 

- متى ينتهي طهيه ؟ 

ونبضت نفيسة فحملت القفة وسبقت أمّها إلى 
المطبخ , 

وكفّت الأمّ عن المعارضة وقامت أيضًا فغادرت 
الحجرة وهي تومئٌ إلى حسن أن يتبعها فتبعها على 
الأثر مبتسًا ابتسامة ذات معبى, فانتبذت به ركنًا في 
الصالة وسألته بلهفة : 

حاف ف لتر سمل ار ضف 

- بعض الثىء! لا أدرىي ما يأى به الغد. . . 

حاقل اليا إل "للك مسدياك' ذا يه العرةة 

- كلما واتاني الرزق. أرجو هذا. . . 

وصمتت أحظة ثم سألته : 

انق 

وكان يعلم أنها تفهمه فهًا لا يجدي معه الكذب 
فقال: 

- عطنة جندف بكلوت بك رقم ا١ا.‏ 

فسألته بعد تردّد: 

امرأة؟ 


بداية وباية 

فضحك ضحكة قصيرة وقال: 

ا نعم 

- زواح؟ 

فضحك مرّة أخرى وتمتم : 

- كلا. . . 

ول ير في الظلام ما ارتسم على وجهها من أمارات 
الامتعاض. ولكنها كانت قد يئست منه من زمن بعيد 
تاغل انما من اترعة ال تمه ينه انا ساف 
باهتيام وحرارة : 

- اليس رزقًا شريًا؟ 

فقال بلهجة مطمئئة وتوكيد: 

- بلى؛ لا تشكّي في هذا. . . إِنْنا نحبي أفراحًا 
كثيرة ونغئي في المقاهي والصالات. . 

- 27 

وانقضى عام آخر. وواصلت الحياة سيرها لا تلوي 
على شيء؛ ومضى كل فرد من أفراد الأسرة في سبيله 
بما يلقى من خير وشرٌ. ولو أتيح للآب أن يعود إلى 
الحياة لأزعجته الدهشة لما طرأ من تغيّر على أسرته 
شمل الأرواح والأجساد والصححة ونظرات الأعين, 
ولكن كان حتًا سيعرفهم. سيعرف أن المرأة هي زوجه 
وأَنْ الأبناء أبناؤه أمّا الذى كان ينكرهء ولا يعرفه مها 
أجهد ذاكرته فهو البيت. اخختفى الأثاث أو كاد. فلم 
يبقٌ بحجرة الاستقبال إلا كنبة وبساط باهت ناحل 
كان مفروشا بحجرة نوم الأمّ ثم وضعوه بحجرة 
الاستقبال بعد بيع سجادتهاء واقتصرت غرفة الأمْ على 
كنبتين تُستعملان نهاوًا للجلوس وليلا للنوم: وخلت 
الصالة - حجرة السفرة قديما ‏ فبيع البوفيه والمائدة 
والكراسيٌ» وانتهى بهم الحال إلى تناول طعامهم على 
صينية مفتعدين الأرض» بل بيع فراش حسن. ولولا 
الضرورة القصوى لَبِيمّ الفراشان الباقيان. كانت حياة 
شاقة عسيرة» ولولا حزم الأم. وحسن تدبيرهاء لما 
نمض المعاش وكسب نفيسة القليل بضرورة المسكن 
والمأكل. أمّا حسن فلم تتعدٌ معونته لأسرته زيارات 
متباعدة كانت للأسرة بمثابة المواسم يطيب لما فيها 
الطعام والأمل» وربما ابتاع لأمّه من آن لآخبر جلبابا أو 


منديك أو بعض الثياب الداحلية» وفيا عذا هذه 
الأويقات فلم يكن يراه أو يسمع به أحد. وكان يعتذر 
لأمّه بمشاق الكفاح وقلة الرزق. ولم يكن في اعتذاره 
غلو دائيًا. والحقٌ أنه وجد الحياة أشقّ مما كان يتصور. 
كان يغنى في نخت عل صبري . وينبري للعراك إذا دعا 
الداعي: ويتجر بالمخدّرات في حدود ضيّقة. وني 
حوزته امرأة لا بأس بجالها ونقودهاء ولكن ظلّ كسبه 
دون ما كان يحلم به بكثير فضلا عا أوجبته حياته عليه 
من الإنفاق السخي ليظفر بقلوب أعوانه. وليظفر 
بالمظهر اللائق به... وكان النزاع بين ضروريّات 
حياته وأنانيته من ناحية وحبّه لأسرته من ناحية أخرى 
لا بدأ بنفسه. يتغلب ذاك حينّاء ويتغلب هذا في 
أغلب الأحيان؛. يمسك يده مستسل) لتيّار حياته 
الجارف. ثم يجود بما في طوقه. ويتمنى كثيرًا لو يرذ 
أسرته إلى سابق عهدها بالحياة» ثم يسى أسرته في 
خحضمٌ مغامراته؛ ثم يعود إلى تذكرها في ندم وألمىء 
وهكذا إلى غير نهاية. ومهم| يكن من أمره فلم تجد فيه 
الأعرة اليعطل الدئ يقل صتديا أرنراخة يدها ورك 
تنشمت في زياراته نسائم الترفيه والراحة. الأمٌ ووحدها 
كانت عصب حياة الأسرة» وفي سبيل الأسرة امد 
حيلها وهرمت في عامين كا لم تبرم خلال نصف قرن 
من الزمان. فنحلت وهزلت حيّ استحالت جلدًا 
وعظاكا بيد :01ل نفيك اللسحنة ول تدرف 
الشكوى. وم تتخل عن سجاياها الجوهريّة من الصبر 
والحزم والقوّة. وكانت تعمل النبار كلّه تطبخ وتغسل 
وتكلس وتمسح وترتق وترفو» وترعى ابنيها خاصة» 
تراقب لوهماء وتحثهها على العمل» وتفضٌ نزاعهه) 
التافه» وتكبح من نزواتهها»ء خصوصًا طفلها المتقلب 
حسئين. وبين هذا وذاك تعكف عل التفكير في 
الحاضر والمستقبل» وتجترٌ كثيرًا من الألام التي تبعثها في 
نفسها ابنتها نفيسة في تجوالها الدائم بين بيت وبيت. 
تعمل كثيرًا وتربح قليلًا وتواصل سعيها في مشقّة 
ويأس . شد ما تتجرع غصص الألم في سكون متجمّلة 
بصير لا يبن لائذة بإيمان لا يتزعزعء متشيّثة بأهداب 
أمل لا بد أن يتحقّق وإن طال انتظاره. ويفضلها 


عرف الشقيقان سبيلهها. فلم يحد أمّْهها عن جادّته. 
وأمكنهه| - على ما يكتنفههما من تقشف وحرمان ‏ أن 
يواصلا اجتهادهها في مثابرة تدعو للإعجاب. وكان 
حسنين يعد ما يلقاه من ظروف العيش أهون مما يجد 
في حبّه من حرمانء ولكنٌ فتاته لم تكن دون أمّه 
عنادًا. فأرغمته على الرضى بحبٌ ظاهر متقشّف لا 
يستسيغه طبعه الخامي. وأوشكت الحياة الخاصّة أن 
تلهى الشقيقين عمّا انتاب حياة الوطن في تلك الفترة 
الل ار الجامة, :الى أن حسين لم يبد اهتماما 
يستحقٌّ الذكر بالسياسة العامة ولعل حسنين كان أكثر 
اهتمامًا بالسياسة من أخيه. ولكن ليس إلى القدر 
الذي يجعل منه تلميذًا سياسيّاء واقتصر اهتهامه في 
الغالب على النقاش الحزيّ أو الاشتراك في المظاهرات 
السلميّة. وكانت الأمَّ أيضًا الحائل بين ابنيها وبين 
الاشتراك في الحياة السياسية. فلم تكن لتفقه حرفا في 
السياسة. واستغرقت الأسرة مشاعرها فلم تترك نصيبًا 
للوطية. ولمّا ذاعت الأخبار المحزنة عن ضحايا 
المظاهرات من الطلبة أصاها الفزع وراحت تقول 
مخاطية الشائين : 

- قتلوا يا ولداه فهل تغنى عنهم السياسة أو 
المظاهرات؟! فجعوا أهليهم وخربوا بيوتهم وضاعوا 
اغا 
وقال لها حسنين منفسًا عن شعور مكبوت لتخلّفه 
عن الثائرين : 

إِنْ الأوطان تحيا يموت الأبطال. , , 

فرمته بنظرة صارمة فخفض عينيه وقد عدل عن 
مواصلة حديثئه الحراميّ. ثم جدّت أحداث فتكونت 
الجبهة الوطنية, وشرع في المماوضات». وانتهت 
المفاوضات إلى الاتفاق. وسرى في البلد ارتياح عام 
وحينذاك عاد حسئين إلى حديئه: وكان أجرأ على أمّه 
من أنحيهء فقال ها يوما: 

- أرأيت أنْ الأرواح التي زهقت لم تذهب تضحياتها 

ولم تغضب هذه المرّة لشعورها بأنْ الخطر قد زال 
وحلّ محله السلام ولكّها لم تنش عن رأبها فقالت : 


بداية ونباية ه7؟ 
هيهات أن يعورض شيء عن هلاك روح شابة. 
- لقد عشت يا أمّاه نصف قرن في ظلّ الاحتلال 
فلندع الله أن يمد لنا في عمرك نصف قرن آخر ني 
كنف الاستقلال, . , 
فقَالت الأم ممتعضة : 
احتلال. استقلال. لا أدري أي فرق بيتهها. خير 
لنا أن ندعو الله أن يكشف عنًا الغْمّة وأن يبدّلنا من 
عسرنا يسررا, . . 
فقال حسين بحماس وإيمان : 
- لولم يكن الاحتلال لما تركت أسرتئا بعد موت أبي 
بلا معين! «ثمٌ مخاطبًا حسين» ألبس كذلك؟ 
فقال حسين بأمل : 
أعتقد هذا! 
وركدت الأمْ نظرها بيهما في شك كبير. لم تكن 
تحفل ببذه الأحاديث العامة التي تساق إليها أحيانًا من 
حيث لا تذري ع أمر واحد مبمها. وتنبى من أجله 
الدنيا وما فيها, هو أن تبلغ ببذين الشاتين اللذين 
تحبهها أكثر من الحياة نفسها بِرّ الأمان. وأن تراتهما 
رجبلين ناجحين سعيدين قد أمنا شرك الحياة. واوتب 
الأسرة منبا إلى ركن ركين. . . 
55 س 
وي نباية العام حصل حسين على البكالوريا. وقد 
ذاقت الأسرة في فتثرة الانتظار السابقة لظهور النتيجة 
مرارة الإشفاق والشك. ولم يكن أحد يجرؤ على أن 
يتكهن بما يج فيها لو أخفق حسين وحرم من المجانية . 
و تكن الام تتصور أن ينتهي صررها هذه المباية . ولا 
أن تنكشف آماها عن مثل هذا القنوط. وعندما تناول 
سان الحريدة من البائع وأجرى بصره الزائغ فُِ 
صفحاتبا باحثًا عن ثمرته. التف به أنحوه وأنمده وأمه 
بقلوب خافقة ينبض في أعماقها الأمل ويُظلّها الخوف 
والعذاب . فانضعت اللحظة الرهيية على تنفوسهم إلى 
الأبد. ثم كان يوم سعيلف 6 أول يوم سعيك منلذ عامين 
كثيبين» فطابت النفوس. وطجت الألسن بالشكر للف 
وراحوا يُفصحون عن سعادتهم بالحديث اللطيف 


بدابة ونباية 


حيئاء وبالصمت المطمئنٌ الباسم حيئا آخر. ثم وجدوا 
أنفسهم يطرقون باب المستقبل» ويفكرون في الغد 
القريب والبعيد معغاء فنسوا سعادتمم وهم لا 
يشعرون؛, وتخايلت لأعينهم مرّة أخرى الصعاب التي 
تكتنف ححياتهم. فحلٌ التفكير وهمومه محل السعادة 
الصافية العابرة» عرف حسين حقيقة جديدة في حياته 
وهي أن السعادة قصيرة الأجل وأثها لا تعمّر في النفس 
طويلًا كالحزن أو الحسرة. ولم يكن التفكير في مستقبله 
الاين للحتي ممه كان ينطية الخال ذا امال 
وأحلام» ولكنّ الحقائق لم تكن لتغيب عنه كذلك. 
وكأنه أراد أن يستدرجهم إلى إعلان آرائهم فتساءل: 

ماذا لديكم عن الخطوة التالية؟ 

وكان للام رغبة» فهي تود أن تنتهي الحال التي 
يكابدونها بأيّ ثمن. وكانت تعلم ‏ قد خلا البيت ما 
يمكن الانتفاع بثمن بيعه - أنْهم لن يستطيعوا مواصلة 
هذه الحياة بعد الآن. بيد أْبا لم ترتح إلى إملاء رغبتها 
عليه ونفرت من التحكّم في مستقبله ى) تتحكم في 
حياته. أجل لم يعد طفلاء فإذا وافق على رأيها مختارًا 
فبها وإلا فليقض في أمر نفسه بما هو قاض » وليمدّوا 
هم في حبال التصئر والتجلّد. بل والجوع حيّى يأمر 
الله بالفرج. لذلك قالت باقتضاب : 

فلنتديّر الأمر طويلا. 

ولكنّ حسنين كان يفكّر بسرعة مدفوعًا بعواطفه 
كعادته» وكانت أنانيّته تتوارى خلف ما يظنه الصالح 
العام , فقال؛ 

لم تعد الحياة تطاق. غذاوّنا سيّئْ ونحن في حم 
الجياع وثيابنا متداعية ممرّقة أو مرفوّة» وبيتنا عار فلا 
بصم أن نطيل أمد العذاب. لا سبيل إلا أن نبدأ 
ران ال 

وكان حسين يفهم أنخاه خير الفهم, فأدرك لتوّه ما 
يرمى إليهء وكان مقتئعمًا بما يريد أن يذهب إليه ولكن 
بده يكين كل عله ونال 

لماذا تقول «نبدأ»؟. . للاذا تستعمل صيغة الجمع 
بينا الأمر يتعلق بي وحدي؟ 

وأدرك حسنين أنْ أخاه نفل كعادته إلى ما وراء 


كلامه فقال بإشفاق: 

- إن أقرّر مبدأ عامًا يجوز عليك اليوم وعلّ غدًا. 

- تعبي أنه يجب أن أجد وظيفة؟ 

فزاغغ عن الحواب الصريح وتساءل: 

ما رأيك أنثت؟ 

فالتفت حسين صوب أمه وسأها مبتسما: 

ما رأيك يا أماه؟ 

وأثرت ابتسامته في نفسها تأثيرًا عميقّاء وأدركت أنه 
يسع مصيره بين يديها. وأنّه يحملها وحدها مسئولية 
مستقبله . ولكتها لن تقفى عليه بما لا يحبّ. لن تفعل 
ولو ذاقوا الموان أربعة سنوات أخرى. إِنْه الوحيد 
الذي يذعن لمشيئتها بلا تردّد أو تذمّر فهل يكون 
جزاؤه الفداء؟! وقالت الأم بوضوح: 

رأبي رأيك يا حسين. . . 

فابتسم حسين ابتسامة غامضة وقال مدفوعًا برغبة 

- أرى أن أكمل مرحلة التعليم العالي. . . 

فقالت نفيسة بسرور: 

جا ب ا 

وقال حسئين بعد تردد: 

أمامنا أربعة أعوام عجاف أخرى. . . 

ذقال حكسين. تنما : 

- عام واحد فحسب ثم تتوظف أنت في غبايته إن 
شاء الله ! 

فضحك حسنين مغلوبًا على أمره وقال بلهجة 
المعتذر: 

- لعلك تظنّ أنني أريدك على أن تتوظف لتتبح لي 
فرصة أكمل فيها تعليمي العالي في هدوء وطماأنينة, 
ولكنّ الحقيقة أنّنى أودٌ أن أرحم أسرتنا نما تعانيه. 
وفضلًا عن هذا وذاك فإذا كان على أحدنا أن يضحَى 
باد رذ عفرن انارت لكا ررب ةا دالت 
الذي يجب أن تبذل هله التضحية, لا لأني أريد لك 
ما لا أريد لنفسي, ولكن لأنْ أسرتنا تستطيع أن تنتفع 
بتضحيتك الآن على حين يجب أن تنتظر عاما آخخر حتى 
يمكنها الانتفاع بتضحيتي أنا. 


ففييداك يي قائلة: 

- منطق زائف. إن أعلم علم اليقين أنّك لن 
ترضى بالتضحية لا العام القادم ولا الذى بعده. . 

وقالت الأمّ حسرًا للجدل : 

افعل ما تشاء يا حسين, ولا اعتراض لنا. . . 

فابتسم إليها في صفاء وقال: 

م أعن مما قلت حرفًا واحدًا ولْكبِي أردت أن 
يعرف سحسثي' أن أححسة فهمه. ولست ألومه أيضًا 
على تفكيره فله عذره. ينبغي أن يضحًي أحدنا ويرضى 
بالتوظف الآن. وهذا هو واجبي أناء أنا أخوه الأكبر, 
وأنا صاحب البكالوريا. إني أدرك الحال على حقيقتهاء 
راقن اله مق القسرة القؤييرة آذ اذى اف كللة 
تعليمي. فلأرضٌ بحذْلي» ولندعٌ الله جميعًا أن يوفقنا 
إلى ما نريد. . . 

وقرأ الارتياح في أعينهم حميعا رغم ما تنطق به 
ألسنتهم من عبارات الأسف. فداخحله شعور طيب 
بالسرور والارتياح على حرنه وأسفه. «أسرتنا كادت 
شن امعان الاتقاع والتطنا م بها إن أعيك إل 
نفوسها بعض هله المعاني. علامٌ آسف!. مدرس أو 
كاتب سيّان. لو كنا نقتصد في أحلامناء أو كنا نستلهم 
الواقع في خلق هذه الأحلام, لما ذقنا طعم الأسف أو 
أحثيبة) , 

هع - 

وقالت الم : 

لدينا أحمد بك يسري صديق المرحوم والدكم, 
وهو يستطيع أن يوظفك في غمضة عين. . . 

وتفكرت الأمّ مليًا ثم واصلت حديثها قائلة : 

لن أستطيع الذهاب إليه بنفسي لأنْ معطفي لم 
يعد لائقًّا للظهور أمام الناس المحترمين, فامضص إليه 
أنت. وخذ معك أخاك تتشجّم به. وما عليكا إلا أن 
تقولا للبواب إِنكا ابنا المرحوم كامل أفندي عل . . 

وذهب الشقيقان عصرًا إلى شارع طاهر وقصذا 
بيت البك وطلبا مقابلته كما أوصتها أمّهما فغاب 
البؤاب دقائق ثم جاء ليدعوهما إلى حجرة الاستقبال. 
ودعلا يسيران في ممشى الحديقة الوسط وهما ينظران إلى 


بداية ونباية ٠117‏ 


شي الأزهار الى كست الأرض بألوان مبيجة بدهشة. 
نم صعدا إلى السلاملك؛ ثم إلى بسو الاستقبال 
الكبيرء واتخذا مجلسها بارتباك على كثب من الباب 
بالموضع الذي اختارته أمّهها قبل ذلك بعامين. وجرى 
مره سررنا عل ابسناط القرير لذي يسن ارفين 
الحجرة الواسعة. والمقاعد الكثيرة الأنيقة» والطنافس 
والوسائد» والستائر الى تبض على الجدران كالعيالقة. 
والنحفة لمتدلية في هالة لألاءة من سقف عال انتشرت 
بجوائبه المصابيح الكهربائيّة . وأشار حسنين إلى النجفة 
وقال بسذاجة : 

- مثل نجفة سيّدنا الحسين! 

وكان حسين يفكر في أمور أخرى فقال: 

نعم . . . دعنا من النجقة, ما عسى أن نقول؟ . . 
ينبغى أن تساعدنا بلسانك! 

نالع ا 

أنظنّ أنّك ستحادث شيطانًا؟. . تكلم بشجاعة, 
وسأتكلّم أنا أيضًا. ملعون أبوه! 

ونذت عنه اللعنة ‏ لا لحئق ‏ ولكن ليشجع 
أخاه. وليتشجع هو نفسه. وألقى نظرة ذاهلة على ما 
حيط به من أي الثراء ثم تساءل بصوت مندخفض : 

- هل يثير موت رجل كأحمد بك حزنًا في نفوس 
ورلته؟ 

فقال حسين بنصف وعي : 

أما كنا نحزن لوفاة والدنا لو كان عئيًا؟ 

فقطب الشابٌ متفكّرًا ثم قال: 

أعتقد هذا. ولكن لعل الحزرن أنواع ودرجات. 
آه. . . لماذا لم يكن أبونا غنيًا. . . 

هذه مسألة أخرى. . . 

- ولكتّها كل شىء. خترني كيف صار هذا البك 
7 5 

د عله ربسا للبينة ل ادي 

فالتمعت عيئنا حسئين العسليتين وقال: 

يجب أن نكون جميعًا أغنياء. . 

- وإذا لم يكن هذا؟! 

إذن يجب أن نكون حميعا فقراء. . , 


8" بداية ونبهاية 


- وإذا لم يكن هذا؟! 

فقال يحنق : 

- إذن نثور ونقتل ونسرق. .. 

فابتسم حسين قائلا : 

- هذا ما نفعله منذ آلاف السئين. . , 

- يعر عل أن أتصور أن تمفى حياتنا في عناء وقذارة 
إلى الموات . . . 

فقال حسين مبتسما: 

لا قذر الله . . . 

وقبل أن يفتح محسنين فمه سمعا وقع أقدام آتية 
من الفرانداء ثم دخل البك بجسمه الطويل العريض 
في بدلة بيضاء حريريّة» وسلّم عليه مرحَبًا وهو 
يتفرس في وجهيه! بعيئين ضاحكتين» ثم سألهما وهو 
يجلس : 

أهلا بابي الحبيب المرحوم. كيف حال والدتكما؟ 

فشكرا له بلسان واحدء. وقد نسبى حسنين في طيب 
اللقاء حنقه على حين عاود حي اناك وتوجس 
أحمد بك خخيفة من هذا اللقاء الذي لا بد أن يسفر عن 
بذل وعطاءء وكان يسلّم سلمًا بأنه لن يستطيع أن 
يرفض لما رجاء إذا سألاه. والحقٌ أنه لى يكن بخيلا. 
بل كان جواداء ولكن لا عن طيب خاطرء كان يجود 
في برم وضيق دون أن يستطيع أن يقول «لا4» وتغلّب 
حسين على ارتباكه وقال بصوت رقيق مؤدب تغني 
نبراته عن ألفاظ الرجاء والضراعة : 

حصلت يا بك على البكالورياء وظروف أسرئنا 
تضطرّني إلى البحث عن وظيفة» لذلك رأت والدتي 
أن ترسلني إلى سعادتك لا لنا جميعًا فيك من عظيم 
الرجاء . . 

فجعل البك يعبث بشاربه الغزير المصبوغ. ثم 
قال: 

وظيفة؟!. . باب الحكومة ضيّق في أيامنا هذهء 
ولكب سأبذل ما في وسعي يا بّ. لا أعتقد أن سأجد 
لك وظيفة في الداخعلية ولْكي صديق لوكيل المعارف. 
وكذلك وكيل الحربيّة» جهّز طلب استتخدام وسأكتب 
لك توصية قوية. . . 


وشكرا له كرم أخلاقه ثم سلما وغادرا الفيلاء 
وألقى حسنين على الفيلا نظرة توديع وهما يبتعدان 
عنباء وعاد ببصره إلى وجه أخحيه فوجده راضيًا حالما 
فساءل نفسه في دهشة: ترى هل يفرح الآن بما عذه 
بالأمس تضحية؟ ثم قال: 

أيقنت الآن فحسسء؛ وبعد أن تنسمت عبير 
الحياة الحشّة في هذه الفيلاء أنه من الظلم أن نعدّ 
أنفسنا بين الأحياء . , 

وكان حسين مشغولا بالتفكير في طلب الاستخدام 
والتوصية القويّة فلم يعن بالردٌ على أخيه. فقال 
حسئين -حائقًا : 

- إفي أعجب لا تتحل به من رضى وهدوء! ولكنّه 
تظاهر لا يمكن أن يخدعني . . . 

وما جدوى الحنق؟ . . لن نغتر الدنيا! 

- يجب أن تتغيّر. من حقّنا ولا شك أن ننعم 
بالسكن النظيف والمأكل الصحي والمركز المرموق. 
ولكئى أراجم حياتنا جملة فلا أجد بها خيرًا أبدًا. . . 

فحدجه حسين بنظرة غريبة لم يفهم معناها وقال 
له: 

- ولكنّك تتمتّع بالحبٌ. وستكمل تعليمك. أليس 
هذا خيرًا؟ 

ونظر إليه ثم نظر في ما أمامه. ترى ماذا يعنيى؟ 
وشعر بعدم ارتياح» وتضاعف ضيقه. ثم روح عن 
صدره متسائثلا : 

ألم يكلّفك هذا التضحية بنفسك؟ إن لنا حقوقًا 
بديبيّة ولا يجوز أن يضيع شيء منباء فأين نحن من 
كيف نعيش؟.. ماذا تكابد أمنا؟.. أين 
أخونا حسن؟. . كيف انقلبت أختنا خياطة؟ , , 

وقطب حسين وقد تنغص عليه صفوهء وتئابى 
جوهر الموضوع ووقف عند الصفة الأخيرة حائقاء 
وصاح بأخحيه في لمجة تنم على العتاب : 

غخياطة , , , 

فقال حسنين في هياج وانفعال: 

- نعم خيّاطة: هل تكره هذا حهًا؟ أتمئى حقًا لو 


هذا؟. 


كانت تزوجت كأمثالها من الفتيات؟ كذب. لو كانت 
تزوجت. بل لولم تكن خياطة لاضطرٌ كلانا إلى 
الانقطاع عن المدرسة والبحث عن مهنة حقيرة. هذه 
هي الحقيقة. . . 

واشتدٌ الغضب بحسين., لا لأنه لا يسلّم بما قال 
أخخوه. ولكن لأنّْه يسلّم به في أعاقه. ولأنّه ما كان 
يرحب حمًا برواج الفتاة وسعادتها. «إنّنا ناكل بعضنا 
بعضاء ينبغي أن نُسَرٌ بتهريج حسن وعبثه ما دام يجيئنا 
كل شهر بفخذ خروف. وينبغي أن نس بأختنا الخيّاطة 
ما دامت تعلٌ لنا لقمتنا اللحافة. وهذا الشابٌ المتذمّر 
ينبغي أن يسرّ بانقطاعي عن التعليم ما دام سيتم 
تعليمه هو. يأكل بعضنا البعض. أي وحشيّة. أي 
حياة! لعل لا أجد إلا عزاء واحدًا وهو أن قوّة أكبر منا 
جيك بحا مكنا وز عومننا نه لبا درا نا تسياذ 
ونقاتل.» وتركز تفكيره في الخاطر الأخير» فيما سه 
العزاء الوحيد» فسكنت نفسه. وسكت عنه الخضب 
وقال وكأنه يخاطب نفسه : 

- نحن لا يأكل بعضنا البعض. لا تقل هذا (لم 
تكن هذه العبارة من قول شقيقه ولكنّه لم يفطن 
ذا ويد ل تهنا اذا تخى أسرة بائة ولا 
نظائر وأشباه لا يحيط هم حصر. وواجب كل واحد 
منا أن مجود بما يقدر عليه من البذل والتضحية. . ! 

ثم طلب إلى أخيه في حزم أن يمسك عن العدل. 
وكانا بلغا محطة الترام. . . 

1غ - 

وتبيّن حسين أن الوظيفة ‏ أو التضحية التى رضى 
ببذها عن طيب خاطر ‏ لم تكن منالا يسا فقد 
انصرمت ثلاثة أشهر وهو يتردّد في هم ويأس ما بين 
فيلاً أحمد بك يسري ووزارت المعارف والمسربيّة. 
وأخيرًا أشسيره البيك بأنه أمكن إلحاقه بوظيفة كاتب 
بمدرسة طنط الثانويّة, وحثه على تقديم نفسه 
للقومسيون والاستعداد للسفر لتسلّم عمله في أوّل 
أكتوبر. وسُرّ الفتى. وسرّت الأسرة. ولكنه سرور ل 
يكن خالصاء وشابته مرارة. كانت الأمّْ تنتظر هذا 
اليوم بفارغ الصبر كي تنتشسل الأسرة من وهدتها 


بداية ونهاية 8 ؟؟ 
وتبدّها حالا بعد حال, فجاء السفر عيّبًا لهذا الرجا 
وتحيرت الأمّ بين فرحها وحسرتهاء وأيقئت أنْ الوظيفة 
لن ترفه عن الأسرة إلا قليلاء وأنّ خيراتها ستتبدّد ما 
بين طنطا والقاهرة. وإلى هذا كله فقد لاح في أفق 
الأسرة شبح فراق جديد لم تألفه, فتوجُعت قلويهاء 
وعجبت الأمّ لهذا الحظ الذي يبي أن يمنحها ابتسامة 
إلا تحت عبوسة متجهّمة. والذي يد يد النوى بينها 
وبين الابن الوحيد الذي لا يخلق ها المتاعب. كانت 
ترى في حسين صورة من نفسها المادئة الصابرة. 
وكانت تجد عنده من الأنس والراحة ما لا تظفر به عند 
غيره. أجل لم يكن أحبٌ الجميع إلى قلبهاء إذ كان 
حسنين الطفل المشاكس الذي يحظى ببذه المنزلة. 
ولكنّه بدا لعينيها وقتذاك كأنفس ما تملك في حياتها. 
ووقع الفراق من نفس حسين موقعًا سيّئاء وحن له 
خزن رجل لم يبتعد عن بيته يومًا واحدًا في حياته, 
وضاعف أثره في نفسه تعلّقه الشديد بأمّه وإخوته وما 
كان يأمل من الترفيه عنهم بوجوده بيغهم. وكان يقول 
لنفسه كثيرًا «ساعيد نفيسة إلى بيتها سيّدة محترمة .حال 
لسلدى أؤل مرتب من الحكومة» ولكنّه رأى حلمه 
كدف برذ تاهيه إل امنود غلفا درق الع 
وراءه على حال ليست أفضل كثيرًا مما كانت عليه., 
ولعل هُذا ما جعله يمفى إلى أحمد بك يسرى مستشفعًا 
كترذه غل. إبقات فق التاهرة بولكو البلك وكات قد 
ضاق به _ أخبره بِأنْ رغبته بعيدة عن التحقيق في 
الوقت الحاضر. ثم اعترضته مشكلة جديدة تتعلّق 
بالنقود التي يجب أن تتوافر له ليقيم بها أسباب معيشته 
في طنطا حبّى يتسلّم أوّل مرب له في نباية الشهرء من 
أبن له ببذه النقودء واتجه نحو أخخته نفيسة ولكنّ الفتاة 
كانت تنزل لأمّها عن جل أرباحها المحدودة ولا تكاد 
بغي لنفسها على شيء ِلآ ما يلزم لكسائهاء وإلى هذا 
فيا تبقى من أثاث البيت لا يفي ثمنه ‏ إذا بيع جميعه ‏ 
بمطلبه. فلم يجد من ملاذ أمامه إلا أخحاه حسن 
وخخاطب أمّه فيا تراءى له فوافقت عليه ولم يداخلها 
شك في نجدة ابنها الأكبر إذا وسعه ذلك؛. وأطلعته على 
عنوان أخيه لأول مرّة فمضى من تؤه إلى شارع كلوت 


4٠‏ بداية وهاية 


بك وراح يبحث عن عطفة جندف. وكان غادر البيت 
كبير الأمل ثم تسل القلق إلى نفسه رويدًا رويدًا حت 
تساءل في النباية ترى هل يعطيني حسن ما أريد حقًا؟ | 
وإذا لم يفعل فهل تضيع الوظيفة من أجل بضعة 
جنيهات لا نجدها؟ | ثم اهتدى إلى عطفة جندف وهو 
على حال من التشاؤم مؤلة» ووجدها عطفة ضيقة 
متعرجة» تقوم على جانبيها بيوت متداعية» وتسطع في 
هوائها الفاسد رائحة السمك المقلّ: وتكتظ با مارة 
وعربات اليد. وتتجاوب في جوها نداءات الباعة م 
نتخللها شتائم ونحنحات محشرجة وبصقات غليظة, 
لم تأخذ أرضها المغطاة بالأتربة ونفايات الخضر وروث 
الدوابٌ في الصعود تدريجيًا حيّى خيّل إليه في الغهاية 
أنْبا مقامة على سفح تل. ومضى الشابٌ إلى البيت رقم 
١‏ وهو بيت قديم من دورين يلفت الأنظار بضيقه 
فكأنه عمود ضخم. وقد جلست غير بعيد من مدخله 
بائعة دوم ولب وفول سودانّ فدخل كالترذد وارتقى 
سلا حلزونيًا بغير درابزين وقد زكمت أنفه رائحة نتنة 
صاعدة من بثر السلمء حيّى انتهى إلى الدور الثاني 
وطرق الباب. كانت الساعة حوالى الحادية عشرة 
صباحًاء وكان أخوف ما يخافه ألا يجد أخخاه في الشْمّة 
وزاد من -حوفه أن أحدًا ل يلب الطارق. وعاود الطرق 
بشدّة ويأس حي كلت يداهء ثم وقف يائسًا لا يدري 
ماذا يصئع. وقبل أن يتحول عن موقفه جاءه صوت 
غليظ من الداخل يبتف بحنق : 

- من ابن الكلب الذي يطرق الباب في هذه الساعة 
المبكرة؟ ! 

ع أنا سين .نا سي ++ 

وقال الصوت بدهشة «حسين؛, ثم سمع خشخشة 
المزلاج وهو يُرفع. وفتح الباب» فرأى أخاه بشعر 
هائج مشْعْث وعينين عمرّتين منتفختين فمدٌ له يده 
وهو يبتفا بدهشة : 

دون الى اهل وسياةه ومحري كنا إنه ا 
الله. ماذا وراءك؟ 

فدحل حسين في شىء من الارتباك» وسرعان ما 
تطاير إلى أنفه عرف بخور طيّب بدا عذْبًا مريحا عقب 


رائحة السلّم. ووجد نفسه في دهليز شبه مظلم تكتنفه 
حجرتان واحدة إلى يمين الداحل والأخرى في مواجهته 
وإلى اليسار المرافق. وابتسم حسين إلى أخيه وقال 
كالمعتذر: 

- هل أتيت مبكُرًا؟. . الساعة الحادية عشرة! 

فتثاءب .حسن طويلا ثم قال ضاحكًا: 

- إفي أستيقظ عادة حوالي العصر. المغشون ليلهم 
نهار ونهارهم ليل. ولكن خارني قبل كل شيء كيف 
حالكم؟ 

- بخير والحمد لله. . . وكيف أنت؟ 

فقال وهو يسير به إلى الحجرة التي إلى يمينه : 

- تجمدة. . . 

دخلا حجرة صغيرة تكاد تقسم مناصفة بين فراش 
وصوان بينها إلى الجدار الداخل كنبة عُلقت فوقها على 
الحائط صورة كبيرة تجمع بين حسن وامرأة لحيمة 
عميقة السمرة قد أعتمدت منكبه بساعديبا المشتيكينع 
فثبتت عينا حسين عليها في دهشة لفتت نظر أخيه 
فتساءل ضاحكا: 

- ماذا يدور برأسك؟ 

فسأله حسين سذاجة: 

- هل تزوجت يا أخي؟ 

فأجلسه على الكنبة ووثب إلى الفراش وترئع عليه 
وهو يقول: 

عاتقريا د 

خخطبت؟ 

الثالثة , , 

الثالئة؟ | 

أعبي الفرض الثالث! 

فرفع الشابٌ إليه عينين داهشتين في وجوم ثم 
ابتسم ايتسامة آلْيّةَ على الرغم منه ولاح في وجهه ما 
يشبه الحياء فضحك حسن عاليًا وقال باستهانة : 

- هي زوجة في كلّ شيء إلا المقلة : 

فسأله حسن فى خوف: 

ألست و.حدك الآن؟ 

فحبى رأسه دلالة الإبجاب. ثم تشاءب بصوت 


مرتفع كالنبيق» ثم قال حذُرًا : 

- طبعًا لن تخير أحدًا؟ 

:.:  اعيظاع‎ 

فضحك حسن وقال: 

لا أحبّ إيذاء مشاعرهم. هذا كل ما هنالك. 
وببذه المناسبة ألم تجرب النساء؟ 

فهر الشات رأسه سلبًا في حياء فسأله مستطردًا: 

- وسحسئين؟ 

فارتجٌ قلبه في خوف والم لى يدر هما سبباء ثم قال: 

- ولا حسئين. . . 

فتفكر حسن مليًا ثم قال: 

- هذا أفضل بالنسبة لكما. . (ثمّ ضاحكا) إذا 
نويت الزواج يومًا فاقصدني أزودك بنصائح عظيمة . 

فقال حسين مهدوء: 

- لست آفكر في الزواج كما تعلم. . . 

- أمن الممكن أن يتروج حسنين قبلك؟ 

فخفق قلبهء ولكنّه قال ببدوء : 

هذا مؤكد لأنه مرتبط بوعد قديم. . . 

فقال حسن بتأثر: 

- على أيّة حال إذا انتهى حسئين من دراسته فليس 
ثمّة عائق. آه. على فكرة» ماذا جدّ من أنباء الوظيفة 
الى تبحث عنها؟ 

وسَرّ حسين بما هيأ له من فرصة يلج بها موضوعه 
فقال: 

- لقد جئتك لأخبرك بأنني تعيّنت كاتبًا بمدرسة 
طنطا الثانويّة؛ وبأئبي سأتسلّم عمل في أوّل 
أكتوبر. . . 
فقال حسن بدهشة : 

هل تسافر إلى طنطا؟ . . وما الفائدة التى تجنيها 
أنّك إذا فتحث بيئًا جديدًا في طنطا؟ ْ 

فائدة قليلة. ولكن ما الحيلة؟ 

ب هذا سوء حظ قارح. وهذه هي نتيجة المدرسة !| 

فابتسم حسين يغالب ارتباكه. ول أطراف شجاعته 
وقال؛ 

- سأسافر في نهاية سبتمبر» وأنت تعلم أن التكومة 


بداية ونباية ١1١‏ 


تصرف المرتبات مؤخرًا! 

وأدرك حسن ما يعنيه قبل أن يتم كلامه. فتفكر 
دون أن يبدو على وجهه شيء ما يدور في نفسه. ثم 
سأله ؛ 

دغؤها المرنن الذي تنتظره؟ 

- سبعة جنليهات , 

- يا خيبتها يوم أرسلتك إلى المدرسة! . . وطبعًا لا 
تملك من نفقات السفر ومعيشة شهر أكتوبر ملَيرا؟ 

فابتسم حسين في تسليم وهو يعجب لما شعر به نحو 
أيه في هذ! الموقف ‏ من الارتباك والحياء كأنه يسأل 
رجلا غريبًا. وجعل حسن ينظر إليه صاممًا وعقله لا 
بني عن التفكير. «جاء حسين في ظرف غير مناسب. 
إن أنتظر نقودًا لا أدري متى تأت ولكنّ يدي الآن 
فارغة. مصفاة لا يبقى فيها شبىء. تيا للها! لا يمكن أن 
أصارحك بالحقيقة لتقم القيامة قبل ذلك. إنه في 
حائخة بملقة ”إن اللقرةه برو بذ أن قصل فلبها: 
مستقبل الأسرة يتوقف على هذه الجحنيهات. وليست في 
الواقع بالكثير» ثمن أوقيات حشيش. وينفق مثلها أي 
فتى أرعن في أسبوع بدرب طياب, سناء مفلسة أيضاء 
م أعد أبقي لما على شيء. ولكن لا بد أن أعينه. 
كيف؟ ولماذا لم يحضر إلا اليوم؟ إلامّ تبقى أسرتنا شوكة 
في جنبي؟!4. وظلٌ ينظر إلى أخيه صامثًا حي امتلذ 
حسين قلقًا وخوفًا. ثم غادر حسن الفراش فجاأة 
وذهب إلى الصوان ففتح درجا وعكف عليه دقائق ثم 
عاد إلى مجلسه ومدّ يده إلى أحيه فإذا فيها أربع أساور 
ذهيّة4:وقال سرغة: 

نخد الأضاترو ويعيا ل إتقبال افاج 

وجمدت يد حسين فلم تتحرّك؛ وانّسعت عيناه 
انرعاجا وإنكارّاء وهتف وهو لا يدري : 

عم ا شاور دن نوه 

فقال حسن ببساطة وقد ضايقه انزعاج الآخر: 

- أساور سناء. امرأي! 

وبأ حق آخخذها؟ 

إِنْ أخاك يعطيك إيّاها. لا شأن لك 


7 بداية وبباية 


بصاحيتها . . 
واشتدٌ انزعاجه وتساءل في امتعاض كيف يعيش 
أخوه؟ ثم تمتم: 
لست مرتاخًا إلى أخذهاء أما من سبيل آخخر؟ 
وحئق -حسن على هذا «التعفف؛ فقال بجفاء : 
إذا كنت حنيايًا حمًا فا عليك إِلَّا أن ترفضهاء 
ولمو كندق غيرها! .. 
فرمقه بارتياب» ولكنّه قرأ في وجهه الصدق فاحس 
بضيق وقهر. «أساور امرأة!.. وأيّ امرأة!. . محال. 
شيء لا يصدّق ولا يمكن أن يدور لي بخلد. ول أعلم 
- ولو في كابوس - بأنه وقع لي. كيف يمكن أن أحترم 
تفيبى بعد ذُلك؟! أرفض؟ والعمل؟! ليس لديه نقود 
أخرى: ينبغي أن أصدّقه. ولكن محال أيضًا أن أضيع 
الوظيفة» وما عسبى أن أصنع لو أفلتت الفرصة؟ كلا 
لا يمكن أن أرفض. 0 لا يمكن أن 
أرفض. لا يمكن أن أقبل. أرفضص. أقبل. أرفض. 
أرفض . أقبل. أقبل . 0 
الحياةء الحياة والحظ . .. والوالدان اللذان أتيا بنا إلى 
هذه الدنيا. كان يلعب بأوتار العود ولا يبالي شيئًا! 
سحمقًا لي» كيف أفكر؟ هيهات أن أذهب من غيّلتي 
ضيورة ا رحمة الله عليهء ليس الذنب ذلبه. 
كالدجاج نلتقط رزقنا بين القاذورات. حجرة الدجاج 
على السطح ملتفى حسئين وببية. 2 تشمئز منه 
8 فلأرفض. ولكن لا حياة إلا بالإذعان. لن 
يدري أحد. حد. ولكفي سأذكره ما حييت» وسأحجل منه 
ما حييت . إِنّه ينتظر الجواب فإمًا الإذعان وإمًا الموت. 
فلآخذها كَذَيْنِ لم مم أقضيه عند الميسرة. إنك تخادع 
نفسك. بل ل مادق ولأقضين دين . ارفض أو للا 
تزعم بعد الآن أنك رجل شريف. إني جائع. شريف 
00 : ا أرفض , تنا للحياة ان أدرك الآن ماذا 
خحى إلى هذا الوكر. أسرة ضائعة وحياة قاسية. 
يجب 43 انسدق الأمر وإلا تفججر رامى 
كالدجاج . . ْ 
ماذا قلت؟ 
ورفع عيئيه في ذهول وقد أَثّْر فيه صوته تأثيرًا يفًا. 


وكانت الأساور ما 
بخجل : 

- إفي أشكر لك كرمك» وأقبله على العين والرأس» 
وأرجو أن تعذّه دَيئًا أقضيه عند الميسرة بإذن الله , , . 

اقبله هديّة إذا شغت» ا وات الات 
اقترضت النقود من 

وأثار ذكر أمّه ألما حادًا في نفسه فوجد امتعاضاء 
وتضاعف هذا الامتعاض وهو يتناول الأساور ويدسها 
ف جيبه ثم قال : 

- يؤسفني أنْنى أزعجتكء. وأظنّ أنه ينبغي أن 
أذهب كي تواصل نومك . . 

فمدٌ حسن له يده بالسلام» وضغط على يده باسماء 
ثم قال: 

مع سلامة الله. بلع تمحيّاتي للجميع» وقل لأمك 
بأنني سأزورها قريبًا. . ٍ 

وغادر الشقّة شاعرًا بغرابة وإتكار. وهبط السلم 
الذي لا درابزين له في حذرء ولكله لم يتنه للرائحة 
النتئة من شدّة إغراقه في تيّار أفكاره. . 

27 - 
كانوا يجلسون بحجرة الإخوة التي ستصبح من الآن 


ورنت نفيسة إلى وجه 


تزال قُُ يلاه . فخفضشس ععينية وقال 


. الأستاذ صبري . 


فصاعدًا حجرة حسنين وحذه. 
حسين فغمر الألم قلبها وهتفت: 

رئاه. هذه آخر ليلة تجمعنا معا! 

احنة الم بطعنة تصيب فؤادها الذي غاكة 
الدهر من الصبر فنوناء ولكنّها ابتسمت. أو رسمت 
ابتسامة على شفتيها الجافتين» وقالت بعطف: 

حسين رجل كامل» وسيعرف كيف يعيش وحله 
دون ارتباك أو اضطراب. وإن مطمئئّة كلّ الاطمئنان 
إلى أنّه لن ينساناء فسيلكرنا دائًا كما سنذكره دائا. 
وهذه هي الحياة يا عبيطة» ومصير كل أسرة إلى التفرّق 
السعيد ‏ على ما به من حزن حيث يمبض كل بدوره 
الحديك. . 

وكان -حسن يعرف أمّه جَيْدًا فأدرك أثها تداري 
حزنها بالحكمة والحزم كعادتها دائمًاء فصمّم على أن 


يعالج وحشة قلبه بالحزم كذلك. لقد بكى مرّة 


كالأطفال ولكنّه لن يبكي مرّة أخرى. وتمتم مقلَدًا أمّه 
في ابتسامتها : 

- سوف نلتقي في الإجازات» ولعلي أنقل يومًا إلى 
القاهرة. فقال -حسئين بأمل : 

لا بد أن محدث هذا يوما ما. . . 

وكان حسنين يجد كآبة وحزنا. لم يفترق عن شقيقه 
مذ رأى نور الدنيا فلم يدر كيف يلقى الحياة بدونه. 
كان شقيقه وصديقه معاء أجل كثيرًا ما نشب النزاع 
بيغماء وبلغ الشجار أحيانًا ولكن لم يكن لأحدهما غنى 
عن الآخر. لو كانت مبيّة أقل عنادًا لما شكا الوحدة 
قطء بيد أنّه بوسعه أن يتعزّى عن الفراق بالرسائل 
يحرها له من آن لآن فتصل ما ينقطع بينهيا من أسباب 
العشرة والحديث؛. ولعله يستطيع أن يسافر إليه في 
العطلة. ترى هل يمكنه أن يجري عليه راتبًا شهريًا؟ 
حمسون قرشًا أو ثلالون خصوصًا وهو يعلم بن راتب 
الدروس الخصوصيّة ينقطع بانتهاء السئة المدرسية! 
ليت شجاعته تؤاتيه الآن فيحدّثه بأمانيه!.. ولكن 
صبراء وليؤجّل هذا إلى فرصة أوفق. 

وكانت الأمّ تواصل التفكّر بلا توقف. لقد وُفقت 
إلى الظهور بالمظهر الذي تحب أن تظهر به. أو الذي 
اعتادت أن تظهر بهء ولكتبا كانت تعانى ألما عميقًا 
بلغت شدّته ذروتها عند المساءء كانت تكابد تأنيبًا خفيًا 
لشعورها بأئّا تؤثر حسنين بأكير جهاد, والآن ماذا 
ترى؟. . ترى الأ الوديع يضحّي بمستقبله ويرمي 
بنفسه بين أحضان النوى في سبيل الأسرةء بل في 
سبيل حسنين بالذات. وضاعف من آلامها أثْهبا كانت 
ترى الواجب يحتم عليها خورض حديث أبعد ما يكون 
عن العواطف, حديث إن دل ظاهره على الحدب على 
الفتى المسافر فباطئه يرمي إلى الدفاع عن الأسرة قبل 
كل شيء. وجعلت تؤجّله وهو يلح عليها حقٌ اقتنعت 
بأئها إذا لى تسقه الآن فقد تفلت منها الفرصة إلى 
الأبد» ونظرت إلى حسين بإشفاق وحنان - وكان يرتب 
ثيابه في حقيبة أبيه - وقالت: 

- إِنْك رجل عاقل؛ وهذا ما يجعلبى جديرة 
بالاطمئنان ولست أطمع في شيء أكثر من أن تواصل 


بداية ونهاية 71415 
سيرتك الحميدة في بلدك الجديد. وأن تحذر صحبة 
السوء. . 

فابتسم حسين قائلا : 

اطمئي كل الاطمئنان يا أمّاه. . 

على أن عبارة «صحبة السوء» استدعت إلى مميّلته 
صورة عطفة جندب والبيت الذي لا درابرين له 
والأساور الذهبية فشعر بفتور أغاض الإشراق الذي 
رسمته الابتسامة على وجهه فانحنى على الحقيبة ليواري 
وجومه عن الآعين. أمًا الأم فاستطردت قائلة باهتهام : 

عرو تسن أن قلق بجنا [وى ننه احية إل 
تنبيهك لهذاء ولكنّنى أحبٌ أن أذكرك بأننا سنظل في 
حاجة إلى رعايتك حب يتوظف حسنين وتتزوج نفيسة! 

ما توظفت إلا لهذا. 

وسَرّتْ في نفس نفيسة قشعريرة رعب» ونفذت 
كلمة «تتزوج» إلى أعماقها وخالتها تنبش ما استثر من 
خبيئتها. ألا يزال هذا الأمل يداعب أمّها؟.. ألا 
تدري أن الموت أحبٌّ إليها منه؟ ونظرت إلى وجه 
حسين بغرابة؛ إِنه لا يدري؛ وهيهات أن يخطر لهم 
هذا عبى بال. هيهات هيهات. وغابت الحجرة عن 
عينيها فخيّل إليها أنْها تراهم وقد أحدقوا بها في ثورة 
جنونيّة وقد جحظت أعينهم ملتهبة بنار الغعضب ثم 
انقَضُوا عليها كالوحوش. وهزت رأسها لتطرد عنها 
أشباح هذه الأوهام المرعبة فعادت إلى حاضرهاء ولكن 
سرعان ما وجدت نفسها تتذكر على الرغم منها 
ساعات ضعفها تلك الساعات التي تذهل فيها عم 
يدفعها إلى تسليم نفسها من دواعي اليأس والفقرء 
هنالك تسى كل ثىء إلا الرغبة المحرومة اللمائعة 
فتمثل بنفسها أفظع تمثيل. تذكرت ساعات الضعف 
هذه وهي بينهم صامثة فعلاها خحجل أليم وخوف لا 
قبل لها بهء وعادت تردّد بصرها بين أمها وشقيقيها 
بغرابة. ما يزال أمامها فرصة للتراجع. لا لرأب 
الصدع طبعًا فقد ول أوانه» ولكن. ..» ربّاه لا 
تدري ماذا تقول ما الفائدة؟ أي أمل قد بقي في 
الحياة؟. . لقذ قضى عليها بأن تقضى على نفسها. . . 

واصلت الأم عزنا قائلة : 


5 1" بداية ونباية 


- أنظر ماذا يلزمك من نقود كي تنبض بضرورات 
المعيشة وأرسل إلينا الفائفض من مرتّبك. لا بد من 
هذا يا حسين لأنه لم يعد يبقى لدينا ما يستحقٌ البيع . 

- سأبذل قصارى جهدي . 

وتبدّد أمل حسنين - أو كاد من الفوز براتب 
شهريّ من أخيه بعد أن طالبت الأمّ بالفائضص من 
مرئّبه. أجل لا يبعد أن تحسٌ الأسرة بشىء من الترفيه 
ركه ليور وويسانت ند امه فى المطلة اعد 
الطويلة . ترى هل تطالبه أمّه إذا وظف يومًا ما با 
تطالب به حسين؟ غير معقول. إذا انتهى هو من 
دراسته فستخئف أمّه من أثقل واجبات الآسرة. 
ويسعه وقتذاك أن يتزوج وأن يعنى بأمر نفسه. إن 
نفيسة وحسين يتصدّيان للروبعة في إبَائهاء» وقد وجد 
نحوهما عطفًا ورثاء دون أن بمنعه هذا من الفرح 

ولم تفرغ الأمّ من الإفصاح عا يدور بنفسها كله 
فودّت لو تحذّره من أن يستدرجه أحد إلى الزواج. ول 
تكن تجهل أنْ كثيرًا من الآباء والأمهات يتصيّدون 
العزاب أمثاله في غربتهم بسهولة : ولكتّها لم تدر كيف 
توجّه إليه هذا التحذير وعن يمينه أخوه الأصغر قد 
خطب وتهبًا للزواج وهو ما يزال تلميدًا!.. عدلت 
عن رغبتها كارهة. ولكن مطمئئّة في الوقت نفسه إلى 
رجاحة عقله وحسق تقديرة.: :وتحدكوا طويلة ما كاء 
لهم الحديث, ثم جاء فريد أفندى عَحمّد وأسرته لتوديع 
واستقبلوهم ما يستقبلوهم عادة بالترحيب 
والسرورء فليس ثمّة أحد إلا ويقدّر مودّتهم وكرمهم 
وحسن جيرتهم. أجل لعلّه طرأ على بعض النفوس 
تغيّر باطبيّ منذ تمت خطبة حسنين لبهيّة غير الرسميّة, 
فالأمٌ مئلا آمنت بأئّهم رموا شباكهم حول الفتى قبل أن 
ينبض» وأئْهم راموا باستئثارهم أشدّ آماها تلق أمَا 
نفيسة فلم يكن بوسعها أن تحب شخصًا يطمح إلى 
امتلاك حسنين خاصّة. ولكنٌّ هذه المشاعر الصامتة لم 
تكن لتؤثر في رابطة الودٌ والإخاء التي تجمم بين 
الأسرتينء ولم يكن من اين أن تنسى الأمْ أيادي فريد 
أفندي ومروءته. وقد سر حسين بزيارة التوديع سرورًا 


حسان , 


كبيراء ووجد نحو الأسرة التى يحبّها ‏ الآب والأم 
والفتاة وتلميذه السابق ‏ امتنانًا عميقّاء وجرى الحديث 
بين ذكريات الماضى وآمال الحاضر لطيفًا صادقاء 
يناركلا غنات «الوظفده داقن مصدر ةا اللاي 
ستترك وراءك وحشة» لقد خسر سالم أستاذًا لا 
يعوؤض0. إلخ وببيّة نفسها على حيائها وتحمْظها قالت 
برقة «تعود بالسلامة قريبًا إن شاء الله فشكر لما 
تلخلقها ملسانة وقلة وفنا حسناة حماء. مهلرة عشم 
وحسنين شاتٌ رائع وسيكون زوجًا رائعًا. ترى ألم 
يقل هذا الئغر؟ طلما شكا تحصّبا متذْمّرًا فيا لها من 
كاه نادرة مدنا | اسان عد وسمون كر دوذ كرواته 
وستجتمعون كاجتتماعكم هذاء ورثما لا تذكروني إلا 
فليلاء أو لا تذكرونني بتأثّاء ولكن كيف أكون؟ وأين؟ 
وهل أملك مع وحدتي إلا أن أذكركم؟ كلما اشتدٌ 
الدهر ازددت قوة وصيلاء ولأظلنٌ هكذا إلى 
الأبد! . . » 
- 58 - 

غاب وجه حسنين في زحمة الموذعين». وتراجع سقف 
محظة مصر الغرميّ حيّى بدا من الداخل مظلاء كل 
شىء يتراجع بسرعة متزايدة؛ وداعا يا مصر. وعاد 
حسين برأسه إلى الداحل واعتدل في جلسته وهو 
يغمض عيليه ليخفي دمعة رقيقة غالبت إرادته طويلًا 
ورمش سريعا لينفض نداها عن أهدابه. وكان إلى 
يساره أفنديّ يتصفح جريدة على حين جلس قبالته 
قرويّان يتجاذبان الحديث ومع أنْ العربة كانت نصف 
متلئة إلا أنّ ضِبّة الراكبينَ كادت تعلو على صلصلة 
عجلات القطارء وذكر في حزن فوطت شتروواو انال 
دمعة في عيتي حسنين» أجل لقد تجلّدا وما يتحادثان 
على طوار المحظة. ولكن حين تحرّك القطار وأخذ الفتى 
يلوح له بيده اغرورقت عيناه بالدموع. وفي البيت 
كانت نفيسة تبكي صراحة حيّى التهبت عيناهاء لشدٌ 
ما يذكر وجهها ‏ الذي حرمه الله نعمة الحسن ‏ 
بعطف ورثاء وحنان. أما أمّه ‏ وقد ابتسم على رغمه ‏ 
فقد ضمّته إلى صدرها وقبئلت خذّيهء ولعلّها تفعل 
هذا لأول مرّة» أو في الأقلٌ فهو لا يذكر أمْها قيلته قبل 


هذه المرّة! لشدّ ما تأخذ نفسها بالحزم حيالهم. هذا 
طبعهاء ولكن هيهات أن يطمس حنانها العميق. ولم 
نشأ أن تبكي وهي تودّعه إذ أنها تتشاءم من دموع 
التوديع» ولكنّه قرأ في تقلُّص جفنيها نذيرًا بالبكاء لا 
يلبث أن يستفيض دموعًا إذا واراه الباب عن عيئيها. 
قال لنفسه لعلّها بكت طويلا ولعلّها لا تزال تبكي. 
وشعر لهذا بكآبة وحزن. ولم يكن رآها تبكي قبل وفاة 
والده فاشتدٌ تأثره. «يا لما من امرأة عظيمة. شاء الله 
أن يبتلي أسرتنا بمصيبة قاصمة وأ سبق لطفه فقدّر 
أن تكون هله المرأة أمنا. ماذا يكون مصيرنا لولاها؟ 
كيف غذّتنا وكستنا؟ كيف سيطرت على توجيهنا؟ كيف 
مضت بضرورات أسرتنا في هذه الظروف القاسية؟ يا 
ها من معجزة تحيّر العقول. حبّى حسن أخي ففي ظني 
أنّه لولا المرحوم أبي لأمكن أن تجعل منه رجلا غير 
الرجل. آه. . . لأقتصدن في الكلام عن حسن . لولاه 
ما عرفت سبيلي إلى وظيفي» نقوده هي كل مالي حي 
آخر الشهر. الأساور؟ يا للذكرى! السشء ينيغي أن 
أنسى كي أعيش. سأقضى الدين يومًا وأسدل الستار 
على أسوأ الذكرياث». 0 بصره من النافذة فارًا 
من أفكاره فرأى الحقول تترامى حثّى الأفق» والخضرة 
يانعة ناضرة بمبيجة قيل رءوسها مع المواء في موجات 
متّصلة. وهنا وهناك فلاحون وثيران تلوح كالدمى 
تكاد تبتلعها الأرض» وسوائم ترعى» وفوق هذا كله 
ساء الخريف متلفعة ببياض شاحب ينحسر في أكثر من 
موضع عن بحيرات من زرقة صافية. ومر القطار 
بجدول صاف ذابت أشعّة الشمس على سطحه زثبقًا 
يبهر الأعين. ورأى أسلاك البرق في أمواجها المتواصلة 
تشملها حركة منتظمة كأنها تسبح في الفضاء على وقع 
طقطقة القاطرة الرتيبة. ثم مد بصره كرّة أخرى إلى 
الأرض المنبسطة, الصامتة الصابرة» الخثرة» فذكر 
دون وعي أمّه! . . كهذه الأرض اللنضراء صيرًا وجودًا 
والدهر يحرثها بسنانه! لم يعد بوسعها أن تقوم بزيارة 
محترمة لأنها لا تجد الثياب اللائقة! وتغيمت عيناه 
فغابت عن ناظرّيه مبجة المنظر ودعا الله أن يرزقه حبّى 
يرفه عن أمّه المتصيرة وأسرته المتجلّدة. «يا للعجب. 


بداية وخباية 1516 


إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة. مع هذا يقال عثا إنّنا 
شعب راض . هذا لعمري منتهى البؤس. أجل غاية 
البؤس أن تكون بائسًا وراضيًا. هو الموت نفسه. لولا 
الفقر لواصلت تعليمي هل في ذلك من شكٌَ؟ الحاه 
والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية. لست 
حاقدًا ولكبّى حزين. حزين على نفسي وعلى الملايين. 
لست فردًا ولكتني آمّة مظلومة, وهذا ما يولّد فّ روح 
المقاومة ويعزيني بنوع من السعادة لا أدري كيف 
أستيه: كك لست حافذا ولا يانسًا أيضاء. وإذا كانت 
فرصة التعليم العالي قد أفلتت من يدي» فلن تفلت 
من يد حسئين» وريما وجدت نفيسة الزوج المناسب. 
سوف تردٌ الروح إلى أسرتنا فلذكر أيامنا السود 
بالفخار» وللاحت منه التفاتة إلى يساره فوجد الأفندئ 
الذي كان يتصفْح الجريدة قد طواها ونظر إليه نظرة 
مْن ضاق بالوحدة والصمتء» وكأنه كان ينتظر هذه 
الالتفاتة العارضة فقال بلا داع ولا تمهيد وهو يلوح 
بالحريدة المطوية : 

لولا الطلبة ما ائتلف الزعاء» من كان يتصوّر أن 
يجلس صدقي مع النخاس على مائدة واحدة؟ 

ورب حسين بالحديث لبريح رأسه من أفكاره 
وقال: 

هذا حق يا سيّدي . 

- ومن كان بصدّق أن يعترف الإنجليز بأنْ مصر 
دولة مستقلة ذات سيادة. وأن ينزلوا عن التحفّظات 
الأربعة؟. . أتظِنٌ أن تلغى الامتيازات حهًا؟ 
أعتقد هذا. 

فقال الرجل بسرور: 

- سيحكم النحخاس إلى الأبد. التهى عهد 
الانقلابات. حضرتك وفدي . 

الخو 

- قرأت هذا في سياحة وجهك. الوطبيّ هو 
الوفديّ» وما الأحرار الدستوريّون إلا إنجليز بطرابيش 
بصرف النظر عا يقال عن الائتلاف وفوائله. 

هذا حقّ لا شلك فيه., . . 

- حضرتك مسافر إلى الإسكندرية؟ 


5 بداية ونباية 


- إلى طنطا فقط . 

شبى الله يا سيّد يا بدوى» لقد عشت في طنطا 
أغواةاة بن 

ولاح الاهتام في وجه حسين فسال: 

- إن موظف جديدء فهلا دللتني على فندق معتدل 
الأسعار يصلح للإقامة؟ 

فجعل الرجل يدعك ذقنه بيده متفكرًا ثم قال: 

- عليك بفندق بريطانيا بشارع الأمير فاروق 

يمكن أن تقيم في حجرة نظير جنيه ونصفف 
شهريًا. . 

ثم تحدثا طويلا عن الإقامة في الفنادق وسكنى 
الشقق والمفاضلة بينبها. . . 

1د 

كانت حجرته بالفلدق صغيرة» ذات فراش 
لشخص واحد وصوان ومقعد حَشبئ ومشجبء. وكان 
جوها يشى بالرطوبة الكامنة. إذ كان مها نافذة واحدلة 
يمع عل عيلية تار ية رجنة وضر اه يننا وين النفناء 
جدار بيت قديمء فلم تجد الشمس سبيلًا إليها. وكان 
يوجد بالفندق حجرات تطل على شارع الأمير فاروق 
ولكمها مرتفعة الإيجار فعدل عنها إلى هذه الحجرة 
البسيطة قائلا لنفسه: «من العدل أن أعيش كما 
يعيشون في عطفة نصرالله». وكان أل ما فعل أن فتح 
النافذة وأطل منها مدفوعًا بحب الاستطلاع فوقع بصره 
على عطفة حقيرة تقوم على جالبيها بيوت قديمة فعجب 
للفارق الكبير بينها وبين الشارع الذي تتفرع منه. ثم 
رأى جدار البيت الذى يحجب عنه الفضاء فداخله 
ضيق وأيقن بأنه لن يظفر في وحدته بتسلية. وتحول 
عن النافذة إلى مرآة الصوان فطالع صورته في هيئة 
غريبة» بدا وجهه طويلًا وقساته شائهة إلى ما تنائر 
على صفحتها الباهتة من إفرازات الذباب» فتضاحك 
وقال مخاطبًا صورته «إنى أجمل منك بفضل الله ورحمته؛ 
ثم مضى يخلع ثيابه» وارتدى جلبابه» ورتب ملابسه 
القليلة في الصوان الذي بدا على صغره فارغاء والواقم 
أنه لم يكن يملك غير بدلة وجلبابين وملابس داخليّة 


من نسختينء وججميعها قديمة عملت بها يد الرفو 
والترقيع . وعلى سبيل الاطمئنان دس يله في جيب 
الجاكتة وأخرج رزمة الجنيهات وعدّها ثم أعادها إلى 
مكانها وقد عاودته ذكرياتها الأليمة. ثم ذهب إلى 
الفراش وتربّع عليه. لا يدري ماذا يفعل في بقية 
الهار. ولمًا لم يجد أحدًا يحادئه ولا عملا يعمله فقد 
استسلم بكليّته إلى التأمّلات والأحلام. وشعر بالوحدة 
والدهشة. وأدرك أنه سيعاني مر العناء من فراتمه. 
أجل إِنَّه يحبٌ القراءة ولكن حبّى إذا أمكنه ابتياع ما 
بريده من الكتب فسيظل لديه من الفراغ ما يضيق به. 
لم يألف الحياة في هذا الصمت الثقيل؛ وشعر في 
وحدته الصامتة بأنه شيء ضائع تافه لا يحفل به أحد 
ولا يأبه له أحد. أين صوت حسنين الحادٌ العصبيٌّ 
الذي لا يفتأ يضح بالضحك أو بالشكوى. أين صوت 
نفيسة الرفيع وتعليقاتها اليومية الساخرة على الجيران 
والحوادث. ولكنّه لم يشأ الاستسلام لشعوره. وآثر أن 
ببحث شئون ميزانيته الى سينظم معيشته على 
أساسها. مرئبه سبعة جنيهات. مبلغ لا بأس به في 
ذاته لولا ما يحدق به من ظروف. منه أجرة سكن 
١‏ قرشاء و١٠٠7‏ قرش للأكل لا يجوز له أن يتعدّاها 
بحال. فول للفطورء وطبق خضر باللحم وأرز 
ورغيف للغداء. وحلاوة طحينية أو جبن للعشاء. 
وإذا دعا الأمر أقلع عن العشاء كما اعتادوا أن يفعلوا 
طوال العامين المنصرمين؛ ومهما يكن من أمر فلن 
يسمح لمعدته بأن تكون مصدرًا للمتاعب والارتباك, 
إنه أعظم من هذا وبوسعه أن يقرّر هذه الحقيقة الآن. 
وهو في مأمن من معارضة حسنين, وإِنّ تحمل المضايقة 
في سبيل الحياة التي يرضى فيها عن نفسه لألذ من 
شهوة الطعام. ثم ٠٠١‏ قرش لأمَهء وهو قدر زهيد. 
وكان بودّه لو يضاعفه ولكن لا حيلة له فلم يبقّ لنفقاته 
النثريّة وكسائه إلا ١٠١‏ قرشًا فيها عدا الضرائب التي 
تخصم عادة من المرتّب. ثمْ تساءل فيها يشبه الحيرة ألا 
يمكنه أن يقتصد ولو مبلعًا قليلا في صندوق التوفير؟ ! 
إنه لا يطيق الحياة بلا اقتصاد من أيّ قدر كان, ولا 
يظنّ أن إنسانًا احتضنته أمّ كأمّه يستطيع أن يمارس 


الحياة بلا اقتصاد. والحقٌ أن أمّه بين النساء كألانيا بين 
الدول قادرة على الاستفادة من كل شىء ولو كان 
زبالة! كانت ترقع البنطلون حيّى إذا بلغ اليأس قليته 
فإذا أدركه اليأس مرّة أخرى قصّت أطرافه وجعلت منه 
شرؤالة داعتليا: ثم تصنع من بعضه طاقيّة وتستعمل 
بقيّته ممسحة. ولا يلفظه البيت إلا فتيئًا. لا بد من 
الاقتصاد مهما كلفه الأمرء وإِنّ قسوة الحياة التي 
عضتهم بلا رحمة لخَريّة بان تجعل من الاقتصاد عقيدة 
لهم. وعندما بلغ هذا الحدّ من التفكير تداعت إلى 
نفسه مشاعر الخوف التي كانت تعذّب أسرته بسبب 
وبلا سبب والتي لم يكن من باعث لها إلا الفقر. أجل 
كانوا في خوف دائم من أن تزيد النفقات الضرورية 
على الإيراد المحدودء كأن يتعرض أحدهم للمرض, 
أو جد من ناحية المدرسة طلبء» أو تتعطل نفيسة عن 
الكسب ردحًا من الزمن 
حك أؤاه لشدٌّ ما يشعر بغمز الألم في صميم قلبه وهو 
يجترٌ هذه الذكريات». ومن خلالها يتراءى لعينيه وجه 
أمّه المعروق الحافٌ كمثال حي للصبر والآلى. | 

الوجوه إلى قلبه على بؤسه ودمامته؛ ومن عجب أن 
نفذت إلى نفسه ‏ وقتذاك - نسمة مطلولة بغتة لشعوره 
بأنه بات قادرًا على التخفيف عنها مما يثقل كاهلها. 
أجل إِنه من الغد موظّف من موظفي الذدولة» وبعد 
أعوام قصيرة أو طويلة يصبح حسنين موظّفًا أيضًا من 
درجة أعلى» وسيفاخر هو مدى الحياة أنه قنع بشهادة 
متوسطة لبيشر لأخيه الحصول على شهادة عليا. ترى 
هل يذكر حسنين هذه العبر؟ إِنّه يبدو مشغولا بأمر 
نفسه عبا عداهاء ذكيّ بلا ربيب. ومجتهد. بيد 
أنه. . . آه فليمسكِ عن نقده في غربته. فيا أشدٌ 
حلينه إليه؛ وما أكبر شوقه حيّ إلى عناده وملاحاته. 
ومزق الصمتٌ صفير قطار قطع عليه أفكاره وخفق 
قلبه. وكان الفندق غير بعيد من المحطة. فلم يكن بد 
من أن تذكره القطر بين آن وآن بالقاهرة وأهلها. 
وعاودته ذكريات الوداع فنبشت قلبه حيّى سم حنينًا 
دافقًا. ثم غشيت قلبه سحابة مظلمة من الوحشة 
والكآبة فقال لنفسه يصبرها ويعرّيها: لعلها ضريبة 


أو أو أو مما لا يقفف عند 


بداية ونباية 217 ؟ 


اليوم الأول للفراق ثم يبون الأمر رويدًا رويدًا. وتحير 
ماذا يفعل» هل يقضىي سحابة اليوم في هذه الحجرة أو 
ينطلق إلى الخارج ليجول جولة في المدينة الجديدة» ثم 
خطر له خاطر هبط على نفسه كما تببط أداة النجاة على 
الملحخبط بين الأمواج. وهو أن يكتب رسالة لأخيه. 
وجاء بخطاب وبدأ يكتب بلا قوان فوصف رحاشه 
والفندق وصاحبه قسطندي وحجرته وأشواقه ثم حمّله 
تحيّاته إلى أمّه ونفيسة ثم توقّف متسائلًا هل يهدي تميّة 
إلى عبية؟ هل يذكرها بالاسم. أو يصفها بخطيبة أخيه 
أو يقنع بتحية عامة لأسرة فريد أفندي؟ ثم آثر الأخير 
بعد تردّد طال أكثر مما ينبغي . . 
005 5 

وغادر حجرته في الصباح الباكرء ولكنه وجد 
الخواجا ميشيل قسطندي جالسا إلى مكتبه البالي عند 
أسفل السلّم. وقد سأله الرجل عمًا إذا كان يحتفظ 
بشىء ثمين في حجرتهء فابتسم حسين على رغمه وقال 
له «الأشياء الثمينة في جيبي». وانطلق إلى الطريق . 
ثم قصد إلى مطعم فول في نبايته كان عرف موقعه في 
أثناء جولته أمس بالمدينة» وتناول فطوره. ولفت نظره 
بصفة خاصة سلطة حمص لم يعرف لما نظيرًا في 
القاهرة. وَتَمّى في المديئة حيّى التاسعة ثم ذهب إلى 
المدرسة الثانويّة ليقدّم نفسه إلى الباشكاتب ويتسلم 
عمل رمسا .ولك :اهتاتة زنمية اراق المترمصة: 
وعاودته ذكريات قريبة حية لاحت في عينيه كالم . 
وعرّف البواب بشخصيته فمضى به إلى حجرة 
الباشكاتب وطلب إليه أن ينتظر حتّى يحضر الرجل عم 
نبل واس نون عل اقيق رامق لحني 
وجعل ينظر خلل الباب المفتوح إلى فناء المدرسة في جو 
يئثقل عليه الصمث. بعد أسبوح يبدأ العام الدراسي 
0 ا 
أشهر - يقضى أسعد أوقاته بالمدرسة في مثل هذا 
الققاي مركيلب كان عدر خيقر نا سال أل رطق بين 
موظفيها. إِنْه الآن أحد هؤلاء الموظفين» بيد أنه لم 
يستسلم للزهو. إن التلميذ حلم أمّا الموظّف فحقيقة 
التلميذ مشروع مستشار أو وزير أمّا الموظف فدرجة 


بداية ونباية 


امنة لا أكثر. ولم يطل به الانتظار فما عنّم أن صككت 
أذنيه سعلة غليظة ونحنحة عميقة ثم أزيز بصقة, 
ورأى على الأثر رجلا يقتحم الحجرة مهرولاء قصير 
القامة. رقيق الجسم. كروي الوجه. أعمش العينين» 
تعلوه صلعة ناصعة البياض» وقد قبض على طربوشه 
بيد وراح يجنف صلعته بمنديل باليد الأخرى» وما إن 
وقعت عيناه على الشابٌ حتّى صاح به: 

- بسم الله الرحمن الرحيمء كيف طلعت هنا؟. . 
هل بت ليلتك في حجر؟ . . تلميذ مستجدٌ!؟ 

فوقف -حسين مرتبكا وقال: 

- أنا يا بيك الكاتب الحديد حسين كامل عل. . . 

فقهقه الرجل ضاحكا. ولكن أدركه السعال 
وعاودته النحنحة فامتلاً فمه مرّة أخرى ونظر حوله في 
حيرة؛ ثم جرى إلى الخارج. وغاب نصف دقيقة لم 
عاد أحسن الا وهو يقول كالمعتذر: 

- لعن الله البرد أصاب به كل مطلع فصل من 
فصول السنة فتجدنى في حيرة دائمة ما بين فصول 
السئة وفصول المدرسة. لا مؤاخذة يا حسين أفندي 
السلام عليكم أوَلا. . . 

فمذ حسين يده مبتسمًا وهو يرد تحيته بأحسن منباء 
ثم جلس الرجل إلى مكتبه ودعاهه إلى الجلوس 
فجلس. وأنشأ الباشكاتب يقول: 

- إسمي حشان حسّان حسان. العادة في أسرتنا أن 
يتسمى الابن الأكبر باسم أبيه» ألم تسمع بأسرة حسّان 
بالخيرة؟ كلها كلا كلد باستدئن الله الحو 
التلاميذ الكلاب يدعونني بحسّان أس". ْ 

فضحك حسين ملء قلبه؛ ولكنّ الرجل حدجه 
بنظرة انتقاد من بصره الأعمش وقال : 

- علا تضحك؟ ألم تتخلص بعد من عفليّة 
التلاميذ؟ ويبذه المناسبة أقول لك إني رجل عصبىٌ 
جدًا ولكن قلي ميب. وكثنا ما ألمن إبا أحسن 
واحدء بلا قصد سيّئ ومع الاحترام الكل للشخص 
الملعون! فافهمني ولا تنس أن في سن والدك! 

فقال حسين في ارتباك شديد: 

- لن يحصل بيئنا ما يثير الغضب إن شاء الله . 


- إن شاء الله. أحببت أن أعرّفك بنفسي. هذا كلم 
هنالك . إن ألعن نفسبي كثيرًا. اللعن مريح في أحابين 
لا حصر لماء ولولاه لمات كثيرون كمدًا. ستعلم عما 
قريب معنى العمل في مدرسة (ثمْ متتّدًا) وصل 
الكتاب الخاص بتعييلك من الوزارة (وبحث عنه في 
أوراقه حبّى وجده) وهو الرقيم ١١76‏ بتاريخ 5١‏ من 
سبتمبر سلة 19175. وقد جثتنا ونحن في أشد اللحاجة 
إليك. وستبدأ الآن في مراجعة كشوف الأسماء 
والمصروفات. لقد تتزوج الكاتب السابق من كريمة 
مفتش بالوزارة فنقله فجاة إلى القاهرة. حضرتك 
متزوج يا حسين أفندي؟ 

فقال حسين مبتسما ؛ 

- كنت تلميدًا حيّ الربيع الماضي ! 

- وهل تظنّ أنْ التلمذة مالعة من الزواج؟ لقد 
تروجت وأنا تلميذ بالثانوي, وهذه أيضًا من عادات 
أسرتنا كتسمية الابن الأكبر باسم أبيه» وكان لنا 
عادات أخرى عظيمة أبطلها صدقي باشا لا سامعه 


لط 


ألله . 
قائلا : 

- والدي حسان بك وفديّ كبير وأحد أعضاء اطيئة 
الوفديّة. وقد طالبه صدقي باشا أثناء حكمه المشئوم 
بالانفصال عن الوفد ولمّا أبى كما ينتظر منه حرمه 
معونة بدك التسليف في عر الأزمة فبيعت الأرض 
وضاعت الثروة. 

فقال حسين: 

ولكنّ الننّاس قد عاد إلى الوزارة؟ 

5 ولكنّ الأرض ضاعت , والأدهى من هذا كله أن 
صدقي انضم إلى الوطنيين وقد خطب أوْل هذا العام 
في مستقبليه بدسوق فبلغهم تحيّات «زعيمي النسحّاس» 
يا خسارتك يا حسان حشسان حسان! 


فتظاهر حسين بالتأئر وغمغم : 

ربنا يعؤوضكم عن خسارتكم خيرًا. . . 

فهر الرجل رأسه؛ وسكت دقيقةع لم قال : 

- حطّلك سعيد إذ عُيّت في المدرسة بعد أن ولى 


عهد الإضرابء كادوا يحرقون بنا المدرسة أثناء 
المظاهرات الأخيرة لعن الله المظاهرات والطلبة وصدقي 
باشا. أين تقيم يا حسين أفندي؟ 

في فندق بريطانيا. 

فندق؟! تحيّبك الله معذرة؛ أعنى سامحك الله . 
الفنادق مقام غير صالح للإقامة الطويلة ويجب أن 
تبحث فورًا عن شقة صغيرة. 

ولكتّى لم أحمل معي أثانًا؟ 

فتفكر حشان أفندي وهو يقرض أظافره باهتمام 
طارى ثم قال ؛: 

- فرش حجرة لن يكلفك كثيرًا ويمكن أن تؤدّي 
لمنه مقسّطًا بضمانتي إذا شئث. . 

وعاود التفكير وهو يتفرّس وجه الشاب واستطرد : 

- توجد شانّة مكوّنة من حجرتين على سطح البيت 
الذي أقيم فيه لن تزيد أجربمها عن جنيه واحد فم 


رأيك؟ 
ثار إهتهام حسين لأول مرة بعد سباع قيمة الويجار 
فقال: 


سافكر في الآمر جِدّيًا. . . 
الأمر واضح مثل ١ + ١‏ - 7 والآن هلم إلى 
العمل فإِنْ الأوراق أكوام مذ تروج ابن القديمة ونقل 
إلى القاهرة. . 
6١‏ - 
وقرّر حسين أفندي أن يبقى في الفندق حبّى يتسلم 
مرتّبه أوّل الشهر الحديدء وأخذ بقتسم بممرور الأيام 
بوجوب الانتقال إلى شقّة خاصّة يتهيّا له فيها الشعور 
بالاستقرار والطمأنيئة على وجه أفضل. وكان حسان 
أفندي دائبًا على تزيين فضائل الاقامة في شقة له. حي 
هل الشهر الجديد فابتاع له فراشًا وصوانًا صغيا 
ومقعدًا بحوالي الجنيهين تم الاثفاق على أدائها على 
أربعة أقساط بضمان حسّان أفئدي» ولمًا كان إيجار 
الشقّة جنيهًا فلم تزد نفقاته شيئًا. وكانت الشقّة 
الجديدة تشغل نصف سطح البيت الذي يقيم حسّان 
أفندي بطبقته الوسطى» وكانت مكونة من حجرتين 
غير المرافق. فأغلق الشابٌ حجرة لعدم الحاجة إليها 


بداية ونباية 149؟ 
وفرش الأخرى بالأثاث الحديد وكان للحجرة نافذة 
نطل على شارع ورم الله حيث يوجد مدخل البيت - 
وينسرح أمامها الفضاء بلا عائق لارتفاعها عا حوضاء 
فشعر الفتى ‏ يعد ضيق ‏ براحة الفضاء وطلاقة الوق 
وسُرٌ لذلك كثيرًا. وكان يوم انتقاله إلى الشقّة الجديدة 
يونا سعيدا عقا إذ: إل وجل لفسة ب لأرل :هرةا فى 
حياته - صاحب بيت وأثاث ومرتّب. ولم يكن نسي 
ذلك الإحساس اللطيف بالارتياح والسرور الذي 
انبعث في نفسه وهو يتسلّم مرتّبه صباح ذلك اليوم. 
ولا كيف دارى ابتسامة انطلقت من قلبه إلى شفتيه 
حياء أن يطلع الصراف على فرحهء ولكنٌّ هذا السرور 
كله لا يعد شيئًا إلى السرور الذي امتلأ به قلبه وهو 
يبعث بالجنيهين إلى أمّه. كانت لحظة عظيمة عرف 
أثناءها أن صيره الطويل لم يذهب سدّى. وما كاد 
يستقرٌ به المقام حبّى زاره حسّان أفندي مهئنًا وقال له 
ولن تكون غريبًا ما دمت بيئنا» فشكر له فضله وحفظ 
له في نفسه من الامتئان ما هو خليق بقلبه الشكورء 
وغفر له ما يلقى منه في المدرسة من حدّة الطبع وسوء 
التصرّف والارتباك في العمل. والحقٌ أنه قد ألف 
هوسه متعزيًا بطيبة قلبه وشفّة روحهء ول يرضٌ حسّان 
أفندي أن يتركه منفردًا ودعاه إلى قضاء سهرته بشرفة 
شقّته فذهب معه مغتبطا وجلسا معًا وحسّان أفندي 
يقول : 

- يبدو لي أنك لا تحبٌ المقاهى فاجعل من هذه 
الشرفة ناديك الليلٌ. . . 

وكانت الشرفة مهيأة للجلسة الطيبة ففى جانبها 
الأيمن كرسيّان كبيران من القش بيههما خوان وفي 
الحانب الآخر شلتة كبيرة تقوم وراءها وسادة؛ وعلى 
خوان في ركن من الشرفة وضعت صيئيّة صَفْت بها 
لان وإبريق وقد عام على الماء المجتمع ني وسطها 
الليمون البنزهير. وراح حسان أفندي يتحدّث بلا 
توثّف تقريبًا وكيفا اتفقَ. وقد بدا في جلبابه 
الفضفاض أصغر منه في البدلة فلم يكن شيئًا يذكر. 
أو كان لسانًا فحسب. ورب حسين بالجلسة لما عاناه 
من الفراغ في الأسابيع الماضية» فلم يكن يدري ماذا 


0 بداية ونباية 


يفعل بالوقت» ول تنفع القراءة في تزجية فراغه إِلّا 
قليلاء لا لأنّه كان يضيق بها ولكن لأنَّ نقوده لم تسعفه 
بشراء ما يحب من الكتب فاكتفى مضطرا بكتاب غير 
الجريدة اليوميّة. وجرّب الاخحتلاف إلى المقهى ولكنّه لم 
بهش له وخخاف أن يجرّه إلى بعثرة نقوده المعدودة فيا لا 
يجدي زكاك بطلعة.تخريضًا :لهذا كله رحب بلاضوة 
حسّان أفندي وصدقت نيّته على أن يجعل منها تسلية 
حجوبة مها كلّفه هذا. وتأدّى الحديث إلى الشقّة 
الحديدة فقال حسان أفندي : 

لا همك تنظيف شقّتك فقد أمرت الخادم بأن 
يتعهّدها بالتنظيف كلّ صباح». وسوف أوصي غسالة 
تعرفها «الجباعة» بأن تذهب إليك كل يوم جمعة. 

فشكر حسين صنيعه في حياء وتأثّرء ولكنّه تضايق 
بعض المضايقة لأنّه كان يستطيع أن ينظف حجرته 
بنفسهء ولأنّ قيام الخادم بهذه الخدمة اليوميّة يوجب 
عليه أن ينفحه ببعض النقود بين آنِ وآخر الأمر الذي 
لا يمكن أن يتقبّله بارتياح. وضحك حشان أفندي 
بسرور ثم قال: 

أما مفاجأة المفاجات التي أعدّها لك فهي 
النرد. . . هل تجيد لعبها؟ 

فقال حسين بسرور: 

بعض الاجادة. . 

فغادر الرجل الشرفة في حماس ثم عاد بالنرد 
ووضعها على الخوان وهو يقول بفخار صبيان : 

أنا بحمد الله خير من يلعبها بالوجه البحري» 
وريما بالقبي الما 

ست حسين حمًا ببذه التسلية التي لم يكن يتوقّعها 
وتساءل: 

عادة أم حبس؟ 

فقال حشان أفددي بثقة : 

اختر لنفسك ما تشاءء. إنك على الحالين 
لغلوب. . . 
وبدءا يلعبان. وقد انضح مسن أن حسّان أفندي 
يرثل وجه المستمع إليه عن قرب برذاذ ريقه إذا حادثه 
فأمل أن يلهيه اللعب عنْ الكلام» ولكنّه كان يواصل 


اللعب والكلام معّاء وكان اللعب نفسه بهيئ له فرصا 
لا تنتهي للثرثرة فكان يعلّق على أيّة نقلة للقطع مزهوا 
بلعبه ساخرًا من لعب الشابٌ» ثم صاح به بعد أن 
غله أول عشرة: 

العن سوء الحظ الذي رمى بك بين يدي. 
وغنهاك أن تدوق الفوز ها تيت حناء ... 

وعادوا للُعب بحماس وتحفرء وانهمك فيه حسين 
اغبماكًا شديدًا فلم يفق حيّى طرق سمعه صوت أقدام 
خفيفة تقترب من الشرفةء والتفت نحو الباب بحركة 
عكسيّة فرأى فتاة تحمل بين يديها صينية شاي, 
وسرعان ما استردٌ بصره في حياء وارتبك لأنه أدرك من 
أوّل نظرة أن الفتاة لا يمكن أن تكون خادمة. وأحس 
بشخصها إحساسًا غامضًا وهو ينحني قليلا ليضع 
الصيئيّة على كرسي خيزران» ثم به وهو يذهب 
مبتعدًا. ول يكن بصره قد ارئدٌ عنها فارغاء أجل 
علقت به صورة وجه ممتى يمبل إلى البياض» وعيئين 
سوداوين ‏ أو لعلّها عسليّتان؟ ‏ ذواقٌ نظرة مليحة. 
ولبث في ارتباكه مورّد الوجه على حين أمسك حسان 
أفندي عن ثرثرته بغتة» ثم عاد يقول بصوت 
مخفض : 

هذه ابنتى إحسانء لم أر بأسًّا في أن تقدّم لنا 
الشاي ما دمت أعدّك كأحد أبنائي. . . 

كاله حبيين التفتيية: كانه يكل ولكنه 1 تيسن 
بكلمة» وقال حسّان أفندي وهو يصب الشاي في 
الفدحين : 

البنت في البيت نعمة كبرى» لقد تزوّج أحواتها 
واحدة في القاهرة واثنتان في دمنهور ولم يبقّ غيرها! 

تتم حسين في ارتباك : 

- ربنا يفرحك بها. . . 

ومضيا يحتسيان الشاي في صمت. وأنخذ الارتباك 
يذهب عن حسين عُْلَّمًا وراءه شعورًا بالحرج لم يدر له 
سببًا واضحًاء أو لعلّه تهرّب من السبب وتجاهله. 
ووجد إلى هذا أنّه لا يزال متأثرًا بما علق في ميّلته من 
صورة الفتاة على غموضهاء تأئرًا يعرفه في نفسه حيال 
أبّة فتأة ولا دلالة خاصّة له سوى أنه انفعال مكتوب 


على كل شابٌ بصفة عامّة. وكلّ شابٌ بكر بصفة 
خاصّة» ولعلٌ انبعاثه هله المرّة في بيت لا في الطريق 
ولا في الترام هو الذي أشاعه قُْ جو من الحيرة 
والبهجة والعمق. وكان حتثًا أن يفكر في أمور أخحرى 
بعيدة عنه بعد القاهرة فتساوره مشاعر خوف وحذرء 
ولبث حسّان أفندي يراقبه صامتاء ثم ضاق بالصمت 
فقال: 

اشرب شايك وتأهب للعشرة الآتية» وقعت في 
تخالبي ولا نجاة لك . 

”7م 

كانت على درجة من الحسن تسوْغ تأئْرهء وقد 
صدق ظنه فيا تلا من أيام وأسابيع فرآها في الطريق 
بصحبة أمهاء ولمحها في البيت أكثر من مرّة. ومن 
حسن الخطا أئها لم ترث من هيئة أبيها إلا حدّيه 
المنتفخين, ولكئبما جعلا لها طابعًا خاصًا ولم يقنحا 
وجهها. وأدرك بسهولة أنْ شقّة حسّان أفندي باتت 
تجذبه إليها بقوّة لا يرّرها نشدان التسلية وحده. وكان 
يمت شبابًا وحيويّة, فكأن قلبه كان ينتظر أوّل طارق» 
وسرعان ما ترعرعت بين جنبيه عاطفة يضطرم فيها 
الميل والرغبة والاعجاب» فرامها أنسًا لوحشته وريا 
لظمئه. ولكن لم تغب عنه دقة موقفه لحظة واحدة من 
بادئ الأمرء فلم يكن يغفل عن متاعبه ولم يَدْرْ له 
بخلد أن يتراخى في القيام بواجبه. بيد أنه لم يعالج 
أمره بالحزم» وكان هذا فوق طاقته. وكان عليه أن 
يختار بين الاغضاء من ناحية وبين الانزواء في حياة 
جافة موحشة لا نسمة فيها ولا أمل. واشتدّت به 
الجيرة» وفكر مرارًا في العودة إلى الفندق منتحلًا عذرًا 
من الأعذارء ولكنه لم يفعل» ثم وجد نفسه ام 
للأقدار تاركًا لما الأمر كله تقضي فيه بقضائها. 
وتواصلت الأيّام دون أن يجدٌ جديد؛. وكان نادرًا ما 
يرى الفتاة ولكتّها لم تغب عن خاطره قطء أمًا حشان 
أفندي فلم يخرج عن مألوف ثرثرته وتجاهل الأمر كله . 
وفي أثناء ذلك لم تنقطم عنه أخبار أسرته بفضل رسائل 
حسنين التي لا تترك كبيرة ولا صغيرة» فكأنه يواصل 
حياته بينهمء ويشاركهم عراطفهم جميعًا. وقل أخخره 


بداية ونهاية 581 


أن أمّه قرّرت أن ترصد النقود التي يرسلها لضرورات 
الكساء وحدهء وأنّْه ظفر منها بجاكتة جديدة يرتديها 
مع البنطلون القديم. وأنها ابتاعت لنفسها روبًا ترتديه 
فوق فساتينها الخفيفة فيكسيها دفئًا تستغنى به عن 
الملابس الصوفيّةء وكان من نتائج ذلك - رصد نقوده 
لضرورات الكساء - أئهم لم يستطيعوا الانتفاع بها في 
تحسين حالهم الغذائيّة الى ظلت على ما يعلم من 
التفاهة والسوء. وحذّثئه عن نفيسة فقال إثْها تظفر من 
الاق بعد يرو يود الام ل بعد ااشتري عل جل 
كسبها كما كانت تفعل قبل ورود نقودهء فتوفر لديها 
مال قليل تنفقه على ثيابها كي تظهر أمام الناس بالمظهر 
اللائق بهم . ما حسن فيبدو أن حياته الجديدة تستاثئر 
به استئثارًا شغله عهمء أو لعله ظنٌّ بعد توظفه ‏ 
حسين ‏ أنهم لم يعودوا بحاجة إليه فانقطع عنهم 
انقطاعًا كليًا. وواصل موافاته بأنباء استعداده لامتحان 
البكالوريا في غباية العام قائلا إنّه يستبسل في مذاكراته 
لأنْه يعلم ما يعنيه سقوطه. وفي آخر رسالة وردت منه 
تودّد إلى أنحيه توذذا كبيرًا ثم سأله في ختامها هل يطمع 
أن يمدّه بثمن بنطلون منجٌّمًا على أشهر ثلاثة نظرًا لأن 
الجاكتة الجديدة قد فقدت عبهاءها فوق البنطلون القديم 
الناحل؟ ووقف حسين عند هذا الرجاء متفكرّال لا 
يدري إن كان يستطيع أن يحقق له رغبته دون مساس 
بالقدر الذي يودعه صندوق التوفير. لكن فيم يفكر 
وهو يعلم بأنّه لن يحب لحسنين رجاء؟ ريبما كان بوسعه 
ان يزجره لو لم يفرّق بيجا هُذا البعاد. ولكنّ البعاد 
رقق قلبه وجعل حنينه إلى أهله قوة لا تقارّم. أجل إِنْه 
حريص لا يرحب بتانًا ببعثرة النقود. لكنّ حرصه 
يتخلٌ عنه بلا عناء كبير إذا كان البذل لأهله. لن 
يضيره التقتبر على نفسه ثلاثة أشهر كثيرًا في سبيل 
إرضاء حستين. إِنْه يعرفه حق المعرفة. ويعلم بأنه يعد 
ما يقدّم من خير واجبًا على الآخرين» فإذا لم يسعفه 
بالبنطلون نسي في حنقه صنيع الجحاكتة. ووجد إلى هذا 
شعورًا غريبًا يدفعه إلى أن يغمر بجميله الفتى الذي 
يؤمن بأنّه سيكون له مستقبل باهر غدًا. لقد ضحى 
بمستقبله في سبيله وينبغي أن تكون التضحية كاملة, 


7 بداية ومهاية 


وعاوده ذلك الشعور السعيد الحزين بأنّه الضحيّة 
الصابرة على الأقدار التي تجهمت هم. وأنّه الدرع 
الذي يتلقى الضربات دون أن يتحطمء إنه عزاء 
يستمذ منه قوة وسروراء ويضفي على حياته معنى 
خلقيا باهرًا . 

ثم حدث مالم يقع له في حسبان ‏ هكذا قال لنفسه 
وإِن لم يكن صادنًا إذ كان يومًا يجالس حسّان أفندي 
ويتنازعان الحديث كالعادة» فسآله الرجل : 

ألم تفكر في الزواج؟ 

فاضطرب الشات. وشعر بما يشبه الذعرء ثم 
غمغم قائلا : 

- كلا. , . 

فرفع الرجل حاجبيه مستنكرا وقال: 

- وفيم تفكر إذن؟ ولاذا تعيش؟ هل تظنٌ للرجل 
من غاية» خاصّة إذا اطمأن جانبه بالوظيفة» سوى 
الزواج؟ 

وتردّد حسين قليلا ثمّ قال: 

- عل واجبات خليقة بالتقديم عا عداها. 

ثم صارحه بما يكتنف أسرته من متاعب مستعيئًا 
بالمبالغة أحيانا حيّى يقي مركزه حياله. وأصغى 
الرجل إليه داهتمام حيٌّ انتهى من قصّته, ولكنه لم يبد 
عليه الاقتناع؛ ولم يكن على استعداد للاقتناع بما يحول 
بيله وبين أمانيه, ثم هر رأسه الأصلع باستهانة وقال: 

- أراك تبالغ في تقدير خمطورة الحال. حسبك الصبر 
حبّى يحصل أخوك على البكالورياء ثم تكون في حل 
من التحرّر من مسئوليّتك» وعليه هو أن ينوظف 
بدوره. النخاس باشا نفسه تزوج فهل ترى نفسك 
أكير مسئوليّة منه؟! 

فضحك حسين في ارتباك وقال: 

- ولكنّ أي مصمّم على استكال تعليمه. . . 

فعاد الرجل يقول هازنًا: 

- اسمع إذا كانت لك أهداف في الحياة كإعادة 
دستور سلة ١477‏ مثلا فالأخلق بك أن تؤجّل 
زواجك. ولكنٌ دستور سئنة 1477 قد عاد والحمد لله 
قلاذا لا تتروج؟ يجب أن تتزوج في نهاية هذا العام 


حال توظف أخيك. أمّا إذا أصر على تكملة تعليمه 
ووافقت والدتك على هذا فلا يحق لما أن تعارض في 
زواجك, أجل لا يحقٌ لها أن تدلل واحدًا على حساب 
حرمان الآخر من حمقّه الأول في الحياة. 

ووجد حسين حديث الرجل مِؤثّرًا أكثر منه مقنعًاء 
ولكنه لم يشا أن يقطع بالرفض أن تنفصم ما بينه وبين 
الرجل من أسباب المودّة. فقال: 

- أعتقد أنه من الممكن أن أحقّق آمالي دون أن 
أقضى على آمال أخي . 

ان حديث الزرواج يدور دون هدف معين في 
الظاهر ولكر التفاهم الصامت عن امدقم كان كان 
بينههاء وسبقت إليه إشارات فيما ينشأ بينهما من أحاديث 
كل مساءء وكأنْ حسين لم يشأ أن يقنم بِبْذا القدر من 
التفاهم فقال في حياء شديد: 

- وأظنٌ آنسسة إحسان ل تعد أولى خصطى 
الشباب. . . 

فضحك الرجل عاليًا وقال: 

- إحسان صغيرة طبعًا ولكنٌ الزواج لم يخلق 
للكبار. . . 

لم يتقدّم الموقف عن هذا الحدٌ فيا تلا ذلك من أيّام 
حبّى اقترح حشان أفندي أن يقدمه لبعض أقاربه في 
حفل عائلٌ فلم يسَع حسين إلا القبول. وخجل أن 
يظهر أمام الأقارب بمظهره الذي لا يسرّ حبيبّاء وركبه 
فجأة ما يشبه الحنون ‏ هكذا وصفه فيا بعد ففصل 
بدلة جديدة على أقساط وابتاع حذاء وطربوشًا مدفوعًا 
إلى هذا كله بعواطفه ونزوته الطارئة حتى إذا جاء أوّل 
الشهر أدرك أنه من المستحيل أن يرسل النقود إلى أمّه 
رارش كلك عا تتطاني : عدا إن كادني اقول انه إن 
مرضا ألم به وإنّه أنفق في العلاج ما ناءت به ماهيّته 
المحدودة. وقد كتب الرسالة بيد باردة ونفس منقبضة 
مقتنعًا في أعاقه بأنه هوى من خطأ إلى خطاء وأنّ 
تعاقب الأخطاء قل أفقده اثّزان التفكير وسداد الرأى 
فلم يحسن حتى اختلاق العذر. . . 

“ها 
ثم كان يوم الخميس» وكان حسين مستلقيًا على 


فراشه يقرأ جريدة الصباح التي يحتفظ بها عادة لوقت 
ٍ. ً 

العصرء فسمع دقا على الباب فظئه نخادم حسان 
أفندي ومضى إلى الباب وفتحه وإذا به يرى أمه أمامه. 
أجل أمّه دون غيرهاء ففغر فاه دهشة ثم أشعل يدها 
بين يديه هاتفا: 

أمّاه!. . في طنطا؟! لا أكاد أصدّق عبيّ! 

وشدّ على يدهاء ثم قبل خخذّيها أو تبادلا بالأحرى 
فبلتين» وفي طريقه) إلى حجرته سألها بدهشة : 

- لماذا لم يخبرني حسنين بحضورك كي أنتظرك في 
المحظة؟ فجلست اللمرأة على الكرسيّ الذي قدّمه لما 
وهي تقول مبتسمة: 

لم أجد صعوبة تذكر في الاهتداء إلى مسكنك, 
إن الاهتداء إلى مسكن في شيرا أشقٌ من هذا بكثير. 
وقد اقترح حسنئين أن أنتظر حب يخبرك عن حضوري 
برسالة خاصّة ولكنّى لم أجد داعيًا لازعاجك وأنت 
مريض كا لم أحتمل البقاء في القاهرة وأنا أعلم أنَكِ 
هنا وحيد ومريضص. .. 

مريضص! أيقظته هذه الكلمة من نشوة اللقاء فشعر 
بالخوف يقبض قلبه. ولكنّه قاوم الخوف بقوّة الخوف 
نفسه فضاحك وقال: 

- يؤسفني أنّنى ازعجتك يا أمّاهء ولكبّى ما كنت 
أطمم في 0 النتيجة السارّة وهي حضورك 

وجعلت تتفخصه بعناية بوجه ينم عن إشفاق ورحمة 
لم قالت: 

ماذا بك يا بِيّ؟. . كيف حالك؟ . , حذثني عن 
مرضك؟!: 

ودائحله ارتباك بذل قصاراه كي لا تلوح أماراته في 
وجهه. وكان واثقًا من أن مظهره لا يشي بمرضصء» بل لم 
نوظّفه لتحسّن حالته الغذائيّة بصفة عامة. قال 
ببساطة : 

لا الى ذي بال. أصبت بنزلة معويّة حادّة ولكتّها 
لم تلازمني أكثر من يوم وبضع يوم. . . 

فقالت وعيناها لا تتحولان عنه : 


بداية ونباية 561 

لشدّ ما انزعجئا جميعًا خصوصًا وأنّك طمانتنا على 
صحتك في خخطابك الأسبق . . . 

ثم استدركت بعد وقفة قصيرة: 

وتوهمنا في الأمر خخطورة, والعياذ باللهء لما رأينا 
من اضطرارك قطع نقود هذا الشهر عنًا. . . 

وشعر بمثل شكّة الابرة في نفسه. وقال بعجلة 
مبتسما ابتسامة باهتة : 

'اقستطورققة إلى المسدتعجاة ليع بوشراك أذورية 
نأنفقت أكثر من جنيهين» وأنت تعلمين بأنه ليس لدي 
احتياطيّ للطوارئ! 

لا عليك من هذا إني مسرورة لأني وجدتك في 
صحة جيّدة) ويحسن بك أن تبعث برسالة في الحال 
إلى أخيك لتطمئنه هو ونفيسة اللذين تركتهها في أشدٌ 
حالات القلى , , . 

ثم ألقت نظرة متفخصة على حجرته. فعلق بصرها 
بالبدلة الجديدة على المشجب في خوف وقلق وتهيأ عقله 
لاختلاق كذبة جديدة» ولكّها قالت: 

حجرتك نظيفة وأثاثها جيّدء هلم أرني 

نضحك حسين قائلا: 

- ليست شقّتي إلا هذه الحجرة؛ وتوجد حجرة 
أخرى مغلقة لعدم الحاجة إليها. 

كأنك تستأجر حجرة بإنجار شقة!., . ألم يكن 
الفندق أفضل؟ . . 

- على العكس فإِنْ إيجارها ينقص عن الفندق 

- أخبرتنا بأنّك م تحتج إلى خادم أفلا يتعبك 
تنظيفها؟ 

كلاء هذا عل هين ى! تعلمين! 

فايتسمت انتسامة نحفيفة وقالت: 

- يبدو لي أنْك مرتاح ومسرور يا بنّ؛ ولذا فأنا 
كيك ؛ 

وخيّل إليه أنْ الأزمة قد مرّت بسلام فقال بارئياح 
صادق * 

آنا السعية اا أقاف: وسانتاتو بلق فنية | كام 


بداية وباية 


فيا تمالكت أن ضحكت وقالت: 

بل هذه الليلة فحسب. ليس لي مكان أنام فيه 
وسأكلفك أكثر مما تحتمل ما دمت تجيء بطعامك من 
السوق. 

وقبل أن يتكلّم دق الباب فقام إليه» وسمعت الأمْ 
صونًا يقول بلهجة ريفيّة «سيّدي حسّان يسأل عم 
أخرك اليوم» ثم سمعت حسين يعتذر بحضور والدته 
من القاهرة» وأغلق الباب وعاد الشابٌ إلى مجلسه من 
الفراش فوجد أمّه تنظر إليه بعيئين متسائلتين فقال : 

حادم جاري حسان أفندي باشكاتب المدرسة. . 

وكانت تعلم من رسائله أنه الرجل الذي أقنعه 
بالانتقال إلى الشمّة وعاونه على ذلك بضانته لأثاثه 
الحديد فقالت: 

- يبدو من قول الخادم أنّك تمضي عنده فراغك . 

وتوهٌم لحظة أئّبا مظلعة على سيره كلّه فقال دون أن 
بنظر إليها وهو يشعر بلسعة الخوف تجري في لعابه 
وتعترض زوره : 

كثيرًا ما أفعل. إِنه رجل طيّب وهو إلى هذا 
رئيسى وقد وجدت في صححبته ما أغناني عن المقاهي 
ودمفاسدهاء. . . لا بد للإنسان من تسلية يزجي بها 
فراغه . . . ْ 
ثم قامت الأم إلى الام فغسلت وجههاء. وخلعت 
معطفها فتناوله حسين ونفض عنه الغبار بفرشاته وهو 
يدعو الله أن تمر الزيارة بسلام. أجل قد تولاه القلق 
وحاف على سره الافتضاح واضطرب لوجودها في 
موطن هذا السرّ فلعن الظروف الستخيفة التي أجبرته 
على منع النقود عنبا. وعادت المرأة إلى مجلسها وأخذت 
تسائله عن أحواله وحياته. ولكن لم يمتدٌ حبل الحديث 
طويلا لأنَّ الباب دق مرّة أخرى فذهب حسين ليفتحه 
فيها يشبه الحنق وكان القادم هو الخادم نفسه وقد قال 
بصوت بلغ مسمعيها: 

- السبٌ الكبيرة ترغب في أن تحيّي السث والدتك. 

وبضت الم مسرعة وحرجت إلى الردهة وقالت 
للخادم : 

لا يوجد مكان هنا لاستقبالهاء سأزورها 


وذهب الخادم فعادا إلى الحجرة وحسين يقول : 

لا داعي هذه الزيارة» ولا يجوز أن نفترق دقيقة 
واحدة في المدّة القصيرة التِى تمكثينها هنا. 

فتنبدت قائلة : 

مجاملات لا بد منهاء ولا يخفى عليك أنه يمني 
أن أجامل أسرة رئيسك . . . 

وعاودا حديثهها ردحًا من الزمن سيّى خفت حدّة 
النور وأقبل الأصيل فنبضت الأم لترتدي معطفها قائلة 
«آن لي أن أزور حرم جارك» وراقبها الفتى بعينين 
كثيبتين حَبّى غادرت الشقّة., ثم تند من الأعاق 
وتساءل «ترى هل يساورها شكٌ؟ . . كيف تنتهى هذه 
الرحلة؟ !». ْ 

4ه - 

ولبث وحده مغتمً قلق وتزايد قلقه بمرور الوقت» 
ثم لم يعد يشك في افتضاح سرّه. ثم تساءل مدافعا 
عن نفسه فيم هذا الوهم كلّه؟! عسى أن ير كل شيء 
في سلامء لا يمكن أن يلمحوا إلى شيء. هذا مؤكدى 
ولكن هل تغيب عنها الحقيقة إذا رأت إحسان؟ وتئبّه 
إلى زحف الظلام فقام وأشعل المصباح الغازي» ثم 
سمع الباب يدق فدق قلبه معه في عنف ومفى إليه 
ففتحه فدخلت أمّه وهي تقول: 

لا أظئني غبت كثيرا. 

وعادا إلى الحجرة فوقف هو مستئدًا إلى حافة النافذة 
وراحت هي تخلع معطفها وحذاءها في صمت» وجعل 
يقول لنفسه «وراء هذا الوجه شيء. بل أشياءء إني 
أعرف هذا. أراهن على أنْها لم تتجشم السفر لتطمئن 
على صحّتي. ليست أمَي بالأم الضعيفة» إنها حنونة 
حمًا ولكنها قويّة ما في هذا من شلكٌ. ما أفظع هذا 
الصمت. متى ينقطم؟» وسالها متظاهرا بعدم 
الاكتراث :؛ 

- كيف وجدتهم؟ 

فارتقت فراشه وتربئعت عليه ثم قالت باقتضاب : 

لا أدري لاذا لم يرتح قلبي إليهم! 

إنه يدري لماذاء برح الخفاءء ووقع المحذور. 


وقال: 

الحقٌّ أنْ حسّان أفندي رجل طيب. . . 

ربما. لم أقابله بطبيعة الحال. . . 

لن يسأها عما لم ترتح إليه منبمء فليتجاهل المسألة. 
ولن يطول هذا طويلًا على أيّة حال. ووجدها تنظر إلى 
يدبها اللتين شبكتهها على حجرها. إِنْها تفكر فيا ينبغي 
قوله. لشدٌ ما أخطأ! ما كان ينبغي أن يستسلم لإغراء 
الظروف التى انتهت بمنع إرسال نقوده هذا الشهر. 
كيف ضل عائل الأسرة؟! ورأى أمّه ترنو إليه بطرف 
واجم ثم تقول: 

- أما وقد اطمانتت عليك فلا أظنّ أن يخجلني أن 
أصارحك بأنّ منع النقود عنًا قد أخافني. اعذرني يا 
بي إذا اعترفت لك بأنه ساورني بعض الظنّ بأن يكون 
المرض مجرد اعتذار! 

فصاح وهو لا يدري : 

أمأه! 

- معذرة يا بن إن بعض الظنّ إثم. ولكئي كنت 
أفكر طويلا فيها يمكن أن يلقى شابٌ وحيد في بلد 
غريب. أجل إن أومن بعقلك ولكنّ الشيطان شاطر 
فخفت أن يكون أضلك, ولا تسل عن حزني وأنت 
تعلم بأ أعتمد بعد الله عليك. أخوك حسن لم يعد 
مثاء ونفيسة فتاة تعيسة الحظ. وحسنين تلميذ 
وسيظل تلميذًا طويلًا: وأنت أدرى به! وإِنا لنشقى 
ونجوع في مغالبة حظّناء وقد خسرنا نصيبك من 
المعاش وسنخسر عمًا قريب نصيب أخيك منه. 

فقال ححسين بانفعال: 

- لست في حاجة إلى من يذكّرني مِبْذا يا أمَاهء لقد 
أخطات . . . اضطررت إلى منع النقود اضطرارًا لا 
حيلة لي فيه. إل جد حزين يا أمأه. 

فقالت برقة وكأئبا تحدّث نفسها: 

- أنا الحزيئة. , . 

ثم استطردت بعد لحظة صمت: 

أنا الحزيئة لأني أبدو كثيرًا وكأني أحول بين أبنائي 
وبين سعادتبم ! 

فقال بقلى : 


بداية وهباية ©2ه؟ 

- لشدّ ما تظلمين نفسكء أنت أمْ رحيمة كاحسن 
ما تكون الأمّ رحمة. . 

- يسرّني أنك تفهمني يا بني. 

وتبّدت وهي تنظر في عينيه ثم قالت: 
أختك نفيسة. أودٌ لو أغمض عي ثم أفتحهها فأجدها 
في بيت زوجها. ولكن كيف؟! لسنا نملك لتجهيزها 
مليمّاء وأخوف ما أخاف أن أموث قبل أن أطمشِنٌ 
عليها. أنتم رجال أمّا هي فمن الولايا اللاتي لا نصير 
ن. 

فصاح حسين مستنكرا : 

- لن تكون بلا نصير ونحن على قيد التياة. . . 

فتبّدت مرّة أخرى قائلة : 

مدّ الله في أعاركم. ولكنّ الفتاة لا تضمن 
سعادتها في بيت أخيها المتزوج! 

ولاحت في عينيه نظرة ذات معنى. إنّْه يفهم ما 
يقال. إذا كانت الفتاة لا تضمن سعادتها في بيت 
أخيها المتزوج. وما دام حسنين في حكم المتزوجين. 
فلا يجوز له أن يتزوج! منطق معقول! ورحيم أيضًا! 
بيد أنه ينطوي على حكم بالإعدام. ما عسى أن 
بقول؟ لم يعد يخاف أن تنهال عليه ضربًا كيا كانت 
تفعل أحياناء ولكنّه لن يتََحْذْ من هذا الأمان مسرْعًا 
لإغضابباء وعلى العكس سيتخْل منه دافعًا بريئًا 
للمبالغة في إكرامها. وقال مهدوء: 

اطمئئّ يا أمّاه. أرجو آلا تجد نفيسة نفسها يومًا 
في هذا المأزق! 

فهرت رأسها هرّة كأئها تقول له لندع المداراة جانبًا 
ولنتكاشف ثم قالت: 

الحق لقد الخت عل بعض الخواطر فلم أجد 
فرجة إلا في أن أسافر إليك على مشقّة السفر وكثرة 
النفقات . 

فابتسم بلا وعي تقريبًا : 

اندم عضري حي تطملي عل صحي| 

وندم في اللحظة التالية على إفلات هذا القول منهء 
ولكتها ابتسمت إليه ابتسامة حزيئة وقالت؛ 


بداية ونهاية 


- أصغ إل يا حسين» أترغب في أن تتزوج؟ 

فتظاهر بالانزعاج ليخفي اضطرابه وقال: 

إفي أعجب لما يدعوك إلى هذا الظن ! 

- ليس أحبٌ إِّ من أن أراكم أزواجا سعداء. 
ولكن هل ترغب في أن تعجّل بالزواج حت قبل أن 
تغبض أسرتك من كبوتها؟ 

- ل أفكر في هذا مطلقا. . . 

- ألا يضايقك تطفلي هدا؟ 

مطلقًا! 

- وإذا اقترحت عليك أن تؤجل التفكير في الزواج. 
ألا تجد في اقتراحي ظل)؟ 

هو عين العدل والرحمة. . . 

فخفضت عينيها قائلة في حزن : 

- ليس شقائي الحقّ فيا نزل بنا ولكن فيما أراه 
واجبًّا مما يبدو لعين المتعجّل قسوة وأنانية . . . 

لست هذا المتعجل على أيّة حال! 

فتردّدت الحظة ثم قالت : 

إن ما أراه من حسن تقبّلك لكلامي يشجّعني على 
أن أنصحك بأن تترك هذه الشقّة وتعود إلى حجرتك 
بالفندق , 

برح الخفاء! وأصيب بذهول». م غمغم متسائلا: 

الفندق؟! 

فقالت بحزم : 

- أنت لا تدرى من أمر الناس شيئًا. ولعلّ جيرانك 
أناس طيّبون ولكتهم لا يحفلون إلا بمصلحتهم. وإذا 
حافظت على جيرتهم كرهتنا وأنت لا تدري؟ 

ل 28 - 

وم يعودا إلى هذا الحديث مرّة أخرى فلم تكن 
الثرئرة من طبعها شأن الكثيرات من النساء. وقد قضيا 
صباح الجمعة في سعادة شاملة» حينئًا ف الس لم 
انطلقا في المدينة لزيارة السيّد البدوي؛ ولكئها صمّمت 
على الذهاب إلى المحطّة مع الضحى فلم يسعه إلا 
الإذعان لها مرغًا. وذهبا معا وقطع ا تذكرة. وفي 
أثناء انتظار القطار قال ها: 

- سابقى في البيت حيّى نهاية الشهر لأني دفعت 


الإيجار ى) تعلمين. . . 
فكان جوابها أن دعت له بالتوفيق والسداد, ثم جاء 
القطار فوذعته وصعدت إلى عربة من عربات الدرجة 
الشالثة وانحشرت بين جمع حافل من القرويّات 
والقرويّينء وغشيته كاآبة ثقيلة» لأنه كان يقف منها 
موقف التوديع لأوّل مزة في حياته. فغمز القطار 
الذاهب قلبه غمزة قويّة» ولأنه عر عليه أن يراها 
منزوية في العربة الحقيرة وسط البؤس والبائسين» وعاد 
إلى البيت كثير الحم والفكر. «أنا الملوم . إني أدفع ثمن 
حماقتي. أي شيطان يخصّني بعنايته؟ هذه هي المرة 
الثانية» الخيبة تلاحقني دائاء لا مفرع». وجاءه سخادم 
حسّان أفندي يدعو والدته إلى الغداء فأخخبره بأنها 
سافرت إلى القاهرة. وجاءه مرّة أخرى في المساء يدعوه 
إلى السهرة المعتادة فلم يسعه إلا الذهاب. 
وجلسا حول خوان النرد في الحجرة بعد أن أحكم 
الشتاء إغلاق الشرفة. وسأله حسّان أفندي : 
- كيف عادت والدتك هذه السرعة؟ 
فاجاب حسين مبتسم) : 
لا يمكن أن يستغني عنها بيتنا أكثر من يوم. . . 
ّ نجي ء الخميس وتذهب اللجمعة؟!.. رحلة لا 
تستحقٌ مشقة القطار! 
- ولكّبا حقّقت لا ما تريد فاطمانت عل وتبركت 
بزيارة السيد. . . 
وأشار الرجل إلى داخخل الشقّة قائلا: 
- قالوا لي إِنّْا سب طيّبة جدًا. 
بعض ما عنذكم. . . 
فتساءل الرجل وهو يرمش بعينيه العمشاوين : 
- كنا نود لو زارتنا قبل الرحيل! 
- كانت متعجّلة» وقد حاولتِ أن أؤخخر سفرها إلى 
العصر ولكتها اعتذرت بحاجة بيتنا إليها. . . 
فقال الرجل بأسف: 
- وأعددنا لها غداء طيّبًا فاخترت لها بنفسبى ثلاث 
دجاجات مسمئة ., . . ا 
فابتسم حسين في ارتباك وتمتم : 
- بالهنا والشفا لكم. . . 


وضحك الرجل» ثم فتح علبة الترد ولكنّه بدلا من 
أن يشرع في إعداد القطع لعب سأله باهتهام : 

ألم تفاتحها بما «اتفقناه عليه؟ 

فشعر حسين بحرج ولكنّه قال : 

د كاووو 

لمه؟ 

- نْبا تعدّني رجل بيتها فكيف أفاتحها بهِذا؟ 

فتناول الرجل زهر النرد في قبضته وهزه ورماه. ثم 
قال : 

أنت رجل خوّاف. كانت أمَك خليقة بأن تفرح 
لهذا الثبا. 

إِنّه ليق بالفرح إذا جاء في حينه. . 

فضحك الرجل ضحكة عالية ثمٌ قال ببطء : 

لي فلسفتى الخاصّة في الحياة» القٍ بنفسك في 
عبابها ولا تخش شيئًا. هل سمعت عن شخص واحد 
بمصر مات جوعًا؟ 

فقال حسين مبتسما: 

أصل شعبنا اعتاد الجوع ! 

فضحك حسان أفندي واستطرد قائلا : 

- كلّ الناس يعيشون. أغمض عينيك ثم افتحه) 
تجد الصغير كبيرًا والتلميذ موظمًا والأعزرب متزوّجًا ولا 
تجد خاس,! إلا من كان خوَّافًا مثلك. هذه هي 
ألحياة . . . ْ 
حواف!؟ وضايقته هذه الصفة فثار عليها ثورة 
باطنيّة . ليس الخوف ولكنه أدرك الموقف على -حقيقته . 
أكان يكون شجاعًا حمًا لو تَخلٌ عن المرأة وتركها تعود 
مهيضضة الجناح خائبة الأمل!؟ ليس الخوف. الرجل 
الأحمق يبىء فهمه. إِنه مصاب في آماله ولا يجد من 
ير حمه اه يفهمه. وعندما بلغ هذه النقطة من 
أفكاره وجد رائحة غريبة مفاجئة. أجل وجد سرورا 
في أن يكون على حقٌّ وإن أساء الناس فهمه» بل أكثر 
من هذا ترز السرور في أن سبيء الئاس فهمه وهر 
على حنٌّ. سرور غامض كذلك السرور الذي يخامره 
وهو يستسلم لعنت القضاء . وقال مبتسا: 

أنت يا حسّان أفندي من أسرة كبيرة فلا يمكن أن 


بداية ونباية /1ه؟ 


تدرك متاعب أسرة كأسرتنا. . , 

وندذت عن الرجل ابتسامة خخيلاء داراها بعبوسة 
مصطنعة وتهتم : 

عالمج أمورك كيا تشاء ولكن لا تنس نفسك. قال 
تعالى: «ولا تنس نصيبك من الدنيا». وكل أت 
قريب» ما هي إلا أشهر معدودات ثم يحصل أخوك 
على البكالوريا فيتغيّر الموقف. ارم الزهر لنرى من 
يكون البادئ باللعسا. . . 

5ه د 

وبعد مضئّ أسبوعين جاءته رسالة من حسنئين ينبئه 
فيها بأنه أدَى رسوم الامتحخان وأنه يذاكر ليل نبار 
لضان النجاح. وكان عظيم الثقة بذكاء أنحيه ومقدرة 
فلم يدائخله شك في النتيجة المأمولة. ونزعت به نفس 
إلى الأحلام مع أنه لم يكن من الذين يستسلمون 
لسحرها عادة» إلى أنه كان يؤمن بكذب هذه الأحلام 
بالذات. ورغم هذا كله تميّل أخاه قد فاز بشهادته. 
واقتنع بأنّه ينبغي أن يتوظف ليحمل العبء عنه» ثم 
تخيّل نفسه يبدأ حياة سعيدة بضمير مطمئنّ! إِنّه لا 
بطمح إلى أكثر من حياة مطمئئة هانثة في ظل 
الزوجيّة. وقد علّمته هذه الحياة التى حملها منفردًا في 
شقّته المقفرة معنى الأسرة فحنّ إلى حضها الداقّ حنين 
المقرور تحت مطر منهمر إلى الأوى. لم يعد يطيق 
الاختلاف إلى المطاعم العامّة لتناول غذائهء وبات 
وكأنّه يخاف الانفراد بنفسه في حجرته ولو إلى حسين 
قصير, وأتعبه لحَلٌ السقم ما تتطلبه حياة الأعزب من 
رعاية متواصلة لشْقّته وأثائه وملابسه. وكل هذا مبون 
إلى جانب ما يعاني من جوع قلبه وأشواقه. ولم يكن 
يحت الفعاة بالذات بقدر ما أحبٌ فيها المرأة والحياة 
الروجيّة. ولكنها كانت المثال المحسوس لأحلامه فهفا 
إليها قلبه وحنينه. وزاد من تعلّقه بها أله لم يكن يراها 
إلا في القليل النادر مما تجود به المصادفات السعيدة» 
وحسب حسين ألْهم يتعمّدون إخفاءهاء ولكن تبيّن له 
انّ حسّان أفندي رجل محافظ حمًا وأنّه قد يتسامح 
ولكن بالقدر الذي لا يخدش حياء ولا يجاوز حدًا. ولو 
أنْ حسئين رضي بالوظيفة لمضى من توه إلى فتاته 


8 بداية واية 


وضمّها إلى نفسه وحبي الحياة الحقّة. هذا حلم 
ولكنّه مجرّد حلم, ولا يدري متى يتحقّق. وسيواصل 
حسنين تعليمه وما ينبغي له أن يحنق لحذاء أجل فليدع 
الأمور تجري كما يشاء الله ولينتظر. ولكن تبيّن له ذات 
مساء أنه لن ينعم بالانتظار في هدوء وطمأنينة إذ قال 
له حسّان أفندي عقب فراغهما من احتساء الشاي 
عباشرة : 

جدّ أمر هام يستحقٌّ أن أشاورك فيه. 

رفع إليه حسين عينيه متسائلا فقال الرجل باهتام : 

- الأمر أن ابن عم إحسان ‏ وهو تاجر ومزارع 
بالسحيرة ‏ يرغب فى طلب يدهاء وقد رأيت أن أسألك 
عن رأيك قبل البت في الموضوع برأبي ! ! 

وكانت مفاجأة سيّئة وجم لما الشات في قهر وحيرة 
كأنّه لا يصدّق. والحنٌّ أنْ بعض السك ساوره ولكنه 
وجد نفسه في مأزق لا يخرجه منه تشككه. وشعر 
بحنق إنسان وضعته ظروف قاسية بين لا ونعم وهو 
عاجز عن الكلام. فيا عسبى أن يقول؟! إذا قال نعم 
خان أسرته. وإذا قال لا قطع ما بينه وبين حسان 
أفندي. وتراءى لعينيه على اضطرابه وحيرته وجه الفتاة 
الى تعلّقت بها آماله فشعر بقبضة اليأس تشدّ على 
عنقه» ورمق الرجل الذي يعذّبه بنظرة باردة تخفي 
وراءها حنقا متزايدًا. وكان الآخر يتفرّس في وجهه 
صابرًا فلَا طال الصمت غمغم متسائلا: 

ما قولك يا حسين أفندي؟ 

ولم يجد بدا من الكلام فقال بلهجة تنمّ عن 
الرجاء : 

- لقد فصّلت لك ظروفنا بما لا يحتاج إلى مزيد. 

فقال الرجل فيا يشبه الضجر: 

سيفرغ أخحوك من دراسته في أوائل الصيف 
القادم , 

- ولكنّه فيها أرى مصمّم على مواصلة تعليمه. . . 

فقال الرجل بضيق : 

- فكرة سخيفة لا يصمح أن تذعن لها وتتحمل 

وأراد أن يتفادى من الخطر الماثل فقال متهرّبًا كا 


يتهزب الفار وراء رجل كرسي لن تخني عنه شيئًا : 

- بوسعي أن أعلن الخطوبة فورًا على أن أنتظر بعد 
ذلك , , 

فتساءل حسن أفندي بفتور: 

كم عاما؟ 

آه إن الرجل يظنّه لا يحسب حسابًا إلا لأخيه. ولا 
يكاد يدري شيئًا عن نفيسة ومشكلتها المستعصية؛ ليته 
كان بوسعه حمًا أن يصارحه بالحقيقة كلها بغير 
خفاء!. . وأجابه قائلا في إشفاق شديد: 

- أربعة أعوام . . ؟ ! 

ونظر إليه ليرى وقع تصريحه من نفسه ثم بادر 
فائلا : 

- لن يضيرنا الانتظار شيئّاء ألا تثق ف؟! 

ومط الرجل بوزه وهو يبر رأسه ثم قال بهدوء 
ميف : 
- أربعة أعوام! يا ترى مُن يعيش!. . أتريدني على 
أن أقول لأمّها إني رفضت ابن عمّها الذي يرغب في 
الزواح منها الآن كي تنتظر أربعة أعوام؟!. . يبدو لي 
يا حسين أفندي أنْك لم تكن جادًا فيا أظهرت من 
رغبة ! 

وانتفض حسين في ألم بالغ وهتف: 

- ساعحك الله يا حسّان أفندي! إنى رجل مخلص ولا 
زلت عند رغبتي الصادقة. ولا أدري سببًا وجيهًا يحول 

فقال الرجل بفتور: 

اليك اننا ازلة اك افدلة عن اله تزرى :وحجتافة 
السبب. والآن فلندع النقاش جاتبًا وأجبنى باختصار 
أيه تستطيع الإقدام على الزواج في هذا العام ؟ 

ساد الصعمكه. وطتسال .دون آنه بلس معيو 
بكلمة. لم يجد شيئًا يقوله. وتفكر طويلاً في حيرة. ثم 
أطبق شفتيه في يأس وقهر. وابتسم حسان أفندي 
ابتسامة باهتة؛ وأطبق شفتيه بدوره وقد لم وجهه 
البيضاويّ الصغير على الحمود والكدر. وطال الصمت 
والجمود وفاحت رائحة الخصام كالغبار في يوم خحماسيني 
فلم تعد تحتملها الأعصاب. ومع ذلك لم يحتمل 


حسين أن تبي ء القطيعة من ناحيته فتساءل بصوت 
حزين كأنه كان يتنا الجواب سلا : 

ألا يمكن الانتظار؟ 

فقال الرجل بنرفرة : 

كل! 

ومكث حسين قليلا في حجل وآلى ثم همض مستاذنا 
في الانصراف فاأدن له. وغادر الشقة لا يكاد يرى ما 
أمامه من شدّة الحزن واليأس» غادرها وهو يعلم أنه 
لن يعود إليها مرّة أخرى. وذهب إلى حجرته فأوقد 
المصباح الغازيّ وارتمى على الفراش, وألقى على ما 
حوله نظرة سسخط وعداوة. عداوة لكل شىءغ» كان في 
تلك اللحظة عدوا لنفسه وللبشر حميعًا وأضعيف آنا أم 
قوئ؟ وما صنعت بنفسي أهو إقدام أم فرار؟! كل 
شيىء بغيض مقيت.» هذه الحجرة التي أودّعها وحجرة 
الفندق التي تنتظرني بالوحشة نفسها وحسّان أفئدي 
وطنطا وحسئين وأمي وأنا. رئما تصور الرجل أنه 
يستطيع أن يضايقني في عملي بالمدرسة!.. تنا له 
سيجدني أصلب مما يتصوّر. ولكن ما قيمة هذا كلّه! 
الموت أرحم من الأمل. لست أعجب هذا فالموت من 
صنع الله والأمل وليد حماقتنا. الأولى خيبة والثانية 
خيبة فهل قضي عل أن أمنى بالخيبة مرة بعد أخرى؟ 
لاذا لا يتوظف بالبكالوريا؟! لماذا لا يحب لنفسه ما 
أحبث لي؟1)» وتناهى به الضيق فلم يعد يمحتمل وحدته 
فقام إلى المشجب وارتدى بدلته وغادر البيت» وجعل 
يخبط على وجهه من شارع إلى شارع في ليل بارد حت 
أعياه المبى فمفى إلى مقهى . وأنعشه المثى والبرد من 
حيث لا يدري فاتخذ مجلسه وهو اهذا كنا وراح 
يتسلٌ بمنظر الجلوس ويستمع إلى ما يتطاير من سمرهم 
فلم يحل من كلمة أو لفتة تدعو إلى الابتسام. وخبت 
فورة الغضب اللْنونيّة وانحسرت موجتها الصارخة عن 
حزن عميق لكنّه هادئ وصامت. ولا يخلو في الوقت 
نفسه من ندم. أكان يؤثر حقًّا أن يوافق الرجل على 
رأيه؟ هل يسره أن يترك أسرته تحت رحمة الأقدار؟ يا 
له من أحمق! من حقّه أن يحزن» ولكن ليس من حقه 
أن يغضب هذا الغضب الجحنونٌ. وليس من الحكمة 


بداية ونباية 708 


أن يستسلم للحزن؛ أجل إِنّه يعلم أنّه سيحزن طوياد 
ما دام الشعور لا يخضع للعقل ٠»‏ ولكنّه يؤمن أيضًا بأن 
لكل شيء نمايةقء حي هذا الحزن الخائق لا بذ أن 
يدركه العراء. وانتظر هذا العزاء كما ينتظر فريسة 
الكابوس صحروة النجاة. إِنْه آت لا ريب فيه كما 
علّمته المحن. وهناك لن يجد ما يندم عليه وسيجد ما 
يفخر به ويطمئن ضميره. إِنْ شعوره بالواجب يفوق 
مشاعره الأخرى» ولشدٌ ما أخطأ الرجل حين اتهمه 
بالخوف, وبحسبه أنْ أمّه تفهمه وأئها تعدّه الأمل 
والعزاءء وافترٌ ثُغره عن ابتسامة لهذا الأمل المنتظر وهو 
يعاني مرارة الحزن الراهن. . . 
- لاه ب 

وحوالى منتصف الصيف استقبلت الأسرة ‏ بعطف 
نصرالله - يومًا سعيدًا حين نجح حسنين في امتحاد 
البكالوريا. وجلسوا ثلائتهم جلسة هناء وصماء. 
فمرّت ساعة لا يشوها كدرء وتملت الغبطة قلوب 
ممبكها التعب. وجاء فريد أفندي محمّد وأسرته للتهنئة 
فشعر حسنين حيال خطيبته بشعور سعيد بخخيلاء 
ساذجة كأنّ البكالوريا قد أضفت عليه رجولة جديدة 
خليقة باحترامها وعطفها. كان كعادته مرخًا لطيمًا 
فتحدّث طويلًا منتشيًا بالفوز والضحكات تنطلق من 
فيه تباعًاء وكان منظر مبيّة مما يستثر سعادته وألمه معا 
كان يسعده أن تلتقي عيناهها خفية فيقرأ في نظراتها 
الصافية المحيّة العميقة المهذّبةء ولكنّه لم يكن يحظى 
بالصفاء تحت نظرتها إلا قليلا ثم يندلع في قلبه لسان 
لهب. ثم يذكر حرمانه الطويل فيئور حنقهء ويرمق 
العامين المنطوبين بحسرة وأسف. واسترق إليها النظر 
خلال الحديث فانصهر بصره على وجهها البدري 
وجسمها البضٌء وتميّلها ‏ كما كان يطيب له أن 
يتخيّلها كثيرًا ‏ متجرّدة إلا من شعرها المنسدل فبلغ 
ريقه درجة الغليان. وجعل يتساءل صامتا ألا يمكن أن 
تغيّر من سياستها بعد حصوله على البكالوريا؟ أليس 
من العدل أن تببه قبلة على سبيل التهنئة؟1.. وظل 
وعيه متنقلا بينها وبين أخيلته وبين الحاضرين» وكان 
السرور شاملا بيد أنه لم يخل من عذاب لا يكاد يرحمه 


5 بداية ونهاية 


في محضرها. 

ثم خلت الأسرة إلى نفسها مرة أخري فداخلها 
إحساس جديد ‏ غير السرور الصافي - بالمسشولية» 
لأئم تعلّموا أن الظفر بالبكالوريا سعادة يعقبها تفكير 
ومتاعب. وكان إِثمام تعليمه العالي أمرًا مفروعًا منه فيها 
بيهم ولكنٌ الرأي لم يستقرٌ على اختيار بعينه. وقد 
قالت نفيسة : 

- عليك الآن أن تختار المهنة التي تريدها. 

فقال حسنين الذي كان قد قتل الأمر بحنًا: 

- التعليم العالي مرحلة طويلة شاقة. ومستقبله 
تجهرل. 

فنظرت إليه المرأتان في دهشة فاستطرد قائلا: 

- لقد فكرت في الأمر طويلاء وانتهيت من تفكيري 
إلى أنه يجب أن أختار مدرسة من مدرستين البوليس أو 
ا 

وهتفت نفيسة بسرور: 

ما أجمل هذا! 

ولم يحفل بسرورها لأنّه كان يفكر في الصعاب التي 
تعترض آماله فقال: 

دراسة عامين فحسب ثم أصير ضابطا؛ والنجاح 
مضمون تقريبًا لأنْها دراسة باللعب أشبهء والوظيفة في 
المباية لا شك فيها. هذه ميزات لا يستهان مبا! 

فهتفت نفيسة بالحماس نفسه : 

دراسة عامين ثم تصير ضابطا!. . ما أشبه هذا 
بالأحلام ! 

وتساءلت الأم بإشفاق: 

والمصروفات؟ ! 

ونظر إليها طويلًا كالحائر ثجّ قال: 

البوليس غالية جذّاء ولكنٌ الحربيّة معقولة. . . 
مصر وفاتها سبعة وثلاثون جنيها. 

فتطلّعت إليه المرأتان بوجوم ودهشة فبادرهما قائلا: 

- ليس الأمل في المجَانيّة معدومًا أو على الأقلّ في 
نصف المصروفات» ولنا في أحمد بك يسري شفيع 
عظيم القدر في هذه الحال. . 

وى يذهب الوجوم من نظرة الأم وبدت قلقة حيال 


هذا الأمل. فقالت؛ 

حدّثني فريد أفندي محمد عن معهد التربية 
الابتدائىم فوجدت فيه ميزات تستحقٌ التقدير» فمذة 
دراسته ثلاثة سنوات بالمجان تضمن بعدها وظيفة 
مدرس . 

فقال الشات بامتعاض : 

- إفي أكره أن أعمل مدرّسّاء وأكره أكثر أن التحق 
بمعهد بالمجان . 

- ولكنك لا ترى مانعًا من دخول الحربيّة بالمجان. 

- ثمَة فرق كبير يقوم بين معهد يقوم على المجانية 
ومعهد قد يعفينى من مصروفاته كلها أو نصفها. 
سيقول الناس عن ال حال الأولى إن تعلّمت بالمجان أما 
في الأخرى فهيهات أن يعلم بها أحد غير كاتب 
المدوتينة! 

فهزّت الأمّ رأسها غير مقتنعة وتمتمت: 

المسألة أخحطر من هذا! 

حال مرح انف لطر وى هلا انكر اشر 
وسيرته؛ ولا أحبٌ أن أخفض رأسيى بين أناس 
مرفوعي الرءوس! 

وى يكن هذا فحسب دافعه الحقيقي إلى هذا 
الاختيارء والواقع أنه طمح إلى المدرسة الحربيّة مدفوعًا 
بنفسه الظمأى إلى السيادة والقوة والمظهر الخلاب» بيد 
أن أمّه ظلت على قلقها وعدم اقتناعها فتساءلت: 

- وإذا لم يتيسّر إعفاؤك من المصروفات؟ 

ففكر متجهُْمًا ثم قال: 

سأحتاج بادئ الأمر إلى الدفعة الأولى من 
المصروفات وفي مرجوي أن أنالها من أخيى حسن! لا 
أظنه يتخل عت كا لم يتخل عن حسين., أمّا الباقي 
فليس بمتعذّر توفيره إذا نزلت لي عن نقود حسينء إلى 
ما يمكن أن تجود به نفيسة (ناظرًا إلى أخحته) ولا أظتها 
تبخل عل خاصّة وأنْ عملها يجيئها بكسب لا بأس 
0 

ونقّل بصره بين أمّه وأخته ليسبر وقع كلامه ولكنّه لم 
يحظ بما يشججعه فاستطرد يقول برقة : 

عامان شدّة يمرّان كيا مر غبرهما وبعدهها الراحة 


واهناء! 
وثابر على ترديد بصره بينهها في رجاء. ثم قال 
بإغراء : 


- آَم ضابط وأخت ضابط!. . تصورا هذا؟! 
تصوّرا مغادرتنا لحذه العطفة إلى شقّة محترمة بالشارع 
العام ! 

ورقّت نفيسة لنظرته المتوسّلة فاجتاحها موجة إيثار 
وكرم فقالت: 

لا تحمل همًا من ناحيتي» سأهبك أقصى ما يمكني 
أن أهبه! 

فتجلت في عينيه نظرة امتنان وغمغم : 

شكرًا لك يا نفيسة؛ ولن تكون أمّي دونك 
كرمّاء وسيمفضي كل شيء على الوجه الذي نحبٌ 

ودعت له الأم بالتوفيق؛ لم تكن ترجو من ورائه 
خيرًا كثيرًا. وكان أقصى ما تطمح إليه أن يؤجَل زواجه 
بعد توظفه ‏ عامين حقٌ ترمّم ما تهدّم من أسربمهاء 
ولكن لم يسعها إلا أن تنزل له عن نقود الانقاذ التي 
يرسلها حسين وأن تدعو له بالتوفيق من أعماق قلبها. 
وتأئْرت نفيسة بما غمرها من إيثار وكرم ارتقيا بها إلى 
منزلة عالية من الصفاء والسرور والجماس» ونعمت 
ببْذه السعادة لحظات غالية. ولكنّها لى تدم طويلاء 
اصطدم تيّارها الدافق بعقبة كئود من الذكريات السود 
فتوقف عن الجريان الساجم وتجمع وتطيّن. وفتر 
الحماس فخفضت عينيها في خحمود. ليس الفرح الصاقي 
من حقّهاء وما عسى أن يصنع السرور بنفس ملوثة 
منطوية على البشاعة والشقاء؟ 

- 60 

قال حسنين لنفسه وهو يغادر ميدان الخازندار إلى 
شارع كلوت بك وسيقول حسن إِنّنا لا نسعى إليه إلا 
إذا طمعنا في نقوده!» وتاك لهذا الخاطرء ولكنّه خقف 
من وقعه قائلا إِنّه هو حسن - الذي لم يشأ أن يتردد 
أحد منهم على بيته. وجعل يتساءل في حب استطلاع 
عنًا سيجد في هذا المسكن المحرّم! ثمة شبيء «غير 
طبيعيّ : ولكنه لا يُستغرب من حسن !4. 


بداية ونباية 51١‏ 


ئمّ ذكر النقود التي يريدها فهاله الأمرء ماذا لو 
عجز حسن عن أن يمك له يد المعونة؟ وشعر بإصبع 
باردة تقيض على قلبه وتوشك أن تعصف بآأماله. 
واهتدى أخخيرًا إلى عطفة جندف وأنحذ يرتقى أرضها 
القذرة باحمًا عن البيت رقم ١!‏ حيّ انتهى إليه. 
ورأى غير بعيد بائع بطاطة جالسًا القرفصاء على 
الأرض أمام عربته فسأله مشيرًا إلى البيت: 

10 يقيم هنا حسن أفندي كامل؟ 

فسأله الرجل بدوره : 

- تعنى حسن الروسئ؟ 

فقال .حسنين بدهشة : 

حسن كامل عل المعثى؟ 

فقال الرجل : 

هذا بيت حسن الروميّ الذي يعمل بقهوة علي 
صيري بدرب طياب . . 

وأغضى حسنين في حياء منزعبًا الرعاجًا فظيعًاء م 
يعد يشكٌ في أنه حيال بيت أخيه وقد توكّد ذلك 
بذكرى عل صبري» ولكته لم يتصور أنه يعمل ببذا 
الدرب الذي فرقع اسمه في أذنه كالقنبلة. وهذا 
اللقب: الروسي ناامعهاء؟ ورمعل اليف وقانة يضر 
فركمته رائحة بثر السلّم النتنة وارتقى السلّم الحلزوي 
وهو يشعر بأنّه مببط إلى عاوية ما لما من قرار. وطرق 
الباب فجاءه صوت امرأة يصيح في ابتذال «من؟؛ ثم 
تح الباب عن امرأة قصيرة بديئة عميقة السمرة تنطق 
سحنتها بجمال وقح . حدجته بنظرة نافذة وسألته! 

ماذا تريد؟ 

فقال حسنين بصوت منخفض من الاضطراب : 

د حسن كامل . . 

من أنتٌ؟ 

أخوة. , 

فانبسطت أسارير المرأة وتلحت جانبًا وهي تقول: 


ودخل ف فى وحياء . من تكون هله المرأة؟ 


555 بداية ونهاية 


وكيف عرفت أساءهم؟ هل تزوّج حسن؟ وشعر 
بقشعريرة باردة. أيمكن أن يقال عن هذه المرأة إنها 
زوجة أحيه؟ وإِنْ أمّه حماتها؟! وتميّ من أعماق قلبه أن 
تكون مجرّد رفيقة. ومضت المرأة إلى باب في جاية 
الدهليز ونقرت عليه ففتح بعد قليل وظهر حسن على 
العتبة» وكأنه شعر بوجوده فاتجه بصره إليه ثم هتف 
بدهشة وسرور: 

د حسيئين. . 

وهرع نحوه وشدٌ على يده بترحيب وشوق. وقبل 
أن يتكلم أحدهما تسلّل من الحجرة نفر من الرجال 
متتابعين. ألقوا على حسنين نظرة عابرة وقال بعضهم 
مخاطبا حسن ؛ 

- سنسافر عصر اليوم إلى السويس بإذن الله 
وتلحق بنا غذا. . 

ثم غادروا الشمّة. كانوا من ذوي الجلاليب» تلفت 
سحنتهم النظر بغرابتها ولا يكاد يخلو وجه أحدهم من 
تشويه. وداخل حسنين شعور بالقلق. من يكون 
هؤلاء الرجال؟. . أفراد التخت؟. . ما أبعد هذا عن 
التصور! لقد ذكره منظرهم برجال العصابات كما 
يظهرون على الشاشة وطرأت عليه فكرة مرعبة بأن 
شقة أنحيه تناصب القانون العداء! وألقى على حسن 
نظرة متوجّسة فرآه يرتدي جلبابًا مقلًا فضفاضًاء 
ويبدو في صحة وقوّة ولكن يلوح فوق ححاجيبه الأيسر 
وفي صفحة عنقه اليسرى ندبان كبيران كائهها أئرا 
طعنتين شديدتين رباه. إِنْ أخاه لا يخلو من تشويه 
إجرامرع أيضًا! ولغله الآن يستطيع أن يدرك حقيقة 
الأسبابف الى حجبته عن عالمهم . وأوما حسن إلى 
االحجرة في نباية الدهليز وقال للمرأة : 

- رتّبي الحجرة واجمعي الأشياء. . 

وشبك ذراعه بذراع حستين والهه إلى -حجرة النوم , 
ثم أغلق الباب وراءهما وأجلسه إلى جانبه على الكنيبة 
وهو يقول: 

- كيف حالكم؟.. كيف الوالدة؟.. ونفيسة؟. . 
وما أخبار حسين؟ 

وحدّثه عن الأسرة بعقل شارد وروى له ما يعلم 


من أخبار حسين ثم قال بلهجة تنم عن العتاب : 

انقطعت عنا كأئك لست ما ولسنا منك» وباتت 
أمَنا في حزن شديد. . 

وهرّ حسن رأسه في كابة وقال: 

- إن غارق في حياتي حبّى قمة رأميء ولكنّ 
توظيف حسين طمانني عليكم. . 

وتساءل حسنين متأئرًا بما طرأ على أخحيه من تغيّر في 
مظهره ترى هل بقى على حبه القديم لهحم؟ وانساق 
بغريزته إلى التودّد إليه قبل أن يتطرّق إلى مهمته 
وتساءل في قلق : 

ما هذا يا أخي؟! 

فقال حسن ضاحكا: 

- مخلّفات معارك. لم تكن حياتي لتخلو من عراك 
وقد أصبح العراك من أهمٌ واجباتي في الحياة 
الحديدة. , 

وود لو يسأله عن هذه الحياة الجديدة ولكنه تحامى 
ذلك بغريزته أيضاء لقد قصد هذا البيت المحرّم في 
سبيل الحياة» وحسن يتَحْذْ من العراك واجبًا في سبيل 
الحياة أيضاء ف] أفظع ما تسيمنا الحياة من خسف! 
«من كان يحلم ذا المصير ونحن صغار نلعب! كان 
حسن طفلًا حاذقًا شاطرًا وكان أبي يحبّه أكثر من أيّ 
شيء في الوجود. ثم بدا وكأنه اقلت عدوا ولكن 
م يكن يتصور أحد أن ينتهي به المطاف إلى هذا 
البيت! لا شك أن حسين أدرك الحقيقة في زيارته لهذا 
الببت في سبتمبر الماضي» ولكن ترى هل تعلم أمّي 
بكل شيء؟!4. لم تواته شجاعة على السؤال الصريح 
ولكنّه تساءل في مكر: 

ما العلاقة بين الغناء والعراك؟ 

فقهقه حسن ضاححًا ثم قال: 

هما شىء واحد في عرف الكشرير ...: 

وهنا جاءهما صوت المرأة من نخارج وهي تقول: 

- إن ذاهبة. هل تريد شيئًا؟ 

فقال لها باقتضاب : 

مع السلامة. . 

ولم يستطع حسنين أن يقاوم حبٌ استطلاعه فساله 


بقلق : 
هل تزوؤجت يا أخي؟ 

كلا. . 

فلاح الارتباك في وجه حسنين غير خاف فتساءل 
حسن : 

أسرَّلكُ هذا؟ 

52-60 

- لماذا؟ 

فقال الشات بسذاجة: 

- أفضّل أن تختار زوجك من وسط كوسطنا. . 

فقطب حسن كالمستاء وقال: 

- إنها أفضل من سيّدات كثيرات» تحبّني وتخلص لي 
ولااتفين غلم عمال + 

وأوشك أن يقول له «ومن مالا الخاص أعطيت 
حسين ما احتاجه من نفقات» ولكنه أمسك رحمة بأخيه 
- ل يستطع التخيّر الذي لحق بطبعه أن يؤثّر في عواطفه 
نحو أنخيه حَتّى حين استيائه - ولمًا رأى القلق والندم 
يلوحان في عيني الشاب قال برقة : 

إِنْ إخلاص الزوجة لزوجها لا يخلو من منفعة 
وراءه أما هذه المرأة فإخلاصها غير مشوب. سسوف 
تعلولة اطياة امو اكدرة مهلها يرم 

ف حسنن راب متظاء | بالاققفا ره زاضمم إل 
أخيه ابتسامة رقيقة متودّدًا. ثم ذكر أمرًا كاد ينساه 
فرحب به ظنًا منه أنّه خليق بأن يضفي على الجر الذي 
كاد يتوئّر روْحًا من المرح فسأل أخحاه ضاحكا : 

علمت وأنا أسأل عن بيتك أنْهم يدعونك الروسيّ 
قاع ذا 

فضحك حسن ضحكة عالية أعادت الطمانينة إلى 
نفس الآخر وهو يشير إلى رأسه : 

- نسبة إلى هذا!.. إن أكسب بعرق جبيني على 
نحو ما (وبسط يده ونطحها برأسه ثم نظر إلى أخيه 
نظرة ذات معنى ضاحكا) أو بالأحرى بدم جبيني. لا 
بد من العْرّق كي تعيش ولكنه يختلف العضو الذي 
بعرق بين فرد وآخر. 

وشعر حسنين بغرابة نحو أخيه. وفكر مليّاء ثم 


بداية ونباية "551 


قال بحزن: 

- ثمّة أناس يكسبون دون أن يعرق لهم جبين! 

وبدا حسن وكأنه لم يفهم قوله على حقيقته فقال 
بحاس : 

هذه غاية الشطارة. .. أن تكسب بعرق جباه 
الآخرين! وسئم حسنين هذا الحديث الذي يجري بلا 
ضابط فصمّم على أن يطرق الموضوع الذي جاء من 
أ-جله . وصمت قليلًا ثم قال بصوت منخفض : 

- أظنّ يسرك أن تعلم بأني نجحت في امتحان 
البكالوريا. .؟ 

فهتف -حسن بسرور: 

- مبارك. أسرّ طبعًا بسرورك وسرور أمّنا! 

تفرّس في وجه الشابٌ ثم استطرد في لهجة لا تخلو 
من إشفاق وسخرية: 

- وظيفة» ثم طنطا أو الزقازيق» أليس كذلك؟ 

فقال الشابٌ منتهرًا هذه الفرصة التى هيأها الآخر 
كي يتقدم خطوة جديدة في سبيل غرضه : 

كلاء في نّتى أن ألتحق بالكلَيّة الحربيّة! 

برط ادن حظنه مد االو الحمد لش على أنّك لم 
تختر مدرسة البوليس!. 

- مصروفاتها كبيرة. . 

لا أعني هذا ولكئى لا أستلطف ضبّاط البوليس! 

فحدجه الشاتٌ نظرة تساؤل فقال حسن مبتسما: 

ضّاط اليش رجال أفراح» نراهم أمام المحمل 
وفي الاحتفالات الكبرى أمّا ضبّاط البوليس فلا ثراهم 
إل هادي :ورا كرات البيوت 1 

وساد الصمت وراحا يتبادلان النظرات» حسنين في 
قلق وحياء وحسن في ابتسام له معناهء ولبئا كذلك 
طويلا حي انفجر حسن ضاحكًا فضحك الآخر وهو 
يعض بصره حياءء وواصلا الضحك حيّى تعباء ثم 
سأله حسن بلهجة ذات مغزى: 

كم؟! 

فضحك حسنين مرّة أخرى وقد احمر وجهه من 
الحياء , ثم قال: 

الدفعة الأولى من المصروفات. يؤسفنى أن أقول 


4 بداية وغباية 


نا مبلغ لا يستهان به ولكيٌ سأدبر الدفعة الأخرى 
ومصروفات العام الثائ من نقود حسين وما وعدتني به 
نفيسة ! 

وذكر حسن كيف كان يعد فيما مضى الخائب 
الفاشل في الأسرة جميعًا: الآن يرونه ملاذهم في 
المليّات! وأحسٌ زهوًا ولكنّ هذا لم يغيّر من شعوره 
الطيّب المتاصّل في نفسه نحو أسرته بل لعلّه ضاعفه. 
وساءل أنحاه ميتسما ' 

كم هذا المبلغ الذي لا يستهان به؟ 

فقال حسنين فى خوف: 

- عشرون جنيها! 

ولاح الانزعاج في عينيى حسن وقال وهو لا يدري : 

ترون جريها كبري إن عيقنا كله لا بارع .هذا 
المبلغ!. . هل تنوي الالتحاق بمدرسة اللواءات؟ 

وانتظر حسنين في اضطراب وقلق ولم ينبس بكلمة 
حيّى عاد الآخر يقول بجدٌ واهتام : 

هذا مبلغ جسيم حقّاء ولا يمكنني أن أعطيك ‏ 
اليوم على الأقل - أكثر من عشرة جنيهات! 

وسادت فترة من صمت أليم. ثم نفخ حسن في 
ضيق وقال: 

- لو جئتني قبل أسبوع!. . وعلى أية حال سأسافر 
غذًا إلى السويس ولعل أعود بما يكفيك! 

وتفكر مليًا عل حين قال حسئين بصوت منخفض : 

- يؤسفني أني أزعجتك! 

فقرصه في أنفه ضاحكًا وقال: 

- كيف تعلّمت هُذا الأدب وعهدي بك طويل 
اللسان! لا تنزعج سآتيك بما تريد ولو قتلت قتيلا 

ثم أعطاه عشرة جنيهات: وحمّله السلام إلى أمه 
وأنحته. وطلب إليه أن يستمسك بالحكمة إذا تحدث 
عمًا رآه في بيته. وشدٌ حسنين على يده شاكرًا وغادر 
الشقّة. وما إن الفرد بنفسه حَبّى قال بصوت ثقيل 
كيب «حياة حسن فضيحة يجب التسثّر عليهاء ولعلٌ 
ما خفي منها أدهى وأفظع). وقطع الطريق متفكرًا 
مغتًا يلفه إحساس بالاشمئزاز والخوف. لم يكن بوسعه 


أن ينسى حميله ولا ما أبداه نحوه من عطف أخوي. 
ولكنّه لم يستطع كذلك نسيان المرأة والرجال المشوهين 
والنديين الخطيرين. نقش هذا كله على صفحة قلبه 
بمداد التقرّز والرعب. ربّاهء لقد انقلب حسن إلى نوع 
آخر من الآدميين؛ لم يعد من الأسرة ولا من المجتمع 
الذي يعرفه . إِنّه يترئحم كأنئما ضربة قد هوت على رأسه 
فأفقدته وعيه» وكلم| جدّ في السير امتلأً شعوره بفداحة 
الخطب. وذكر حاجته إليه التي جعلته يستوهبه نقوذا 
لا يدري من أين أتتء فاشتدٌ اشمئرازه وحنقه» ولعن 
هذه الحاجة من أعماق قلبه في يأس وقهر. وأمر من 
هذا كله أن حاجته لم تنته. فسيعود إليه بعد أيَام ويم 
إليه يده سائلا! ترى من أي سبيل تأتيه النقود من 
السويس! إِنّ قلبه لا يكذّبهء وفيها رأى بعينيه الكفاية 
لن ينشد الدليل» ورغم هذا كله سيعود إليه ويسأله 
أن يتم صنيعه له! هل يستطيع أن يغضب لكرامته 
حمًا؟ هل يستطيع أن يردٌ هذه الجنيهات إلى أخيه 
ويصيح في وجهه إن لا أرضى عن حياتك القذرة؟ 
ونلّذت عنئه ضحكة مبحوحة مرَةٌ, , . إنْه يعلم أنه 
يبذي هذيانًا سخيمًا. سيعود إليه راضيًا ويأخذ النقود 
إذا تفضّل بها - شاكرًا بمتنا. ولو علم أنه ذاهب إلى 
السويس ليسرقها ما وسعه إِلَّا أن يدعو له بالتوفيق. 
وقال وكأنه يحاور ضميره المتوجّع «مهما يكن من أمر 
فهو بالنسبة لنا أخ فاضل كريم!4؛. 
9ه 

طون راعسال لل لبا ايك 
يسري بشارع طاهر . لت أنه كان يندفع بحيوية 
هائلة نحو الأمل الذي ركز فيه حياته جميعاء فإِمًا 
الحربيّة أو الموت. وجلس في السلاملك ينتنظر البك 
مسرْحًا طرفه في أطراف الحديقة أو في الشطر الأماميّ 
منها على الأصمٌ. وكان مشتت اللبٌ فرآها رؤية 
غامضة. وتنقّل بصره الشارد بين نخيلها الرشيق 
المنغرسن: وسط دوائر .من الحشائكن: المنسقة سورت 
بنبات الشيح وانتشرت في رقاعها شجيرات الورد على 
هيئة أهِلّة. وارتاح لحظة من أفكاره فاستقرٌ ناظره على 
دائرة حشائش كبيرة تتوسّط المكان ما بين مدخل الفيلا 


والسلاملك فاستسلم إليها فارّا من قلقه. وكانت تنبثق 
من وسطها نخلة قصيرة ذات جذع أبيض ترف عليها 
روح الطفولة وتغشى سطحها شجيرات الورد بوفرة 
حي تماست أغصانها وتعانقت أزهارها فامتزجت في 
هالة كبيرة انثالت عليها الحمرة والخضرة والصفرة في 
وثام وائتلاف وسلام. وابتسم وهو لا يدري. وكان 
الظلّ قد زحف على أرض الحديقة وما وراءها من 
الطريق ولاحت آثار الشمس الائلة في أعلى الدور على 
الجانب الآخر للطريق ولكنّ المواء هفا مائلا للسخونة 
مفعً] بعرف الياسمين الحائم على سور الفيلا. وورد 
على خاطره هذا السؤال ذهل يمكن أن أقتني يومًا فيلا 
كهذه؟» وتخيل اللحياة فيها ما بين المخدع والحديقة وما 
يتبعها عادة من سيّارة وأسرة محترمة. هذه هي المرة 
الثانية الي يزور فيها فيلا أحمد بك يسري. وفي كلتا 
المرتين انفجر في صدره بركان من الطموح والسخط 
والتلهقف على متع الحياة النظيفة المحترمة. وكان أنحوف 
ما يخافه أن ينحصر في حياة كحياة حسين فيقطع عمر 
ما بين الدرجتين الثامنة والسادسة بلا أمل ناضر. في 
الحياة متع عالية وهواء نقيّ وينبغي أن يأخذ نصيبه 
منها كاملا. وتوقف عن التفكير فجأة حين لمح درّاجة 
تمرق من الحانب الأيسر للحديقة وعليها فتاة. وكانت 
الفتاة توجّه الدرّاجة في حذر على مماشي الفسيفساء بين 
دوائر الزهور فاستغرقها الذر عن النظر فيا حوها. 
كانت في السادسة عشرة» ترتدي فستانًا أبيض هفهافًا 
وتعصب رأسها بإيشارب منمنم, ذات قامة نحيلة 
وصدر ناهد وبشرة نقيّة. وقد أعجله النظر إلى ساقيها 
المدملجتين اللتين تتناوبان الارتفاع والانخفاض فلم 
يكد يتبين وجههاء واخحتفت وراء جناح الفيلا الأيمن 
قبل أن يستدرك ما فاته منها. وثار في عينيه اهتمام 
ويقظة. إذا لم تكن هذه الفتاة كريمة أحمد بك فمن 
تكون؟ وابتدرت مخيلته تستدعى صورة ببية ببحسمها 
اللدن الممتلْ ووجهها البدري» شهيّة جميلة ولكتهبا 
ليست من هذه الرشاقة في شيء! ثم ذكر أخته نفيسة 
فعجب للاختلاف البين بين مخلوقات من جنس 
واحد, ثم شعر في قلبه بغمز ألم وعطف وعاد إلى نفسه 


بداية وعباية 76 
فوجد فيها من فتاة الدرّاجة أثرّا يشبه الأثر الذي تركته 
الحديقة والفيلا ونجفة مبو الاستقبال» طموحًا وثورة 
وسحخطا! دما أحمل أن أملك هذه الفيلا وأنام فوق هذه 
الفتاة». ليست شهوة فحسب ولكنبا قوّة وعرّة. فتاة 
مجحد تتجرّد من ثيابها وترقد بين يدي في تسليم مسبلة 
الجفون وكأن كل عضو من جسدها الساخن يهتف بي 
فائلا دسيّدي. هذه هي الحياة. إذا ركبتّها ركبتٌ طبقة 
بأمرها!) نم عاودته ذكرى ببيّة فتضاعف أله وامتزج 
به ما يشبه الندم والخنجل. وهنا سمع وقع أقدام آنية 
من نأحية السلع فالتفت صوبها منقطعًا عن تيار أفكاره 
فرأى أحمد بك قادمًا في بدلة بيضاء من الحرير وقد 
رشق في عروة الجاكتة وردة حمراء فانتفض قائما وأقبل 
نحوه في أدب وانحنى على يده مسلا في إجلال وابتسم 
البك مرحيًا وساله وهما جلسان : 

- كيف حال الأسرة يا بِي؟ 

فقال حسنين يتودد : 

يقتلون يدك الكريمة ويذكرون صنائعك. 

فغمغم اليك : 

- أستغفر الله , 

وأيقن البك أنه سيتلقى عمًا قليل رجاء بتوظيف 
هذا الشابٌ أو نقل أيه إلى القاهرة ألخ. . لم يكن 
يومه يخلو من مثل هذاء وكان يضيق بالرجاوات ولكنه 
كان في قرارة نفسه يحبّها كذلك ولا يطيق أن يلو بيته 
يومًا من صاحب حاحة., وقال: 
خير يا بئ؟ 

فقال حسئين بحرارة : 

جئتك يا سعادة البك مستنجدًا بشفاءعتك ني 
إلحاقى بالكليّة الخربيّة, . 

5 البك وكانه كان يتوم كل شيء إلا هذا 
الطلب الأرستقراطي وتساءل دون أن يخفي دهشته : 

ولماذا اخترت هذا الباب الضيق؟ ! 

وتألم الشابٌ لما لاح في وجه الرجل من دهشة 
وكرهه لحظتها كراهية عمياء بيد أنه قال بنفس 
اللهجة المتودّدة المهذّبة : 


- يبدو لي يا سعادة البك أنه توجد فرصة ذهبية هذا 


7 بداية ونهاية 


العام لم يوجد مثلها في السنين الماضية لما تعتزمه 
الحكومة من زيادة عدد الجيش؛ ومهما يكن من أمر 
فشفاعتك أهمّ من كل شيء! 

وتساءل البك باقتضاب : 

- والمصروفات!؟ 

وكرهه مرّة أخرى. وسرعان ما تئابى رجاء المجانية 
أو صممّم على أن يؤجله لفرصة أخرى وقال بثقة 
وطمانيئة : 

- إني على استعداد لأداء المصروفات كاملة! 

ففكر اليك مليًا ثم قال: 

- إن وكيل الحربيّة صديق قديم وسأحدّئه 
شائلك.: 
فكان جواب حسنين أن أقبل على يده يحاول تقبيلها 
فسحبها الرجل ونمبض قائ)ا ‏ رئما إنهاءً للزيارة - فقنع 
حسنين بالانحناء على يده مسلا وكرّر الشكر وغادر 
السلاملك مرح الصدر بالأمل . وذكر وهو يقطع 
الحديقة فتاة الدرّاجة وتمألت صورتها وهو يرنو إلى أثر 
العجلتين في الممثى؛ ولكن لم يدم هذا إلا الحظة 
قصيرة, ثم استأثر بوعيه كله مستقبله وآماله. . . 

ا 

في نفس الساعة كانت نفيسة في ميدان المحظة. , , 
كانت الساء تتخشع طبوط المساء على حين واصل 
الميدان في حياته الصاحبة يستبق على أدممه الانسان 
والحيوان والترام والسيارات. وكانت الفتاة واقفة على 
طوار تمئال بضة مصر تننظر انقطاع تيار السيارات 
لتعبر الطريق إلى محظة الترام فلاحظت أن رجلا واقفا 
على بعد أذرع منبها ينظر إليها نظرة غريبة باتت مع 
الأيَّامِ تفهمها حقّ فهمها. وتولتها دهشة وتساءلت: 
حت هذا؟! كان رجلا في الستّين!؟ يجمم في جسمه 
بين ترهل العمر ووقاره» مرتديًا بدلة صوفيّة على 
حرارة الجو ويقبض بيده على ملبة أنيقة عاجيّة 
المقبض. ويضع على عينيه نظارة زرقاء. وقد انحسر 
طربوشه المائل إلى الوراء عن جبهة عريضة لفحت 
الشمس أسفلها وبدا أعلاها لامع البياض فيما فوق 
حر الطربوش» أمّا سوالفه وما لاح من قذاله فشديد 


البياضص. وثار في أعماقها حب استطلاع وطمع ولذلك 
لم تغادر موقفها حين انقطع تيار السيارات. وحولت 
نحوه عينيها فوجدته ما يزال يِحدّق فيهاء وكأنّه تشجّع 
بنظرتها فتقدّم منها في خطوات ثقيلة ومس وهو يمر 
بها : 

اتبعيني إلى سيارتي. . . 

ثم واصل سيره إلى سيارة واقفة لصق الطوار مثله 
في الهرم والوقارء يكاد يعلو سلّمها على الطوار شبرين 
ويقف عند بامبا سائق كالتمثال. وصعد إليها دون أن 
يغلق الباب وراءه وأمر سائقه فاتخل مكانه خلف عجلة 
القيادة. ماذا يريد الشيخ؟ وابتسمت خواطرها في 
تشوّف. ثم عادت تنصت إلى همس الطمع. وكأنه 
استبطأها فخلع نظارته ثمٌ أومأ لها بيده فها تمالكت أن 
ابتسمت» وألقت على ما حوها نظرة متفخصة ثم 
انمهت نحو السيّارة» يحدوها الطمع وحده لأول مرّة. 
وأوسم ا فجلست إلى جانبه وما عتمت أن سطعت 
أنفها رائحة الخمر الفائحة من فيه فاستحوذ عليها 
القلقء وقالت: 

لا أستطيع أن أتأخر. 

فقال بلسان ثقيل : 

ولا أنا أيضا! 

وأمر السائق بالسير فانطلقت السيّارة. ول يفارقها 
شعورها بالغرابة في أثناء الطريق» ثم غشيتها سحابة 
حزن وخحوف لإحساسها بأئها تندهور إلى ما لا نهاية. لم 
يسبق لها قبل هله المرّة أن ذهبت مع رجل قبل تعارف 
طويل أو قصيرء ولو بعد رؤيته مرّتين أو ثلاناء إلى أمّها 
م تكن تخلو من رغبة. أمّا هذه المرّة فها هي تستسلم 
لعابر سبيل» مدفوعة بالطمع وحده. وبلا أدنى رغبة. 
أي تدهور وأيّ هاية! ترى كيف عرف أنْا ضالّته! 
هل انقلب وجهها ‏ على دمامته ‏ يشي بتدهورها؟ 
وتقبّض قلبها فرقاء وجبهتها حيرة قدية جديدة معاء 
بين أن تتزيّن فتبدو في هذه الهيئة المبتذلة أو أن تتعظل 
فتكشف عن دمامتها النقاب؟ !| ووضع الرجل كفه 0 
يدها وقال بصوت ملعثم : 

- حميلة كالقمرا 


ولم يفترٌ تغرها عن ابتسامة كا كانت تفعل قدي 
وعتميت: 

- لست من الال في شيء. . 

فقال مستدكرًا؛ 

لا تخلو امرأة من جمال! 

كاذب أو محادع فلشدٌ ما يعمي الفسق العيون» 
وقالت ببساطة : 

إلاي!... 

فنقر بأصبعه على ثديها وقال : 

لولا جمالك ما وجدت هذه الرغبة! 

ودّت لو تستطيع أن تصدّق قوله. ولكن هيهات» 
فلم يظفر بأحد يحبها أكثر من ساعات. لعله يعربد أو 
يخرّف أو يعانى مرارة اليأس مثلها سواء بسواء. لقد 
كابدت من الرجال ما جعلها تحقد عليهم ولكن دون 
أن تخمد لهذا رغبة جسدها الذي يسيمها الموان 
فكرهته كما تكره الفقر. ما هي إلا أسيرة للجسد 
والفقر ولا تدري كيف تستلقذ نفسها منهما|. جرفها 
التيّار وجرّحتها الصخور فلم تعد ترى من خير في أن 
تأوي إلى الشاطئ عارية مثخنة بالجراح وبلا نصير أو 
رحيم؛ ثمّ سمعت صوته يقول متنهّدًا «وصلناء 
فالتفتت إلى الخارج فرأت السيارة تدور مع طريق 
دائريّ تقوم على جانب منه الأشجار الضخمة كأشباح 
عمالقة وعلى الجانب الآخر يجري النيل في رقعة عظيمة 
من الظلمة إِلّا ما انغرس في جناحه البعيد من رماح 
الأنوار المنثالة من المصابيح » وقالت كالمتسائلة : 

ب التزيرة؟ 

فضحك ضحكة فاجرة وقال بلهجة ذات مغرى: 

تعرفينها طبعا. . . 

وتريّث ريثا غادر السائق موضعه واختفى في 
الظلام فخلم نظارته وهو يقول: 

- أريني شطارتك فكلٌ شيء يتوقف عليها. . . 

كان هرمًا مجنوناء يكاد يئر حمرًا. واممال عليها 
بمداعبة غليظة فعضها بوحثيّة وراح يقرصها حتى 
أوشكت أن تصرخ. ولاحت في الجؤ نلذر هزء 
وسخرية» ثم تعب حيّى الياس» انفرج عن إحساس 


بداية وههاية /51؟ 


بالغرابة ومغالبة الضحك. وأخيرًا ارتمى غمورًا وقال 
بصوت غليظ: 

- مذي يدك إلى مقعد السائق وناوليني الزجاجة. 

ورفم سدّادتها وعَلّ منها ثم أسلم ظهره إلى المسند 
الانتظار فقالت برجاء مشبع بالتودّد لأبْها تعلمت أن 
تخاف هذه الآونة أكثر من أي شيء آخر: 

آن لنا أن نعود. 

فقال وكأنه يخاطب نفسه : 

- ليتني لا أعود أيدًا. . . 

ولى تدرك ما يعني ولكنّهبا استجمعت شجاعتها 
وغمغمت: 

- تسمح ! 

ودس يده في جيبه وأخرجها في تكاسل ثم ترك 
ريالا يسقط في حجرها فتناولته في دهشة وانزعاج 
وحدجته باستنكار وتساءلت وهي تتميّز غيظًا: 

ما هذا؟ 

فقال بجفاء مباغت وعيئاه تعكسان يريق الخمر: 

- نعمة كبرى! إذا لم ترضي به عاد إلى موضعه 
السابق إلى الأيد. . . 

أظنّ مقامك أعلى من هذا بكثير. . . 

فصب في فيه جرعة كبيرة ومصمص بشفتيه مقطبًا 
وقال: 

هذا حقٌّء ولكنّ الريال أعلى من مقامك بكثير! 
أراهن على أنه لا توجد امرأة لها مثل هذا الأنف 
وتطمع في مثله! 

وجرحث الاهانة صدرها فاضطرب وقالت وهي 
تغالب الغضب بالخوف : 

لماذا تحذثبي ببذه اللهجة؟ 

لأنك طّاعة. . . ولآنك السبب فيما يقع لي. 
اعلمي أن لا أمل معي إلا الفكّة. وحبّى هذه 
تحاسبني زوجي عليها عقب عودتي إلى البيت» وأهون 
عل أن أضربك من أن تضربني هي . 

ولاذت بالصمت وهي تنتفض غضبًا وغيظًا فعاد هو 


4 بداية وباي 


يقول: 

- ضايقتني امرأة ذات مرّة في مثل موقفنا هذا 
فصفعتها وقذفت بها خخارج السيارة نصف عارية» ماذا 
فعلت فيا تظنين؟.. لا شيء! كانت تعلم بلا ريب 
أن الشرطي أخطر عليها مئّ. ومع ذلك فهي مظلومة 
وأنت مظلومة وأنا مظلوم أيضاء والظالم الحقيقن هي 
زوجي... 

فزفرت زفرة غيظ وتمدمت: 

لعوت من فضلك, . ., 

فقال وهو يتثاءب : 

- لك هذا. افتحي النافذة ونادي السائق. . . 

وانطلقت السيّارة في طريق العودة فتزحزحت حتى 
نباية اللقعد. وسهمت إلى الظلمة بعين خابية. 

عات 

وكان يوم قبول حسنين طالبًا بالكليّة الحربيّة أسعد 
الأيّام جميعًا. وكان يحسبه مطلبًا غير عسير كشأنه حيال 
مطالبهء ثم أخعد يتين عسره وعناده حّى اقتنع آخر 
الأمر بأنّ تدبيره للدفعة الأولى من المصروفات كان 
أخفٌ متاعبه. وقد طال تردّده إلى فيلا أحمد بك يسري 
وكاد الرجل بياس من قبوله فنصحه بالعدول عن 
اختياره ولكنّ تصميم الشابٌ وتقدّم ترتيبه وحسن 
هيئته وتفوقه في الكرة والعدو ثم شفاعة أحمد بك قبل 
كل شىء : كلّ أولئتك ساعد على إحداث المعجزة ‏ 
على حدٌ تعبيره بعد اليأس - وتم القبول وكاد يجن من 
الفرح, والحقّ أنّه علّق آماله كلها على هذا القبول 
بحيث لم يكن يدري ماذا يفعل أو كيف يولي وجهه 
وجهة أخرى لو أنحفق مسعاه. كان طموحه إلى الحربيّة 
يتفجّر من صميم روحه الملهوفة على السيادة الثائرة 
على تعاسة حياته وضِعْتِها. وبدت الكليّة لعينيه 
كمصنع سحري قادر على تحويله من إنسان مهرول 
مغمور إلى ضابط مرموق في ظرف عامينء» وباقل 
جهد, وكان سمع مرة صاحبًا له يصف ضبّاط اليش 
بقوله «الضباط مرتبات عالية ونفخة كاذبة وعمل 
كاللعب لا خير فيه؛ فهامت بالحربيّة نفسه وقوي 
حلمها في روحه. ولمًا علم بقبوله في الكليّة أبى أن 


يعترف لوساطة أحمد بك بالدور الخنطير الأوّل الذي 
لعبنه في قبوله فقال لأمّه إِنْ الفضل الأوّل لمزاياه 
الجسمبة وتفوقه في الرياضة. وقال لنفسه في زهو 
«أستطيع أن أعدٌ نفسي من الضبّاط منذ الآن» وراح 
خياله المختال يستعرض الآدميّين الذين ستؤثر فيهم 
بذلته الرسميّة تأثيرها السحري ‏ الجنود والفتيات 
وعامة الشعب بل وأحمد بك يسري نفسه وهو مرح 
نشوان. وحمل الخبر السارٌ بئفسه إلى أسرة فريد أفندي 
محمد فاستقبلته بفرحة تجل عن الوصف. وقال له فريد 
أفندي ضاحكًا «دشرفتنا يا حضرة الضابط». وقال 
الشابٌ على مسمع من بهيّة لغرض في نفسه «سأغيب 
عنكم أربعين يومًا قبل أن يُسمح لنا بالخروج مرّة كل 
أسبوع» وكان يطمع أن يحظى تلك الساعة بما حرم 
عليه عامين ولكنّه لم ينح له أن يخلو إلى الفتاة إلا 
دقائق؛ ولم تكن الدقائق لتمنعه من نيل مشتهاه لو 
أرادت الفتاة أن تجود له به ولكتبا م تترحزح عن 
تعفّفها حيّى في هذه اللحظة. وغلبها الحياء كعادتهاء 
فاتكمشت وقلبها يخفق بالعطف والألم تأْرًا بالوداع . 
وقال لها بعجلة في صوت لا يكاد يسمع «أريد قبلة 
حارّة من شفتيك» ولمًا رأى حياءها وجمودها قال بجزع 
«أتأبيين علّ هذا حيّى في هذه اللحظة!. . لا يمكن أن 
أتصوّر أنْك تحتينني !» ونحرجت الفتاة عن صمتها قائلة 
في قلق «بل لهذا أرفض أن أذعن لك!؛ وتساءل في 
إنكار ولا أفهم ما تعنين» فقالت بشجاعة مؤثْرة 
«أرفض لأني أحبك»: وكان يسمع هذا الاعتراف 
الصريح البسيط لأوّل مرّة فبلغ به التأثر حدّ السكر 
وهم بالاقتراب منها ولكنّها أشسارت إليه محذّرة وهي 
تومئ برأسها ناحية باب الحجرة المفتوح. وما لبث أن 
عاد فريد أفندي وزوجه فقضى بقيّة الوقت مرا بين 
نشوة السكر وقلق الشوق وحنق الغيظ. ثم ودّعهم 
ونزل إلى شقّته وهو يقول لنفسه «هذا حبٌ عاقل! 
حب بسيطر عليه الحزم والتدبير. كأئها رسمت خخطة 
حكيمة كي تضمن زواجي بها. ولكن هل يعرف 
الحبٌّ الحقيقيئن هذا المنطق البارد؟!» وكانث حديثه 
لنفسه في الواقعم خاضعا لما استحوذ عليه من غيظ 


مسرن وعنابوواقة نا أنعرا ودام ل وتع قرو ل 
أمضى شطرًا من الليل فين أنه وأخقية: ولم تستطع 
الليوةتى اواو ان مق لثمل اديه تست عناها 
وقالت في حزن «قضي علينا بأن نعيش وحدناء ولم يخل 
هو من كآبة خليقة يمن يفارق أهله لأوّل مرّة ولكن 
قرا عووها سروس كافك كير كن إن اننا 
المستقلة. في بيت غير البيت ووسط غير الوسط. أمّا 
الأمّ فحافظت على هدوئها الظاهري, ولم تشججع نفيسة 
على الاسترسال في حزما وقالت لما بحذة «لا تبكي 
كالأطفال. سنراه كشيرّاء وحسبئنا سرورًا أنه نال ما 
يّى». بيد أنْ قلبها كان في واد آخرء حرّك الفراق 
الوشيك أشجانه فرجّعت أوتاره الأحزان المنطويةء 
فذكرت وداع حسين» وتخيّلت خخلوٌ البيت من أبنائها 
جميعاء وتداعت إلى ذهنها ‏ على كره ‏ ذكرى رحيل 
زوجهاء فعجبت لحياتها التى لا تجود لما بسعادة إلا 
مصحوبة بوداع وفراق. فهل قدّر ها أن مضي البقية 
الباقية من حياتها وحيدة؟ وهي في سبيل هذه النهاية 
تصبّرت وتجلّدت وعانت ما عانت من مرارة الكفاح؟ | 
ولكتها لم تستسلم لحزنها إلا بمقدار يسيرء ونادت قوّعها 
الكامنة. وذكرثت ما صادف ابنها من آي التوفيق 
لتستعين به على تبديد كابتها. مهما يكن من أمر فإثها 
نؤمن الآن بأنّ ما بذلت من دببر وكفاح لم يضع 
سدّىء وأنّ سفينتها الضالة في سبيل المداية إلى مرقاأ 
آأمن. ويحقّ لها أن تفرح فما من ثمرة تجنى في هذه 
الأسرة إلا وهى غرس يديها وعصارة قلبها. 

وفي الصباح الباكر ودّع حسئين أمّه وأخته ومضى في 
سبيله إلى الكلية الجديدة. . 

- 575 - 

ثمّ وجد نفسه في فناء الكليّة بين جماعة المستجدّين 
من الطلبة وبحثت عيناه فيها بينهم لعلّه يجد صاحبًا 
قديًا من التوفيقيّة فيلوذ من وحشته ولكنّه لم يظفر بوجه 
قديم. وضايقه هذا وإن أحسس زهوا لكونه الطالب 
الوحيد من مدرسته الذي قبل في الحربيّة. وتمئّى كثيرًا 
أن يبدأ أحد بالكلام, وطال انتظاره. ولكن أبى 
كبرياؤه أن يكون هو البادئ. ثم مضى يتسل بمشاهدة 


بداية ونباية 5١55‏ 


الكليّة فجرى بصره مع الفناء الشاسع وأبنيتها الفخمة 
المترامية» ثم ثبته طويلاً على تمثالي المدفعين المقامين 
عند مدخخلها فهاله المنظر وبثْ في نفسه إعجابًا 
وخيلاء. وكان بادئٌ الأمر مطمئنًا إلى مزاياه الجسمانيّة 
من طول قامته ورشاقة قدّه ووسامته ولكنه تخل عن 
كثير من إعجابه بنفسه حين تفيخخص الآخرين ورأى 
بيغم انا كا بوندزة امير ة روعالا بوانت لها 
لاحظ على بعض الأفراد من مخايل الأرستقراطيّة. ثم 
وقعت عيناه على شاتٌ قادمًا من حجرة تطل على الفناء 
عرف فيه زميلا قديًا في التوفيقيّة سبقه إلى الالتحاق 
بالكليّة بعام أو يزيد وكان يرتدي قميصًا وبنطلونا 
قصيرًا من الماكي وعللى ذراعه اليسرى أربعة شرائط . 
لم يكن من أصدقائه ولكنّه تعرّف به في فناء المدرسة, 
ومع أنه لم يكن يذكر من اسمه إلا دعرفان» ولم تكن 
هذه العلاقة الواهية لتغريه بالإقبال عليه في غير هذا 
الظرف؛ إلا أنّه رحب بالتسليم عليه ليعلن صداقته 
بهذا الطالب القديم أمام السطلبة المستجدّين. ونقذ 
فكرته فمضى إليه حبّى واجهه ومك إليه يده مبتسمًا وهو 
يقول في ألفة: 

- كيف أنت يا عرفان؟ 

وسرعان ما ماتت الايتسامة على شفتيه للنظرة 
الجامدة الى رماه مها الأحر في تجهم وصلف. وقد 
أطال تفخصه في تكثر وما يشبه الغضب». ثم لمس يده 
بيده واستردّها بسرعة كأنْه يخاف عليها عدوى حبيثة 
دون أن ينبس بكلمة! وشعر حسئين باميار شامل 
وذهول قاتل. وظنّه نسيه أو أساء فهمه فقال 
كالمستعيف:: 

ألا تذكرني؟. . أنا حسئين كامل علق. . . 

فلم يؤثّر الاسم في الآخر أيما تأشر وم يطرا على 
صلابته أيّ لين» ولكنه خرج عن صمته وقال بخشونة 
وجفاء : 

لا صداقة هنا. أنت طالب مستجد وأنا 
باشجاويش. . . 

نطق مبْذه الكليات ثم ذهب. ووجد حسنين نفسه 
في موقف خحزي لم يقفه في حياته فأثلجت أطرافه 


بداية وعباية 

وتوتّرت شفتاهء وانتبذ موضعًا بعيدًا متحاميًا النظر إلى 
أحد أقرانه وإن تخيّلهم وهم يتغامزون ويتضاحكون. 
ماذا دهاه الأحمق! ترى هل أهانه لضغينة اضطغنهبا 
عليه أو فقد رشاده؟ أمن الممكن أن يكون هذا هو 
النظام المتّبع في هذه الكليّة؟! ولبث مستغرقًا في أفكاره 
لا يرى ما حوله شيئًا حبَّى نودي على الطلبة المستجدّين 
ودعوا إلى أول طابور لهم بالملابس المدنية. ووقفوأ 
صفَّين متوازيين بإرشاد الباشجاويش محمّد عرفان 
وبعض الجنودء وقد تجنب النظر إلى صاحبه القديم 
الذي وٌجده معلْمًا فوق رأسه كالسيف وكظم عواطفه 
المستعرة أن يلوح منها أثر في وجهه. ثم جاء ضابط 
عظيم محاطا ببعض الضبّاط من رتب أقلء وألقى 
عليهم نظرة ثاقبة ثمّ راح يخطبهم عن الحياة العسكرية 
التتى آثروها. وكان يخطب باللغة العاميّة بصوت أجش 
يوافق ما ارتسم على أساريره من الصلابة والعنف. 
وكان يفصل بين كثير من حمله مبذه العبارة «العقاب 
الصارم» حيّى صارت كضربات الإيقاع وملا القلوب 
رهبة وحذرًا. وما إن انتهى من خطبته حتّى بدأ أول 
يوم في الحياة العسكرية الجديدة. واستقبل به حسنين 
حياة جديدة لم يسبق له بها عهد. وبدأ اليوم ‏ والأيام 

' 00 

جميعا ‏ شافا طويلاء يبتدئ بالدش البارد في الصباح 
الباكر» ويثنى بالطابور» ثم الدروس» جهد متواصل» 
وحشونة في المأكل والملبس والمعاملة حيّى إذا جاء وقت 
النوم استلقوا كالقتلى. وكانت خشونة المعاملة أفظع ما 
يلاقونه» كان الرؤساء يروبها فرضًا واجبّاء ويكفي أن 
يحظى طالب بشريط لأقدميّته حبّى يمارسها كحق من 
حقوقهء وهو يمارسها في غير رأفة وبسطوة تبلغ في أكثر 
الأحابين إهانة صريحة وتجريحًا متعمّدًا. ول يكن ثمة 
حال للاعتراض أو الاحتجاج إذ لم يكن للكليّة من 
شعار تحرص عليه كالطاعة العمياء الخرساء البكياء . 
ولم يجد حسنين من عزاء في ذلك الحو الرهيب إلا أنه 
سيصير يومًا أومباشيا ثم باشسجاويشًا. وهنالك يقضى 
ديونه دفعة واحدة! وقد ذكر عهد التوفيقية ‏ الذي 
وصفه يوما بالإرهاب ‏ بالترخم والرثاء. وبلغ منه 
الضيق أحيانًا أن ندم على اختياره لهذه الكليّة الجهئميّة 


تمي لو تواتيه الشجاعة على التخلّص منها. وكان 
يشاركه إحساسه هذا كثيرون في الأيام الأولى على وجه 
الخصوص . وقد عصرتهم قساوة الحياة فسارع إليهم 
المرال: ولعل حسنين كان الطالب الوحيد الذي لم 
بخضع لهذا القانون الطبيعيَ. بل لعل جسمه اكتسب 
ارتواء غير منتظر لأنّ غذاء الكليّة ‏ على خشونته ‏ هيا 
له وجبات منتظمة لم يعتدها في أعوام الشدّة الأخيرة. 
بيد أنّه تعرّض لآلام نفسيّة غير متوقعة في أُيّامم الجمع 
التي يسمح فيها عادة بالزيارات. كان فناء المدرسة 
الخارجيٌ بمتلّ بالآباء والأمهات والأقارب فيحظى 
الطلبة جميعًا بهار ممتع ويعودون إلى حجراتهم مثقلين 
بالمدايا من حلوى وفاكهة ودسم الطعام. حتى الطلبة 
الريفيون ل يعدموا أقارب من القاهرة. فلم يكن ثمة 
طالب يقضي هُذا اليوم السعيد وحيدًا إلاه: لم يزره 
أحد ولم ينتظر أحدًا. وكانت أمّه قد أخخبرته - قبل 
رحيله - بأنها لن تستطيع زيارته لأنها - ىا يعلم ‏ لم 
تتمكن من ابتياع معطف جديد يليق بالظهور أمام 
أقرائه: أمّا نفيسة فقد قالت له بمزاحها المألوف ولا 
اظنٌ أنه مما يشئفك أن أبدو أمام زملائك ببذا 
الوجه»؛ وم يكن ثمّة أمل في أن تزوره مبيّة لحيائها 
وعدم اعتيادها الظهور في جتمع من الأغراب» فلم 
ب إلا فريد أفندي وكان بطبعه كسولًا لا يكاد يفارق 
بيته إلا لضرورة قصوى. ومع هذا فقد زاره مرّة ومل 
إليه هديّة من البسكويت. واعتاد في أيّامِ الزيارات أن 
يختار موقا عند مدخل الفناء الداخليٌ يراقب منه الزوّار 
بعينين كثيبتين ويتملّ بمشاهدة النساء والفتيات مأخخوذا 
بجانٌ وأناقتهن وآي النعيم البادية في وجوههن 
وثيابين. وعجب لمذه الفوارق التى تباعد بين 
الآدميين. وبدت لعينيه محخيرة بقدر ما هي مزعجة. 
وثارت بنفسه انفعالات السخط والغضب والتمرّد فلم 
يجد من متنفّس إلا في أن يناقش ربّه الحساب» 
متسائلًا ‏ فيها يشبه التحدّي - عن أسرار حكمته التي 
جعلت من الدئيا ما هو كائن! وسأله مرّة زميل له عن 
سر عزلته فقال بلا ترذد: 

- أي متوق. وأخي مدرّس بطنطا. أمّا الأسرة 


فمحافظة لم تألف الظهور بين الناس على هذا النحوا 

بيد أنّْ الأفكار السوداويّة لم تجد من نفسه مرتعًا 
خصيبًا إذ إِنَّ الحياة العسكريّة لا تمهل الأفكار حيّى 
يستفحل خطبهاء وقد علّمته أن يشسبى باطنه أكثر 
وقته. ثم بمرور الأيام. أخذ يألف شدتها وجوها 
الخائق فمضت تخت وطاتها وتحتمل» إلى ما ظفر به من 
صداقات جديدة ابتل بها صدره الموحش فاستطاع أن 
يضحك ملء قلبه ‏ رغم كل شيء - كعهده القديم. 
وهكذا انقضت الأربعون يوما. . . 

15 س 

وبّل إليه - لدى خروجه من الكليّة بالملابس 
الرسميّة ‏ أنّه حقّق حلا بديعًا بتصدّيه للعالم بالبدلة 
الملؤنة... كان ينطلق كالعامود في استقامته. 
كالطاووس في خخيلائه» ملقيًا على صورته التي تعكسها 
مرايا الحوانيت والمقاهي نظرات ارتياح تشمل الشريط 
الأحمر والطربوش الطويل والحذاء اللامع. ملوخًا 
بعصاه القصيرة ذات الرأس الفهَّئْء قابضًا على قفازه 
كأنّه يتحدّى العالم. ولمًا تراءت لعينيه عطفة نصرالل 
جاش صدره بممشاعر متنازعة من العطف والنفور. لم 
مضى إليها مطمئثًا إلى أن أحدًا لن يراه ممّن يود ألا 
يروه - لم يُطلع أحدًا من أقرانه على عنوانه ‏ راجيا أن 
يراه جميع الذين يودٌ أن يروهء وأحدقت به الأعين 
ولوّحت له الأيدي من رقاع الأحذية إلى الحدّاد ومن 
بائع السجاير إلى جابر سلان البقّال. وتطلّع رأسه إلى 
شرفة فريد أفندى فوجدها مغلقة فسرٌ لما مهيأ له من 
مفاجأة سعيدة غير مسبوقة بتنبيه» ثم قطع فناء البيت 
إلى الشقّة وطرق الباب وانتظر مبتسم). وجاءه صوت 
نفيسة وهي تزعق «(مّن؟» وفتح الباب فها إن رأته حتى 
هتفت كالمجئونة : 

فسني ! 

وشدّت على يله في انفعال وجعلت #برّها بقوَة 
وفرح. وجاءت الأمّ مهرولة على صوت ابئتها فاستسلم 
لذراعيها النحيلتين وهي تضِمّه إلى صدرها وقئل 
جبينها في سرور شابة شيء من القلق على سترته التي 
طوقتها ذراعاهاء ثُمْ سار بينها إلى حجرته القديمة التي 


بداية ونباية ١17/١‏ 


بدت لعينيه غريبة لكتّها على غرابتها استثارت حنانه 
وذكرياته. ووقفوا ثلاثتهم والمرأنان ترنوان إليه 
بإعجاب وحبّء ثم دعت له الأمْ وأفصحت عن 
سرورها بعبارات مقتضبة. ثم لاذت بالصمتء أما 
نفيسة فلم يسكن لساخها لحظة «لشدٌّ ما أوحشتناء. . . 
«البيت من غيركم كالقر».. «اضطرني وجهي»)... 
هلم يتمكن حسين من القيام بإجازته هذا العام لمرض 
زميلة وقد كدنا انه عق الرن هدي وهر سما كه 
نتراسلان؟. . . لقد أخبرني بِبْذا منذ عشرة آيَام. . . 
«ماذا تعلمت؟ هل تستطيع الآن أن تطلق بندقية؟» 
وكان يجيب على أسئلتها في دعابة» ثم خلع طربوشه 
ووضع عصاه وفَفَازهِ على المكتب ولبث واقفًا وهو ينظر 
إلى سترته ليرى ما فعل العناق بها. وجلست أمّه على 
الفراش وهي تقول : 

0-0000 

فتردد لحظة ثم قال : 

أخاف أن ينكسر البنطلون! . . . 

فتساءلت المرأة بدهشة : 

هل تظلّ واقفًا طالما أنت لابس البدلة؟! 

وابتسم في ارتباك ثم جلس على الكرميّ في حذر 
ومدّ ساقيه وهو يفحص بينطلونه باهتمام» وقال: 

إن كسرة واحدة بالبنطلون خليقة بأن توقع عل 
عقابًا صارمًا لا يقل عن حبس شهر بالكلية . 

ونظر في وجه أمّه ليرى أئر هذه الكذبة في نفسها 
فقرأ في صفحته الانزعاج فاستطرد قائلا بصوت ينم 
عن التضجر؛ 

حياتنا شاقة لا يمكن أن يتصوّرها إنسان» فنهارنا 
كله وشطر من الليل نقضيههما في الخلاء بين المدافع 
والقنابل والرصاص» وقد تودي هفوة بسيطة بحياة 
فرد! 

فانّسعت عينا نفيسة في فزعء وتساءلت الأمْ في 
اضطراب: 

كيف يُلقون بأبناء الناس إلى الملاك؟ ! 

وهتفت لفيسة في انفعال: 


لماذا اخثرت هذه المدرسة؟ 


"1 بداية وباية 


فهرٌ رأسه بثقة وقال: 

لا تخاني عل! إني ألعب بالنار بمهارة استحقت 
إعجاب الضبّاط حيًا! 

فقالت الأم بصوت متهدّج : 

ما عسى أن نصئم بإعجابهم إذا أصابك سوء لا 
قدّر الله؟! 

فقال حسنين في سرور خفي : 

- وماذا تصنعين إذا دذعينا إلى الحرب؟. . ألم تسمعا 
أن هتلر يعد عدّته لإشعال نار الحرب؟ وإذا نشبت 
الحرب هجم موسوليني على مصر فنُدعى جميعًا للقتال! 

وحدجته الأمّ بارتياع» ثم سالته بجدّ واهتمام : 

أحمًا ما تقول يا به؟ 

وتراجع قليلا. . . 

هذا ما يقوله بعض الئاس ! 

وما رأيك أنت فيا يقوله هؤلاء الناس؟ 

وقبل أن يجيب صاحت به نفيسة : 

إذا صم ما يقولون فاترك المدرسة بلا تردّد. 

فضحك الشات ملء فيه وقال مشِفمًا من إفساد 
سرور اللقاء : 

ما أردت إلا إخافتكما. .. (ثمّ غير لهجتنه 
متسائلا)... فلندع الذر جانبًا وخبريني يا ست 
نفيسة ماذا تعدّين لي غداء للغد؟! 

فابتسمت الفتاة وأدركت أنّْ أنخاها وضيفها» نصاف 
نهار الخميس ونهار الجمعة وأنْ إكرامه واجب عليها 
قبل أي إنسان آخر. فقالت: 

- سأشتري لك دجاجتين تطبخههما نيئة في ملوخيّة! 

عال!. , والجلوى؟ 

ال 

- نفسي في الكنافة. فطالما رأيت هداياها تحمل إلى 
الطلبة أيَام الجمع فيتحلب ريقي من بعيد| 

ول تبتمّ الفتاة للكنافة قدر ما اهتمّت للسمن اللازم 
فا ولكتها لم تتراجع في نشوة الكرم التي غمرتها 
فقالت: 

- وستحلّ بالكنافة كيا تشتهي ! 

فقال الشاتٌ بعد تردّد: ْ 


لو كنت وقحًا لسألتك أن تحشيها بالفستق 
والبندق! 

ولكنك لست وقضًا والحمد لله., . . 

هكذا تهرّبت بالمراح وأدرك حسنين أنه لى يعد 
بوسعها أن تسخو أكثر مما سختث فقال ضاحكا: 

آه لو رأيتم الهدايا التي كانت تحمل إلى الطلبة! . . 
وفي مرّة أهدى إل صديق قطعة من حلوى اسمها 
«بودنج [) . 

- بودنم ! 

5 لعم بودنج . 5 

فضحكت نفيسة قائلة : 

لولا الملامة لقلت إِنّْبا سلاح لضرب النار! 

م سألئه أمه : 

- اذا لا تخلع ملابسك؟ 

فقال في شىء من الخجل : 

شاذقي إن السيد] | 

ولاح التذمّر في عيني الأمّ فاستدرك قائلا : 

- وسأعود مبكّرًا لسهر معاء وستمضى الغد معًا 
كذلك! ْ 

وعادوا إلى الحديث والذكريات طويلا. ولكنّه لم 
يعد يسعه أن يملك خياله الذي ينازعه إلى الشقّة 
العليا! وكان يجد صعوبة في قطم الحديث والإفصاح 
عن رغبته في زيارة جارهم فريد أفندي» وأخيرًا قال 
بعدم أكتراث : 

آن لي أن أترككها للذهاب إلى السين! ولعلي أجد 
بعض الوقت لزيارة فريد أفندي! 

2 5354 2 

مئته نفسه بالانفراد بفئاته على وجه من الوجوه 
ولكنّه لم يدر كيف. فقد اجتمع في حجرة الاستقبال 
بالوالدين» واستفاض الحديث العاديّ وهو ينتظر 
حضورها بصير نافد. ثم جاءت تسير على استحياء 
وقد لفها روب وردي لم يبد منه غير أطرافها فسلّمت 
عليه سلامًا رسميًا ووالدها يتفخصها بنظرة ضاحكة 
ننم عن إعجاب. وجلست إلى جانب أمّهاء واتّصل 
الحديث كما كان ولكنّ محضرها استأئر بأعاق وعيه 


فوجد مشقّة في تتبّع الكلام التافه ومشمّة أكبر في 
الاشتراك فيه. ثم أخذ يستشعر بالملل والضيق» وكلّم) 
استرق إليها نظرة وتخيّل قوامها البض ثار دمه وحقد 
على الجلسة وشهودها. ورأى في عينيها هدأة وطمانيئة 
كانه لا يكدّر صفرها مكدّرء وإِئّْبا لكذلك دائًا كأئما 
لا يجري في عروقها دم. وليس أحبٌ إليها من أن 
تجلس بين والديها تصغي لحديثه وهي في مأمن من 
نزواته!. . لذاك يحنق عليها أحيانّاء ولكنّه لا يستطيع 
أن يتجاهل ما بْته في حناياه من طمانينة وثقة فكان 
يشعر بأنّه يأوي من حبّها إلى ركن ركين وعاطفة عميقة 
ئابتة لا تزعزعها الحدثان. واستمرٌ الحديث فلم تجد 
من نفسها شجاعة على الاشتراك فيه قانعة مبرْة من 
رأسها أو ابتسامة من شفتيها فبلغ منه الضيق خبايته. 
وفكر في مخرج فخطرت له فكرة جريئة لم يقعد عن 
تنفيذها مدفوعًا بجسارته» فقال موجها خطابه إلى فريد 
أفندي : 

هل تأذن لي في أن أصحب ببيّة معي إلى السينا؟ 

وتبادل الزوجان النظر على حين خقضت بهيّة عينيها 
مورّدة الوجهء ثم قال فريد: 

- أظنّ العالم الحديث يستسيغ هذا السلوك بين 

ولكنّ زوجه قالت بلهجة المعارضة : 

> اكعافة لذ يوق هذا للبينبوالدتاكة: 

وم يتورع حسنين عن الكذب إنقاذًا لمشروعه 
فقال: 

لقد استأذنتها فوافقت بسرور. 

فابتسمت أسارير المرأة وقالت وهي تنظر صوب 
زوجها: 

ما دام والدها موافقًا فلا مانم عندي . 

وطلب إليها فريد أفندي أن تأخدذ أهبتها للذهاب 
مع الشابٌ فمضت متعثرة في خطوات النجلء وما 
هى إلا دقائق حي كانا يغادران الشقّة معًا. ولاحظت 
سن سر شير صني اقترسا من شمَة 
الأسرة كأنه يخاف أن ينتبه إليهما أحد من الداخل 
فساورها قلق و*مست في أذنه: 


بداية وحباية 71/8 

كذبت على أمّي يقولك إنْك استاذنت والدتك, 
وستغضب نفيسة لآنك لم تَذَُعُْها معنا! 

فأشار إليها بالسكوت وأخذها من يدها إلى الفناء 
ثم إلى العطفة, وسارا معًا والوالدان يطلان عليهها من 
الشرفة. وكانث مهيّة ترتدي المعطف الأحمر الذي يجلر 
نقاء بشرتها فبدت كالقطة الجميلة. بيد أنْ القلق م 
يذهب عنها وقالت له في لوم : 

- ستعلم أسرتك برحلتنا إن عاجلًا أو آجلَا. . . 

ولم يدع له سروره بالظفر مكانًا لهم فقال ضاحكًا: 

- لم نرتكب إثمّاء ولن تحرق الدنيا! 

ألم يكن الأخلق بك أن تدعو نفيسة معنا؟ 

- ولكب أريد أن أنفرد بك! 

فقالت بقلق. وكانت تخاف نفيسة أكثر من أي 
عتخلوق آخخر: 

أنت لا تبالي شيثًا واأسفاه. , 

وم يكن لديه من وسيلة للانتقام من تحفظها 
وبرودها سوى الكليات الصريحة وأحيانًا النابية فقال: 

ب 'ؤذدت لعو كنت ارتكبت: مغصية مك حى 
أستأهل هذا الوصف عن جدارة, . 

فتضرّج وجهها بالاحمرار وعبست في استياء دون أن 
تنبس بكلمة لأنّبها كانا قد اندسًا بين الواقفين على 
طوار المحطة» وجعل ينظر إلى وجهها الساخط في 
سرور باطني . ثم همس مبتسما : 

أعبنى معصية خفيفة! 

فاأعرضت عنه حيّى جاء الترام فصعدا إلى الدرجة 
الأولى ولم يكن بها إِلَّا سيّدة أجنبيّة فشعر بارتياح: 
وجلس لصقهاء ثم سألا في دعابة: 

كيف كان شوقك إل في غيابي؟ 

م تخطر لي على بال قط. . . 

فهر رأسه كالحزين وقال: 

ما آلمني شيء كا آلمي إحسامي بتشوّقك إلي. 

فقالت بيرود وهي تخفي ابتسامة : 

فنا رسك ان الاك :لساري تلز ادكه :دياك 
تقلا | 


4 بداية ونهاية 


وذكر وهو لا يدري ما تعرض به نفيسة من ثقل دم 
فتاته فرنا إليها متأملا فوجدها جميلة فوق ما يشتهي. 
ولكمّبا لا تخلو من هذه الصفة! وما غاب عنه أنه يحب 
هذه الصفة كما يحت العاشق نقائض معشوقه. وعدل 
فيجأة عن معابئتها فقال بحرارة: 

- لم تغيبي عن نفسي الحظة واحدة طوال ذاك 
القزاة دوقن توليت عند يدا بوشن أن الت فى القوتي 
على طموحه المعزّب - جنّة أمَا على البعد فهو مأساة 
كاملة . 

وخفضت عينيها دون أن تنبس ولكنه شم في 
استسلامها وما اعتراها من سهوم رائحة الوجد 
الصامت وامتلأت رئثاه بارتياح عي 1 دك 
كيفما انّفق حيّى بلغ الترام ميدان المحطة فغادراه ومضيا 
صوب عاد الدين. وطلب إليها أن تتأبط ذراعه 
ففعلت بعد تردّدء ولمّا كانت تساير شخصًا ‏ غير أمّها 
لأوّل مرّة فقد تولاها ارتباك وحياء. وشعرت بكوعه 
وهو يمس - عفوًا أو قصدّل ثديها فسحبت ذراعها من 
ذراعه. وتساءل محتجًا : 

ماذا فعلت! 

هذا أروح لي... 

فتغيّظ لافلات الفرصة وقال: 

- سيكون من المعجزات تحويلك إلى زوجة بالمعنى 
الصحيح لهذه الكلمة. أي امرأة محبّة تعائق وتقبّل ألخ 
ألخ ! 

وبعد حين قصير كانا يجلسان جسًا لحجنب في 
السينياء وعاوده شعور بالزهو والخيلاء؛ غير أنّه استاثر 
هذه المرّة بميزتين بدلته العسكرية وحبيبته. ومرٌ به 
كثيرون من زملائه الطلبة وخطفت أعيهم من فتاته 
نلرات متفخصة فتزايد شعوره بالسرورء ومال نحوها 
و*ثمس : 

ألا ترين أنْ حمالك يجذب الأنظار من المقاعد 


والألواج؟ 
مرة أخرى: 


- قلبى يحدثتنى باأننى سأنال الليلة القبلة 


المشتهاة. . . 

فرمته بنظرة وعيد ثم نظرت في] أمامها. وحاول في 
الظلام أن يعابئها بكوعه أو بقدمه ولكتها لم تشجعهى 
ثم اضطرّت تحت ضغطه وإلحاحه أن تثرك راحتها في 
راحته على الذراع التي تفصل بين كرسييهماء ومضى 
الوقت في سعادة شاملة. . , 

- >86 

وفي مساء الجمعة كان يقف بمميدان الملكة فريدة 
ينشظر الأتوبيس رقم ٠١‏ ليحمله إلى الكلّيّة. وكان 
انض ارا سعيذا ف اشرتهبوتتاول عدا لديذاء 
وبدت نفيسة في مرحها المألوف ولكتبا ‏ على ذاك ‏ 
قالت له على مسمع من أمْها وبلهجة ساخرة: 

وددت لو رأيتك وأنت ذاهب مع «لهائم» ِل 
السينما! 

وأدرك أن سرّه افنْضح وأنَّ الحرب أعلنت فضحك 
عاليًا ونظر صوب أمّه فرآها صامتة وعلى شفتيها ما 
يشبه الابتسامة. وشكر في نفسه بدلته العسكرية التي 
أنقذته من لكاتها إلى الأبد. وعادت نفيسة تقول 
بنفس اللهجة : 

ما أجملكما من زوجين! حضرتك في طول العمود 
واطائم طول الشير ودمها الثقيل يوسع لكيا الطريق! 

فنبرتبا أمها قائلة : 

لا تكوني عيّابة وفيك كل العبرا 

فقالت الفتاة ضاححة : 

أنا على الأقلّ خفيفة. ولكن لك حقٌّ يا سي 
حسنين فوجهي لم مخلق للسينا! 

واعتذر ها ما وسعه الاعتذار ولكنّه شعر بندم كا 
يشعر الأن. وما ضرًه لو كان دعاها للذهاب معه!؟ 
كان يستعيد ذكريات اليوم وهو واقف ينتظرء وما لبث 
أن انضمٌ إليه كثيرون من زملائه؛ ثم جاء الأتوبيس 
فصعدوا إليه متزاحمين ولحق بهم آخرون رأى بينهم 
بعض من قابلهم أمس في السينا فترجح لديه أنهم 
سيعلّقون على فتاته شأنهم في هله الأحوال. وس 
لذلك سرورًا كبيرًا وانتظر على لحفة المحديث الذي 
سيكون دون جوابه. وم يطل به إلانتظار لأنْ أكثر من 


واحد منبم بدأ متحفرّء فقال قائل منهم وهو يشير 
إليه : 
أما علمتم؟. . رُبْيَ الصنديد أمس وفي يده فتاة! 

وودٌ أن يسمع الجميع وأن مخلصوا لحديئه وحده. 
وتساءل البعض : 

من أيّ نوع؟ ! 

النوع البيتي . . . 

حميلة؟ 

وتركّز انتباه حسئين واشتدٌ وعيه أمًا المتحدّث فقال: 

انها عينان زرقاوان ولكن يغلب عليها الطابع 
البلدي ! 

وتصاعد الدم إلى وجهه وشعر بفتور قضى في الحال 
على حماسه ونشوته» على حين واصل الآخحرون 
حديثهم في ضحك وصخب : 

ممتلئة أكثر ما ينبغي قصيرة أكثر مما يستحبٌ! 

ودمها ثقيل من رتبة لواء! 

دقّة قديمة على وجه العمومء أين وجلتها؟! 

وأدرك أن السؤال الأخير موجه إليه ولكنه لم ينبس 
بكلمة» وجعل يضحك متظاهرًا بالاستهانة وهو يعاني 
شعورًا جارحًا بالخجل والقهر. وقال شاب بلهجة تنم 
على الإشفاق: 

احذر أن تكون خطيبتك! 

واندفم قائلا بلا وعي تقريبا : 


كلا طبعًا! 
ب حبيبة؟ | 
فقال مدفوعًا بمشاعر الأ والخذلان التي تصطرع في 


انون من التسلية ليم إلا 

إذن فلا باس بها. عذراء؟! 

وأجاب باضطراب شديد: لعم... 

خميّب الله أملك! اذا تنفق وقتك عبنًا؟! ألم تدرٍ 
أن التقاليد تقضى بأن تكون ليلة الخميس للعشيقة 
ويوم الجمعة للخطيبة أو من يقوم مقامها؟| 

فتكلف الشابٌ ضحكة وقال: 

سأصِشّح جدول النساء في المستقبل! 


بداية ونباية 71/8 


وضحكوا جميعاء ثم غيّروا محرى الحديث. وانطوى 
على نفسه في عم وهم يعانٍ سكرات المزيمة. تبأ من 
فناته وهو لا يدري. آه لو علموا أنّها خطيبته وأنه 
استعصى عليه نيل قبلة منها بعد مثابرة عامين! طابع 
بلديّ. متلئة أكثر مما ينبغي. قصيرة أكثر مما يستحبٌ» 
دم ثقيل من رتبة لواءء أهذه مبيّة حمًا؟! وهي إلى هذا 
كله دقة قديمة! لا يخلو هذا القول من حقٌّ فهي لا 
تدري كيفا تصحبه في الطريق ولا كيف نحسن 
الحديث والدعابة» ولا يكاد يذكر من قوها إلا التأنيب 
والتذمر. كيف يسعه إذا تزوجها أن يظهر بها أمام 
الناس؟ سيقولون هذا وأكثر منه. وشعر بكرب 
وامتعاض» وغاب عرًّا حوله غارقًا في أفكاره فلم ينتبه 
إل وقوف الأتوبيس أمام محطة الكليّة حت خض الطلبة 
ار 

1 

وفي الأسبوع التالي صعد في الوقت المعتاد لزيارة 
فريد أفنديء, وكان الأب وسالم الصغير في مشوار 
فجلس مع الأمّ ويبيّة» واستمتع بقدر من الحرية لا 
يتاح له بمحضر الأب. وبدت بهيّة في فستان بن 
تنبسط على أعلى صدره شبه مروحة من الحرير 
المزركش ينغرز مقبضها أسفل البنيقة وتنتشر أهدابها 
فوق الثديين» فلم يكن ينقصها إلا المعطف وتصبح 
متأهّبة للذهاب معه إلى السينما إذا دعاها. ولكنّه كان 
أبعد ما يكون عن التفكير في هذاء وكان صوت نفيسة 
لا يزال يطنّ في أذنيه وهي تقول له بعد أن أعطته 
نصف ريال لسهرته : 

هذا لفسحتك أنت وحدك! 

ولكن لم تكن نفيسة كلّ شيءء كان في الواقع لا 
يجد الشجاعة للظهور معها مرّة أخرى أمام زملائه. 
وبات يخجل منها وهو لا يدري. كان يحسبها أجمل 
فتاةء ولكنه لم يكن فتح عيئيه بعد وبجاءت ملاحظات 
زملائه الساخخرة آية على عماه! ورنا إليها فالتقت 
عيناهماء وهناك نسي أفكاره. والبعثت حرارة دمه 
واضطرمت به الرغبة مستهينة بكل شبىء؛ مليحة 
شهيّة, لا يستطيم أن يماري في هذا ولكن كيف 


77 يداية ونباية 
يتعامى عن هذه الحقيقة المرعبة وهي أنه يتعصائى 
الظهرر معها أمام الناس؟! وكانت الأم لا تمسك عن 
الحديث وهو يحاورها باقتضاب وشرود حيّى قالت له: 

- ما لك يا سبى حسئين كأنك مشغول اليال! 

قأفاق إل نفسه مضطريًا وقال كالمعتذر: 

- كان الأسبوع الماضى حافلًا بالتمرينات القاسية 
حي غادرنا الكليّة كالأموات! 

وواصل الحديث وهو أشدٌ انتباها له حبّى استأذنت 
الأم لأداء الصلاة فخلا لى| الوه وبادرته الفتاة قائلة : 

ما لك؟ 

فقال مبتسمًا ليذهب عنها الشكٌ : 

لا شيء! 

لست كعادتك! 

وخخطر له خاطر ماكر بعثه في نفسه نحلو المكان 
وعواطفه الثائرة فقال متظاهرًا بالخزن: 

- لا أنسى تحفظك معي ! 

- أتعود إلى هذ!؟ 

طيعا!, 

فقالت الفتاة برجاء: 

د تعيديق ألنا التهيدا مر هذا ؟ 

- إن في حبرة من أمرك, جميع زملائي هم خطيبات 
مثلك ولكنْبنَ لا يحرمنهم حقوقهم من العناق والقبل . 

وغمغمت موزدة الوجه: 

- لسن مثل ولست مقلهنٌ| .... 

هذا حقٌء ولعلّ زملاءه لم يقتصدوا في توكيد هذا 
ولكتّها لا تدري ماذا تقول! وتفكر فيهما ينطوي عليه 
قرلها من سخرية لم تَدُرْ لها بخلد. وقبل أن يتكلم 
عجلت هي بتغير مجرى اللحديث فسالته : 

أذاهب أنت إلى السينا؟ 

وأدرك أمْها تبيوء له فرصة ليدعوها للذهاب معه. 
وساوره إحساس بالضيق ولكنّ إشفاقه كان أكبر من 
حرجه فقال: 

كلا سأواني بعض الزملاء إلى موعد سابق!| 

وحفضت عينيها في خجل. ثم ساد صمت أليمء 
وأخخيرًا سألته بلهجة ذات معنى ؛ 


ماذا أحدث ذهابئا معا إلى السينا في بيتك؟ 

ووجد فيا تعنيه بسؤالها عذرًا ينفعه في تجنب ما 
يريد تجنبه فقال: 

لا شىء ذا بال إلا أن والدتي ساءها أن أدعوك إلى 
مخالفة تقاليد أسرتك المحترمة ! 

فقالت بيرود: 

- ليس ثما يسيء إلى الأسر المحترمة أن تذهب فتياتها 
إلى السين)! 

- كا لا يسىء إليها العناق والقبل ولكنّك ‏ مثل 
مي - لا تصدقين! 

فتجاهلت إشارته وتساءلت: 

- هل منَعْتّك من العودة إلى تلك المخالفة؟ ! 

كلا!. . ولكنها تخاف أن أسىء من غير قصد إلى 
أسرتك الكرية . ا 

آلم تخيرها بموافقة والدئّ؟ 

أخبرتها ولكنها اعتقدت أنْهها وافقا متورّطين . 

هل أفهم من هذا أنْنا لن نخرج معا بعد اليوم؟ 

ولم يستطع أن يجاببها بما يبطن فقال : 

- بل تلخرج حين الشاء . 

وندم على قوله أثر التفوه بهء أمّا هي فابتسمت في 
حياء وقالت بصوت منخفض : 

- ظئلت أنْنا سنذهب اليوم إلى السينا! 

وعجب لهذه الدعوة تجيء من ناحيتها هي. ومع 

أنه رق ها إلا أنه لى يستسلم لعاطفته فقال: 

- لولا أنْني مرتبط بموعد كما قلت لك. 
. هذا أهمْ من ذهابي معك! 

مالس :لآم كدللقه لك سق ف عوقة اب 0 
ثم لا يجمل بنا أن نعاود ما تظنه أمّي مخالفة للتقاليد 
عله السرعة] 

فهرّت رأسها في ابتسامة حزينة وقالت: 

إذن فليس الموعد الذي يمنعك! 

فقال بتسليم : 

كلا الأمرين معًا!.. لا تؤاخذي أمي عل 
عقليّتها القديمة . 

فخرجت عن ضبط عواطفها لأول همزة قائلة : 


ا 


- فكيف تسمح لنفيسة بالخروج كل يوم؟ ! 

ولم تعجبه لهجتهاء وساءه ما تضمّنته فقال بلهجة لم 
تخل من حذة : 

دالولا العمل لما غادرت نفيسة..البيك: أبذا! 

وبادرته قائلة بلين وإشفاق وأسف: 

- لم أقصد سوءًا بأحد. أردت أن أقول إن الخروج 
لهاتسا نا رد 

وساد الصمت قليلًا ثم سمعا وقع أقدام الأمّ وهي 
راجعة فتساءلت بهية في هفة وإشفاق: 

ب حسئين ألثت غاضب؟ 

ولى يستطع أن يجيبها بسبب ظهور الأم فابتسم ها 
ابتسامة رقيقة أثابت إليها طمانينتها. . . ومكث معهما 
ساعة ثم وذعهما وانصرف . 

7137 

لم يكن ثمّة موعد كما زعم وقد ذهب إلى السينما 
بمفرده ودخلها بعد بدء العرض بدقائق فأرشد إلى 
كرسيّه في الظلام. وجعل يشاهد الجريدة بنصف التباه 
والنصف الآخر هائم في البيت الذي غادره معتذرًا 
بأكذوبة. وذكر كيف ضصغطت على يله بحنو وهي 
تودّعه يع ضغطة لذيذة أرعشت قلبه وغفرت لما ما تقدّم 
وما تأخُر من إساءة! «أمنيتي الآن أدنى إلى التحقيق» 
لو مارست ضسبط النفس بدل التهالك والتوسّل لفزت 
بما أشتهيى من زمن. لو عبست في وجهها مرتين لا 
أصئت على قول «لام. ما أحمقني! لن أقنم بقبلة , 
لأضمّها إلى صدري حيّى يطقطق عظمها 0 
ذراعيّ . بعيدًا عن أعين النقاد الى لا تعجبها إلا 
الملاحة والرشاقة والموضة. ولكن هل أصِرٌ على إخفائها 
عن الأعين بعد أن أتروج منبا؟ لماذا لا أستهين بالناس 
وألسنتهم؟ يا له من شر لا قبل لي بالتعامي عنه! هكذا 
أنا» وارتاح من أفكاره بتركيز وعيه على الشاشة فرأى 
هتلر وهو يستقبل سفراء الدول بمناسبة عيد ميلاده. 
ثم شاهد فصلا من الصور المتحرّكة وأضيئت الأنوار. 
ودار برأسه فيا حوله متفرْسًا في الوجوه فاستوقف نظره 
امرأة هائلة مفرطة في السمنة لحدٌ مَزْرٍ تجلس لصق 
زوجها وتنازعه الحديث؛ ولم يسعه إلا الإعجاب 


بداية ونباية لا/ا؟ 


بشجاعة الرجل الذي يستصحب هذه المرأة دون مبالاة 
بأحد. ولاحت منه التفاتة إلى يساره فرأى في الكرسئّ 
الذي يليه فتاة حسناء مرتدية جاكتة رماديّة تراه 
وخيّل إليه لحظة أنه لا يرى هذا الوجه لأؤل مرة. 
وراح ينقّب في طوايا ذاكرته» وفي أثناء ذلك انتقل 
بصره إلى امرأة تليها ثم إلى رجل ما إن رآه حقّ دق 
قلبه بعنف ونبض قائمًا ومدّ له يده بأدب وهو يقول: 

مساء الخير يا سعادة البك, 

فالتفت الرجل صوبه ‏ كان أحمد بك يسري ‏ 
وابتسم إليه مسلرّاء ثم قدّمه إلى زوجه وكريمته وعقّب 
على التعرّف به قائلا دابن المرحوم كامل أفندي عله 
فسلّم عليه! في غاية من الأدب وعاد إلى جلسته ومس 
يب الفتاة يسري في جسده.ء وسأله البك عن حاله في 
الكليّة فأجابه شاكرا ثم فرغ كل لخاله. ونظر إلى أمامه 
وهو يشعر بارتياح لأنّه جاز فترة التعارف وهو ثابت 
متهالك لأعصابه مع أنه كان يقدّم إلى عضوين في ه." 
الحنس اللطيف العالية لأؤل مزة في حياته. ومر 
ذاك نادل يحمل ألوانا من الشيكولاتة والمشر وباد 
لو كان يملك من النقود ما يسعفه بتقديم بعض من 
الأسرة» ولكن لم يكن في جيبه إلا قروش» فحنق عر 
إفلات هله الفرصة منه. وحقد على فقره كا لم يحقد 
عليه من قبل! ثم أطفئت الأنوار وعادت الحياة إلى 
الشاشة, ولكنّه لم يندمج فيها ووجد من وعيه وخياله 
إباء وحموحًا. تأكّد لديه الآن أنه ١‏ يكن يرى هذا 
الوجه البديع لأؤل مرّة. وذكر الساق العارية التي 
كشفت عنبا حركة الدرّاجة بحديقة الفيلا. ترى أي 
أثر قد تركه في نفسها؟ وأ أثر أخلفه قول أحمد بك 
من أنه دابن المرحوم كامل أفندي على ؟ كان والله 
مومَلفًا صغيراء وفضلًا عن هذا فلا شك أن المرأنين 
تعلان بما بذل البك لأسرته من شفاعة تارة ليوظطف 
حسين, وتارة ليُلحقه بالكلّيّة الحربيّةء وهيهات أن 
يغيب عنبها حقيقة مستواه الاجتماعي . ولعل الفتاة لم 
رّ فيه إلا صنيعة لمعروف والدهاء ولعلها قالت لنفسها 
إنّه لولا يد أبيها ما إرتدى ‏ هو بدلته ذات الشريط 
الأحمر! كل هذا محتمل. بل هو مؤكّدء وقد التهب 


718 بداية ونباية 


جبينه خجلا وسخظطا. «لقد رأيت ساقك على 
الدرّاجة, عاجيّة جذابة ولكتها ليست بمعجزرة. لا 
توجد معجزات في هذه الدنيا. ألست تنامين كأي 
فتأة؛ وتغيبين عن الوجود كأيّ امرأة» وتحبلين كما تحبل 
الخادمة التى طردناهاء لفقرناء وتعوين حين المخاض 
كأيّة كلبة!: وحكٌ أنفه بسبّابته فجأة فتنسّم شذًا لطيقًا 
ما علق براحته عند السلام» فيه إثارة للأعصاب ونفاذ 
إلى القلب كأنّه السحرء فأسكره عرفه وبث في نفسه 
رضى وسلامًا مسحا عن صدره أدران الحنق والألم. 
ولحظ طيفها اللطيف فحدس أنْها شابكة ذراعيها عل 
صدرهاء ومَي لو تريح ساعدها على يد المقعد فتمس 
ساعده عفوا. ثم تيل صورة وجهها الذي ألقى عليه 
نظرة خاطفة وهو يسلّم عليهاء بطوله الممتىْ وعينيها 
السوداوين اللتين تنّان عن حيويّة وخفة» وهالة شعرها 
انسرد حرق "العرافة ووقرنجا اكه الي تراز 
وجنتها اليسرى شامة. ثم راح يستحضر صورة ببية. 
ويعرض الصورتين جنا إلى جنب حيال مخيلته حقى 
اقتنع أن هذه الفتاة ليست أجمل من فتاته» ولكنّه شعر 
في الوقت نفسه بأنْ بهيّة جمال جامد وهذه جمال 
متحرّك, كأما يبثُ في النفس حرارة ويشمٌ في الخيال 
حياة. وليس هذا فحسب فإنها تلت لعيشيه 
الطموحتين كرمز حي للدنيا الراقية التي يتطلّع إليها 
بشغف جنون. لم تكن فتاة بقدر ما كانت طبقة 
وحياة. وبرغم نشوته الراهنة لم مخدع عن حفيقة 
شعوره» وم يتوهم أنْبا تغلغلت في قلبه حيث استكنت 
بهبية. فهذه على سلبيتها المطلقة - تقبض على جذور 
غرائزه وأعصابه. ولكنّ الأخرى تخاطب مباثشرة 
طموحه الذي لا يقف عند حد. ولعله عرف على 
ضوء عيليها جانبًا من نفسه كان غامضًا وهو أنه يؤثر في 
أعياقه الطموح على السعادة والسلامة! ثم هبطت عليه 
نوبة فتور مفاجئ فقال لنفسه «إني أحلم أحلاما 
سعخيفة. ولكن ألا يق لي أن أروح عن صدري 
بالأحلام؟ أليست الأحلام نفسها حلءًا؟ بلى. إنْهبا 
حلمء ولا يكدّر صفوها إلا شعورنا الوهميّ بأئها 


حفيقة !». وانقضى زمن لا يذريه قبل أن يتمكن من 


تركيز انتباهه في الشاشة. ولكنه كان قد استنفل حيوية 
كبيرة فبدا المنظر متعبًا مملاء وتصبر عليه في جهد حبّى 
انتهى وأضيئت الأنوار. والتقت الأعين فحبى رأسه 
تحميّة ثم انخرط في تيّار الخارجين. انفلت من الزحام 
فتمنّى في الطرق ساعة ثمّ استقل الترام إلى شيرا. 
وأقبل على حيّه فبدت له عطفة نصرالله أشدّ كأبة من 
عهدهاء وزكمت أنفه رائحتها التى يختلط بها التراب 
ا 
- 148 - 

وتواصلت الأيام حبّى أوشك العام الدراسيّ عل 
الختام . وفي ثلئه الأخير تلم أنْ وزارة الحربيّة قرّرت 
تخريج دفعة الشابٌ مكتفية بعام دراسيَ واحد على أن 
يْتمْ الخرّيجون تدريبهم في الفرق التي يلحقون بهاء 
وذلك لتواجه زيادة عدد الجيش بعد إقرار المعاهدة. 
وضوعف العمل للطلبة ولكتّهم أقبلوا عليه مستبشرين 
متحمّسين, والواقم أثْها كانت حقيقة أقرب ما تكون 
إلى الخنيال فلم يكن ثمّة واحد منهم يصدّق أنه سيكون 
ضابطًا بعد عام دراسيئ واحدء وكان آخر شؤلاء جميعًا 
حسنين نفسه. ثم انتهى العام وتخرّج الشاب! 
واستخفت الطرب الأمّ وكانت أشبه ملاح تائه ترق 
شراعه ونفد طعامه إذ تكشف الضباب لعينيه فجات 
عن مرف آمن. ولهج لسابها بحمد الله وجعلت تقول 
في حرارة وإيمان عميق «أنت وحدك يا ربي الذي 
أخزت بيدي . ومن كان يرى حالنا بالأمس ونحن 
نتخبّط في ظلات اليأس ويرانا اليوم وكل شيء من 
حولنا يدعو للأمل يقر من صميم قلبه بعدلك 
ورحمتك). وغبطت نفسها على سعادتها لأول مرّة في 
حياتها وأخحذت محنتها الطويلة تتراءى لعينيها الذابلتين 
في هالة من الفخار والسرور وكأنها لم تكن سوى 
عبوينة كمانم عل عي الافنان ارسيو دابعلت 
عيناها بدموع الفرح والشكر. وكانت تقتصد من تقود 
حسين ونفيسة ما تعدّه لسداد مصروفات السنة التالية 
فأخذه حسنين ليهيّئ به ملابس الضابط الكاملة وشغل 
بلك طول المهلة التي تمنح للخرّيجين قبل توزيعهم 
على الفرق المختلفة. ولا كان ترتيبه بين الآوائل فقد 


الخو بسلاح الفرسان بالقاهرة وتهيأ للأسرة من حسن 
التوفيق ما لم تكن تحلم به. وارتدى حسنين بدلة 
الضابط فتحقق حلمه القديم وجعلت أمّه تنظر إليه 
بعينين أذهلهم| الفرح حيّى شذّت عن المالوف من 
صمتها ورزانتهاء فهذا هو الابن المحبوب. زهرة 
حياتها وأملها المنشود. وقد قال لما مرّة: 

- إذا حان موعد الاحتفال بالمحمل فسيتاح لك 
ولنفيسة فرصة باهرة لتشاهدانيٍ على صهوة جوادي على 
رأس فرقة الفرسان! 

فلم تتبالك أن قالت له: 

هذا إذا ابتعت لي معطفًا يليق بالظهور في الطريق 
الغاص بالمتفرجين! 

فضحك الشابٌ قائلا : 

- صبرك حي أقبض مرثبي ! 

كانت أَيَّامًا سعيدة صفت هم فيها الدنيا وطابت. 
بيد أن الشابٌ كان يفككر في أمور كثيرة» وكان يروم أن 
يقيم سعادته المتاحة على أسس ثابتة لا يتطرّق إليها 
الفسادء فانتهر فرصة انفراده بأمّه مرّة ‏ كانت نفيسة في 
الخارج ‏ وقال ها بصوت ينم عن الاهتام الشديد: 

- أمّاه» يجب أن تنقطع نفيسة عن عملها المزري في 
الحال لأنه لا يجوز لأخحت الضابط أن تكنون خياطة . 

فابتسمت الأمْ وقالت في بساطة : 

- سترحب بهذا بمجامع قلبها يا بني. . . 

كان ينتظر هذا القول بلا ريب بيد أنه لم يميم من 
نفسه ما يعتلج بها من مثار الفكر فاستطرد متنبَدًا في 
كابة : 

- ليتنا نستطيع أن نمحو المساضيى من صفحة 
الوجود!. . أنخاف أن يعيّرنا قوم بما كان. وأنت أعلم 
بنشوس الناس». وأكره ما أكره أن يترامى شيء من هذا 
إلى أحد من زملائي فأفقد كرامتي بين أقراني. . . 

فسرى إليها بعض همه ولكئها ريّتت على كتفه 
مبتسمة وقالت باستهانة : 

كنا فقراءء وأكثر الناس فقراء ولا عيب في 
هذا. , 


فهر رأسه معترضًا وقال في أمى : 


بداية ونهاية 7194 

- كلام يقال ولكنّه لن يغني عنّا شينًا وأنت أخبر 
بالنفوس! 

- لا أحبٌ لك يا بن أن تنعْغص عليك صفوك 
بأمثال هذه التخيّلات! . . 

فاستدرك قائلا وكائه لم يسمع قولها: 

- هذه العطفة الحقيرة تعرفنا على حقيقتناء فلهذ| لا 
أطيق البقاء فيها. , 

وأشفقت الأمّ من تكدير سعادتها الشاملة فقالت 
بتوسل : 

- ستسوى هذه الأمور مع الزمن فلا تتعجل بحمل 
ممها! 

وحدجها بنظرة غريبة وغبطها في نفسه على قوة 
أعصاباء ولكنّه سرعان ما تغيّظ لعدم اكترائها 
بالأخطار التي تتهرّل في رأسه وقال بحدّة: 

- قد تسوّى هذه الأمور مع الزمن حمًا ولكن بعد 
أن تكون قد قضت علىّ! 

فلاحت في عيني المرأة نظرة ارتياع وقالت له في 
عتاب : 

- أراك كعادتك نافد الصرر متَعجّلُا للمتاعب». 
ونصيحتي لك ألا تخلط أفراحك الحقيقيّة بأتراح وهميّة 
لا أهييّة لها . 

فقال باستنكار: 

لا أهيية لما! 

ماضى نفيسة وما يعرفه هذا الحو عنا لا أهمية له؟ 

0 005 ”9 
بالسعادة أبذًا, 

فتمبّد حستئين قائلا : 

- أودَ أن أسدل على الماضي ستارًا كثيفًا. 

تجمل بالصبر وسيكون لك هذا. 

فالتهب الشابٌ غيظًا وقال كمن ضاق صدره: 

لا أخاف شيئًا كخرفي الصبر الذي تدعينني إليه. 
انظري إلى هذه العطفة الحقيرة وهذا البيت العاري 
هل أستطيع أن أخفيهها إلى الأبد عن أعين زملائي؟! 

وشعرت المرأة بتعاسة وأدركت أنّْ حياتها لن تخلو 
من هم وكذر. وقالت له بمرارة: 


بداية ونباية 


خطوة خطوة! كنا لا نجد الطعام فانظر أين نحن 
الآن!! 

فهر رأسه في حزن وقال: 

د ما أردت إغضابك يا أمّاه ولكيّى أفكّر في هذه 
الأيّام كثيرًا في المتاعب التي تتهدّدنا. وقد ذكرت لك 
بعضهاء ولعلّ ما بقي أدهى وأمرٌ. فانظري مثلا إلى 
أخى حسن وسيرته في اللحياة! كيف نستقبل الحياة في 
00 

وتفرّست في وجهه بدهشة وكأئها تعجب لقدرته على 
اصطياد الهمومء وتمتمت فيهما يشبه اليأس : 

ا الخلق للخالق. كنا هكذا دائمًا فلم نملك وم 
يقضسٌ علينا. 

فقال الشات بإنكار: 

لم أكن ضابطا أمّا الآن فقد أصبحت سمعتي 
مهددة! 

وتجهم وجه الأم ولاذت بالصمت في كرب شديد 
فتنيد حسئين قائلا: 

- ينبغي أن يتغبيّر كل شيء. حبّى قبر والدنا 
المكشوف بين قبور الصدقة. تصورى ماذا يظنْ بنا 
زملائي لو علموا بمكانه! 

قات الم مشاعرها بابتسامة وقالت برجاء ؛: 

إفي أحبّ لنا ما تحبٌ ولكثّي أوصيك بالصار 
وأحذّرك عواقب ثورة لن تجدي الآن إِلَّا الحزن. تريد 
أن تمحو الماضي وتغيّر البيت وتنثئ مقيرة وتبدّل أخاك 
من حال إلى حال» ولكن هيهات أن يثمّ لك ما تريد 
قبل زمن طويل فكيف يكون العمل؟ طالما تَنْيت أن 
تسعدنا وأن تسعد معنا فإذا لم ترؤض نفسك على 
التسليم بالواقع وتأخذها بالصبر شقيت وشقينا! 

وضاق بالكلام ضيقه بمتاعبه فامسك عنه. ول يقع 
قوها من نفسه الثائرة موقع الاقتناع أو القبول فخيّل 
إليه أنْها لا تشاركه آماله وعواطفه؛ وأنّه وحيد في 
معركة الحياة أو الموت. إِنْ نفسه تبفو لحياة أفضل 
وأنظف». ولن يحيد عن هدفهء وليدافعنٌ عن سعادته 
وآماله بكل ما أوتي من قوّة ورغبة في الحياة. ودق 
الباب عند ذاك. وكان المساء يِمدّ رواقه. فحدس أنْها 


نفيسة عائدة من عملهاء فهرع إلى الباب في تصميم 
جديد , 
اماك 

ودخلت الفتاة مبتسمة وكانت لا ثرى تلك الأيّام 
إلا مبتسمة مستبشرة. واستبانت في وجه أمها سهوما 
فاقتربت منبها وقالت مداعية : 

- تخ يا أماه عن هذا الحدٌ الذي لا داعي له فقد 
انتهت متاعبئنا . 

وردّد حسنين قولا في نفسه محزوناء هل حقًا انتهث 
مناعبهم؟ إن ميزانيّة الجيش كله لا تكفي لإنهاء 
متاعبهم ! ثم رفع بصره إليها وقال بلهجة ذات معن : 

- آن لك أن تستريحي , . . 

فتساءلت ضاحكة : 

- أتعبى أن أترك مهنتي؟ 

لق 

- أتركها غير أسفة. وسألزم بيتي كالهوانم» ألست 
شقيقة ضابط؟ ! . . . 

ولم يتمالك أن قال ساخرًا : 

- وشقيقة سبى حسن أيضًا! 

فردّدت عينيها بينه وبين أمّها في دهشة وتساءلت عن 
جعله يقحم أخاه ببذه اللهجة المرّة» أمّا هو فسأا 
متها : 

ألا يسرك هذا؟ 

وقالت الفتاة برقة وعطف: 

مهما يكن من أمر أخينا حسن ففضله لا يمكن أن 

وتدارك الكثات قائلا : 

- لست في حاجة إلى من يذكرني ببذاء وعلم الله 
أي أحبّه: ولكن لا حيلة لي إذا قلت إِنَّ سلوكه في 
الحياة ليس مما يشرف . 

وثقبت العبارة الأخيرة قلبها فلاحت في عينيها نظرة 
زائغة» وتخيلت أمورًا فبردت أطرافها رعبا. ثم خيّل 
إليها أنه يعنيها بالذات, ولم تعد ترتاح للصمت 
فغمغمت في فتور: 


- وأيّة أسرة تخلو من شيء من هذا القبيل! 


فقال حسئين بامتعاض : 

ولكنّه لا يوجد في الأوساط المحترمة . 

وركبها الضيق والقلق فرغبت في الاختفاء 
وتظاهرت بالضحك وقالت في مرح متكاف : 

لا يستحيل أن يوجد شقيقان أحدهما وزير والآخر 
لصّء بالله لا تكدّر صفوناء واعلم أني صنعت لك 
صينية كنافة فدعني أسيخنا ولناكل في سلام ! 

وغادرت الحجرة إلى المطبخ بوجه مكفهر ونفس 
حائرة يشيع في قلبها خحوف وقلق. إِنّه يدعوها إلى 
القبوع في البيت أسوة بالنساء المحترمات» وإِنْها ترحبٌ 
ذا ولكن ما كان كان ولا سبيل إلى إصلاحه. وهي 
تستطيع إذا شاءت أن تنتحل لسلوكها الأعذار وأن 
تقول لنفسها إِمْها نما ارتضت تلك الحياة للحصول على 
النقود التى أقامت بها أود أسرتها في أكلح ساعات 
حياتباء وهذا حقٌ ولكنّه ليس الحقّ كله فهئالك أيضًا 
الرغبة المعذّبة واليأس القائل. وكم ودّت في ساعات 
يأس لو تموت هذه الرغبة ولو تموت هي بموتها ولكتها 
كانت تزداد رغبة والبحدازرًا ويأسا ثم كردا واستسلاما. 
وعانت كثيرًا شقاء الذنب وكان عزاؤها الوحيد ‏ إن 
كان عزاء على الاطلاق - أنّْ الأقدار لا يمكن أن تدخر 
لها حياة أفضل. وكم تمرْقها الحيرة الآن بين ماضص 
تعيس ورغبة لا تسكت عنها. وحبّى هذه الحياة 
الجديدة الموعودة لا تدري إن كانت تستطيع حقًا أن 
تخلص لا بعد ما كان. فلن تغيض رغبتها ولن يتخل 
عنها اليأس» وفيمٌ تأخدذ نفسها بصبر لا مطمع لأمل 
وراءه وليس لديها ما يصمح المحافظة عليه؟ هل يمكن 
أن تقئع من الحياة بانتظار طويل تمل للموت؟ لا تدري 
إن كان بوسعها حمًا أن تُخلص للحياة الجديدة. وأن 
تتعذّب عذابًا طويلا متّصلا بعد أن خسرت كلّ ثيء. 
إنها تمقت الماضى وتخافه ولكنها تسد إليه بقوّة شيطانية 
فلا تستطيع منه فكاكاء ولن تفتا تتبعه يائسة مثقلة 
بالذنب مرثعبة؛ كمن يسلّم للسقوط من علوٌ شاهق في 
كابوس بعد أن أيس من اليقظة. وجعلت تنظر في 
سهوم إلى صفحة الكنافة الموردة حتى تخيلت نفسها في 
الصينية تحترق وقد اسودذت بشرتهاء وفي تلك اللحظة 


بداية ومباية 5/81 


بدت الحياة لما عابثة قاسية» تعبث في قسوة. وتفسو في 
عبث. فتساءلت «لماذا لقني الله؟». ومع ذلك كانت 
تحبّ الحياة» ولم يكن يأسها وعذابها وخومها إلا آيات 
على هذا الحبّ. وكانت إلى هذا كله تنتظر مع الغد 
موعدًا لم تضمر التكوص عنه. 

وحملت الصينية بخرقة بالية وعادت إلى الحجرة 
فوضعتها على المكتب وهي تقول في مرح وكائها نسيت 
أفكارها ومماوفها : 

- أقدم لك آخر كنافة من عرق جبيني. وعليك 
وحدك منذ الآن أن حلي السنتنا! 

وأقبلوا على الكنافة بشهوة وقد تطهرت الأنفس من 
مومهاء وقالت الأ وهي تغرز أصابعها في الصينية : 

- ليت حسين كان معنا, 

ولوح لها حسئين بإصبعه حتّى ابتلع ما في فيه ثم 
قال: 

آن لنا أن نسعى إلى تقله إلى القاهرة. كان أحمد 
بك يسري قد وعد بئقله بعد مرور عام أو نحوه وها 
قد أوشك أن يمضى عامان على تعرينه في طنطا. 

كان يرغب لعا أحيه كعهدهما القديم؛ وكان 
يأمل أن يجد فيه عونا على متاعبه. وقد رحب إلى هذا 
وذاك بفرصة تتيح له زيارة أحمد بك في قصره, 

500 

ذهب مع أصيل الغد إلى فيلا أحمد بك يسري وفي 
نيته أن يقدّم له فروض الشكر لناسبة ترجه ثم 
يستشفعه لنقل أخخميه إلى مدرسة من مدارس القاهرة. 
وقد وقف البوّاب احترامًا للضابط ثم قاده إلى 
السلاملك ومضى إلى الداخل لانباء البك بحضوره. 
وجلس حسنين إلى الكرميّ الذي جلس عليه أكثر من 
مرة في أوقات متباعدة وظروف مختلفة. وراح يسرّح 
طرفه في الحديقة. وجرى بصره في الممثى الطويل 
المتعرج الذي رأى الدرّاجة تقطعه في مهل وحذر منل 
أكثر من عام وتساءل ترى ألا تزال تلهو مبذه الرياضة؟ 
وابتسم للذكرى حيئًا ثم تساءل مرّة أخرى أحمًا جاء 
للشكر والشفاعة وحدههما؟! وعاوده الابتسام . بيد أنْه 
كان في حيرة من أهدافه قلقًا حيال البواعث التي 


بداية وغباية 


تحرّكهء مشفقًا من الاساءة إلى خطيبته: ثم ذكر زيارته 
الأخيرة ‏ التي أعقبت تخرّجه - لبيت فريد أفندي 
وكيف مرّت في أحاديث مملولة وشعور أليم بالحرمان. 
حيّ إِنهِ لم يظفر بجلسة منفردة واحدة بفتاته. ذكر هذا 
فوجد من التذمر ما هون عليه إحساس التأنيب الذي 
دبٌ في أعاقه لسروره بذكريات فيلا أحمد بك. ونفض 
عن رأسه أفكاره واستسلم لشاعر الطموح التي تتوهيجح 
في قلبه في محيط هذه الفيلا الرائعة فانئالت على مميلته 
الأحلام؛ ماضٍ جديد وبيت جديد وقبر جديد وأهل 
جدد ومال موفور وحياة وضّاءة لامعة. ومع أنه صار 
ضابطاء ولعلّ كثيرين يرمقونه بعين الحسد لذلكء إلا 
أنه أدرى الناس بقلبه الذي يمترق لهحفة على الحياة 
السامية النظيفة. هذا القلب الذي أورده الجرع موارد 
القلق والسخط والشقاء. وليث على استسلامه 
للأحلام حبّى عاد البواب من الداخل وتنحى عن 
الباب في أدب وهمس «سعادة البك قادما». ومبض 
حسئين.؛ ثم ظهر البك في بدلته البيضاء والوردة 
الحمراء تزيّن عروته» ولا رأى الشابٌ ألقى على بدلته 
العسكريّة نظرة شاملة ثم قال ضاحكا: 

أهلا بالضابط . 

وانحنى الشابٌ على يده مسلًا وهم بالكلام ولكنّه 
رأى حرم البك تتبعه قادمة من الداحل وني أثرها 
الفتاة. وأدرك أنّه جاء في وقت غير مناسب لغرضه لأنْ 
الأسرة متأهبة للخروج. وقد توكد هذا لديه حين لمح 
السيارة تدور في الممشى الواسع وتقف عند أسفل 
السلاملك منتظرة الذاهبين» فا كان منه إلا أن سلّم 
على المرأتين وتأخُر خخطوتين قائلًا : 

- جئت لأقدّم لسعادتك فروض الشكر لناسبة 
تمرّجيء وأرى أن أستأذن في الانصراف الآن حبّى لا 
أؤخركم . 

ولكن البك قال : 

- ابل تجلس لنشرب ليموثنا معاء: ما يزال أمامنا 


فسلحة من الوقت. . . 


وجلسوا فجلس وهو يبذل قصاراه ليضبط أعصابه . 


فلم يكن أبغض إليه من أن يتولاه الاضطراب أو 


الارتباك حيال البك وأنداده من عليّة القوم. وذهب 
البوّاب لاحضار الليمون أمّا البك فسأله برقة: 

كان تمك 

فقال حسئين بزهو مكتوم : 

سلاح الفرسان بالقاهرة , 

كنت من المتقدمين؟ 

الثامن, , . . 

وهنأه الرجل. م ساد الصمت. وكان في عزمه ‏ 
لو قابل البك منفردًا ‏ أن يعدّد أياديه على أسرته وما 
بذل من شفاعة محمودة له ولأخيه على أن يتدرّج من 
الثناء إلى عرض مسألة أخيه حسين» ولكنّه عدل عن 
هذا مصممًا على الاحتفاظ بكبريائه أمام المرأتين. وأمام 
الفتاة خاصةء ولم ير ضيرًا في تأجيل مسألة شقيقه إلى 
غد أو بعد غد على أن يحدّث البك عنها في مكتبه 
بالوزارة. وجاء نخادم نوبي بأقداح الليمون دار مها 
عليهم. وانتهز حسئين فرصة رفعه للقدح إلى فمه 
فاسترق إلى الفتاة نظرة من فوق حافة القدح فرآها 
وهى تحمسو شرابها في رفق ولطافة» فلم يذ عن زورها 
هذه الحركات العصبيّة التى يبعثها الازدراد العنيف. 
وتزّزت السائل في رقة فانسكب في هوادة وحياءء وقد 
اكتسى وجهها ببدوء بديم واسترحاء حالم كأنها تستنيم 
للمسات النعاس» وأعاد القدح إلى الصيئيّة ثملّا بنشوة 
افتتان تبعئها الأناقة والرشاقة وأمارات الأرستقراطية. 
وتَمِيلها فجأة بين ذراعيه مستكينة مستنيمة فأصرٌ على 
أسنانه . وما هذا الجنون الذي ينبعث في دمي. ليس 
شهوة فحسب. بل ليس شهوة على الاطلاق» مية 
أشهى منها وإن كان يخجلني الظهور معها أمام الناس. 
ليس ركوب هذه الفتاة بعمل جسيّ ولكنّه غزو كامل 
وفتح مظفْر. هذه!». وانتبه من أفكاره على صوت 
أحمد بك وهو يسأل: 

- كيف حال الأسرة؟؟ 

فخطر له خاطر ظَنّ أنّه يرفع من كبريائه» وكانت 
الأكاذيب تنبعث في نفسه أحيانًا بوحى البديبة فقال بلا 
ترذد ؛ ْ 


د الحفنك لله “انقضت عافتنا .بعد أن: كسكيا 


القضية! 

فتساءل اليك : 

- أىّ قضيّة؟ 

فقال بشات وثقة : 

قضية قديمة بين أمي وأخوالى على أوقاف وقد 
حكم لأمّى بنصيبها كاملا! 

فقال الرجل : 

مبارك . . . مبارك . . 

وشعر -حسلين بارتياح وزهوء ثم وهو يقول: 

- لقد أخرتكم وأنا آسف يا سعادة البك. 

ونهضوا جميعًا وهبطوا إلى موقف السيّارة» وتمق لو 
يدعوه الرجل إلى الركوب معهمء ولكنّه مد له يده 
موذعا فسلم عليه وحنى رأسه تحيّة لأسرته ومضى إلى 
الباب مسرهًا. كانت الزيارة تبدو مخفقة لأنه 0 
ا موضوع الذي جاء من أجله ولكنه كان يرى توفيقه 
مبذا اللقاء غير المنتظر وهذه الكذبة النى جادت بها 
البديبة السعيدة أخطر من غرضه الأوّل الذي لن يؤثر 
فيه تأجيل يوم أو يومين. . . 

171 

وقلّب وجهه في السماء ولمًا يبرح شارع طاهر فطالع 
في صفحتها نظرة الغروب الشاحبة فتساءل ترى هل 
يجد أخخاه حسن في بيته إذا جازف بزيارته؟ كان مصمم) 
على مجابهته برأيه وإن كان ضعيف الأمل في إصلاح ما 
فسد من أمره. ولكنٌ تركيز أفكاره في مستقبله 
ومستقبل أسرته جعله يستهين بكل شىء حبّى مناضلة 
حسن نفسه. ومضى يِشقّ طريقه بعزيمة لا تنثني ولكنّه 
كان يحمل قلبًا أثقله الهم والشكُ. واستقل الترام حيّى 
ميدان الخازئدار ثم انمه إلى شارع كلوت بك وقد 
تحول انتباهه إلى بدلته العسكرية التي فرضت عليه 
الظروف ‏ كانت أمّه قد استغلّت ملابسه القديمة في 
أغراض جديدة كعادتها ‏ أن يخترق بها طرقًا مريبة! ل 
يكن الاختيار بيده. وكان يرى في حسن مشكلة 
الأسرة المعقّدة الأولى. لقد ملت نفيسة عن مهنتهاء 
وسوف يهبجر قريبًا عطفة تصرالله بل وشبرا جميعاء 
ورتما أسدل ستار النسيان على الماضي البغيض كله 


بداية ونهاية 1418 


فلم بق إلا حسن وهيهات أن يطمئنّ له جانب ما دام 
ققيقة سقار نا تحياته الآكمة . ود العته, عيفافة حكن ف 
فعرّج إليها متجنبًا الأنظار التى تطلعت إليه في دهشة 
وقطعها مسرعًا إلى بيت أخيه ورمق إليه كالهارب 
مستقبلًا الرائحة النتنة. وارتقى السلّم الحلزون 
متعضًاء ذاكرًا في صيق وحجل زيارته الأولى لهذا 
البيت منذ عام حبّى وقف أمام باب الشقّة في شبه 
ظلام وطرق الباب. وفتح الباب عن وجه رجل غريب 
وجه شائه من الوجوه التي 1 تبرح ذاكرته منذ زيارته 
الأولى ‏ وما إن وقع بصره عليه حبّى دفع الباب فأغلقه 
في وجهه سرعة غريبة وقد نذت عن فيه صرحة 
قائلة: «بوليس!8 فدهشى الشاتء ثم حدث ما هنالك 
فانزعج وأحسل بخزي وألم ل يِحسٌ ممثلهها من قبل . 
ولبث متسمّرًا في مكانه لا يدري ماذا يفعل. وفكر في 
العدول عن الزيارة» ولكنّه لم يبرح مكانه ووجد من 
نفسه تصميًا عنيدًا على إنجاز مهمّته مهما كلفه الأمر. 
ليست المسألة لهوًا وعبثًا؛ هي حياة أو موت», ولن 
يستطيع السير في حياته قدمًا ووراءه هذا البيت. 
وطرق الباب مرة أخرىء. وانتظر وهو يعلم بعبث 
الانتظارء ثم أعاد الطرق بشدّة. ترى هل يمكن أن 
يكونوا قد هربوا من الشقة من إحدى النوافل؟ وأراد 
أن ينادي أخاه بصوت مرتفع فيتعرّف عليه بصوته 
ولكنّه خاف أن يعرفه كما يربد ثم يعلن شخصيته 
لصاحبه المأعور ليطمئنه فتذاع الصلة التي يتمق آلا 
تُعرف أبدّاء ومع هذا فمن أدراه أن حسن لم يخير 
أحدًا بحقيقة شقيقه ولو على سبيل الفخار؟! وأصر 
على أسئانه في خزي ويأس. ولكنٌ اليأس أمدّه بقوة 
عناد جديدة فطرق الباب بقبضة يده بعنف وصاح ديا 
حسن. يا حسنء أنا حسئين!0. ولم يطل انتظاره بعد 
النداء ففتح الباب وبدا حسن خلفه يطالعه بعيئين 
ذاهلتين. وبدا كمن يفيق من صدمة. وثبت بصره 
لحظات دون أن يتحرّك, ثم دبت في عينيه يفظة. 
وشاع في نظرته) الابتسام وهتف: 
حسنين!!. . ضابط!. . لا أصدّق عييً! 


وشدٌ على يده. وربت بالأخرى على ذراعه؛ وجذبه 


5 بداية ونباية 


إلى الداخل وهو يضحك ضحكة عصبية عالية. ثم 
سار به إلى حجرة النوم وهو يقول : 

ضابط. . يا لما من مفاجأة!.. مبارك مبارك. . 
هلأ وم سعيك . . 

وجلس حسنين على الكنبة. وأغلق حسن الباب ثم 
جاء فجلس إلى جانبه. وكان الشابٌ يبذل جهذا جبَارًا 
ليتغلب على اضطرابه ويتالك أعصابه. ونظر إلى أخيه 
مبتسم| وقال : 

إن أحقّ الناس بالتهيشة ولكنّك أنت أحقّهم 
9 

فضحك حسن بسرور ولعل شعوره بالسرور كان 
مضاعقًا بعد ما كان من انزعاجه وقال: 

- علام أستحقٌ الشكر؟ ما أذيت إليك إلا بعض 
حقك عندي , دعنا من هذا وخترن عن حال الأسرة. 
وكيف أمّنا ونفيسة وما أخبار حسين؟ 

وراح يده عمًا يريد بباطن فاتر وظاهر متكلف 
الاهتام . وكاد الحديث يسوقه وهو لا يدري إلى سؤاله 
عا قطعه عنهم» ولكنّه أمسك عن السؤال في اللحظة 
الأخيرة ذاكرًا أن انقطاعه هذا خير غير مقصود وأنْ 
وصاله شر ما يبتلون به وهو على هذا الحال, ولما فرغ 
من حديثه قال حسسسن ؛ 

الحقٌ أني أحنّ إليهم كثيرًا ولكنّ حياتي لم تعد 
ورما خشف عي الألم أحيانًا أثْهم لم يعودوا بحاجة إل 
وأني أدّيت بعض الواجب علي. وفضلا عن هذا 
فلست تجدني في يسر متصل., فقد يمتلْ جيبي بالنقود 
أيِامًا ثمّ يفرغ أسابيع. وفي حالة امثلائه تجدني مضطرا 
ضابطا فمبارك عليك حظّك ولا يصِمٌ أن أخلط 
بفرحى شيئًا آخر. . . مبارك يا حضرة الضابط! 

وجعل حسنين يصغي إليه وهو يتفرس في وجهه 
فهاله ما يرى من تخيّر وتشويه وغرابة كأنه يستهلك في 
العام الواحد من حياته المحفوفة بالمهالك أعواما 
طوالا. لقد انتهى حسن» وشعر بانقباض وتشاؤم. 


وبثقل المهمّة الى جاء من أجلها. ومع هذا فلم يخطر 
له لحظة واحدة أن يعدل عدا يراه واجبه. وعزم على أن 
يتسلّل إلى هدفه برفق فابتسم وفال: 

أخاف أن أكون قد أزعجتك بزيارتي! 

- ابصق هذه العبارة من فيك! , . ما هذا القول يا 
حضرة الضابط|؟ 

فأشار حسنين ناحية الخارج وقال متصنْعًا الدهشة : 

- لقد فتح الباب لي رجل غريب ثم صريم مرتعبا 
«بوليس» وأغلق الباب في وجهي ! 

فقهقه حسن عاليًا وقال: 

حصل سوء تفاهم نادر ولكي عرفت صوتك 
فانتهى الأمر بخير. . . 

فوجد حسنين صعوبة قبل أن يقول متسائلا : 

وما الذي أنحافه؟ 

فألقى عليه نظرة كأنما تسائله أيجهل حقًا أم 
يتجاهل! ثم قال بعدم اكتراث : 

- يوجد أناس كما تعلم يخافون البوليس !| 

فتساءل الشاتّ بإشفاق: 

- أليس من الخنطر أن تفتح أبواب بيتك لمشل 
هؤلاء؟ ! 

فصمت حسن قليلا ثم قال : 

- بلى ولكنّ الإنسان ليس حرًا في اختيار أصحابه! 

فقال بدهشة : 

- كيف هذا يا أختي؟!.. الإنسان حرٌ بلا شك في 
الخار أضيحانة , 

فقال حسن بلهجة من يرغب في تغيير مجرى 
الحديث : 

فلندع هذا جانيا واتكار سنا ألطف! 

لا أستطيع أن أدعه حيّى أطمئنٌ عليك. . . 

فقال حسن ضاحكا : 

لا خوف عل اطمئن! 

- إني أعجب لما يدعوك إلى مصادقة هؤلاء 
الأشرار. . . أنت فئان محترم وتستطيع أن تختار من بين 
زملائك أحسن الأصدقاء . 


وخفض حسن عينيه ليخفيى نظرة التجهم التي 


لاحت فيهما. غضب الرجل» ولو ثار غضبه حيال 
شخص آخر غير حسنين لانفجرء ولكنّه كظمه وعالحه 
بالحسنى. أغضبه شعوره بأنْ أخاه يعلم من أمره أكثر 
ما يتظاهر بهء وأنه يعامله معاملة الأطفال. ولو أنه 
صارحه بذات نفسهء بل لو أنه وصفه بالشيٌ كما 
وصف أصحابه لما غضب كما يغضب الآن. وعزم على 
أن يكشف القناع عن الحديث الكاذب فقال باقتضاب 
وبصوت - رغم كظمه غضبه ‏ غير الذي تكلّم به من 
قبل : 

- إن واحد من هؤلاء الأشرار! 

وفغر حسنين فاه دهشة فقال الآخر بجفاء : 

ع نيفين إثاك والنظاءي بالتسقنة .لستغا 
ولست غبيًا فيحسن بك أن تحدّثنى بالصراحة التي 
تعوؤدت أن تحدّئني مها دائمًا. ما وجه الغرابة في أن 
أكون شرّيرًا؟ ألم أكن طوال عمري هكذ|؟! 

وخفض الشابٌ عينيه في وجوم وجل وتشتت 
منطقه فانعقد لسانه. وارتاح الآخر لارتباكه فعاوده 
مرحه وأراد أن ينبي هذا الحديث المؤلم فقال: 

لا عليك من هذاء ولعن الله الرجل الرعديد 
فلولا فزعه الصبيانٌ ما جرى الحديث بيئنا هذا المجرى 
السخيف, ولنعد الآن إلى الأهمٌ (ثم ضاحكا) لا شك 
أنك جكئتني لحديث آخر! 

فجمع الشابٌ ما تشتت من أفكاره وقال متنيدًا : 

- الحقيقة أنّنىي ما جئت إلا لهذا الأمرا 

فلاس الاستنكار في وجه .حسن وقال متهكُم): 

حسبتك جكت تطلب لقوذًا! 

وشعر الشابٌ بغضب أيه ولكن لم ينثن عن عزمته 
فقال بلهجة رقيقة متودّدًا إليه : 

- بفضلك السابق لم أعد في حاجة إلى تقود ولكنّ 
مهمّتى الآن أجل من النقود. إن أريد أن أطمئّنٌ 

فحدحه بنظرة ثاقبة وقال بسكرية: 

لا زلت أطالبك بالمزيد من الصراحة! . . إنك يا 
حضرة الضابط تريد أن تطمئنٌ على نفسك لا عل أنا! 

فقال حسئين وهو يشعر بقهر وغيظ : 


بداية وماية 788 


ب شما شىء وأحد . . . 

ناا ا ارق رلك اووس انانف لان ل 
إل هذه النصيحة مسن قبل؟. . منذ عام مثْلًا؟ 

لا يسعه ‏ بعد أن قال لف وهو لا يدريء إِنَّه إِنما 
جاء لمدا الأمر ‏ أن يدعي أنه كان يجهله. وركبه 
الضيق» ولكه كني مع ,سال أخيه: قاناة: 

ألا ترى وجه الخير لك فيهما أريد؟ 

فتجاهل حسن سؤاله وقال بنفس اللهجة الساخرة : 

كنت قبل عام في حاجة جنونيّة إلى النقود فلم 
مهتم بالنصح والإرشاد أمّا الآن وقد أصبحت ضابطًا 
فلا يِهمّك إِلّا الدفاع عن هذه النجمة اللامعة! 

ومع أن وجه حسنين لم يتغيّر إلا أن قلبه ماج بالغيظ 
والحنق وكأنما أهاجه أن يقرأ الآخر أعياقه هذه السهولة 
الساخخرة ولكنّه قال بلهيجة ليّئة : 

- أخي . . 

وأشار إليه الآخر أن يسكت فسكتء؛ ثم قال 
باستهانة : 

- سأكون معك صريا إلى أبعد حذء وإذا كنت 
تسائل نفسك حقًا عن عملي فإنّ أقول لك إن فتوة 
قهوة بدرب طيّاب (ثُمٌْ مشيرًا إلى الصورة فوق رأسه) 
وعلنين كدو للراة و بوبائم خذراك: 

وهتف .حستين في انزعاج : 

لا أصدق هذا! 

فقال الرجل مبسما في هدوء : 

- بل تصدّقه كل التصديقء ولعلّك حنته فيا 
مضبى. وها قد صح تخمينلك». اذا ترى؟ ! 

فرنا الشابٌ إليه صامتا في إشفاق وألمء حتّى ضاق 
بصمته فقال محزونًا: 

- ليس أحبٌ إل من أن تبدأ حياة جديدة شريفة! 

فضحك حسن عاليا ثم قال بسخرية : 

- بفضل حياتي غير الشريفة أمكئني أن أدفع عن 
أسرتنا غائلة الجوع . وأن أزود أخاك حسين بما كان في 
حاجة إليه كي يباشر عمله الحكومئّ» وأن أهيئ لك 
قسط المصروفات الذي جعلك ضابطا والحمد لله. 

وروخره كلامه بمئل شك الإبر فتراءت له الحياة 


بداية ونباية 


ضيّقة خخانقة. ولكنّ رغبته الحارّة في الدفاع عن نفسه 
ابت عليه أن يسلم بالهزيمة فقال: 

كان هذا بفضصل نبلك ولا فضل هذه الحياة 
الخطيرة في ذاتها! 

لا تغالط نفسك. إنهم يدعوبني بالروسي لا 
بالنبيل. ثم ما هي الحياة غير الشريفة؟ ليس ثمة إلا 
حياة فتحسيء؛ وكلنا يسعى للرزق. . 

- تموجد حياة آمنة» وحياة يفزعها جرد توهم 
لولم 

هذا من عسف البوليس» ولا ذنب لناء بالله 
خترني ماذا تريد عل أن أعمل؟ 

فقال حسنين بحياس وقد لاحت له بارقة أمل : 

افيد كله الحيناةواتتار اللفسداق: مله التريها 
كسانىق عيدك: 

وانفجر الرجل ضاحكا وتساءل في دهشة : 

صبء ميكانيكيء؟!. , هذا كمن يطلب إليك أن 
تستقيل من الجيش لتبدأ من جديد بالتوفيقية! 

وغلى حنق الشابٌ في أعاقه مرّة أخرى. ولكنه 
تساءل في هدوء وابتسام : 

ألا تدري ما النهاية المحتومة لنيانك؟ 

فقال متهك) في بساطة : 

أن أسجن أو أقتل!.. وإذا قُدّر عل أن أقتل 
1 فريك يولي لسن ادر 

فتظاهر بالضححك وما يزداد إلا حنقاء واشتلٌ حنقه 
خاصة لاستهانته» ومع أنه يئس منه أو كاد إلا أنه 
استطرد قائلًا : 

أرى أنْ خخطورة حياتك لا تغيب عن فطنتك, 
فلست في حاجة إلى أن أبضّرك بعواقبها الوحيمة» وإني 
أستحلفك بالله أن ترعى نفسك بالحكمة. . 

فألقى عليه نظرة طويلة باسمة كأنه يقول له ولا 
تماول خداعي بتوذدك» وقال: 

لآ خف عي أستغفر الله أعنى لا تخف على 
نفسك أو سمعتكء. لا تحمل نفسك هموما فارغة, 
هبني كثيء لم يكن, لا تكترث لا يقول الناس عنكم 
بسببي فإِلك تستطيع أن تحيا الحياة التي تروق لك على 


ركنم كلام النامرن .+ 

وتيد حسنين في ضيق وقلوطء. وحنق عليه في تلك 
اللحظة حنقًا أسود تم معه لو كان شيئًا لم يكن حم 
ولكنّه كائن» ومسلّط على رأسه كالسيف القاتل» فا 
عسبى أن يفعل؟ وتنبّد مرّة أخرى وتساءل : 

أليس ثمّة أمل في أن تعود إلى الحياة الشريفة؟ . , 
أَهُذْه كلمتك النبائيّة؟ ! 

وغضب حسن. وكأنه أشفق على أخيه من غضبه 
فانتفض قائ] وقطع الحجرة الصغيرة ذهابا وإيابًا مرتين 
مفرعًا بخار غضبه في حركاته العنيفة» ثُمْ استند إلى 
حافة السريرء وشبك ذراعيه على صدره؛ وقال بلهجة 
من نفل صدره: 

حياة شريفة؛ ححياة شريفة! لا تعد هله العبارة 
على مسمعي فقد أسقمتني. ميكالنيكيّ بقروش 
معدودات في اليوم. أهذه هي الحياة الشريفة!؟.. 
السجن أحبٌ إل منها! ولو أنْبى استمسكت بها طوال 
حياتي لما حلّيت كتفك بِبْذْه النجمة؛ أتحسب أن حياتي 
وحدها غير الشريفة؟. . يا لك من ضابط واهم! . . 
حياتك أنت أيضًا غير شريفةء فهذه من تلك؛ ولقد 
جعلت منك ضابطا بنقود محرّمة مصدرها تجارة 
المخدّرات وأموال هذه المرأة (وأشار إلى الصورة). 
فأنت مدين ببدلتك لمذه المومس والمخدّرات» ومن 
العدل إذا كنت ترغب حمًا في أن أقلم عن حيا 
الملؤثة أن تبجر أنت أيضًا حياتك الملوثة. فاخلع هذه 
البدلة ولتبدا حياة شريفة معا! 

واصفرٌ وجه حسنين وغضٌ بصره في ذهول ويأس 
وقد امتلاأً صدره غيظًا وحقدًا. والفرجت شفتاه أكثر 
من مرّة كأنّه يهم بالكلام ولكنّه كان يطبقها في تسليم 
اليائنس, ولم يرحمه حسن على ما بدا من قهره ووجومه 
فقال: 

أرأيت أنّك تؤثر النجمة عل الحياة الشريفة؟!! 
ولست ألومك فأنا مثلك أوثر رزقي على الحياة الشريفة 
ثم ضاحكا).. نحن شقيقان ويجري في عروقنا دم 
واحد! 


وض حسنين عابسا وهو يقول: 


لا تسخر مثى جزاء ما أوليتك من نصيحة! 

ثم اتجه نحو باب الحجرة وهو يقول: 

ب أستودعك الله , , 

ولمّا وضع يده على أكرة الباب سأله الآخر برقة 
مفاجئة : 

ألا تريد أن تسلّم علَ؟ 

فتحوّل إليه ومدّ له يده. فشدٌ عليها الآخر وأبقاها 
في يده وهو يقول ضاححًا: 

- يؤسفني أنبيى أغضبتك . انس ما كان ولنبقٌ كبا كنا 
ولو على البعدء ستجدني دائًا «الروميٌ» الذي عهدته. 
ولا تنس أن تهدي سلامي إلى أمْنا ونفيسة. مع ألف 
سلامة , , 

7ك 

وأطلع أمّه على صورة واضحة من سيرة حسن فقد 
كان صدره أضيق من أن يتّسع لها وحده. واستمع لا 
جاد به لساها من ضروب العزاء والنصح يقلب 
مغلق. كان في الحقيقة متجهمًا منشائًا حاقدًا. ولم 
كان لديه بضعة أيَام من الفراغ قبل أن يبدأ عمله 
بالفرقة فقد خخطر له أن يسافر إلى طنطا للقاء حسين». 
وعاوده شعوره القديم بالحاجة إلى مشاورة أخيه فيم) 
يلم به من أحداث. بيد أنه لم يقدم على تنفيذ فكرته 
وبدا كالمتردّد» وفيها بين هذا وذلك لم جد من سلوى 
إلا في شمّة فريد أفندي. ولكنّه كان يذهب إليها 
ناشدًا عزاء لا ملييًا شوقاء ولم تغب عنه حقيقة مشاعره 
فحمّل كابته العامة مسكوليّة تغبّره» ثم أخذ يستبين أن 
تغيّره أعمق من أن يكون أثرًا عارضًا وقتيّاء وتساءل في 
حيرة ألم يعد بحبّها؟! عرض له هذا التساؤل أول ما 
عرض في ضحى اليوم الذي جاء بعد زيارته لحسن 
بيومين. وكان يجالس بيّة على انفراد بحجرة الاستقبال 
على حين شغلت الأمٌ بالمطبخ. فجعل ينظر إلى الفتاة 
متسائلًا ألم يعد يحبّها؟! هي فتاته بجسمها وروحهاء 
وم تزل مثار رغبة جاعحة ولكن كأنّه يرغب في أن يولي 
عنها فيها يرغب أن يولي عنه من ماضيه جميعًا. وتحير 
بين رغبته فيها وما يتساءل عنه من انتهاء حبه لها! 
أيمكن أن يرغب فيها ولا يحبّها في آن؟ إِنّه تجذب إليها 


بداية وباية /1م؟ 


بقوة عنيفة ولكن يرغب به عنها ما يرغب به عن عطفة 
نصرالله وعطفة جندب. لم تعد الأمل الذي يرنو إليه» 
وما هي إِلَا لوئة في دمه يبغي منها شفاء. وأدام النظر 
إليها حبّى خال وجهها المادئ المهذب عقابًا بحسم 
فوجد وخخرًا في قلبه. وطرد أفكاره دون أن يبت فيها 
برأي وسمعها تقول له: 

- لا تحملق فّ هكذا. . . 

ما ألذّ أن يضمّها إلى صدره ويمطرها قُبَلُاا إِنّه لا 
يدري ما هو فاعل بها غدًا ولكنه يأسى على طول 
اه 

وقال مبتسم): 

- إفي أفكر في تقبيلك قبلة حارّة نبدأ مها حياة 
جديدة . 

لا يحلو لك إلا هذا الكلام! 

هل ثمّة ما هو أحلى؟ 

فتردّدت قليلا ثم خفضت عينيها قائلة : 

- يوجد ما هو أهم! 

وحدس ما تعليه بلا تردّد. وساوره قلق. ولكنّه 
تجاهل ظنّه متسائلا : 

أهمُ من القبلة؟! 

أحبٌ أن تحدّئنى جادًا ولو مرة. . . 

- ولكئّي أود أن أقبلك جادًا! 

فتفكرت فيما يشبه الحيرة كأنما تغالب خطرة ثم بدا 
كأئّها تغلبت على حيرتها فقالت: 

- ألا تدري ماذا قالت مي ؟ 

صدق حدسه! لا بد ثمًا ليس مئه بد! وتساءل 
متبالها : 

ماذا قالت؟ 

فقالت بصوت منخفض وف عناء من حياء : 

قالت لي لقد طال انتظارك؛ وها قد صار ضابطا! 

وأحس في أعماقه بحنئق حام, كأنّه سمع تجديفاء 
ومع أنه كان يعلم بأنّه ليس له حقٌّ في حنقه إلا أله 
كره الأمّ في تلك اللحظة, ثم تساءل: 

هل تتعجل الزواج؟ 

فتضرّج وجهها بالا حمرار وغمغمت: 


8 بداية ونباية 


- كلا ولكّها ترى أنه آن أن تعلن الخطبة. 

- ألم يتم هذا؟ 

فتحسشسث بنصر يمناها في حياء وغمغمت: 

ثمّة أمور لم تزل ناقصة. . . 

وفهم ما تشير إليه في استياء لم يدر سببه. لم يكن 
ثمّة شىء مستغرّب فيا يطلبون ومع ذلك حنق عليهم 
جميعًا وركبه شعور المطارّد إذا دده خطرء وتفرّس في 
وجهها وهو يذكر ما قال زملاؤه عنها في الأتوبيس وقال 
لنفسه «فتاة طيّبة ولكتها ليست أهلًا لأن تكون زوج 
ضابط مثلي؛ ولو تمٌ هذا الرواج لكان الأول من 
نوعه!) ثم قال لما في هلوء باسم : 

هذه أمور لا وزن لها. 

- ولكّبا هامّة جدًا في نظر الناس فطلما تساءل 
أقاربنا عن الخاتم! . . . 

وعجب لحاسهاء وتم لو كانت تعلن عن بعض 
هذا الحماس في الحبٌ. «ولكتها تريد أن تترؤجني لا أن 
تحبّبي. هذا سرٌ برودها وتحفظها. وإذا لم يكن حبّء 
بل وحبٌ قهار جنون؛ فا الذي يغريني بالزواج 
منبا؟ !1 وقال: 

لا داعى للعجلة؛ ستحقق آمالدا في الوقت 
المناسب. 7 

ومتى يكون هذا الوقت المناسب؟ 

فقرّب ما بين حاجبيه كأنه يفكر وقال: 

أظنّ إذا رُقيت إلى رتبة الملازم أؤل أصبح في 
وسعي أن أفتتح ينا مع معاوئة أهلٍ الذؤة لذأ تون 
000 

وبدا في وجهها الوجوم وجعلت تقرض ظفرها 
حانية الرأس خابية العينين. ومع أنه ارتاح لتصريحه 
الذي مد له في حرّيّته إلا أنه رق لمنظرهاء وجرى 
بصره على جسمها فدقٌ قلبه وتناسبى أفكاره ومحاوفه 
وحنقه فنبض إليها وجلس إلى جانبها على الكنبة 
ولكنها تباعدت إلى هاية المقعد وحالت دونه بساعديها 
قبل أن تُذْهب روح المقاومة الطارئة مسحة الحزن من 
عينيها. وقبض على ساعديها وهرى على كفيها يقبّلههاء 


حيّى قامت مبتعدلة عنه وهى تبتف: 


- دعني. . . دعبي . . . لم تعد | كنت . 

وقام في أعقابها مدفوعًا بفورة إحساسه وجنون 
عضا ول فوا ازا نفو ل ف تر لون له 1 
فهوى بفيه إلى شفتيها فأمالت رأسها إلى الوراء فمست 
شفتاه طرف ذقنهاء ثم قلصت من ذراعيه ووقفا وجهًا 
لوجه وهما يلهئان.» وصاحت به بصوت متهدج: 

لا تبجم عل غصيا! 

والقلبت شهوئه غضيا فحدّثته نفسه مجر اللحجرة, 
وسار خطوتين صوب البابء. ثم تحول إليها بغتة وقد 
انقلب غضبه شهوة جنونيّة فانقض عليها مصمًا على 
إرواء عواطفه؛ وطوقها بذراعيه رغم مدافعة يدمهاء 
وضمها إلى صدره بعنف ووحشية» ثم طبع شفتيه عل 
متها وكل] عالق برجههاخنة اتبعها وحيه لازقا فاه 
بشيهاء ملاقيًا دفعات مقاومتها بقوة وحشية, حتى 
سكنت بين ذراعيه في شبه إغماء. ولم يبال خورها 
فراح يضِمّها إلى صدره حتّى استشعر طراوة جسمها 
اللدن على بطنه وفخذيه فتسرب إلى إحساسه في ارتياح 
عميق كأنه كنف جديد عن لذة الحياة. وندّت عنبا 
مقاومة طارئة ضعيفة كصحرة الموت ولكنّه قفى عليها 
بخ ان رو انقهال وتسالة ا بو مر اققن و الشيير ثليه 
وسرى ذوبه في أعصابه باعمًا لذة خياليّة» ثم اهارا في 
تسليم متوقم مفاجئع معًا. وأفاق كمن يفيق من حلم 
فوجدها بين ذراعيه وشفتيه على خذهاء ولا شعرت 
بذراعيه تتراحيان عنبا دفعته في صدره متراجعة وقالت 
وح لدان اصويت مكدب 

525205000 

ول يترك قوها في نفسه أثرّاء لا حسنًا ولا سيئاء 
فلم يأبه لها وكأنْ إحساسه تجاهل وجودها. شعر بظفر 
وارتياح ثم غلبه عليه) فتور فتراجع إلى مقعده الأول 
وجلس عليه في دهشة. ولبثت هي بوقفها كالترددة ثم 
عادث إلى مجلسها في استياء وراحت تعاتبه وتعنفه دون 
أن يلقي إليها بالّا. ورنا إليها بغرابة وساءل نفسه: 
أهذه هي؟ أهذا أناء أين هي وأين أنا؟ ثم ران عليه 
فتور ثقيل أكثر بما يحتمل . 

وجعل يصغي إليها دون أن يحمل نفسه مشقة 


الاعتذار؛ وانتهز فرصة حضور أمها فجالسها دقائق ثم 
قام مستأذنًا في الانصراف. ولمًا غادر الشقّة شعر 
برغبة في الهرب. وحينذاك عاودته فكرة السفر إلى 
طنطا فابتسم ها في ترحاب وحماس . 
جد )لات 

عندما انتهى إلى فندق بريطانيا بشارع الأمير فاروق 
بطنطا كانت الساعة حوالي الخامسة مساء وقاده غلام 
إلى حجرة أخنيه فنقر على الباب ووقف مبتسما انتظارًا 
للمفاجأة السارّة وفتح الباب وظهر حسين في جلبابه؛ 
وسرعان ما انّسعت عيناه دهشة فأقبل على القادم وهو 
مهتفب : 

حستين! . . لا أصدّق عيئي! 

وتعانقا عناقًا حاراء ثم دخلا الحجرة الصغيرة 
وحسين يلقي عليه نظرة متفخصة في حبٌ وإعجاب ثم 
قال بصوت متهدّج من التأثر والسرور: 

يا لها من مفاجأة سعيدة. أهكذا ببجم 
العسكريّون بلا إنذار؟ مبارك. لقد أرسلت برقية 
- وصلتني ورأيت أن أجيئك بنفسي شاكرًا! 

- وكيف حال نينة ونفيسة؟ 

على خير حال. وجدت لدي بضعة أيام إجازة 
قبل بدء العمل فضّلت أن أمضيها معك. . , 

أحسنت صنعًا. وحسن؟ أما من جديد عنه؟ 

وغاض البشر من وجه حسنين ولكنه أبى أن يخلط 
باللقاء كدرًا فقال: 

دعنا منه الآن على الأقل. . . 

وحدس حسين ما أحزنه ولكنه لم يكن أقل رغبة 
منه في تأجيل التكد إلى وقت أنخر فدعاه إلى اللوس 
على الكرسيّ الوحيد ووثب هو إلى الفراش. وتبادلا 
نظرات مشوّقة متفخصة فلمس كل منبما ما طرأ على 
الآخحر من أمارات الصحمة والعافية وإن كان وزن 
يق قد زا اك عا نتصررى اخرم» ذلك وجنده كذ 
رق شاربه بطول شفتيه وعرضها مما أكسبه مظهر 
رجولة وقور وجعله يبدو أكبر من سنْه, وقد داعبه 
قائلا : 


بداية وعباية 544 

عالقد خلقت لمكو انا اراد 

فابتسم حسين على ما أثار قوله في نفسه من 
ذكريات محرنة ولكنّه لم يعلّق عليها بكلمة وقال مشي 
إلى نجمة الضابط : 

- إن فخور بك, . . 

فقال حسنين بتر 

- إني مدين بها لنبل تضحيتك . 

وهبط قوله على قلبه برذا وسلاماء وتمتم : 

- لا تبالغ! أنت رجل جدير بكل خير. . . 

وقال حسئين لنفسه «هذا شقيق لا يشينء؛ ولولا 
ماضي نفيسة وحاضر حسن وماضيه ما وجد إنسان على 
الأرض أسعد مئي) ثم قال لأخيه بسرور: 

- أبشر لقد رجوت أحمد بك يسرىي أن يسعى 
لنقلك إلى القاهرة فوعدني خخيرًا. . . 

- عفارم! ويبذه المناسبة أخيرك أنْبى سأعود معك 
إلى القاهرة قائّ| بإجازي السئوية ... , 

ثم غادر الفراش وهو يقول: 

- اغسل وجهك ونفْض بدلتك من وعشاء السفر 
وهلمٌ ننطلق إلى المدينة فلا خير في البقاء في هذه 
الحجرة الضيقة. , . 

وارتدى بدلته ثم خرجا معًا يتمشيان في طرقات 
المديئة» ثم مضى به إلى قهوة السمر وجلسا معا 
يواصلان حديثها|. وتكلم حسين عن حياته في طنطا 
كثيرًا» وشكا إلى أخيه وحدته وكيف عودته على غشيان 
المقهى كل مساء فيمضي ساعتين على الأقل مع نفر من 
الموظفين يلعبون النرد حيئًا ويسمرون حيئا آخرء ثم 
يعود إلى الفندق فيطالع ساعة أو أكثر قبل النوم. 
وحدّثه عن آخر كتاب ابتاعه وهو الاشتراكية لمكدونالد 
المترجّم عن الإنجليزيّة وكيف أن النظام الاشتراكيئ لا 
يتعارض مع الدين ولا الأسرة ولا الأخلاق. كان في 
وحدته وضيقه يسعد بأحلام الإصلاح ويتخيّل مجتمعا 
خيرًا من المجتمع الذي يعيش بين أحضانهء وحالا 
خيرًا من الحال المقدورة له وأسعده الأمل في إمكان 
تحقيق خياله دون الاعتداء على العقائد التي أشرب 
حبها والإيمان مها منذ طفولته . 


بداية ونباية 


ثم تساءل في نفسه ترى هل أفضت أمه للشات 
بالسر الذي دفعها إلى زيارته منذ عام ونصف؟ ولم) لم 
يشر حسئين إلى الموضوع بكلمة اطمأن إلى أئْها كتمت 
الأمر كلّه وهو ما ترججح لديه من بادئ الأمر. وذكره 
هذا الخاطر بالامه الماضية ولكنّه ذكرها بقلب خخالر 
هادئ لولا حنينه العام إن 'اترفف اننا “تسكن 
قط ثم وجد نفسه وهو لا يدري يسأل حسنين عن 
خطيبته! وأجاب الشِابٌ إجابة عامّة قائلا: «بخير 
والحمد لله؛؛ وساءل نفسه هل يصارح أخاه بما طرأ في 
لقع امن عقر ترقز نوكته طقل خرن بهلناء بواخعلة 
إلى المستقبل إذا جد جديد من الأمر, وكان يعلم سلما 
أن حسين لا يمكن أن يوافق على نواياه أو يرضى عن 
منازعه. وتواصل الحديث بينه| طيًّا لطيفًا حثّى عزم 
حسنين على خوض الموضوع الخطير الذي يشغله فقال 
متمبدًا : 

تصور كم كانت الحياة حميلة لولا ماضيئا وأنحونا 

وأحسٌ حسين بما وراء هذا التتبّد من حرن وسخط 
فقال ببساطة : 

أعتقد أنْ آلامنا قد انتهت.» أمّا ماضيئا فليس فيه 
نا دروام حر قلق يفا واأهفاة إلا نفسو 

فهرٌ رأسه دلالة على عدم الموافقة وقال في حزن : 

أنا علمت أن حسن قد انقلب مع الزمن بلطجيًا 
وتاجر مخدّرات!؟ 

ومع أن حسن كان يتخيّل شقيقه الأكبر على أسوأ 
حال إلا أنه لم يكن يظنّ أنه ترذى إلى هذا القرار. 
فهتف في ارتياع : 

لا تقل هذا. . ! 

فكان جواب حستين على ارتياعه أن قصّ عليه ما 
شاهده في زيارته الأخيرة لحسن وما سمعء وأصغى 
إليه أخوه في صمت ووجوم. ولمًا طال صمته سأله 
ححسكاين ؛ 
ما رأيك؟ 
فبسط له راحتيه كأنه يقول له: وما حيلتنا؟» ثم 


غمغم : 


واأسقاهء كان حسن ضحية للمرحوم والدناء 
وكاذتيز لد فبويكة اقيق ذاكة الند! 

فقال حسنين بجزع : 

ألا تستطيع إقناعه بالإقلاع عن أسلوب حياته؟ 

فقال الآخر متعبدًا : 

لن يقلع عنها مهما قلنا أو فعلناء شىء واحد 
يستطيع أن يعدل به عن حياته وهو أن نبيئ له رأس 
مال مناسب كي يبدأ حياة جديدة» فهل يسعنا هذا؟! 

وتبادلا نظرة يائسة لأنّ السؤال لم يكن في حاجة إلى 
جواب» ثم قال حسنين بحلة : 

أنتركه في غيّه كي يقضى على آمالنا! 

لقد قضى على نفسه. ا 

وعلينا! كيف تواجه العالمى ولك مثل هذا الأخ؟! 
سوف تظهر أسماؤنا يومًا في الجرائد بين أعمدة 
الحوادث والجنايات! 

فتنبّد حسين محزونًا متفكُرًا في كلام أخيه الذي 
ربع أصداء أفكار طلما أكربته في وحدتهء ولكنّه قال 
معارضًا أخاه ونفسه معا: 

دالا ذنت لناء ولا يصحٌ أن ندع الخوف يتهوؤل في 
قلوينا. قد يصيبنا رشاش من ألسئة الناس» الآن أو 
فيا بعد ولكدّنا لن يمكننا مواجهة الحياة إذا لم نذْرعَ 
بقدر من عدم الممالاة. . . 

بدا له حسين كأنه لا يعي ما يقول. أو كأنه لا 
يبلي السمعة الطيّبة التي هي أسٌ كل أمل في الحياة بيد 
أنّه مهما يكن من أمره فهو ليس ذا أصدقاء كأصدقائه 
شف يكن أن ملعو بعل اسزران ارقف قدللته لا 
تنازعه نفسه إلى المجد والطموح فليس في آماله ما 
يخاف عليه ألسئة الناس. أجل أخطأ تقديره ولن يجد 
من أخيه مشاركة وجدانيّة»: وحنق عليه في تلك 
اللحظة كثيرًا. واحتقر استسلامه وهدوءه. واأندفم 
قائلا وكأنه لا يروم إلا الترويح عن حنقه : 

هل تعد أنفسنا شرفاء؟ 

فقال -حسين بدهشة: 

ول لا؟ | 

- ولكنًا استعنًا على تقويم حياتنا بنقود ملوثة! 


تطاير الشرر بغتة من عيني حسين» وحملق في وجه 
أخيه وهو صامتء وكأنْ آلامه الدفينة قد طفت على 
سطح قلبه داعية معها من الأعاق أسوأ الذكريات» ثم 
قال بحذة: 

كا في موقف دفاع عن النفس. والدفاع عن 

وشعر حسنين بارتياح خفيّ لغضب أخيهء» وجعل 
يتساءل في حيرة عا دفعه إلى مجاببته بهذا التصريح 
الأليم. ثم استطال الصمت حتى سئما الموضوع فخاضا 
في غيره. غير أنه مضى زمن غير قصير قبل أن يطيب 
اللو 

2072 

وبعد بضعة أيّامم عاد الشقيقان إلى القاهرة فكان يوم 
في حياة الأسرة لا يسى. وقبّلت الأمّ حسين طويلا ثم 
عائقته نفيسة عناقًا حارّاء وأمضى الشاتٌ ساعة طويلة 
من الظهر وهو يحدّث عن طنطا وحياته بها والمرأتان 
منصتتان. وجعلت نفيسة تتفرس في شارزبه وبدانته 
الآخذة في النمو فهالها تغيّره وقالت باستنكار: 

- فيم تبدو كالرجال وأنت طفل! 

فقال حسين مبتسم) : 

لم أعد طفلا . 

وقال حسنين ضاحكا : 

نحن رجالك وأنت أخخعتنا «الكبرى»! 

فقالت الفتاة بحذة : 

كنت أكبركا فيها مضى أمّا من الآن فصاعدًا فأنتما 
تكبرانني» هل تفهمان؟ ! 

ثم التفتت إلى أمها وساءلتها في اعتراض : 

هل يعجبك هذا الشارب الذي يكتر نفسه 
ويكترنا معه بلا داع ؟! 

وكان الوقت ظهرًا فراح حسين مخلع ملابسه. وقد 
بدا البيت لعينيه غريبّاء بيد أنْ حبّه العميق لأسرته 
ولبيته استيقظ ودرٌ حنانًا فملكه ارتياح شامل» ارتياح 
ف لقوق إن مسار ءتمنن أذ قط فنالا طلو اخ واجال 
طرفه في حجرة المذاكرة» هذا المكتب القديمء وهذين 
الكرسيّين» وهذه النافذة التي تقوم صفحة الجريدة منها 


بداية وماية 591 


مكان اللوح الزجاجيّ المحظم. كل أولئك ذكريات 
عزيزة. أمَا سريره فلم يعد له أثرء بيع في الوقت 
المناسب كالمتبع» ولحق بسرير حسن. وكأنّه لم يعد من 
أهل البيت! ومع أنّه كان يحدس هذا بالبداهة إلا أنه 
شعر بحزن وكأابة. وهنا شعر بنفيسة وهي تغادر 
الحجرة قائلة : 

أمهلاني ساعتين أعدٌّ لكما غداء طيبًا! 

وابتسم ارتياحًا. إِنْه لم يذق طعامًا طيبًا منذ عهد 
بعيد» رما منذ وفاة والده. أجل كان طعامه طيبًا وهو 
موطف أفضل من طعامه وهو تلميذ كما يشهد بذلك 
ارتواء جسمه. ولكنّه لم يطلق لشهوته العنان قط. عل 
نّه كان مشغولًا بما هو أخطر من لذَّة الطعام وهو تذوّق 
عودته السعيدة إلى منبته الأول وجوه الأصل . كان 
حنانه كالغئوة الحلوة يتردّد في حواسه جميعاء حي هواء 
عطفة نصرالله الفاسد وحد له ميل ألفة ورقة ومودّة 
فكآنه الصحّة والعافية. وجعل يحادث أمّه وعيناه 
تتردّدان في أنحاء الحجرة الصغيرة حتّى استقرّئا على 
جاكتة حسنين المعلقة بالمشجب فنظر إلى النجمة 
طويلا. سيرقى حسنين عامًا بعد عام حتَّى يصير 
ضابطا عظيًا على حين يبقى هو كاتبا في الدرجة 
السابعة ‏ أو السادسة على أحسن فرضض - طوال مذة 
حدمته. على أنه لى يجد أي أثر لشصور الحسد أو 
الحنق؛ كان أبعد ما يكون عن هذاء بل كان سروره 
بأخيه لا يدانى»: ولكنّه وجد نفسه يتأمّل في صمت 
حزين الفوارق الطاغية التي تميّز بين الموظفين» وامتد 
خياله وهو لا يدري إلى الفوارق الطاغية التي تفصل 
بين الناس عامّة , ترى آلا يمكنه إذا تُقل إلى القاهرة أن 
يلتحق بمعهد ليلّ عسى أن يتغيّر من حال إلى حال؟ 
وابتسم قليه لمذا الخاطر السعيد وأودعه صدره كأمل 
احتياطئ يلجأ إليه في حينه فينجيه من مصير كمصير 
حسّان أفندي حسّان! وحيّى حشسان أفندي نفسه لم 
يكن ليرقى إلى الدرجة السادسة لولا الوزير الوفدي ؛ 
وذكر عند ذاك أمورًا سمع بها في طنطا فساءل أخحاه: 

هل حمًا ما يقال عن احتمال سقوط الوزارة؟ 

فضحك حسئين قائلا : 


9 بداية وعباية 


- غير مسموح للضابط بالاشتغال بالسياسة. 

فضحك الشابٌ» ثم قال: 

- كيف تسقط بعد أن نفض الإنجليز أيديهيم من 
سياستنا؟ 

وتساءلت الأم : 

أنعود مرّة أخرى إلى المظاهرات؟ 

- من يدري؟ 

فعادت تقول بقل : 

علا ناك للجيش مع المظاهرات؟ 

فقال حسلين يمكر: 

- إذا قامت ثورة فلا بدّ من تدخخل اليش ! 

وضحك حسين., وأدركت الأ ما تعنيه ضحكته 
فرمت حسنين بنظرة شزراء وهزت منكبيها استهانة . 
وعادت نفيسة لتقول هم إِنْ الغداء يتهيًا على أحسن 
حال. ثم ساألتهم عن السَّلَطة المفضّلة لديهم. 
وغادرت الحجرة مشمرة عن ساعديها والعرق يتصبب 
من جبينهاء وساد الصمت فعاد حسين إلى أفكاره 
وفكر هذه المرّة في الإجازة وكيف يمضيها. كان 
الموظفون في طنطا يدعونه باليهوديّ لأنّه لا يقامر ولا 
يسكر ولا ينفق أكثر من قرش واحد في القهسوة. 
ولكتهم جهلوا -حقيقة حاله. أجل إنْه ميّال بطبعه إلى 
الاقتصاد ولكن هل تركت مسئوليّاته له شيئًا يُقتصد؟! 
ول تَدَعْهُ أمّه لأفكاره طويلا فعادت تنازعه الحديث. 
وخيّل إليها أنها ترنو إليه بحنو نادرًا ما تعلنه. ترى هل 
ذكرت كيف قست عليه يومًا؟! لقد قست عليه حقاء 
ولكن قسوة الدهر عليهم جيعًا كانت أعظم. ترى 
ماذا هي فاعلة مع حسنين؟.. ولكن لماذا لا يبدو 
الفتى متحمّسًا لرواجه! اذا لم يحدّئه عنه؟! وحوالى 
الساعة الثانية جاءت نفيسة حاملة صيئيّة الغداءع 
فوضعتها على المكتب وهي تقول : 

- تأكل اليوم على المكتب لأن الموظفين لا يصحّ أن 
يأكلوا على الأرض . 

جمعتهم المائدة لآول مرة منذ عامين. ثم عادوا إلى 
جلستهم على الفراش الصغير وواصلوا الحديث في 


أنس وسرورء وحوالى منتصف الرابعة دق الباب 


الخارجيئ فغادرت نفيسة الحجرة لتفتح للقادم . ووثب 
لرأس حسين خخاطر عجيب» أتكون أسرة فريد أفلدي 
قد جاءت لتهقْ العائد؟!.. وفىي هذه الساعة؟ 
وعادت نفيسة جريًا ووقفت على عتبة الحجرة وهي 
تنظر إليهم بعينين متسعتين تلوح فيه] اللسدهشة 
والانزعاج. ثم هتفت قائلة : 

- ضابط وعساكر. . . 

6ل - 

ووقف الشقيقان في دهشة وحستين يتناول جاكتته 
وواثدنيا ابشرظة متيانة : 

ماذا يريدون؟ 

وكانت نفيسة ترذد بصرها بينهم وبين القادمين 
فقالت فجأة بذعر؛ 

رباه. . . لقد دخلوا الصالة . 

واندفع الشابّان خارج الحجرة فوجدا ضابطًا 
وشرطيّين ورجلا آخر يبدو من مظهره أنه خبرء فتقدّم 
حسئين من الضابط متسائلا : 

- ماذا تريد حضرتك؟ 

فقال له الضابط : 

لا مؤاخحذة. لد أمر بتفتيش هذه الشْقّة! 

وأطلعه على أمر كتابيّ فنظر فيه حسئين بعينين لا 
تريان شيئاء على حين سأل حسين : 

- لعلّك أخطات الشقّة. ماذا يدعو لتفتيش بيتنا؟ 

فقال الضابط : 

نحن نبحث عن حسن كامل علي الشهير 
بالروسئ! 

وجم الشابان وهما ينظران إلى الضابط في الزعاج 
وقنوط. وكانت المرأتان تقفان على عتبة الحجرة فركبهما 
الذعر وتسمّرتا في مكانهيا. وعاد الضابط يقول : 

- لقد قبض عل بعض شركائه ولكنّه اختفى قبل 
القبض عليه. ودلّنا بعضهم على مسكنه الأوّل وتحمّقنا 
من هذا بواسطة شيخ الحارة. . 

فقال حسئين بصوت متهدّج : 

- ولكنّه لا يقيم هنا. لقد غادر بيتنا منذ أعوام ولا 


ندري عنه شيئًا . 


فهر الضابط رأسه وقال: 

على أي حال ساقوم بتفتيش الشقّة تنفيذًا 
للأمر, . . 
وبدأ التفتيش فتراجع أحد الجدديين إلى الباب 
واقتحم الضابط والآخران الحجرات» وقد حمد 
الشقيقان في موقفههما كأنما استحالا حجرين. وقال 
حسنين لنفسه «سأذكر هذه الساعة ما حييت»)2 وتبع 
خياله الضابط وهو ينتقل من حجرة إلى حجرة» وكأنه 
يرى معه العجرات الخالية العارية ويقلب أثاثها البالي 
الحقير ظهرًا لبطن. لم يكن تفتيشا عن حسن فحسبء. 
لآنْ حسن لا يمكن أن يختبئ في دُرج المكتب أو تحت 
حلي التراتوع «التشنيحة الم ما مفو ود ال 
تلك اللحظة الرهيبة لم يستطع أحد أن ينتزع من نفسه 
الخجل الجخارح الذي عفى عزة نفسه والضابط يبتك 
بعيئيه المتشفشخصتين حقارة البيت وفقره» وبلغ مسمعةه ‏ 
على ذهوله ‏ صوت بكاء مكتوم فارتفع بصره إلى نفيسة 
وصاح مها بحدّة جنونية : 

اكتمى أنفاسك! 

اين التفتيش فأمر الضابط رجاله بمغادرة الشقّة 
اقترن مره سين ,وقال درقة: 

- أكرّر الأسف. وإنه ليسرّني أي لم أعثر على شيء 
كان حريًا بأن يسبّب لكم المتاعب! 

ورفع يده إلى جبينه بالتحيّة وغادر الشقة مخلفا 
وراءه سكوئًا محرناء وتبادل الشقيقان نظرة ذاهلة دون 
أن ينبسا بكلمة. وأقبلت المرأتان نحوهما بوجهين 
ميتين. وانتبه حسنين من ذهوله بغتة متأوَهًا فوثب إلى 
الباب وأبرز رأسه راميًا بطرفه إلى فناء البيت فرأى 
رجال البوليس في نهاية الفناء يشقّون طريقهم وسط 
لمّة من الرجال والصبية بينهم البقال والحدّاد وبائع 
السجائر فتراجع وهو يضرب صدره بقبضته صائحا : 

الجميع يتفرّج على فضيحتنا. افتضحنا وانتهينا. 

وعاودت نفيسة البكاء ونظرت الأمّ إلى حسين كأئها 
تستغيث به ولكنّ الشابٌ لم يدر ماذا يقول. وبدا كأنه 
يقاوم طعنة قاسية. وجعل حسنين يذرع الصالة وهو 
يواصل ضرب صدره بعنف ويقول: 


بداية ونباية 91؟ 


- بوذي لو أقتل!. . لن يروّح عن صدري أقل من 
القتل. 

وضاقت الأمّ بعنفه بنفسه فغمغمت قائلة: 

هذئ من روعك يا بنّ» ماذا يجدي ضربك 
نفسك هكذا؟ ْ 

فصاح في غضب: 

- دعيني أقتل نفسي ما دمت لا أجد من أقتله! 

وخرج حسين عن صمته فقال بصوت غريب: 

- يجب أن نتدبر أمرنا في هدوء. 

فرماه بنظرة من عينين محمومتين وقال: 

أي أمر نتدبره. . ؟ لقد افتضحنا وانتهينا! 

هذه مصيبة لا حيلة لنا فيها ولكدّنا لم ننته. 
فلنتدير أمرنا. 

لم يكن صدره ليحتمل المناقشة فمفضى إلى حجرته 
وارقى على فراشه. وكان الخزي يخنقه والغضب يحرقه 
فقت أعاة المذلب مقن كالة.وة شعه لو غفيسة حنهة 
الموت إلى الأبد. واستسلم لخواطر دمويّة جمونية راح 
يجترها في ذهول وهذيان» ولحق به حسين فجلس على 
الكرسئ صامتًا متحاميًا إثارته. وكان هو نفسه في حالة 
تستحقٌ الرثاء . م يبلغ منه الحزن يومًا ما بلغه في تلك 
الساعة. فلم يغب عنه ما أصاب سمعتهم من طعنة 
قاتلة؛ وما يتهددهم من قلاقل في الحاضر والمستقبل 
وما نزل بأخيه الأكر من قضاء لا قائمة له بعده. ماذا 
جنت أسرته حي تستحقّ هذا كله؟! وأخذت تتجمّع 
في ذاكرته ذكريات من آلام الماضي ويربطها بآلام 
الحاضر فبدت له كدمئل خطير يتكشف فجأة عن 
مضاعفات سامّة في الوقت الذي يظنّ به الاندمال 
والشفاء. وكعادته قرن آلام أسرته بالام الئاس فوجد 
نفسه يتأمّل حزيئًا شاملاء وكان يلقي على تأمّله هذا 
كآبة لا شك فيها ولكتهبا كثيرًا ها توحي بشيء من 
الصبر والعزاء. ثم نزعت به نفسه إلى تلمس بصيص 
نور في ظلامه المحيط. وجعل يسترق النطر إلى وجه 
أخيه المكفهرٌ متحيئًا فرصة لمحادثته . 

ولبثت الأمٌّ وابنتها بموقفه| ونفيسة لا تمسك عن 
النحيب. لم يعد بوسع المرأة المحتكة أن تحسن التفكير 


4 بداية ونباية 


والتدبير. غلبت على أمرها. وقهرها الحزن والأمبى. 
وكان قلبها يعاني الآلام الني تتوزع قلوب أبنائها جميعًا 
يضاف إليها ألم خاصٌ دفين يخيفها بقدر ما يعذّبساء 
وتشفق إشفافا شديدًا من ذيوعه وافتضاحه. هو ألها 
لحسن نفسه. أين ذهب؟ ماذا يفعلون به لو قبضوا 
عليه؟؟ أيّ مصير يرصده؟ لا ينبغي أن تذكر له إلا 
عطفه وحنانه. وأنّه جادٌ لحم بخير ما في نفسهء وأنه 
كان ملاذهم في المليّات. يا له من طريد لا نصير له ولا 
حبيب! حثّى أهله ينكرونه ويمقتونه. عين حسود 
أصابتهم» نفسوا عليها الموظف والضابط ونسوا الآلام 
الى تركتها حطاماء وتنبدت في عصبيّة لأنها لى تعد 
تحتمل نحيب نفيسة وانتهرتها قائلة : 

- كفاك بكاء أرحميني فإني لا أجد من يرحمنى ! 
آلام الموقف الحقيقيّة غابت عنها في حالتها العصبيّة. 
غلبها خوف غريب ترتئعد منه الفرائص. ولم تكن 
تبكي حزنًا أو أسفًا أو غضبًا ولكن بكاء هستيريًا 
تغالب به خوفا لا يُغلب خّل إليها معه أمْها همي هي 
المطارّدة. وتوقع قلبها شرًا فظيعًاء أفظع هما وقع. 
فتلفتت فيها حولها في ذعر كأنما تخشى أن ينقض عليها 
فجأة. وسمعت أمّها تقول بصوت ضعيف «هلمّي بنا 
إليهما» فرخبت بالدعوة لتفرٌ من مشاعرها وسارت وراء 
أمّها إلى الحجرة في خطوات ثقيلة. ثم خفق قلبها 
وهي تجوز العتبة كأنها نجفل من لقاء أخويها. . . 

اه 

ثم التفت حسنين إلى حسين وسأله بوحشية : 

- أين تظئه هرب؟ 

وكانت مرت فثرة من الوقت ثاب فيها حسين إلى 
بعض نفسه فلم يرتح للهجة الشابٌ القاسية وقال: 

- من لي بأن أعلم! (ثمٌ بلهجة لا تخلو من تأنيب) 
تذكر أنه أخونا! 

- بعد هذا كلّه! 

- نعم بعد هذا كله. . . 

نطقها بصوت عميق ليعزي قلبًا يعلم أنه على 
صمته ‏ في أمسّ حاجة إلى العزاء» ولكن ثارت ثائرة 


الآخر وصاح به: 

- لقد قضى علينا. . . 

فقال حسين بصوت متعبا: 

لا تبالغ ولا تصح. ينبغي أن تفكر في هدوء. 

فقال حسين في هدوء: 

في وسعنا أن نهجر الحئ كله. . 

فتطلّع إليه حسنين بعيئين حائرتين انشقّت ظلمته) 
عن بصيص أمل. هذا دعاء تهفو له نفسه ملبّية وكائها 
هي التي تتكلم. وغمغم قائلا: 

ماذا قلت؟ 

ع لا؟ القاهرة واسعة لا ند وسيطوي النسيان 
قصّتنا في أقل من أسبوع! 

فتميّد حسنين في شبه ارتياح» ولكنّه قال في حذر: 

- لن تمحو الماضي . 

تا فلنفكر افق المستفيل..:: 

- ولكن الماضي سيطارد المستقبل إلى الأبد. . . 

فقال حسين بملل : 

- فلنفكر جِدَيًا في الانتقال إلى مكان آخر. ويجسب 
أن يتم هذا قبل انتهاء إجازتي . 

وقالت الأم برجاء : 

أجدر بئا أن نفكر في هُذا حقا. 

ورذة عدون الطآره جرم ]رار قل لقن بحل 
أخيه وقد لا يُقبض عليه ولكئه سيظلٌ على الجالتين 
يطاردهم ويتهددهم. لن يطمئنٌ لهم جانب وهو عل 
قيل الححيأة , ثم تساءل في فتور: 

- أين تذهب؟ 

فقالت الأمّ في أمل : 

- إلى شارع شيرا بعيدًا عن هنا. 

فندّت عله حركة تنم عن الجزع والسخط وقال: 

لعن عمق ان امعط جز عل اه وب لشفي 
الحديدة! 

فقال حسين في شيء من الارتياح : 

كنا تا 

فلاح في وجهه تردّد طارئ» ثم قال متتبّدًا : 


ولكنّنا في حاجة ماسّة إلى أثاث جديد! 
فقالت الأم بضيق : 
لا تزد الأمور تعقيدّاء ماذا مهم الأثاث إذا لم تقع 


عليه الأعين! 

لا أستطيع أن أخفي بيتنا عن أصدقائي إلى 
الأبد! 

فقال -حسين: 


هذه مسألة أخرى» وبوسعك أن تبتاع كنبة 
وكرسيّين كبيرين وبساطًا أسيوطيًا فتجعل منها حجرة 
استقبال مؤقّتة. وإذا شئت سخرجنا معًا اليوم أو غذًا 
للبحث عن شقّة؟ 

وبذلك خف التوبّر قليلا وإن غشيت جو المكان 
كآبة استسلموا ها جميًا في صمت حي دق الباب 
وجاء فريد أفندي وأسرته. كانت زيارة منتظرة ولكتها 
جاءت في أسوأ حال» وذكر حسين في عجب كيف 
حلم بها منذ ساعاتء. وكيف يتلقّاها الآن بفؤاد كسير 
ونفس فاترة. أما حسنين فقد ثار غضبه بلا سبب 
ظاهرء ولولم يره فريد أفندي ونفيسة تتقدمه إلى حجرة 
الاستقبال» لمشبى هاربًا إلى الخارج. واجتمعوا في 
حجرة الاستقبال. ولقى حسين من الأسرة تحية حارة 
لم استفاض الحديث عن الماضي والحاضر. وكالوا 
عنفون افيض الزرا جنال الفتشن والبوليسن :ولكن 
آل فريد أفئدي تجاهلوا الأمر كليّة كأنهم ما علموا به. 
ول يلظطف هذا التجاهل من حنق حسنين» أو بالحريّ 
زاد من ثورته الباطئة وشعر بجرح عميق في كرامته. 
والتقت عيناه بعينيى ببية أكثر من مرة فوجدها ترمقه 
بحزن وحيرة لم تخف عنه بواعثهما مئذ سفره المفاجئ 
إلى طنطا. ليكن» لقد ضاق صدره بِبْذا كله. الآنء 
وف وقدة حنقه وضيقهء يستطيع أن يواجه خواطره 
الباطئة بصراحة وشجاعة. لن تكون هله المرأة حماته. 
ولا هذا الرجل حماه... ولا هذه الفتاة زوجه! كل 
أولئنك هم عطفة نصرالله بلا زيادة» عطفة نصرالله 
بذكرياتها السود وحاضرها الأغبر. إثهم يعلمون بما 
جاء بالبوليس كما يعلم الجيران جميعًا ولكتّهم يتكرمون 
عليهم بتجاهل الأمرء ولعلهم يضيفون هذه المكرمة 


بداية ونهاية 71565 
الجديدة إلى مكرماتهم السابقة. سحقًا لحم. لشدّ ما 
يضيق صدره بالمكرمات قديمها وحديثهاء وإنّه ليتطلع 
إلى قوم جدد لا تحول بينه وبينهم المكرمات ولا يربط 
الماضي البغيض أسبابه بأسبامهم . و«انظري بحزن 
يزه كبن شعن لبت انه لست لشن يتن أن 
يتغيّر كل شىء. ماذا فتنني في هذا الجسم؟! الأنه لحم 
طريّ؟ الأسواق ملأى بِبْذه اللحوم. جو بغيض. لو 
طال المقام بي هنا أكثر من ذلك سأبغض أسرتي 
نفسها)ع. وطالت الزيارة فجعل يتحملها في صير حت 
انصرفت الأسرة قبيل المغرب بقليل. وقد دست الفتاة 
في يده ورقة مطويّة وهي تسلّم عليه, ولمًا أن خلا إلى 
نفسه وبسطها وجد بها هذه العبارة «قابلني فوق 
السطح» . كانت أوّل رسالة توجّهها إليه. وتفخص 
الخط بعناية وغرابة فوجده بخط الأطفال أشبه؛ وذكر 
لوه تعليمها الابتدائيّ! بيد أنها كانت على إيجازها 
عميقة الدلالة حيٌّ لكائها صرخة استغاثة. ولا شك 
تا كتبتها خلسة في شقّتها قبل الزيارة مما يدلٌ على أن 
قلبها توجّس خخيفة من أن يواصل فراره منها الذي بدأه 
بالرحيل إلى طنطا. وأحسٌ بغمز في قلبه وشمله عدم 
ارتياح فسخط كما يسخط على كلّ شيء حوله. ولكن 
فِيمَ يسخط؟ أليس من الخير أن تلم بما طرأ على 
نفسه؟ وهل كان يظنٌ أنْ الارتياب لن يتسرّب إلى 
نفسها بعد سفره المفاجئ؟ ليكن. لن يرضخ لضغط 
الظروف حبّى يدمر نفسه بنفسه. ولن يغامر بسعادته 
ومستقبله من أجل عاطفة طفليّة قديمة ووعد صيان. 
وسماف أن يخلو إلى نفسه أكثر ما نخلا فمضى إلى 
حجرته وقال مخاطبًا أنحاه : 

هلم بنا لنخرج . 

ومبض حسين موافقًا على دعوته وغادرا الحجرة 
معًا. ووجد ما يشبه الندمء وثمنى لو كان حسين قد 
تكاسل عن تلبية دعوته ببذه السرعة ليعاود التفكيرا 
ولم تكن الفرصة قد ضاعت ماما فلم يزل بوسعه أن 
يراجع نفسهء ولكنه لم ينبس بكلمة؛ وواصل سيره إلى 
جانب أخخيه. لعلّها تنتظر الآن أمام حجرة الدجاج! 
وخفق قلبه خفقة شديدة. تنتظر بلا أمل؟ وما أقبح 


بداية ونباية 


هُذا! وفي نفس المكان الذي لمس حرارته وسمع بنْه 
وشكواه؟ ما أعجب هذا! وحاول أن يطرد هذه 
الصورة عن مميّلته بتصميم عنيف. ثم سمع أنخأه وهو 
نخاطبيه قائلا : 

- لن نضيّع وقتناء ولن ينقضي هذا الشهر حتى 
نكون قد انتقلنا إلى البيت الخديد. 

الو اه 

وانقضت الأيام في البحث عن مسكن جديد حتى 
اهتدوا إلى بيت بشارع الزقازيق بمصر الجديدة.» ذي 
موقم ساحر وإيجار مستطاع على حدٌ قول حسنين» وي 
اليوم المحدد للانتقال اجتمعت كلمتهم على حمل 
الأثاث مساء على غير المألوف لإخفائه عن أعين 
المستطلعين, ونُقْد ذلك؛ ولبث حسنين في الشقّة مع 
الأثاث المكوم على حين عاد حسين إلى عطفة نصرالله 
ليصحب أنه وأخته إلى المقام الحديد. وودّعوا حيهم 
ليلا غير آسفين» بل مستبشرين خيراء ولمَا بلغوا الحيّ 
الجديد تولتهم دهشة ممروجة بإكبار لما شاهدوا من 
انتساعه وصمته ومناظر العمارات والفيلات المقامة على 
جائبيه وهوائه الحاف النقيّ فلم تتهالك نفيسة نقفسها 
من أن تقول باسمة على رغم أن الموقف لم يخل من 
ذكريات حزيئة ولقد صرنا من الطبقة العالية حماء . 

وكانت الشقة الجديدة في بيت مكون من دورين 
تيايه دين بنيطة خارك] إإبيا سن ذا تبه 
درجات وهنالك وجدوا حسئين في انتظارهم وقد 
أشعل المصباح الغازيّ؛ ونشطت المرأتان إلى فرش 
الحجرات الثلاث الصغيرة وعاونه) الشابّان فلم 
يستغرق تجهيز الشقّة المجديدة بالأثاث البسيط أكثر من 
ساعة تخلّلتها فترة راحة. وبدت الكرامي والكنبتان 
والفراش غريبة نافرة وسط الحنجرات الأنيقة ولم يفت 
حسنين التعليق على هذا بتذمّر كالعادة ولكنّه وجد 
بعض العراء في حجرة الاستقبال التي كانت تفتح على 
الخارج فلا يضطرٌ القادم إلى عبور الصالة الداخليّة 
إليها. وتحدّئوا غير قليل عن الوسط الجديد والعيارات 
والشوارع وما يتسخيّلونه عن الخيران» وتحّث حسئين 
عن ضرورات الخياة الجديدة كها يراها حيّى قال: 


- أمران لا يمكن تأجيلهم) وهما النور الكهربائي 
ونخادم صغير فبغير هذين لا يصمح أن نبقى هنا يوما 
واحدًا. 

وم يعترض على قوله أحد إذ كان مفهومًا أنه هو 
الذي سيّدخل النور الكهربائئّ ويستحضر الخادم. ثم 
ذكر في الوسط الحديد من زاوية جديدة فتساءل في 
نفسه ترى هل تصلح أمْه وأخته لمخالطة هؤلاء القوم؟ 
وخيّل إليه أنه سمع تعليقات السيّدات والهوانم عقب 
زيارة لبيته فتصاعد دمه إلى رأسه وقال مخاطبًا أمّه في 
لهجة تنم عن التحذير: 

لا ينبغي أن تنعرف أحدًا في حيّنا الجديد ولا 
يعرفنا أحد فلا نزور ولا نزار. 

فقالت أمّه بعدم اكتراث : 

- لا رغبة لى في معرفة أحد. . 

وقالت نفيسة : 

لا صديق لنا هنا نأسف على قطعه! 

فقال لما الشاتث بقلق : 

با حيّذا لو أهملت صديقاتك الأخريات أيضًا! 

فاضطربت نفس الفتاة. ومع أن الانقطاع عن 
العالم والخارجي» كان من أمانيها إلا أنّه كان أمنية 
بدن نجه انا ولك شان للدي ة بقيمة 
أسرةء فتساءلت في إشفاق : 

- وهل أبقى حياتي سجيئة؟ ! 

وتدخل حسين للدفاع عن أحته فقال : 

لا تغال. يا أخي في طلباتك. . . 

فقال الشاتٌ في حذة : 

- لا أريد أن يزورنا أحد من حيّنا القديم . 

- لن يتجشم أحد زيارتنا فييا عدا فريد أفندي 
وأسرته , 

وصمت حسنين طاويا سخطه. وذكر زيارة التوديع 
التي قامت بها أسرة فريد أفندي أمسء وكيف عرفوا 
العنوان الجديد وكيف عي وقتذاك لو يغمض عينئيه ثم 
يفتحها فلا يجد أثرًا للماضي كله خيره وشرّه!. . ترى 
هل أفضت الفتاة لوالديها بم جد عن فتوره؟ اد تر 
هل يفلت من هذه العلاقة بيسر أم تنشب به متاعب لا 


يحلم ببا؟! ليصمدنٌ مهما كان الأمر, الحرّيَة والمجد 
فوق المتاعب جميعًا. أجل لو تغلب على الماضي 
فسيتمتّعم بأشرف ما في الحياة من طمائينة وسلام . ْ 

ثم انتحى حسنين بالشابٌ ليوازن معه ميزانيتهها لما 
حِدٌ عليها من تكاليف النقل وشراء ما سموه «حجرة 
الاستقبال» إلى ما ينتظر من نفقات جديدة للنور 
والخادم . وقامت نفيسة للفرجة من نوافذ الشقة 
واستطلاع الدنيا الجديدة. وخلت الأمّ إلى نفسها 
فاستجمعت ما مرٌ مها من حوادث في الأيام الأخيرة 
حبّى انتهى ما المطاف إلى هذا الح الجديد. فلم 
يستقرٌ وعيها إلا على شىء واحدء هو حسن! ترى أين 
عبيم الفتى؟ ماذا صنع الله به؟ لم تكن تخلو إلى أفكارها 
حيّ يطالعها من ثناياها فيستثير دفين الحسرة والألم, . . 

هكذا باتوا أولى لياليهم بمصر الحديدة. 

500 

جئنا مِئْ بالبيت الجديد جعله الله مقامًا 
شعيد 1 
قالتها أمّ ببيّة ثم جلست هي والفتاة على الكنبة 
الحديدة. كان الوقت عصرًا وكانت الأسرة مجتمعة ما 
عدا نفيسة التي غادرت البيت قبل وصول الأمْ وابئتها 
صف ساعة: 

وأئنت أمّ بهيّة ثناء جميلا على المسكن الجديد وحيّه 
الباهرء وشكت الوحشة التي شعروا بها بعد فراقهم. 
واعتذرت عن تغيّب فريد أفندي بانبراكه في العمل 
بالوزارة بعد الظهر لمناسبة موسم الإجازات. ثم جرى 
الحديث المألوف واشترك حسنين كالمعتاد ولكنّه كابد 
قلقالم تخف عنه بواعثه وشعورًا مؤلمًا بالحرج. 
وجعلت ببيّة تخالسه نظرات حزيئة» فصيحة بغير 
بيان» فازدادت حاله توتّرّاء ثم أعربت أمْ مبية فجأة 
عن رغبتها في الانفراد بالأمّ. الأمر الذي زاده قلق 
وتوثّرًا؛ وما لبثتا أن غادرتا حجرة الاستقبال معا. 
ووجد حسين نفسه غريبًا بين خطيبين فغادر الحجرة 
منتحلًا بعض الأعذارء وخلا الج وهو مالم يكن 
يتوقعه -حسئين بحال. وكان يعرف بداهة ما دعا أم 
بيّة إلى الانفراد بأمّه فأدرك أنْ الساعة الفاصلة في 


بداية ونهاية 141 
حياته قد دلت فإِمَا النحاة وإما الماك , وتادلا نظرة 
ريلك نف لم ]كان رقسنازل بوش اعيانة باقنلا 


معى ّا. ولم تلبث أن سألته مستدكرة : 
لماذا لا تزورنا؟ 


فقال واحما' 
أسباب لا تخفى عليك تمنعني من الظهور في حينا 
القديم! 


ولكها لم يبد عليها الاقتناع وعادت تسأاله : 

- ب ل تقابلني فوق السطح بعد أن تركت الورقة في 
يدك ! 

كدت وأختي مرتبطين بموعد هام . 

فتساءلت بلهجة وشت بحزبما : 

وسفرك المفاجرء إلى طنطا دون أن تحخبرني؟ 

فقال وهو يتحاشى عيئثيها : 

- اضطررت إلى السفر فجأة. . 

فهتفت في انفعال : 

- لم تعد تبالي حبّى باختلاق الأعذار المعقولة! 

إن الموقف دقيق حمّاء بل أليم. ولكنّ التخاذل 
معناه الموت بالنسبة إليهء ولن يتهاون في حق حرّيته 
ومستقبله. وتتيّد متظاهرًا بالحزن وغمغم قائلا: 

إن ظروفي أعقد من أن تقدّريها. 

- أفصِح عا تريد قوله. لا أفهم شينًا إلا أنك 
تغثرت . لم تعد كا كنت. لست غنيّة ولا حمقاء. أنت 


لا تريد أن تراني. 


ساممك الله . 
ولعلّ ضيق الوقت حل عقدة لساها فقالت في تام 
ظاهر: 


لا تلق إن مبذه العبارات المبهمة. أريد أن أفهم 
كلّ شىء. ماذا بك؟ لاذا تغيّرت هكذا؟ صارحني بما 
ل ابره كل 

وحال تشيّثه بالنجاة والفرار دون إحساسه با في 
كلماتها من يأس وعذاب فقال؛ 

- لم أتغيّر ولكنّ ظروفي تغيرت . 

فقالت باستغراب : 

تغبّرت ظروفك حمًا ولكن إلى أحسن! 


68" بداية ونباية 


هذا في الظاهر فقط أمّا في الحقيقة فهي أنني بن 
أدرك مسئوليّاتي الشاقة. 

فقالت بلهجة لا تخلر من غيظ : 

- ألم تكن تدرك مسئوليّاتك من قبل؟.. إن 
مسئوليّاتك حيعًا لا تحول بينك وبين ما تريد إذا كنت 
رده خا 


ارفك ولا أستطيع . 


فرلث إليه شاحبة الوجه وغمغمت : 

- بل تستطيع ولا تريد. 

ولى جد ما يقوله. وتضاعف إنحساسه يعذاب 
الموقف. ومع ذلك ازداد تصلبًا وتشبثًا فتمتم : 

أنت مخطئة . 

وكانت تتفخصه في جزع ويأس وكأئها تريد أن تنفد 
إلى أعماقه. وابتلعت ريقها بمشقّة ثم قالت: 

- كألاء لست مخطئة. لو كنت تريد حمًا لما قلت لا 
استطيع . إن هي إلا معاذير (ثمّ متدّدة على رغمها) م 
تعد تبني وتريد أن تتخلص مئى. هل ثمّة سبب 
آخرا 

ومع أنْ هذا ما كان يؤمن به في أعماقه إلا أن سماعه 
هاله وأكربه فرفع حاجبيه منكرًا وقال: 

- لشدٌ ما تظلمينبي! 

ولم تسكن لحجته خاطرهاء أو بالحريّ منت لقبضة 
اليأس من عنقها. وزاد إحساسها بضيق الوقت من 
جزعها فتناست حياءها المطبوع وهتفت: 

- أنت الظالم» لقد خطبتي ثلاثة أعوام ثم بدا لك 

وتحامى عينيها فنظر إلى الأرض. كان متحرّجًا 
متأليًا ولكنّ تصميمه على عدم التراجع كان أعظم 
فقال: 

- إن ظروفي أقسبى من أن تدركيها على حقيقتها. 
أمامي صبر طويل . 

ورقت لهجتها فجأة وقد تورّد وجهها وقالت برجاء: 

- إذا لم يكن ثمّة سبب آخر فبوسعي أن أشاركك 
الصيرا 

فتوجس خيفة من تغيّر لهجتها وقال: 


- إنه صبر طويل . 

فقالت باللهجة نفسها: 

- لا بأس» إلا أنّني أرجو أن تعلن خخطبتنا بالطرق 
المعهودة., 

وذهب حيال انقلاب الحديث إلى هذا المجرى بعد 
أن أوشك أن ينقطع. وركبه الخوف والضيق والجرع 
فهتف وهو لا يدري : 

كلا!! 

وجعلت تحملق في وجهه في ذهول. ثم خفضت 
عينيها في يأس. واحمرٌ وجهها خجلا. وحرّكت شفتيها 
مرة ومرّة كأنها تريد الكلام ولا تستطيعه ثم غمغمت: 

- أرأيت ني كنت على حقّ ليّا قلت لك إِنّك تريد 
أن تتخلص ميّ؟. . . 

وبلغ منه الارتباك مبلغا لم يعهده من قبل» ولاذ 
بالصمت مليّاء ثم قال كالمعتذر: 

إن جد حزين» ربما أقمت لي العذر يوما. 

فقالت في إعياء وقهر: 

حسبك, لا أريد سماع كلمة أخخرى. 

وساد صمث ثقيل الوطأة كالمرض ملا الحجرة 
بأنفاس اليأس الخانقة» ولكن وجد الشابٌ على حرجه 
وألمه لونا من الراحة. فمها يَطْلٌ هذا العذاب فلا بل 
أن ينتهي . وهنالك يجد نفسه حرًا طليقًا. وتساءل وهو 
يسترق إليها نظرة ترى ماذا يدور في رأسها؟ ألا زالت 
تريده؟ أم كرهته؟ أم تتمئّ الانتقام منه؟ لشدٌ ما 
أحبها عهدًا طويلاء ولكن هكذا انتهى كل شيء. 
وتساءل ترى فيم تتحادث الأمّان؟ وعلام انتهى 
الحديث الذي طال؟ ثم قال لنفسه «إِنْ مصيري يتقرّر 
بيدي لا بيد أخرى». ثم ترامى إليه صوت المرأتين 
وهما تتكلان قادمتين فخفق قلبه واستحوذ عليه قلق 
مفاجئ. وعادتا إلى مجلسهما بوجهين يلوح فيها الرضا 
مما ضاعف قلقه ‏ ثم دى الباب وكانت القادمة 
نفيسة. ورجع حسين إلى الحجرة؛ فوجد حسنين في 
المحيطين به ما انتزعه من أفكاره ورد إليه شيئًا من 
هذوئه . ومع أن ببية بدت على حال من الوجوم لا 
تخفى إِلَا أن الحديث لم يشذّ عن المألوف حي انتهت 


الزيارة . 
5ك 

ونظر حسئين صوب أمّه في قلق متسائلا فأدركت 
أنه يسأل عدا دار بينها وبين أمٌّ مبيّة» ونظرت إليه نظرة 
لا تخلو من فتور وقالت: 

حدئتني ست أمٌّ ببيّة عن وجوب إعلان الخطبة 
بصفة رسمية» ووافقتها في النباية على رأبها. 

وقطب الشابٌ في حنق وضرب يدا بالأخرى وهتف 
بها : 

- تسكعت يا أمأه! 

وشعر بما أحدئه قوله من دهشة فعاد يقول: 

- لا لوم عليك بطبيعة الحال ولكنْني فسخت 
الخطية | 

وحدّقت به الأعين التي تأى تصديق ما سمعت 
وتساءلت الأم : 

ماذا تقول؟ 

فقال ضاغطا على مخارج الألفاظ : 

- لقد فسخت الخطبة اليوم؛. الآن. وغادرتنا مي 
وهي تعلم أن كلّ شيء بيننا قد انتهى . 

وصاح حسين منزعجا: 

ع ! 

وقالت الم : 

فاتك تحني بتصريحك هذاء ولست أفهم شيئًا؟ 
هل وقع بينكى] خلاف بغتة؟. . متى؟ وكيف؟ 

وكانت نفيسة آحذة في خلم حذائها فأمسكت 
وقالت : 

تكلّم يا حسنين. هذا خبر لم يتوقّعه أحد! 

فقال الشابٌ بوجوم : 

الواقع اننى عقدت العزم على فسخ الخطبة من 
زمن غير قصير ولكنبي لم أشأ أن أخبر أحذّاء واليوم 
حين الفردت بها في هذه الحجرة لم أجد مَعْذَّى عن 
إعلان تيت فانتهى كلّ شىء. أرجو ألا يسألبي أحد عب 
قلت أو عا قالت فهذا لا يعني أحدًا سواي . 

فقال حسين باهتمام وأسف: 

كان موقفًا قاسيًا على الفتاة بلا شلكُ. وأرجو أن 


بداية وعباية 44؟ 


يكون لديك من الأسباب ما يبرّر الإقدام على هذا 
الخطوة الفظيعة. 

وقالت الأمٌ المنزعجة : 

- يا للفضيحة!... لقد تم الاثفاق بيني وبين الأم 
في نفس الوقت الذي كنت تهدم فيه ما نببي. فا عبى 
أن تظنّ بي المرأة؟ ألا يمكن أن تشكٌ في أنّني كنت 
أخادعها وأنا أعلم بنواياك؟ . . ماذا فعلت يا ببي؟. . . 
ما سبب هذا كلّه. .. وماذا يعيب الشايّة؟! 

وضاقت نفيسة بالمتكلّمين فصاحت بحذة : 

- دعونا نسمع صاحب الشأن . 

وقال حسنين مخاطا أمّه : 

- مبيّة شابّة لا غبار عليهاء ولكن تبيّن لي بوضوح 
أنها ليست الزوجة التي أطمح إليها. 

فقالت الام : 

لقد خطبتها ثلاث سئوات فكيف يليق أن تبجرها 
بلا سبب مقنع؟ 

وهَرٌ حسنين رأسه موْمّئا على قول أمّه ثم قال: 

هذا حقٌ. إن فسخ خطبة أمر فظيع. ولا يجوز 
أن يقع بلا سبب مقنع ! 

وتساءلت نفيسة باهتهام : 

- كيف تبيّن لك أنها ليست الزوجة التي تطمح 
إليها؟ دعوه يتكلم. . . 

فقال حسئين بضيق : 

- لا ريب أن ببيّة لا تصلح زوجة لي. حفًا لقد 
خطتها بنفسي ولكبّى لم أكن أدري هذه الحقيقة 
وقتذاك, , , 

فقالت الأم بقلق : 

د ببيّة فتاة جميلة ومؤذبة» ولأبيها فضل علينا لا 
يسى. . . وقال حسين بلهجة تنم عن استياء: 

- إفي أعجب لحكمك هذاء ماهي الزوجة 
الصالحة في نظرك؟ فصمت حسنين قليلًا ثم قال: 

- أريد زوجة من وسط أرقى, مثقفة» وعلى شىء 
من الثراء, , ْ 

فتساءل حسين بنفس اللهجة : 

هذه هي الأسباب التي جعلتك تنكث بعهدك؟! 


"٠‏ بداية وغباية 


فقال حسنين متبدًا : 

- نحن فقراءء وببيّة في حكم الفقراء كذلك. 
وأخاف إذا مت قبل خباية المرحلة . كوالدنا ‏ أن أئرك 
أبنائي لقساوة الحاجة كما تركنا. . . 

وهتفت نفيسة قائلة بحياس : 

صدقت!! 

فغضب حسين لحاس أخته وسأله : 

هل قدّرت خطورة الخطوة التي أقدمت عليها؟ 

فقال حسئين بحرد: 

- لشدّ ما حرّ في نفسي الأسف ولكثئي ل أوافق على 
ضياع حياقي|... 

- وتوافق على ضياع حياتها؟ ! 

لن تضيع حياتهاء لا زالت في عنفوان الشباب. 
والمستقيبل أمامها باهر. 

فتساءل حسين في حلق : 

هل تسمح لي بأن أصف لك سلوكك؟ 

فنظر إليه في وجوم ولم ينبس بكلمة فهز حسين 
رأسه في الرعاج وتساءل : 

- إفي أعجب كيف تسخط على سلوك حسن وله من 
الأعذار ما ليس لك! 

وامتقع الشات وقال بحذة: 

لا شك أنْ سلوكي لم يل من قسوة ولكنّه 
سينتهي بخير بالنسبة لي ولهاء وهو على أيّة حال أفضل 
من زواج غير موفق . 

وأعرض الشاتٌ عنه يائسّاء وضربت الم كما بكفت 
وهي تتمتم : 

يا لما من إساءة شديدة لأطيب الناس طرّاء رباه 
كيف أخفي وجهي ! 

ومع أنّْها كانت صادقة فيا تقول إلا أن أعماقها م 
تخل من ارتياح خفئّ. وقد كانت تشفق من أن يبادر 
حسنين إلى الزواج فتعود الأسرة إلى الترنّح والقلق. 
وكانت ترمق نفيسة دائًا بعين الخوف مسائلة في حزن 
عن المستقبل القريب والبعيد. ولكن إذا كان هذا حمًا 
لاتكك نيه فحن كذلك نا عبن .محال :أشرة كسد 
أفندي من أسباب الخجل والألم. أما نفيسة فلم تكن 


نحسن إخفاء عواطفها فقالت: 

لا حوف على بيّة ستتزوج اليوم أو غدًا. 

فقال حسين بامتعاض : 

- هذا كلام يصدق على كل فتاة ولكنّه لا يصلح 
دفاعًا عن نخطتنا. . . 

- لا يصدق على كل فتاة! . 
لا يصدق على أخحت حضرتك! 

وخفف تبكمها من التوثّر العامٌّء وانتهز حسنين 
الفرصة ففال بلهجة دب فيها الحماس : 

- أليس الأفضل أن أختار زوجة من نوع حاص 
ككرية أحمد بك يسري مثلا! 

وقالت نفيسة بمرح: 

- وما هذا على الله بكثير. من يدري لعلنا نراك 
يومًا في فيلا حترمة وتتدفق علينا خيراتك يومًا بعد 


. والدليل على ذلك أنه 


يوم. . . 
ولم يلق حسين إليها بالا وقالت الأم وكأنها تحذث 
نعسها: 

- سيعلم فريد أفندي بالخبر هذا المساء. ما عسى 
أن يقول عنا؟ !| ليتئي أحد الشجاعة لأزورهم وأعتذر 
إليهم ! 

ففكر حسين طويلا ثم تمتم ببدوء وحزم : 

لا تنقصبي أنا هذه الشجاعة . 
ووقع قوله من نفوسهم موقع الاهتمام» وسألته 
نفيسة : 

اله د وما عسبى أن تقول ىم ؟ 

فقال الشات مقطبًا: 

- أقول ما يفتح الله به عنٌّ. ربّاه لا شك أنْ في 
دهنا :نينا فسا 

ومضى يرتدى ملابسه ع ثم غادر الشقّة, . , 

مد 

لم يقصد غايته رأسًا ولكنّه مضى إلى مشرب شاي 
بمصر الجديدة فجلس ساعة يقلب الأمر على وجوهه 
ويعدٌ له عدّته. سرّح خياله بين ذكريات الماضي 
وحوادث الحاضرء وساءل عقله طويلا وساءل قلبه. 


ثم قرّ فكره على رأي. وكان في تفكيره جريثًا حازم 
قاطعًا على غير عادته. فلم تعترضه الصعوبات ولم 
تثبطه المخاوف» حيّى عجب للسرعة التي بت بها في 
الأمر وتساءل في دهشة «ترى أهي من وحي الساعة أم 
أثر لما تجمع في نفسي حلال ثلاث سئوات؟». 
واستحوذ عليه شىء من الاضطراب» وعاد يسال 
نفسهء ويستعرض الظروف المختلفة ولكن لم تكن قوَة 
لتثنيه عا عقد العزم عليه. وقام من مجلسه تعتلج في 
صدره انفعالات شتّى من بسطة السرور وقبضة القلق 
وأريحيّة المغامرةء ثم اتخْذ سبيله إلى عطفة نصرالله 
فبلغها في أوْل الليل. ومغضى يقترب من البيت القديم 
وهو يشعر بثقل المهمّة وحرج الموقف. ولكنّه أقدم 
بخطى ثابتة وعريمة لا تنثني. ثم طرق الباب بقلب 
خافق ففتحت له الخادم. وحدجته بدهشة أثارت 
أعصابه ثم قادته إلى حجرة الاستقبال. وما عَثّم أن 
جاء فريد أفندي بجسمه المترهل فرآه لأوؤل مرة مكفهر 
الوجهء يتوهج الغضب في نظرة عينيه. وما كاد يفرع 
الرجل من مجاملات السلام ويستقرٌ على مجلسه حتى 
قال بانفعال ار شديدين : 

عشرة العمر كلّه. وجيرة العمرة كله وصداقة 
العمر كلّه. تمرّقونها جميعًا في دقيقة واحدة! 

فنظر حسين إلى الخوان أمامه في ارتباك وتمتم 
بصوت ملتخفض : 

إِنّ ما بيننا من ود قديم لا يمكن أن يتغيّرء وإن 
ننس لا نسى فضلك ونبل أخلاقك ما حيينا. . . 

فلم يعره الرجل التفانًا قري كذااظل كلك وشو 
يقول : 

- لم أدر حين كروي كيف أصدّق أذن. إن طبيعة 
قلبي تأبى أن تصدّق هذا الغدر الشائن. . . 

إن عاذرك يا سيّدي. وصدّقي أننا لى نكن أدن 
لتصديقه منك. حي إنْبي تركت أمّى في حال يرئى 
ها. . . 

كنت ألاحظ أنه يتثاقل عن زيارتناء وقيل لي في 
تفسير ذلك أعذار صبيانيّة زادتني تشاؤماء حبّى علمت 
هذا المساء بأنّه جاهر ببكث عهده. ما شاء اللهء هل 


بداية وصاية ٠١1١‏ 


حسب بنات الناس العوبة يلهو مها على هواه. يخطب 
حين تحلو له الخطبة. ويفسخ حين يطيب له الفسخ؟! 
لقد عاملته كاببي ول يَدّرْ لي بخلد أنه يطوي صدره 
على قلب ببذا الخبث والغدر. . . 

وزاد شعور حسين بالحسرج وطأة فقال يتتحل 
الأعذار كيفما اتفق : 

أخى فتى طائش وقد أضاعت حادثة حسن 
0006 

فتساءل الرجل في إنكار: 

وما ذنبنا نحن؟ . . هذا عذر غير مفهوم ! 

أقصد أن المصيبة أثارت أعصابه وأفسدت حكمه 
فضاق صدره بالدنيا جميعا. 

فلوّح الرجل بيده في عدف وقال ساخطا؛: 

- كلام غير مقنع . إني رجل جرّب وأعلم أن الرجل 
لا يغدر بخطيبته مثل هذا السبب. قل غير هذا الكلام 
إذا شعت أن أصدّقك. قل إِنّه صار ضابطًا وبات 
بطمع في نوع آخر من النساء . 

فقال حسين بلهجة حزينة : 

- وددت بحياتي لو أصلح الأمر. 

- فسد الأمر ولا صلاح له. إنْه عبث لا يليق 
بالشرفاء» ولو كنت غير الرجل لقاضيته وأذبته ولكق 
أحمد الله على ما كشف لى من حقيقة نفسه بعد أن 
خدفع :نه :طريلة, ,ما هو إلا شات اتدل ان ولا 
تؤاخذني على قول الحى. . . 

ووقعت هله الأقوال من نفس الشابٌ موقعًا أليا 
فخفض بصره مليًّا ثم قال بصوت ضعيفا: 

إفي جد آسف, بل كلْنا آسفون, ولا مطمع لنا 
الآن إِلّا الإبقاء على الود القديم. . . 

وساد الصمت برهة ثم تمتم الرجل بفتور: 

ما عهدنا منكم شرًا. . . 

وشعر حسين بقلق وتوتّر» وذكر ما انتهى إليه رأيه 
قبل حضوره بقلب خافق مضطرب وتساءل فيها بينه 
وبين نفسه ترى هل من المناسب الآن الؤقدام على 
الإفصاح؟!.. ومع أنه لم يجد من الجواب مشبمًا إلا 
أنه أبى التراجع أو التأجيل»: ونظر إلى الرجل بعيئين 


؟ ”٠١‏ بداية ونباية 


حذرتين وتساءل: 

- هل أستطيع أن أقابل الآنسة مهيّة؟ 

فقال الرجل بجزع وهو يلطم الهواء بظاهر كمّه : 

ما الداعي لهذا؟ . . فلندعها وحدهاء هذا خير ما 
يفعل ! 

وغلب التأثر الشابُ. ترى ماذا تفعل المسكيئة؟ 
وماذا أحدثت الصدمة بنفسها الرقيقة؟ وماذا هر فاعل 
أيقدم أم ينكص؟ ألا بيقع كلامه من هذا الجر 
المكهرب موقعًا مضحكا! ولكنّه شعر شعورًا فيا بأنه 
إذا تراجع هذه اللحظة فلن يقدم أبدّاء وتتبّد تنيّدة 
عميقة أزاح بها التردد عن صدره وقال بسكينة ظاهرة 
يداري بها اضطرابه: 

- سيديء. لا أدري كيف أعرب عمًا في نفسي, 
ولعت ارقم اب اعترك وكا وساف كن ل 
أستطيع أن أقاوم ما يدفعني إلى قول كلمة أخيرة وهي 
أنفي أرجو أن تبارك يومًا رغبتى الصادقة في طلب يد 
الانسة مبية! ش 

والنسعت عيئا الرجل دهشة وبدا أنه كان يتوقّع كل 
شيء إلا هذاء ولعلّه أراد أن يتكلّم ولكن أرتج عليه 
أمّا حسين فكان قد عبر قمّة أزمته فقال مستردًا بعص 
هدوئة . 

- لا تحسبنٌ أن ما يدفعني إلى هذا الرجاء هو ما 
أشعر به حيال تصِرّف أخي من حجلء أو ما عسبى أن 
تتصوّره عطفا على حال الآنسة. كللاء وأقسم على 
هذا. إتّها رغبة قائمة بذاتهاء منبعقة أوّلا وآخيرًا من 
تقديري لكريمتكم ولكم. 

وواصل فريد أفندي دهشته الصامتة على حين 
استمدٌ حسين من انطلاقة لسانه وصَّمْتِ الرجل 
شجاعة وحرارة فاستطرد قائلا: 

- شيء واحد يحرجني في هذا المسعى كلّه وهر ما 
أشعر به من أنْني غير كفء لما. 

فخرج الرجل عن صمته لأوّل مرّة متمتمًا: 

دل تقلل ,من شاتلك يا سيق انتدي انف متلق 
بملزلة الإبن. . . ش ْ 

فقال حسين وقد تورّد وجهه: 


شكا 
مس 


وتفكّر الرجل قليلا كالحائر ثم قال : 

- لا بسعني إلا شكرك على رغبتك هذه ويسرّني - 
علم الله أن تتحقّق ولكنّك تدرك طبعًا أنْ وقت 
التحدّث بشأما لم يئن بعد؟!. . . 

هذا طبيعئ جدًا يا سيّدي» وبوسعي أن أمدٌ. . 
أعنى أن أنتظر حيّى يجيء الوقت المناسب. . 

وانتهى الحديث عند هذا الحد. . . 

- 83 - 

وعاد إلى مصر الجديدة غارقًا في أفكاره فلم يكد 
واد اط جيب زاف امعردى جنا يق 1 
طويلة من حياته كيا فعل في مشرب الشاي قبل أن 
ينَجه إلى بيت فريد أفندي. وكان على حيرته يشعر 
سرور وأمل لم يشعر بمثلهما طيلة حياته. لقد أحبٌ 
الفقاة فيه مفى ولكنّ حبّه مات قبل أن يترعرع 
ويزدهرء ولم يبن منها في قلبه الحكيم الواني إلا المثال 
الذي يحلم به للزوجة الصالحة» وإنه يذكر أنّه تألم 
كثيرًا وصبر كثيراء فتعلّم أنه بشىء من الحكمة يمكن 
أن يعثر في دنيا الألى على مسرّات عالية. وخرج من 
التجربة ساكن القلب بسام الثغرء وكان يقول لنفسه 
متعزّيًا إنْ مواجهة سوء الحظ بالصبر والتسامح. سرور 
ينبغي أن يعد من حسن الحظ. . . وهكذا تعزّْى ونسى 
من زمن طويل. وليًا أن فتح له باب الأمل المغلق على 
حين غفلة نسي أنه كاد ينسى وأزهر الحبٌ في قلبه كأن 
ثائرته لم تبدأ لحمظة واحدة من الزمان. وانطلق في 
سرور لا تشوبه شائبة حتى بلغ البيت. ووجد الجميع 
في انتظاره فا إن وقعت أعينهم عليه حبّى صاحوا به: 

- ماذا لقيت؟! 

ورأى أن يمهد للخبر العجيب الذي يحمله بأن مهول 
من تحطر الأمور فقال وهو يهرّ رأسه أسفًا: 

وجدتهم على حال من التأئّر انزويت معها خجلا 
وخزياء ولأول مرّة في حياتي رأيت فريد أفندي الرجل 
الوديع ثائرًا غاضبا كاسرًا. . . 

وسالته الأمْ بحسرة : 

- خبّرنيٍ عا حصل كله. ألم تقابلك أمّ مهيّة؟ 


كلاء قابلني الرجل وحده وقبل أن أفتح فمي 
بكلمة انبال عليئا تأنيبًا وتقريعا. , . 

وأعاد عليهم كلام الرجل ‏ فيا عدا الكلمات 
القارصة ‏ مضيفًا عليها من عنده ألوانا من التأثر 
والحزن ليستثير ألمهم ويستدرٌ عطفهم حبّى ملأهم 
الوجوم والفجل» إلا نفيسة فقد قالت: 

ما كان ينبغي أن تلقاه الليلة. وعلى أيْة حال 
فالخطا الأول ينصبٌ على من يُقبل تلميذًا صغررًا 
كخطيب لابنته فضلًا عن أن يكون هو الساعي بحيله 
إلى عقد الخطبة. ولا أجد حسنين مستحقاء للُوم فقيل 
كان تلميذًا كا قلت لا يعرف ما يضره مما ينفعهء فلي 
أن بلغ طور الرجولة تبيّن أنْ الفتاة لا تصلح زوجة له 
فاذا عليه إذا تركها؟! 

وصمّم حسين على أن يشقٌّ طريقه إلى هدفه فقال 
هدوء مخاطبًا أنخته : 

تكلّمي عن الفتاة برفق من فضلك فقد تصبح 
خطيبة أخنيك الآخرا 

وحملقت فيه الأعين بدهشة. وندّت عن نفيسة آهة 
سريعة. وتساءل حسنئين : 

اماذا اتقول؟ 

فقال حسين وهو يتغلب على ارتباكه بقوة إرادته : 

- يجوز أن تصبح الحطيبة لي. . . 

لك أنت] 

دل اااي 

وهتفت نفيسة : 

كلام لا يدخل المخ ! 

ولكنه الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان , 

وسألته الأم وهي تتفرس في وجهه: 

هل خحطبتها حقًا؟ 

فقال الشابٌ خخافضا عيئيه : 

- نعمء قلت له إِنّْه يسرّني إذا وافق على أن أطلب 
إليه يد الفتاة. . 

فسأله حسئين بقلق : 

- أفعلت هذا رغبة في إصلاح الأمور؟ 

فتردّد حسين قليلا ثم قال: 


بداية ونهاية 1" 


لا يخلو الأمر من هذه الرغبة» بيد أن أكنٌ للفتاة 
تقديرًا كبيراء وأعتقد أنه إذا لم يكن بد من الزواج 
فالأفضل أن يكون من فتاة مثلها. . 

فتساءلت نفيسة في لهجة ساخرة: 

- ومن قال إِنْه لا بد من الزواج؟ ! 

وتداخلت الأم متسائلة : 

- وماذا قال لك فريد أفندي؟ 

فاجابت نفيسة بالئيابة عنه قائلة : 

- قال على العين والرأس طبعا. . . 

وأجاب حسين دون أن يعبا بها: 

- شكر لى طلبي ولكنه اعتذر بأنّه لا يستطيع أن 
بخاطب الفتاة الآن مبذا الشأن وطلب إل أن أمهله إلى 
وعاد حسنين يسأل باهتام : 

أكنت تضمر هله النيّة حين غادرتنا؟ 

فأجاب حسين بفطنة : 

حكن 

فقال الآخر بإشفاق: 

أخاف أن تستبين بعد حين أنْك غير راغب في 
الزواج حقًا! 

ماركا بعكم متلق ... 

فصاحت با أمّها غاضبة : 

الفيقة! 

أمًا حسين فقال ميا أخاه: 

إن أحبٌ بطبعي الحياة المستقرة. . . 

فقال -حسنين بارتياح : 

- ليس أحبٌ إل من سعادتك وسعادتها. . . 

وصمت قليلا ثم استدرك قائلا بصوت منخفض: 

- ولي أنا أيضًا آمالي. كأن أتزوّج من كرية أحمد 
بك يسري. أتظنّه يا أخي أملا أخرق؟! 

فقال حسين مبئسها: 

- لم لا؟. . إنك كفء ها. . 

وهتفت نفيسة ضاحكة في شيء من الاضطراب : 

لنا الله. أردنا أن نستردٌ واحدًا والغالب أننا 


٠ 4‏ بداية ومهاية 
سئخسر الاثنين» وهذه إصابة عين حامية. . 

وتمتمت الأم مهدوء : 

على بركة الله إن مطمئئة إلى أنْ أبنائي لن 
فقالت طا نفيسة: 

ما أجهلك بالرواج وأسراره. سليني أنا عليه . 

فجاة عمسن قال : 

أمّنا أعرف ينا منك . , . 

وساد الصمت فراح حسنين يتساءل في نفسه وهو 
يسترق النظر إلى أخيه: ترى أكانت خطبته بنت 
ساعتها حمًا؟ ! 

50 

«رتما كان الانتظار حكمة» ولكن ماذا يجدي 
الانتظار إذا طار الطائر؟!» هكذا تساءل حسنين فيما 
يشبه الغضب. وبعد انقضاء قرابة شهر لم ين فيه عن 
التفكير والتدبئر ساعة واحدة . قالوا له د نخاصة حسين 
- إِنّه ينبغي أن ينتظر حت يكون ثروة صغيرة ثم يتقدّم 
لطلب يد الفتاةء وليكن رأييم صرابًاء ولكن من 
يضمن له أن تنتظره الفتاة حيّى تتكوّن هذه الثروة؟ وبا 
شبّعه على نبل هذا الرأي «الحكيم؛ أنْ أحمد بك 
يسري على علو مقامه قريب إليه بحكم العلاقات 
القديمة. فطمع في أن يوسع له صدره. أما إذا أفلتت 
من يده الفرصة السعيدة فليس لديه إلا أن يننظر 
أعوامًا طوالاً قبل أن تفتح له الأبواب أسرة كهذه. ألا 
بمكن أن يطلب يد الفتاة ثم يستمهل البك حتى 
يستكمل استعداده؟. . يمكن بلا ريب» وإذا لم يمكن 
فإِنْ احتال الرفض لا يجب أن يقعده عن المسعى. إِنَّه 
أجرأ من أن يقعده شيء عن غاية. ثمٌ إنه لا يطيق 
هذه الفضيلة التي يدعونها بالصير. الآن. ودون خوف 
أو ترذد» وليكن ما يكون. كان الشابٌ يدير هذه 
الأفكار في رأسه وهو يقترب من فيلا أحمد بك يسري 
بشارع طاهر. صمُّم وشرع في التلفيذ بلا مبالاة. هله 
هي الحياة التي يتلهقف عليها بكل قوّة نفسه. وليس 
ثْمَهُ ما يزعبجه فقد اختفى حسن وصارت نفيسة آنسة 
محترمة والماضي في طور الاحتضارء وما يريد إلا اللحياة 


النظيفة السعيدة لنفسه وذويه. وكان قد أخعل زينته 
وتبذى في منظر حسن يجمم إلى رشاقة الشباب فحولة 
الرجولة. وما انتهى إلى الفيلا حَبّى أدحل إلى 
السلاملك فجلس ينتظر بقلب خافق ونفسه قلقة. 
«أليس عجيبًا أن أتقدّم لطلب يد فتاة هذه فيلتها وأنا 
لا أملك إلا ما تبقّى من مربي ! وهناك قضيّة الوقف 
الوهميّة الى حدّئت البك عما ولكن هيهات أن تغني 
عبّى شيئًا. اذا لم يكن لأمّي وقف؟ ولكن هذه مسألة 
أخرى» فلو كثا من أصحاب الوقف لكان الماضى غير 
الماضي والحاضر غير الحاضرء ليكن ما يكون» لن 
أتراجع» ومهما يكن من أمر فلن يقطع رأمي. إذا 
ربحت ربحت الدنيا جميعًا وإذا خسرت لم أخسر شيئًا 
دكن إفي آسف يا بن سلام عليكم يا سعادة 
البك. هذا أفظع ما يتوقم. إني كفهء لها بغير جدال. 
ما عسبى أن تريد ما ليس لديئ؟ المال؟ عندها المال 
بالقنطار. ما أحمقكم يا أهل هذا البيت إذا رفضتم 
يدي! في هذا الموضع رأيتها أول مرّة على درّاجتهاء 
ساق تستأهل ثقلها ذهبًا وفخذ سبحان الخالق. 
مسكيئة نفيسة. ترى أين حسن الآن؟ ليته يفرّ إلى بلد 
غريب فيختفي إلى الأبد. لا تكاد ذكراه المزعجة 
تفارقني فمتى أرتاح من الماضى كله. لن أتراجع. في 
هذا الموضع كادت بوي بها الدراجة. أقدام البك؟» 
وأنصت في اهتام ثم مض قائًا في احترام حين رأى 
البك قادما نحوه وسلّم في إجلال والآخر يقول: 

أهلا بحضرة الضابطء كيف 2حالك؟ 

وأجاب الشابٌ وهو يبذل أقصى جهده للسيطرة على 
انشاهه وإرادته : 

شكرًا لك يا سعادة البك , 

وتساءل البك ضاحكا بلهجة ذات معنى : 

- ألا يزال أخوك في طنطا! 

ورب حسنين بأئّ حديث يطيسل له مهلة 
الاستعداد فقال باهتام ظاهري : 

- بلى يا سيّدى ! 

وكانا قد اطمأنًا إلى مجحلسيها فقال البك ؛ 

- ليس في الإمكان نقله هذه العطلة ولكبّى أخذت 


وعدا صادقًا بنقله في العطلة القادمة. . 

وكان حسنين يعلم ببذا ولكثه قال بامتنان : 

هذه مأثرة جديدة تضاف إلى مائرك السابقة . 

وساد صمت.» وشعر الشابٌ بأنه يقتحم لحظة رهيبة 
من حياته. وأنه لم بغ وزاءة ثقة عتنال لخردة أو 
تراجع, فألقى بعزمه قائلا بصوت لم يحل من 
اضطراب في ثيراته : 

- الواقع أن قصدتك يا بك في شأن يخصي أنا. . . 

خير إن شاء الله ؟ . . 

فاعتدل الشاتٌ في جلسته كأنه يستمدٌ من اعتداله 
قوة وقال: 

- إني أستشفع سعادتك لغاية بعيدة أراها فوق 

فتساءل البك مبتسمًا وهو يدلل بأصابعه شاربه 
الغليظ المصبوم : 

- آتريد أن ترقى لواء؟ 

فضحك الشاتث ضحكة عصبية سرعان ما غاضت 
من أساريره وقال بصوت منخفض : 

أعرّ من هذا. إني طامح إلى شرف 
مصاهرتك , , . 

وحلٌ اهتيهام مفاجئ محل النظرة الباسمة. وخيل 
إليه أن الرجل استحوذت عليه دهشة رغم ما يتظاهر 
به من الرزانة وضبط النفس» ولكن أيّة دهشة يا 
ترى؟ دهشة المفاجأة أم الانزعاج؟ ودق قلبه بقوة 
وشعر شعورًا عميقًا بخطورة اللحظة التي يكابدها. أمَا 
الرجل فقال بعد صمت وتفكير: 

لا يسعني إلا أن أشكر لك حسن ظئك. . . 

وتأئّر للقول الرقيق ثرا م يخل من ألم غامض وقال 
بتوكيد : 

أرجو ألا أكون قد جاوزت حدّي. . . 

فقال البك مبسما: 

انا اشن إلى كن الشكوييد الى أجل 
الجواب حي أشاور أصحاب الشأن . 

فارتاح حسئين لهذه المهلة التي رحب بها ترحيب 


بداية ونهاية 06ل 


المحارب المحرج بهدنة آمنة وقال: 

هُذا طبيعيع يا سعادة البك ولكثّي أرجو حمًا آلا 
أكون قد جاوزت حذّي . 

فأبتسم اليك قائلا : 

لا نُعِدُ على مسمعي هذا القول. 

ونبض الشابٌ مستأذنًا في الانصراف ثم غادر 
الفيلاً. واستعاد في الطريق كل كلمة قيلت وما 
صاحبها من حركات وإشارات ولمحات. وحاول أن 
يستشفٌ ما وراءها من معان ومقاصد. ومع أنه كان 
بؤرّل كل شيء بخيال جريء طموح متفائل إلا أنه 
وجد انقباضًا وقلقّاء وفي الهاية قال لنفسه وهو بز 
كتفيه استهانة: «إذا ربحت ربحت الدنيا جميعًا وإذا 
خسرت لم أخسر شيئًا يذكر» . 

9م - 

ل يفكر حسين في معاودة زيارة فريد أفندي حي 
أوفت إجازته على جهايتهاء كأنما أراد أن يمد للرجل في 
مهلة تفكيره حبّى يستخلص منه رأيًا قاطعًا. ولم يكن 
يكف في أثناء ذلك عن مشاورة والدته؛ ولم تبد المرأة 
اعتراضًا ولكئبا نصحته أن يؤجل زواجه عامًا حَيٌّ 
يستكمل استعداده. ومن عجب أنها لم تفلح في إسداء 
مثل هذه النصيحة للشابٌ الآخر المتعججل ولكنْ حسين 
نفسه لم يكن ليوافق أخخاه على تعجّجله الذي وصفه 
«بالتهور» ول يخف عليه أنه إذا وَفْقَ حسنين إلى هذه 
الزيجة الخياليّة» وتمٌ زواجه هو بعد عام. فستجد أمّه 
وأخته نفسيهها وحيدتين بلا عائل, ولهذا طمن والدته 
إلى أئه مصمّم أن يضم زوجه إلى البيت في كنف 
معيشة واحدة. واطمأنُ قلبه وفكره فمضى إلى بيت 
فريد أفندي, واستقبله الرجل بترحاب أنعش آماله 
ومع أنه لم يكن للزيارة إلا معنى واحد لا يخفى على 
أحد إِلَا أنّه خاطب الرجل قائلا في شىء من الارتباك : 

قلس اريمك الك قبل عسروه ل زيطا 
غذًا. . 

فابتسم فريد أفندي ابتسامته الرقيقة وقال : 

مع سلامة الله وإن شاء الله نسمع قريبًا عن 
نقلك إلى القاهرة, . 


”٠ 5‏ بداية ونباية 


فقال حسين برجاء : 

- أرجو أن يتم هذا ني العطلة القادمة, , 

وساءل نفسه ترى هل يفتح «الموضوع)» أو ينتطر 
حبّى يتكلم الرجل؟.. لقد شاور أنه في الأمر كآنه 
أصبح حقيقة مفروعًا مهاء ومع هدا فمَن يعلم بما دار 
في نفوس أهل هذا البيت؟! وساوره قلق. أنخذ يتزايد 
كلما طال انتظاره للكلمة التي يودْ ساعهاء حبّى جاءت 
الست أمّ مبيّة فنمهض لاستقبالحا في أدب وشدٌ على يدها 
في حرارة». وتفاءل بمقدمها خحيرًا. وقد قالت وهما 
جلسان : 

عن سعيدة برؤيتك يا بيّء كيف حال والدتك؟ 

فقال حسين بحرارة: 

د بخير يا سيّدي. وهي تقرئك السلام , 

ثم نظر فريد أفندي إلى زوجه وقال طا: 

حسين أفندي جاء يودّعنا لأنّه مسافر غذًا وأظنٌ 
من المناسب أن بخيره بما قر الرأي عليه (ثمٌّ ممولا 
رأسه إلى الشابٌ) بخصوص ما حدثتني عنه يا حسين 
أفندي يسرّني أن أقول لك (ِإِنْنان موافضون. 

وتتبّع فؤاده كلام الرجل في خفقان متواصل. 
استحال ألما خالصًا عند بعض المقاطع. ثمْ انتهى 
بوثبة فرح فقال بصوت متهدج : 

رافك نشدي ميق الله شكوه إن سعيد ييا 

فابتسم الرجل وقال مخاطبًا زوجه : 

- وسينقل إلى القاهرة في العطلة القادمة. 

فضحكت المرأة قائلة : 

- نخير سارّء نحن نود بطبيعة الخال «أن تكونوا» 
على مقربة منا. 

فتوزد وجه الشات وقال بصوت وثبى بسروره: 

- سيتحقق هذا بإذن الله . 

ثم قال فريد أفندي : 

- ولكن يحسن بنا أن ننتظر فترة معقولة قبل إعلان 


الخطية , 
لم ضحك ضحكة ل تمل من الارتباك واستطرد 
قائلا : 


فخفض حسين غيئليه وهو يتمتم : 

- إني رهن إشارتكم . 

وقام فريد أفندي وغادر الحجرة. وغاب دقائق. ثم 
عاد تتبعه مبيّة. ومع أنَّ جين معدفن الاد ل اله 
وقع من نفسه موقع المفاجأة البكر فنبض باذلا مكنون 
قوته لتهالك دفسه. ثم مد لها يده في صمت, فتلاقت 
يداهماء وشعر بيدها على يده ناعمة الملمس رقيقة 
الموقع , باردة الملمس. فاهترٌ صدره ودر رقة وشكرًا. 
وشعر بأنه ينبغي أن يقول كلمة؛, وألح عليه هدا 
الشعورء ولكنه وجد رأسه فارغا ولم يسعفه الموقف 
بالتفكير فجلس دون أن ينبس بكلمة. وسرعان ما 
تنامى مشاعر الأسف المنبعئة من حرسه في موجة 
السرور والرضا التي غمرت حواسه حميعا فنزلت عليه 
سكيئة لطيفة أشبه بالشفاء الذي يعقب نوبة ألم. ما 
أجملها! كيف يعمى بعض الناس عن هذه المزايا 
المكتملة؟! إِبّْها الوداعة والفضيلة اللتان ترويان الحنان 
الظامئ: إلى حياة البيت السعيد. لا تثير استفزازا من 
أيّ نوع كان ولكنها تبتّ سلامًا وطمأنيئة. لماذا جاء 
أصرها" الم ةلذ طن نعية واحند تال خا 
موافقون ثم جاء ببقية «إننا» شاهدًا ملموسًا بودّه لو 
يسعه أن يستخير أفكارها هل أفاقت من الصدمة؟ هل 
برئ الفؤاد؟ أبدات حقًا تستشعر ميلا إليه؟ ولم يتركه 
الوالدان لتاملاته فعاودا حديثهها الذي بدا الآن تافها 
عطئلة. ‏ الا تمك أن تبات معيكزة لاون لسر 
وقد التقت عيناه بعينيها مرّة فتاه في صفاء وزرقة لحطة 
مبيجة, عنده ما يقوله ولديها ما يقال بلا ريب. ومهما 
يكن من أمر فالأيام آتية. وسيفصح عا في ضميره. 
غن كل كبيرة وضغيرة . وق أويقات .ما بين الحديتك 
كان يتجمّع في إحساس رقيق سعيد أقنعه بأن في الدنيا 
سرورًا خليقًا بأن يُكمْر عن جميع أكدارها. سرور يقطر 
صفاء. ليدم طويلاء لتدم هذه الجلسة. هذه الحال. 
هذا المنظرء هذا الإحساس. ليدم عمرّاء ليشمل 
الحياة جميعًا . 

وتواصل الحديث ولكتّها لم تشترك فيه اللْهمّ إلا 
بإيماءة أو غمغمة. حيّى وجب الذهاب فنبضص 


مستأذناء وسلم عليهاء وغ+ادر الشقّة وهو يشعر لأوّل 
مرّة بأنه مقبل من حياته على وقت حصاد. . . 
د 85م - 

وسافر حسين» وانقضت أيام من فثرة الانتطار التي 
دعاها حسنين بمدّة «تحت الاختبار». والتى عاناها بي 
تلد اضطراريّ والأمل واليأس يتجاذبانه. وقد أسف 
على سفر أشيه لأنه كان يفضل بلا شك أن يتلمّى رد 
أمد بك يسري وهو غير بعيد عن مشورتهء كان في 
الحقيقة يأنس إلى مشاورته وإن غلب عليه الاستبداد 
برأيه والاندفاع وراءه؛ على أنْ إقدام حسين على 
الشروع في الزواج كان قد ترك في صدره راحة لأنْه 
كان في أعراقه متعبًا لسبقه إلى استكيال حياته بالزواج 
والآخر منزو تحت الأعماء كأنّه محروم من الانتفاع 
بحياته. ولا يعني هذا أنه لم يكن مشغولا بمستقبل 
أسرته فالحقٌ أنه كان يرجو من وراء زيجته النفيسة خيرًا 
كبيرًا لنفسه ولأسرته على السواء. هكذا سوّى متاعبه 
الداحليّة ببذا المنطق ليفرغ للملاقاة حظّه بقلب مطمئن . 
وإِنْه لعلى تلك الحال إذ دعاه أحد الأصدقاء من زملائه 
إلى موافائه إلى كازيئو لونابارك بمصر الحخديدة. وكان 
هذا الصديق ‏ ويدعى عل البرديسى أقرس زملائه 
مودّة إلى قلبه» نشأت صداقتهها وتوئقت بالكليّة» ثم 
حافظت على حرارتها رغم تعيينه هو بسلاح الفرسان 
والتحاق الآخر بالطيران. ومضى إلى موعده فوجله في 
انتظاره. وجلسا معا في حديقة الكازيدوء ثم طلب 
الصديق قدحين من الحعة. وأدرك حسنين من اللحظة 


الأولى أن صاحية قل دعاه لأمري لأنه على غير عادته . 


وبالرغم من مرحه الظاهر ‏ بدا جادًا متفكراء وما لبث 
أن سأله : 

أتذكر الملازم أحمد رأفت؟ 

فقال حسنين بعدم اكتراث : 

طبعًاء إِنّه من دفعتناء وأظنّه ضابطًا بالطوبجيّة, 
أليس كذلك؟. . . 

فأومأ الصديق دلالة على الموافقة وقال بضيق 
ومرارة ؛ 

- سمعته بالأمس يتحدّث عنك في امع كين 


بداية ونباية /1١؟‏ 


الإخوان بما أغصبني وساءني . 

فحملق حسنين في وجهه بدهشة. كان يتوقع أي 
شيء إلا هذا. وتساءل في استنكار: 

ماذا قال؟ 

فقال عل البرديسي بوجوم : 

- كناء أنا وبعض الأصدقاء. نلعب الورق في بيته 
بالمعادي , 

- وبعد؟ 

- لا أذكر المناسبة التي أثارت الحديث. كنا 
سكارى . ولكيّ سمعته يخوض في أمور ممْسَك. خرني 
ولا هل سعيت حقًا إلى طلب يد كريمة رجل يدعى 
أحمد بك يسرى؟ 

وفجّر الاسم زلزالا في صدر الشابٌ فدق قلبه دقّة 
عنيفة» وذكر ليَوّه أن أحمد رأفت هذا عل صلة وتيقة 
ببعض أقارب أحمد بك يسري . دل بكهذا عنادنا 
ليتهالك أعصابه. ثم قال باقتضاب وهو يكابد شعورًا 
غليظًا بالتشاؤم والخوف : 

5252000 

انعم "اذ رافك نموديق 011 الأسيرةة 

هذا جائزء ولكن خترني ماذا قال؟ 

فصمت البرديسي كالمتردّد حيئا ثم تمتم بصوت 
منخفض والخرج بادٍ في أساريره: 

- فهمت من حديثه أنْ الأسرة لم توافق. يؤسفني أن 
أبلغك هذا . . , 

وشعر بالخسر يضغطه كحمل ثقيل فتضاءل تمته 
وأحسٌ بانهيار في كرامته ورجولته. ثم فار غضبه حت 
أوشك أن يستسلم لنيرانه ولكنّه ثار على الاستسلام في 
اللحظة الأخيرة. وأبي إلا أن يتظاهر بعدم الاكتراث. 
بل نذت عنه ضحكة وتساءل ؛ 

- أهذا ما أساءك يا صديقي؟ 

فقال الصديق بوجوم وقلى : 

- هذا أمر عاديّ. يحدث كل يومء ولكنه ذكر في 
غير لياقة الأسباب التي تبرّر عدم موافقة الأسرة» ومع 
انبا أسباب تافهة لا يمكن أن تحظ من قدر إنسان إلا 
أنه ساءني جذا أن يردّدها في جمع حافل من السكارى. 


بداية وغباية 


كان يشعر دائًا بن مطرقة ثقيلة من ماضيه معلقة 
فوق رأسه تهدّده في كل حين. وها هي قد أهوت على 
يافوخه ونثرته هشيًا. ليس الآمر بحاجة إلى إيضاح أو 
سؤال» ولكن أمن الممكن حقًا أن يتجاهل كلّ شيء؟ ! 
ورفع بصره إلى وجه صديقه الواجم وسأله بلهجة 
آلية : 

ب خترنىي عمّا قال. 

يان الخاج لصيل وترم م المتتطرد. 

- إِنّه حقيق بالإهمال ولكن من الإنصاف أن تعلم 
بما يقال عنك ولست في حاجة لأن أقول لك إن 
غضبت لك غضبة صادقة ألحمت ألسنة الماذين. . . 

إدن اتمْذوا منه مادّة لحذيانهم! وأيّ مادة! كان 
ينبغي أن يفكر في هذا كله يوم أقدم على تلك المقطبة 
المشكومة . وابتسم إلى صديقه ابتسامة باهتة وقال: 

- لا يخالجنبي شك في شهادتك . إن أقدّر إخلاصك 
حقّ قدره. ولكن أرجو أن تعيد على مسمعي كل كلمة 

وبدا الشابٌ متأقفاء واكتفى بأن يقرل في امتعاض 
ديل : 

- قال كلامًا كثيرًا عن أ لك. . حي قلت له ممتدًا 
إن أعرف قاطع طريق في بلدتنا أحوه وزير في القاهرة! 

فامتقع ةد ل 1 ناد قله لدفاع صاحبه كأنه 
بسمع التهمة نفسهاء بيد أنه ضحك في يأس وقال: 

- العادة أن عين الرضا لا ترى إلا الوزيز أمّا عين 
الغضب. . . ما عليناء وماذا أيضًا؟ 

فقال الشاب في تهرب: 

- وكلام سخيف من هذا القبيل. 

ولكنّ حسنين هتف به في ضيق غلبه على أمره 
فحأةٌ ' 

- أرجوك, أرجوك, لا تخفي عبّى شيئًا. . . 

فقال الشابٌ عابشا من التحرّج : 

- أكره أن أحوض في الحرمات , 

أخحى؟! 


العمل الشريف لا يعيب أحدًا وإِنّ الفقر ليس جرية. 


فهر حسنين رأسه في حرارة وردّد قول صاحبه في 
سحرية أليمة : 

. . إِنْ الفقر ليس جريمة..!. بديع!.. وماذا 
قال أيضًا؟ 

- لا شيء . 

د حسبه! أ قاطع طريق وأعت خى.. عاملة. 
هه؟ ويريد بعد هذا أن يتزوّج من كريمة بك قد 
الِدنيا! 

قال الرديسى : 

:اعفد إن حيزي زيار اول ااخيطاكة: فى لتكت عن 
هذه الأسرة العيابة . 

فابتسم حسنئين ابتسامة مريضة وتمتم : 

د حبك فسن وه 

ثم راح يقول لنفسه «إني غائص في الطين حبّى قمّة 
رأمي ليس هذه الحال من علاج إلا أن أدق عنق هذا 
الأحمد رأفت. ولكن هل يغيّر هذا من الواقم شيئًا؟ 
كلا إِنّه دفاع غير ممدٍ بيد أنه لا يجوز أن تغيب عب 
حقيقة هامّة وهي أن اللكمة القويّة تستطيع أن تنتزع 
الاحترام انتزاعًا وتفرضه فرضا. إن قادر على هذا 
والحمد لله فلا تنقصنى الشجاعة أو القوة. كان حسن 
أحقرنا شأنًا ولكنّه كان عل ذلك أعظمنا احترامًا. هذا 
درس بنتفع به؛. ثم سمع صديقه يقول في عزاء: 

- لا تكترث أكثر ما ينبغي . 

فقال وهو يبر منكبيه متظاهرًا بالاستهانة : 

- نصيحة معقولة. ليس في أسرتنا ما يشين. كنا 
أغنياء في يوم ما ثم دهمتنا أيَام شداد فلاقيناها بشجاعة 
حبّى تغأبنا عليها. ليس في هذا ما يشين. 

- بل فيه من دواعي الفخار ما فيه . 

فضرب الأرض فجأة بقدمه وقال مستعر العينين من 
الخضب : 

فلك أعرف كيف أؤدّب مَن تحذثه نفسه 
بإهانتي . 

هذا حقّ لا شلك فيه, 

وساد صمت مرهق بالتعب والألم فلم يبد البرديسى 
خيرًا من أن يطلب قدحين آخريين من الجعة» ثم تمتم 


مبتسم) : 

- ستجد إذا شئت من هي خمير منها. . . 

فقَال حسس باستهانلة : 

أوه» البنات في البلد أكتر من الهواء وأرخص من 
التراب! 

وعلّ من الجعة في ظمأء وشغل الصديق بقدحه 
أيضًا فعاد الصمت. «آه لو كان في وسع الإنسان أن 
يخلق حياته من جديدء فيولد في أسرة جديدة» وينشئ 
ماضيًا جديدًا. ولكن ما بالي أعذّب نفسي بالأماني 
الكاذبة. هذا أناء وهذه حياتي» ولن أسمح بأن 
أتحطم . لم تنته المعركة بعد!»). 

- 86 - 

ولمًا غادر الكازيلو مودّعًا من صديقه كانت 
الصدمة والجعة تكادان تذهبان بعقله. وكان ينبغي أن 
ينس عن صدره قبل كلّ شىء ومهها كلفه الأمر بيد 
أنه استسخف فكرة مواجهة الضابط أحمد رأفت وأغراه 
شعوره المنطوي على التحدّي والغضب با هو أجل 
وأخحطر. «إِنْ غضبي على هذا الشابٌ المغرور غير 
عادل. لقد سمع قولًا بذينًا فردّده. ليس لي عليه حقٌ 
ولا أستطيع الزعم بأنْنا كنا أصدقاء. إذا سنحت فرصة 
للتحرّش به في المستقبل فلن أدعها تفلت بسلام. 
ولكن لندع تأديبه حي سلوح هذه الفرصة. هدثي 
الحقيقي هو البك نفسه ذو الشارب المصبوغ. سأقول 
له إنّ أقلّ ما يستحقّه رجل تقدّم لطلب كريمتك هو أن 
تحافظ على كرامته خصوصا إذا كان ابن صديق قديم. 
إذا تنصّل من التهمة قذفته بالدليل القاطع وقلت له إِنْ 
الفقر ليس بعيب بخلاف التشنيع على الناس فهو عيب 
حقير. إذا غضب ولا بد أن يغضب كا يحتم مركزه 
الكبير فلن أقتصد في إظهار غضبي حتى أفرغ بخار 
صذري المكتوم . ) وسبذا الشعور المتفجر وما ينبئق 
حوله من إشعاعات الجعة ألقى بنفسه في أوؤل ترام 
صادفه فحمله إلى ميدان المحطة. ثم استقل الترام إلى 
شارع طاهر؛ وعنئدما تراءت له فيلا أحمد بك يسري 
تثاقلت قدماه كأنّه يمهل نفسه لمعاودة التفكير. وتردذدت 
في أعاقه هواتف تبيب به إلى التراجع ولكتها ذابت في 


بداية وماية 7١١9‏ 


تيار الحمى المستعر في رأسه فذفع إلى الفيلا دفعًا حي 
وجد نفسه حيال البؤاب الذي وقف له احترامًا. وشقٌ 
طريقه إلى الداخل دون استئذان وهو يشعر بغرابة 
سلوكه وسخافته ولكن دون أن ينثني. كانت الشمس 
قد مالت نحو الأفق فلاحت شجيرات الورد والشيح 
الناعسة في ظل المغيب» وارتسمت على أرض الممى 
الوسيط أثار عجلات السيّارة في هيئة خطين عريضين 
منحيين» فاته نحو السلاملك» تشى نظرة الحيرة 
والتردّد التي تنتاب تصميمه من حين إلى حين بأنه لم 
يقتنع كل الاقتناع بوجاهة البواعث التي تدفعه إلى هذا 
التحدّي. ومع هذا ارتقى السلّم بسرعة غير متوقعة, 
وما كاد يبلغ الفراندا حي وقف متسمُّرًا تحت صدمة 
دهشة مفاجئة لم تدر له بخاطر في هذيانه الطويل 
المتصل. رأى الفتاة ‏ نفسها ‏ جالسة على كرسي كبير 
وقد رفعت رأسها عن كتاب أو نحوه وتطلعت إلى 
القادم بعينين متسائلتين. وثبتت عيناه عليها في جمود 
ذاهل وقد صدع صدره من الأعياق إحساس بالخزي 
أذابه ذوبانًا. ثم أدرك أنّه حيال موقف لو استسلم فيه 
لضعفه لباء بخزي جديد فاق ما تعرض له من ألوان 
الإهانة. فاستمدٌ قوؤة جديدة من خوفه مصمًا على 
الخروج من ورطته بكرامة واستهانة. وأفاده التصميم 
فتالك نفسهء وحنى رأسه باحترام وقال مبتسً) في 
لطف: 

مساء الخير يا آنسة. معذرة عن إزعاجي غير 
المقصود لك. هل أستطيع أن أقابل البك؟ 

فقالت برقة - وكان يسمع صوتها لأول مرّة - دون 
أن يعتورها أدنى ارتباك : 

والدي معتكف اليوم لوعكة خفيفة . 

وحبى رأسه مرّة أخرى, ولعلّه وجد ارتياخًا إلى هذا 
الخلاص الذي جاء من حيث لا ينتظر؛ وقال وهو يهم 
بالذهاب : 

أستودعك الله , . . 

ودار على عقبيه وسار خطوة» وخطوة أخرى» ثم 
توقّف في تصميم مباغت. اختفى منطق السلام وحلّ 
عله غضب واستهتار وتيت الحال الغريبة التي دفعتة 


"٠‏ بداية ونباية 


من معبر الحديدة إلى شيرا, 

ودار حول نفسه مرّة أخرى وواجه الفتاة في سجرأة 
غير مبال بنظرتبها المترفعة المتسائلة ثم قال بصوت أعللى 
مما بتشلعى _الموقفت: 

ّ 30 تعز عل أن أودّع هذا البيت الوداع 
الأخير دون أن أعرب عن أفكاري . 

نظلت على تساؤها الصامت دون أن تنبس بكلمة 
فاستطرد متسائلا : ظ 

أظنّ بلغك أنني طلبت يدك؟ 

فقالت وهي تخص بصرها: 

لم تمر العادة بأن يحذثني أحد من زوار أبي. 

فقال فيها يشيه الذهشة : 

- ظلنتها عادة غير مستنكرة في الأوساط الراقية! 

ليس في جميع الأحوال. 

فتهادى في الاستهانة قائلا: 

- اسمحي لي أن أتكلم رغم هذاء إِنّْي قصدت 
البك لمحادثته في الأمر نفسه لأنّه نما إل أن طلبي عد 
وقاحة لا تختفر, 

فقالت دون أن ترفع بصرها: 

- يحسن بك أن تؤْجَل حديثئك لين لقاء البك . 

فقال وعيناه لا تتحؤلان عن وجهها: 

- ولكن ما يسعدني به الحظّ من لقائك ‏ وأنت 
صاحبة الشأن الأول يحتم عل أن أتكلم. يبمّني أن 
أعرف رأيك؛ هل يعد طلبي وقاحة -حمًا؟ 

فقالت بما ينم عن الضجر: 

- أرجو أن تؤجّل حديثئك ينه . 

ومع أن ضجرها كان شيئًا منتظرًا إلا أَنّه آلمه وأحنقه 
فقال: 

ان الذي يسعى إلى يد فتاة يتقدّم عادة بخير ما 
فيه ولكن يحدث أحيانًا لسوء الحظّ ألا يروا إلا شي ما 
فيه كبعض مساوئ تتعلق بأمرته مثلا. 

فنبضت قائمة عابسة. وهي تقول: 

لا مفرٌ من الدهاب, 

واتجهت نحو مدخل البهو فلاحقها بصوت مرتفع 
قائلا : 


- كنت أودٌ أن أسمع رأيك» ولكن حسبي هُذاء 
إن آسفف. وأرجو أن ترفعي تحيّاتي إلى البك. 

جحل عت سنا ردق جد سار كد 
الباب. ومرت بخاطره مناظر متباعدة في سرعة 
وتدفق. كموقفه مع بهيّة في بيتهم الجديد. وحديث 
البرديسى في الكازينو. وهذا الحديث القريب «لست 
عاشمًا خائنًا والحمد لله. كنت على وشك أن أكونه 
ولكن الله سلم . بيد أننى رجل خائب وهذا أفظع . 
أحبٌ أن أفكر طويلا في هذه الأمور المعقّدة. إن أشعر 
بمرض من نوع جديدء أين الداء؟ أين الخطأ؟ أين 
العلاج؟1. 

ولمًا خلص إلى الطريق كان مقتنعًا بأنه ارتكب 
سخحافة لا معنى لها. 

كم - 

قالت الأمّ مبتسمة وإن نمت نظرة عينيها عن أسى : 

- من عجب أنْك ترمي بنفسك في أمور خخطيرة دون 
أن تاخذ العذة لما. هبهم وافقوا على الزواج فهاذا كنت 
تفعل؟ ألم تفكّر في هذا؟ ألم نحذّرك جميعًا من عواقبه؟ 

كان فد مفى على حديث صاحبه البرديبى حوالي 
عشرة أيَامِ ومع هُذا لم تغب هذه المسألة عن أذهانهم. 
وكانوا كل| جمعتهم جلسة في الشرفة المطلة على الطريق 
في أوقات العصارى ولاح في وجهه الشرود أو التفكير 
انبرت الأمٌ للحديث ترجو أن تبلغ به موضع التعزّي 
من قلبه وانضمت إليها نفيسة مازجة الحدٌ بالمزاح . 

وقال حسنين في ضحر: 

لا يبدو لي الغد خيرًا من اليوم . 

- كلام فارغ . 

وصدقت الأمْ على كلامها قائلة : 

- وستبدي لك الأيام أنه كلام فارغ؛ وستتروج من 
خير منها. . . 

وتساءل في نفسه لماذا يبدو المتشائم الوحيد في هذه 
الأسرة؟ أهي أسرة بلهاء أم هو الأبله؟ أليس الدور 
الذي يلعبه الشيطان في هذه الدنيا أخطر من أدوار 
الملائكة مجتمعين؟ بلىء فلاذا لا يرونه كذلك! ولقد 


أرسل إلى حسين كتابًا بآخر أنباء زواجه فياذا كان 
جوابه؟ لم يكد يزيد شيثًا عا تقول أمّه أو أنحته! أماتوا 
وهم أحياء؟ ألم تعد تستهويبم الحياة الرفيعة الشريفة؟ ! 

وقطع عليه أفكاره جرس الباب الخارجيّ الذي رن 
نينا متواصلا. ثم صوت الخادم وهى تصيح بحالة 
مزعجة بعد أن فتحت الباب «سيّدي . . سقي» فهرع 
إلى الصالة مستطلعا تتبعه أمّه وأخخته فرأى عند باب 
الشمّة المفتوح رَجلِين غريبين يسندان ثالثًا بيهماء جريًا 
فبها يبدو من عصابة قذرة تطوق رأسه وتنز دمّاء وقد 
مال عنقه إلى كتف أحد الرجلين. واقترب حسنين من 
القادمِينَ مبهونًا منزعجًا لا يدرك شيئًا ولا يفهم لبا 
حيّى صار على قيد خطوات منهم وعيئاه لا تنحولان عما 
انحسرت عله العصابة من وجه الختريح. بشرة شاحبة 
تشوها زرقة تثير من الأعباق ذكرى الموت. وتعلوها 
فوضى مخيفة من شعر نابت وآثار التهابء. ولكنّ 
العينين المغمضتين رمشئا في إعياء فلاحت نخلال 
أهداهها نظرة واهنة غير غريبة سرعان ما انتقلت 
حركتها الضعيفة إلى ذاكرته والفجرت بها كالقنبلة. 
وقبل أن يتحرّك لسانه جاء صوت أنه من القلف 
مؤكّدًا ما انفجر في رأسه هاتفًا في نبرات يمرّقها الخوف 
والإشفاق : 

مو ب اهل سمي 0ن 

فصاح حسنين مردّدًا قول أمّهِ في ذهول: 


0 
الآخر في حمله : 


- يجب أن ثليمه في الخال. . . 

وتقدّم الشابٌ في ذهول منهم وانحنى فوق قدمي 
أخيه وبسط ذراعيه تحت ساقيه ورفعهما في رفق وساروا 
معًا متعاونين في حمله إلى حجرة نومه» وأناموه على 
الفراش في جرع لا يوصف. وفي الصالة أشار الرجل 
الذي تكلم أوّل مرّة ‏ وكان يرتدي جلبابًا وطاقيّة - إلى 
الآخعر ‏ الذي كان يتزيًا بريّ الأفندية ‏ وقال: 

لا مؤاحذة. هذا سائق التاكسى . 

فأدرك حسئين أنه يلمح إلى الحذة التاكسبى فسار 


بداية ونباية 1١‏ 


معهما حيّى السيّارة وأعطى الرجل النقود وصرفه 
مستبقيًا الآخرء ثم سأله في اضطراب وجزع: 

ماذا حدث؟ 

فقال الرجل : 

مبى حسن أخي وصديقي», ولعلك تعلم أنه كان 
هاربًا من وجه البوليس فانتهز بعض أعذائه هذه 
الفرصة وتربّصوا له في بعض الأماكن التي يقطنها 
مستخفيًا وانقضوا عليه غدرًا وسلبوه ماله ولاذوا 
بالفراره وقد تحامل المسكين على نفسه حتى بلغ 
مسكني ورجاني أن أذهب به إلى أهله فأخذنا التاكسى 
إلى عطفة نصرالله حيث أخببرنا الجيران ألكم انتقلتم 
إلى هذا البيت فجئنا من تونا. 

وكان حسنين يصغي إلى الرجل في شبه ذهول. 
ومع أن إحساسات شق تعاورت قلبه إلا أن إحساس 
الخوف والقلق غلبها جميعاء ولما انتهى الرجل من 
حكايته غمغم الشابٌ: 

- شكرًا لك يا سيّدي على مروءتك: هلا تفضّلت 
بالبقاء ساعة حتى تستريح . . . 

ولكن الرجل رفع يده إلى رأسه شاكرًا وقال: 

- إفي ذاهب في الحال» ولي كلمة قبل الذهاب وهي 
أنه يجب الإسراع إلى علاج الجرح الخطير ولكن حذار 
من استدعاء الإسعاف أو حمله إلى القصر وإلا أدى 
الأمر إلى التحقيق ثم إلى البوليس؟ 

وحيّاه الرجل ومفى إلى حال سبيلهء فعاد الشاب 
إلى الحجرة كمن شق سبيله في ظلمة حالكة والأرض 
فيد به. ووجد أخاه كما تركه راقدًا وكأنه اطمأن إلى 
الجو الجديد فأسلم إلى غيبوبة تامة وانكبت عليه 
لمرأتان في جزع بادٍء ولمًا أحسّتا بالقادم تطلعتا إليه 
سظرة: اعفان ». بورك إل التراقة ييا 0 :ادك 
بصوت غريب : 

الكل 

فقالت الأم وهي تزدرد ريقها اللحافٌ: 

غمغم كللات لا تعني شيا ثم راح في غيبوبة. 
أغثنا بدكتور. 

ولكنّ الجريح حرّك يده بجهد. وبدا كأنه يستطيع 


"١‏ بداية وغهاية 


أن يغالب غيبوبته عند الضرورة فقال بصوت باهت 
ضعيف تجرد من فحولته المعهودة : 

لا دكتور. . . الدكتور. . . يبلّغ. . البوليس. 

وألقى عليه نظرة متفخخصة فرأى العصابة المخضبة 
بالدم تخفي رأسه وجبهته وجانبا من صفحيّي وجهه فلا 
تبدو إلا عينئاه المثقلتان بالااعياء والذبول وذقنه النابتة 
الشعرء وقد فغر فّ) تتردّد فيه أنفاس ثقيلة محشرجة: 
على حين تمرّق رباط رقبته وجيب الجحاكتة وانتئرت 
خيوط الأزرار» وراحت يناه تنقبيض وتنبسط» ويئن 
بين آونة وأخرى. وقف حسئين حيال هذا المنظر ذاهلا 
فتناسى محاوفه وتركز شعوره في إحساس عميق بالالم 
والإشفاق. نسي برهة كلّ شيء إلا أنه حيال أخيه 
الجريحء وأنه ينبغي إنقاذه بأيّ ثمن. ثم جعلت تطفر 
من أعباقه مشاعر خوف وقلق طلما طاردته في الأيام 
الأخيرة في هيئة ُذر تتهدّد سمعته ومستقبلهء فانقبض 
قلبهء وداخله ألم جارح هذه المشاعر ذاتها من ناحية 
ولتانيب الضمير على إحساسه بها في مثل هذا الموقف 
من ناحية أخرى. وكأنه فزع إلى الهرب من باطنه 
بالكلام فقال مخاطبًا الجريح برقة : 

- دعني أحضر طبيبا. حياتك أهم من أي شيء 
آخر. 

وقالت الأم ونفيسة برجاء معا: 

- نعم يا حسن» دعنا نحضر الطبيب . 

ولكنّه رفع جفنيه الثقيلتين وقال نبراته المضغوطة 
المتعبة : 

كلا لا تخافوا. هُذه ضربة تافهة. . , 

ثم حاول أن يأخذ نفسًا عميقًا واستراح لحظة. ثم 
استدرك قائلً مغمض العيئين : 

- غدروا بي. الويل لهم. إن كان لي عمر فالويل 
هم. ولكن لا تستدعوا طبيبًا. الطبيب يبلغ 
الوا 

فقال حسنين وكان لا يزال فريسة للئزاع الناشب 
من باطنه : 

لا بد من إحضار طبيب؛ وليس عسيرًا أن نقنعه 


بتكم الخىر. 


وتوسّلت إليه الأم قائلة : 

ارحمني يا حسن واقبل هذا . . . 

فنفخ الرجل مغمغا في ضحر: 

- ارحموي أنلتم ودعوني في سلام. . أف 

وجعلت الأم تردّد بصرها بينه وبين حسنين ولكنّ 
الشابٌ كان من العناء في بلوى. برح الخفاء وتبين 
حقيقة مشاعره. فليس تألّه لأخيه بشيء يذكر إلى 
جانب الخوف الذي يلقي عليه ظلا ثقيلًا من شبحه 
الجائم. «قضي عليناء قلبي لا يكذّبني على الأقل في 
الشرّء قفي علينا في مصر الجديدة كما قضي علينا في 
فين وسطازنا لولس عيما اكالتدرون كاد آر 
بعيي رأمي المحموم الضابط وهو يفتش التجسرات 
ويلقي القبض على المجرم الحارب. هل سدَّت منافل 
الحياة؟ ! أتقول إِنّه أخبي؟ أجل إِنّه أخي » ولكتّها حياتي 
النئي تتحظم تحت قدميه في طريقه الوعرة. أف؛» لشد 
ما ضاق صدري!) ثم سمع أمه وهي تهتف به في 
نأ 

ع أعان ا ينين ! ألا ترى أنه يموت بين أيديئنا! 

ور ا ان فإني أموت مونًا بطيئًا قاسيا. 
إن كرامتي تحتضر. وهبه مات حيث هو الآن فسيات 
طبيب للكشف عليه ثم يلحق به البوليس والنيابة ولن 
يكون لهم سبيل على الِنّة ولكن ستفوح النتانة من 
البيت في هيئة فضيحة رائعة!» ثم حانت منه التفاتة 
إلى أمّه وكانت تردّد بين الراقد وبيئه نظرة حائرة زائغة 
فزعة» ومع أنئْبا كانت مطبقة الفم إلا أنّه سمع لنظرتها 
تلك صرخة مدؤية تَرْق نياط القلب. وعجب لنفسه 
فقد حقد عليها بادئ الأمر ثم خيّل إليه أنْ ذكريات 
غامضة سريعة تطرق قلبه في لمح البصر فتخاذل 
وضعف وعاد يركز بصره في العصابة الملوثة بالدم. 
واستردٌ قوّة تفكيره فخطر له خاطر باهر تمتم على أثره 
بلا وعي «كيف نسيت هذا؟!» ثم قال خاطبًا أمّه في 
عجلة : 

سأحضر طبيئًا صديقًا من مستشفى الحيش» 
التظري قليلًا فلن أغيب طويلا. 

وهرع إلى بدلته فلبسها متعجّلا وغادر البيت لا 


يلوي على شيء. . 
- لالم - 

وقف حسئين مستئدًا إلى حافة النافذة يراقب 
الطبيب وهو مكبٌ على عمله الدقيق وقد غادرت الأم 
والأخحت الحجرة ولبثتا وراء الباب المغلق يكاد يسمع 
تردّد أنفاسهما. كان عابسًا شديد التأثّرء وتولاه الفزع. 
لم أذ يبدأ رويداء ويغيب في أعاق نفسه. وكان قد 
أخبر الطبيب لدى مقابلته أنْ أخاه أصيب بجرح في 
رأسه عقب معركة مع أحد أفراد الأسرة ورجاه أن 
يسعفه مبديّا له رغبته الحارة في تكتم الخبر حتّى لا 
تخدش كرامة الأسرة بفضيحة عامّة! ومضى الطبيب 
معه في تحظء ولا أجرى الكشف الابشدائي عللى 
رأس الجريح قال : 

كسر عميق. إلى ما استنزف من دم غزير. لا 
أدري ما ووجه الحكمة في عدم إبلاغ البوليس؟ ! 

فقال حسنين بتوسل : 

- فلنتحاش هذا بأئّ ثمن! 

فقال الطبيب وهو يتهيّا للعمل : 

- الظاهر أنّك لا تدري خخطورة الأمر!. . وعلى أي 
فلنؤْجل هذا إلى حينه! 

وتركه طوال العمليّة الجراحية غير مستقر ولا 
مطمئن. بل قفضى حديئه الأخير على نوازع عطف 
كانت تتحرّك في أعياقه. كان في ذهابه إلى المستشفى 
وعودته بالطبيب مجال حسن هي له جوا طيبًا تنمو فيه 
إحساسات العطف وتزكو فنزعت به الذكريات إلى 
الأيّام الخوالي التى كان .حسن فيها المرفه الوحيد عن 
بأسائهم» واليد المبسوطة التي تود فتحقق لهم الآمال. 
ولكن سرعان ما استثار القلق الخوف فتحججر قلبه 
ونضب معين العطف ولم يعد يرى في الرجل الجريح 
إلا نذير الشر الذي يتهدّد سمعته ومستقبله. ها هو 
يرقد في غيبوبة شاملة لا يشعر بالأسلحة الدقيقة التي 
تعيث بلحمه وعظمه» وهكذا كانت حياته دائًا جرحًا 
عميمًا يبتل سواه بآلامه. أمّا هو فلم يفق من غيبوبته 
قط: أو لم يشأ أن يفيق منها. ألم يضرع إليه بالدموع 
أن يغتر حياته؟ بلى؛ وكان جزاؤه السخرية الأليمة. 


بداية وغباية "18م 


فلو أنه مات في أرض بعيدة , 
الأربطة فسرت في جسده رعدة. وامتلاً يأسًا وانقباضا 
وأخيرًا سمع الطبيب يخاطبه قائلا: 

- انتهيت من الممكن عمله الآن. هلم معي إلى 
الخارج. . . 

وانتظر حبّى غسل الرجل يديه وارتدى جاكحه ثم 
سار بين يديه إلى حجرة الاستقبال ولم يجلس الرجل 
وبدا متفكرّاء ثم قال بهدوء غير منتظر: 

لا أظنّ الحال خطيرة جدًا ولكنّه سيحتاج إلى 
علاج طويل. يا له من اعتداء وحشيّء اذا لا تبلغ 
اللواضو؟ 

فقال حسئين بجزع وإن رذه قول الطبيب إلى بعض 
رشاده : 

- إِني أتفادى من الفضيحة. ومه) يكن من أمر 
فنحن أسرة واحدة!. . 

فهر الطبيب رأسه فيها يشبه التذمّر ثم قال بشيء من 
الحزم : 

- سأعود لرؤيته صباحًا فإذا وجدته على ما يرام فبها 

وساوره القلق فقال برجاء وكأنه يخاطب نفسه: 

ارصن الا تعدك هذا 

ثم حاطب الطبيب قائلا : 

- إن أشكر لك ما تحجشمت من جهد وتعب. 

وانجه الرجل إلى الخارج فوصّله إلى الباب الخارجيّ 
وهو يشدّ على يده بامتئان» ولم يشا الطبيب أن يذهب 
قبل أن يكرّر على مسمعه قائلًا في توكيد: 

بن ا 

ووقف يتابعه بناظريه وهو يستقل سيّارته حيّى 
انطلقت به مزمجرة في طريقها فتعبّد كأنّه يزيح ثقلًا لا 
يتزحزح ثم عاد إلى الحجرة ينقل خطواته في كابة؛ وما 
كاد يلج الباب حيّى هرعت إليه أمّه وسالته في لحفة 
تجرع. 

ماذا قال الطبيب؟ 

وكره لحفتها وجزعها من أعماق صدره ولكنّه لم يجد 


4 1 بداية وباية 


ذافن أن يقول في هدوء: 

- إِنّه مطمئنّ إلى الحالة وسيعود صباحاء كيف حاله 
الآن؟ 

لم يفق بعد . 

وارئمّى على الكرسيّ الوحيد بالحجرة وأغمض 
عينيه... «أنا الجريح حمًا. إنّه ينام نومًا عميمًا في 
غيبوبة سعيدة فمن لي بمثل هذه الغيبوبة. لا أظنْ 
الخال خطيرة جِدَّاء هكذا يقول الطبيب الغافل, كلا 
نا خطيرة جدًا. وإبلاله أخطر من موته. إذا ساءت 
الحال أبلغ الخبر إلى البوليس» وإذا تحسنت جثم عل 
صدري حيٌٍ يبلغ أعداؤه البوليس عنه. فالفضيحة 
اتية لا ريب فيها... أين المهرب من هذه الآلام 
جميعًا. إني أمقت هذا الجدريح وأمقت نفسي وأمقت 
الحياة جميعًا. أما من حياة غير هذه الحياة: ومخلوقات 
غير هذه المخلوقات؟» والظاهر أنّ أفكاره انعكست 
على صفحة وجهه فتقبضت أساريره في امتعاض وألم. 
ولاحت من أمّه التفاتة إليه فاشتدٌ بها التأثر وقالت له 


برقة : 
9 هون , علكء أحوك بسخير» والله حافظله 
وحافظنا. . 


وفتح عينيه في دهشة» ورمقها بنظرة غريبة دون أن 
خم ه 

وجاء الطبيب في صباح اليوم الثاني ثم غادر البيت 
معلا اطمئنانه» وبذلك نجا حسنين من الخطر القريب 
الداهم ليفرغ لقلق متصل وعذاب بطيء وأوهام لا 
تفارقه ليل ولا نهارًا. وانقضت أيَام والأسرة في هدوء 
نسبيّء ومضى الرجل الخريح يفيق ويسترد حيويته 
شيعًا فشيئاء وبعودته إلى الحياة ساورته أفكار قديمة لم 
تلبث عدواها أن سرت إلى النفوس المحيطة به. وقد 
ابتسم في بادئ الأمر ابتسامة حزينة يشويها تسليم لم 
تألفه طبيعته وقال كالمعتذر: 

- أتعبتكم كثيراء والظاهر أن الله لم يخلقني إلا 
للتعب . . . فليسامحني الله ! 


والتمعت فيما حوله بسمات المجاملة والتودّد فلم 
ينخدع بهاء أو لم ينخدع بها جميعاء فالت عيئاه نحو 
حسلين وقال: 

لا شك في أنك غاضب ولعلك تودٌ أن تذكُرني 
بمواعظك السالفة!. . . 

فغمغم الشاب قائلا : 

لا أودٌ إلا سلامتك. . . 

فابتسم الرجل ابتسامة غامضة,؛ ثم ما عتم أن 
نجهم وجهه. وتكاليت عليه الأفكارء فقال قُْ شجة 
مضطربة غير التي تكلم بها أول الأمر: 

- سلبوي نقودي» الويل لهم. كنت عازمًا على 
المرب؛ ولا بد من الحرب . 

وتحسّس رأسه بيده وأغمض عينيه» ثم تمتم وكأنه 
نحادث نفسه : 

ماذا فعل الله بسناء؟. . هل يكقون عنها؟. . لن 
تستسلم لعدوٌ من أعدائي, ولكتّها لن تستطيع الهرب 
معي ) فات الوقت وفقدنا نقودنا. . . 

وأنصت حسيين صامماء جافلا من ملاقاة هذا 
الهذيان بغير الصمت» واختلس من أمّه وشقيقته نظرة 
فوجدهما تتبادلان نظرة حائرة ثم عاد حسن يقول في 
لمراته المضطربة : 

يجب أن أشتفي . إِنّْ الصديق الذي حملي إلى هنا 
رجل مخلص ولكثه أجهل من أن يحفظ سرّاء وليس 
أحبٌ إليه من أن يروي قصة مروءته لرفيقته» فتنقلها 
هذه لجارتهاء حوّى تبلغ أحدًا ممن يترئصون بي» فلا 
ندري إلا والبوليس يقتحم علينا البيت. 

وتنبد حسئين في يأس. وحانت مه التفاثة صوب 
أمّه فالتقت عيناهما لحظة قصيرة قبل أن تغض بصرهاء 
وامتلاً حنقًا فخاطبها في سرّه. .. لماذا أتيت بنا إلى 
الدنيا؟.. لماذا اقترفت هذا الجرم الشنيع؟.. ثم 
سمع أنحاه ميتف يعلف : 

يجب أن أختفيى. سأغادر البيت حالما أقدر على 
المنى» وربًا غادرت القطر كله. . . 

5 حسلين نسمة باردة كالأمل لأول هرة مذ 
جاء الرجل محمولًا كالقضاء والقدر. «هل يمكن أن 


يحدث هذا قبل أن تقع الواقعة!. . هل يختفي حمقًا فلا 
تقع عليه عين ولا يعرف له أثر؟! فليتقدم حيث هو 
يجب أن أحيا -حياة مطمئئة !». 

ثم مر يوم ويوم ويوم حبّى غدا جو البيت على كابته 
تعهود| عالوفا افتالامن بحطسة الشفاء: أو كناد .واخيد 
يفكر جديا في مغادرة البيت ثم في ا هرب من الوطن 
كله ويرسم لذلك الخطط في صمت وتفكير متواصل». 
ولم تعد نفيسة تلزم نفسها القبوع في البيت فعادت إلى 
زياراتها التى لم تكن تنقطع يوماء وكذلك عاود حسنين 
حياته العادية ما بين عمله وبيته والنادي ولْكنّ رأسه لم 
يتوقف عن التفكير في أخيه والخشطر الذي يتهدّد 
سمعتهم بسبب إقامته بينهم. وقد دار بينه وبين أمَه 
مرّة حول هذه النقطة الحسّاسة فقال لما بعد إشفاق 
وتراد : 

- إذا كان البوليس لم يهتدٍ إلى محل إقامته حي الآن 
فبمعجزة من الله لا يمكن أن تستمرٌ طويلا. . . 

ونظرت إليه المرأة نظرة غريبة احتار في تفسيرها 
بادئ الأمرهء أهي عتاب صامت.» أم تسليم بالقضاء 
من العجر عن ملاقاته. أم استنكار يداريه الخوف من 
الإفصاح. كل أولئك بدا راجسًا حيئًا لولا أن برح 
الخفاء فهتكته دمعة ترقرقت فى محجرها في بطء كالحياء 
وفي تردّد هو العذاب., هنالك ملأه الانزعاج لأنه لم 
يكد يذكر أنْ رأى أمّه باكية على كثرة المحن والمليّات, 
وتراجع فيها يشبه الفرار وصوّر من خَرْمها وسَرْمها تنثال 
على عيّلته في دهشة وألم. فكأنه يشهد احتضار أسد 
هصور. على أنه حين خلا إلى نفسه تناسى آلام 
الآخرين وانفرد بآلامه هو ومهاوفه: فاشْتَدٌ به الاستياء 
والحنق. ولعن نفسه وأمّه معا. , , 

وف عصر اليوم التالي مباشرة أرادت هذه المخاوف 
أن تخطو خخطوة -جديدة. كان مجلس وأمّه وأنحوه على 
الفراش يتتجاذبون العديثء» وكانت نفيسة في الخارج . 
ور جرس الباب فجأة فذهبت الخادم لتفتتم» ثم 
عادت في ارتباك ظاهر وقالت للشات: 

- سيّدي . عسكري بوليس يرغب في مقابلتك. . . 


بداية ونباية "١٠‏ 


د قم - 

تنائرت نفوسهم كالشظايا: فوثب حسنين قائ]| وهو 
يحدّق في وجه الخادم. ورمى حسن بقدمه من على 
الفراش إلى أرض الحجرة وهو ينظر إلى النافذة في 
عبوس متمتً الهرب!4». على حين ردّدت الأم بينهما 
عينين زائغتين وكان حلقها من الحفاف بحيث لم يسمح 
لكلمة بالخروج . وحمد -حسئين فى مكانه دقيقة, لم 
استسخف جموده فهز منكبيه في يأس وغادر الحسجرة إلى 
الباب الخارجيع حيث وجد الشرطي واقفًا وتبادلا تمي 
آله ثم سأله الشابٌ في استسلام: 

- أفندم؟ ! 

فقال الرجل بصوت أجش : 

- هل حضرتك الضابط حسنين كامل عل؟ 

نعم ., 

حضرة ضابط نقطة السكاكيني يرغب في مقابلتك 
في الخال, 

ونظر حسنين فيها وراء الرجل حتى الطريق فلم ير 
غيره تمن كان يتوقّع رؤيتهم. وداخله شيء من 
الطمانينة؛ ولكنّه تساءل في حيرة: 

ماذا يريد حضرته؟ 

أمرني أن أَبلّعغْك رغبته دون أن يزيد. 

وتردد الشابٌ قليلا ثم استطرد ريم| يرتدي ملابسه 
وعاد إلى الحجرة» ووجد أخاه وراء بامها يتنصّث فا إن 
رآه حي سأله في هفة «هل جاءوا؟))2 وكزرت الم 
السؤال في صوت مريض» فأعاد على مسمعيها ما دار 
بيله وبين الشرطي وهو يرتدي ملابسه. وما كاد ينتهي 
حيّى قال حسن: 

لعل الضابط من معارفك فأراد أن يتبّهك قبل أن 
يكبس البيت. هذا واضح. أصغ إِلْء إذا سألك 
عنّى فقل له إِنْك لم ترني منذ أعوام . لا تتردّد ولا تخش 
عاقبة الكذب فلن يقفوا لي على أثر. سأختفي عقب 
ذهابك مباشرة فقلها ولا مخف وربنا معكم. . . 

فتساءل حسنين وهو مخفى عله عيليه حبّى لا يقرأ 
فيهم| ما تنفس في أعراقه من أمل جديد: 

- وهل لديك من القوة ما يعينك على الهرب؟ 


5" بداية ونهاية 


فقال حسن وهو يجذب بدلته من على المشجب: 

- إن على غير عافية. . . مع سلامة الله . 

وغادر حسنين الشقّة ومضى في صحبة الشرطيّ. 
وكان أوْل ما بدا له أن يسأله عن اسم الضابط لعله 
يكون حمًا من معارفه ولكنّ الشرطئّ ذكر له اسم 
غريبا لم يسمع به من قبل فعاودته الخيرة. وبذا له 
الأمر شديد التعقيد. بيد أنّْ عزم حسن على الاختفاء 
بت فى نفسه طمأنينة لا حدٌ لها. وبلغا نقطة البوليس 
قبل المغرب بقليل. وقاده الشرطي إلى حجرة الضابط 
ثم أذى التحيّة قائلًا: 

حضرة الملازم حسنين كامل على . 

كان الضابط جالسا إلى مكتبه. وعلى بعد ذراع من 
المكتب وقف رجلان وامرأة من أهل البلد تلوح في 
وجوههم آثار معركة حديئة العهد. ولكنّ الرجل 
مض لاستقبال حسنين ومدّ له يده وهو يقول: «أهلا 
وسهلا؛ ثم أمر الشرطيّ بإخملاء التجرة وإغلاق 
الباب. وطلب إلى الشابٌ أن يجلس على كرسي أمام 
المكتب فجلس وهو يقول لنفسه «ترى ما معنى هذا 
كلّه؟ . . ترحاب ومجاملة ثم ماذا؟ !). 

وخمرج الضابط من مجلسه ووقف في مواجهته 
مستندًا بيمناه إلى حافة المكتب» وجعل يتفخصه بنظرة 
غريبة تلوح فيها حيرة مّن لا يدري كيف يبدأ حديئه 
أو من يجد في ذلك قدرًا من الصعوبة لا يخفى. وشعر 
بفترة السكوت على قصرها غليظة لا تُحتمل» واشتدٌ به 
إحساس كريه أستحوذ عليه منذ اللحظة الي وطات 
قدماه فيها أرض نقطة البوليس». إحساس بالرهبة 
والفلق والضيق «ضابط مهذّب يتحرّج من إلقاء التهمة 
في وجهي, هذا غريب في ذاته. تكلم وأرحبي فطالما 
تراءى خخيالي كابوس هذه اللحظة. إن أعلم سلفًا ما 
تريد قوله. تكلم . .2 

ونفد صيره فقال : 

- دعاني الشرطي لمقابلة حضرتك! 

فقّال الضابط : 

- إن آسف لإزعاجك. كنت أودٌّ أن ألقاك في 
ظرف خير من هذاء ولكنّك أدرى بما يتطلبه الواجب 


8 


اعنانا. 

وزقر حسئين آخر نسمة من أمل ضعيف في 
السلامة وقال في وجوم: 

0 أشكر لك كرم أخلاقك, وها أنا مصخ 
إليك. . . 

فقال الضابط باهتام ورقة معًا: 

- أرجو أن تتلفّى ما سأقول بشجاعة؛ وأن تسلك 
سلوكًا جديرًا بضابط يقدّس القانون. . . 

فقال الشابٌ وهو يعاني ما يشبه الهزال والخور: 

هذا طبيعيع جدًا. 

فعض الضابط على أسئانه كما بدا من تقيض 
صدغيه ثم قال باقتضاب : 

د الأفن يتغلق بأعتلةة .. 

ورفع -حسئين حاجبيه في استنكار ثم قال: 

- تعنى أخمي؟ 

السبّ أختكء ولكن معذرة أحبٌ أن أسألك 
ولا هل لك أخخت تدعى نفيسة؟ 

فقال حسئين في ذهول: 

- تعمء هل وقع لما حادث؟ 

فعض الرجل طرفه وهو يقول: 

- يؤسفني أن أخحبرك بأئها ضبطت في بيت 
وفزع حستين واقفاء متصلّب الجسم مصفرٌ الوجه 
حملمًا في وجه محدّثه. وهو يلهث قائلا : 

ماذا تقول؟ 

فربّت الرجل على كتفه متأئْرًا وقال: 

- اذْعْ كل قوّة في نفسك كي تضبط أعصابك. 
الموقف يستلزم الحكمة لا الغضب. أرجو أن تساعدني 
على القيام بواجبي ولا تجعلني أندم على ما اتنخذت من 
إجراءات راعيت فيها المحافظة على كرامتك قبل كل 
شىء . 

أنصت إليه وهو لا يزال يحملق في وجهه. تمتلى 
عيئاه بوجهه تارة فلا يرى سواه ويغيب عنما أخرى 
فيسمع الصوت ولا يرى شيئّاء وثالثة لا يرى إلا 
شفتين تنطبقان وتنفرجان فينثال من بيهم كلام هو 


الفزع والياس والغرابة» وبين هذا وذاك ترمش عيناه 
في حركة عصبيّة فتلتقطان منظرًا غريبًا هنا وهناكء 
بندقية مثبتة في جدار أو 0 من البنادق أو محيرة. 
وربما امتلاأ أنفه برائحة دخان محبوس أو رائحة جلود 
غريبة» ثم ينحل وعيه ويتراجع فجأة إلى ذكرى بعيدة 
لا صلة لما بالحاضر فيلوح لذاكرته منظر عطفة نصرالله 
وهو صبيّ يلاعب حسين البلى «ضبطت في بيت! أي 
بيت!؟ إِنّْ أحدنا فاقد العقل ولا شلك ولكن من هو؟ 
ينبغي أن أتحقّق من أن عاقل أرّلا...2 وتتبّد في 
وهن. ثم سأله في استسلام : 

- ماذا تقول يا سيّدي؟ 

- يوجد في هذا الح بيت تستأجره ست رومية 
وتؤْجّر حجراته بالساعة للعشاق. كبسنا البيت عصر 
الييوم فوجدنا الستث... وجدناها مع شاتٌء 
واعتقلناها طبعًا وشرعتٌ في اتخاذ الإجراءات القاسية 
الى تعرفها فاضطرّت تحت تأثير الخوف أن تعترف لي 
بأئبا شقيقة ضابط على أمل أن أطلق سراحها. . . 

أختي العاكايس .اكه سكا مل ان فد 
أراها, . , ْ 

اضبط نفسكء أرجوكء لو كنت متأكدًا من أنها 
أختك لأطلقت سراحها. ولكبّى خفت أن يكون 
اعترافها خدعة. قد عرضت المسألة على المأمور فوافق 
على وقف الاجراءات على شرط التأكد من صدق 
قولها. . 

ومن عجب أنه لم يعد يداخخله أدنى شك في حقيقة 
الواقعة فسرعان ما آمن بها قلبه المتشائم: ووجد في 
فظاعتها ترجيعًا لأصداء خوف قديم طلما ناوش قلبه 
وعذّبه. أجل ل تُخلق هذه الواقعة إِلَّا لحظه ولأسرته 
نه يعلم هذا علا لا يتطرّق إليه الشك. أهْذه هي 
نباية المطاف؟! ثم غلبه ذهول شعر معه بأنه أثر من 
آثار ماض منطو انلقطعت صلته بالحاضر فضلا عن 
المستقبل, كان عن عو كته لاا رون مواق اا 
ثم البعئت منه لهفة على النهاية فقال بصوت ميت: 

- أين هي1.. دعني أراها من فضلك. . . 

فأشار الضابط إلى باب مغلق وقال: 


بداية ونباية /1١؟‏ 


- تركناها في هذه الحجرة لأنه أغمي عليها حين 
علمت بأني أرسلت في طلبك بدل أن أطلق سراحها. 
اسلك سلوك رجل يحترم القانون واذكر أني مسثول عن 
الأرواح . إنْك رجل محترم ومهذّب فعالج الأمر 
بالحكمة. لا يصحّ أن يعلم أحد تمن في النقطة شيا 
ولكنّ هذا يتوقف على سلوكك أنت». تذكّر هذا 
فكرّر قوله بنفس الصوت الميت: 

دعني أراها من فضلك. . . 

مغضى الضابط إلى الباب المغلق متاقلا وفتح 
واقترب حسنين منه كمن يمشي في حلمء وألقى بنظرة 
من فوق كتفه كمن ينظر ليتعرّف على جثّة في المشرحة, 
فرأى لصق الحدار المواجه للباب أريكة ارتئمت عليها 
فتاة قد ألقت برأسها إلى الجائط. عيناها نصف 
مفتوحتين ولكتّب| مظلمتان لا تريان شيئًا ميتة أو مغْمّى 
عليها أو لعلّها في ذهول الإفاقة الأوّل» وقد التصقت 
بجبهتها شعيرات مبتلة وعلت بشريها صفرة الموت, 
لكتها نفيسة دون غيرها. «قلبي لا يكذّبني في المصائب 
أبدًا لو كانت ميتة لادّعيت أن لا أعرفها بلا تردّده ول 
بد حراكًا كأئها لم تحسل للقادمين وجودّاء أو أنها لم 
تستطع أن تبدي حرانًا. ونظر الضابط صوبه متسائل 
ولكنٌّ عينيه لم تتحوّلا عنباء حمد بصره ونحجر وغشيه 
ذهول وجد فيه مهربًا مؤقنًا ثما كان وتمًا سيكون وخيّم 
عليهم سكون الموث» وانقضت فترة طويلة أو قصيرة. 
لم شق الصمت صوت باطيٌ يصرخ في أذنه 
«انتهى . . . »: وتخايلت لعينيه صورة أمّه كيا رآها منذ 
ساعة واقفة بينه وبين حسن في حيرة يائسة والرجل 
يتونب للفرار. ود تلك اللحظة لو يقتحم تجارب الكفر 
والقسوة والموت «ماذا ينتظر هذا الضابط أن أفعل؟. . 
ماذا ينبغي أن أفعل؟ رئاه كيف أغادر هذا 
المكان؟!». . ثم سمم الرجل يقول: 

- لقد قدّمت ما عندي من واجب نحوك فهات ما 
عندك من ححكمة. . 

فسأله بدوره وهو يتحامى عينيه : 


- أين الآخر؟ ! 


م١"‏ بداية وغباية 


درل القنارطط نا يفيه لقال ولوق ل اود 

تتفي هله الكهراء كدر للق مير اح 

فغمغم قائلا: 

لنترك هذا المكان شاكرين. 

بن 

قُْ الخارج لفحه هواء بارد وكان الظلام قد خيم 
فابتعد عن نقطة البوليس في خطوات ثقيلة تتبعه هي 
على بعد ذراع منكسة الوجه. سارا مع قضبان الترام 
ولى يكن يدري أين ينتهي به المسبر لأله لم يسبق له 
المجيء لهذا الحيّء ومع أن الليل كان في أوّله إلا أن 
الطريق بدا مقفرّاء وتساءل في نفسه ترى أين ينتهي 
الطريق؟. . ثم بدا له تساؤله آية في الغرابة» فلم 
يكن المهمٌ أن يعرف أين ينتهي الطريق ولكنّ الجدير 
بالمعرفة حقًا أن يعلم ما هو صانع وعباه. كان محسب 
أنّه سيبدأ بالتنفيذ توا بعد خرووجه من النقطة» وكانت 
هي تتوقم هذاء ولكنٌ أقدامهما تقدّمت ببما دون أن 
يفعل شيثاء وكان يشعر بوجودها وراءه في ميق لا 
تحتمل. وبسمع وقم قدميها كأنّه رصاص في ظهره. 
ويمحو أوْل فال أية رغبة في أن ينظر إلى الخلف. ومع 
أنه بدا في صمته ‏ ذلك الصمت اطائل الذي وقف 
حائلا بينها - وكأئه يفكر تفكيرا متواصلا إلا أنّه في 
الحقيقة كان فارغ الرأس. كان فارع الرأس بحال 
مزعجة, لم يُرِدْها إرادة» ولكتبا فرضت عليه قسرًا 
وبثت في نفسه إحساسًا بالقلق.» إحساس من يتليّقف 
على السيطرة على إرادته سيطرة غاشمة فلا يجد إلى 
ذلك سبيلًا. واصطدمت قدمه بيحجر صغير اعترض 
سبيله فانطلقت في صدره شرارة حنئق». وكأئها جذبت 
إلبها أفكاره الحاربة في الظلام» وسرعان ما وجد نفسه 
يساءل في صمت أمخنقها؟.. أبمحطم رأسها 
بحذائه؟. . لا بدّ لصدره من متنفس. وظلّ الصمت 
الجهنّميّ سائدًا. وبينا كان يجمع عزمه لرحزحة هذا 
الصمت تطوعت هي - وهو ما عجب له لزحزحته . 
فسمعها تغمغم في نيرات مرتعشة متهدّجة قائلة : 

- لقد أجرمت. إن أعلم هذا... ولن أسالك 


غفرانا لست جديرة به. 

هل حمًا واتتها قواها على الكلام! يا للشيطان! 
وأحدث صوتها ‏ على ضعفه - زوبعة من الهياج في 
صدرهء زوبعة عمياء طاغية صبّت الغضب في أطرافه 
صبًا فتوقف عن السير والتفت نحوها في سرعة غريبة 
وارتفع ذراعه في الحواء وهوى على وجهها كالقذيفة 
فتراجعت مترنحة دون أن تنبس ثم سقطت على ظهرها 
واصطدم مؤخر رأسها بالأرض. لم تنبس بكلمة ولا ند 
عنها أي صوت. ولكتّها جلست على الأرض بسرعة 
م لمت نفسها ووقفت وأخملدت في التراجع حىّ 
ارتكنت إلى جدار بيت. واقكترب منا فتراءى لعينيها 
تصميمه رغم الظلمة التي تُظِلٌ وجهه فلوّحت له بيدها 
كأئها تسأله أن يقف ثم اندفعت قائلة في عجلة 
وتوسل : 

- قفء لا تفعل. لست أخاف عل نفسى ولكب 
اكاكسا ته :11 | ردا اذ مكلك مره سي 7 

وزادته رقة كلامها هياجًا على هياج فصاح بها 
بصوت كالخموار: 

- لا تريدين أن يمسن السوء بسبيك؟!. . يا عاهرة 
اكد يي الشموع ها هنا 

فأعادت بتوسل 0 

دولك لا أطيق أن يسيكوا اليلكه ولو كان اليف 
هلاكي , 

- هذا مكر حقير لن ينفعك في إنقاذ حياتك 
الحقيرة. هيهات, لن ينالبى سوء بقتلك . 

فهتفت في حرارة: 

- لا ينبغي أن يمسّك عقاب وإن هان. ثمٌ مماذا 
قبت إذا سكل عا دفعك إلى قتل؟! دعني أقم أنا 
ببذه المهمة فلا يكدّرك مكدر ولا يدري أحد. 

فتساءل فيها يشبه الذهول: 

تقتلين نفسك؟ ! 

فقالت وهي تلهث: 

. 0 

شعر فجأة ‏ قبل أن يتالك نفسه - بن حملا ثقيلا 
تزحزح عن عاتقه وهوى بعيدًا. كان مدفوعًا بغضب 


مستعر وإحساس معذّب بالواجب ولكنّ العواقب - 
كذيوع الفضيحة والعقاب ‏ ما فتكت تتخايل لعينيه» 
فالآن بعد هذا الحكم الذي قضت به على نفسها يسعه 
أن يستردٌ أنفاسه وأن يستبين بصيصا من النور في هذه 
الظلمة الخانقة. وغمغم متسائلًا وهو لا يزال مستغرقًا 
فى أفكاره: 
- كينف؟ 

فقالت وهي تردرد ريقها: 

- بأيّ وسيلة كانت . 

فتفكر قليلا متجهّم الوجه ثم قال وهو يرمقها 
بقسوة : 

- النيل. . . 

فقالت مبدوء: 

فنفخ حنمًا وضيمًا ثم تراجع في تثاقل وهو يغمغم 
«وهلمي ) فغادرت الحدار وتقدّمت في خطو ثقيل» ثم 
ادس تفع راض القين تممه 4 كان لعن 
هذه المرّة شيئًا من الطمأنينة ولكنّ غضبه فقد عنصرًا 
كان يعترٌ به وهو لا يدري. فقد شعورًا بالكرامة كان 
يلازمه وهو مصمّم على قتلها بنفسهء فاستحال من 
شخص يندفع وراء الكرامة إلى آخر ينشد السلامة. 
وغصٌ حيئًا بقهر خانق ولكنّه لم يكن من القوّة بحيث 
يعدل به عا تراءى له من سبيل النجاة» ولم يكن من 
الضعف بحيث يتركه في سلام» ونفس عن صدره 
قائلًا في خشونة : 

كيف فعلت هذا؟!.. أنت؟!. . من كان يتصور 
هذا! 

فتمبدت قائلة في استسلام اليأس : 

أفق رننا, 

فصاح مرججرا: 

عر انر العولان. 

فقالت بنفس الصوت المتنبد : 

العو 

فتردّد لحظة ثم تساءل : 

< من هو؟ 


بداية وباية 814 

فسرت في جسدها رعدة وقالت بذل: 

- لا تعب نفسك ولا تعذبني» سينتهي كل شىء 

- أكان يعرفبي؟ 

فقالت بعجلة وتوكيد: 

ا 

فتردد مرة أخرى وقد تضاعف عذابه ثم تساءل: 

أول مرة؟ ! 

فعاودتها الرعدة بيد أمْها قالت بتوكيد أيضا؛ 

00 

فضرب الأرض بقدمه وصاح بها : 

- كيف استسلمت للغواية؟ 

أمر الشيطان . 

أنت الشيطان. . . لقد قضيت علينا. 

فهتفت في رجاء : 

للقيو اللاو سنكي قل قن لان ران 
يدري أحد. ْ 

- أتعنين ما تقولين؟ 

- طبعا, . , 

- وإذا ساورك الخوف! 

كلاء إن ما ورائي في الحياة أفظع من الموث. 

وعادا إلى الصمت وكلاهما يشعر بجهل ونصب, 
ومضى يمد البصر مع قضبان الترام في حيرة» ثم سألا 
بلههجة ساخرة : 

- إلى أين نحن ذاهبان» فلعلّك أدرى ببذا الحيّ 
مني ؟ 

وم تجبء ولكن تقبّضت أساريرها من الألم. ثم 
لاح هما ميدان الظاهر فتراءت لعينيه) آثار الحياة 
والعمران وترامت لأذنيهما أصوات لأحياء. وجعل 
ينظر في قلق حبّى ثبتت عيناه على صففٌ من التاكسيات 
فمغى إلى مقدّمها وفتح لها الباب فدخلت ثم دخل 
وراءها. وفكّر قليلا والسائق ينتظر أوامره: ثم قال له 
بصوت منخفض : 

جسر الزمالك من فضلك. 


"6٠‏ بداية واية 


رك 

انطلقت السيارة بسرعة إلى شارع فاروق في طريقها 
إلى العتبة ثم إلى أمبابة. 

كانا يجلسان كغريبين؛ أما هو فقد ألقى ببصره إلى 
الطريق خلال النافذة موليًا إيّاها نصف ظهره وأمًا هي 
فقد خفضت رأسها وغابت في ذهول عميق. لم يكن 
في رأسها شيء, أو شيء ذو بال؛ كأنه السكون الذي 
يعقب عاصفة هوجاء أو جمود الموت بعد نزع أليم. 
وقد بلغ بها الحياج ذروة الحنون قبل أن تسقط مغمى 
عليها وبعودتها إلى الوعيى تكالبت عليها الأفكار 
المفزعة. واستعرضت عيئاها شريط حياتها في رعب 
جهنم حبّى أثقلت ال هموم رأسها فانحنى على صدرها 
كما يدحني رأس من سدّت في وجهه منافذ الحياة تحت 
جدار منبار. وبعد ما كان من الانهيار الكامل وظهور 
حسنين» وما كان بيهها في الطريق» شعرت بأن كل 
شيء قد انتهى » وأخلى الول مكانه من رأسهاء تاركًا 
وراءه فراعًا صامنّاء فلم بعد به شيءء أو شىء ذو بال 
إلا أن تكون ذكرى بعيدة من ذكريات الصبا أو منظرًا 
مما ينعكس على عينيها من أرض السيّارة. بيد أنّْها 
كانت تكابد تجربة جديدة لا عهد لها مها من قبل» إذ 
غائكغلييا أطلياة »ما بالفعل لا بالقول» هانت 
المهوان الذي يجعل من الموت نجاة. أجل طالما تذمرت 
فيها مضى من حياتها وسخطتء حيّى عَنْت الموت 
الخبانك ولكتها لم تسم إليه مع ذلك لأنّه كان ثمّة أمل 
في الحياة يدب متواريًا في أعماقها. الآن تقطعت بها 
عن الدنيا الأسباب؛, واقتلعت الجذور التى تشدّها 
للبقاء. ووجدت مع هذا الياس العميق راحة 
زحزحت عن كاهلها الأعباء. فلم تعد تفكر في شيء 
ذي بالء ورمقت الموت الذي تنهب الأرض إليه 
باستسلام كأنه التخدير. وقد دارت السيّارة حول 
منعطف وهي منطلقة في سرعتها فارتيّت الفتاة في 
بجلسها وتنبهت إلى ما حولها فيما يشبه الفزع» ومع أمْها 
ظلّت منكسة الرأس إلا أنا أحسّت بوجوده إلى جانبها 
وتراءى شبحه الجائم عن بمينها لِلْحخظها في غموض 
فتقيض قلبها ألما وخزيًا «ترى فيم يفكّر؟ ألا يجد غير 


البغض والغضب؟ متى يمسي كل شيء وقد انقضى؟ 
هذه هي النهاية الوحيدة. ترى هل تحدس أمي 
الحقيقة؟ لا داعى للتفكير. إن هيتة». 

رامع تون وار ا ستر مر الأققيات يداد 
الغضب واليأاس والرهبة. «كيف تنتهي هذه المحنة؟ 
وكيف أخخرج منها؟. . أيمكن حقًا أن يسدّل عليها 
الستار دون أن تفوح منها رائحة حريّة بأن تجعل من 
هذا العناء كلّه عبثًا لا طائل تحته؟ إن أختنق. إِنّ 
الماضي لا ينمحي ولكنّه يسابق مستقبلي. اذا لا نعيش 
بلا مبالاة؟ قضي الأمر ولا داعي للتفكير في هذا. لا 
داعي للتفكير مطلقًا. ما أشدٌ عذابيء كيف أتغلب 
على هذه التعاسة كلّها! مهلاء إن أسوقها إلى الموت. 
وهي تعلم أمْا تساق إلى الموت. ترى هل تواتيها 
القدرة؟ لا شك أمْها تفكر الآن تفكيًا متواصلا. 
ولكن فيا تفكر؟ لا ينبغي أن أفكر فيها. الموت خير 
نباية ها. لا يمكن أن تلتقي عينانا فهو فوق ما أحتمل 
وفوق ما تحتمل هي . الأمر يتعلّق بأختك, آه قائَلَ الله 
هذا الضابط. يؤسفني أن أخيرك أْها ضبطت في بيت 
بالسكاكينة كن يصون هذا] :وليسن المتوت» يتبائنة 
ولكنّه بداية لتعاسة أخرى تنتظرني في البيت. حي متى 
أواصل هذا التفكير؟ أيّةَ مدخنة هذه؟ لعلّه مصنع. 
نحن ثقترب من جسر أبي العلاء. هله المدخئة تنفث 
ونان أسود كثيماء لو محترق أفكاري وتذوب في 
أنفاسي لزفرت أقذر منه. لا أريد أن يمسّك سوء 
سببي . صدقت. يجب أن تبلكي وحدك. متى يطوي 
الطريق !». 

وعبرت السيارة جسر أبي العلاء فاندفعث إلى 
داخلها موجات غامرة من هواء بارد رطب مشبع بأريج 
النيل فاستقبله الشابٌ بترحاب مَن يُصّلٍ نارًا حامية 
على حين سرت في أطرافها رعدة بنّت في حناياها نحوقًا 
غامضاء ودام الحظات ثم ارتدّت بعده لحالها الأولى من 
الاستسلام والتمود واليأس. وضاعفت السيّارة من 
عركها حك :ازنك مجر انا فلت زه اقددايها 
رويدّاء ثم التفت السائق نحو حسنين متسائلا فقال له 
هذا بصوت منخفض «(قفام0) ودفم له حسابه وغادر 


السيّارة فغادرتها أيضًا من الباب الآخرء وما لبث 
التاكسبى أن عاد من حيث أق فوجدا نفسيهها وحيدين 
على كنب من مدخل الحسر. وكانت المصابيح المقامة 
على جانبي الحسر تشع نورًا قويًا أحال ظلمته نورّاء 
بينا أطبق الظلام على ضفاف النيل بطول امتداده 
شمالا وجنوبا ‏ رغم المصابيح المتباعدة الخافتة ‏ فبدت 
الأشجار المتراصة على جانبيه كأشباح عمالقة» وكان 
المكان مقفرًا إِلّا من مارٌ مسرع هنا أو هناك وقد 
تناوحت الغصون بأنين ريح باردة كلما كفت هبويها 
تعالى هسيس اللنبات كالهمس . لازما موقفههما في جمود 
كالذهول. ثم استرق إليها النظر فراها مقوسة الظهر 
قليلا مدكسة الرأس غير أن منظرها لم يلق من صدره 
إلآ قلبًا متحجُّرًا ونَفْسَا خئق الهم فيه كلّ رحمة. وثار 
حنقه على حموده فجأة فقال بغلظة: 

أأنت مستعذة؟ 

فغسغمت بصوت غريب لا عهد له به: 

ل نعم . . . 

ونفذ الجواب على بساطته إلى أعماقه فلم يعد يطيق 
موقفه. وتزحزح عنه في خطو ثقيل» وقبل أن يبتعد 
عنها ذراعين سمعها تقول بتوسل : 

- لا تذكر إساءت : 

فندٌ عنه صوت غليظ وهو يوسع خخطاه كال مارب 
قائلا : 

فليرحمنا الله حميمًا. . . 

تركها وحدها حيال الجسرء وهدف إلى الطوار 
الممتدّ إلى يمين الحسر على شاطئ النيل» ثم جد في 
المسير. حدّثته نفسه بالهرب ولكن قوّة غشومًا جعلت 
تجذبه إلى الوراء» وخارت مقاومته عند شجرة 
صفصاف ضخمة الجذع على بعد ثلاثين مترًا من مبدأ 
الطور فتوارى وراءها في إعياء وأرسل الطرف نحو 
الجسر. ولاح له الجسر كتلة صِيَّاء متوهجة بأنوار 
المصابيح تمسك من طرفيها بالشاطثين في عناد وتصميم 
كأنه وحش يغرز أنيابه في فريسته. وعند رأس اللجسرء 
وعلى الجانب المواجه له. رآها تتحرّك في خطو ثقيل 
خافضة الرأس» يعلوها جمود غريب كأئها تمشى في 


بداية ونباية اا 


سبات. رآها في وضوح تام تحت الأضواء المشرقة 
فثبتت عيناه على جانب وجهها المنعكس وهي تقطع 
الأرض قَدّمًا قدَّمًا حيّى بلغت المنتصف فتوقفت عن 
المسيرء ورفعت رأسهاء وأجالته فيما حوهاء ثم 
استدارت نحو السوز وألقت ببصرها إلى الماء 
المصطخب الخارى. وجعل يكتم أنفاسه ويزدرد في 
تشنّج ريقه الجاف وهو يترقبء. ولكن ظهر ني تلك 
اللحظة عند الطرف الآخخير من المسر رجلان ومضيا 
يقطعان الجسر في سرعة وهما يتحدّثان» ثم لاح الترام 
القادم من أمبابة وهو ينعطف نحو الجسر ممرّقا الصمت 
بعجيجه, فاستردٌ الشابٌ أنفاسه ولكن إلى حين قليل. 
وسرعان ما ركبه القلق والضيق. وكان قلبه يخفق 
بعنف حيّى خيّل إليه من شدّة وقع النبض في أذنيه أن 
العالى الخارجيّ يسمع دقات قلبه. ثم مرّت به الحظات 
فتوهم أنه يشهد منظرًا غريبًا عنه لا شأن له به ولكتها 
كانت لحظات ثم انقضت وغلبته الرهبة على ما في 
نفسه جميعًا فلم يعد يستشعر حقدًا ولا غضبّاء ثم 
اعتركت الأفكار في رأسه في ثوانٍ فشعر في حيرته بأنْه 
يروم حل مسألة معقّدة غامضةء ولكن لا قدرة له على 
حلّها أو ليس لديه فسحة من الوقت للتفكير فيهاء فهر 
منها في حيرة أي حيرة. وفي أثناء ذلك كان الرجلان 
قد عبرا الجسرء وسبقها الترام إلى الطريق» وما زالت 
الفتاة تحملق في الماء. ونظر هنا وهناك فلم ير أشرًا 
9 
لإنسان. وتجمعت نفسه في لحظة ترقب مليئة بالفزع 
والرعا نرانا تلق :اميا 1 وكوي 
وفي حركة سريعة يائسة تسؤرتث السور. وزلزل قلبه 
وهو يتابع حركاتها وجحظت عيناه؛ لا يمكن. . . ليس 
هذا... أما هي فألقت بنفسهاء أو تركت نفسها 
تمبوي» وقد انطلقت من حنجرتها صرحة طويلة 
كالعواء تَثْل لعيث المبتلي بسماعها وجه الموت». فجاويها 
بصرخة فزع ولكتها ضاعت في صرختها. وشعر وهي 
ترمي بنفسها أنْ بوسعه أن يجد للمسألة المعقّدة التي 
تمه حلاء ولم يكن الحلّ فيها فعلت بنفسهاء كان 
يمكن أن تكون ناية أخرى» وكأنما حاول أن يستدرك 
الخطأ بصرخته ولكتها ضاعت, ثم صلكك مسمعيه 


5" بداية ونباية 


اصطدامها بلماء فنلذث عنه صرخة أخرى 
2 

ونب إلى منحدر الشاطرء وعيناه تحملقان في المكان 
الذي ابتلعها تحت الجسر, ثم جمد في موقفه يكاد 
وراد ل لو داك وتوقعم مات 
أن تطفو على ظهر الماء ثم أدرك أَنْ النيل الع ا 
تحت الحسر لا بد أن يكون قد جرفها معه فلعلّها 
تتخبّط في جوف الجسر أو تغوص فيما يليه من النهر. 
ومرٌ بخاطره أن ينزع سترته ويقذف بنفسه وراءها لعلّه 
ينتشلها ولكنّه لم يرك ساكناء ووجد هذه الخاطرة ما 
يشبه السخرية المريرة فازداد حمودًا وشعر بأنْه لى يعد 
لعقله سيطرة عليه. وما يدري إلا وصوت من وراء 
يسأله باهتمام محسوس: 

- أسمعت صرخة؟ 

فالتفت إلى الوراء فرأى شرطيًا تنم -حركاته على 
الاهتام فقال له في ذهول: 

- نعمء لعله غريق. . 

وجعل الجندي يحدّق في الظلام فوق النهر ثم حثٌ 
خطاه نحو الجسر. وأعاده الجنديّ إلى شيء من وعيه 
فتراجع إلى موقفه الأؤل ولم يعد في طاقته أن يضبط 
نفسه فاندفع عدوا صوب الحسر ثم غيره إلى سوره 
المطل على الناحية الأخرى من النهر وألقى ببصره إلى 
التبار المتدفق. وما لبث أن رأى آثارًا للحادثة لا 
تخطئها العين» رأى قاربًا يشقٌ الماء بسرعة قادمًا من 
الشاطئ الأيسر نحو وسط الغبر» وسمع أصوات 
استغاثة وصراخا آتية من الشاطئ البعيد. وكان سطح 
الغبر فيها يلي الجسر مضاء بما ينعكس عليه من أنوار 
المصابيح فتصفّحته عيناه هنا وهناك, ولكنّه لم يعثر على 
ضالته. ثم تبعت عيناه القارب الذي أخذ يقترب من 
الوسط شافًا سبيله في الرقعة المضاءة؛ ثمّ الدع مع 
التيار حيّى خرج عنها إلى الظلام. ووجد نفسه يتساءل 
«ترى هل يفوز القارب قُِ سباق الموت هذا؟؛. وم 
يستبن حقيقة مشاعره؛ أو لعلّه هرب من باطنه بتركيز 
حواسّه في القارب تتابعه حيّى رآه يتوقف عن 
التجديف ثم رأى شخصًا يقفز منه إلى الماء. على حين 


تعالت أصوات الباقين بالقارب. هذه هي اللحظة 
الفاصلة. وتتابع خفقان قلبه حبّى جف حلقه. وحاول 
عبثًا أن يرى شيئًا خلال الظلمة التى لفت القارب أو 
أن يميز كلمة معترة في هدير الأصوات المختلفة. م 
كَلَّ منه البصر فلم يعد يرى شيئًا وكأنّه عمي . وأخذ 
بتنبه - دون التفات ‏ إلى تجمهر شخلق كثيرين حوله. ثم 
سمع أحدهم يقول : 

- القارب يعسود إلى الشاطئ فلعلّه انتشل 
الغريق. . . 
وتَشَّت في أوصاله رجفة وتساءل «ترى أنجت أم 
هلكت؟ أذهب أم أفْرٌ؟!) ولكثه تحول عن موقفه وسار 
في انجاه الشاطوع الذي يقصده القارب مدفوعًا برغبة لا 
تقاوم في تعذيب نفسه إلى أقصى حدّء وم يعد السير 
ليسعف جزعه فأطلق ساقيه للريح وعيناه تسبقانه إلى 
بقعة من الشاطئ تجمهر عندها كثيرون. وبلغها 
والقارب يرسو إلى الشاطئ فدنا من المتجمهرين 
بساقين متخاذلتين واندسٌ بينهم وأطرافه ترتجف على 
رغمه ثم ألقى بعينين متحججرتين إلى القارب الذي 
اكتنفه ستار خفيف من الظلمة. وكان يقف غير بعيد 
مله ضابط النقطة المواجهة للشاطئ ونفر من الشرطة . 
ثم بدت أشباح الرجال وهي تنتقل من القارب إلى 
الشاطوع حاملة بينها الغريق فصاح بعض المتجمهرين : 

دل عافن لغرد 

وأرهف السمع ليتلقّى الجواب ولكن لم 0 
أحدهم بكلمة ومضوا يرئقون منحدر الشاطىء في شىء 
من الجهد والأعين محدقة بهم حت ميّزت حقيقة الحمل 
فصاح بعضهم في ارتياع : 

- إِنّبا امرأة يا ولداه! 

وتساءل آخر: 

- كيف غرقت؟ 

فصاح غلام : 

- رمت بنفسها من فوق الجسر فرأتها زوج النوق 
واستصرخحتث زوجها لإنقاذها . . 

وجعل حسنين يتبعهم ناظريه في طائف من الغرابة 
والذهول فلم يدر كيف يصدّق أن هذه هي أخته وأنَّ 


أحدًا لا يعلم بذه الحقيقة وأنّه لا يفعل شيئًا إلا أن 
يقف بينهم كالغريب المستطلع. وبلغ الرجال طوار 
الطريق وشرغان ها نقطوا إل عتيلية الأسعاف للفرغوا 
ما في جوفها من ماء. وقد أمر الضابط العساكر 
بتشتيت المتجمهرين ولكنّ أحدًا مهم لم يتعرّض 
لحسنين فليث بممكانه جامدًا لا يطرف لا تتحول عينئاه 
عن الجسم المقوس الذي تعبث به أيدي الرجال 
الغليظة . وانتبه الضابط إليه فاقترب منه وحيّاه بإهاءة 
من رأسه وسأله: 

أشهدت الحادث! 

فخرج الشابٌ عن ذهوله في انزعاج ولكنّه أجاب 
بعجلة : 

كاي 

وأنام الرجل الفتاة على الأرض وجثا أحدهم إلى 
جانبها ثم جسٌ نبضها وألصق أذنه بصدرها فوق 
القلب» ثم رفع رأسه قائلا : 

صعد السرٌ اولي إلى بارئه. لا حول ولا قوة إلا 
بالل . . ْ 

وعاود الشاتٌ إحساسه بالغرابة» وغلبه الإحساس 
على ما عذاه. فلم يشعر لا بحزن ولا بارتياحء ونم 
يتحرّك فكره لا إلى الأمام ولا إلى الوراء» وكأنّه لم يطق 


هذا الفراغ المخيف فركّز انتباهه في الحثّة الراقدة غير 


بعيد عن قدميه. جرى بصره عليها وقد تبعثر شعرها 
والتصقث خصلات منه بنحُذها وجبينباء وران على 
الوجه جمود صامت لا يبشّر بيقظة وعلته زرقة مروعة. 
وخيل إليه أنه يرى أنخاديد دقيقة حول الفم الفاغر 
والعينين كأبّبا تقلصات العذاب الذي كان آخر عهده 
بالدنياء» أمَا الفستان المشبع بالماء فقد لزق بالحسد 
وتلوؤئثت أهدابه بتراب الأرض فتطينت» وبدت قدم ما 
تزال ممسكة بفردة حذائها والأخرى في جوربها. ورجع 
بصره إلى وجهها فجاش صدره وامثتلاً فراغه 
باضطراب وثوران «لاذا أضطرب هكذا؟ أل أقتنع حقا 
أن هذه هي خير نهاية! ألم أسقّها إلى الموت بنفسي؟ 
ينبغي أن تطمئن نفسي . بيد لني أتساءل عا داخلها 
من شعور وهي تبوي إلى الماء؛ وكيف تلقى جسمها 


بداية وباية 751 


النحيل صدمة الماء الغليظ. وماذا دار بذهنها وهي 
تتتخبّط بين أمواجه. وأيّ جهد وجدث والطمي يكتم 
أنفاسهاء وأيّ عذاب ذاقت ورغبة الحياة تثب بها إلى 
سطحه فيشدّها باطنه إلى الأعماق. إِنْ محاولة الغريق 
اليائسة للنجاة أشبه بأحلام الشقيّ بالسعادة. كلتاهما 
أمنية ضائعة. أتراها تراني الآن من عالمها الآخر؟ 
أراضية هي أم غاضبة أم ساخرة؟! ماذا ترى في 
موقفي هذا؟ لماذا وقع هذا كله». وذكر بغتة أمّه 
فحجبت صورتبها الجنّة عن عينيه. وهر رأسه كأئا 
ليطردها من غيّلته. وصمُّم بقوة على أن يتحامى 
التفكير فيهاء وعاد بانتباهه المحموم إلى الحثّة. وعلى 
رغمه وجد نفسه يتذكر أيادي الفتاة عليه ما كانت 
تكن له من حبٌ وما جادت به من كرم» فا كان يخطر 
لما ببال أن تكون نبايتها على يديهء وشعر بإعياء وقنوط 
وتساءل في جزع ولاذا هذا كله؟». وأغمض عيئيه لأله 
لم يعد يطيق النظر إليها. كان رأسه محموماء وغيض 
الهم كل رغبة في الحياة في قلبه» وانقلب وجه الدنيا في 
عينيه كهذا الوجه الأزرق الناطق بالعدم. وقال 
لنفسه. وهو يتتبّد من الأعماق دربا لقد قضى عل». 
وسمع عند ذاك صوت الضابط وهو يأمر الشهود 
بالذهاب معه إلى النقطة. ثم رأى الثّة تحمل ورأى 
القوم يمضون بها إلى الجهة الأخرى من الطريق 
فأتبعهم طرفه حبّى حال الظلام بيئه وبينهم. وفي أقل 
من دقيقتين وجد نفسه وحيدًا يكتنفه حفيف الأشجار 
التي تكاد تطبق أغصانها الغليظة الملتوية على البقعة 
كلها. وتراجع في تراخ وترئح حتّى أسند ظهره إلى 
جذع شجرة وراح فيا يشبه السبات وكأنه يتردذى في 
هاوية معتمة ليس بها بارقة أمل. قفي علّ. كنا 
جميعًا فريسة للشقاء فها كان ينبغي لأحدنا أن يعين 
الشقاء على أخيه. ماذا فعلت؟ إِنّه اليأس الذي فعل» 
ولكيٌ فضيت عليها بالعقاب الصارم. أي حقّ اتخْذت 
لنفسى! أحقّ أني الثائر لشرف أسرتنا؟! إن شر الأسرة 
يما حقيقة يعرفها الجميع» وإذا كانت الدنيا قبيحة 
فنفسي أقبح ما فيها. ما وجدت في نفسي يوبا إلا 
قَئْيات الدمار لمن حولي فكيف أبحث لنفسي أن أكون 


4" بداية ونهاية 


نظرة على ما حوله في حبرة وخوف «أين أذهب؟ أيمكن 
أن أمرق من هذه المحلة كيا مرقت من غيرها من 
قبل؟. . لشدٌ ما تبزأ بي الأماني. لا تبال» حسن. . 
النسيان ثم السعادة. هاها. إن أعبث بنفسي بلا 
رحمة. طالما أحببت أن أممو الماضبى» ولكنٌ الماضى 
النَهَمّ الحاضر. ول يكن الماضي المخيف إلا نفسيء لماذا 
لا أواصل الحياة مبذه الأعباء؟ لا أستطيع. كان ينبغي 
أن أحبّ الحياة إلى النباية» ومهما يكن من أمرء ولْكنّ 
في طبيعتنا خطأ جوهري لا أدريه. لقد قضى 


واستوى واقمًا ما لأنه ضاق بمسنده وإمّا لأنّه وجد 


حافرًا جديداء وابتعد عن الشجرة وهو يلقي نظرة 
الوداع على نقسطة البوليس ما في شعوره إلا السام 
والنزوع إلى الهرب. «لا أريد أن يمسك سوء بسببي . 
أمر ربنا. أمر الشيطان. النيل. ليكن. وإذا ساورك 
خوف. كلاء إِنْ ما ورائي في الحياة أفظع من الموت. 
أأنت مستعدة؟ اذا تغيب الملازم حسنين؛ ألم يرسل 
خحطاب اعتذار؟ رأيت صاحب هذا الوجه عقب 
انتشال الحثة وسألته هل شاهدت الحادثة وكان 
مذهولا.» وبلغ الموضع نفسه من لسر فارتفق السور 
وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياج 
واصطخاب. وأنحلى رأسه من الفكرة. «إذا أردت 
هلم. لن أصرخ. فلأكن شجاعا ولو مرّة واحدة. 
ليرحمنا الله , . ». 





١ 

عند منتصف الليل استيقظت,. كيا اعتادت أن 
تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من 
مه أو غيره ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها 
فتواظب على إيقاظها في دقّة وأمانة. وظلت لحظات 
على شلكٌ من استيقاظها فاختلطت عليها رؤى الأحلام 
وهمسات الإحساس. حتى بادرها القلق الذي يلم بها 
قبل أن تفتح جفنيها من حشية أن يكون النوم نحائها 
فهرّت رأسها هزة خفيفة فتحت عينيها على ظلام 
الحجرة الدامس. لم يكن ثَمَةَ علامة تستدلٌ بها على 
الوقت. فالطريق تحت حجرتها لا ينام حيّى مطلع 
الفجرء والأصوات المتقظعة التى تترامى إليها أل 
الليل من سار المقاهى وأصحاب الحوانيت هي التي 
تترامى عند منتصفه وإلى ما قبيل الفجرء فلا دليل 
تطمئنّ إليه إلا إحساسها الباطن ‏ كأنّه عقرب ساعة 
واع - وما يشمل البيت من صمت ينم عن أن بعلها م 
يطرق بابه بعد ولم تضرب طرف عصاه على درجات 
بلع 

هي العادة الى توقظها في هذه الساعة» عادة قديمة 
صاحبت شبابها منذ مطلعه ولا تزال تستائر بكهولتها. 
تلقّنتها فيما تلقنت من آداب الحياة الزوجيّة. أن 
تستيقظ في منتصف الليل لتنتظر بعلها حين عودته من 
سهرته فتقوم على خدمته حتّى ينام. وجلست في 
الفراش بلا تردّد لتتغلب على إغراء النوم الداق 
وبَسْملّت ثم انزلقت من تحت الغطاء إلى أر 
الحجرة. ومضت تتلمس الطريق على هدي عمود 
السرير وضلفة الشبّاك حيّى بلغت الباب ففتحته. 
فانساب إلى الداخل شعاع خافت ينبعث من مصباح 
قائم على الكونصول في الصالةء فدلفت منه وحملشه 


ين القصرين بام 


وعادت به إلى الحجرة وهو يعكس على السقف من 
فوهة زجاجته دائرة مهترّة من الضوء الشاحب تحف به 
حاشية من الظلال» ثم وضعته على خوان قائم بإزاء 
الكنبة. وأضاء المصباح الحجرة فبدث برقعتها المرئعة 
الواسعة وجدراما العالية وسقفها بعمذه الأفقيَة 
المنوازيةء إلا أئها لاحت كريمة الأثاث ببساطها 
الشيرازيّ وفراشها الكبير ذي العمد النحاسيّة الأربعة 
والصوان الضخم والكئبة الطويلة المغطاة ساد صغير 
اللقطع مختلف النقوش والألوان. واتمهت المرأة إلى 
المرآة وألقت على صورتها نظرة 3 منديل رأسها 
البي متكمشًا متراجعا وقد تشعَثت خصلات من 
شعرها الكستنائيّ فوق الجبين؛ فمدّت أصابعها إلى 
عقدته فحلّتها وسوّته على شعرها وعقدت طرفيه في 
أناة وعناية» ومسحت براحتيها على صفحتي وجهها 
كانما لتزيل عنه ما علق به من آثار النوم . كانت في 
الأربعين متوسّطة القامة تبدو كالنحيفة ولكنّ جسمها 
بس متلق في حدوده الضيقة لطيف التنسيق والتبويب. 
أما وجهها فائل إلى الطول مرتفع الحبين دقيق 
الفسرات. ذو عيئنين صغيرتين جميلتين تلوح فيها نظرة 
عسليّة حالمة؛ وأنف صغير دقيق ينّسع قليلا عند 
فتحتيه» وفم رقيق الشفتين ينحدر تحتههما ذقن مدبب». 
وبشرة قمحية صافية تلوح عند موضع الوجنئة منهبا 
شامة سوادها عميق نقيّ. وقد بدت وهي تتلفع 
بخارها كالمتعجّلة. واتمهت صوب باب المشرييّة 
ففتحته ودحلت. ثم وقفت في قفصها المغلق تردد 
وجهها بمنة ويسرة ملقية نظراتها من الثقوب المستديرة 
الدقيقة التي تملأ أضلافها المغلقة إلى الطريق . 

كانت المشربيّة تقع أمام سبيل بين القصرين. 
ويلتقى تحتها شارع النحّاسين الذي ينحدر إلى الجنوب 


م" بين القصرين 
وبين القصرين الذي يصعد إلى الشمالء فبدا الطريق 
إلى يسارها ضِيّقًا ملتويًا متلفعًا بظلمة تكثف في أعاليه 
حيث تطل نوافذ البيوت النائمةء وتخف في أسافله مما 
يُلقى إليه من أضواء مصابيح عربات اليد وكلوبّات 
المقاهي وبعض الحوانيت التي تواصل السهر حت 
مطلع الفجرء وإلى يمينها التف الطريق بالظلام حيث 
يخلو من المقاهىي» وحيث توجد المتاجر الكبيرة التي 
تغلق أبواسا مبكرّاء فلا يلفت النظر به إلا مآذن 
قلاوون وبرقوق لاحت كأطياف من الْرّدْةَ ساهرة تحت 
ضوء النجوم الزاهرة. منظر ألِفْنّه منها العينان ربع قرن 
من الزمان ولكتها لم تسأمهء ولعلها لم تدر ما السام 
طوال حياتها على رتابتهاء وعلى العكس وجدت فيه 
أنيسًا لوحشتها وأليمًا لوحدجها عهدًا طويلًا عاشته وكأنه 
لا أئيس ولا أليف لا. 

كان ذلك قبل أن يأتي الأبناء إلى هذا الوجود. فلم 
يكن يحري هذا البيت الكبير. بفنائه التّرب وبثره 
العميقة بوملا ته وعجر انهه الوعة القالمة الا قداساء 
سواهاء أكثر النبار والليل. وكانت حين زواجها فتاة 
صغيرة دون الرابعة عشرة من عمرهاء فسرعان ما 
وجدت نفسهاء عقب وفاة حماتبا وسيّدها الكبير ربة 
للبيت الكبيرء تعاوبها على أمره امرأة عجوز تخادرها 
علد جثوم الليل لتنام في -حجرة الفرن بالفناء تاركة 
إياها وحيدة في دليا الليل الحافلة بالأرواح والأشباح . 
تغفو ساعة وتأرق أخرى حيّى يعود الزوج العتيد من 
سهرة طويلة . 

ولكي يطمئنْ قلبها اعتادت أن تطوف بالحدجرات 
مصطحبة خادمتها مادّة يدها بالمصباح أمامها فتلقي في 
أركائها نظرات متشخصة حائفة ثم تغلقها بإحكام. 
واحدة بعد أخرى» مبتدئة بالطابق الأول مُثنّية بالطابق 
الأعلى. وهي تتلو ما تحفظ من سور القرآن دفعا 
للشياطين» تم تنتهي إلى حجرتها فتغلق بابها وتندس 
في الفراش ولساءا لا يمسك عن التلاوة حيٌّ يغلبها 
النوم» ولَشْدّ ما كانت تخاف الليل في عهدها الأرّل 
العو طلم بوي عابا م عي الى عزنت عن عام 
الجنّ أضعاف ما تعرفه عن عالم الإنس - أنْها لا تعيش 


وحدها في البيت الكبير. وأنْ الشياطين لا يمكن أن 
تضلٌ طويلا عن هذه الحجرات القديمة الواسعة 
الخالية, ولعلّها أوت إليها قبل أنْ تحمل هي إلى 
البيبت؛ بل قبل أن ترى ثور الدنياء فكم دب إلى 
أذنيها همساتهم! وكم استيقظت على لفحات من 
أنفاسهم . وما من مغيث إلا أنْ تتلو الفاتحة والصمدية 
أو أن تمرع إلى المشربيّة فتمدّ بصرها الزائغ من ثقوبها 
إلى أنوار العربات والمقاهي وترهف السمم لالتقاط 
ضحكة أو سعلة تستردٌ بها أنفاسها. 

ثم جاء الأبناء تباعًا ولكمهم كانوا أل عهدهم 
بالدنيا لحا طريًا لا يبدّد خوفا ولا يطمئن جانبّاء وعلى 
العكس ضاعف من خوفها بما أثار في نفسها المتهافتة 
من إشفاق عليهم وجزع أنْ يمسّهم سوء. فكانت 
تحويهم بذراعيها وتغمرهم بأنفاس العطف ونحيطهم في 
اليقظة والمنام بدرع من السور والأحجبة والرقا 
والتعاويذ. أمّا الطمأنينة الحقّة فلم تكن لتذوفها حي 
يعود الغائب من سهرته. ولم يكن غريبا وهي منفردة 
بطفلها تنومه وتلاطفه, أنْ تضمّه إلى صدرها فجاة ثم 
تتنضت في وجل وانزعاج ثم يعلو صوتها هائفة وكائها 
تخاطب شخصًا حاضرًا: «أبعد عنّاء. ليس هذا 
مقامك. نحن قوم مسلمون موحدون» ثم تتلو 
الصمدية في عجلة ولموجة. وعندما طالت مبا معاشرة 
الأرواح بتقدّم الزمن تخففت من غحاوفها كفي 
واطمأنّت لدرجة إلى دعاباتهم التي لم تُمِرٌ عليها سوءًا 
قط فكانت إذا ترامى إليها حسٌ طائف منهم قالت في 
نبرات لا تخلو من دالة: دالا تحترم عباد الرحمن! . الله 
بيئنا وبينك فاذهب عنًا مكرّمًا». ولكنبا لى تكن تعرف 
الطمانينة الحقّة حي يعود الغائب. أجل كان مجرّد 
وجوده بالبيت صاحيًا أو نائًا - كفيلا ببثٌ السلام في 
نفسهاء فتحت الابواب أم أغلقت, اشتعل المصباح أم 
خمد. وقد نحطر لها مرةء في العام الأول من معاشرته. 
أن تعلن نوعًا من الاعتراض المؤدّب على سهره 
المتواصل فيا كان منه إلا أنْ أمسك بأذنيها وقال لها 
بصوته الجهرري في لحجة حازمة: «أنا رجل. الآأمر 
الناهي. لا أقبل عل سلوكي أيّةَ ملاحظة. وما عليك 


إلا الطاعة. فحاذري أنْ تدفعينى إلى تأدييك:. 
اعك هن هذا درس وقر ا حل وتنا صل 
كل شىء ‏ حيّى معاشرة العفاريت - إلا أن يجمّر لها 
عن التقسي نايا الققاعة بيذ قن زلا ركاه 7 
أطاعت» وتفانت في الطاعة حيّى كرهت أن تلومه على 
سهره ولو في سرّهاء ووقر في نفسها أنْ الرجولة الحمّة 
والاستبداد والسهر إلى ما بعد منتصف الليل صفات 
متلازمة لجوهر واحد. ثم انقلبت مع الأيام تباهي مما 
بصدر عنه سواء ما يسرّها أو يحزنهاء وظلّت على جميع 
الأحوال الزوجة المحبّة المطيعة المستسلمة. ولم تأسف 
يومًا على ما ارتضت لنفسها من السلامة والتسليم» 
وإمْها لتستعيد ذكريات حياتها في أي وقت تشاء فلا 
يطالعها إلا الخير والغبطة. على حين تلوح لما الممخاوف 
والأحزان كالأشباح الخاوية فلا تستحقٌ إلا ابتسامة 
رثاء. ألم تعاشر هذا الزوج بعلائه ربع قرن من الزمان 
فجنت من معاشرته أبناء هم قرّة عينيها وبيًا مترعًا 
بالخير والركة وحياة ناضجة سعيدة. . بلء. أما مخالطة 
العفاريت فقد مرّت كا قمر كل ليلة بسلام وما امتدت 
يد أحدهم إليها أو إلى أحد من أبنائها بسوء الله إلا 
ما هو بالمزاح والمداعبات أشبه. فلا وجه للشكوى. 
ولكن الحمد كل الحمد لله الذي بكلامه اطمأنّ قلبها 
وبرحمته استقامت حياتها . 

حبّى ساعة الانتظار هذه على ما تقطع عليها من 
لذيذ المنام وما تستاديبا من خدمة كانت خليقة بأن 
تنتهي بزوال النبارء أحيّتها من أعماق قلبهاء فضلا 
عن أئها استحالت جزءًا لا يتجرأ من حياتها» ومازجت 
الكثير من ذكرياتهاء فإنّها كانت ولم تزل الرمز للحي 
لحديبها على بعلها وتفانيها في إسعاده. وإشعاره ليلة بعد 
أخرى ذا التفاني وذاك الحدب. لهذا امتلأت ارتياخا 
وهي واقفة في المشربيّة. وراحت تنقّل بصرها خلال 
ثقوبها مرة إلى سبيل بين القصرين ومرة إلى منعطف 
الخرنفش وأخرى إلى بؤابة حمّام السلطان ورابعة إلى 
المأذن» أو تسحه بين البيوت المتكاكئة على جانبي 
الطريق في غير تناسق كأئها طابور من الجند في وقفة 
راحة تخف فيها من قسوة النظام. وابتسمت للمنظر 


بين القصرين 4؟م 


الذي تحبه. هذا الطريق الذي تنام الطرق والحواري 
والأزقة ويبقى ساهرًا حبّى مطلع الفجرء فكم سل 
أرقها وآنس وحشتها وبدّد محاوفها لا يغيّر الليل منه إلا 
أن يغشى ما يحيط به من أحياء بالصمت العميق فيه 
لأصواته جوًا تعلو فيه وتوضح كأنّه الظلال التي تملا 
أركان اللوحة فتضفي على الصورة عممًا وجلاء. هذا 
رن الضحكة فيه فكأئها تنطلق في حجرتهاء ويسمع 
الكلام العاديّ فتميزه كلمة كلمة, ويمتدٌ السعال 
ويخشوشن فيترامى لما مله حتّى خحاتمته التي تشبه 
الأنين, ويرتفع صوت النادل وهو ينادي: «تعميرة 
نادية» كهتاف المؤدْن فتقول لنفسها في سرور: «لله 
هؤلاء الناى.. حبّى هذه الساعة يطلبون مزيدًا من 
التعميرة» ثم تذكر بهم زوجها الغائب فتقول: «ثّرى 
أين يكون سيّدي الآن؟... وماذا يفعل؟... 
فلتصحبّه السلامة في الل والترحال». أجل قيل لما 
مرّة إِنْ رجلا كالسيّد أحمد عبد الجواد في يساره وقوّته 
وجماله - مع سهره المتواصل - لا يمكن أن تخلو حياته 
من الشاء .نوها تسندت بالقيرة بووكيها دان كيده 
ولا لم تواعبا شجاعتها على مشافهته بما قيل أفضت 
بحزنها إلى أمهاء فجعلت الأمّ تسكن من خاطرها بما 
وسعها من حلو الكلام, تم قالت لها: «لقد تروجك 
بعد أذ ظلى توحتة الأول + وكات ببوسعة أن سشرذه 
لو شاءء أو أنْ يتزوؤج ثانية وثالثة ورابعة» وقد كان 
أبوه مزواجًاء فاحمدي ريّنا على أنه أبقاك زوجة 
وحيدة». ولو أنْ حديث أمّها لم يُجْدٍ مع حزنها وقت 
اشتداده إلا أنها مع الأيْام سلّمت مما فيه من حقٌّ 
ووجاهة. فليكن ما قيل لما حمًا فلعلّه من صفات 
الرجولة كالسهر والاستبداد. وشيٌ على أيّ حال خير 
من شرور كثيرة» وليس من اطين أن تسمح لوسواس 
بأن يفسد عليها حياتها الطيّبة المليئة بالهناء والرغد. ثم 
لعل ما قبل بعد هذا كله أن يكون وها أو كذبًا. 
كلت أن موقفها من الغيرة» شأئها حيال المتاعب 
الى تعترض سبيل حياتها. لا يعدو التسليم مها كقضاء 
نافذ لا تملك حياله شيئاء فلم عبد إلى وسيلة في 
مقاومتها إلا أن تنادي الصبر وتستعدي مناعتها 


اع بين القصرين 


الشخصيةء ملاذها الأوحد في مغالبة ما تكره. 
فانقلبت الغيرة وأسبابهاء كطباع زوجها الأخرى 
وكمعاشرة العفاريت. ثما تحثمل , 

جعلت تنظر إلى الطريق وتنصت إلى السئّار حي 
ترامى إليها وقع سنابك جواد فعطفت رأسها صوب 
النخاسين فرأات (حتنطورًا) يقترب وثيدًا ومصباحاه 
يسطعان في الظلام. فتنبدت في ارتياح وغمغمت 
«أخيرًا. . . ». ها هو وحنطورة أحد أصدقائه يوصله 
بعد السهرة إلى باب البيت الكبير ثم يمضى كالعادة إلى 
الخرنفش حاملا صاحبه ونفرًا من الأصدقاء الذين 
يقطنون هذا الحي. ووقف «الحنطورة أمام البيت. 
وارتفع صووت زوجها وهو يقول في نبرات ضاحكة : 

5 أستودعكم الله , . , 

وكانت تنصت إلى صوت زوجها وهو يودّع أصحابه 
بشغف ودهشة, ولولا أمّبا تسمعه كل ليلة في مثل هذه 
الساعة لأنكرت. فيا عهدت منه ‏ هي وأبناؤها ‏ إلا 
الحزم والوقار والتزمّت» فمن أين له يذه النيرات 
الطروبة الضحوكة التي تسيل بشاشة ورقّة؟! وكانٌّ 
صاحب «الخنطور» أراد أن يمازحه فقال له؛ 

أما سمعت ماذا قال الجواد لنفسه بعد نزولك من 
العربة؟ قال إنّه من المؤسف أن أوصل هذا الرجل كلّ 
ليلة إلى بيته وهو لا يستحقٌ أن يركب إلا حمارًا. . . 

وانفجر الرجال بالعربة ضاحكين فانتظر السيّد حي 
عادوا إلى السكون ثم قال يجيبه : 

- أما سمعت بماذا أجابته نفسه؟ قالت إذا لم توصله 
أنت فسيركب اليك صاحيئا, , . 

وضع الرجال ضاحكين مرّة أخرى. ثمّ قال 
صاحب العربة : 

- فلنؤجل الباقي إل سهرة الغد. . . 

وتحرّكت العربة إلى شارع بين القصرين واتهه 
السيّد نحو الباب فغادرت المرأة المشربيّة إلى الحجرة. 
وتناولت المصباح ومضت إلى الصألة؛ ومنها إلى 
الدهليز الخارجي حي وقفت في رأس السلّم» وترامت 
إليها صفقة الباب الخارجي وهو يغلق. وائزلاق 
المزلاج2 وتخيلته وهو يقطع الفناء بقامته المديدة مستردًا 


هيبته ووقاره. خخالعا مزاحه الذي لولا استراق السمع 
لظئته من مستحيل المستحيلات. ثم سمعت وقع 
طرف عصاه على درجات السلم فمذت يدها بالمصباح 
من فوق الدرابزين لتنير له سبيله . 


١ 
وانتهى الرجل إلى موقفها فراحت تتقدمه رافعة‎ 
: المصباح. فتبعها وهو يتمتم‎ 
, مساء الخير يا أميئة‎ - 
: فقالت بصوت خفيض ينم عن الأدب والخضوع‎ 
. مساء الخير يا سيّدى‎ - 
وف ثوان احتوته| الحجرة؛ فاتجهت أميئة إلى الخوان‎ 
لتضع المصباح عليه في حين علّق السيّد عصاه ببحافة‎ 
شباك السرير ولع الطربوش ووضعه على الموسادة‎ 
التي تتوسّط الكنبة» ثمّ اقتربت المرأة منه لتنزع عنه‎ 
ملابسه. وبدا في وقفته طويل القامة عريض المنكبين‎ 
ضحم الجسم ذا كرش كبيرة مكتنزة اشتملت عليها‎ 
جميعًا جيّة وقفطان في أناقة وبحبحة دَلّتَا على رفاهية‎ 
ذوق وسخاء. ولم يكن شعره الأسود المنبسط من مفرقه‎ 
على صفحتي رأسه في عناية بالغة» وخائمه ذو الفصّ‎ 
الماميّ الكبير» وساعته الذهبيّة, إلا لتؤكد رفاهة ذوقه‎ 
وسخاءه. أمّا وجهه فمستطيل الهيئة مكتيز الآديم فقوي‎ 
التعبير واضح الملامح. يدل في جملته على بروز‎ 
الشخصية والجمال بعينيه الزرقاوين الواسعتين» وأنفه‎ 
الكبير الأشم المتناسق على كبره مع بسطة الوجه. وفمه‎ 
الواسع بشفتيه الممتلثتين. وشاربه الفاحم الغليظ‎ 
المفتول طرفاه بدقّة لا مزيد عليها. وليّا تدانت المرأة‎ 
منه بسط ذراعيه فخلعت الحبّة عنه وأطبقتها بعناية ثم‎ 
وضعتها على الكنبة» وعادت إليه ففككت حزام‎ 
القفطان ونرعته وجعلت تدرّجه بالعناية نفسها لتضعه‎ 
فوق الحبة» على حين تناول السيّد جلبابه فارتداه ثم‎ 
طاقيته البيضاء فلبسهاء وتمطى وهو يتشاءب وجلس‎ 
على الكنبة ومدٌ ساقيه مسئدًا قُذاله إلى المائط.‎ 
وانتهت المرأة من ثرئيب ملابسه فقعدت عند قلميه‎ 


الممدودتين وراحت تخلع حذاءه وجوربيه» ولها كشفف 
قدمه اليمنى بدا أوّل عيب في هذا الجسم المحائل 
الجميل في خنصره الذي شاكل من توالي الكشط 
بالموبى في موضع كاللو مزمن. وغادرت أميئة الحجرة 
فغابت دقائق ثم عادت بطست وإبريق» فوضعت 
الطست عند قدمي الرجل ووقفت والابريق في يدها 
على أهبة الاستعداد. فاستوى السيد في جلسته ومد لا 
يديه فصيّت له الماء فغسل وجهه ومسح على رأسه 
وتمضمض طويلاء ثمٌ تناول المنشفة من فوق مسند 
الكنبة ومضى يجنف رأسه ووجهه ويديه بينها حملت 
المرأة الطست وذهبت به إلى الحمام . كانت هذه 
الخدمة آخخر ما تؤْدذي من خدمات في البيت الكبير. 
وقد واظبت عليها ربع قرن من الزمان بهمة لا يعتريها 
الكلال» بل في سرور وانشراح» وبنفس الحماس الذي 
يستفرها إلى البوض بواجبات البيت الأخرى من قبيل 
مطلع الشمس حب مغيبهاء فاستحقّت من أجله أن 
يطلق عليها جاراتها اسم «النحلة» لدأبها ونشاطها 
المتواصلين , 

وعادت إلى الحجرة فأغلقت الباب وسحبت من 
تحت السرير شلتة فوضعتها أمام الكنبة وترئعت عليها 
إذ لم تكن ترى لنفسها الحقٌّ في أن تجلس إلى جانبه 
تادّبا. ومضى الوقت وهي ملازمة الصمت حتى 
يدعوها إلى الكلام فتتكلم. وتراخى ظهر السيّد إلى 
مسئد الكنبةء وبدا عقب سهرته الطويلة متعبًا فثقل 
جفناه اللذان جرى في أطرافه) احمرار طارئ من أثر 
الشرب. وجعل يزفر أنفاسًا ثقيلة محمورة. ومع أنه 
كان يعاقر الخمر كلّ ليلة؛ إلى إفراط في الشرب حي 
السكرء إلا أنّه لم يكن ليقرّر العودة إلى بيته حي تزايله 
سورة الخمر ويستعيد سيطرته على نفسه حرصًا منه على 
وقاره والمظهر الذي يحبٌ أن يبدو به في بيته. وكانت 
زوتعة الشيخصى" الرسيتة :من آل ريق النقي بيلقاه: ل 
أعقاب سهرته. ولكئها لم تلمس من آثار الشرب إلا 
رائحتهء ولم تلاحظ على سلوكه شلودًا مريئاء إلا ما 
كان يبدو منه أوّل عهده بزواجها وقد تناسته. وعلى 
العكس من المنتظر جنت من مصاحبتها له في هذه 


بين القصرين ١‏ 
الساعة إقبالا منه في الحديث وتبسّطًا في فنونه قلَّ أن 
تظفر بمثله في أوقات إفاقته الكاملة. وإنْها لتذكر كم 
ارتعبت يوم أدركت أنّه يعود من سهرته ثملا. 
واستدعت الخمر إلى ذهنها ما يقترن بها من وحشية 
وجنون ومخالفة الدين وهي الأفظع. فتقززت نفسها 
وركبها الذعر وعانت لدى عودته كلما عاد آلاما لا قبل 
لها بها. وبمضي الأيْام والليالي ثبت لا أنه حين عودته 
من سهرته يكون ألطف منه في جميع الأوقات» فيخفُف 
من صرامته» وترق ملاحظته» ويسترسل في الحديث» 
فاستأنست إليه واطمأنت وإن لم ننْسّ أن تضرع إلى 
الله أن يغفر له معصيته ويتوب عليه. ولكم تمنث لو 
يتطبع بنفس اللين النسبيَ وهو صاح منتبهء وكم 
عجبت لله المعصية التي ترقق حواشيهء وتحيّرت 
طويلا بين ما تجد نحوها من كراهية دينيّة موروثة وبين 
ما تجن منها من راحة وسلامء ولكنها دفنت أفكارها في 
أعياق نفسهاء. ودارتها مداراة من لا يطيق أن يعترف 
ها ولو فيا بينه وبين نفسه. أمّا السيّد فكان أحرص ما 
يكون على وقاره وحزمه؛ وما يصدر عنه من لطففب 
فخلسة يصدرء ورثبما جرت على شفتيه ابتسامة 
عريضة ‏ في جلسته هذه لذكرى طافت به من 
ذكريات سهرته السعيدة فسرعان ما ينتبه إلى نفسه. 
ويطبق شفتيه)؛ ويسترق إلى زوجه نظرة فيجدها 
كعادتها بين يديه خخافضة العينين» فيطمئن ويعود إلى 
ذكرياته. والحقٌ أنْ سهرته لم تكن تنتهي بعودته إلى 
بيته» ولكتّها تواصل حياتها في ذكرياته» وني قلبه الذي 
يجذمبا إليه بقوّة مهم إلى مسرّات الحياة لا يروى» وكأنه 
لا يزال يرى مجلس الأنس تزيئه النخبة المختارة من 
أصدقائه وأصفيائه. ويتوسشطه بدر من البدور التي 
تطلع في سماء حياته حيئا من بعد حين. وما برحت 
تطنّ في أذنيه الدعابات واللطائف والنكات التى تجود 
قريحته بدورها إذا هزه السكر والطرب» وهذه الملح 
خاصة يراجعها في عناية واهتمام ينضحان بالعجب 
والزهوء ويتذكر أثرها في النفوس وما لاقت من نجاح 
وابتهاج جعلاه الحبيب الأول لكل نفس» ولا عجب 
فإنّه كثيرًا ما يشعر بأنْ الدور الذي يلعبه في سهرته من 


بلي بين القصرين 

الخطورة كأنّه أمل الحياة المنشودة» وكأن حياته العمليّة 
بجملتها ضرورة يؤذيها في سبيل الفوز بساعات مترعة 
بالشراب والضحك والغناء والعشق يقضيها بين صحبه 
ومخلصائهء وبين هذا وذاك تسجع في باطنه أنغام حلوة 
لطيفة مما تردد في المجلس السعيد فذهب معها وجاء 
وهتف وراءها من أعياق قلبه: «آه. . . الله أكبر؛. 
هذا الغناء الذي يحبّه ما يحب الشراب والضحك 
والصحاب والبدورء فلا يطيق أن يخلو منه مجلسه. ولا 
يأبه للشقّة البعيدة يقطعها إلى أطراف القاهرة ليسمع 
الحامولي أو عثان أو المنيلاوي حيثا تكون مغانيهم, 
حبّى آوت أنغامهم إلى نفسه السخيّة ما تأوي البلابل 
إلى شجرة مورقة؛ فاكتسب دراية بالنغم والمذاهب 
وتوج حجّة في السمع والطرب. وكان يحب الغناء 
بروحه وجسمهء أنّا روحه فتطرب وتغمرها الأريحية 
وأمًا جسمه فتهتاج حواسّه وترقص أطرافه خاصة 
الرأس واليدان؛ ولهذا احتفظت نفسه لبعض المقاطع 
الغنائيّة بذكريات روحيّة وجسليّة لا تسبىء مثل: 
«وليه بقى تلاويعك وهجرك؛ أو ديا ما بكره تعرف. . 
وبعله لشوف؛ أو «(اسمع بقى وتعالى لما أقول لك؛ 
وكان حشسبه أن تبفو إليه نغمة من هذه النغيات معانقة 
حواشيها من الذكريات كي ممبيج موطن السكر من 
نفسه فيهرٌ رأسه طربًا وترفٌ على شفتيه ابتسامة أشواق 
ويفرقع بأصابعه وقد يشدو مترمًا إذا كان إلى نفسه 
حالما ومع هذا فلم يكن الغناء هؤى منفردًا بجذيه 
لذاته فحسبء ولكنه كان زهرة في طاقة يحلو بها وتحلو 
به ومرحبًا بين الصديق الصاني والحبيب الوفي 
والشراب المعّق والملحة العذبة» أمّا أن يصفو له 
وحده ‏ كما يتلقّى في البيوت عن الفونوغراف ‏ فهو 
جميل حبيب بلا شلك ولكنه غاب عن جوّه وبيئته 
وملابساته. وهيهات أن يقنع به القلبء إِنّهِ يتوق إلى 
أن يفصل بين النغمة واللغمة بنكتة تبتر لها النفوس, 
وأن يسابق الترديد بالغبل من كأس مترعة. ويرى أثر 
التطريب في وجه الصديق وعين الحبيب». ثم يتعاونون 
جميعًا على التهليل والتكبير. بَيْذَ أن السهرة لم يقتصر 
أثرها على بعث الذكريات. فمن مزاياها أيضًا أئبا 


عبيّئه في أعقابها لأسلوب طيّب من الحياة هو الذي 
تتلهف عليه زوجه المطيعة المستسلمة حين تجد نفسها 
بين يدي رجل حلو المعشر يتبسط معها في الحديث 
ويفضي إليها جما في طويته على نحو يشعرها ولو إلى 
حين بأئّا ليست جارية فحسب ولكتها شريكة حياته 
أيضًا. وهكذا راح يحدّثها عن شئون البيت فآنبأها بأنه 
أوصى بعض التجار من معارفه على شراء شخرين البيت 
من السمن والقمح والحبن. وجعل يحمل على ارتفاع 
الأسعار واختفاء الموادٌ الضروريّة بسبب هذه الحرب 
الي تطحن العالم منل ثلائة أعوام» وكعادته كلما ذكر 
الحرب اندفع يلعن الخنود الأستراليين الذين ينتشرون 
في المديئة كالجراد ويعيثون في الأرض الفساد. والحق 
أنه كان يحنق على الأستراليَينُ لسبب خخاصٌ به وهو 
أنهم بجبروتهم حالوا بينه وبين مجالي اللهو والطرب في 
الأزبكيّة فارتدٌ عنها مغلوبًا عل أمره ‏ إلا في القليل 
النادر من مختلس الفرص - لأنه لم يكن يسعه أن 
يعرّض نفسه للجنود الذين يسلبون الئاس متاعهم 
جهارًا ويتسلّؤن بصبٌ ألوان الاعتداء والإهانة عليهم 
بغير رادع. ثم مضى يسأل عن حال «الأولاد؛ كما 
يدعوهم بلا تفرقة بين كبيرهم الكاتب بمدرسة 
النخاسين وصغيرهم التلميذ بمدرسة خليل أآغا ثم 
تساءل بلهجة ذات معن : 

- وكمال؟! إيّاك وأن تتستّرى على شيطنته ! 

فذكرت المرأة ابمها الصغير الذي تتسيّر عليه حمًا فيما 
لاخطر لددمح الس اسيرع وق كان لفن لا 
يعترف ببراءة أي لون من ألوان اللعب واللهوء وقالت 
بصوتها الخاشم : 

- إِنْه يلتزم أوامر أبيه , 

وصمث السيّد قليلا فبدا كالشارد. وعاد يقطف 
من ذكريات ليلته السعيدة» ثم تراجع مؤشّر ذاكرته إلى 
ما سبق سهرته من أألحداث يومه فذكر فجأة أنه كان 
يومًا حافلا. ولمّا كان في حال لا يستحبٌ معها كتمان 
شىء نما يطفو على سطح الوعي فقد قال وكأنه يخاطب 
نفسه : 


- يا له من رجل كريم الأمير كمال الدين حسين! 


أما علمت بما فعل؟. . أبى أن يعتلي عرش أبيه المتوق 
في ظلٌ الإنجليز. 

ومع أن المرأة علمت بوفاة السلطان حسين كامل 
أمس إلا أنّبا كانت تسمع اسم ابنه لأوّل مرّة. ول تجد 
ما تقول ولكّها - مدفوعة بعواطف الإجلال للمتكلم - 
كانت تخاف ألا تعلق على كل كلمة يقوها يما يرضيه 
فقالت : 

رحم الله السلطان وأكرم ابنه. 

فاستطرد السيّد قائلا : 

- وقبل العرش الأمير أحمد فؤاد أو السلطان أحمد 
فؤاد كا سيدعى من الآن فصاعداء وقد تم الاحتفال 
بتوليته اليوم فانتقل في موكبه من قصر البستان إلى 
سراي عابدين . . وسبحان من له الدوام . 

وأصغت أمينة إليه باهتهام وسرورء اهتام يستثره 
في نفسها أيّ نبا يجىء من العالم اللخارجيّ الذي تكاد 
لا تعرف عنه شيئّاء وسرور يبعثه ما تجد في حديث 
بعلها معها عن هذه الشئون الخطيرة من لفتة عطف 
تزدهيهاء إلى ما في الحدث نفسه من ثقافة يلد لها أن 
تعيدها على مسمع من أبنائها وخاصّة فتاتيها اللتين 
تجهلان مثلها العالم الخارجئ جهلا تامّاء ولم تجد 
لتجزيه عن كريم عطفه خيرًا من أن تردّد على مسمعيه 
دعاء تعلم مقدما بمقدار ارتياحه إليه كا ترتاح إليه هي 
من أعماقها فقالت؛ 

ربنا قادر على أنْ يعيد إلينا أفندينا عباس . 

فهرٌ الرجل رأسه وتم قائلا: 

ب متى؟.. متى؟.. علم هذا عند ربي.. تقرأ 
في الجرائد إلا عن انتصارات الإنجليزء فهل ينتصرون 
حندا ار يعفر الأتناك: والتترف فق التبانة؟ اللي 
استجب., ., 

وأغمض الرجل عينيه إعياء» وتثاءب». ثم تمطى 
وهو يقول: 

أخرجي المصباح إلى الصالة . 

ونبضت المرأة قائمة وذهبت إلى الخوان فتناولت 
المصباح ومضت إلى الباب» وقبل أن تجوز العتبة 


بين القصرين “ام 
سمعت السيّد وهو يتجشّأ فتمتمت: 


5 صحة وعافية. . 


5 
وفي هدوء الصباح الباكر» وذيول الفجر لا تزال 

ناشبة في أسهم الضياء؛ تعالى صوت العجين من 
حجرة الفرن بالفناء في ضربات متتابعة كدويّ الطبل؛ 
وكانت أمينة قد غادرت الفراش قبل هذا بنحو نصف 
ساعة. فتوضّات وصلت ثم نزلت إلى حجرة الفرن 
فأيقظت أمٌّ حنفي ‏ امرأة في الأربعين خدمت وهي 
صبيّة بالبيت وفارقته للزواج ثم عادت إليه بعد 
طلاق ‏ وبينا بضت الخادم لتعجن عكفت أمينة على 
إعداد الفطور. وكان للبيت فناء متسع» في أقصاه إلى 
اليمين بثر سدّت فوهتها بعارض خشبيئٌ مذ ديت أقدام 
الصغار على الأرض وما تبع هذا من إدخال مواسير 
المياه»ء وني أقصى اليسار على كثب من مدخل الحريم 
حجرتان كبيرئان أقيمت الفرن في إحداهما واستعملت 
بالتالى ااه وأعذت الأخرى 0 وكان -لسجرة 
الفرن عل عزلتها علاقة بقلبها لا تَبنء فلو حسب 
الزمن الذي قضته بين جدراها لكان عمراء إلى ما 
تتزين به الحجرة من مباهج المواسم عند حلوها حين 
تتطلّم إليها القلوب الماشّة لأفراح الحياة» وتتحلب 
الأفواه لألوان الطعام الشهيّة التى تقدّمها موسمًا بعد 
موسم كخشاف رمضان وقطائفه؛ وكعك عيد الفطر 
وفطائره: وخروف عيد الأضحى الذي يسمّن ويدلل 
نْمَ يذبح على مشهد من الأبناء فلا يعدم دمعة رثاء 
وسط مبجة شاملة. هنالك تبدو عين الفرن المقوؤسة 
يلوح في أعماقها وهج النار كجذوة السرور المشتعلة في 
السرائر وكأئها زيئة العيد وبشائره. وإذا كانت أمينة 
تشعر بأئْها في أعلى البيت سيّدة بالنيابة وبمثلة لسلطان 
لا تملك منه شيئًاء فهى في هذا المكان ملكة لا شريك 
لها في ملكهاء فهذه الفرن تموت وتحيا بأمرهاء وهذا 
الوقود من فحم وحطب في الركن الأممن يتوقف مصيره 
على كلمة منهاء والكانون الذي يحتل الركن المقابل 
تحت رفوف الحلل والأطباق والصيئيّة النحاسيّة ينام أو 


سرغرد بالسئة اللهب بإشارة منبا. وهي هنا الام 
والزوجة والأستاذة والفئّانة التي يترمب الدميع والثقة 
ملء قلويهم ما تقدّم يداهاء وآية ذلك خا تقو 
بإطراء سيّدها إذا تفضل بإطرائها إلا عن لون من 
الطعام أحكمت صنعه وطهيه. وأمٌّ حنفي كانت اليد 
اليمنى في هذه المملكة الصغيرة: سواء تصدّت للادارة 
والعمل أم تلت عن مكانها لإحدى فتاتيها لتتمرّس 
بفنها تحت إشرافهاء وهي امرأة بديئة في غير تنسيق ولا 
تفصيل. غا الحمها نموا سخيًا فراعى في نوّه السمنة 
فحسب وأهمل اعتبارات الجمال» بيد أنّها رضيت عنه 
كل الرضا لأمْبا كانت تعدّ السمئة في ذاتها الجيال كل 
الجمال» ولا عجب فقد كان كل عمل لما في البيت 
يكاد يعد ثانويًا بالقياس إلى واجبها الأوّل وهو تسمين 
الأسرة ‏ أو بالأحرى إناثها ‏ بما تُعدّ َنّ من (بلابيع» 
سحريّة هي رقيّة الجهال وسرّه المكنون. ومع أن أثر 
البلابيع لم يكن ناجمًا دائًا إلا أنه برهن على جدارته 
في أكثر من مرّة فاستحقٌ ما يناط به من آمال وأحلام . 
فليس عجيبًا بعد هذا أن تسمن أمّ حنفي. على أنّ 
سمنتها لم تقلل من نشاطهاء فا إن أيقظتها سيّدتما 
حقٌ نهضت بنفس متفتّحة للعملء وخخحفّت إلى 
«ماجور؛ العجين. وتعالى صوت العجين الذي يؤدّي 
وظيفة جرس المنبّه في هذا البيت. فترامى إلى الأبئاء في 
الدور الأوّل. ثم تصاعد إلى الأب في الدور الأعل. 
منذرًا الجميع بأنّ وقت الاستيقاظ قد أزف. وتقلّب 
السيّد أحمد عبد الجواد على جنبيه ثمّ فتح عينيه. 
وسرعان ما قطب حائقًا على الصوت الذي أزعج 
منامه ع ولكنّه كظم حنقه لأنّه كان يعلم أنه يجب أن 
يستيفظ. وتلقى أول إحساس يتلقّاه عادة عقب 
استيقاظه وهو ثقل الرأس فقاومه بقوّة إرادته وجلس في 
فراشه وإن كانت تغلبه الرغبة في معاودة النوم. ول 
تكن لياليه الصاخبة لتنسيه واجب النهار. فهو يستيقظ 
في هذه الساعة الباكرة مهما تأخر به وقت النوم حيّى 
يتستّى له الذهاب إلى متجره قبيل الثامئة. ثمّ له في 
القيلولة فسحة من وقت يعتاض بها عيّا فاته من نوم 
ويستعيد نشاطه للسهرة الجحديدة. لمذا كان وقت 


استيقاظه أسوأ أوقات يومه جميعًاء يغادر الفراش 
مترنْحًا من الإعياء والدوار» ويستقبل حياة عاطلة من 
حلو الذكريات ولطيف المشاعر وكأئّها تستحيل دقًا في 
الدماغ والحفول . 

وتوالت دقّات العجين على رءوس النائمين بالدور 
سهره عاكمًا على كتب القانون, فإذا استيقظ فأوّل 
إحساس يبادره صورة وجه مستدير تتوسّط صفحته 
العائحة عيئان سوداوان فيهمس باطنه قائلًا: «مريم»» 
ولو أذعن لسلطان الإغراء للبث تحت الغطاء طويلا. 
خحاليًا إلى الخيال الزائر الذي جاء يصحيه بألطف 
الطوىي فيرنو إلْيه ما دعاه الشوق ويمادله الحذيث 
ويبوح له بأسرار وأسرارء ويتدانى إليه بجسارة لا تتأنّ 
في غير هذا الرقاد الداقْ في مطلع الصباح. ولكدّه 
كعادته أجل نجواه إلى صباح الجمعة وجلس في 
فراشه. ثم مد بصره إلى أنحيه النائم في الفراش الذي 


دليه وهطتف : 


جم صر 
+ مام 


ياسين. .. ياسين. .. أصح . 

انقطع شخير الشابٌء ونمخ فيم| يشبه الضيق وتمتم 
من أنفه : 

- صاح ... استيقظت قبلك. 

فانتظر فهمي مبتسمًا حتّى عاود الآخر شخيره فصاح 
به : 

- أضِحٌ . . . 

فنقلب ياسين في فراشه متذمُرًا فانحسر الغطاء عن 
جائب من جسمه الذي يضاهي جسم والده ضخامة 
وبدانة» ثم فتح عينين محمرّتين تلوح فيها نظرة غائية 
ارنسمت فوقها تقطيبة تنطق بالتذمر: «أفٌ... كيف 
طلع الصباح ببذه السرعة! . . . لاذا لا ننام حي 
نشبع . . . النظام . . . دائمًا النظام . . . كأنّنا عساكرة: 
ونبض معتمدًا على يديه وركبتيه وهو يحرّك رأسه 
لينفض عنه النعاس فلاحت منه التفاتة إلى الفراش 
الثالث حيث يغط كمال في نومه الذي لن ينتزعه منه 
أحد قبل نصف ساعة فغبطه عليه ويا له من غلام 
سعيد!». ولمًا أفاق قليلا تربع على الفراش وأسند 


رأسه إلى يديهء ورغب في معابئة الخواطر اللذيذة التي 
تحلو بها أحلام اليقظة ولكنّه كان يستيقظ ‏ كأبيه ‏ على 
حال من ثقل الرأس تتعطل معها الأحلام. ولاحت 
لخيّلته زنوبة العوادة فلم تترك في حساسيّته أثرًا نما 
تترك في صحوه وإن افترت شفتاه عن ابتسامة , 

وف الحجرة المجاورة كانت خديجة قد غادرت 
الفراش دون حاجة إلى منبّه العجين. كانت أشبه 
الأسرة بأمّها في نشاطها ويقظتهاء أمَا عائشة فتستيقظ 
عادة على الحركة التي كانت تنبعث في السرير من 
موض شقيقتها وانزلاقها إلى أرض الحجرة في عنف 
متعمّد يمرٌ وراءه جدلا وملاحاة القلبا مع التكرار نوعًا 
من الدعابة الفظّة فإذا استيقظت وفرعت من النقار لم 
تمبض. ولكتّها تستسلم لحلم طويل من أحلام اليقظة 
السعيدة قبل أن تغادر فراشها. 

0 ديت الحياة فشملت الدور الأوّل كله فتحث 
النوافذ وتدقق النور إلى الداخل وعلى أثره هفا اطواء 
حاملاً صلصلة عجلات سوارس وأصوات العال 
ونداء بائع البليلة» وتواصلت الحركة ما بين غرفتي 
النوم واتام وبدا ياسين في جلبابه الفضفاض بلحمه 
المتكتل. وفهمي بطوله الفارع وقدّه النحيف وكان ‏ 
في] عدا تحافته ‏ صورة من أبيه. وهبطت الفتاتان إلى 
الفناء لتلحقا بأمهها في حجرة الفرن. وكان في 
صورتيهها اختلاف قل أن يوجد مثله في الأسرة 
الواحدة» خحديجة سمراء وفي قسيات وجهها تنافر 
ملحوظء وعائشة شقراء تشم هالة من حسن ورواء. 

مع أنَّ السيّد أحمد كان في الدور الأعلى بمفرده إلا 
أن أمينة لم تدعه في حاجة إلى إنسان. وجد على الخوان 
طبق فنجان مملوءًا حلبة ليغير ريقه عليهاء وذهب إلى 
الحمّام فتطاير إلى أنفه عرف البخور الطيّب» وألفى 
على الكرسيي ثيابًا نظيفة مرتبة في عناية» فاستحم بالماء 
البارد كعادته كلّ صباح ‏ عادة لا ينقطع عنها صيمًا أو 
شتاء ‏ ثمّ عاد إلى حجرته مستجدًا حيويّة ونشاطاء ثم 
جاء سجّادة الصلاة ‏ وكانت مطوية على مسشد 
الكنبة ‏ فبسطها وأدّى فريضة الصبح. صل بوجه 
حاشع. وهو غير الوجه البشام المشرق الذي يلقى به 


أصحابه» وغير الوجه الحازم الصارم الذي يواجه به 
آل بيته» هذا وجه خافضص الجناح تقطر التقوى والحبت 
والرجاء من قساته المتراخية التى ألانها التزلف والتودد 
والاستغفار. لم يكن يصلي صلاة آليّة قوامها التلاوة 
والقيام والسجودء ولكن صلاة عاطفة وشعور 
وإحساس يؤدّيبا بنفس الحماس الذي ينفضه على ألوان 
الحياة التي يتقلب فيها جميعاء كرا يعمل فيتفان في 
عمله؛ ويصادق فيفرط في مودته» ويعشق فيذوب في 
عشقه. ويسكر فيغرق في سكره» تخلصًا صادقًا في كلّ 
حال. هكذا كانت الفريضة حبجة روحية يطوف فيها 
برحاب المولى: حتّى إذا انفتل من صلاته تربع وبسط 
راحتيه وراح يدعو الله أن يكلأه برعايته ويغفر له 
ويبارك في ذرَيْته وتجارته . 

وفرغت الأمّ من تجهيز الفطور فتركت للفتاتين 
إعداد الصينية وطلعت إلى حجرة الإخوة حيث وجدت 
كمالا ما زال يغظ في نومه» فأقبلت عليه باسمة 
وحطت راحتها على جبينه وتلت الفاتحة» وجعلت 
تناديه وتهره برفق حيّى فتح عينيه» وم تدعه حتّى فارق 
الفراش. ودسحل فهمي الحجرة فا رآها ابتسم إليها 
وحيّاها تميّة الصباح فردّت عليه قائلة ونظرة الحبّ 
تترقرق في عينيها : 

- صباح النور يا نور العين, 

وبلفس الرقة صبّحت على ياسين «ابن» زوجها فردٌ 
عليها بمودة خليقة بالمرأة التي تنزل من نفسه منرلة الأم 
الجديرة مهذا الاسم . ولا عادثت خخدعجة من حججرة 
الفرن تلقّاها فهمي وياسين ‏ وياسين خاصّة - بما 
يغمرائبا به عادة من دعابة, وكانت مثار دعابة سواء 
بصورتها المتنافرة أو بلسانها اللحاد رغم ما لها من نفوذ 
على الأخوين بما تتعهد من شؤوبها بمهارة فائقة يندر أن 
نتجود بمثلها عائشة التي تلوح وسط الأسرة كالرمز 
الجميل رواء وجاذبيّة وعدم فائدة. وبادرها ياسين 
فاثار . 

كنا نتحدّث عنك يا خخديجة؛ وكا نقول إنّه لو 
كان النساء جميعًا على شاكلتك لارتاح الرجال من 
متاعب القلوب. 


فقالت على البداهة : 

- ولو كان الرجال على شاكلتك لارتاحوا جميعا من 
متاعب الرءوس . . . 

عند ذلك هتفت الأم قائلة : 


ع هد التطوونا سادة: 


4 

كانت حجرة الطعام بالدور الأعلى حيث تود 

حجرة نوم الوالدين؛ وكان بنفس الدور غير هاتين 
الحجرتين أخرى للجلوس وأربع خالية إلا من بعض 
أدوات اللعب التى يلهو بها كيال في أوقات فراغه. 
وكان السماط قد أعدّ وصّفْت حوله الشلت؛, ثم جاء 
السيد فتصدره متربغاء ودحل الإخوة الثلائة تباعًا 
فجلس ياسين إلى يمين أبيه» وفهمي إلى يسارهء وكيال 
قبالته. جلس الإخوة في أدب وخشوع؛. خافضي 
الرءوس كأئهم في صلاة جامعة» يستوي في هذا كانتب 
مدرسة النخاسين وطالب مدرسة الحقوق وتلميذ خليل 
أغا. فلم يكن أحد منهم ليجترئ على التحديق في 
وجه أبيه. وأكثر من هذا كانوا يتجئّبون في محضره 
تبادل النظر أن يغلب أحدهم الابتسام لسيب أو لآخخر 
فيعرض نفسه لزجرة مخيفة لا قِبّل له بها. ولم يكن 
يجمعهم بأبيهم إلا مجلس الفطور لأنهم يعودون إلى 
البيت عصرًا بعد أن يكون السيّد قد غادره إلى دكانه 
عقب تناول الغداء والقيلولة» ثم لا يعود إليه إلا بعد 
منتصف الليل» وكانت الجلسة على قصر مذبها شديدة 
الوطأة على نفوسهم بما يلتزمون فيها من أدب عسكريٌ 
إلى ما يركبهم من رهبة تضاعف من -حساسيّتهم 
ونجعلهم عرضة للهفوات بطول تفكيرهم في تحاميها. 
فضللا عن أن الفطور نفسه يتمّ في جوٌ يفسد عليهم 
تذوقه واستلذاذه» ولم يكن غريبًا أن يقطع السيّد الفترة 
القصيرة المي تسبق بجيء الم بصينية الطعام في 
تفخص أبنائه بعين ناقدة حيّ إذا عثر على نخلل ولو 
تافه في هيئة أحدهم أو بقعة في ثوبه امال عليه خبرًا 
وتأنيبا. ورتما سأل كيال بغلظة: «غسلت يديك؟» فإذا 
أجابه بالايجاب قال له آمرًا: «أرنيها» فيبيسط الغلام 


كفيه وهو يزدرد ريفه رقا وبدلا من أن يشجّعه على 
نظافته يقول له مهددًا: وإذا نسيت مرّة أن تغسلههم) 
قبل الأكل قطعتها وأرحتك منبياة. أو يسأل فهمي 
قائلا : وأيذاكر ابن الكلب دروسه أم لا؟) ويعرفب 
فهمي بالبداهة من يعني لأنّْ «ابن الكلب» عند السيّد 
كناية عن كيال فيجيب بأنه يحفظ دروسه جِيَّدًا. وَالحىّ 
أن شطارة الغلام ‏ الي استوجب عليها حنق أبيه ‏ لم 
تقعد به عند الحدّ والاجتهاد ىا يدل عليهما نجاحه 
وتفوّقه. ولكنّ السيّد كان يطالب أبناءه بالطاعة 
العمياء الأمر الذي لا يطيقه غلام اللعب أحبٌ إليه 
من الطعام. ذا يعلّق على إجابة فهمي قائلا 
بامتعاض : (الأدب مفضل على العلم4» ثم يلتفت إلى 
كيال ويستطرد بحذة : «وسامع يا بن الكلب!». 
وجاءت الأم حاملة صيئيّة الطعام الكبيرة فوضعتها 
فوق السماط وتقهقرت إلى جدار الحجرة على كثب من 
خوان وضعت عليه «قلة». ووقفت متاهية لتلبية أيه 
إشارة. وكان يتوسط الصينية النحاسيّة اللامعة طبق 
كبير بيضاوي امتلاً بالمدمّس المقلّ بالسمن والبيض» 
وفي أحد طرفيها تراكمت الأرغفة الساخنة. وفي 
الطرف الآخر صففت أطباق صغيرة بالحبن» والليمون 
والفلفل المخلّلين والشطة والملح والفلفل الأسود. 
فهاجت بطون الإأخوة بشهرة الطعام , ولكتْبم حافظوا 
على جمودهم متجاهلين المنظر البهيج الذي أنزل عليهم 
كأنه لم يحرّك فيهم ساكناء حبّى مد السيّد يده إلى 
رغيف فتناوله ثم شطره وهو يتمتم : «كلواة» فامتدّت 
الأيدي إلى الأرغفة في ترئيب يتبع السنّ.» ياسين 
ففهمي ثم كمال وأقبلوا على الطعام ملتزمين أدبهم 
وحياءهم. ومع أنْ السيّد كان يلتهم طعامه في وفرة 
وعجلة وكأن فكيه شطرا آلة قاطعة تعمل في سرعة 
وبلا توقفء ومع أنه كان يجمع في لقمة كبيرة واحدة 
من شتّى الألوان المقِدّمة. الفول والبيض والحبن 
والفلفل والليمون المخللين ‏ ثم يأخذ في طحهها بقّة 
وسرعة وأصابعه تُعدٌ اللقمة التالية, إلا أنهم كانوا 
يأكلون متمهّلين في أناة بالرغم مما يحمّلهم تمهّلهم من 
صبر لا يتفق وطبيعتهم الحامية» فلم يكن ليغيب عن 


أحدهم ما قد يتعرّض له من ملاحظة شديدة أو نظرة 
قاسية إذا باون أو ضعف فسى نفسه وغفل بالتالي عما 
انهاه من لقان والانسهء :ركان كال املاع تونيا 
لأنّه كان أعظمهم مَحْوَفًا من أبيه: وإذا كان أكثر ما 
يتعرض له أحد أخويه غهبرة أو زجرة فأقل ما يتعرض 
له هو ركلة أو لكمةء فلذلك كان يتناول طعامه في 
حذر وضيق. مسترقًا النظر بين آونة وأخخرى إلى المتبقّي 
من الطعام الذي يتناقص سريعًاء وكلّما تناقص أشتدٌ 
قلقه واننظر في جزع أن يصدر عن أبيه ما يدل على 
فراغه من طعامه فيخلو له الحو ليملاً بطئه. وعلى رغم 
سرعة أبيه في الالتهام وضخامة لقمته وتشبعها بشتى 
الأصناف كان يعلم بالتجربة أنْ ما يتهدّد الطعام ‏ وما 
يتهدّده هو بالتالي - من ناحية أخخويه أشدّ وأنكى» لأنّ 
السيّد كان سريع الأكل سريع الشبع, أما أخواه فكانا 
يبدءان المعركة حقًا عقب جلاء السيّد عن السفرة» ثم 
لا يتخلّيان عنها حي تخلو الأطباق من كل شيء يؤكل» 
ولهذا فا كاد السيّد ينبض قائًا ويفارق الحجرة حت 
شمّر عن ساعديه وهجم على الطبق كالمجنون مستغلًا 
يديه الاثنتين, يذًا للطبق الكبيرء ويدًا للأطباق 
الصغيرة» بيد أنْ اجتهاده بدا قليل الجدوى فيا انبعث 
من نشاط الآأخوين فلجا إلى الحيلة التي يستغيث بها 
كلَّا هدّد سلامته مهدّد في مثل هذه الحال» وهي أن 
يعطس في الطبق عامدًا متعمّدّاء وعطسء» فتراجع 
الأحوان. ونظرا إليه حائقين. ثم غادرا المائدة وهما 
غارقين في الضحكء. فتحقق له حلم الصباح وهو أن 
يجد نفسه وحيدًا في الميدان. 

وعاد السيّد إلى حجرته بعد أن غسل يديه فلحقت 
به أميئة وبيدها قدح مرجت به ثلاث بيضات ئيئات 
بقليل من اللبن وقدّمته له فتجرّعه ثم جلس ليحسو 
قهوة الصبح. وهذا القدح الدسم خحاتمة فطوره. وهو 
«وصغة؛ من وصفات يداوم عليها بعد الوجبات أو فيا 
بيها. كزيت السمكء. والجحوز واللوز والبندق 
المسكرة ‏ رعاية لصحّة بدنه الضخمء وتعويضًا له عم 
تستهلكه منه الأهواء. إلى اقتصاره على اللحوم 
بأنواعها والأغذية المشهورة بدسمها حيّى ليعدٌ الأكلة 


بين القصرين ١1‏ 
الخفيفة بل والعادية ولعباء واتضييع وقت» لا نجملان 
بمثله. وقد وْصف له الحشيش كفاتح للشهيّة ‏ إلى 
فوائده الأخرى ‏ فجرّبه ولكنّه لم يألفه وانصرف عنه 
غير آسف وقد ساء به ظنّه لما يورث من ذهول وقور 
مشبع بال همدوء ميال للصمت مشعر بالاتفراد ولو بين 
الصفوة من الأصدقاء. فنفر من أعراضه تلك التي 
تتجاى مع سجيته المولعسة بصبوات المرح ونشوات 
المياج ولذات الاندماج في النفوس ووثبات المزاح 
والقهقهة؛ ولكيلا يفقد مزاياه الضروريّة لفحول 
العشّاق اعتاض عنه بنوع نفيس من المنزول اشتهر به 
محمد العجمي بائع الكسكسي عند مطلع الصالحية 
بالصاغة. وكان يعده خاصة لصفوة زبائنه من التجار 
والأعيان» ولم يكن السيّد من مدمني المنزول ولكنّه كان 
يلم به بين حين وآخر كلما استقبل هوّى جديدًا خاضة 
إذا كانت المعشوقة امرأة خبيرة بالرجال وأحوالهم. فرغ 
السيد من حسو قهوته ثم :بض إلى المرآة وراح يرتدي 
ملابسه التي قدّمتها إليه أمينة قطعة قطعة. وألقى على 
صورة هندامه نظرة متشخصةء ومشّط شعره الأسود 
المرسل على صفحتي رأسه. ثم سوى شاربه وفتله. 
وتفرّس في هيئة وجهه ثم عطفه رويدًا إلى اليمين ليرى 
جانبه الأيسرء ثم إلى اليسار ليرى جانبه الأيمن» حي 
إذا ارتاح إلى منظره مد يده إلى زوجه فناولته زجاجة 
الكولونيا التى عبّاها له عم حسنين الحلاق فغسل يديه 
ووجهه ونضح صدر قفطائه ومنديله. ثم وضع 
الطربوش على رأسه وأخذ عصاه وغادر الحجرة ناشرًا 
بين يديه ومن خلفه عَرفًا طيّبًا. ذلك العرف المقظر من 
شتّى الأزهار يعرفه أهل البيت حميعَاء وإذا تلشقه 
أحدهم مث لعينيه السيّد بوجهه الوقور الحازم. 
فينبعث في قلبه ‏ مع الحبٌ ‏ الإجلال والخوف. إلا أن 
التشاره في هذه الساعة من الصباح كان إيذانا بذهاب 
السيّدء فالنفوس تتلقاه بارتياح غير منكور على براءته, 
كارتياح الأسير إلى صليل السلاسل وهي تنفك عن 
يديه وقدميه ويعلم كل بأنه سيستردٌ حرّيّته عا قليل 
في الكلام والضحك والغناء والخركة دون ثمة خطر. 
كان ياسين وفهمىي قد فرغا من ارتداء ملابسهماء أما 


4" بين القصرين 


كيال فقد هرع إلى الحجرة عقب خروج أبيه مباشرة 
ليشبع رغبته في محاكاة حركاته التي يختلس النظر إليها 
من زيق الباب الموارب» فوقف أمام المرآة ينظر إلى 
صورته بإمعان وارتياح ثم قال خاطبا أمّه بلهجة آمرة 
وهو يُغلظ نبرات صوته «زجاجة الكولونيا يا أمينة». 
ركان يعلم أنّبا لا تلبّى هذا النداء ولكنّه جعل يمسم 
على وجهه وجاكيتته وبلطلونه القصير بيديه كآنه يبلها 
بالكولونياء ومع أنْ أمّه كانت تغالب الضحك إلا أنه 
ابر على التظاهر بالجدٌ والصرامة. وراح يستعرض 
وجهه في المرآة من جالبه الأيمن إلى الآيسر, ثم مضى 
يسوي شاربه الوهميّ ويفتل طرفيهء ثم حول عن المرأة 
وتجشّاء ونظر صوب أمّه ولما لم يجد منها إلا الضحك 
قال ها محتجًا: اذا لا تقولين لي صحّة وعافية؟) 
فغمغمت المرأة ضاحكة: «صحّة وعافية يا سيدي». 
هنالك غادر الحجرة مقلّدًا مشية أبيه محرّكًا يمناه كأنه 
يتوكأ على عصاه. . 

وبادرت الأم والفتاتان إلى المشربية ووقفن وراء 
شباكها المطل على النحّاسين لِيَريْن من ثقوبه رجال 
الأسرة في الطريق» وبدا السيّد وهو يسير في تؤدة ووقار 
بحف به الخلال والجمال رافعا يديه بالتحيّة بين حين 
وآخخر وقد وقف له عم حسنين الحلاق وَالْحَاجّ درويش 
بائعم الفول والفولي اللبان وبيومي الشربتلي» فاأتبعنه 
أعينا مترعة بالحبٌ والزهو. وئلاه فهمي في مشيته 
المتعبجلة. ثم ياسين في جسم الثور وأناقة الطاووس. 
وأخيرًا ظهر كال فلم يكد يخطو خخطوتين حيّى استدار 
ورفم بصره إلى الشباك الذي يعلم أن امف وه 
مستدخفيات وراءه. وابتسم. ثم واصل سيره متابطا 
حقيبة كتبه منقبًا في الأرض عن زلطة يركلها. 

كانت هذه الساعة من أسعد أوقات الأمَّى بيد أنَّ 
إشفاقها من شر الأعين على رجالا لم يقف عند حدّى 
فلم تكن تمسك عن تلاوة: «ومن شر محاسد إذا 
حسد» حجّى يغيبوا عن عيئيها., , , 


6 


وغادرت الأمّ المشرنيّة» وتبعتها خديجة. على حين 


تلكأت عائشة حيّى خلا ها الحو فانتقلت إلى جالب 
المشربيّة المطل على بين القصرين ومدّت بصرها من 
ثقوب الشبّاك في اهتام وهفة. بدا من لمعة عينيها 
وعضّها على شفتيها أثّها تنتظر. ولم يطل بها الانتظار 
فقد مرق من عطفة الخرنفش ضابط بوليس شاب 
ومضى مقبلا متمهّلا في طريقه إلى قسم الجاليّة. عند 
ذلك غادرت الفتاة المشربيّة في عجلة إلى حجرة 
الاستقبال» واتمهت إلى نافذتها الحانبيّة وأدارت أكربها 
ففرجت مصراعيها عن زيق ووقفت وراءه وقلبها يبعث 
ضربات بالغة العنفف من العاطفة والخوف معاءولمًا 
اقترب الضابط من البيت رفع عينيه في حذر دون أن 
يرفع رأسه ‏ فلم يكن أحد يرفم رأسيية في مصر 
وقتذاك ‏ فأضاءت أساريره بنور ابتسامة متوارية 
انعكست على وجه الفتاة إشراقة مورّدة بالحياء 
فتد تتا ب لم أغلقت النافذة وهي تسن علييا 
بعصبية ‏ كأنها تخفي آثار جريمة دامية ‏ وتراجعت عنها 
مغمضة العينين من شْدة الانفعال. فأسلمت نفسها 
إلى مقعد وأسندت رأسها إلى يدها وساحت في جو 
مشاعرها اللانهائيَ. لم تكن سعادة خالصة. ولم يكن 
خوفًا خالصًاء كان قلبها مورّعًا بين هذا وتلك فهم) 
يتجاذبانه بلا رحمةء إذا استنامت إلى نشوة الفرح 
وسحره قرعت قلبها مطرقة الخنوف محذّرة متوعّدة فلا 
تدري أيحمُل بها أن تُقلم عن مغامرتها أم تتادى في 
مطاوعة قلبها. كلا الحبٌ والخوف شديدء. ولبثت في 
نوها ك1 أو اقلباكي تشائية كدف وتات ناتك 
والتأنيب» ومضت تنعم بسكرة الحلم في ظل سلام, 
وذكرت - كما يلد لها أن تذكر دائًا - كيف كانت تنفض 
الستارة المسدلة على النافذة يومًا فلاحت منها نظرة إلى 
الطريق من النافذة التي فتحت نصف فتحة لطرد 
الغبار فوقعت عليه وهو يتطلّع إلى وجهها في دهشة 
مقرونة بالإعجاب. فتراجعت فيا يشبه الذعرء ولكنّه 
م يذهب قبل أن يترك في عميّلتها أثرًا باقيًا من منظر 
نجمته الذهبية وشرطه الأحمر. منظر يخلب اللبّ 
ويسرق الخيال. فظل يتخايل لعينيها طويلاء وني نفس 
الساعة من اليوم الثالي ‏ والأيّام التالية راحت تقف 


وراء الخصاص دون أن يراهاء ولست في فرحة ظافرة 
كيف يتطلّع بعينيه إلى النافذة المغلقة باهتمام وتشوق. 
ثم كيف أنخل يستبين شبحها وراء الخصاص فتشع 
أساريره ضياء البهجة؛ وقلبها المشبوب ‏ الذي يتمطى 
مستيقشًا لآوّل مرّة - يننظر هذه اللحظة في لهفة ويذوقها 
في سعادة ويودعها فيها يشبه الحلم.ء حتّى دار الشهر 
دورته وعاد يوم التنفيض مزة أخرى فانبرت إلى الستارة 
تنفضها وراء النافذة المواربة متعمّدة ‏ هذه الموّة أن 
ثُرىء وهكذا يومًا بعد يومء وشهرًا بعد شهرء حت 
غلب التعظش للمزيد من الحبّ الخوف الحائم فخطت 
خطوة ‏ جنونية - وفرجت مصراعي النافذة ووقفت 
وراءها وقلبها يبعث ضربات بالغة العنف من العاطفة 
والنوف معاء كأنّها تعلن حبّها له. بل كانت كمن 
يقذف بلفسه من علو ساحق ليقي نارًا مستعرة تحيط 
به. 
#* 

استكنت عواطف الخوف والتأنيب ومضت تنعم 
بسكرة الحلم في ظلّ سلام» ثم أفاقت من حلمهاء 
وصمّمت على أن تتحامى الخوف الذي ينخص عليها 
صفوها فجعلت تقول لنفسها استدرارًا للطمأنينة : «لم 
تُرلرّل الأرض ومرٌ كل شيء بسلام؛ لم يرني أحد ولن 
يران أحد. ثم إفي لم أقترف إ0)!» ونمضت قائمة, 
ولكي توهم نفسها بخلوٌ البال ترئمت - وهي تغادر 
الحجرة ‏ بصوت عذب: «يا أبو الشريط الأحمر يا للي 
أسرتني ارحم ذليوف وردّدتها مرّة ومزة حبثّى جاءها 
صوت أختها خديجة من حجرة الطعام وهي تزعق في 

يا ست مئيرة يا مهديّة. تفضلي. أعدّت لك 
خادمتك السفرة. 

وأثابها صوت أختها إلى نفسها تمامًا فيها يشبه الرجة 
فهوت من عالم المثال إلى عالم الواقع مرتعية بعضض 
الشىء لسبب غير ظاهر ‏ ما دام كل شيء قد مرٌ بسلام 
ك) قالت لنفسها- ولكنٌ اعتراض صوت أختها ‏ 
بالذات ‏ لغنائها وخواطرها أرعبهاء رثا لأن خديجة 
كانت تقف مما موقف النتقدء بيد أنها طاردت هذا 


بين القصرين 74 
القلق الطارئ وأجابتها بضحكة مقتضبة؛ ثم جرت 
إلى حجرة الطعام ترسكت الساط مزهنا وانها 
مقبلة بالصينيّة» وقالت لما محديحجة بحدّة حال دخوها: 

- تتلكئين بعيدًا حبّى أعدٌ كل شيء وحدي... 
كفاية لنا الغناء. . 

ومع أنّْها كانت تتلطف معها في الحديث تفاديًا من 
حدّة لسانها إلا أنَّ إصرار الأخرى على قرصها بلسانها 
كلما سنحت فرصة جعلها تتعلّق أحيانًا بإغاظتها فقالت 
مصطنعة الحدٌ: 

- ألم نتفق على تقسيم العمل بيئنا في البيت؟ فعليك 
هذا الواجب وعلقٌ الغناء. . 

فنظرت خديجة إلى أمّها وقالت متهكمة وهي تعني 
الأخرى : 

يمكن ناوية تكون عالمة! 

ولم تغضب عائشة, وبالعكس قالت باهتيام مصطنع 
أيضا؛ 

- وماله!. . . أنا صوتي كالكروان. 

ومع أنْ قولها السابق لم يستثر غيظها لأنه كان بين 
الدعابة إلا أنْ كلامها الأخير استثاره لأنه كان واضح 
الحقٌ؛ ولأنها تنفس عليها جمال صوتها فيها تنفس عليها 
من مزايا فقالت في تبجم: 

- اسمعي يا ست هائم. . . هذا بيت رجل شريف 
لا يعيب بناته أن تكون أصواتينّ كصوت الحمير ولكن 
يعيبهنٌ أن يكن كالصورة لا فائدة منبن ولا نفع , 

- لو كان صوتك جميلا كصوتي ما قلت هذا! 

- طبعًا! . . . كنت تغئين وأردٌ عليك» تقولين يا بو 
الشريط الأحمر يا للي... فأقول لك أسرتني ارحم 
ذلي» ونترك للست «مشيرة إلى أمها» الكنس والمسح 
والطبخ . 

وكانت الأمْ ‏ التي ألِفْت هذا النقار- قد اتذت 
مجلسها فقالت برجاء: 

أمسكا بالله واجلسا لنأكل فطورنا بسلام . 

وأقبّلتا على السماط وجلستا وحديجة تقول: 

أنت يا نينة لا تصلحين لتربية أحد. . . 


فتمتمت 3 قُِ هذدوغ : 


سامحك الله» سأترك لك أمر التربية على آلا تنسي 
نفسك.. وثمٌ مدّت يدها إلى الطبق».. بسم الله 
الرحممن الرحيم. . . 

كانت خديجة في العشرين من عمرهاء فهي كبرى 
إحوتبا فيا عدا ياسين ‏ أخاها من الأب الذي ناهر 
عامه الواحد والعشرين» وكانت قويّة ممتلئة ‏ والفضل 
لأمّ حنفي ‏ مع ميل إلى القصرء أمّا وجهها فقد قبس 
من قسمات الوالدين على بمج لم يُراعَ فيه الانسجام. 
ورثت عن أمها عينيها الصغيرئين الجميلتين»؛ وعن 
أبيها أنفه العظيمء أو صورة مصكْرة منه ولكن ليس 
إلى القدر الذي يغتفر له ومهما يكن من شأن هذا 
الأننك فق ونه :الاب اللق: تناسية ويكيسية بلالا 
ملحوظًا نقد لعب في وجه الفتاة دورًا مختلفًا. 

أمَا عائشة فكانت في السادسة عشرة من ربيعها. 
صورة من بديع الحسن» رشيقة القدّ والقوام - وإن عد 
هذا في محيط أسرتها من العيوب المتروك علاجها لأم 
حنفى - ووجه بدري تريله بشرة بيضاء مشربة بحمرة. 
رعينان زرقاوان أحسنت اختيارهما من الأب مع أنف 
الأمّ الصغير. إلى شعر ذهبيّ دللها به قانون الوراثة 
نخصّها به وحدها من ميراث جذّتها لأبيها. وطبيعىٌ 
أن تدرك خديجة ما يقوم بينها وبين شقيقتها من 
فوارق. ولم تكن براعتها الفائقة في التدبير الممرلي 
والتطريز ولا نشاطها الدائب الذي لا يكل ولا يمل 
بمغنيين عنها شيثًاء فوجدت على الغالب نحوها غيرة لم 
تراع إخفاءها مما حمل الفتاة الحسناء على البرّم بها في 
كثير من الأحايين. ولكن من سوء الحطا أن هذه الغيرة 
الطبيعيّة لم تترك رواسب سوداء في النفس. وكفاها أن 
تروّح عن حدّتها بسخرية اللسان وسلاطته. وأكثر من 
هذا أن كانت الفتاة رغم مشكلتها الطبيعيّة أما بالفطرة 
عامرة القلب بالحنؤ نحو الأسرة التي لا تعفى أفرادها 
من مرارة تبكمهاء فلم تكن غيرتها إلا نوبات تطول أو 
تقصر ولكتّها لى تنحرف بسجيّتها إلى الحقد أو 
البغضاء, بَيّد أنْ دأبها على السخرية ‏ الذي اقتصر في 
الأسرة على الدعابة ‏ خلق منها فيا وراء ذلك من 
الحيران والمعارف عيابة من الدرجة الأولى. لا تقع 


عيناها من الئاس إلا على مناقصهم كعقرب البوصلة 
المجذب إلى القطب أبذدّاء وإذا توارت المناقص 
تمحّلت في الكشف عبا وتكبيرهاء؛ ثم راحت تطلق 
على ضحاياها أوصافًا تناسب عيوبهم كادت تغلب 
عليهم في محيط أسرتبهاء فهذه حرم المرحوم شوكت 
أقدم صديقة لوالديها تدعوها «المدفع الرشاش» لتناثر 
ريقها أثناء الحديث؛» وهذه الست أمْ مريم جارتهم 
بالبيت الملاصق لبيتهم تسمّيها «لله يا أسيادي» 
لاستعارتها بعض الأدوات المنزلية من بيتهم بين حين 
وآخرء كما تدعو شيخ كاب بين القصرين «شرٌ ما 
خلق؛ لترديده هذه الآية ضمن سورتها كثيرًا بحكم 
وظيفته مع قبح وجهه. وبائع الفول «الأقرع؛ لصلعهء 
واللبّان «الأعور» لضعف بصرهء إلى تسميات مخففة 
بعض الشيء خضّت ها أسرتهاء فأمّها «المؤدْن) 
لتبكيرها في الاستيقاظء وفهمي «دعمود السرير» 
لنحافته» وعائشة والبوصة» للسبب نفسهء وياسين 
«بمبة كش لسمنته وأناقته. ولم تكن سلاطة لسائها من 
وحي السخرية فحسبء فالحقٌ أنها لم تخل من قسوة 
على من عدا أهلها من الخلق وهكذا انّسم نقدها 
للناس بالعنف؛ وتجاقى عن التسامح والعفو. كما غلب 
عليها عدم الاكتراث للأحزان التي تلم بالناس يوما 
بعد يوم» وتبدّت هذه الغلظة في البيت في معاملة أمّ 
حنفي معاملة لا تلقاها من أحد سواهاء بل في معاملة 
الحبوان الأليف كالقطط التي تحظى من عائشة بإعزاز 
يفوق الوصف. وكانت معاملتها لأمّ حنفي مثار لاف 
بينبا وبين أمّهاء فالأمٌ تعامل الخدم كيا تعامل أهل 
بيتها سواء بسواء. وكان ظبّها بالناس أئْهم ملائكة فلم 
تدر كيف تسىء الظنْ بأحد؛ على حين دأبت خدنجة 
على سوء الظنْ بالمرأة تمشيًا مع طبيعتها التي تسيء 
الظنّ بالناس جميعًاء ولم تخفف تخوّفها من بّياتها غير 
بعيد من غرفة الخزين فقالت لأمها: «من أين تجيئها 
هذه السمئة المفرطة؟!... من الوصفات الي 
تصنعها؟! كأنا نتعاطى وصفاتها فلا نسمن سمنتهاء 
ولكنّه السمن والعسل اللذان تطفح منها بغير حساب 


ونحن ثيام» . 


لكنّ الأمّ دافعت عن أمّ حنفي ما وسعها الدفاع. 
ولا ضاقت بإلحاح ابنتها قالت: «فلتاكل ما تشاءء 
الخير كثير» وبطنها له حدّ لا يتعدّاه فلن نجوع على أي 
حال». ولم يعجبها قوها وراحت تفحص صفائح 
السمن وبلاليص العسل كل صباح وم حنفي ترى 
هذا باسمة لأثْها كانت تحب الأسرة كلها إكرامًا لسنّها 
الطيّبة. وعلى النقيض من هذا كان حنان الفتاة حيال 
أهلها جميعا فلم يكن يبدأ لها بال إذا أصابت أحدهم 
وعكة. ولا مرض كيال بالخصبة أبت إلا أن تشاركه 
فراشه. حبّى عائشة نفسها لم تكن تطيق أن يلم بها 
أهون سوءء فلم يكن مثل قلبها لا في بروده ولا في 
رحمته , 

وباتخاذها مجلسها من السماط تناست ما نشب بينبا 
وبين عائشة من نقار وأقبلت على الفول والبيض بشهية 
كانت مضت الأفقال فى الآسارزة ب وكاة اللظعاة بترن ب 
إلى فائدته الهذائيّة ‏ غاية حماليّة عليا بصفته الدعامة 
الطبيعية للسمنةء فكن يتناولله في تؤدة واهتمام. 
ويبالغن في سحقه وطحنه, فإذا شبعن لم يمسكن ولكن 
يستزدن منه حيّ يمتلئن» على تفاوت لطاقاتمبنّ. فكانت 
الأمّ أسرعهنّ إلى الانتهاء. تليها عائشة. ثم تنفرد 
خديجة ببقايا المائدة فلا تتخلى عنها إلا وهي أطباق 
مغسولة. ول تكن نحافة عائشة لتتناسب مع اجتهادها 
في الأكل فضلًا عن عصيانها لسحر البلابيع, ما دعا 
خديجة للسخرية منها والقول بأنْ المكر السيّئ هو الذي 
يجعلها ثتربة غير صالحة للبذور الطيبة الى تلقى فيها. 
كا كان يطيب لا أن تعلل نحافتها بضعف دينها فتقول 
لها: «كلنا نصوم رمضان إلا أنت» تتظاهرين بالصوم. 
وتندسين في حجرة الخزين كالفارة وتملئين بطدك بالجوز 
واللوز والبندق» ثم تفطرين معنا بهم يحسدك عليه 
الصائمون ولكنّ الله لا يبارك لك». وكانت ساعة 
الفطور من الأوقات النادرة التي يمختلين فيها إلى 
انفسهنّ. فكانت أشعلق الأوقات بالمكاشفة ونفض 
السرائر مخاصة في الأمور التي يدعو إلى كتمانها عادة 
الحياء البالغ الذي تتّسم به مجالس الأسرة الحاوية 
للجنسين, وكان لدى خديجة ما تقوله رغم أنبهاكها في 


بين القصرين #4١‏ 
الأكل فقالت بصوت هادئ يختلف كل الاختلاف عن 
الصوت الذي كانت تزعق به منذ حين قصير: 

فقالت الأمّ قبل أن تزدرد لقمتها مبالغة في إكرام 
ابنتها المخيفة : 

خخير يأ بنقي إن شاء الله , 

فقالت خديجة باهتام مضاعف : 

- رأيت كأنن أمثى على سور سطح. رتما كان 
سطح بيتنا أو غيره. وإذ بشخص مجهول يدفعني 
ذفأهوري صارخة , 

وأمسكت أميئة عن تناول طعامها في اهتام جِدَي 
فلازمت الفتاة الصمث قليلا لتستأثر بأكير قدر من 
لعجا كن متك 011 ' 

- اللّهِمّ اجعله خا . 

وقالت عائشة وهي تغالب ابتسامة: 

لم أكن أنا الشخص المجهول الذي دفعك. . . 
أليس كذلك؟ 

وخافت خديجة أن يفسد الحو بالمزاح فصاحت بها : 

- إِنّه حلم وليس لعا فكي عن هذرك «ثمٌ مخاطبة 
أمُها». . . هويت صارخخحة لكي لم أرتطم بالأرض كما 
توقعت بل وقعت على جوادى حملني وطار. 

وتتبّدت أميئة في أرتياح كأئما أدركت ما وراء الحلم 
واطمأنت إليه. وعادت إلى طعامها مبتسمة؛) ثم 
قالت: 

من يدري يا مخديجة؟ . . . لعلّه العريس! . . . 

ل يكن يباح الكلام عن «العريس» إلا في هذه 
الجلسة. وفي إيجاز بالإشارة أشبه» ووجب قلب الفتاة 
الذي لم يكربه شيء كا أكربه أمر الزواج» وكانت على 
إيمان بالحلم وتأويله بحيث وجدت لكلام أمّها سرورا 
عميقاء بَيّد أنّبا أرادت أن تداري حياءها بالسخرية 
كعادتها ‏ ولو من نفسها ‏ فقالت: 

ع اتفلقن. امراف هريما لق يكوة عزريى إلا 
07 ا 

فضحكت عائشة حيّى تطاير نثار الطعام من فيهاء 
ثم حافت أن تسىء خديجة فهم ضحكتها فقالت: 


7 بين القصرين 

لَشْدٌ ما تظلمين نفسك يا خديجة!. . ما فيك من 
شيء يعاب . 

فحدجتها خديجة بنظرة تنم عن الحذر والشكُ على 
حين راحت الأمّ تقول : 

- أنت فتاة نادرة المثال» من يضارعك في مهارتك 
أو نشاطك؟. .. وروحك الخفيفة ووجهك اللطيف؟ 
ماذا تريدين أكثر من هذا؟ 

فمست الفتاة بسبابتها أرنية أنفها وتساءلت 
ضاحكة : 

- ألا يسدّ هذا طريق الأزواجح؟! 

فقالت الأم مبتسمة : 

كلام فارغ... ما زلت صغيرة يا بنية. 

وتضايقت لذكر الصغر لأنها لم تكن تعد نفسها 
صغيرة بالقياس إلى سنّ الزواجء وخاطبت أمّها قائلة : 

- لقد تزوجت يا نيلة وأنت دون الرابعة عشرة. 

فقالت الأمّ التى لم تكن في للق دون ابنتها قلمًا: 

- لا يتقدّم أمر أو يتأخر إلا بإذن الله. . 

وقالت عائشة في صدق: 

- ربّنا يفرّحنا بك قريبًا يا حديجة. 

فلحظتها خديجة بريبة وذكرت كيف طلبت إحدى 
جاراتبم يدها لابنها فرفض الأب أن تزوج الصغرى 
قبل الكبرى» وتساءلت: 

- أتودين حمًا أن أتزوج أم تتمئين أن يخلو لك 
السبيل فتروجي؟!. 

فقالت عائشة ضاحكة: 

الاثئين معا. , 


5 
ولا فرغن من الفطور قالت الأم : 
- عليك يا عائشة الغسيل اليوم؛ وعلى خديجة 
تنظيف البيت» ثم تلحقان بي في -حجرة الفرن. 
كانت أمينة توزع بينبم| العمل عقب الفطور 
مباشرة» ومع أنهها ترضيان بحكمهاء وترضى به عائشة 
بلا مناقشة» إلا أنّْ خديجة تكلف بتوجيه الملاحظات 


على سبيل الاستعلاء أو على سبيل المشاكسة. فلهذا 
قالت ؛ 

أنؤزل لك عن التنظيف إذا كنت تستثقلين 
الغسيل, أما التمشّك بالغسيل للبقاء في الام حبّى 
ينتهى العمل في المطبخ فعذر مرفوض مقَدّما. 

وتجاهلت الفتاة ملحوظتها ومضت إلى الام وهي 
تدندن فقالت لحديجة متهكمة : 

- يا بختك بالحّام يرن فيه الصوت كا يرن في نفير 
الفونوغراف فغتي وسمعىي الخيران. 

وغادرت الام الحجرة إلى الدهليز ثم إلى السلّم 
ورقته إلى السطح لتجول فوقه جولتها الصباحيّة قبل 
أن تنزل إلى حجرة الفرن. لم يكن التشماحن بين 
الفتاتين بالحديد عليها بعد أن انقلب مع الأيّام عادة 
مألوفة في غير الأوقاث التى يوجد فيها الأب في البيت. 
أو التي يطيب فيها السمر بين أفراد الأسرة» وجعلت 
تنالكه. لياع الدعايةة وإار لها البالفة وي السيانة 
الوحيدة التي تنتهجها إزاء أبنائها لأنئها صادرة عن طبع 
لا يطيق سواهاء أمّا ما تقتضيه التربية أحيانا من الحزم 
فشيء لم تعرفه. ربما تمئته دون أن تقدر عليه. ورا 
حاولت تجربته فغلبها التأثر والضعف. وكائبا لا تحتمل 
أن يقوم بينها وبين أبنائها غير أسباب المودّة والحبٌ» 
تاركة للآب ‏ أو لشخصيّته التى تسيطر من بعيد 
تقويم المعوجٌ وإلزام كل حدوده. هذا لم يضعف الثقار 
السخيف من إعجابها بفتاتيها ورضائها عهياء حي 
عائشة المولعة لحد الهوس بالغناء والوقوف أمام المرآة, 
لم تكن دون نتديجة مهارة وتدبيرًا بالرغم من تكاسلها . 
وكان هذا حريًا بان يمد لما في أوقات الراحة لولا ما 
طبعت عليه من وسوسة بالداء أشبه. فهي تأبى إِلّا أن 
تشرف على كل صغيرة وكبيرة بالبيت» وإذا فرغت 
والمنفضة في يد وراحت تتفقّد الحجرات والصالات 
والدهاليز» متفخصة الأركان والحدران والستائر وسائر 
العفش عسى أن تزيل نقطة غبار منسيّة» واجدة لذّة 
وارتياحًا كأنما تزيل قذّى من عينيهاء ومن وسسوستها 
تلك أنْها كانت تفحص الثياب المعدّة للغسيل قبل 


غسلهاء. فإذا عثرت على قطعة منها قد خرقت قذارتها 
المألوف لم تترك صاحبها دون أن تتلطف في تنبيهه إلى 
واجبه» من كيال الذي يناهز العاشرة إلى ياسين الذي 
كان ذا ذوقين متناقضين في العناية بنفسه يتجليان في 
تأئقه المفرط في مظهره من البدلة والطربوش والقميص 
ورباط الرقبة والحذاء. وإهماله المعيب لثيابه الداخخليّة . 
ومن الطبيعي آلا تغفل هذه العناية الشاملة السطح 
وسكانه من الام والدجاج» بل كانت ساعة السطح 
حافلة بالحبٌ والسرورء فيها من أغراض العمل ما 
فيهاء إلى ما تجده من فرحة اللهو والمرح. ولا عجب 
فالسطح هو الدنيا الجديدة التي لم يكن للبيت الكبير بها 
عهد قبل انضامها إليهء خلقته بروحها خلقًا جديدًا 
على حين ظل البيت محافظا على الهيئة التي شيّد عليها 
ملل عهد سحيق. هذه الأقفاص المثبتة في بعض 
جدرانه العالية يبدل عليها الحمام من وضعهاء وهذه 
الأكواخ الخشبية يقوقئ الدجاج في مسارحها من 
تركيبهاء وكم يملكها الفرح وهي ترمي ألْحَبٌ أو تضع 
على الأرض آنية السقيا فيستبق إليها الدجاج وراء 
ديكهاء. وتنبال مناقيرها على الحب في سرعة وانتظام 
كإبر آلة الخياطة. لّفة في الأرض التربة بعد حين 
ثغرات دقيقات كآثار الرذاذ. وكم ينشرح صدرها إذ 
تنظر فتراها رانية إليها بأعين دقيقة صافية» مستطلعة 
متسائلة» ناقّة مقوقئة: في مودّة متبادلة يئر لها قلبها 
الحنون. أحيّّت الدجاج والحمام ىا تحب محلوقات الله 
جميعغا. فهي تناغيها مناغاة رقيقة تحسب أثها تفهمها 
وتتأئر لهاء ذلك أن خيالا يخلع الحياة الشاعرة العاقلة 
على الحيوان. وأحيانًا الجماد نفسه. وعندها بمنزلة 
اليقين أنْ هذه الكائئنات تسبح بحمد ربّها وتتصل بعالم 
الروح بأسباب» فعالمها بأرضه وسمائه, حيوانه ونباته. 
عالم حي عاقل. ثم لا تقتصر هزاياه على نغمة الحياة 
فيكملها بالعبادة. لم يكن غريبًا بعد هذا أن تكثر 
معاتيقها من الديوك والدجاج معتلة بسبب أو بآخر. 
هذا لأثها معمّرة وتلك لأنها بيّاضِة وهذا لأنها تستيقظ 
على صياحهء ولعلها لو تركت وشأنها ما ارتضت أن 
تعمل سكينها في رقابباء وإذا دعتها الظروف إلى الذبح 


بين القصرين 147 


تخيّرت الدجاج أو الام فيما يشبه الضيق» ثم تسقيها 
وتترحم عليها وتبسمل وتستغفره وتذبحها وعزاؤها 
أنها تستمشع بحقٌ منمحه الله لان وأوسع به على 
عباده. أمّا أعجب ما في السطح فكان نصفه الجنوبي 
المغرف على النخاسين حيث غرسث يداها في الأعوام 
الخالية سحديقة فريدة لا نظير لها في أسطح الحيّ كله 
التي تغطى عادة بطبقة من قاذورات الدواجن. بدأت 
أول ما بدأت بعدد قليل من أصص القرنفل والورد, 
وراحث تستكثر منها عامًا بعد عام حيّ نضّدت صفوفًا 
بحذاء أجنحة السور وتمت نموا مهيجاء وخخطر لخيانها 
أن تقيم فوق حديقتها سقيفة» فاستدعت نجَارًا 
فأقامهاء ثم غرست شجرتي ياسمين ولبلاب ثم 
أنشبت سيقانها في السقيفة وحول قوائمهاء فاستطالت 
وانتشرت حي استحال المكان بستانًا معروشًا ذا سماء 
خضراء ينبئق منها الياسمين ويتضوع في أرجائها عرف 
طيْب ساحر. هذا السطح بسكانه من الدجاج 
والحيام» وبستائه المعروش» هو دنياها الجميلة 
المحبوبةء وملهاها الأثير في هذا العالم الكبير الذي لا 
تعرف عنه شيئاء وكشأنها في مثل هذه الساعة مضت 
تتعهده برععايتها فكنسته. وسقت زرعه؛ وأطعمت 
الدجاج والحمامء ثم تملت طويلا المنظر المحيط بها بثغر 
باسم وعينين حالمتين» ثم ذهبت إلى نباية البستان 
ووقفت وراء السيقان الملتفّة المتشابكة تمدٌ بصرها من 
ثغراتها إلى ما يليها من فضاء لا تحدّه حدود. 

كم تروعها المآذن التي تنطلق انطلامًا ذا إيجحاء 
عميق. تارة عن قرب حتى لترى مصابيحها وهلاها في 
وضوح كماذن قلاوون وبرقوق» وثارة عن بعد غير 
بعيد فتبدو لما جملة بلا تفصيل كماذن الحسين 
والغوري والأزهرء وثالثة من أفق سحيق فتتراءى 
اطيافًا كمآذن القلعة والرفاعي. وتقلّب وجهها فيها 
بولاء وافتنان» وحبٌ وإيمان» وشكر ورجاءء وتحلق 
روحها فوق ذراها أقرب ما تكون إلى السماء» ثم 
تستقرٌ منها العينان على مئذئة الحسين؛ أحبّها لحب 
صاحبها ‏ إلى نفسهاء فتنفض نظرتها حنانًا وأشواقاء 
مشوبة بحزن يطوف بها كلما ذكرت حرماءها من زيارة 


14“ بين القصرين 


ابن بنت رسول الله وهي على مسير دقائق من مثواه. 
وندبّدت نهدة مسموعة» استرذتها من استغراقها فثابت 
إلى نفسها وراحت تتسل بالنظر إلى الأسطح والطرقات 
فلم تزايلها الأشواق؛ ثم استدبرت السور وقد فاض 
بها التطلّع إلى المجهول, المجهول بالنسبة إلى الئاس 
جيمعًا وهو عالم الغيب. والمجهول بالقياس إليها 
وحدها وهو القاهرة. بل الأحياء المتاحمة التِى تترامى 
إلبها أصواتها. ترى ما هُده الدنيا التي لم تر منها إلا 
المآذن والأسطح القريبة؟! ربع قرن من الزمان خلا 
وهي حبيسة هذا البيت لا تفارقه إلا مرات متباعدة 
لزيارة أمّها بالخرنفش. وعند كل زيارة يصطحبها 
السيّد في حنطور لأنه لا يحتمل أن تقع عين على حرمه 
سواء وحدها أو بصحبته» لم تكن ساحطة ولا متذمرة, 
إنا أبعد ما تكون عن هذا. بيد أنها ما تكاد تنفذ 
ببصرها من ثغرات الياسمين واللبلاب إلى الفضاء 
والمآذن والأسطح حي تعلو شفتيها الرقيقتين ابتسامة 
حنان وأحلام. ثرى أين تقع مدرسة الحقوق حيث 
يجلس فهمى في هذه اللحظة؟ وأين مدرسة خليل آغا 
الى يؤكد كمال أنْها على مسير دقيقة من اللحسين؟. . . 
وقبل أن تغادر السطح بسطت كفيها ودعت ربّها 
قائلة: «اللّهمّ أسألك الرعاية لسيّدي وأبنائي» وأمّي 
ويس» والناس جميعًا مسلمين ونصارى» حتى الإنجليز 
با ربي وأن تخرجهم من ديارنا إكراما لفهمي الذي لا 
ينهم . 


/ 

عندما بلغ السيّد أحمد عبد الحواد دكانه الذي يقع 

أمام جامع برقوق بالنحخاسين كان جميل الحمزاوي 
وكيله قد فتحه وهيّأه للعمل. فحياه السيد تحيّة رقيقة 
وهو يبتسم ابتسامة وضيئة واتمه إلى مكتبه. وكان 
الحمزاوي في الخمسين من عمره؛ أنفق منبا شلاثين 
عامًا في هذا الدكّان, وكيلا لمنشئه الحاج عبد الجواد ثم 
وكيلا للسيّد بعد وفاة أبيه» وظلٌ على الوفاء للسيّد 
بداع من العمل والحبٌ معًاء فهو يبل ويحبّه ىا يجله 
ويحبّه جميع من يتصل به بسبب من أسباب العمل أو 


الصداقة. والحقٌ لم يكن السيّد مرهوبًا مموفًا إلا بين 
أهله. أمًا بين سائر الناس من أصدقاء ومعارف 
وعملاء فهو شخص آخرء له حظه الموفور من المهابة 
والاحترام. ولكنّه شخصيّة محبوبة قبل كل شيء. 
ومحبوبة لظرفها قبل أيّ من سجاياها الحميدة الكثيرة. 
فلا الناس يعرفون السيّد الذي يقيم في بيتهء ولا أهل 
البيت يعرفون السيد الذى يعيش بين الناس. وكان 
دكانه متوسّط الحجم؛ مكدّسة رفوفه وجنباته بجوالات 
البنّ والأررٌ والنّقل والصابون» وعند ركنه الأيسر في 
قبالة المدخحل يقوم مكتب السيّد بدفاتره وأوراقه 
وتليفونه» وإلى البمين من مجلسه تقوم الخزانة الخضراء 
داخل الجدار يوحي منظرها بالصلابة ويذكر لونبا 
بالأوراق الماليّة. وفي منتصف الحدار فوق المكتب على 
إطار من الأبنوس نقشت بداخله البسملة نموهة 
بالأهب. ولم تكن عجلة الدكان تدور قبل الضحى . 
فجعل السيّد يراجع حسابات اليوم السابق بمثابرة 
ورثها عن أبيه وحافظ عليها بحيويّته الموفورة» على 
حين وقف الحمزاوي عند المدخل شابكًا ذراعيه على 
صدره مواصلا تلاوة ما تيسّر من الآيات في صوت 
باطيَ غير مسموع دلت عليه حركة شفتيه المستمرّة, 
ووسوسة نحافتة تلد من آن لآن عن أحرف المسين 
والصاد» ولم يتوقف عن تلاوته حبّى جاء شيخ ضرير 
رنبه السيد كلّ صباح. وكان السيد يرفم رأسه من 
الدفتر في فترات متباعدة فيستمع إلى التلاوة أو يد 
بصره إلى الطريق حيث لا ينقطع تيار المارّة وعربات 
اليد والكاروء وسوارس التي تكاد تترنح من كبرها 
وثقلهاء والباعة المغون وهم يترون بطقاطيق الطماطم 
والملوخحيّة والبامية كل على مذهبهء ولم تكن الضوضاء 
لتحول بيئه وبين تركيز ذهئه بعدما اعتادها وألفها أكثر 
من ثلاثين عامًا فاستنام إليها حبّى ليزعجه سكوتها. ثم 
جاء زبون فشغل الحمزاوي به وأقبل لفر من 
أصحاب السيّد وجيرانه من التجار تمن يحبون أن 
بقضوا معه وقنّا طيّبًا ولو لزمن وجيز يتبادلون فيه 
التحيّة ويغيرون ريقهم ‏ على حدٌ تعبيرهم ‏ على دعابة 
من دعاباته أو نكتة من نكته, الأمر الذي جعله يفاخر 


بنفسه كمحدّث فائق البراعة, لا يخلو حديثه من لمعات 
غير مقطوعة الصلة بالثقافة العامة التى اكتسبهاء لا من 
التعليم حيث توقف فيه دون الابتدائيّة» ولكن من 
قراءة الصحف ومصادقة نخبة من الأعيان والموظفين 
والمحامين الذين أهّله لمخالطتهم ‏ مخالطة الندّ للندٌ 
حضور بدبهته ولطفه وظرفه ومنزلته كتاجر موفور 
الرزق» فاستجدٌ لنفسه عقلية غير العقليّة التجارية 
الملسذوةة مناعقيم مه: اأعمتزاره: نينا هنا حاف ا ولنداق 
الممتازون من حبٌ واحترام وتكريم» ولمًا قال له 
أحدهى مرّة في صدق وإخلاص: «لو أتيح لك يا سيّد 
أحمد أن تدرس القانون لكنت ماميًا مفوها نادر المثال» 
نفخ قوله في حيلائه الذي يحسن مداراته بظرفه 
وتواضعه وحلو معاشرته. ولم يطل بأحد من الوافدين 
الحلوس فذهيوا تباغعاء وتزايدت حركة العمل 
بالدكان» ثم فجأة دخل رجل مهرولا كأنما دفعته يد 
قويّة» ووقف في منتصف الدكان وهو يضيّق عينيه 
الضيّقتين ليحدٌ بصره. وسدّدهما صوب مكتب السيّدى 
ومع أنه لم يكن يفصله عنه أكثر من ثلاثة أمتار إلا أنه 
أجهده في معاينته بلا طائل ثم هتف متسائلا: 

السيد أحمد عبد الواد موجود؟ 

فقال السيّد باسما: 

أهلا وسهلا بالشيخ متولي عبد الصمد» تفضل» 
جلك ارك 

وعطف الرجل رأسه فصادف اقتراب الحمزاوي منه 
ليسلّم عليه ولكنّه لم ينتبه ليده الممدودة وعطس على 
غير انتظار فتراجع الحمزاوي وهو يخرج منديله وقد 
التقت في صفحة وجهه ابتسامة وتقطيبة» واندفم 
الشيخ إلى المكتب وهو يتمتم «والحمد لله رث العالمين». 
ثم رفع طرف عباءته ومسح به على وجهه. وجلس 
على الكرسيّ الذي قدّمه السيّد له. وبدا الشيخ في 
صححة يحسد عليها على سئه التي جاوزت الخنامسة 
والسبعين. ولولا عيناه الكليلتان الملتهبتا الأشفار» وفوه 
المندثرء ما وجد ما يشكوهء وكان يتلقع بعباءة بالية 
ناصلة وإن أمكنه أن يستبدل مها خخيرًا منبا بما مجود به 
المتعسكوة ): ولكته ابعميك .ها لآل فا يقولد راق 


بين القصرين 48" 

الحسين في منامه وهو يباركه فبثْ فيها خيرًا لا يبل. 
وكان إلى كراماته في قراءة الغيب والدعوات الشافية 
وعمل الأُجبة معروفًا بالصراحة والظرف. وبه منّسم 
للدعابة والمزاح نما زاد من قدره عند السيّد خاصة» 
ومع أنه كان من سككان الحيئ إلا أنّه لم يثقل على أحد 
من مريديه بالزيارات» ورثما توالت الأشهر وهو غائب 
لا يُعلم له مكان: فإذا ألم بزيارة بعد انقطاع لاقى 
ترحابًا وأشواقًا وهدايا. وقد أشار السيّد إلى وكيله ليعدٌ 
للشيخ الهديّة المعتادة من الأرز والبنُ والصابون» ثم 
قال للشيخ مرحبا: 

- أوحشتنا يا شيخ متولي... هنل عاشوراء لم 
لستمتع برؤيتك . 

فقال الرجل ببساطة وبغير مبالاة : 

- أغيب كما يحلو لي» وأحضر كما يحلو لي» ولا 
أسال هن (السيسة» .. 

فابتسم السيّد الذي ألف أسلوبه وتمتم قائلا: 

إذا غبت أنت فإِنّ بركتك لا تغيب. . . 

فلم يَبْدُ على الشيخ أنه تأثْر لإطرائه؛ وعلى العكس 
حرّك رأسه حركة تدلٌ على نفاد الصير وقال بخشونة : 

ألم أيه عليك أكثر من مرّة بالا تفاتحني بالحديث. 
وأن تلزم الصمت حجّ أتكلّم أنا؟ ! 

فقال السيّد وبه رغبة في التحكك به: 

- معذرة يا شيخ عبد الصمدء لثن كنت لسيت 
تنبيهك فعذري أل أنسيته لطول غيابك. 

فُضرب الشيخ كفًا بكف وهتف: 

- عذر أقبح من ذنب... (شم مئذرًا بسبابته) إذا 
تماديت في مخالفي امتنعت عن قبول هديتك! 

فأطبق السيّد شفتيه باسطًا راحتيه استسلامًا حامل 
نفسه على الصمت هذه المرّة» فتريّث الشيخ متولي 
ليتاكد من دخوله طاعته: وتنحنح ثم قال: 

انك «المتاذة عل عه الخلى لمن 

فقال السيّد من الأعماق : 

عليه الصلاة والسلام . 

وأثنى على أبيك بما هو أهله. رحمه الله رحمة 
واسعة وأسكنه فسيح حتاتةه. كال يه تكلا ليك 


8 بين القصرين 
هُذاء لا فارق بين الأب وابنه إلا أنّ الراحل حافظ 
على العامة واستبدلت بها هذا الطربوش. . . 

فتمتم السيّد مبتسما: 

فليغفر الله لنا. , , 

فتثاءب الشيخ حبّى دمعت عيناه ثم استطرد قائلا : 

وأدعو الله أن يمن على أبنائك بالفلاح والتقوى, 
ياسين وخديجة وفهمي وعائشة وكال وأمهم آمين. . . 

ووقم نطق الشيخ باسمي خديجة وعائشة من أذني 
السيّد موقعًا غريبًا على الرغم من كونه هو الذي أفضى 
إليه باسميهما منذ عهد طويل ليكتب فها حجابين, 
وليست أؤل مرّة ينطق الشيخ باسميههاء ولا آخر مرة» 
ولكن لم يكن يتردّد اسم واحدة من حريمه بعيدًا عن 
الحجرات - ولو على لسان الشيخ متولي ‏ حبّى يقع من 
نفسه موقعًا غريبًا ينكره ولو إلى حين. بيد أنه غمغم 
قائلا : 

آمين يا رث العالمين. . . 

فتدبد الشيخ قائلا : 

- سم أسأل الله المان أن يعيد إلينا أفندينا عباس 
مؤيّدًا بجيش من جيوش الخليفة لا يُعرف له أل من 
أخبر. . 

- نسأله وليس شيء عليه بكثير. . . 

فعلا صوت الشيخ وهو يقول غاضبا: 

- وأن يمنى الإنجليز وأعوانهم ببزيمة منكرة فلا تقوم 
هم بعدها قائمة. 

ربنا يأخذهم جميعا. . , 

فحرك الشيخ رأسه في أسى وقال بحسرة: 

كنت بالأمس سائرًا في الموسكي فاعترض سبيلٍ 
جنديّان أستراليّان وطالباني بما معي فيا كان مب إلا أن 
نفضت ليا جيوي وأحرجت الشثىء الووحيد الذي كان 
معي وهو كوز ذرة فتناوله أحدها وركله كالكرة 
وخطف الآخر عمامتي وحلٌ الشال ومزّقه ورمى به في 
رح وى . 

وتابعه السيّد وهو يغالب ابتسامة تراوده فيا لبث أن 
داراها بالمبالغة في إظهار استيائه صائحًا في استنكار: 


قاتلهم الله وأهلكهم. . . 


فأتم الرجل حديئه قائلا : 

- رفعت يدي إلى السماء وصحت: يا جبار مزق 
أمتهم كيا مزقرا شال عبامتي . . 

دعوة مستجابة بإذن الله . . 

ومال الشيخ إلى الوواء وأغمض عينيه ليستريح 
قليلاء ولبث على حاله والسيّد يتفرس في وجهه 
ف ثم فتحم عينيه وخاطب السيّد بصوت هادئ 
ونبرات تنلدر بموضوع جديدء قائلة: 

يا لك من رجل شهم جميل المروءة يا أحمد يا بن 
عبد الجواد! . . . 

فابتسم السيّد في رضى وقال بصوت خفيض : 

أستغفر الله يا شيخ عبد الصمد. . . 

فبادره الشيخ قائلا : 

لا تتعيججلء إِنْ مثلى لا يُلقي الثناء إلا تمهيدًا 
لقول الحقٌء على سبيل التشجيع يا بن عبد الجواد. . 

فلاح الاهتهام والحذر في عيني السيّد وقتم قائلا : 

- ربنا يلطف بنا. . . 

فأشار إليه بسبابته العجراء وتساءل فيا يشبه 
الوعيد: 

ماذا تقولء وأنت المؤمن الوّرع؛ في وَلْعك 
بالنساء؟ 

كان السيّد معتاذا لصراحته فلم ينزعج لانقضاضه. 
وضحك ضحكة مقتضبة ثم قال: 

ما عل من ذاكء ألا يحدّث رسول الله مَلئِاٌ عن 
حيّه للطيب والنساء؟ 

فقطب الشيخ ومط بوزه محتججا على منطق السيّد 
الذي لم يعجبه وقال: 

الحلال غير الحرام يا بن عبد الجوادء والزواج غير 
الحري وراء الفاجرات. . 

فملٌ السيّد بصره للاشيء وقال بلهجة جذية: 

- ما ارتضت نفسي يومًا أن تعتدي على عرض أو 
كرامة قط. والحمد لله على ذلك. . 

فضرب الشيخ ركبتيه بيديه وقال بغرابة واستنكار: 

- عذر ضعيف لا ينتحله إلا ضعيف» والفسق لعنة 
ولو يكن بفاجرة» كان أبوك رحمه الله مولعا بالنساء 


فتزوّج عشرين مرّة فلإذا لا تنتهج سبيله وتتذكب 
طريق المعاصي؟ ! 

فضحك السيّد ضحكة عالية وقال: 

أأنت ول من أولياء الله أم مأذون شرعئ؟! كان 
أي شبه عقيم فأكثر من التزوّج» وبالرغم من أنه لم 
يدجب سواي إلا أن عقاره تبدّد بيني وبين زوجات 
أربع مات عنبنٌّ؛ إلى ما ضاع على النفقات الشرعيّة 
في حياته, أمَا أنا فأب لثلاثة ذكور وأنثيين» وما يجوز 
لي أن أنزلق إلى الإكثار من الزوجات فأبدّد ما يشر الله 
علينا من رزق, ولا تَنْسٌ يا شيخ متولي أنْ غواني اليوم 
هنّ جواري الأمس واللاتي أحَلّهنّ الله بالبيم والشراع 
والله من قبل ومن بعد غفور رحيم. . . 

فتأوه الشيخ وقال وهو بهز نصفه الأعلى يمنة ويسرة : 

ها أبرعكم يا بني آدم في تحسين الشرّء والله يا بن 
عبد الجحواد لولا حي لك ما باليت أن تحدّئني وأنت 
قاعد على فاجرة. . , 

فبسط السيّد راحتيه وقال باسما: 

- اللْهمٌ استجب . . 

فنفمخ الشيخ متبرّمًا وهتف قائلا: 

لولا مزاحك لكنت أكمل الناس. . . 

ب الكال لله وحده. , 

فالتفت إليه وهو يشير بيده كأئه يقول «ِفْلْنَدَعْ هذا 
جانبًاه ثم ساءله بلهجة المحقّق الذي ضيّق عليه 
الخناق : 

والخمر؟ . . . ماذا تقول فيها؟! 

وسرعان ما فترت روح السيد ولاح في عينيه الضيق 
ولزم الصمت ملياء وآنس الشيخ من صمته تسليم) 
فصاح بظفر: 

أليست حراما لا يقارفه من يحرص على طاعة الله 
ومحيته ؟ 

فبادره السيّد قائلا في حماس من يدفع بلاء محقّقًا: 

لشدٌ ما أحرص على طاعة الله وممبته! 

باللسان أم بالعمل؟ 

ومع أن الجواب كان حاضا! إلا أنه تمهّل متفكدًا 
قبل أن ينطق به. لم يكن من عادته أن يشغل نفسه 


ببن القصرين 41م 
بالتفكير الذايّ أو التأمّل الباطنيّ. شأنه في ذلك شأن 
الذين لا يكادون يخلون إلى انفسهم., ففكره لا يعمل 
حش يبعثه إلى العمل شىء خارجيّ. رجل أو امرأة أو 
سبي من أسباب ل العمليّة» وقد استسلم لتيار 
حياته الزاخر مستغرقا فيه بكلّيّته. فلم ير من نفسه إِلَا 
صورتها المنعكسة على سطح التيّار ثم لم يتراح توتّبسه 
للحياة مع تقدّم العمر لآنه بلغ الخامسة والأربعين ولم 
يزل يتمتّع بحيويّة فيّاضة مشبوبة لا يتأئّر بها إلا الشابٌ 
اليافع . لذلك معت حياته شتّى المتناقضات الي تراوح 
بين العبادة والفسادء وحازت حميعا رضاه على تناقضهاأ 
دون أن يدعم هذا التناقض بسند من فلسفة ذائيّة أو 
تدبير تمّا يصطنم الناس من ألوان الرياءء ولكنّه كان 
يصدر في سلوكه عن طبيعته الخاضصة بقلب طيُب 
وسريرة نقيّة وإخملاص في كل ما يفعل» فلم تعصف 
بصدره عواصف الحيرة؛. وبات قرير العين. وكات 
إيمانه عميمًا. أجل كان إيانًا موروئًا لا دحل للاجتهاد 
فيه» بَيّد أن رقّة مشاعره ولطافة وجدانه وإخلاصه 
أضفت عليه إحساسًا رهيفا سامبًا نأى به عن أن يكون 
تقليدًا أعمى., أو طقوسًا مبعثها الرغبة أو الرهبة 
فحسبء وبالجملة كان أبرز ما يتميّز به إيمانه بالحبٌ 
الخصب النقئّ. بهذا الإيمان الخصب النقيَ أقبل يودي 
فرائض الله جميعا. من صلاة وصيام وزكاة في حب 
ويسر ومرورء إلى سريرة صافية وقلب عامر يحب 
الناس ونفس تسلخو بالمروءة والنجدة جعلت منه 
صديقًا عزيرًا يستبق القوم إلى الري من منهله العذب» 
وبتلك الحيويّة الفيّاضة المشبوية فتح صدره لمسدات 
الحياة ولذائذهاء مبش للمأكل الفاخر.ء ويطرب 
للشراب المعتق. ومهيم بالوجه القسيم. فيغبل منها 
جميعًا في فرح ويهجة وولمء غير مثقل الضمير 
بإحساس خطيئة أو وسواس قلق. فهو يمارس حمًا 
منحته إيّاه الحياة. وكأنما لا تعارض بين ححقٌ الحياة على 
قلبه وحقّ الله على ضميرهء فلم يشعر في ساعة من 
حياته بأنه بعيد عن الله أو عرضة لنقمته. وآنخاه في 
السلام. أكان شخصين منفصلين في شخصية 
واحدة؟!... أم كان في اعتقاده في السماحة الإطيّة 


م" بين القصرين 


بحيث لا يصدّق أنها تحرّم هاتيك المسرّات حقّاء وحتّى 
في حال تحريمها فهي حَريّة بأن تعفو عن المأنبين ما لم 
يؤذوا أحذا؟! الأرجح أنه كان يتلقّى الحياة بقلبه 
وإحساسه دون ثمّة تفكير أو تأمل» وجد بنفسه غرائز 
قويّة» يطمح بعضها لله فراضها بالعبادة؛ ويتحفز 
بعضها الآخر لِنّذَّات قارواها باللهو. وخلطها بنفسه 
جميعًا آمئا مطمئنًا دون أن يشقّ على نفسه بالتوفيق 
بينها. لم يكن يضطرٌ إلى تبريرها بفكره إلا تحت ضغط 
انتقاد كالذي جامبه الشيخ موك عبد الصمدء وفي 
هذه الخال جد نفسه أضيق بالتفكر مله بالتهمة 
نفسهاء لا لأنه يبون عليه أن يكون متها أمام الله 
ولكن لأنّه لا يصدّق أبدًا أنه متّهم. أو أن الله يغضبه 
عا ]اك ليو دزالا تيبي نهدا أذ انا دكي 
فكان يتعبه من ناحية ويكشف عن تفاهة علمه بديله 
من ناحية أخرىء, لذلك تَجهّم للسؤال الذي ألقاء 
الرجل عليه متحذّيًا وهو «باللسان أم بالعمل» وأجابه 
بلهجة لا يخفى فيها الضيق : 

باللسان والعمل معاء بالصلاة والصيام والزكاة, 
بذكر الله قائمًا وقاعدّاء وما علي بعد ذلك إذا روحت 
عن نفسي بشيء من اللهو الذي لا يؤذي أحذًا أو 
يغفل فريضة» وهل حرّم حرّم إلا لهذا أو ذاك؟ 

فرفع الشيخ حاجبيه وأغمض عينيه معلئًا عن عدم 
التداعه ثم متم : 

يا له من دفاع في سبيل الباطل ! 

وتحوّل السيّد فجأة من الضيق إلى المرح كعادته 
فقال بأريحية : 

- الله غفور رحيم يا شيخ عبد الصمدء إني لا 
أتصوّره عر وجل غاضبًا أو متجهًا أبذّاء حي انتقامه 
رحمة خافية» وإني أقدّم بين يديه الحبٌ والطاعة والبنّ 
والحسنة بعشر أمثاها. . . 

د أمًا في حساب الحسئات فأنت رابح . . 

فأشار السيد إلى جميل الحمزاوي ليأق بهديّة الشيخ 
وهو يقول مسرورا: 

-حسينا الله ونم الوكيل . 

وجاءه الوكيل باللفة قأحذها السيّد وقدّمها إلى 


الشيخ وهو يقول ضاحكًا: 

فتناوها الشيخ وهو يقول: 

د وزقلك الله وزقا واسمًا وغفر للف: ..: 

فغمغم السيد «آمين» ثم سأله باسمّ): 

- ألم تكن يومًا من أهل ذلك يا سيّدنا الشيخ؟! 

فضحك الشيخ قائلا : 

سامحك الله أنت رجل كريم طيّب القلب. 
وبذه المناسبة أحذّركم من التهادي في الكرم فإنّه لا 
يتفق وما يطالب به التاجر من القصد. . . 

فتساءل السيد دهشًا: 

ِ أتغريي باسترداد المدية؟ 

فهض الرجل وهو يقول: 

هديتى لا تجاوز القصد فابدأ بغيرها يا بن عبد 
الجواد والسلام عليكم ورحمة الله. . . 

وغادر الشيخ الدكان مهرولا وغاب عن الأنظار, 
ولبث السيّد مفكراء ومضى يدير في نفسه ما ثار من 
جدل بينه وبين الشيخ ثم بسط راحتيه في ضراعة وتمتم 
«اللّهمّ اغفر لي ما نُقدّم وما تُأخر من ذنب, اللَّهمّ 
إِنْك أنت الغفور الرحيم» . 


/ 

عند العصر غادر كيال مدرسة خليل آغا يضطرب 

في تيار زاخحر من التلاميذ الذين يسدون الطريق 
بزحمتهم ثم يأخذون في التفرّق» بعضهم إلى الدراسة, 
وبعضهم إلى السكة الجديدة؛ وآخرون إلى طريق 
الحسين؛ على حين تتحلق جماعات منهم حول الباعة 
المتجوّلين الذين يعترضون تياراتهم عند رءعوس 
الطرفات المتفرّقة عن المدرسة بما تحمل سلالهم من 
اللب والفول السودانّ والدوم والحلوى. وإلى هذا فلا 
يخلو الطريق في هذه الساعة من معارك تنشب هنا 
وهناك بين تلاميذ اضطرٌوا إلى كتمان خلافاتهم في أثناء 
المبار تفاديا من العقوبات المدرسيّة. وكانت المرّات 
التي سيق فيها إلى الاشتباك في معركة نادرة جدّاء 
ولعلها لم تَعْدُ المرّتين طوال العامين اللذين قضاهما في 


المدرسة. لا لندرة خملافاته التي لم تكن نادرة في 
الواقع. ولا لكراهية للعراك فقد أورثه اضطراره إلى 
تجّبه أسفًا عميقّاء ولكن لتقدّم الكثرة الغالبة من 
التلاميذ عليه في السنّ مما جعله هو وقلّة من أترايه 
غرباء في المدرسة يتعرون في بنطلوناهم القصيرة بين 
تلاميل طعنوا فيا بعد اللخئامسة عشرة وكثير منهم ناهزوا 
العشرين» فشْمّوا طريقهم في صلف وكبرياء وقد طرّت 
شواريهم. من هؤلاء من كان يتعرّض له في فناء 
المدرسة بلا سبب فيخطف الكتاب من يده ويقذفه 
بعيدًا كالكرة» أو من يسلبه قطعة من الحلوى فيدسّها 
في فمه بغير استثذان مواصلا ما كان فيه من حديث» 
فلم تكن الرغبة في العراك لتنقصه ولكنّه كظمها تقديرًا 
للعواقب» وما لبّاها حي دعاه إليها أحد أقبرانه 
الصغارء فوجد الحجوم عليه متنفسًا لعواطفه الثائرة 
المكبوتة واسترداده لثقته بقوته ونفسه. وليس العراكى 
أو العجز عنه. بأسوأ ما لاقى من وقاحة المعتدين, 
فإلى هذا ما كان يترامى إلى أذنيه. سواء كان المقصود 
به أم غيره. من الشتائم والسباب. منه ما فطن لمعناه 
فحذره» ومئه ما جهله فردده في البيت بحسن نيّة فأثار 
به عاصفة من الثورة والفزع اتصلت أنباؤها في صورة 
شكوى لضابط المدرسة الذي كان صديقًا لأبيه» ولكنّ 
سوء الحظ وحده هو الذي قفى بأن يكون أحد غرييه 
في المعركتين الوحيدتين اللتين خخاضههما من أسرة فتؤات 
معروفة بالدراسة. فلا كان عصر اليوم التالي للمعركة 
وجد الغلام في انتظاره عند باب المدرسة عصابة من 
الشبّان مدبجّجين بالعصي في هالة من شر مستطير. 
ولمًا أشار إليه غرعه ليدلٌ عليه تثبّه لحركته وأدرك ما 
يترئبص به من خطر فتراجع هاريًا إلى المدرسة وهو 
يستغيث بالضابط. وعبشًا حاول الرجل أن يصرف 
العصابة عن مقصدهاء وأغلظوا له القول حيّى اضطرٌ 
إلى استدعاء شرطيّ ليوصل الغلام إلى دارهء وزار 
الضابط السيّد في دكانه وأنبآه بما يتهدّد ابنه من شت 
ناصحا إيَاه بمعالحة الأمر بالحلم والكياسة, ولأ السيّد 
إلى بعض معارفه من تَحجَار الدراسة فمضوا إلى بيث 
الفتؤات مستشفعين له وهئالك استعان السيّد با 


بون القصرين 4ع ؟ 


عرف عنه من سماحة نفس ورقة شهائل حيّى ألان 
عريكتهم فأصدروا عن الغلام عفوهم بل وتعهّدوا 
بحايته كأحد أبنائهم. ول ينته اليوم حتّى بعث السيّد 
بمن يحمل إليهم نفحة من هداياه. ونجا كيال من 
عصيّ الفتوّات ولكنْه كان كالمستجير من الرمضاء 
بالا لأنْ عصا أبيه فعلت بقدميه ما لم تكن لتفعله 
عشرات العصي . 

غادر الغلام المدرسة, ومع أنه كان لربين الجرس 
المؤذن بانتهاء اليوم الدراسيّ فرحة في نفسه لا تعادلهها 
فرحة في تلك الآيّام إلا أن نسائم الحرّيّة الني نشقها 
خارج بوابة المدرسة بصدر رحب ل كحْ أصداء الدرس 
الأخير الحبيب ‏ درس الديانة ‏ من قلبه. وقد قرأ 
عليهم الشيخ ذلك اليوم سورة «قل أوحي إل أنه 
استمع نفر من الجن وشرحها لهم. فتركّز فيه بوعيه, 
ورفع أصبعه أكثر من مرّة سائلا عنّا أغلق عليه. ولي 
كان الأستاذ يعطف عليه لإقباله على الاستاع لدرسه 
باهتام بارزء إلى حفظه للسور حفظًا جيّدًاء فقد أوسع 
صدره لأسئلته بحال يندر أن يحظى مها أحد التلاميذع 
وراح الشيخ يحدثه عن الحنْ وطوائفهم. وعن 
المسلمين منهم خاصة الذين سيظفرون بالجئة في النباية 
أسوة بإحوانهم من البشرء وحفظ الغلام عن ظهر 
قلب كل كلمة نطق بهاء ولم يزل يديرها في نفسه حي 
هذه اللحظة الى يعبر فيها الطريق قاصدًا دكان 
البسبوسة على الحانب الآخرء فإلى شغفه بالديانة كان 
يعلم أنه لا يتلقاها لنفسه فحسب. وأنّ عليه أن يعيد 
ما وعى منها في البيت على أمّه ‏ كما اعتاد أن يفعل مل 
كان في الكتاب ‏ فيلقي إليها بمعلوماته وتستعيد هي 
على ضوئها ما عندها من معلومات عرفتها عن أبيها 
الذي كان شيسًا أزهريّاء ويتذاكران معارفها طويلا ثم 
يحفظها الجديد من السور التي لم يسبق لما حفظها. 
وانتهى إلى دكان البسبوسة فمدٌ يده الصغيرة بالملاليم 
الي احتفظ مها منذ الصباح. ثم تناول القطعة في 
ارتاح شامل لا يشعر به إلا في مثل هذا الموقف 
اللذيذء ما جعله يحلم كثيرًا بأن يكون يومًا صاحب 
دكان حلوى ليأكلها لا ليبيعهاء ثُمّ واصل سيره في 


"٠‏ بين القصرين 


شارع الحسين وهو يقضم منها مسرورًا مترئمًا. نسي 
وقتذاك أنّه كان سجيئًا المبار كلّه. وأنّه كان محرومًا من 
الحركة فضلًَا عن اللّعب والمرح» وأنّه كان عرضة في 
أيّة لحظة لعصا المدرّس المسلّطة على الرءوس» بَيْد أنه 
رغم هُذا كله لم يكره المدرسة كراهية مطلقة لأنه كان 
يظفر بين جدرانها بأسباب من التقدير والتشجييع - 
بسبب تفوقه الذي يرجع كثير من الفضل فيه إلى 
شقيقه فهمي ‏ لا يحظى بعشر معشارها عند أبيه. ومر 
في طريقه بدكّان ماتوسيان لبيع السجائر فوقف كعادته 
كل يوم في مثل هذه الساعة تحت لافتتها يصعد عينيه 
الصغيرتين إلى الإعلان الملؤن الذي يصور امرأة 
مضطجعة على ديوان وبين شفتيها القرمزيتين سيجارة 
يتطاير منها دخان متعرّج» معتمدة بساعدها على حافة 
نافدة يلوح وراء ستارتما المنحسرة منظر يجمع بين حقل 
نخيل ومرَى من مجريات النيل. وكان يدعوها فيما بيئه 
وبين نفسه «أبلة عائشة؛ لما بين الاثنتين من شبه يتمثل 
في الشعر الذهبيَ والعينين الزرقاوين» ومع أنه كان 
يناهز العاشرة إِلَّا أنَّ إعجابه بصاحبة الصورة فاق كل 
تقديرء فكم تخيّلها متمتعة بالحياة في أمبج مناظرهاء 
وكم تخيل نفسه وهو يقاسمها حياتها الرغيدة بين حجرة 
ناعمة» ومنظر ريفئ متاح لما لما أرضه وتخيله 
وماؤه وسماؤه. يسبح في الوادي الأخضر أو يعبر المر 
في قارب بدا في نهاية الصورة كالطيف,. أو بهزْ النخيل 
فيساقط عليه الرطب» أو مجلس بين يدي الحسناء 
طامح الطرف إلى عينيها الجالمتين. على أنه لم يكن 
حميلا كاخويه. ولعله كان أشبه الأسرة بأخته منخديجة, 
فمثلها قد جمع في وجهه بين عيني أمّه الصغيرتين وأنف 
أبيه الضخم ولكن بكامل هيثته لا مهذَّبًا بعض 
التهذيب كما ورئته خديجة. إلى رأس كبير يبرز عند 
الجبهة برورًا واضحًا جعل عينيه تبدوان غائرتين أكثر 
ما هما في الواقع» وكان من سوء الحظ أن نيّه إلى غرابة 
صورته بحال مثيرة للسخرية حين دعاه أحد الرفاق 
بأبي «رأسين» فأهاج غضبه وأورطه في إحدى المعركتين 
اللتين خاضهياء ول يسككن خاطره الانتقام فشكا في 
البيت حزنه إلى أمّه التي تكدّرت لكدره وراحت تعزيه 


مؤكّدة له أن كبر الرأس من كبر العقل» وأنّ النبي 
عليه السلام كان كبير الرأس» وأنّه ليس وراء التشابه 
بين الرسول وبيئه من مطمع لطامع. ولا انتزع نفسه 
من صورة المدخنة واصل سيره رانيًا هله المرّة إلى جامع 
الحسين الذي قضت نشاأته بآن يكون لقلبه مثار أخيلة 
وعواطف لا تنضب. ومع أن المكانة التي نزها الحسين 
من نفسه- تبعا لمنزلته من نفس أمّه خاصّة والأسرة 
عامّة كانت وليدة قرابته من النبئَ إلا أنْ معرفته للنبي 
وسيرته لم تكن شفيعا إلى معرفته بالحسين وسيرته» وما 
تبفو نفسه داثما إليه من استعادة هذه السيرة والتزود 
منها بأنبل القصص وأعمق الإيمان. حتّى لقد وجدت 
منه على مرّ القرون مستمعًا مشغوفا ومحبًا مؤمئًا وأسيقًا 
بكاءء فلم ببوّن من بلواه إلا ما قيل من أنْ رأس 
الشهيد بعد فصله عن جسده الطاهر لم يرض من 
الأرض مسكنًا إلا في مصر فجاء طاهرًا مسبّحًا ثم ثوى 
حيث يقوم ضريحه. وكم وقف حيال الضريح حالم 
مفكُرّاء يود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على 
الوجه الجميل الذي أكدت له أمّه أنه قاوم غِيّر الدهر 
بسرّه الإلمئ فاحتفظ بنضارته ورونقه حيث يضيء 
ظلمة المثوى بنور غرّته. ولمًا لم يجد إلى تحقيق أمنيته 
سبيلا قنع بمناجائه في وقفات طويلة» مفصحًا عن 
حبّه. شاكيا إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن 
العفاريت وخحوفه من تبديد أبيه مستنجذًا به على 
الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثئة أشهر. ثم نحاتما 
مناجاته عادة بالتوسّل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه . 
ومع أن عادة مروره بالجامع صباحًا ومساءً قفتت 
بعض الشيء من شدّة تأئره به إلا أنّه لم تكن تقع عليه 
عيئاه حبّى يقرأ له الفاتحة ولو تكرّر ذلك منه مرّات في 
اليوم الواحد. أجل لم تستطع العادة أن تقتلم من 
صدره ببجة الأحلام؛ فلم يزل لمنظر الحدران السامقة 
تجاومبها مع قلبه. ولم يزل لمتذنته العالية نداء ما أسرع 
أن تلبيه نفسه. قطع طريق الحسين وهو يقرأ الفاتمة 
ثم انعطف إلى خحان جعفرء ومنها اتجه إلى بيث 
القاضي. ولكنّه بدلا من أن يمضي إلى البيت مخترفًا 
النحاسين عبر الميدان إلى درب قرمز على وحشته 


وإثارته لمخاوفه ليتفادى من المرور بدكان أبيه. كان 
يرتعد فَرَقًا من أبيه ولا يتصوّر أنه يخاف العفريت لو 
طلع له أكثر منه إذا زعق به غاضباء وضاعف من 
كربه أنه لم يقتنع يومًا بالأوامر الصارمة التي يلاحقه مها 
للحيلولة بينه وبين ما تصبو إليه نفسه من اللعب 
والمرحء فلو أنّه أذعن لمشيئته تخلصًا لقضى وقت فراغه 
كلّه متربّعًا مكتوف اليدين لذلك لم يسعه أن يطيع تلك 
المشيئة الحمّارة العاتية وامختلس اللهو من وراء ظهره 
كلما حلا له في البيت أو في الطريق» وظل الرجل 
على جهل بأمره إلا أن يبلغه شيء بوشاية من أهل 
البيت إذا ضاقوا بغلوّه وإفراطه. من ذلك أنه جاء يومًا 
بسلّم وارتقاه إلى عرش اللبلاب والياسمين فوق 
السطوح» ورأته أمّه وهو على تلك الحال بين السماء 
والأرض فصر حت فزعة حي أجبرته على النزول» ثم 
غلب إشفاقها من مغبة لعبة خطيرة كتلك على خوفها 
عليه من شذّة أبيه فصكحت للسيد بما كان منه. 
وسرعان ما دعا به وأمره أن يمد قدميه وانجال عليههما 
بعصاه غير مبال بصراحه الذي ملا البيت» وغادر 
الغلام الحجرة وهو يظلع ليجد إخوته في الصالة وهم 
يغالبون ضحكهم إلا خديجة الى حملته بين يديها 
هامسة في أذنه وتستاهمل... كيف تعلو اللبلاب 
وتناطح السماء! أحسبت نفسك زبلن؟!!4 على أنه فيه 
عدا الألعاب الخطرة كانت أمّه تتسئّر عليه وتبيح له مأ 
يشاء من اللعب البرىء. ولقةانه يفي كل دكت 
كيف كان هذا الأب نفسه ظريفًا لطيفًا معه على عهد 
طفولته القريبة» وكيف كان يتسلى بمداعبته وكيف كان 
ينفحه من آن لآخر بألوان شتى من الحلوى. وكيف 
هون عليه يوم الختان ‏ على فظاعته ‏ فملأأ حجره 
بالشيكولاتة والملبّس وشمله بعطفه ورعايته. ثم ما 
أسرع أن تغبّر كل شيء فتبدّل عطفه صرامة. ومناغاته 
زعمّاء ومداعباته ضريًاء حي الختان نفسه اتّذه أداة 
لارهابه حسّ اختلط عليه الأمر ردحًا من الزمن فظن 
أنّه من الممكن حمًا أن يلحقوا ما تبقّى له بما ذهب! 
وليس الخوف وحده الذي شعر به نحو أبيه فإجلاله له 
م يكن دون خوفه منهء كان يعجب بمظهره العظيم 


بين القصرين أن“ 


القويّ؛ ومهابته التى تعنو لا الهام. وأناقة ملبسه؛ وما 
يعتقده فيه من قدرة على كلّ شيع ولعل حديث الأم 
عن سيّدها هو الذي هوله عنده فلم يتصوّر أنه يوجد 
في الدنيا رجل يضارعه ف قوته أو إجلاله أو ثروته. أما 
عن الحبٌ فقد كان كل من في البيت يحبٌ الرجل لححدٌ 
العبادة فانسرب حبّه إلى قلبه الصغير بإيحاء البيئة» بيد 
أنه ظلّ جوهرة مكنونة في حُقَّ مغلق من الخسوف 
والرعب. مضى يقترب من قبو درب قرمز المظلم الذي 
تتخذه العفاريت مسرحا لألعامها الليليّة» والذى آثره 
لنفسه طريمًا عن المرور بدكان أبيه. وعندما دحل في 
جوفه راح يقرأ «قل هو الله أحد» بصوت مرتفع رن في 
الظلمة نحت السقف المنحني. وسبقته عيناه إلى 
فوهة القبو البعيدة حيث يشمٌ نور الطريق» ثم حثٌ 
خطاه وهو يردّد السورة لطرد من تحدّثه نفسه بالظهور 
من العفاريت. فالعفاريت لا سبيل لا على من يدّرع 
بآيات اللهء أمّا أبوه فلن يدرأ غضبه عنه إذا ثار أن 
يتلو كتاب الله كله. وخرج من القبو إلى الشطر الآخر 
من الدرب. وعند غبايته طالعه سبيل بين القصرين 
ومدخل حمام السلطان» ثم لاحت لعينيه مشربيات 
بيته بلونها الأخضر القاتم» والباب الكبير بمطرقته 
البرنزيّة فافترٌ ثغره عن ابتسامة فرح لما يدّخره له هذا 
المكان من أفانين المرحء فعا قليل يبرع الغلان إليه 
من جميع البيوت المجاورة إلى فنائه الواسع الذي يحوي 
عدّة حجرات تتوشطها الفرن فيكون لعب ولهو 
وبطاطة. وفي تلك اللحظة رأى سوارس وهي تقطع 
الطريق على مهل متّجهة إلى بين القصرين فوئب قلبه 
وشاع فيه سرور ماكرء وما لبس أن دس حقيبة كتبه 
تحت إبطه الأيسر وجرى وراءها حيّى أدركها ثم وب 
إلى سلّمها الخلفي؛ ولكنّ الكمساري لم يتركه في 
سروره طويلا فجاءه يطالبه بثمن التذكرة وهو يرمقه 
بنظرة تلم عن ريبة وتحدٌ فقال له متودّدًا إنّه سيغادرها 
حالما تقف لأنّه لا يسعه النزول وهي سائرة» فتحول 
الرجل عنه إلى السائق وهتف به أن يوقف العربة وهو 
يزبجر غاضبا فانتهز الغلام فرصة تحوله عنه وشبٌ على 
أمشاط قدميه وصفعه ثمّ وئب إلى الأرض وانطلق 


6" بين القصرين 


هاربًا وشتائم الكمساري تلاحقه أشد من الأحجار 
المطيّنة!... لم تكن خطة مدبّرة» ولا هي من مختار 
شطارته, ولكنه رأى غلامًا يفعلها في الصباح فراقت 
له ثم وجدها سانحة لإعادتها بنفسه ففعل . 


أ 

واجتمعت الأسرة ‏ ما عدا الأب - قبيل المغيب فيا 
يعرف بينها بمجلس القهوة. وكانت الصالة بالدور 
الأول مكانه المختار حيث تحيط بها حجرات نوم 
الاحوة والاستقبال ورابعة صغيرة أعدّت للدرس وقد 
فرشت الصالة بِالحُصٌر الملوؤنة وقامت في أركاما 
الكنبات ذوات المساند والوسائد. وتدلّ من سقفها 
فالوس كبير يشعله مصباح غازي في مثئل حجمه. 
وكانت الآمّ تجلس على كنبة وسيطة وبين يديها مدفأة 
كبيرة دفلت كنجة القهوة حيّى النصفف في جمرتما التي 
يعلوها الرماد» وإلى يمينها خوان وضعت عليه صينية 
صفراء صفّْت عليها الفناجين» يجلس الأبناء حيالها 
سواء من يؤذن له باحتساء القهوة معها كياسين وفهمي 
ومن لا يؤذن له بحكم التقاليد والآداب فيقنع بالسمر 
كالشقيقتين وكمال. تلك ساعة ممببة إلى النفوس 
يستأنسون فيها إلى رابطتهم العائليّة» وينعمون بلذّة 
السمرء وينضوون جميعا تحت جناح الأمومة في حب 
صاف ومودّة شاملة. وبدت في جلساتهم راحة الفراغ 
وتحرزره فكانوا بين متربع ومضطجع. وبينما جعلت 
خحديجية وعائشة تستحفان الشاربين على الفراغ من 
شربهم لتقرا لحم الطالع في فناجيهم راح ياسين 
يتحدّث حيئًا ويقرأ في قصّة اليتيمتين من مجموعة 
مسامرات الشعب حيئًا آخر. كان من عادة الشابٌ أن 
بيب بعض فراغه لمطالعة القصص والأشعار لا 
لإحساسه بنقص تعليمه ‏ فالابتدائية وقتذاك لم تكن 
مطلبًا صغيرًا ‏ ولكن غرامًا بالتسلية وولعًا بالشعر 
والأساليب الخزلة. وقد بدا بجسمه المكتئز في جلبابه 
الفضفاض كقربة هائلة إلا أن مظهره لم يتسارض ‏ 
بحكم الزمن ‏ مع قسامة في وجهه الأسمر الممسلى 
بعينيه السوداوين الحذابتين وحاجبيه المقرونين وشفتيه 


الشهوانيتين. ونم يجملته ‏ رغم حداثة سئه الذي لا 
يجاوز الواحدة والعشرين ‏ على رحولة مفعمة 
بالفحولة. ولبد كال لصقه ليلتقط ما يرمي إليه بين 
آونة وأخرى من نوادر القصص وهو لا يكف عن 
الاستزادة منها غير مكترث لا يحدئه إلجاحه على أخيه 
من الضيق كي يشبع أشواقًا تشتعل بخياله في مثل 
هذه الساعة من كل يوم؛ ولكن ما أسرع أن يشغل 
عنه ياسين بالحديث أو بالاستغراق في المطالعة متفضلا 
عليه بين حين وآخر- كلما اشتدٌ إلحاحه بكلمات 
مقتضبة إن وجد بها الجواب على بعض أسثئلته فسا 
أحرى أن تستثير أسئلة جديدة لا جواب لها عنده. ثم 
لا يفتأ يرمق أنخاه وهو آنحذ في المطالعة التي تبيح له 
مفتاح العالم السحريّ بعين الحسد والحزن. فكم حر 
في نفسه عجزه عن قراءة القصّة بلفسه. وكم أحزرنه أن 
يجدها بين يديه بحيث يقلبها كيف شاء دون أن يسعه 
حل رموزها فالولوج منبا إلى دنيا الرؤى والأحلام, 
فقد وجد في هذا الجانب من ياسين مثازا لخياله هيا له 
من ألوان المسرّة ما هيأ وهيّج من أسباب الظماأ 
وعذابه ما هبّح. وكثيرًا ما كان يرفع عينيه إلى أخيه 
ويسأله في طفة: «وماذا حدث بعد ذلك؟» فينفخ 
الشابٌ قائلا: «لا تضيّن عل بأسيلتك ولا تتعججل 
حظك فإن لم أقصّ عليك اليوم فَغداه. ولم يكن يحزنه 
شيء كاستنظاره للغد حي اقترنت لفظة الغد في ذهنه 
بالحسرة. ولم يكن نادرًا أن يتحول إلى أمّه بعد تفرّق 
المجلس وبه أمل أن تقصّ عليه ما وحدث بعد ذلك 
ولكنّ المرأة كانت تجهل قصة اليتيمتين وغيرها ما يقرأ 
ياسين إلا أْها يعر عليها أن تردّه خائبًا فتروي له ما 
تحفظ من حكايات اللصوص والعفاريت فيرو نخياله 
إليها رويدًا ظافرًا بزاد من العزاء. في مجلس القهوة 
ذاك لم يكن عجيبًا أن يشعر بأله ضائع مهمل بين 
أهلهء لا يكاد يلتفت إليه أحد. وأئّم مشغولون عنه 
بأحاديثهم الى لا تنتهي . فلم يتوزع عن الاختلاق في 
سبيل الاستثثار باهتهامهم ولو إلى حين» ولذلك رمى 
بنفسه في محرى الحديث معترضًا تيّاره بجرأة وقال 
بلهجة حادّة فجائيّة كانطلاق القذيفة كأثما تذكّر أمرًا 


خطيرا بغْتَةٌ : 

- يا له من منظر لا يسى الذي رأيته اليوم وأنا 
عائد!... رأيت غلاما يثب إلى سلّم سوارس ثم 
صفع الكمساري وركض باأكبر سرعة فيا كان من 
الرجل إلا أن عدا وراءه حيّى أدركه ثم ركله في بطنه 

وقلّب عينيه في الوجوه ليرى أثر حديثه فلم يجد ثمّة 
اهتهام ولمس إعراضا عن خبره المشير وتصميًا على 
مواصلة الحديث. بل رأى يد عائشة تمتذ إلى ذقن أمه 
وتحوها عنه بعد أن عمت بالإصغاء إليهء ولح إلى هذا 
ابتسامة هازئة ترتسم على شفتي ياسين الذي لم يرفع 
رأسه عن الكتاب. فركبه العناد وقال بصوت مرتفع : 

- وسقط الغلام يتلوى وازدحم -حوله الئاس فإذا به 
قد فارق الحياة. . 

وأبعدت الأمّ الفنجان عن فمها وهتفت: 

- يا ولداه! . . . أتقول إِنّه مات؟ ! 

وسرٌ باهتامها وركر قوّته فيها كا يركز المهاجم 
اليائس قوته في نقطة ضعيفة من سور منيم فقال: 

أجل مات. ورأيت بعييّ دمه وهو يسيل 
بغزارة , , 

وحدجه فهمي بنظرة سائحرة كأئها تقول له «إني 
أذكر لك أكثر من قصّة من هذا النوع» وقال متسائلا 

- قلت إِنْ الكمساري ركله في بطنه؟. . . فمن أين 
سال الدم؟ ! 

وانطفات شعلة الظفر الى تلألأت في عينيه مذ 
جذب أمّه إليه.» وحل لها سهوم الارتباك والحنق. 
ولكن أسعفه الخثيال فاستردّت نظرة عينيه حيويّتها 
وقال؛ 

- لما ركله في بطنه سقط على وجهه فشج رأسه! 

وهنا قال ياسين دون أن يرفع عينيه عن اليتيمتين : 

أو أنْ الدم سال من فيهء فالدم قد يسيل من الفم 
دون حاجة إلى جرح ظاهريّ, هنالك أكثر من تفسير 
لخبرك المكذوب ‏ كالعادة ‏ فلا تخف. . . 

واحتج كيال على تكذيب أخخيه وراح يحلف يأاغلظ 


بين القصرين هم 

الأيمان على صدقه ولكنّ احتجاجه ضاع في ضحّة من 
الضحك جمعث الغليظ والرفيع من حناجر الرجال 
والنساء في هارموني واحدة؛. وتمرّكت طبيعة خديجة 
الساخرة فقالت؛ 

- ما أكثر ضحاياك, لو صدقت فيا تروي من أخبار 
لا أبقيت على أحد من أهل النحاسين حيًا. . . ماذا 
تقول لربنا لو حاسبك على أخبارك هذه؟! 

ووجد في خديجة مهاحما يقدر عليه؛ وكعادته كلم 
ارتطم بسخريتها راح يعرّض يأئفها قائلا : 

- أقول له إِنْ الحقٌّ على مدخور أختي. . . ! 

فقالت الفتاة وهى تضحك : 

- من بعض ما عندكم , ألسئا في البلوى سواء! 

وهنا قال ياسين مرّة أأخحرى: 

- صدقت يا أخحياه ., 

وتحؤلت إليه متحفزة للانقضاض فبادرها قائلا : 

- هل أغضبتك!... لماذا!... ليس إلا أنني 
جاهرت بالموافقة على رأيك. . 

فقالت له حانقة: 

- اذكر عيوبك قبل أن تعررّض بعيوب الناس. . . 

فرفع عينيه متظاهرًا بالحيرة ثم تمتم : 

- والله إِنْ أكسبر عيب ليهون إلى جانب هذا 
الأنف. . , 

وتظاهر فهمى بالاستدكار ثم تساءل في نيرات 
وشت بانضمامه إلى المهاجمين : 

- ماذا قلت يا أخي » أهو أنف أم جريمة؟ 

ولمًا كان فهمي لا يشترك في مثل هذا النضال إِلَا 
ادا ققد رض افون بعولة فى معان :وفال؛ 

- هي الاثنان معاء فكر في المسثوليّة الجنائية التي 
سيتحملها من يقدّم هذه العروس إلى عريسها المنكود. 

وقهقه كال ضاحكًا بصوت كالصفير المتقظع ول 
ترتح الأم إلى وقوع ابنتها بين كثرة من المهساجمين 
فأرادت أن ترجم الحديث إلى أصله وقالت بهدوء: 

د رج بكم الكلام الفارمغ عن موضوع الحديث» 
كان حديثًا عن السيّد كمال أصدّق في أخباره أم لم 
يصدق. ولكن أظنّ أنه لا داعي إلى الشلكٌ في صدقه 


4 4” بين القصرين 
بعد أن حلف. . . أجل كال لا يحلف كذيًا أبذًا. . . 

وباخ سرور الغلام الانتقامي لتوهء ومع أنْ إخوته 
واصلوا المزاح حيئًا آخر إِلَا أنّه انقطم عنهم بروحه. 
متباد لا مع أمّه نظرات ذات معنى. ثم خالا بنفسه 
متفكرًا في قلق وكدر. كان يدرك خطورة الحلف 
الكاذب فيا يثير من سخط الله وأوليائهة. ويعرٌ عليه 
جدًا أن يحلف كذبًا بالحسين خاصّة لولعه به ولكنّه 
كثيرًا ما وجد نفسه في مأزق حرج كما وجد اليوم - لا 
مخرج منه في نظره إلا بالحلف الكاذب, فينساق وهو لا 
يدري إلى التورّط فيه. بَيْد أنه لم يكن ينجوء خاصّة 
إذا ذكُر بجريرته؛ من الم والقلق. ويودٌ لو يقتلم 
الماضى السيئع من جذوره؛ وأن يبدأ صفحة جديدة 
نال وذكر الحسين» وموقفه عئد أصل مئذنته حيث 
تتراءى وكأنْ هامتها تتصل بالسماء. وسأله في ضراعة 
أن يعفو عن زلته وهو يشعر بغضاضة من اجترأ على 
حبيب بإساءة لا تغتفر. وغرق في توسّلاته مليًا ثم أخمل 
يفيق إلى ما حوله ويفتح أذنيه إلى ما يدور من حديث 
فيه المعاد وفيه الحديد. وقليل منه ما يسترعي انتباهه. 
ولكنّه لا يكاد يخلو من ترديد ذكريات منتزعة من ماضي 
الأسرة البعيد أو القريب. وأنباء مما يجري عن مسكات 
الجيران وأحزاهم, ومواقف حرجة للأخوين أمام أبيهما 
الجبار» تنبري نخديجة إلى استعادة وصفها وتحليلها على 
سبيل الفكاهة أو الشمائة» ومن هذه وتلك نمت للغلام 
معرفة تبلورت في غيّلته على صورة غريبة تأثر تكوينها 
غاية التأثّر بما تجاذب طرفيه من روح خديجة التهجّميّة 
وروح أمّه السمحة العفوة. وانتبه أخيرًا إلى فهمي وهو 
يقول مخاطبا ياسين : 

- إِنّ هجوم هندلبرج الأخير شديد الخطورة ولا 
يبعد أن يكون المجوم الفاصل في هذه الحرب . 

وكان ياسين يعطف على آمال أخيه ولكن في هدوء 
منّسم بقلّة الاكتراث. تمي مثله أن ينتصر الألمان 
وبالتالي الترك وأن تستردٌ الخلافة سابق عرّتمهاء وأن 
يعود عباس ومحمّد فريد إلى الوطن ولكنّ أمئية من 
هذه الأماني لم تكن لتشغل قلبه في غير أوقات الحديث 
عنهاء وقد قال وهو بهزٌ رأسه: 


- مضى أربع سئوات ونحن نردّد هذا الكلام. . . 

فقال فهمي برجاء وإشفاق: 

لكل حرب نباية» ولا بد أن تنتهي هذه الخرب. 
ولا أظنٌ الألمان يعبزمون! . , . 

هذا ها ندعو الله أن يتحقّق. ولكن ماذا يكون 
رأيك لو وجدنا الألمان كما يصفهم الإنجليز؟! 

ولمًا كانت المعارضة تشعل حدته فقد علا صوته 
وهو يقول: 

المهمٌ أن نتخلّص من كابوس الإنجليز» وأن تعود 
الخلافة إلى سابق عظمتها فنجد طريقنا ممهدًا. . . 

وتدنخلت نخديجة في الحديث متسائلة : 

ولاذا تحبون الألمان وهم الذين أرسلوا زبلن ليلقي 
قنابله علينا؟ ! 

وراح فهمي يومد كعادته ‏ أنّ الألمان قصدوا 
الإنجليز بقنابلهم لا المصرئّين. فانتقل الحديث إلى 
مناطيد زبلن وما يقال عن ضخامتها وسرعتها 
وخطورتهباء حتّى استوى ياسين في جلسته ومبض إلى 
حجرته ليرتدي ملابسه تمهيدًا لمغادرة البيت إلى سهرته 
المعتادة. وعاد بعد فثرة وجيزة وقد تبيا وأخمل زينته. 
فتراءى أنيق الملبس». جميل المظهرء. وبدا بجسمه 
الضخم وفحولته الناضجة وشاربه النابت أكبر من سه 
كثيراء ثم حيّاهم وانصرف وشيّعه كال بنظرة تنم عم 
يغبطه عليه من التمنّع بحرّيّته في انطلاق ساحرء فلم 
يغب عنه أنْ أخاه لم يعد مُحاسّب ‏ منل تعييئه كاتبًا 
بمدرسة النحّاسين ‏ على ذهابه وإيابه» وأنّه يسهر كما 
يشاء ويعود حين يشاء. ما أجمل هذا وأسعده. وكم 
يكون إنسانًا سعيدًا لو ذهب وجاء كما يحبّ. ومدٌ 
سهرته إلى حيث يشاءء وقصر القراءة ‏ حين تتم له 
أداتها ‏ على الروايات والأشعار, ثم سأل أمّه فجأة: 

- أيمكنني إذا وظفت أن أسهر في الخارج كياسين؟ 

وابتسمت الأ قائلة : 

- ليس السهر في الخارج بالغاية النىي يصمح أن محلم 
امن الآن] 

فصاح محتجا : 

- ولكن أبي يسهرء وياسين يسهر كذلك. 


فرفعت الأمّ حاجبيها ارتباكًا وتمتمت: 

شد حيلك أوَلَا حتّى تصير رجلا ثم موظفاء 
ووقتها يفرجها ربنا! 

ولكن كيال بدا متعجّلا فتساءل: 

ولماذا لا أتوطّف بالابتدائيّة بعد ثلاثة أعوام؟ 

وصاحت خديجة في سلخرية : 

تتوظف دون الرابعة عشرة! . 
بلت على نفسك في الوظيفة؟ ! 

وقبل أن يعلن ثورته على أخته قال له فهمي 
بازدراء : 

يالك من حمار... لاذا لا تفككر في دخول 
الحقوق مثلى؟. . . إِنْ ظروف ياسين القاهرة هي التي 
جعلته يأخذ الابتدائيّة في العشرين من عمره» ولولاها 
لأئمّ تعليمه. . . ألا تدري كيف تتمئّى يا كسول! 


. . وماذا تصنع إذا 


١ 

عندما صعد فهمي وكال إلى سطح البيت كانت 

الشمس على وشك الاختفاء. فلاحت قرصا أبيض 
فنا تدرا عنه حيويّته وبردت حرارته وانطفاً 
تومّجهء وقد بدا بستان السطح المسقوف باللبلاب 
والياسمين في ظلمة وانيةء ولكنٌّ الشابٌ والغلام مضيا 
إلى شطر السطح الآخر حيث لا يحجب فلول النور 
حجابء ثُمٌ مالا إلى السور الملاصق لسور السطح 
المجاورء سطح الجيران. وكان فهمي يرقى بكال إلى 
هذا الوضع كل مغيب بحجّة مراجعة دروسه في الهواء 
الطلق على الرغم من أنْ جوٌ نوقمير أذ يميل إلى 
البرودة في هده الساعة من اليوم, وأوقف الغلام 
بحيث جعل ظهره إلى السورء ووقف هو لقاءه بحيث 
أمكنه أن يمد بصره إلى سطح الجيران الملاصق دون 
تلت كلما بدا له. وهناك بين حبال الغسيل لاحت 
فتاة ‏ شابّة في العشرين أو نحو ذلك وقد أنممكت في 
جمع قطع الثياب الحاقة وتكديسها في سلة كبيرة. ومع 
أن كبال راح يتكلم بصوت مرتفع كعادته إلا أنْها 
واصلت عملها وكائها لم تنتبه إلى مجيء الطارثين. أمل 
كان يجيء به دوامًا في مثل هذه الساعة لعله يفوز منها 


بين القصرين مه 


بنظرة إذا اتفق ودعاها إلى السطح بعض شأنماء ول 
يكن تحقيقه يسيرًا كا دل تورّد وجهه الناطق يفرط 
سرورهء ونحفقان قليه المتتابع ببهجة مفاجئة. ففجعل 
ينصت إلى أخيه الصغير بعقل تائه وعينين أقلقهما 
استراق النظرء وهي تتراءى تارة وتحتجب أخرى» أو 
يبدو بعضها ويغيب بعضهاء كيفما اتفق موقفها من 
الثياب والملاءات المنشورة. .. كانت فتأة متوسشطة 
القامة صافية البشرة مع ميل إلى البيياض» سوداء 
العينين. تنطق مقلتاها بنظرة تفيض حياة وخفة 
وحرارة» إلا أنَّ حمالها وعاطفته المتونّبة وإحساسه 
بالظفر لرؤيتها لم تستطع أن تمحو القلق الذي يدب 
وراء قلبه- وانيا حين حضورها لم قويًا إذا خلا إلى 
نفسه ‏ لجحرأتها على التعرّض لعينيه كأنه ليس بالرجل 
الذي ينبغي أن تتوارى فتاة مثلها عن عينيه» أو كأئها 
فتاة لا تبالي التعرّض للرجال» وطلما ساءل نفسه ما 
بالها لا تفزع مولية كخديجة أو عائشة لو وجدت 
إحداهما نفسها في مثل موقفها! أي روح عجيب يش 
ها عن التقاليد المرعيّة والآداب المقدّسة1ء وألا يكون 
أهدأ جانبًا لو بدا منبا ذاك الاحتشام المفتقد ولو على 
حساب سروره الذي يفوق الوصف برؤيتها؟!... 
بيد أنه دأب على انتحال الأعذار لما من قِدَم الجوار 
ووحدة النشأة؛ ورثما الوداد أيضا. ثم لا يفتا وراء 
نفسه يحاورها ويجادلما حتّى تشجم وترضى. ولما لم 
يكن جريئًا كجرأتها فقد جعل يختلس من الأسطح 
المجاورة النظر ليطمئنَ إلى خلوّها من الرقيب لأنْه لم 
يكن مما يُعْض الطرف عنه أن يجرح شابٌ في الثامنة 
عشرة حووفة" اسان وقخاصة نين كان تيو في :ظبة 
جارهم السيّد محمّد رضوان وهذا أقلقه دائ) شعوره 
بخطورة فعلتهء وخوفه من أن يترامى نبؤها إلى أبيه 
فتكون الطامة. ولكنّ استهانة الحبّ بالمخاوف عجب 
قديم فلم يقدر شيء منبا على إفساد نشوته أو انتزاعه 
من حلم ساعتهء فمضى يراقبها وهي تبدو أو'تختفي 
حبّى خلا ما بينه وبينها وباتت تواجهه ويداها 
الصغيرتان ترتفعان وتنخفضان وأصابعها تنقبض 
وتنبسط على مهل وتؤدة كأنها تتعمد إطالة عملها. 


5ن" بين القتصرين 


وحدس قلبه ذاك التعمّد وهو بين الشلكٌ والتمئ ولكنه 
لم يقتصد في الانطلاق مع فرحته إلى أبعد الآفاق حت 
استحال باطئه رقصا وأنغاماء ومع أنْها لم ترفع عينيها 
إليه قط إلا أن هيئتها وتورّد وجنتيها وتحاميها النظر إليه 
نمت جميعًا عن شدَّة إحساسها بوجوده أو انعكاس 
وجوده على إحساسها. وبدت في هدوئها وصمتها 
موفورة الرزانة كأئها ليست هي هي التي تشيع الفرحة 
والبهجة في بيته إذا زارت شقيقتيه» أو ليست هي هي 
الى يعلو صوتها في جنبات الدار وترن ضحكاتهاء 
هنالك يقبع وراء باب حجرته وكتابه في يله استعداذا 
للتظاهر بالاستذكار إذا طرقه طارق» ويروح يستقبل 
بوعيه المركّز أنغامها الناطقة والفساحكة بعد 
استخلاصها من أصوات الآخرين الملابسة لها التي لا 
يكاد يشعر بها كأنمًا وعيه مغناطيس يجذب إليه الصلب 
وحده من بين أخلاط شيٌء وربما لظ بعضا منها وهو 
يعبر الصالة. وربما التقت عيناهما في لمحة شخاطفة 
ولكتها كافية لإسكاره وإذهاله كأنّه تلقّى بها رسالة 
خطيرة دار رأسه بخطورتبها؛ وملا بنظراته المسترقة من 
وجهها عينيه وروحه؛ على الرغم من أنها كانت مسترقة 
خاطفة |(" ال ااميسائرة «مووكه و عاض كانت 
شديدة النفاذ والقوة التي تأتي النظرة منها بما لا يستطيعه 
النظر الطويل والسبر العميقء كأنبا انبثاق البرق الذى 
يتوهج الحظة قصيرة فتضيء شرارته الرحاب وتخطف 
الأبصارء وثمل قلبه بسرور مسكر عجيب ولكنْه ١‏ 
يَخْلُ - كحالة أبدًا - من ظل أسى يتبعه كما تتبع رياح 
الخمسين مشرق الربيع؛ لأنه لم يكن يكف عن التفكير 
في الأربعة الأعوام التي يتم تعليمه فيهاء والتى لا 
يدري كم من يد قد تمتذ في أثنائها إلى الثمرة الناضجة 
لتقطفها. ولو كان جو البيت غير هذا الحو الخالق 
الذي تشد على عنقه قبضة أبيه الحديديّة لأمكنه أن 
يلتمس إلى سلام قلبه أقصر السبلء ولكنه ناف دائًا 
أن ينفس عن آماله فيعرّضها لزجرة من أبيه قاسية 
تطيرها وتبدّدها. وتساءل وهو يمد يصره فوق رأس 
أخيه ثرى أيّ أفكار تدور برأسها؟ ألا يشغله حمًا إلا 
ما تجمع من قطع الملابس؟. . . ألم تشعر بعد بما يجذبه 


إلى موقفه هذا مساء بعد مساء؟ . . . وكيف يلقى قلبها 
هذه الخطى الحريئة من ناحيته؟... وتخيّل نفسه 
متخطيًا سور السطوح إلى مكانها في الظلامء وتخيلها 
على أطوار شبّى تارة تنتظره على ميعاد» وتارة تباغت 
بمقدمه حبّى تهمٌ بالفرار» ثُمّ تصور ما يكون بعد ذلك 
وما يندٌ عنه من بوح وشكوى وعتاب», ثم ما قد 
يستتبعه هذا أو ذاك من عناق وقُبّل» بيد أمّْهبا كانت 
محض تخيلات وأوهام. وكان أدرى الئاس - بما جبل 
عليه من دين وأداب ‏ ببطلائها وممالها. وبدا الموقف 
صامثًا إلا أنه كان صمنًا مكهربًا يكاد ينطق بغير 
لسان؛ وحيٌ كال لاحت في عينيه الصغيرتين نظرة 
حائرة كأنه يسائل نفسه عن معنى هذا الحدٌ الغريب 
الذى يثير استطلاعه على غير جدوى. ثم لفل صبره 
فرفم صوته قائلا : 

لقد حفظت الكليات. ألا تسمّعها لىي؟ 

وأفاق فهمي على صوته فتناول الكرّاسة منه ومضى 
يسأله عن معاني الكليات والآخر يجيب حي وقعت 
عيناه على كلمة عزيزة وجد بينها وبين ما كان فيه سب 
وأيّ سبب فرفع صوته عمدًا وهو يسأله عن معناها 
قائلا : 

- قلب, . . ؟ 

وأجاب الغلام وتبجى الآخمر يتلمس أثر موقع 
الكلمة من وجههاء ثم رفع صوته مرّة أخرى 
متسائلا : 

000 

وارتبك كيال قليلا ثمّ قال بصوت يدل على 
الاعتراض : 

- ليست هذه الكلمة في الكراسة. . 

قال فهمي باسما: 

ولكق اذكبرها: للك عراز وكسان عيب ان 
نتحفظها. . , ! 

وقطب الغلام كأنه يشْدٌ قوس حاجبيه لاصطياد 
الكلمة الحاربة ولكنٌ أخاه لم ينتظر نتيجة محاولته 
وواصل امتحائه بنفس الصوت المرتفع قائلا : 

- زواج... 


وخيّل إليه عند ذاك أنه لمح على شفتيها شبه ابتسامة 
فتوالت ضربات قلبه في سرعة وحرارة» وملأه شعور 
بالظفر لأنّه أمكنه أخخيرًا أن ينقل إليها شحنة من 
الكهرباء التي تستعر في صدرهء بيد أنه تساءل لماذا يا 
ترى لم تفصح عن تأثّْرها إلا عند هذه الكلمةء ألأنبا 
استذكرت سابقتها أم أنْ الأخيرة كان أوّل ما وعت 
أذناها؟!. . . وما يدري إلا وكمال يقول محتجًا بعد أن 
أعياه التذكر : 

شل الكلالف سيفنة د اد 

وآمن قلبه بقولة أخيه البريئة» وذكر على ضوئها 
حاله ففترت فورة سروره أو كادت. وهم بالكلام 
ولكنه رآها انحنت على السلة ثم حملتها واتنمهت نحو 
السور الملاصق لسطح بيته ووضعتها عليه وراحت 
تضغط الغسيل براحتيهاء قريبة من موقعه لا يفصلها 
عنه إلا ذراعان» ولو شاءت لاختارت موضعًا آخر من 
السور ولكن كاأئها تعمّدت أن تتصدّى له وجها لوجه. 
فبدت في هجومها جريئة لد أخافه وأربككه. وإن عاود 
قلبه الخفقان السريم الحارٌ حبّى شعر بأنْ الحياة تبيح له 
من كنوزها لوئًا جديدًا ل يَدْرِه لطيفًا بيجا مفعمً 
حيويّة وأفراحًا. ولكنٌّ وقفتها القريبة لم تطل فا لبت 
أن رَفعت السلّة بين يديها واستدارت مولية صوب باب 
السطح حي مرقت منه وغابت عن ناظريه. وجعل 
ينظر إلى الباب مليّا دون مبالاة بأخيه الذي عاود 
التشكي من صعوبة الكلمة ثم شعر برغبة في الانفراد 
لتمل ما استجدٌ من تجارب الهوى فقلب عيئيه في 
الفضاء في تظاهر بالدهشة كأنما يتشّه إلى الظلمة 
الزاحفة في الأفق لأول مرّق وتم قائلا: 

آن لنا أن نعود. . . 


١١ 
وكان كيال يستذكر دروسه في الصالة» تاركًا حجرة‎ 
الاستذكار لفهمي وحدهء ليكون غير بعيد عن مجلس‎ 
أمّه وأخختيه : وكان ذلك المجلس امتدادًا لمجلس القهوة‎ 
إلا أنه يقتصر على النسوة وحديئهنٌ الخاصٌ الذي‎ 
يجدن فيه على تفاهته متعة لا تدانيها متعة» وقد جلسن‎ 


بين القصرين باهم 


كعادتبنْ متلاصقات كَأثْمِنّ جسم واحد ذو رعوس ثلاثة 
في حين تربّع كال على كنبة أخرى قبالتهنّ فاتحا كتابه 
في حجره يقرأ فيه حيناء ويغمض عينيه ليحفظ عن 
ظهر قلب حيئًا آخرء ويتسلل بين هذا وذاك بالنظر 
إليهنّ والإصغاء لحديئهن. ولم يكن فهمي يوافق على 
استذكاره لدروسه بعيدًا عن مراقبته إلا على كره ولكنّ 
تفوّق الغلام في المدرسة شفع له في اختيار المكان الذي 
يحب أن يستذكر فيه. والحق كان اجتهاده فضيلته 
الوحيدة التى تحمد له. ولولا شقاوته لاستحق عليها 
تشجيع أبيه نفسه. ولكنه على اجتهاده وتفوّقه كانت 
تلم به ساعات ملل فيضيق بالعمل والنظام حي ليغبط 
أمّه وأختيه على خخلوٌ بالهن وما يحظين به من راحة 
وسلامء ورثما تمتّى فيا بيله وبين نفسه لو كان حظ 
الذكور في هذه الدنيا كحط النساء. إلا أنها كانت 
ساعات عابرة فلم تستطع أن تنسيه ما يتمتّع به من 
مزايا دعته في أحايين كثيرة إلى التطاول عليهن بالفخر 
والمباهاة لداع ولغير ما داع فلم يكن من النادر أن 
سافن ون سند رين اللي رقن ك ‏ الذرت 
عاصمة الكاب؟» أو وما معنى شاتٌ بالإنجليزية؟ 
فيجد من عائشة صمنًا لطيفًا على حين تقرٌ له خديجة 


.بجهلها ثم تعرض به قائلة : ليس 0 الطلاسم إلا 


من كان له رأس كرأسك!» أمَا أمّه فتقول له في إيمان 
ساذح: ولو علّمتني هذه الأشياء ىا تعلّمي الديانة لما 
قصّرت فيها دونك). ذلك أنْ أمّه -على استكانتها 
ورقتها - كانت شديدة الاعتزاز بثقافتها الشعبيّة المتوارثة 
عن أجيال متعاقبة منذ القدم, ولم تكن نظن أنها 
بحاجة إلى مزيد س العلم أو أنه استجدٌ من العلم ما 
يستحقٌ أن يضاف إلى ما لديها من معارف دينية 
وتاريخيّة وطبَيّة وضاعف من إيمانها بها أمْها تلقته عن 
أبيها أو في بيته الذي نشأت فيهء وكان الأب شيحًا من 
العلماء الذين فضلهم الله لحفظهم القرأآن ‏ على 
العالّين. فلم يكن معقولا أن تعدل بعلمه علا ولو م 
تجهر برأسا إيتارًا للسلامة. ولهذا كثيرًا ما أساءت الظنْ 
ببعض ما يقال للأبناء في المدارس ووجدت ثمة حيرة 
شديدة سواء في تفسيره أو في الساح بتلقينه للناشئين» 


ذزرت؟ ببن القصرين 


بيد أنها لم تعثر باختلاف يذكر بين ما يقال للغلام في 
المدرسة عن أمور الدين وبين ما لديها منباء ولمًا كان 
الدرس المدرسيٌ لا يكاد ينّسع إلا لقراءة السور 
وتفسيرها وتبين المبادئ الدينية الأؤلية فقد وجدت 
متسعًا لقصّ ما عندها من أساطير لا تنفصل في 
اعتقادها عن حقيقة الدين وجوهره بل لعلّها رأت فيها 
داق قلقة. لذن كدرغروه وسلناا سجراكه ركرايات 
عن النبَ والصحابة والأولياء» وتعاويذ شتّى للوقابة 
من العفاريت والزواحف والأمراض فصدّقها الغلام 
وآمن ساء لأنها صادرة عن أمه من ناحية, ولأنها 
جديدة في موضوعها فلم تتعارض مع معارفه الدينية 
المدرسيّة من ناحية أخرى» وفضلًا عن هذا وذاك فلم 
تكن عقليّة مدرّس الديانة كما تتكضّف في تبسّطه في 
الحديث أحيانًا ‏ لتختلف عن عقليّة أمّه كثيرًا أو قليلا. 
ثم إنه شغف بالأساطير شهفًا لم يظفر بمثله في الدروس 
الحافة فكان درس أمّه من أسعد ساعات اليوم وأحفلها 
بالمنعة والخيال. أمّا فيا عدا الدين فلم يكن النزاع 
نادرًا إذا بيات أسبابه» من ذلك أنّبها اختلفا مرّة عن 
الأرض وهل هي تدور حول نفسها في الفضاء أو 
تنيض عل رأس ثورء ولما وجدت من الغلام إصرارا 
تراجعت متظاهرة بالتسليم. ولكنّها تسللت إلى حجرة 
فهمي وسألته عن حقيقة الثور الذي يحمل الأرض 
وهل ها زال على عهده يحملها. ورأى الشات أن 
بترفق بها ويجيبها باللغة التي تحبّها فقال لها إن الأرض 
مرفوعة بقدرة الله وحكمته. وعادث المرأة قانعة مبذا 
الحواب الذي سرّها وإن لم يمح من مميّلتها ذاك الثور 
الكبير. على أنْ كال لم يؤثر هذا المجلس لاستذكاره 
رغبة منه في الفخر بعلمه أو حبّا في النزاع الفكري, 
كان في الحقٌّ يحب بكلّ قلبه ألا يفارقهنٌ ولو في وقت 
عملهء وكان يجد لمرآهنْ سرورا لا يعادله سرورء فهذه 
الأمْ يحبّها أكثر من أي شيء في الدنيا ولا يحتمل تصور 
الوجود بدونها لحظة واحدة؛ وهذه خديجة وهي تلعب 
في حياته دور أمّ أخرى رغم سلاطة لسانها ووخز 
مزاحهاء وهذه عائشة التي وإن لم تتحمس يومًا للخدمة 
إنسان إلا أمْها أحبته حبًا عظيًا فيادلها حبًا ببحبٌ حي 


كان لا يشرب جرعة الاء من القلّة إلا إذا دعاها 
ومضت الجلسة كا تمضى كل ليلة حبّى قاربت الساعة 
الثامنة فقامت الفتاتان 57 أمهما وذهبتا إلى -حجرة 
نومهياء وعند ذلك عجّل الغلام بقراءة درسه حي فرغ 
منه ثم تناول كتاب الديانة وانتقل إلى جانب أمّه على 
الكنبة المقابلة له وهو يقول لها بصوت ينم عن 
الإغراء : 

- استمعنا اليوم إلى تفسير سورة عظيمة ستعجبك 
عدا 

فاستوت المرأة في جلستها وهي تقول باحترام 
وإجلال: 

كلام ربّنا عظيم كله. . . 

وسرّه اهتهامها وهرْه شعور بالغبطة والعزرّة لا يجده 
إلا حين هذا الدرس الأخير من اليوم. أجل كان يجد 
في هذا الدرس الديني أكثر من سبب للسعادة. فإِنْه 
يقوم في أثناء نصفه على الأقل بدور المدرّسء. ويحاول 
ما استطاع أن يستعيد ما يعلق بذاكرته من هيئة 
مدرّسه وحركاته وما يتمثْله فيه من إحساس بالاستعلاء 
والقرة, وإنه يستمتع في نصفه الآخر بما تلقيه عليه أمّه 
من ذكريات وأساطيرء وإنه يستأثر وحده في شطريه 
بأمّه دون شريك. ونظر كمال في الكتاب فيما يشبه 
الإدلال ثم قرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم. قل أوحي 
إليّ أنه استمم نفر من الحنّ فقالوا إِنّا سمعنا قرآنًا 
عجباء ببدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك برينا 
أحذا. . .» حتّى أتمٌ السورة ولاح في عيني الأمّ التردّد 
والخيرة» إذ كانت تحذّره من التفوّه باسمي العفريت 
والحن درءًا لشرور تذكر بعضها على سبيل التخويف 
وتمسك عن البعض إشفاقًا ومبالغة في الحيطة. فلم تَدْرِ 
كيف تتصرّف وهو يتلو أحد الاسمين الخطيرين في 
سورة شريفة» بل لم نَذْرٍ كيف تحول بينه وبين حفظها 
أو ماذا تفعل لو دعاها كالمعتاد إلى حفظها معه. وقرأ 
الغلام في وجهها هذه الحيرة فداخله سرور ماكرء 
وجعل يبدأ ويعيد ضاغطا على لمخارج الاسم الخطير 
وهو يلحظ حيرتها متوقعًا أن تفصح أخيرًا عن إشفاقها 


في لون من ألوان الاعتذار» ولكتبا على شديد حيرتها 
لاذت بالصمت فمضى يعيد عليها التفسير يا سمعه 
حتّى قال: 

ها أنت ترين أنْ من الجن من استمع إلى القرآن 
وآمن بهء فلعل سكان بيتنا من هؤلاء الجن المسلمين 
ورلة .ها ابقوا"غلينا:طوال هذا العهو. 

فقالت المرأة في شيء من الضيق : 

559 ولكن من الجائز أن يكون بينهم 
غيرهم: فيحسن بنا ألا نردّد أسياءهم! 

لا خوف من ترديد الاسم... هكذا قال 
مدزرسئا. 

فحدجته المرأة بنظرة عتاب وقالت: 

المدرّس لا يعرف كل شيء! . . 

- وإن كان الاسم ضمن آية شريفة؟ 

وشعرت بجيال تساؤله بقهر ولكنبا لم تجد بدا من أن 
تقول : 

- كلام ربّنا بركة كله . 

واقتدع كمال ببذا القدر ثم واصل حديثئه عن 
التفسير قائلا : 

- ويقول شيخنا أيضا إِنْ أجسامهم من نار! 

وبلغ مها القلق غايته فاستعاذت بالله وبسملت عذة 
مرّاتء أمّا كال فاستطرد قائلا : 

وسالت الشيخ هل يدخل المسلمون منهم الدئة 
فقال نعم فسألته مرّة أخرى كيف يدخلونها بأجسام من 
نارء فأجابني بحدّة قائلا إِنَّ الله قادر على كل شيء. 

فرنا إليها باهتام ثم تساءل: 

- وإذا التقينا مهم في الجئة ألا تحرقنا نارهم؟! 

فابتسمت المرأة وقالت في ثقة وإيمان: 

- ليس فيها أذى أو خوف. 

وسرح الغلام بعينيه حأ وإذا به يسأل مخيّرًا مجرى 
الحديث فبجاأة : 

أنرى الله في الآخرة بأعيننا؟ 

قالت المرأة بنفس الثقة والإيمان : 

كاسن اتويت في 


فلاحت في نظرته الحالمة أشواق كما تلوح في الغلس 


بين القصرينةة؟ 


بتأثير الضياء,» وساءل نفسه متى يرى اللهء وني أي 
صورة يتبدّى» وإذا به يسال أمّه مغيرًا بحرى الحديث 
فجأة مرّة أخرى : 

أيخاف أبى الله ؟ ! 

فتولّتها الدهشة وقالت في إنكار: 

يا له من سؤال غريب! . . . أبوك رجل مؤمن يا 
بي والمؤمن يخاف ربه. 

فهز رأسه في حيرة وقال بصوت خفيض: 

لا أتصوّر أنْ أبي يخاف شيئًا. 

فهتفت المرأة في عتاب: 

- سامحك الله . . . ساك الله , . , 

واعتذر عن قوله بابتسامة رقيقة» ثم دعاها إلى 
حفظ السورة الجديدة. وراحا يتلوانها آية آية 
ويعيدان. ولا استفرغا جهدهما نبض الغلام ليذهب 
إلى حجرة النوم فتبعته حي اندسٌ في فراشه الصغير, 
ثم وضعت راحتها على جبينه وتلت أآية الكرسي. 
وانحنت فوقه وطبعت قبلة على خده فأحاط عنقها 
بذراعه ورد بقبلة طويلة صادرة من أعماق قلبه 
الصغير. وكانت تلقى دائًا صعوبة في التخلص منه 
عقن ترويعة: عيناك انه كان ينل كل عيلنه للمعقينا 
الك مجانة طون يله مككنة إن لد ردن بامتو انها عدو 
يغيب في نومه وهو بين ذراعيهاء ولم يجد وسيلة لبلوغ 
غايته خيرًا من أن يطلب إليها أن تتلو على رأسه ‏ إذا 
ختمت آية الكرسيٌّ ‏ سورة ثانية ثم ثالئة. حتى إذا 
آنس منها ابتسامة اعتذار توسّل إليها معتلًا بخوفه من 
وسحدته في الحجرة أو بما يتراءى له به من أحلام مرعجة 
لا تدفعها إلا تلاوة طويلة للسور الشريفة» ورثما تمادى 
في تشبّئه بها إلى حدٌ تصنّع المرض, غير واجد في تحايله 
هذا جورّاء بل رآه عن يقين ممارسة منقوصة للحن من 
حقوقه المقدّسة التي هضمت أفظم هضم يوم فصل 
عن أمّه ظلًا وعدوانًا وجيء به إلى هذا الفراش المفرد 
بحجرة أخويه. كم يذكر مع الحسرة عهدًا غير بعيد 
من ماضيه حين مضجعههما كان واحدّاء وحين ينام 
متوسّدًا ذراعها وهي تسكب في أذنه بصوتها الرقيق 
قصص الأنبياء والأولياء» وحين النوم يغشاه قبل رجوع 


أبيه من سهرته» وينحسر عنه بعد نبوض الرجل إلى 
الام ء فلم يكن يرى مع أمّه ثالثاء وكانت الدنيا له 
بلا شريك. ثم بقضاء أعمى لم يَذْرِ له حكمة فرّقوا 
بيبماء وتطلع إليها ليرى آثر نفيه في نفسها فها عجب 
إلا بتشجيعها الموحي بموافقتها وتبنئتها له قائلة: «الآن 
صرت رجلا فمن حقّك أن يغرد لك فراش خاصض»» 
من قال إِنّه يسرّه أن يكون رجلا أو أنه يطمح إلى أن 
يفرد له فراش خاصص!؟ ومع أنه بلل أوّل وسادة 
خاصّة له بدمعه. ومع أنّه أنذر أُمّه بأنّه لن يعفو عنبا 
مدى الحياة, إلا أنه لم يجرؤ على التسلل إلى مضجعه 
القديم لأنه كان يعلم أن وراء تلك الحركة الجحائرة 
الغادرة تجثم إرادة أبيه التي لا تردّء ولْشْدٌ ما حرن حي 
رسبت عكارة الحزن في أحلامه. ولَسْدٌ ما حنق على 
أمّه - لا لأنّه لم يسعه أن يحنق على أبيه فحسب - ولكن 
لأثهبا كانت آخر من يتصؤر أن يخيب عنده الأمل. بيد 
أنْها عرفت كيف تسترضيه وتردّه إلى الصفاء رويدًا 
ودأبت على آلا تفارقه بادئ الأمر حبّى يوافيه النوم. 
وجعلت ثقول له: «لم نفترق كما تزعم, ألست ترانا 
معا؟ وسنبقى دائًا معاء لن يفرّق بيننا إلا النوم الذي 
كان يفرّق بيئنا ونحن في فراش واحد». والآن لم تعد 
تطفو على شعوره حسرة مما تخلّف عن تلك الذكرى, 
واستنام إلى حياته الجديدة. بيد أنه لم يكن يدعها 
تذهب حي يستنفد الحخيل لاستبقائها إلى جانبه أطول 
مذّة ممكنة. وقد قبض على راحتها في حرص شديد كم) 
يقبضس الطفل على لعبته بين أطفال يتخاطفونها. 
وراحت هي تتلو الآيات على رأسه حيّى غافله 
الكرى. فودعته بابتسامة رقيقة وغادرت الحجرة 
وانمهت إلى الحجرة التالية ففتحت بابها في خفّة 
ونظرت صوب فراش لاح شبحه في جالبها الأيمن 
وتساءلت في رقة: «متما؟) فجاءها صوت خديجة وهي 
تقول : 

- كيف يتأن لي النوم وشخير سب عائشة يملأ عل 
الحجرة؟ ! 

ثم سممع صوت عائشة وهي تقول في نيرات 


نأعسة : 


ما سمع أحد لي شخيرًا قظ. ولكنها لا تدعني 
أنام بثرثرتها المتواصلة . 

فقالت الام في عتاب : 

- أين وصيّتي لكا بأن تكفا عن هذركيا وقت النوم؟ 

ورذت الباب وسارت إلى حجرة الاستذكار فطرقت 
بابها بخفة ثم فتحته وأدخحلت رأسها وهي تقول 
بأسمة : 

أفي حاجة إلى -خدمة يا سيّدي الصغير؟ 

فرفع فهمي رأسه عن الكتاب وشكرها مشرق 
الوجه بابتسامة لطيفة» فرذت الباب وابتعدث عنه 
وهي تدعو لفتاها بالفلاح وطول العمرء ثم عبرت 
الصالة إلى الدهليز الخارجيّ وارئقت السلّم إلى الدور 
الأعلى حيث توجد حجرة نوم السيد وصوتها يسبقها 
تاليا الآيات . 


١ ؟‎ 

لما غادر ياسين البيت كان يدرى بطبيعة الخال 

وجهته التي يقصد مساء بعد مساء ولكنّه بدا كعادته 
دائمًا إذا مشى في الطريق ‏ وكأنه لا وجهة له. كان 
شأنه إذا سار أن يسير متمهّلا في هوادة ورفق» عنتالً 
في عجب وزهو كأنه لا يغفل لحظة واحدة عن أنه 
صاحب هذا الجسم العظيم وهذا الوجه الفائض 
حيويّة وفحولة. وهذه الملابس الأنيقة الآخذة حثّْلها - 
وأكثر- من العناية» إلى منشّة عاجيّة لا تفارق يله 
صيفًا أو شتاء. وطربوش طويل مائل يمنة حيّى يكاد 
يمس حاجبه. ومن عادته أيضًا إذا سار أنّه كان يرفع 
عيئيه ‏ دون رأسه د مستطلعا ما وراء النوافل لعل 
وعسىء فلم يكن يقطع طريقًا حيّى يشعر في غبايته بم 
يشبه الدوار من كثرة تحريك عينيه إذ كان ولعه 
بالتهام النسوة اللاق يصادفنه داء لا شفاء مئه؛ فهو 
يتفخصهنٌ مقبلات ويتبع عينيه أردافهنٌ مدبرات. 
ويظل في قلقه كثور هائج حيّى ينسى نفسه فلا يعود 
يتدبر مداراة مقاصده. الأمر الذي تنبّه له مع الزمن 
عم حسنين الحلاق والحاجّ درويش بائع الفول والفولٌ 
اللبان و بيومي الشربتي وأبو سريع صاحب المقلى 


وغيرهم فمتهم من حمله محمل الدعابة ومنهم من أنخذه 
مأخحل الانتقاد لولا أنْ الجيرة ومنزلة السيّد أحمد عبد 
الجواد شفعتا له بالإغفاء والتسامح , كانت حيويّته من 
العنف بحيث ملكت عليه فراغه كله فلم تدع له 
وقئا يستريح فيه من استفزازهاء وشعر دائمًا بألسنتها 
تلهب حواسّه ووجدانه. وكأنها عفريت يركبه ويوجهه 
حيث يشاءء بَيْد أنّه عفريت لم يخفه أو يضيق بهء وم 
يود الخللاص منهء بل لعلّه رام منه المزيد. ولكن 
سرعان ما توارى عفريته واستحال ملاكًا لطيفًا حين 
اقترب الشاتٌ من دكان أبيهء هناك أغضى طرفه 
واستقامت مشيته. وتحل بأدب وحياء. وحتٌ خطاه لا 
يلوي على شيء؛ ولا مرٌ بباب الدكان التفت إلى داخله 
فرأى خلقًا كثيرين ولكنّه التقى بعيني أبيه وهو جالس 
وراء مكتبه فانحنى في إجلال رافعا يده إلى رأسه في 
أدب» فردٌ الرجل تميّته مبتسماء ثم استأنف مسيره 
مسرورًا ببذه الابتسامة كأئما حظي بنعمة نادرة المثال. 
والحقٌ أنْ عنف أبيه المعهود. ولو أنه اعتوره تغيّر 
ملموس منذ أن انخرط الفتى في سلك موطّلفي الدولة 
إلا أنه لم يزل في نظره نوتًا من العنف الملطظف 
بالكياسة. فلم يزايل الموظف حوفه القديم الذي ملا 
قلبه وهو تلميذء وم يفارقه شعوره بأنّه ابن وأنْ الآخر 
الأبء وما في يتضاءل بمحضره على ضخامته كأنما 
يستحيل عصفورة يرعشها وقم اللختصاة». وما إن ابتعد 
عن دان أبيه وصار بمنججى من عينيه حيّى استردٌ 
خيلاءه وعادت عيناه إلى الذبذبة غير مفرقة بين الطوانم 
وبائعات الدوم أو البرتقال» إذ كان العفريت الذي 
يركبه مولعا مالساف كافة متواضعا يستوى عنده 
الرفيع والوضيع مننّ. فبائعات الدوم والبرتقال على 
سبيل المثال ‏ وإن شائَبْنَ الأرض التي يقتعدنها لونًا 
وقذارة لا يخلين أحيانا من ميزة خسن » كثديين ناهدين 
أو عينين مكحولتين. وماذا يروم غير هذا؟!... ثم 
انمه صوب الصاغة ومنها إلى الغوريّة» ومال إلى قهوة 
سى علي على ناصية الصنادقيّة» وكانت شبه دكان 
متوسّطة الحجم يفتح بابها على الصنادقيّة وتطل بكوّة 
ذات قضبان على الغوريّة وقد اصطف بأركانا 


بين القصرين "41١‏ 
الأرائك. واتّخذ مجلسه على أريكة تحت الكرّة ‏ تجلسه 
المختار منذ أمسابيع ‏ وطلب الشاي, جلس بحيتث 
يوجه بصره في يسر ودون إثارة ظَنّ إلى الكوة. وما 
يصعّده كلما يشاء إلى نافذة صغيرة في بيت على انانب 
الآخر للطريق» لعلّها كانت الوحيدة بين النوافذ 
المغلقة التي لم يعن بإحكام إغلاق خصاصهاء ولا 
عجب فقد كانت تابعة لمسكن زبيدة «العامة» ولم تكن 
«العالمة» مطمحه فدون هذا مراحل من المجون عليه 
أن يجتازها في صير وأناة؛ ولكنّه راح يرصد ظهور 
زوبة العوادة ربيية «العالمة» ونجمة تختها اللامعة. 
وكانت فترة توظلفه بالحكومة عهدًا حافلا بالذكريات 
جاءه بعد طول تقشف إجباريّ عاناه محاذرًا في ظل أبيه 
الرهيب» فانطلق من ثمّة كالشلال ينحدر في مهاري 
الأزبكية على ما لاقى من مضايقات الحنود الذين 
فذفتهم عجلة الحرب إلى القاهرة؛ ثم ظهر في الميدان 
الاستراليون فاضطرٌ إلى التخلى عن مغاني العبث فرارًا 
من وحشيّتهم وضاقت به السبل فمفى يتقلّب في أزئة 
حيّه كالمجنون وأقصى ما يطمع فيه من لذَّة بائعة برتقال 
أو غجرية تمن يقرآن الطالع» حبّى رأى يومًا زنوبة 
فتبعها مذهولا إلى موطبهاء ثم تعرّض لا مرّة بعد مرّة 
ولا يكاد يظفر منها بما يبل صدره. كانت امرأة وكلّ 
امرأة عنده رغيبة» بيد أئها كانت إلى هذا ذات حسن 
فهوسته. وليس الحبٌ لديه إلا تلك الشهوة العمياء أو 
هذه الشهوة المبصرة وهي أسمى ما عرف من ألواله 
وجعل يمد بصره خلال القضبان إلى النافذة الخالية في 
جزع وقلق أنسياه نفسه فحسا الشاي دون أن ينتبه إلى 
سخونته إلا وهو يزدرده وراح ينفخ متألبًاء ثم أعاد 
القدح إلى الصيئيّة الصفراء مسترقًا النظر إلى السيّار 
الذين أزعجته أصواتهم المرتفعة كأنها هي المسثولة عن 
لسعته أو أنها السبب في عدم ظهور زنُوبة بالنافذة. . 
«ثرى أين الملعونة؟... أتتعمّد الاختفاء!... من 
المحقّق أنّبا تعلم بوجودي هنا... ولعلها رأئني 
قادمًا. . . فإذا اصطنعت التدلّل إلى النهاية الحقت هذا 
اليوم بأيامي المحرقة». وعاود استراق النظر إلى 
الجلوس ليرى هل يلاحظ أحد منهم ولكنه وجدهم 


ل" بين القصرين 


حميعًا متبمكين ف أحاديثهم الي لا ثنتهي , فدانحله 
ارتياح وأرجع بصره إلى الهدف المرموق» بَيْدَ أنه 
اعترضت تيار أفكاره ذكريات عن متاعب اليوم التي 
صادفته في المدرسة إذ شك الناظر في أمانة متعهّد 
اللحوم فقام بتحقيق اشترك هو فيه بوصفه كاتب 
المدرسة. ثم بدا منه شىء من التراخي في عمله حمل 
الناظر على نبره ما نخُص عليه صفوه بقيّة اليوم وجعله 
يفكر في أن يشكو الناظر إلى أبيه ‏ وهما صديقان 
قديمان لولا حوفه أن يجد أباه أشدٌ عليه من 
الناظر, 0 «اطرح عنك هذه الأفكار السحخيفة . . 
انتهينا من المدرسة والناظر عليه اللعنة... حسبي 
عليئا بنظرة» وإذا بأحلام عازية تنشال على خياله, 
أحلام كثيرًا ما تمل على مسرح أوهامه وهو يرنو إلى 
امرأة أو يستعيد ذكراهاء تخلقها عاطفة هوجاء تنزع 
عن الأجساد أغطيتها وتجلوها عارية كما تخلقها الله غير 
عاصم ها ولكنه ما كاد اسيم إلى هله الأحلام حتى 
انتبه على صوت حوذيّ وهو يصيح على خماره ويس» 
فرمى نمشبمر 6 نأحية الصوت فرأى عربة كارو تقف أمام 
التخت إلى فرح من الأفراح؟ . .. ونادى صبي الْمَهِوة 
ودفع إليه الحساب متاهبا لمغادرة المكان في أية لحظة إذا 
دعا داع . ومضت فترة انتظار وترقب ثم ففح باب 
البيت وبرزرت اهمرأة من لسوة التخت وهي تبر رجلا 
أعمى مرتديا جليانا وفنا وغويئات سوداء ومتأئطا 
القانون» وصعدت المرأة إلى العربة وتناولت القانون 
ثم أخذت بيد الأعمى, وأعانه الحوذي من ناحية 
أخرى حي لحق بالمرأة وجلسا متجاورين في مقدّمة 
العربة» وتبعتها على الأثر امرأة ثانية تحمل دفاء ثم 
ثالثة متأيّطة صرة» وقد تبدين في ملاءاتمنّ اللف 
سافرات» كاسيات ‏ بدلا من البراقع ‏ بأفئعة من زواق 
فاقع الألوان جعلهنٌ بعرائس المولد أشبه. ثم ما 
هذا؟. . . رأى ببصر شيّق وقلب خافق العود وهو يبرز 
من الباب في جرابه الأحمر. . . وأخيًا بدت زنُوبة وقد 


انحسر طرف ملاءتها عند أعلى الرأس عن منديل 
قرمزي ذي أهداب منمنمة» لمعت نحته عيئان سوداوان 
ضاحكتان تلفث نظرتها لعبّا وشيطدة. واقتربيت من 
العربة ومدّت يدها بالعود فتناولته امرأة» ثم رفعت 
قدمًا إلى أعلى العجلة فاش رأبٌ ياسين بعنقه وهو يزدرد 
ريقه فلمح ثنية الجورب معقودة فوق الركبة على أديم 
بدا منه صفاء عذب خلال أهداب فستان برتقالي. . . 
«آه لسو تغوص بي الأريكة في الأرض مترًا... 
ربّاه... إن وجهها أسمر ولكنٌ لحمها المكلون 
أبيض . . . أو شديد الميل للبياض. . . فكيف يكون 
الورك!... وكيف يكون البطن!... البطن يا 
هوه...» وثبتت زنُوبة راحتيها على سطح العربة 
وتحاملت عليههما حبّى حظت ركبتيها على حافة العربة 
ثم مضت تتحرّك رويذا على أربع. . . ديا لطيفف, . , 
آه لو كنت على باب البيت. . . أو حي في دكان محمد 
الطرابيثي. .. انظر إلى ابن الكلب كيف يحملق في 
الطابية بعينيه. . . ما أجدر أن يسمي نفسه مل اليوم 
محمد الفاتح , . . يا لطيف. .. يا منقذل.. .» وأشيل 
ظهرها يستقيم حتى مضت واقفة على سطح العربة, 
وفتحت الملاءة وقبضت على طرفيها وجعلت تهزرها 
بيديها هرات متتابعات كأنئها طائر يخفق بجناحيه» ثم 
لفتها حول جسمها لفة محكمة وشت بدقائق تقاطيعه 
وتفاصيله وأبرزت - خاصّة ب عجيزة مدّملجة رقراقة, 
ثم جلست عند مؤخرة العربة فتكوّر ردفها تحت 
الضغط متبلورًا ذات اليمين وذات اليسار فبِعم 
الوسادة. . . وممبض ياسين وغادر القهوة فوجد العربة 
فد تحركت فتبعها متمهّلا وهو يلهث ويصرّ على أسنانه 
من شدة الانفعال. وراحت العربة تسيسر سيرتها 
المتمهلة المتايلة والنسوة على سطحها يتأرجحن معها 
يملة ويسرة فركز الشابٌ عينيه في وسادة العوؤّادة 
يذهب معها ويجيء حَبّى خاها بعد حين ترقص. 
وكانت الظلمة قد بدأت تغثى الطريق الضيّق وأخحذت 
كثرة من الدكاكين تغلق أبواساء إلى أنْ غالبيّة المارة 
كانت من جمهور العاملين العائدين إلى بيوتهم منبوكي 
القوى فوجد ياسين بين الظلمة والجمهور المتعب 


متّسعًا لإنعام النظر والأحلام في أمن ودعة. . . داهم 
لا تبعل لهذا الطريق من نباية» ولا لهذه الحركة 
الراقصة من ختام. . . 
جمعت بين العجرفة واللطف يكاد البائس مثل يحس 
بطراوتها وشدّتها معًا بالنظر المجرّد. . . وهذا المفرق 
العجيب الذي يشطرها تكاد تنطق الملاءة علده. . 

وما خفي كان أعظم. . إن أدرك الآن لاذا يصللٍ 
بعض الناس ركعتين قبل أن يبنى بعروسه. . . أليست 
هذه قبَة؟. . . بلى وتحث القبّة شيخ . . . وإني لمجذوب 
من مجاذيب هذا الشيخ... ياهوه... يا 
عدوى.. .» وتنحلح والعربة تقترب من بوّابة المتولي 
فالتفتت زنُوبة وراءها ورأته. ثم خيل إليه» وهي تعيد 
رأسهاء أنه لمح على شفتيها بشير ابتسامة قدقٌ قلبه في 
علف وسرت في وجدانله سكرة سرور ملتهب. ومرقثت 
العربة من بوّابة المتولي ثم مالت إلى اليسارء وهناك 
اضطرٌ الشابٌ إلى التوقف عن متابعتها لأنّه رأى عن 
كثب معالم زينات وأنوار وجمهورًا مهذلا فتراجع قليلا 
وبصره لا يفارق العوادة» وجعل يراقبها بنهم وهي 
تنرل على الأرض» وهي ترمي ناحيته بنظرة عابثة» ثم 
وهي تنّجه إلى بيت العروس حي واراها الباب في 
ضجّة من الزغاريد. وتنبّد تنبّدة حاميةء ولفته حيرة 
حانقة فبدا قلقًا كأنّه لا يدري أيّ وجهة يقصد . 

«لعنة الله على الاسترالئين!. .. آين أنت يا أزبكيّة 
لأبك همي وأشجاني وأتزوّد منك بشيء من الصبر». . 
ثم دار على عقبيه وهو يتمتم «إلى العزاء الباق . . إلى 
كستاكي): وما كاد ينطق باسم البدّال اليونانَ حي 
تلدّى رأسه حنيئا إلى حميّا الشراب.. كانت المرأة 


يا للها من عجيزة سلطانية 


والخمر في حياته متلازمتين متكاملتين» ففي مجلس . 


المرأة عاقر الخمر لأول مرّة. ثم صارت بحكم العادة 
من مقوّمات لذّته وبواعثهاء بَيْد أنه لم يُتَحْ لا المرأة 
والخمر ‏ أن يتلازما دائّا» وخلت ليال كثيرات من 
النساء. فلم يجد بدا من أن يخقُف لوعته بالشراب, 
ولكرور الأيّام واستحكام العادة بات وكأنه المولع 
بالخمر لذاتها. وعاد من نفس الطريق الذي جاء منه. 
وقصد بدّالة كستاكي عند رأس السكّة الجديدة ‏ 


بين القصرين راون 


حانوت كبير ظاهره بدّالة وباطنه حانة يفصل بينهها باب 
صغير ‏ ووقف عند مدخلها مختلطا بالزبائن ريشما 
يتشخص الطريق أن يكون أباه هنا أو هناك ثم اله 
صوب الباب الصغير الداحلّ ولكن ما كاد يتقدّم 
خطرة حبّى لمح في طريقه رجلا واتفًا أمام الميزان 
والخواجة كستاكي نفسه يزن له لغة كبيرة» فانجذب 
رأسه إليه بلا إرادة» وسرعان ما اكفهرٌ وجهه وسرت 
في بدنه رجفة قاسية تقض ا قلبه خوفا واشمئزارًا. ل 
يكن في مظهر الرجل ما يسبغ هذه العواطف العدائية . 
كان في الحلقة السادسة. مرتديًا جلبابا فضفاضًا 
وعيامة» وقد ابيضٌ شاربه وعلاه الكير والوداعة, إلا 
أنْ ياسين واصل سيره مضطربًا كأنما يفرّ قبل أن تطلع 
عليه عينا الرجل» ودفع باب اللحانة بشىء من القوة ثم 
دخل تكاد تميد به الأرض. . . 


لذلا 

ارتمى على أوْل مقعد صادفه غير بعيد من الباب 
وقد بدا خائر القوى ساهماء ثم دعا النادل وطلب 
دَوْرق كونياك بديرات نمت على نفاد صيره. وكانت 
الحانة بالحجرة أشبه. تدلى من سقفها فانوس كبير, 
سنك بجتعاطا موالة خف وكزائيت خورانا يجام 
إليها نفر من أهل البلد والعيال والأفندية.» وتوسط 
الكاة عق الثاتون باكرة عفن أضضن 
القرنفل. من عجيب أنه لم ينْسَ الرجلء وأنه عرفه 
من النظرة الأولى» متى رآه آخر مرة؟. . , لا يستطيع 
أن يجزم. ولكن من المحمّق أنه لم تقع عليه عيياه في 
مدى اثنتىي عشرة سنة إلا مرّتين إحداهما التي زلزلته 
الآن. وقد تغيّر الرجل ما في ذلك من شك فغدا شيخًا 
هادثًا وقورًا!. . . ألا سحق الله المصادفة العمياء التي 
ألقت به في سبيله. والْتَوَتْ شفتاه تقرّرًا وامتعاضا 
وشعر بمرارة اللهوان تجري في ريقه. يا له من هوان 
مذْلٌ ها يكاد يفيق من دواره القديم بالعناء والعناد 
كالتي ترده إليه ذكرى من الذكريات المعتمة أو مصادفة 
لعينة كالتي حدئت اليوم فينقلب ذليلًا منكسرًا. . . 
ضائعا. وعلى رغمه حملقت عيناه في الماضي البغيضص» 


بقوة الحياج المثار في رأسه وقلبه. فانشقٌ الظلام عن 
أشباح شائهة طلما ناوشته كرموز للعذاب والكراهية, 
فميّز من بينها دكان فاكهة يقوم على رأس عطفة قصر 
الشوق» وطالعته صورة غامضة المعالم.ء هي صورته 
وهو صبئٌ» فرآه وهو يحثٌ خطواته المتقاربة إلى ذلك 
الدكّان حيث استقبله ذلك الرجل ثم حمله قرطاسًا 
مليئًا بالبرتقال والتفاح فتناوله مسرورًا وعاد به إلى المرأة 
التي بعنته والتظرت,» إلى أمه دون غيرها واأسفاه! 
وانعكست الذكرى على جبيله عبوسة حنق وضيق» ثم 
استعادت مخيلته صورة الرجل فتساءل جزعا أكان 
يعرفه لو وقعت عليه عيناه؟ . . . أكان يذكر فيه الصبيّ 
الصغير الذي عرفه قديما ابنا لتلك المرأة؟. . . وقرصته 
فشعريرة فزع فتخاذل جسمه البادن الفارع وتضاءل في 
حسّه حبّى استحال لا شيء. وجيء عند ذاك بالدؤرق 
والقدح فصبٌ وبل في نهم وعصبيّة متعبّملا حظ 
الشاربين من الانتعاش والئسيان. ولكن فجأة تراءعى 
له من أعراق الماضي وجه أمّه فلم يتتالك من أن 
يبصق. يما يلعن: الحظ الذي جعلها أمّه أم جمالها 
الذي شغف كثيرين حنًا وأحاطه بالكوارث؟! . . . 
والحنٌ أله لم يكن بوسعه أن يغبّر أمرًا مما قدّر عليهء ول 
يكن بوسعه إلا أن يذعن للقضاء الذي هرس عرّة 
نفسهء أفليس من الظلم أن يكفر بعد ذلك عن حكم 
القضاء كأنّه هو الجاني الأثيم؟!. . ولم يَدْرِ لم استحق 
اللعنة. فالأطفال الذين استقبلوا الدنيا في حضانة 
أمّهات مطلقات مثله غير قليلين» وعلى خخلاف أكثرهم 
وجد من أمّه حنانًا غير مشوب وحيّا لا يعرف الحدود 
وتدليلا سابعًا لا تشكمه رقابة أب فتمتّعم بطفولة 
سعيدة قوامها الحبٌ واللين والدماثة. ولا تزال ذاكرته 
تحتفظ بالكثير من ذكريات البيت القديم بقصر 
الشوق. كسطحه الذي يشرف على أسطح لا عداد لما 
ويرى ماذن وقبابًا من نواحيه الأربع. ومشربيّته التي 
تطلّ على الجاليّة حيث تمرٌ ليلة بعد أخرى مواكب 
الزفاف تضيئها الشموع ويكتنفها الفتوؤات فينجلي 
أكثرها عن معارك تشتجر فيها النبابيت وتسيل الدماء, 
في ذاك البيت أحبٌ أمّه حيًا لا مزيد عليه وفيه شاعت 


في قلبه الريبة الغامضة. وفيه رمى إلى صدره بالبذور 
الأولى لنفور غريب - نفور ابن من أمّه ‏ التي قذّر لها 
أن تنمو وتستفحل حيّى انقلبت مع الزمن كراهية 
كالداء العضال؛ وكثيرًا ما قال لئفسه إِنْه رتّما كان في 
وسع الإرادة القويّة أن تتيح لنا أكثر من مستقبل واحد 
ولكتنا لق كران لناب ننهيا اوتنا من إزادةت: إلا ماضن 
واحد لا مفرٌ منه ولا مهربس. والآن يتساءل ئ 
تساءعل من قبل كثيرًا ‏ متى فطن إلى أنْ أمّه لم تكن 
الشخص الوحيد في حيائه؟!.. . بعيد جدًَا أن يعرف 
هذا على وجه اليقين. وما يذكر إلا أنّه في فترة ما من 
طفولته وعت حواسه شخخصًا جديدًا كان يطرأ عللى 
البيت من حين لآخرء ولعله - ياسين ‏ كان يتطلع إليه 
بغرابة وشيء من المدوف, ولعل الآخر بذل ما في 
وسعه للإيناسه وإرضائه. إِنه يحملق في الماضى على 
استكراه ونفور شديدين ؛ ولكنّه وجد المقاومة ا 
تجدي. كأنما ذاك الماضى دُمّل يود لو يتجاهله على حين 
5 ثم إِنْ هناك 
أمورًا لا يمكن أن تنسبى... ففي مكان ما ووقت بين 
النور والظلمة وتحت أعلى نافذة أو باب مطعّم ممثلنات 
من الرجاج الأزرق والأحمر... في ذاك المكان كان 
يذكر أنه اطلع فجأة ‏ في ظروف فرضها النسيان ‏ على 
ذلك الشخص الطارئ وهو كأنه يفترس أمّه. فيا تمالك 
أن صرخ من أعماق قلبه وولول باكيًا حيّ أقبلت امرأة 
عليه في اضطراب باد وراحت تطيّب خاطره وتسكن 
ائره. وانقطعت من شْدّة الامتعاض عند ذاك سلسلة 
خواطره فقلّب عينيه فيا حوله واجمّاء ثم صبٌ من 
الدَوْرقَ في القدح وشرب؛ وقد اح وهو يعيد القدح 
إلى موضعه نقطة من سائل منداحة فوق طرف جاكتته 
فظنها خمرًا وأخرج منديله وأنشأ يدلكها. ثم خطر له 
خاطر فتفخص ظاهر القدم فرأى قطرات من الماء 
عالقة بأسفله فرجح عنده أنْ ما سقط على سترته ماء 
لا خمر واستردٌ طمأنينته. . . ولكن أيّ طمانينة تمادعة ! 
لقد رجعت عيئاه إلى مرآة الماضي البغيض. لا يذكر 
متى وقعت الواقعة السالفةع ولا كم كان هر عير 
وقوعهاء ولكنّه يذكر بلا ريب أن الشخص المفترس لم 


ينقطع عن البيت القديم وأنّه كثيرًا ما تودّد إليه بما لذ 
وطاب من ألوان الفاكهة. ثم كان يراه بعد ذلك في 
دكّان الفاكهة عند رأس العطفة إذا استصحبته أمَه 
معها في مشوارء وبسذاجة الأطفال كان يلفت نظرها 
إليه فكانت تجذبه في عنف بعيدًا عنه وتمنعه من الإيماء 
إليه حبّى تعلّم أن يتجاهله وهو في صحبتها بالطريق» 
وازداد الشخص في نظره إبهامًا وغموضاء ثم حذرته 
من أن يعود إلى ذكره أمام خال عجوز كان وقتذاك 
على قيد الحياة ويزورهم من حين لآخر فاتبع تحذيرها 
وما يزداد إلا حيرة. ولم يقئم الحظ منه بذاك القدر 
فكانت أمّه ‏ إذا غاب الرجل عن البيت أياما ‏ يكون 
مبعونًا إليه ليدعوه إلى أن نحضر «الليلة»! وكان الرجل 
يستقبله بلطف ويملاً قرطاسًا من التفاح والموزء ويحمّله 
موافقته أو اعتذاره كيفا اتّفق. ثمّ بلغ به الحال أنه إذا 
اشتاق إلى لذيذ الفاكهة استاذن أمه في أن يذهب إلى 
الرجل ليدعوه «الليلة). ذكر هذا وجبينه يندى خزيا 
لم نفخ في قهرء ثم صب وجمرع. ورويدًا انبعت 
الحميًا في دمه. وبدأت تلعب دورها الساحر في معاونته 
على حمل متاعبه. . . «قلت ألف مرّة إِنه يجب أن أدع 
الماضي مدفونًا في قبره... لا فائدة... لا أمْ لي 
وحسبي امرأة أب الرقيقة الطيّبة. . . كل شيء طيّب ما 
عدا ذكرى قليمة بيدى أن أميتها, . . ثرى لم أجاري 
إلحافها عل فأبعثها من قيرها حيئًا بعد حين!.. . 
[؟!1... سوء الطالع وحده الذي رمى بالرجل في 
طريقي اليوم ولكنٌ مصيره أن يموت يومًا... أودٌ أن 
يموت كثيرون. . . لم يكن الرجل الوحيد. . . » بَيْد أن 
خياله الثائر واصل إسراءه في ظلمات الماضي رغم 
مقاومته النظريّة ولكن على حال أخف توثراء أجل لم 
يعد في تلك القصّة بالذات من بقيّة طويلة» ولعلها ‏ 
هذه البقيّة - تمتاز بما يضيئها من نور نسبئ بعد عبور 
طور الطفولة المعتم. كان هذا في السنوات القلائل 
التي سبقت التقاله إلى حضانة أبيه؛ وقد وجدت أمه 
الشجاعة لتصارحه بأنْ ذاك «الفكهانى» يتردّد عليها 
طلبًا ليدهاء وأنها متردّدة في قبوله» وأنها غالبًا سترفض 
إكرامًا له! تُرى أصدّق ما قيل له؟... هيهات أن 


بين القصرين 6" 
بذك نق. مك تفاضيل. ذكرياتة».ولكنة كان بكلا ري 
يشرئبٌ للإدراك والفهم. ويعاني نوعًا من الريبة 
الغامضة التي تتكشف للقلب دون العقل» ويكابد 
ألوانًا من القلق أطار عن هامته حمامة السلام» فتهيّات 
في نفسه تربة لتلقي بذرة النفور التي صارت مع الأيام 
إلى ما صارت إليه. ثم انتقل في التاسعة من عمره إلى 
حضانة أبيه الذي ل يكن رآه إلا مرّات معدودة تحاميً 
للاحتكاك بأمّه. انتقل إليه غلامًا على الفطرة لم يتلقن 
من مبادئ العلم كلمة واحدة. ومضى يكفر عن 
سيّئات التدليل الذي غلّْته به أمّه فتلقّى العلم بنفس 
كارهة وإرادة خائرة» ولولا شِْدَة السيّد وطيبة جو 
البيت الجديد ما دفم إلى النجاح في الابتدائية بعد أن 
نيِف على التاسعة عشرة من عمره. وبنمو عمره 
وإدراكه حقائق الأشياء» استعرض حياته الماضية في 
بيت أمّه وقلبها على وجوههاء ملقيًا عليها من خبرته 
الحديدة أنوارًا فاضحة فتكشفت له الحقائق ببشاعتها 
ومرارتهاء وكلّما تقدّم في الحياة خخطوة بدا له الماضي 
سلاحًا مسمومًا منغرسًا في صميم نفسه وكرامته؛ وقد 
دأب أبوه باد الأمر على أن يسأله عن حياته في بيت 
اقهة ولكته عل معدالة سه عافن نكن الدكبريات 
المحزنة وغلّب كبرياءه الجريح على الرغبة في استثارة 
اهتمام أبيه وحبٌ الثرثرة الذي يستهوي أمثاله من 
الغلمان» ولزم الصمت حقّى ترامى إليه نبأ غريب عن 
زواج أمّه من تاجر فحم بالمبيضة فبكى الغلام طويلا. 
واشتدٌ ضغط السخط على صدره حتّى فضفض فائطلق 
يحدّث أباه عن «الفكهاني: الذي زعمت يوما أنما 
رفضت الزواج منه إكراما له!. . . وانقطعت صلته بها 
من ذاك العهد. منذ إحدى عشرة سنة ‏ فلم يعد 
يدري عنبا شيئًا إلا ما ينقله إليه أبوه من حين لآخر 
كطلاقها من الفحّام بعد انقضاء عامين على زواجها 
منه) ثم زواجها من باشجويش في العام التالي 
لطلاقهاء ثم طلاقها مرّة أخرى بعد حوالي عامين 
إلخ. . . إلخ.. . وفي فثرة قطيعتها الطويلة سعت 
المرأة كثيرًا إلى رؤيتهء فكانت ترسل إلى أبيه من 
يستأذنه في السماح له بالذهاب إليهاء ولكن ياسين صدّ 


55 بين القصرين 


عن دعوتها بإباء ونفور شديدين رغم نصح أبيه له 
بالتسامح والعفو. والحقٌ أنه وجد عليها موجدة حامية 
نابعة من صميم قلب جريحء فأغلق دونها باب العفو 
والغفران وأقام وراءه متاريس -حنق وكراهية مؤمنا إلى 
هذا بأنّه لم يظلمها ولكن أنزها بحيث أنزلتها فعالها. , 
دامرأة. أجل ما هي إلا امرأة. .. وكل امرأة لعنة 
قذرة... لا تدري امرأة ما العفة إلا حين تنتفي 
أسباب الزنا. . . حيّ امرأة أي الطيّة. الله وحده 
يعلم ماذا كان يمكن أن تكون لولا أبي!» وقطع عليه 
أفكاره صوت رجل علا قائلا: والخمر كلها فوائد, 
ومن يقل غير هذا أقطع رأسه. . . الخشيش والمنزول 


والأفيون كثيرة الضرر. , . أمّا الخمر فكلها فوائد. . . » 
فتساءل صاحبه: «وما فوائدها؟» فقال الرجل 


مستنكرًا: «وما فوائدها! ما أعجب سؤالك! . . . كلها 
فوائد كما قلت... وأنت تعلم هذا وتؤمن به...) 
فقال صاحبه: «ولكن الحشيش والأفيون والمدزول 
مفيدة كذلك فيجب أن تعلم هذا وتؤمن به.. 
الناس جميعًا يقولون هذا فهل تخالف الإجماع؟!) 
وتريّث الرجل قليلا ثمّ قال: «كلها مفيدة إذن. 
الكلء الخمر والحشيش والأفيسون والمنزول وما 
يستجدٌ!» فعاد صاحبه يقول بلهجة تنم عن ظفر: 
«ولكن الخمر حرام!؛ فقال الرجل عتدًا: «وهل 
فستاقة السمال ا رق ير سح وب أطعسب 
المساكين... أبواب التكفير واسعة والحسئة بعَشّْر 
أمثاها, . .). 
وابتسم ياسين في شيء من الارتياح: أجل أمكنه 
أخيرًا أن يبتسم في شبيء من الارتياح: «لتذهب إلى 
الجحيم ؛ ولتأخحذ الماضى معها... لسث عن ثبيء 
مسكولا . . . كل | إنسان ملوث في هذه الحياة ومن بزح 
الستاريرٌ عجبًا. . . شىء واحد همي دا هو 
عقارها. دكان ب 0 الغوريّة والبيت لا 
بقصر الشوق. . عد أمام الل 5" ورثته كامل 
ااا ليش عله ل سف و قوم زلولة و 
كدت أنساك وما أنسانيك إلا الشيطان. امرأة عذّبتى 
وامرأة آنس عندها العزاء. .. آه يا زنوبة ب 


قبل اليوم أنْ باطنك بِبْذا اللون الرائق. . . أف ينبغي 
الثائرى لا يسكن حتى ينخلع. ..» 


١ 

جلس السيّد أحمد عبد الجواد وراء مكتبه بالدكان 

تعبث أنامل يسراه بشاربه الآنيق كشأنه كلما جرفه تيار 
خواطره؛ ويرنو إلى لا شيء بوجه تلم معالمه عن ارتياح 
ورضى . رضي احريي ارتم يا لجن 
الثاس من حبٌ وموذة؛ ولو عرض له من حبهم دليل 
كل يوم لأوجد له كلّ يوم سرورًا ارا باه 
التكرارء وقد أتاه اليوم دليل جديد بسبب اضطراره 
إلى التخلف ليلة الأمس عن شهود حفلة أنس دعاه 
إليها أحد الأصدقاءء فا استقرٌ به يحلسه بالدكان هذا 
الصباح حبَّى وافاه الداعي وبعض الإخوان من 
المدعوّين وأوسعوه عتابًا لتخلفه وحمّلوه تبعة ما ضاع 
علبي سني ورب ونه قائر عدم "انراز نه 1 
يضحكوا من قلوبهم كما تعودوا أن يضحكوا معه. وم 
ييجدوا للشراب لذّته التي يجدون في منادمتهء وأنَّ 
مجلسهم خلا على حدٌ تعبيرهم ‏ من روحه. وها هو 
يستعيد أقوالهم في سرور وزهو لطفا كثيرًا مما لاقى من 
حلة الملام من ناحيتهم وحرارة الاعتذار من ناحيته. 
بيد أنه لم يخل من تأنيب ضمير حريص بطبعه على 
إرضاء الخلان. بدّار إلى النبل من موارد الصداقة 
والموذة في إخلاص وإيثار» فكاد يكذّر صفوه لولا ما 
أشاعت ثورة الأحباب الناطقة بحبهم في نفسه من 
أرككة الرهنا:والعيس: أجل :طالا كان لحت الذئ 
يجذبه إلى الناس ويجذبهم إليه معيئا لقلبه يغدق عليه ما 
يشاء من فرح مبيج وزهو بريء وكأنه خلق للصداقة 
قبل كل شيء. وثمّة آية أخرى على هذا الحبٌ- 
والأصدق أن يقال إنه حبٌ من نوع آخر- تجلّت له 
ضحى اليوم حين ألمت به أمّ على الخاطبة وقالت له 
بعد حديث دارت فيه حول غرضها ما شاء لها 
الدوران: «ألا تعلم أنْ ست نفوسة أرملة اللحاجح علي 
الدسوفي تملك سبعة دكاكين في المغربلين؟» وابتسم 


السيّدء وفطن بالغريزة إلى ما تومئع إليه المرأة وحدثه 
قلبه بأئّها ليست خاطبة فحسب هذه المرّة ولكتّها رسول 
موصّى بالكتيانء ألم يحخيّل إليه في أكثر من مناسبة أن 
السب نفوسة تكاد تعلن عن ودّها أثناء تردّدها على 
دكانه لابتياع حوائجها؟ . . بَيْد أنه أراد استدراج المرأة 
ولو على سبيل التفككه فقال باهتتام ظاهريّ: «عليك 
اضعار روج مصاع اهف ام الطلوب 1و رظنت اذ 
علي أها بلغت الغاية فقالت: «قد احترتك من دون 
الرجال. فا قولك؟4؛: وضحك السيد ضحكة مجلجلة 
وشت بسروره وثقته بنفسه ولكنّه قال بلهجة قاطعة: 
«لقد تزوّجت مَرّتينِ أخفقت في الأولى ووفقني الله في 
الأخرى» ولن أبطر بئعمة اللهم. والحنّ أنّه الما تغلب 
على مغريات الزواج على كثرة ما تبيًا له من فرص 
مواتية» بقوة إرادة لا تنثني» وكأنه لم ينس مثل أبيه 
الذي انرلق إلى زيجات متلاحقة بلا وعي». بدّدت 
ثروته وجرّت عليه المداعب. ول تَبْق له هو عقبه 
الوحيد ‏ إلا على شيء من المال لا يغني. ثم إِنّه من 
ربحه ودّخله في بسطة من العيش هيات لأسرته هناء 
ورغدًا وآتاحت له ما يشاء للإنفاق في مسرّاته وملاهيه 
فكيف يقدم على ما يخل ببذا الوضع البديع المتناسق 
الذي يكفل له الكرامة والحرَيّة؟! أجل لم يجمع السيد 
ثروة» لا لقصور في وسائلها عن تجميعها ولكن لما طبع 
عليه من جود جعل إنفاقها والاستمتاع بآثارها المعنى 
الوحيد لها الذي يؤمن بهء إلى إيمان عميق بالله 
وفضائله ملأ نفسه طماأنيئة وثقة وآمئه من الخوف 
الذي يساور كثيرين عن أرزاقهم ومستقبلهم. على أن 
صدّه عن مغريات الزواج لم يمنعه من السرور والزهو 
كلما رامته فرصة طيّبة. وبالتالي لم يستطع أن يتناسى أن 
سيّدة جميلة كالستٌ نفوسة تودّه بعلا لها. وغلبت هله 
الذكرى على خواطره فراح يسراقب وكيله والزبائن 
بعينين غائبتين وأسارير حالمة باسمة. وذكر- باسما) 
أيضًا ‏ ما قال له صاحب من صحبه صباح اليوم وهو 
يعابثه معرّضًا بأناقته وتعطره: «حسشبك. حسبك يا 
عجوز!.. .1 عجوز؟|. ع له ف الخامسة والأربعين 
حماء ولكن ما قول العاذل في هله القوّة العارمة 


بين القصرين 51" 
والصحّة الدافقة والشعر السبط اللامع السواد! لم يمن 
إحساسه بالشباب ولا تراخى, وكأن فتوته ما تزداد مع 
الآيَّام إلا قوّة. إلى أن مزاياه لم تكن لتغيب عله بل 
كان عل تواضعه وساحة نفسه فديد الشعور باء 
منطويًا في أعماقه على زهو وعجب. يحبٌ الثناء حا 
حماء وكأنه بتواضعه ولطفه يستزيد منه ويحثٌ الرفاق 
بمكر حسن عليه» ولكن مع أنْ ثقته بنفسه بلغت حدٌ 
الاعتقاد بأنّه شير الرجال قوّة وبباء وظرفًا وكياسة إلا 
أنّه لم يثقل أبدًا على أحد من الناس. لأنْ تواضعه كان 
طبعًا وسجيّة كذلك. ولأنّه نبع من فطرة تسيل بشاشة 
وإخلاضا وحيا. والحقّ أله كان ينرع بفطرته إلى أن 
يحب كما يحبٌ, ولا يمسك عن نشدان المزيد من 
الحبّ. فاتجهت طبيعته بوحي من غريزته الظامئة 
للحبّ إلى الإخلاص والوفاء والصفاء والتواضع» تلك 
السجايا التي تجذب الحبٌ والرضا كى) تجذب الزهور 
المُراشء. ومن هنا استوى أن يقال إن تواضعه كياسة 
أو طبيعة والأصص أن يقال إِنّه طبيعة تستمدٌ كياستها 
من وحي الغريزة لا تدبير الإرادة فتجلّت طبعًا بسيطا 
لا تكلّف فيه ولا تعمّلء ولذلك كان السكوت عن 
فضائله ومواراة مزاياه بل والتئدّر بعيوبه وهناته التماسا 
للعطف والحت أحبٌ إليه من نشرها والمباهاة بها 
اللذين يجرَّان عادة إلى الاستفزاز والحسد» وهي كياسة 
سديدة دفعت المحئين إلى التنويه بما يغضى عنه حكمة 
وحياء» وأذاعت سجاياه على نحو لم 0 ليقدر عليه 
بنفسه دون التضحية بأجمل جوانب شخصيته وبما 
بحظى من جاذبية وحب لا تشوبهما شائبة. وببذا 
الوحي الغريزيّ نفسه استهدى حتى في جانب حياته 
الماجن» في مجالس أنسه وطربهء فلم يتخل فيها ‏ مهم 
لعب الشراب برأسه ‏ عن لباقته وكياسته. ولو شاء بما 
أوتي من حفة الروح وحضور البديبة وحلاوة الفكاهة 
وحدّة السخرية» لاكتسح السرّار بلا عناء» ولكنّه كان 
يدير مجلس الأنس بهارة وأريحيّة تفسح المجال لكل 
سامرء ويشسّجم أهل الدعابة وإن خالفهم التوفيق 
بضحكاته المجلجلة؛ إلى خحرصه الشديد على ألا يخلف 
مزاحه في نفس جرحًاء فإن اضطرّه الموقف إلى الحملة 


على قرين داوى عواقب حملته بتشجيعه والتوذد إليه ولو 
بالسخرية من نفسه. فلا ينفضٌ المجلس إلا وقد 
حظي كلّ سامر من أطايب ذكرياته بما يشرح الصدر 
ويستآئر الفؤاد. على أنْ كياسته الفطريّة أو فطرته 
الكيسة ؛ لم تقتصر آثارها الطيّبة على حياته الضاحكة 
فحسبء ولكتها امتدّت إلى جوانب هامّة من حياته 
الاجتباعيّة. فأعلنت عن نفسها أروع إعلان في كرمه 
المأثور سواء ما يتجلى منه في الولائم التى يدعو إليها 
من حين لآخر في البيت الكبير أو في الهبات التي ينفح 
با المحتاجين من يتصلون بعمله أو بشخصه ‏ وفي 
شهامته ومروءته ونجدته التى فرضت له على أصدقائه 
ومعارفه نوعًا من الوصاية المشربة بالحبٌ والوفاء يفيئون 
إليها إذا دعت الضرورة إلى المشورة أو الشفاعة أو 
الخدمة فيها يعرض طم من هموم العمل والمال أو شئون 
المسائل الشخصية والعائلية كالخطبة والزواج والطلاق» 
أجل ارئفى لنفسه وظائف يؤدّيبا بلا أجر غير 
الحبٌ ‏ فكان سمسارًا ومأذونا ومحكّء ثم وجد دائمًا في 
أدائها ‏ على مشقّته ‏ حياة مليئة بالبهجة والغبطة. مثل 
هذا الرجل الذي تجود نفسه بفضائل اجتاعيّة كثيرة ثم 
يطويها كان في نشرها أنْى وأ أذَْى. مثل هذا الرجل 
يكون خليمًا- إذا خلا إلى خواطره وانقشع عنه الحياء 
الدع زقولاه حفيالالناسن نان يقفل رابا :ويك 
ويستسلم لزهوه وعجبه. لذلك راح يستعيد عاب 
أصدقائه المحيّين ودعوة أمّ على الخاطبة بلذَّة وسرور 
وانشراح تعانقت في قلبه عن نشوة خالصة حي تطفْلت 
عل خلوته لذعة آسف فمفى محدّث نفسه:, ... 
(نفُوسة هانم سيّدة ذات مزايا لا يستهان عها.., 
يتمناها كثيرون ولكئّبا رغبت ف أنا. . . يد أنْني لن 
أتزوّج. هذا أمر مفروغ منهء وليست هي بالمرأة التي 
تقبل أن تعاشر رجلا بغير زواج . . . هذا أنا وهذه هي 
فكيف يمكن أن نلتقي!. . . ولو صادفتئىي في غير هذه 
الأيَام التى سدّ فيها الاستراليُون علينا المنافذ لمان الأمر 
ولكنبا تصدّت لنا ونحن في حاجة إليها فواأسفاه». 
وقطع عليه أفكاره وقوف حنطور أمام مدحل 
الدكان فمدٌ بصره مستطلعًا فرأى العربة وهي تميل 


ناحية الدكان تحت ضغط امرأة هائلة مضت تغادرها 
في بطء شديد على قدر ما تسمح به طيات لحمهها 
وشحمها وقد سسقتها إلى الأرض جارية سوداء فمدذدت 
لها يدها لتعتمد عليها في أثناء نزويها. وكالمحمّل وقفت 
مليا وهي تتنّد كائبا تستجمٌ من عناء النزول. 
وكاللحمّل راحت تتهايل وتخطر إلى ناحية الدكان بينم 
علا صوت الحارية في لهجة شبه خطابية لتعلن عن 
مولاتها: 

- وسّع يا ججدع أنت وهو للست زبيدة ملكة 
العوالم . 

وندذت عن الست زبيدة ضحكة مسجوعة وقالت 
تخاطب ال خارية بلهجة تلم عن زجر كاذب : 

- الله يساك يا جلجل... ملكة العوالم مرة 
واحدة!. .. هلا عرفت فضيلة التواضم! 

وهرع إليها جميل الحمزاوي مفترٌ الثغر عن ابتسامة 
عريضة وهو يقول: 

أهلا وسهلا. كان حمقًا علينا أن نفرش الأرض 
بالرمل . 

وممض السيّد وهو يتفخصها بنظرة تلم عن دهشة 
وتفكير ثم قال متمما نحية وكيله : 

- بل بالحنّاء والورد ولكن ما حيلتنا والح يقبل إذا 
أقبل غير مسبوق ببشير؟ . . . 

ورأى السيّد وكيله وهو ينّجه إلى كرس ليأتي به 
فسبقه إليه بخطوة واسعة بدت كالوئبة فتنحى الرجل 
جانبًا وهو يداري ابتسامة» وقدّم السيّد لما الكرسئ 
بنفسه وهو يومئ براحته مرحٌبًا كأنّه يقول لها «تفضلي؛ 
بيد أن راحته انبسطت - رئما بلا شعور منه لآخر 
طافته وانفرج ما بين أصابعه حبّى صارت يذه 
كالمروحة, ولعله تأثْر في بسطها بما تركه في خخياله منظر 
العجيزة المائلة التي ستملأ مقعد الكرسيّ وتفيض عل 
عواقة ستل وشكرقة الراك با عياف رمن وجديها اللذى 
أسفر حسئه بغير حجاب» وجلست وهي تشم بزواقها 
وحَليها نورّاء ثم التفتث إلى جاريتها وخاطبتها قائلة 
وهي تعنى بالنطاب غيرها: 


- ألم أقل لك يا جلجل أنه ليس ثمّة ما يدعونا 


للتخبّط هنا وهناك لابتياع حوائجنا وعندنا هذا الدكان 
الفاخ ؟ 

فآمنت الحخارية على قول سيّدتبها قائلة : 

صدقت كعادتك يا سلطانة» لماذا نذهب بعيدًا 
وعنئدنا السيّد الكريم أحمد عبد الحواد! 

فتراجع رأس الست كانما هاها ما صرّحت به 
جلجل وألقت عليها نظرة استئكار ثم رذدت عينيها 
بين السيد والجحارية لتشهده على استنكارها وقالت وهي 
تدارى ابتسامة : ْ 

واحجلتاه! . . . حدّثتك عن الدكان يا جلجل لا 
عن السيّد أحمد! . . , 

وشعر فؤاد السيد الذكي بالجو الوذيّ الذي ينفئه 
حديث المرأة فاندمج فيه بغريزته المتونّبة وتمتم باسمًا : 

- الدكان والسيّد أحمد شىء واحد يا سلطالة . 

فرفعت حاجبيها في ولال وقالت بعناد لطيف : 

- ولكدّنا نريد الدكان لا السيّد أحمد. 

وبدا أنْ السيّد أحمد لم يكن الشخص الوحيد الذي 
شعر بِالجوٌ الطيّب الذي خلقته السلطانة» فهذا جميل 
الحمزاوي يراوح بين مساومة الزبائن واستراق الدظر 
إلى ما تيشّر من جسم العالمة؛ وهؤلاء الزبائن جعلوا 
تجيلون أبصارهم بين البضائع لتمرٌ في الذهاب والإياب 
بالستّ» بل بدا أنْ الزيارة الماركة قد لفتت بعض 
الأنظار في الطريق فرأى السيّد أن يقترب من السلطانة 
وأن يولي الباب والقوم ظهره العريض ليحول بينها 
وبين تطفْل المتطفّْلينء بيد أن هذا لم يُنْسِه ما كان فيه 
من أسباب الحديث فقال يصل منه ما انقطع : 

- قضى الله جلت حكمته أن يكون الجاد أحيانا 
أسعد من الإنسان . 

فقالت بلهجة ذات معبنى : 

- أراك تغالي. لن يكون المسماد اسعد حظًا من 
الإنسان». ولكنه كثيرًا ما يكون أجل فائدة. 

فثقبها السيد بعينيه الزرقاوين متظاهرًا بالدهشة : 

- أجل فائدة!. . (ثمَّ مشيرًا إلى الأرض). . . هذا 
الدكان! , 

فوهبته ضحكة قصيرة عذبة ولكمّها قالت بلهجة لا 


تخلو من خشونة مدبرة : 

- أريد سكّرًا وبنًا وأررًا فهل يغني الإنسان فيها عن 
الدكان شيئًا!... (وبنيرات اختلط فيها عدم 
الاكتراث بالدلال). . . ثم إن الرجال أكثر من الحم 
على القلب. 

وكان السيّد قد تفتّحت له من الطمع أبواب» 
وشعر بأنّه مقبل على شيء أجل خخصطرًا من البيع 
والشراءء فقال محتسًا: 

- ليست كل الرجال سواء يا سلطانة: فمن قال لك 
إن الإنسان لا يغتني عن الأرزّ والسكر والبنّ شيئًا؟! 
الإنسان حقًا من تجدين فيه الغذاء والحلاوة والكيف! 

فساءلته ضاحكة : 

- إنسان أم مطبخ هذا؟ 

فقال السيّد بلهجة تدلٌُ على الظفر: 

- لو نظرت من قريب لوجدت تشاببًا عجيبًا بين 
الرجل والمطبخ . . . كلاهما حياة للبطون! . . . 

وغضّثت المرأة بصرها مليّاء وانتظر السيّد أن ترفعه 
إليه موسومًا بابتسامتها المشرقةء ولكتّها واجهته بنظرة 
رزيئة فأحسٌ لتوٌه أمْها غيّرت «السياسة» أو لعلّها لم 
ترتح كل الارئياح لانزلاقها فعدلت عنه ثم سمعها 
تقول في هدوء: 

أفادك الله ! . 
والسكر, 

وتحول السيّد عنبا متظاهرًا بالحدٌ ودعا إليه وكيله ثم 
وصّاه بصوت مرتفع بطلبات الست فأوحى مظهره بأنه 
قرّر أيضًا العدول عن «التودّد» والعودة إلى «العمل؛. 
ولكتّها لم تكن إلا مناورة استعاد على أثرها ابتسامته 
المجوميّة وتهتم مخاطبًا السلطانة : 

- الدكّان وصاحبه تحت أمرك! 

وكان للمناورة أثرها فقالت المرأة في دعابة: 

أريد الدكّان وتأبى إلا أن تجود بنفسك! 


.. ولكن حسبنا اليوم الأرزٌ والبنْ 


- نفسى بلا ريب خير من دكاني» أو خير ما في 
فأشرق وجهها بابتسامة ماكرة وهي تقول: 
هذا تالف ما سمعناه عن سجودة بضاعتك! 


وا بين القصرين 


فقهقه السيّد قائلا: 

ما حاجتك إلى السكر وفي لسانك هذه الحلاوة 
كلّها؟ ! 

وأعقب هذه المعركة الكلاميّة فترة سكون بدا فيها 
كلاهما راضيًا عن نفسه. ثم فتحت العالمة حقيبتها 
وأخرجت هرآة صغيرة ذات مقبض فضي وراحت تنظر 
في صورتها فمفى السيّد إلى مكتبه ووقف مستندًا إلى 
حافته وهو يتفرّس في وجهها باهتام. والحقٌ لقد حدّثه 
قلبه حين وقعت عليها عيناه بأئْبا جادت بالزيارة لأمور 
غير الشراء والبيع. ثم جاء حديئها باستجاباته الحارة 
مؤكّدًا لظتّه. فلم يعد أمامه إلا أن يقرّر من الآن هل 
يوصلها بتاريخه أو يودّعها الوداع الأخير. ولم يكن رآها 
لأوّل مرّة فقد رآها مرّات في أفراح بعض الأصدقاء. 
وعرف عن الرواة أنْ السيّد خليل البئان اتخذها خليلة 
دهرًا حي انفصلا منذ عهد غير بعيدء ولعلّ هذا ما 
جعلها تستبضع من دكان جديد!... وهي موفورة 
الحسن وإن لم نَعْد منزلتها كعالمة المرتبة الثانية بين 
العوالم» بَيّد أن المرأة مهمّه أكثر من العالمة» وإئّبا لشهيّة 
لطيفة ومها من طيات اللحم والدهن ما يدق المقرور في 
زمهرير الشتاء الذي غدا على الأبواب» واعترضص 
أفكاره مجيء الحمزاوي حاملا ثلاث لقّاتء فتناولتها 
الحارية» ودسّت الست يدها في الحقيبة لتسخرج النقود 
فيها بداء ولكنّ السيّد أشار إليها عَذّرًا وهو يقول: 

- يا له من عيب! 

وتظاهرت المرأة بالدهشة وقالت: 

- أي عيب ياسي السيّد!... ليس في الحقٌ 

- هذه زيارة ميمونة بحن علينا أن نحيّيها بما هي 
أهله من الإكرام. وهيهات أن نوفيها حمّها. 

وكانت قد نمضت وهو يتكلم فلم نُيْدِ مقاومة جدّيّة 
لكرمه ولكتّها قالت: 

- ولكنّ كرمك هذا سيجعلني أتردّد مرّة ومرّتين قبل 
أن أقصدك مرّة أخرى, 

فقهقه السيّد قائلا: 

- لا تخانيء إن أكرم الزبون في المرّة الأولى ثم 


أعرّض خسارتي في المرّات اللاحقة ولو بالسرقة! هذا 
شعارنا نحن التجار! , 

فاتسمت الستّء ومدّت له يدها قائلة : 

- الكريم مثلك يُسرق ولا يُسرق... أشكرك يا 


سيد أحمد. 
فقال من كل قلبه : 
العفو يا سلطانة . 


ووقف ينظر إليها وهي تتبختر صوب الباب حب 
صعدت إلى العربة واتخذت مجلسهاء وجلست جلجل 
على المقعد الصغير قبالتها. وتحركت العربة بحملها 
النفيس» ثم غابت عن ناظريه؛ هنالك قال الحمزاوي 
وهو يقلب صفحة من دفتر الحساب : 

- كيف يمكن أن يسدّد هذا الحساب؟ ! 

فألقى السيّد على وكيله نظرة باسمة وقال: 

- اكتب مكان الأرقام «بضائع أتلفها الهوى» . 

ثم غمغم وهو يمضي إلى مكتبه «الله جميل يحب 
الجال». 


١ ه‎ 

وحين المساء أغلق السيّد الدكّان وغادره نحفٌ به 
المهابة ويتضوع منه عرف طيْب ثم مضى صوب 
الصاغة. ومما إلى الغورية حبّى قهوة سبى على فلحظ 
في مروره بها بيث العالة وما يكتئفه فرأى الدكاكين 
التي تمتذٌ على جانبيه لا تزال مفتوحة وتيّار السابلة في 
تدفقه فواصل السير إلى بيت أحد الأصدقاء حيث 
قضى ساعة ثم استأذن عائدًا إلى الغوريّة وقد غشيتها 
ظلمة فانقلبت كالمقفرة» وجعل يقترب من البيت آمئا 
مطمثثاء ثم طرق الباب وانتظر وهو يدقّق النظر فيها 
حوله وم يكن ثمّة نور إلا ما ترامى من كوّة قهوة سى 
علي؛ ومصباح غازي عل عربة يد عند منعطف السكة 
الجديدة. وفتح الباب وبدا شبح نخادم صغيرة فبادرها 
متسائلا بصوت قوي غير متردّد ليوحي بما يود من 
الصدق والثقة: 

- الست زبيدة موجودة؟ 

فرفعت إليه الخادم رأسها وسألته بدورها في تحفظ 


أملته عليها ظروف وظيفتها : 

من أنت يا سيّدي؟ 

فقال بصوته القوئ : 

. شخص يروم الاتفاق معها على إحياء ليلة. 

وغابت الخادم دقائق ثم عادت وهىي تقول: 
«تفضّل»» وأوسعت له فدخل ورقي وراءها في سلّم 
متقارب الدرجات انتهى به إلى دهليز ثم فتحت له بابا 
في مواجهته انتقل منه إلى حجرة مظلمة فظل واقفًا على 
كثب من المدخل وهو ينصت إلى أقدام الخنادم وهي 
تجري» ثمْ وهي تعود حاملة مصباحاء وتتبعها بعينيه 
وهي تضعه على خوان وتجيء بكرسيّ إلى وسط الحجرة 
وتقف عليه لتشعل المصباح الكبير المدلى من السقف 
ثم تعيد الكرسي إلى موضعه وحمل المصباح الصغير 
وتغادر الحجرة قائلة في أدب: «تفضل بالجلوس يا 
سيّدي». واتجه السيّد إلى كنبة في صدر الحجرة وجلس 
في ثقة وهدوء دلا على اعتياد هذا الموقف وأمثالفى 
وطمانيئة إلى الخروج مئه بما يرضي ويطيبء ثم خلع 
الطربوش وحطه على تُمرقة تتوسّط الكنبة ومدّ ساقيه في 
ارتياح. رأى حجرة متوسّطة الحجم نضّدت بجنباتها 
الكنبات والمقاعد وفرشست أرضها بسحادة فارسية وقام 
حيال كل كنبة من كنباتها الثلاث الكبرى خوان مطعّم 
بالصدف. وقد أسدلت الستائر على نافذتيها وباسا 
فحبست في جوّها شذا بخور سر به متسليًا بالنظر إلى 
فراشة راحث ترف على المصباح في نشاط عصبيّ . 
وانتظر بعض وقت جاءت في أثنائه الخادم بالقهوة, 
حيّى ترامى إلى أذنيه وقع شبشب منغوم ذي دفات 
مدغدغة فتنبّهت أعصابه وحدّق إلى الباب الذي 
سرعان ما امتلاأ فراغه بالجسم المفصّل المائل وقد لفك 
لفة شهوائيّة في فستان أزرق» وما كادت عينا المرأة 
تقعان عليه حيّى توقفت دهشة وهتفت: 

بسم الله الرحمن الرحيم. .. أنت. . . ! 

فجرى بصره على جسمها في عجلة ونهم كا يجري 
لفان عل جضوال. آرة لتعند ليه مفتذا :وقتال 
بإعجاب : 

باسم الله ما شاء الله . . . ! 


بين القصرين بام 


فواصلت تقدّمها بعد التوقف وهي تقول في خوف 
ب أعوذ بالله . . . ! 

فنبض السيّد مستقبلا يدها الممدودة سترحاب 
وتشمم شذا البخور بأنفه العظيم وقال: 

- أتخافين الحسد وعندك هذا البخور؟! 

فاستخلصت يدها من يده وتراجعت إلى كنبة 
جانبية وجلست وهي تقول: 

- بخوري خير وبركة» إِنّه أخلاط من أنواع شت 
بعضها عرب وبعضها هنديّ أؤلّف بينها بنفسبي. فهو 
جدير بان يخلص المسد من ألف عفريت 
وعفريت. . . 

فعاود السيّد الجلوس قائلًا وهو يلوّح بيديه في 
يأس : 

إلا جسدي!... بجسدي عفاريت من نوع آخر 
لا يجدي معها البخور, الأمر أجل وأخطر. . . 

فضربت المرأة صدرًا ناهضًا كالقربة وهتفت: 

- ولك أحبي حفلات أفراح لا حفلات زار! 

فقال السيد برجاء : 

- سنئرى إن كان لدائي عندكم شفاء! 

وساد الصمت قليلا فجعلت السلطانة تنظر إليه فيما 
يشبه التفكير وكأئما تستخبره عن سر حضوره وهل جاء 
حمًا للاثّفاق على إحياء ليلة كما قال للخادم؟. . . 
وغلبتها الرغبة في الاستطلاع فسألته : 

- فرح أم نحتان؟ 

فقال السيد باسما: 

لك ما تشائين! 

عندك مختون أم عروس؟ 

د عندى كل 2 

فأنذرته بنظرة كنا تقول له وكم أنت متعب!|) ثم 

نحن في خدمتك على أي حال. . , 

فرفع السيّد بديه إلى قمّة رأسه في هيئة تلم عن 
الشكر وقال بوقار يناقض ثواياه : 

- عظّم الله قدرك. . . بَيْد أنني ما زلت مصرًا على 


أن أترك لك الاختيار! 

فتتبدت بغيظ بالدعابة أشيه وقالت ' 

- إني أفضل أفراح العرايس بطبيعة الحال! 

- ولكئي رجل متروج ولا حاجة ب إلى زفة من 
جديد . . , ! 

فصاحت به: 

يا لك من رجل مهذار. . . إذن ليكن ختانًا. . . 

وتشاولت وهي نتحاذر: 

- وليدك؟ 

فقال ببساطة وهو يفتل شاربه: 

هد آنا 

فأطلقت السلطالة ضحكة مائعة وقرّرت العدول 
عن التفكير في مسألة إحياء الليلة الى منت خبيئتها 
وهتفمت به: 

يا لك من رجل قارح» لو طالتك يدي لقصمت 
ظهرك . , 

فنبض السيّد وأقبل عليها قائلا: 

لا أحرمتك رغبة قط. , 

وجلس جانبها فهمقت بضربه ولكتها تردّدت ثم 
أمسكت.» فسأها بقلى : 

- لماذا لم تتكرمي بضر بي؟ 

فهرّت رأسها وقالت ساخرة: 

أخاف أن أنقض وضوثى . . . 

فبائل ل 50 

- أأطمع في أن نصل معًا؟ ! 

واستغفر الله في سرّه عقب النطق بدعابته مباشرة 
لأن هذره وإن كان لا يقف به في سكرة المجون عند 
حدّ إلا أن قلبه لم يكن ليطمئنّ ويواصل ابتهاجه حي 
يستغفر في باطنه صادقا مما يعبث به لسانه مازحًا. ما 
المرأة فتساءلت في دلال سائخر. 

0 أتعني , يا صاحب الفضيلة, الصلاة التى هي 
خير من النوم؟ 

- بل الصلاة التي هي والئوم سواء. . 

ول تتمالك إلا أن تقول ضاحكة: 


يا لك من رجل مظهره الوقار والتقوى وباطنه 
الخلاعة والفجورء الآن صِدّقت حمًا ما فيل لي 

واستورى السيد في جلسته في اهتمام وتساءل : 

- وماذا قيل؟!. . اللّهمّ اكفنا شر القيل والقال. . . 

قالوا لي إِنّك زير نساء وعبد شراب. . 

فتنبد بصوت مسموع يذيع به ارتياحه وقال: 

حسبته ذمَا والعياذ بالله . , . 

- ألم أقل لك إنْك رجل قارح فاجر؟! 

- هي الشهادة لي بأني حزث القبول إن شاء 
الله, , , 

فرفعت المرأة رأسها في غطرسة وقالت: 

دمتفاك امون ليطا كمى اعرف من التساء 1م 
إن زبيدة معروفة ولا فخر بعرّة النفس ودقة 
الاختيار. . . 

فبسط السيّد راحتيه على صدره ونظر إليها في تحدٌ 
مشرّس باللطف وقال بطمأنينة : 

- عند الامتحان يكرّم المرء أو مهان. . . 

- من أين لك ببذه الثقة وأنت لم تختن بعد 
بشهادتك؟ 

فقهقه السيّد طويلا حي قال: 

- لا تصدّقي يا خخنّونة. . . وإن كنت في شلك. . . 

ولكمته في منكبه قبل أن يتم جملته فامسك ثم أغرقا 
في الضحك معاء وسو بمشاركتها إيَاه في ضحكه. 
وحدس وراء ذاك ‏ بعد ما جرى بينههما من تلميح 
وتصريح ‏ لونا من الجهر بالرضا ثبتته في وعيه بسمة 
دلال سالت بطرفها المكحول» وراح يفكر في أن يحبي 
هذا الدلال بتحيّة تليق به لولا أن قالت له محذّرة : 

لا تحملني على مضاعفة سوء الظنّ بك. . , 

فأعاده قوها إلى تذكر ما رذدئه عن القيل والقال» 
وسألها باهتام : 

- من الذي حدّئك عبِى؟ 

فقالت باقتضاب وهي تلحظه بنظرة اتّهام : 

جليلة , . . ! 

وفجأه الاسم كأنه عاذل يطرق مجلسههما فابتسم 


ابتسامة دلت على حرجه. جليلة» تلك العالمة المشهورة 
التي عشقها دهرًا حبّى فصل بينهما الشبع ثم عاشا وما 
زالا على مودّة متبادلة على البعد» بيد أنه كخبير بالنساء 
لم يَرَ بدّا من أن يقول في لهجة صادقة : 

- لعنة الله على وجهها وصوتما معًا!... (ثُمْ 
متهرّبًا) . . . دعينا من هذا كله ولنتكلّم في الجحد. . . 

فتساءلت متهكمة: 

ألا تستحقٌ جليلة كلمة أرق وألطف؟... أم 
هذا شأنك عند ذكر من قطعتهنٌ من النساء؟! 

وداخمل السيّد شيء من الحرج إلا أنّه ذاب في موجة 
الزهو الحسيّ التي أثارها في نفسه حديث عشيقة 
جديدة عن عشيقة ولْتَء وأحذ مليًّا بنشوة ظفر حلوة 
ثم قال بلباقة معهودة : 

- لا يسعني وأنا بمحضر من هذا البهاء أن أغادره 
إلى ذكريات طويت ونسيت. . 

وبالرغم من أنْ السلطانة حافظت على نظرتها 
التهكميّة إلا أنّهبا استجابت للثناء ىا بدا في رفع 
حاجبيها ومذاراتها لايتسامة خفيفة اندست إلى 
شفتيهاء ولكتّها خاطبته بازدراء قائلة : 

عالنذان قافنو برعككو وقوه كق نعان فعضي 

لنا الحئة نحن التجار بما يظلمنا الناس. . . 

وهزت كتفيها استهانة ثم سألت في اهتيهام غير 
حافب: 

- متى رافقتها؟ 

فلوّح السيّد بذراعه كأنه يقول ما أبعده من زمن!) 
ب 

مئل أزمان وأزمان . . . ! 

فضحكت في تبكم وقالت بنبرات تنم عن التشفي : 

- في أيّامِ الشباب الذي مضى. . . ! 

فرنا السيّد إليها معاتمًا ثم قال : 

- بودّى أن أمصٌ من لسانك الأذى. 

ولكنبا واصلت حديئها بنفس اللهجة قائلة : 

أخحذتك لا وتركتك عظاما. . . 

فأوما إليها محذّرًا وقال: 


بين القصرين 9/و"؟ 

- إني من صلب رجال يتزؤجون في الستّين. . . 

- بدافع العشق أم بدافم الخرف؟! 

فقهقه السيّد قائلا: 

- يا وليّة انَفي الله ودعيئا نتكلم في الحدٌ. . . 

ع اكد 1 ا ووب أتعني إحياء الليلة التي جئت تتفق 
عليها؟ 

أعنى إحياء العمر كلّه. . . 

- كله أم نصفه؟ ! 

- ربنا يقذرنا على ما فيه الخير. . . 

- ربنا يقدّرنا على الطيُب. , . 

واستغفر الله في سرّه مقَدَمًا ثم تساءل: 

- نقرأ الفاتحة؟ 

ولكئْها +بضت بغتة متجاهلة دعوته وهتفت متظاهرة 
بالجرع : 

8 2 
هام . . 

ونبض السيّد بدوره» ومذ يله فتناول يدها ثم بسط 
راحتها المخضبة بالحثاء» ورنا إليها بشوق وافتنان» 
وأصر على احتفاظه بها رغم جذبها إياها مرّة ومرتين» 
حبّى قرصته في أصبعه ورفعت يله إلى شاربه مهدّدة : 


.. سرقني الوقت ولديّ الليلة عمل 


- دعي أو تخرج من بيتي بفردة شارب واحدة. . 

ورأى ساعدها قريبًا من فيه فزهد في النقاش وقرّب 
منه شفتيه رويدًا حبّى غاصتا في لحمه الطريّ فتطاير 
منه إلى أنفه رائحة قرنفليّة ذات طعم حلوء ثم تنيّد 
مشمغ: 

إلى الغد؟! 

5000 من يده مقاومة من ناحيته هذه المرّة. 
وحدّقت إليه طويلا ثم ابتسمث وكُتمت: 
عصفوريى ياامفه عصفوري 

لاالعب وورّي لَه أموري 

وجعلت تردّد وعصفوري ياامه؛ مرات وهي 

تودّعه» وغادر السيّد الحجرة وهو يردّد مطلع الأغنية 

بصوت منخفض ملؤه الوقار والرزانة كأنما يستتخبر 
الألفاط عا وراءها من معان. . . 


4 ” بين القصرين 
5 

كان ما يطلق عليه مو الحفلات ببيت العالمة زبيدة 
يتوسّط الدار كالصالة» أو كأنْ الصالة بالفعل 
استجدّت لها أغراض أخرى. ولعل أهمّ أغراضه أثْها 
كانت تقوم فيه هي وجوقتها - بالتجارب الغنائية 
وحفظ الأغانى الجديدة» وقد اخختارته لبعده عن الطريق 
العام بما يفصل بينهها من -حجرات النوم والاستقبال. 
وجعله انّساعه ‏ إلى هذا صالحا لاحياء الحفلات 
الخاصّة التي تتراوح عادة بين الزار والغناء» والتي تدعو 
إليها الخاصّة من أصدقائها ومعارفهم المقرّيين. وم 
يكن الباعث على هذه الحفلات أريحية كرم فحسب 
إن كان ثمّة كرم على الإطلاق فإنّه غالبا ما ينيض 
بأعبائها الأصدقاء أنفسهم ‏ ولكتّها رمت من ورائها إلى 
الأكثار من الأصدقاء الممتازين الخليقين بأن يدعوهما 
لإحياء الحفلات أو يقوموا لها بالدعاية النافعة في 
الأوساط التي يتقلبون فيهاء ومن بينهم - إلى هذا كله 
تنتفى الخليل بعد الخليل. وجاء دور السيد أحمد عبد 
الجواد ليش”ف البهو السعيد محاطا بالخاصّة من معارفه. 
والحقٌ أنه تبذى على نشاط جم عقب المقابلة الحريئة 
التي تمت بينه وبين زبيدة في بيتها فسرعان ما حمل 
رسله كريم الحدايا من النقل والخلوى والحدايا. . . إلى 
مدفأة أوصى على صنعها ونقشها وطليها بالفضة 
لتكون - جميعًا - عربوثًا للمودّة المقبلة. ففي لقائه هُذا 
دعته السلطانة. تاركة له الخيار في دعوة من يشاء من 
أصدقائه. إلى حفلة تعارف تكريما للحبّ الجديد ‏ 
ولشدٌ ما كان البهو موسومًا بطابع بلديّ جذاب بكنباته 
المتلاصقة المزركشة الناعمة الموحية بالنفاسة والخلاعة, 
الممتدة على الجانبين حي الصدر حيث يقوم ديوان 
الست تكتنفه الشلت والوسائد المعدّة للجوقةء أما 
أرضه المستطيلة فمفروشة بسبجاد متعدّد الألوان 
والشكول. وعلى كونصول يتشوسط الجناح الأيمن ‏ 
كالشامة رواء وصفاء ‏ أوقدت الشموع منفرسة في 
الفنايير» غير مصباح ضخم يتدلى من قمّة مَنْوْر يتوسّط 
سقف الحجرة ذي منافذ على سطح الدار تفتح في 
الليالي الدافثئة وتغلق بأضلاف زجاجيّة في ليالي البرد. 


جلست زبيدة متربّعة على الديوان وإلى بمينها زنوبة 
العوّادة ربييتهاء وإلى يسارها عبده عازف القانون 
الضريرء واستوت النسوة جلوسًا عن يمين وشمال ما 
بين ممسكة بالدفٌ أو ماسحة على الدربكّة أو عابثة 
بالصنج. وآثرت السلطانة السيّد أحمد بأل مجلس في 
الجناح الأيمن» واتخذ الباقون من صحبه مجالسهم بلا 
كلفة كأئهم أصحاب الدار؛ ولا عجب فلم يكن الحو 
بالجديد عليهم. ولا السلطانة بالتي يرونها لأول مرّة. 
وقدّم السيّد أحمد أصحابه إلى العالمة مبتدئًا بالسيّد علي 
بائم الدقيق فضحكت زبيدة قائلة : 

- ليس السيّد علي بالغريب فقد أحيبت فرح كريته 
في العام الماضي. . . 

ثم ثنى بالسيد الفار تاجر النحاس». ولا رماه 
أحدهم بأنه من رؤاد بمبة كشّر بادر الرجل قائلا : 

- وجئت تائبا يا ست. 

وتتابع التعارف حتى تم ثم جاءت الحارية جلجل 
بأقداح الشراب ودارت على المدعوين. ومضت 
القرس تير يرنه مقندة بالارعنة رلور وين 
السيد عريس الحفلة بلا منازعء مهذ! دعاه الأصدقاء. 
وببذا شعر في أعباقه؛ وقد وجد لذلك بادئ الأمر لوا 
من الارتباك قل أن يلم به. فداراه بالإسراف في 
الضسحك ولمرح. حبّى إذا أخذ في الشراب زايله بلا 
عناء. فاستعاد طمأنينته واندمج في الطرب بكل قلبه. 
وجعل كل لج به الشوق . والأشواق في مغاني الطرب 
تثار يمد بصره إلى سلطانة المجلس ينهم فيتلكا ناظره 
عند طيّات جسمها المكتئزء فطاب قلبًا بما أفاء عليه 
الحظ من نعمة. وهئّأ نفسه على ها يترقبها من لذيذ 
المسرّات. هذه الليلة والليالى الأخريات: وعلد 
الامتحان يكرم المرء أو يبان»» هذا التصريح الذي 
تحدّيتها به» يجب أن أكون عند كلمتي» أيّةَ امرأة هي 
يا ترى» وأ مذّى مداهاء سأعرف الحقيقة في الساعة 
المناسبة ثم ألبس لكل حال لبوسهاء لكي تضمن 
الانتصار على غريم ينبغي أن تفترض فيه الغاية من 
المناعة والبأس. لن أحيد عن شعاري القديم وهو أن 
أجعل من لذت أنا مطلبًا ثانويًا ومن لذّعبا هي الحدف 


والغباية» وبذلك تتحقّق لذت على أكمل وجه». ومع 
أن السيّد لم يخبر من ألوان الحبٌ ‏ على وفرة مغامراته - 
إلا الحبّ العضوي وحُبٌ اللحم والدم, إلا أنه تدرّج 
في اعتناقه إلى أرقٌ صورة وأنقاهاء فلم يكن حيوانًا 
بحا ولكنه إلى حيوانيّته وهب لطافة إحساس ورهافة 
شعور وولع مغلغل بالغناء والطرب. فسم) بالشهوة إلى 
أسمى ما يمكن أن تسمو إليه في مجالها العضويّ. مبذه 
البواعث العضويّة وحدها تروج أول مرة ثم ثاني مرة. 
أجل أُنْرَتْ عاطفته الزوجيّة ‏ بكرور الأيّام - بعناصر 
جديدة هادئة من المودّة والألفة ولكئّها ظلت في جوهرها 
جسديّة شهوائيّة» ولا كانت عاطفة من هذا النوع ‏ 
خاصة إذا أوتيت قوة متجدّدة وحيويّة دافقة ‏ لا يمكن 
أن تستنيم إلى لون واحد فقد انطلق في مذاهب العشق 
والهوى كالثور الشائج؛ كلما دعته صبوة استجاب لها في 
نشوة وحماس. ل ير في أيّة امرأة إلا جسدّاء ولكنّه لم 
يكن يحني هامته لهذا الجسد حبّى يبده خليقًا حقًا بأن 
يرى ويلمس ويشم ويذاق ويسمع. شهوة نعم ولكمّها 
ليست وحشيّة ولا عمياء؛ بل هذّبتها صنعة» ووجُهها 
فنّ فاتخذت لما من الطرب والفكاهة والبشاشة جوا 
وإطارًا. فلم يكن أشبه بشهوته من جسمهء فهو مثلها 
في الضخامة والقوة اللتين توحيان بالقسوة والوحشية 
ولكنّه - مثلها أيضًا ‏ فيا ينطوي عليه في أعاقه من 
لطف ورقّة ومودة على ما يتسربل به أحيانًا ‏ متعمّدًا 
من الصرامة والشدّة. ولذلك فلم يتركز خياله 
النشيط - وهو يلتهم السلطائة بنظراته ‏ في المضاجعة 
ونحوها ولكنّه تاه إلى هذ!- في أفانين من أحلام 
اللهو واللعب والغناء والسمر. وأحسّت زبيدة بحرارة 
عينيه فقالت تخاطبه وهي تقلّب عينيها في وجره 
المدعوين بعجب ودلال: 

حسبك يا عريس» هلا استحييت حيال رفاقك! 

فقال السيّد متعجمًا: 

وما انتفاعي بالحياء حيال قنطار من اللحم 


والدهن! 
فأطلقت العالمة ضحكة رثئانة وتساءلت في غاية من 
الانيساط : 


كيف ترون صاحبكم؟ 

فقالوا في نفس واحد: 

معذور!! 

وهنا حرّك عازف القانون الضرير رأسه يمنة ويسرة 
وقد تدلّت شفته السفل وتمدم : 

قد أعذر من أنذر. 

ومع أن حكمته لاقت ترحيبًا إلا أن الست التفتت 
نحوه كالغاضبة ولكزته في صدره هاتفة: 

اسكت أنت وسدٌّ فاك الذي يبلع المحيط. , . 

وتلّى الضرير الضربة ضاحكًا ثم فتح فاه كأتما 
ليتكلم ولكئه أغلقه مرّة أخرى مؤثرًا السلامة فوججهت 
المرأة رأسها صوب السيّد وقالت بلهجة تنم عن 
الوعيد : 

هذا جزاء من يجاوز حذه. 

فقال السيّد متظاهرًا بالانرعاج : 

- ولكنّني جئت لأتعلّم قلة الأدب. 

فدقت المرأة صدرها بيدها وصاحت: 

ايا خخير!. . , أسمعتم قوله؟!, . . 

فقال أكثر من واحد منهم في وقت وأحل * 

إِنّه خير ما سمعنا حيّى الآن. 

وأضاف إلى هذا أحد الرفقاء قائلا: 

بل عليك بضربه إذا جاوز حدود قلّة الأدب . 

وقال آخر مؤْمّئا على قوله : 

الزمي طاعته ما قل أدبه, 

فتساءلت المرأة وهي ترفع حاجبيها لتعلن عن 
دهشة لا أثر لها في نفسها: 

لحد هذا تحبُون قلَة الأدب! 

فتنيّد السيّد قائلا: 

- ربنا يديمها علينا. 

فها كان من العالمة إلا أن تناولت الدفٌ وهي تقول : 

سأسمعكم شيئًا أفضل . 

ونقرت عليه فيها يشبه العبث» ولكن علا النقر في 
حومة اللغو كالنذير حبّى أسكته. وداعب الآذان متودّدًا 
فبدّل القوم حالًا بعد حال, تَحفْز أفراد الجوقة للعمل » 
وفرّغ السادة الكئوس ثم مدّوا رءوسهم نحو السلطانة 


*/ام بين القصرين 

وساد المكان صمث يكاد ينطق من شذة التهيؤ 
للطرب, وأومات العالمة إلى الحوقة فانطلقت تعرف 
بشرف عثيان بك» وراحت الرءوس تذهب مع الأنغام 
وتجيء. وسلّم السيّد نفسه لرنين القانون الذي جعل 
يلذع قلبه فيشعل فيه أصداء الأنغام المختلفة من عهد 
طويل حافل بليالي الطرب كائها ذرّات نفط تساقط على 
حمر مكئون» أجل كان القانون أحبٌ آلات الطرب إلى 
نفسه ‏ لا لمهارة العقّاد وحدها_ ولكن لسر مستلهم 
من طبيعة أوثاره» ومع أنه كان يعلم أنه يستمع إلى 
العمّاد أو سى عبده إلا أن قلبه العاشق دارى بعشقه ما 
قصر فرع ال وما إن فرغت الحوقة من عزف 
البَثْرف حيّ انطلقت العلمة تنشد «والذي أسكر من 
عذب اللا فلحقت با الحوقة في حماسء وكان أجمل 
ما يطرب فيها صوتان متجاوبان. أحدهما غليظ 
عريض للعازف الضرير والآخخر رقيق يندى بالطفولة 
رذرة دراط الساتي عنقي الندتلى الاننعال ادا جر 
الكأس الذي بين يديه فأفرغه في جوفه واندفع يشارك 
في إلشاد التوشيح وقل وشت ثيراتث صوته ‏ عند مطلع 
الغناء ‏ بشَرَّق في حلقه لاندفاعه إلى الإنشاد قبل أن 
يتم بلع ريقه. وما لبث أن تشجع بقيّة الرفاق فحذوا 
حذوه وسرعان ما القلب البهو جوقة تنشد عن صوت 
واحد. ولمًا خنم التوشيح تبيات روح السيد.. بحكم 
العادة ‏ لاستاع التقاسيم والليالي ولكنّ العامة ذيْلت 
الختام بضحكة من ضحكاتها الرنانة معلنة عن سرورها 
وعجبهاء ومضت تبي أفراد الحوقة المستجدين مداعبة 
وتسألهم عن الدور الذي يودّون سماعه. وانزعج السيد 
في باطنه ومرّت به لحظة كدر أمتحن فيها ولعه بالغناء 
امتحانًا قاسيًا لم يفطن إليه كثيرون ممّن حوله. ولكنه 
أدرك في اللحظة التالية أن زبيدة ليست كفعًا لتقاسيم 
الليالي شأن جميع العوالم بما فيهنّ «يمبة كشّر» نفسهاء 
فتمى لو تختار المرأة طقطوقة حعفيفة مما تغب للسيّدات 
في الأفراح» مفضَّلًا هذا عن محاولة غناء دور من أدوار 
الفحول ستعجز حت عن إجادة ترجيعه؛ وصمم على 
أن يتفادى من المتاعب التي تمخافها أذنه بأن يقترح أغنية 
حفيفة تناسب حلجرة الست فقال: 


ما رأيكم في عصفوري يا امه؟ 

وحدجها بنظرة ذات معنى كأئهًا ليثير في نفسها إيحاء 
هذه الطقطوقة التي توّجت بها حوار تعارفهم| في حجرة 
الاستقبال منذ أيّام قلائل» ولكن -جاء صوت من أقصى 
البهو يصيح ساخرا : 

الأؤلى أن تطلبها من أمّك! , , . 

وسرعان ما ضاع الاقتراح فيا تفجر من قهقهات 
أفسدت على السيّد خطته. وقبل أن يكرّر المحاولة 
طلب ثفّر ويا مسلمين يا أهل الله» وطلب آخرون 
«سلامتك يا قلبي؛ ولكنّ زبيدة الى تحاشت أن ترضى 
تتشاعل يداب اخرى اعلقك انما استكتيهم: وغل 
روحي أنا الجاني» فاستقبلت بترحاب حازل. ولم يجد 
السيّد بدا من توطين النفس على الانبساط مستعيئًا 
بالشراب: وباحلام ليلته الواعدة» فتألق ثغره بابتسامة 
وضيئة أدرك بها ركب النشاوى بلا كدرء بل وجد 
عطفًا على رغبة المرأة في محاكاة الفحول إرضاء 
لستمعيها الراسخين في السماع وإن لم تَخْلُ حالها من 
غرور تألفه الغواني. وفيا تتهيًا الحوقة للغناء ميض 
أحد الرفاق وهتف باس : 

- دعوا الدف للسيّد أحمد فهو به خخبير! 

فهرّت زبيدة رأسها عجبًا وتساءلت: 

حمًا؟ ! 

فحرّك السيّد أصابعه في سرعة ورشاقة كأتما يعرض 
عليها مثالا من صنعته فقالت زبيدة باسمة : 

- في العجب وأنت تلميذ جليلة! 

وضحك السادة في غير ما تحفظ. وتواصل الضحك 
حي علا صوث السيّد الفار وهو يسأل السلطانة قائلا: 

وماذا تنوين أن تعلّميه أنت؟ 

فقالت بلهجة ذات معنى : 

- سأعلّمه القانون. . . ألا يروقك هذ!؟ 

فقال السيّد باستعطاف ؛ 

د علميق: الحنلف إن قدت 

وحثْ كثيرون السيّد على الانضهم إلى التخت 
وأخذ الدفٌ ف| كان مئه إلا أن نمض وخلم الحيّة فبدا 
بطوله وعرضه في القفطان الكمّوني كجواد يقف 


مستوفزًا على رجليه الخلفيّتين» ثم شمّر عن ساعديه 
ومضى إلى الديوان ليتخذ مجلسه إلى جائب الست 
ولكي تفسح له قامت نصف قومة متزحزحة إلى اليسار 
فانحسر الفستان الأحمر عن ساق لحيمة مرتوية بيضاء 
مشربة بلون ورد من أثر الحفٌ والنتف محلٌ أسفلها 
بخلخال ذهب أعيا ضِمّها ذراعيه: ورأى بعضهم ذاك 
المنظر فصاح بصوت 5الرعد: 

تحيا الخلافة ! 

وكان السيد يغمز ثدبي المرأة بعيئيه فهتف وراءه: 

- قل يجيا الصدر الأعظم . 

فصاحت العالمة مُحَذَّرةَ : 

- خفضوا أصواتكم أو يبيّتنا الإنجليز في السجن . 

فهتف السيد الذي لعبت الخثمر برأسه: 

أذهب معك مؤْبّدًا مع الشغل. 

وعلا أكثر من صوت يقول: 

لا عاش من يتركى| تذهبان وحدكا. 

وأرادت المرأة أن تحسم النزاع الذي آثاره منظر 
ساقها فمذت يدها بالدف إلى السيّد وهي تقول : 

دازو قط قلت 

وتناول السيّد الدفى ومسح عليه براحته مبتساء 
وبدأت أصابعه تنقر عليه في مهارة على حين انطلقت 
آلات الطرب عازفة. ثم غنْت زبيدة وهي ترئنو إلى 
الأعين المحدّقة إليها' 
على أنا الجحانن 
وبجلي في الموى رماني 

ووجد السيّد نفسه في موقف عجيب» تهفو إليه 
أنفاس السلطانة بين اللفتة واللفتة فتلتقيى بإشعاعات 
الخمر المتطايرة من يافوخه بين الحسوة والحسوة. فا 
أسرع أن غابت عن وعيه أصداء الحامولي وعثيان 
والمنيلاوي . وعاش في لحظته الراهنة قانعًا سعيدّاء ثمْ 


سي 


سرى إليه من نبرات صوبتها ما حرّك أوتار قلبه فاستعر 
نشاطه ولعب بالدفٌ لعبًا لا يدانيه المحترفون؛ وما 
بلغت المرأة في الغناء قوها «أمانة يا رايح يمّه تبوس لي 
الحلو من فمّه؛ حيّى كان من النشوة في سكرة عاتية 
ملهمة مدغدغة محرقة» ولحق به الرفاق أو سبقوه إذ 


بسن الفصرين بحنو 


بلغت الخمر بالضرب نهايته ونثرت الشهوات نثرًا 
فتركتهم كأدواح راقصة في حومة عاصفة هوجاء, 

ويد برويدا شارف الدور الختام وراحت زبيدة 
نختمه مرددة نفس المطلع الذي افتتحت به وهو وعلى 
روحي أنا الحاني» ولكن بروح يوحي بالدعة والتذكير 
والوداع والنبايةء وغابت الأنغام كا تغيب طيارة 
بحبيب وراء الأفق. ومع أنْ الختام قوبل بعاصفة من 
التهليل والتصفيق إلا أنّه سرعان ما ساد القاعة صمت 
دل على همود أنفس أعياها الجهد والانفعال» ومضت 
فترة لم يسمع فيها إلا سعلة أو تحنحة أو حكة عود 
ثقاب أو كلمة لا تستحقٌ المراجعة؛ وقال لسان الخال 
للمدعوين «تفضلوا بسلام» فلاحت من بعضهم 
نظرات إلى قطع الثياب التي تخففوا مها في فورة 
الطرب فوضعوها وراءهم على مسائد؛ ولَكنّ البعض 
الآخر من تعلّقت نفوسهم بحلاوة السهرة أبوا أن 
يغادروها حتى يرشفوا آخر قطرة متاحة من الرحيق» 
فصاح أحدهم : 

- لا نبرح حبّى نرف السلطانة إلى السيّد أحمد. 

وقوبل الاقتراح بترحاب وتأييد» على حين أغرق 
السيّد والعالمة في الضحك غير مصدّقين, وما يدريان 
إلا ونفر من الصحاب يحيطون بهما ويممضونها ثم 
يشيرون إلى الحوقة لتشرع في النشيد السعيد. 

وقفا جنا جنب هي كدالمجمل وهو كاللجمل. 
عملاقين ملطفين بالحسن. ثم تأببطت في دلال ذراعه 
وأشارت إلى المحدقين بها ليفسحوا الطريق. ونقرت 
الدفافة على الدفٌ فانطلقت الجوقة وكثرة من المدعوي, 
يردّدون نشيد الزفة «انظر بعينك يا جميل» ومضى 
العروسان في خطو وثيد يتبختران طربًا وسكرًا فلم 
تتهالك زنوبة مع هذا المنظر إلا أن تمسك عن اللعب 
بأوتار العود ريئ| تطلق زغرودة مجلجلة طويلة النشس 
لو تجسدت لبدت لسانًا متعرّجًا من لهب يشي الفضاء 
كالشهاب. وتسابق الأصدقاء يزجون الثهاني تباعًا: 

- بالرفاء والبنين . 

- ذرَيّة صالحة من الراقصات والمغْئيات, 

وصاح به أحدهم محذّرًا: 


8” بين القصرين 


وم تزل الحوقة تواصل الإنشاد. والأصدقاء يلوحون 
بأيديهم مودّعين» حيّى توارى السيّد والمرأة وراء الباب 


المفضي إلى دائخل الدار. 


١ / 

كان السيّد أحمد جالسًا إلى مكتبه بالدكان حين 
دخل ياسين على غير انتظار» ولم تكن زيارة غير منتظرة 
فحسبء ولكنّها كانت قبل كلّ شيء غير مألوفة» إذ لم 
يكن من الطبيعيّ أن يزور الفتى أباه في دكانه على حين 
يتحاشاه على قدر استطاعته في بيته» وإلى هذا بدا 
شارد الل ساهم النظرة. . . وأقبل على أبيه مكتفيا 
برفع يده إلى رأسه بطريقة آليّة دون أن يلتزم ما يلتزم 
عادة بمحضره من أدب بالغ وخضوع كاتما نسي نفسه. 
ثمّ قال بلهجة مت عن شديد تأثره : 

السلام عليكم يا أبي. جقت لأحدّثك في أمر 
امبر 
ورفع السيّد إليه عينيه متسائلا وقد ساوره قلق 
استعان على إخفائه بقوة إرادته ثم قال بهدوء : 

خخير إن شاء الله . . , ! 

وجاء جميل الحمزاوي بكرسئ وهو يرحب بمقدمه 
تأفزة وليه لكلو .له قات ارسي ف كان 
أبيه وجلس. وبدا لحظات كالمتردّد. 0 زفر ثائرا 
بتردّده وقال بنبرات متهدّجة وفي اقتضاب مؤثر: 

المسألة أن أي شارعة في الزواج. . . ! 

ومع أنّ السيّد توق خحبرًا سيّمًا إلا أن خياله لم يجنم 
في جولته التشاؤميّة إلى تلك الناحية التي أودعها ركنا 
مهجورًا من ماضيهء لذلك لقيت منه المفاجأة صيدًا 
غافلاء وسرعان ما قظطب كما يقطب كلما عرض له 
عارض من ذكريات زوجه الأولل» وتولاه لذلك 
ضيق» ثم انرعاج لما يمس ابنه مباشرة في صميم 
كرامته.ء وكشيأن السائلين الذين يلقون السؤال لا 
ليعرفوا جديدًا ولكن ليلتمسوا منفدًا للنجاة من الواقع 
وهم يائسون.ء أو ليهيّئوا لأنفسهم مهلة للتروّي وتمالك 
الأعصاب». وسأله: 


- ومن أدراك مبذا؟ 

- قريبها الشيخ حمدي. زارني اليوم بمدرسة 
النحاسين وألقى عل الخبر مؤكدًا بأنه سيتمٌ في ظرف 

الخير حقٌ لا ريب فيه» وما هو بالأول من نوعه في 
حياتهاء ولن يكون الآخير إذا اتحذ الماضى مقياسًا 
للمستقبل» ولكن أيّ الب عهاف قلا «الغانة ليلقى 
هذا الجزاء الصارم المتجدّد الأذى؟! ووجد الرجل نحو 
ابه رثاء وعطفًاء وعرٌ عليه أن يقف من آلامه موقف 
العجز وهو الذي يقصده الناس في الملات. وتساءل 
فييا بينه وبين نفسه ماذا تكون حاله لو كان هو المبتلى 
ببذه الأم!. . . فانقبض صدره وتضاعف رثاؤه وعطفه 
نحو ابلهء ثم شعر برغبة تدفعه إلى السؤال عن ذلك 
الزوج المنتظرء ولكنّه لم يستسلم لهاء إما لأنّه أشفق 
من أن تزيد جرح ابنه عمقا وانّساعًا وإمًا لأنه أنكرها 
على نفسه لا آنس بها من حبٌ استطلاع . لا يليق 
بالمأساة الراهنة ؛ موجه إلى المرأة التي كانت زوجا لف 
َيْد أن ياسين قال منفعلا من تلقاء نفسه وكأنه يجيب 
حاطرته : 

- ومن تتزوج!... من شخص يدعى يعقوب 
زيهم صاحب مخبر في الدراسة. .. في الثلاثين من 
عمره! 

واشتد انفعاله وتهدج صوته وهو ينطق العبارة 
الأخيرة كأنما يلفظ شظيّة؛ فانتقل إإحساسه إلى أبيه 
تقَرًْا واشمئزاراء وجعل يردّد في سرّه: في الثلاثين من 
عمره... يا له من عمل فاضح. . . إِنْه فسق في 
ثياب زواج. . . غضب الرجل لغضب ابنه» وغضب 
لحساب نفسه هو كما اعتاد أن يغضب كلما ترامى إليه 
نب من مباذها كأنمًا يتجدّد شعوره بتبعته في اعتبارها 
يومًا زوجة له أو كأنما يعزٌ عليه ولو بعد كرور ذاك 
الزمن الطويل ‏ أنّبا أفلتت من تأديبه والإذعان لسئّته | 
وإنّه ليذكر أيّامِ معاشرته لها على قصرها.. كما يذكر 
الإنسان حمّى هاضته. ورثما كان مغاليًا في تصوره. 
ولكنٌ رجلا في مثل اعتداده بنفسه جدير بأن يرى في 
جرد الرغبة عن الإذعان مشيئته جريمة لا تغتفر وهريمة 


فتّالة. ثم إثها كانت ولعلها لا تزال ‏ جميلة مترعة 
أنوثة وجاذبية فتنعم بمعاشرتها أشهرًا حبّى بدا منها شيء 
من المقاومة لإرادته التي نزع إلى فرضها على المتصلين 
به من آلهء ولم تر بأسًا في الاستمتاع بالحرية ولو بالقدر 
الذي يتيح لها زيارة أبيها من آنِ لآنْ. فغضب السيد 
وحاول منعها بالزجر أُوَلَا ثمّ بالضرب المرّح أخيرّاء فم 
كان من المرأة المدلّلة إلا أن فرّت إلى والديها! وأعمى 
الغضب الرجل المتعجرف فظن أن خصير سبيل إلى 
تأديبها وإرجاع عقلها إلى رأسها هو أن يطلقها إلى 
حين ‏ إلى حين طبمًا لأنّه شديد التعلّق بها فطلّقهاء 
وتظاهر بإهماها أياما وأسابيع وهو ينتظر آملا أن يبيئه 
وسيط خخير من الماء فليا لم يطرق بابه أنحد داس 
كبرياءه وبعث هو بمن يس النبض تمهيدًا للصلح فعاد 
الرسول يقول إتّهم يرحُبون به على شرط ألا يسجما أو 
يضرها!. .. ولكنّه كان ينتظر موافقته بلا قيد ولا 
شرط فثار غضبه ثورة عاتية وأقسم فيها بيئه وبين نفسه 
ألا يضئّها رباط إلى الأبد. هكذا ذهب كلاهما إلى 
حال سبيلهء وهكذا قفى على ياسين أن يولد بعيدًا 
عن أنه وانا لقن بون ته قل نيع انه ها لق ,مق 
ضروب المذلة والألم. . . 

ومع أن المرأة تزوّجت أكثر من مرّةء ومع أنْ الزواج 
كان في نظر ابنها ‏ أشرف سقطاتهاء إلا أن هذا 
الزواج الجديد المتوقم بدا أفظع من سوابقه وأمعن في 
الإيلام: لأنْ المرأة استوت على الأربعين من ناحية 
ولأنّ ياسين اكتمل شانًا مدركا بوسعه إذا شاء أن يدفع 
عن كرامته الإساءة والهوان من ناحية أنشخرنىء فقد 
جاوز إذن موقفه القديم الذي ألزمه إيّاه حدائة سنه 
حين كان يتلقّى الأنباء المثيرة عن أمّه بالدهش 
والانزعاج والبكاء إلى موقف جديد بدا فيه أمام نفسه 
رجلا مسئولاء لا يصمّ له أن يلقى الإساءة مكتوف 
البدين. دارت هذه الخواطر بذهن السيّدء وقدّر 
خطورتها بقلق» ولكنه صمّم على التهوين من شأنها ما 
وسعته الخيلة ابتعادًا بابئه الأكير عن المتاعبء فهر 
كتفيه العريضين متظاهرًا بالاستهانة وقال: 

ألم نتعاهد على اعتبارها كشيء لم يكن. . .؟! 


بين القصرين 8/4 

فقال ياسين في حزن وقنوط : 

- ولكتبا شيء كائن يا أبي!. . . ومهما يكن من أمر 
تعاهدنا فلن تزال أمي إلى ما شاء الله. سواء في نظري 
أم في نظر الناس جميعا. . . لا مفْرٌ ولا خلاص. . . 

ونشضخ الشابٌ من الأعماق» ورنا إلى أبيه بعينيه 
السوداوين الجميلتين ‏ اللتين ورثهما عنها ‏ في استغاثة 
صارخة وكأنه يقول له: «إنّك أب الجبار القادر فمدّ لي 
يدك فبلغ التأئّر بالسيّد غايته ولكنّه واصل تظاهره 
بالهدوء المقرون بالاستهانة قائلا: 

لا أنكر عليك تألّك ولكثّي أنكر عليك أن تغالي 
فيه» كذّلك يطيب لي أن أعذرك على غضبك ولكنّ 
قليلا من العقل حري بأن يردّك بلا عناء» سائل 
نفسك في هدوء ماذا عليك من زواجها؟. .. امرأة 
نتروّجء كما تتزوج النساء كل يوم وكل ساعة؛ وليست 
هي بالتي تحاسّب على مثل هذا الزواج لما سلف من 
سلوكهاء بل لعلها خليقة بأن تشكر عليه وكا قلت 
لك مرارًا لن يرتاح لك بال حتى تسقطها من حسابك 
كأئها لم تكن فافعل بالله وأَرِحٌ نفسكء وتعز- مهم) 
يكن من أمر القيل والقال. بأنْ الزواج علاقة 
فك واغة بررورى قار ةنب 
قال السيّد هذا بلسانه فحسب - إذ كان يناقض كل 
لمناقضة ما طبع عليه من غيرة متطرّفة فيم| يتصل 
بالآداب المطلقة للأسرة ‏ ولكنّه قال بحرارة كالصدق. 
منشؤها ما مارسه من لباقة أهلته لأن يكون الحكم 
الحكيم ووسيط الخير الذي لا يعجزه فض نزاع بين 
الناس» ومع أنّ كلامه لم يضع هباء ‏ حيث إِنّه من 
المستحيل أن يضيع كلام للسيّد هباء حيال أحد من 
أبنائه ‏ إلا أن غضب الفتى كان أعمق من أن يتبخر 
بنفخة واحدة فوقع منه موقع قدح بارد من إبريق بالماء 
مغل وما لبث أن خخاطب أباه قائلا: 

هو علاقة مشروعة حمًا يا أبى ولكنها تبدو أحيانًا 
أبعد ما تكون عن الشرع. إن أسائل نفسي عمًا يدفع 
هذا الرجل إلى الزواج منها؟ ! 

وبالرغم من خطورة الخال قال السيّد لنفسه في 
بيء من السخرية «أؤلى بك أن تسأل عم يدفعها 


8" بين القصرين 
هي !». وقبل أن يحاور ابنه واصل ياسين حديثه قائلًا : 

- إِنّه الطمع... ولا شىء غيره! 

- أو لعلّها رغبة صادقة في الزواج منها. . . 

ولكنّ الشابٌ هاج ثائره وهتف في حنق وألم معا: 

- بل الطمع وحده. . . 

وبالرغم من خطورة الموقف لم تف على السيّد حدّة 
اللهجة التي خاطبه بها ابنهء بل لم مَمْلُ الرجل من 
ضيق إلى تقديره لخحاله وحزنه أن يعود إلى توكيد قوله 
السابق» فلا لم يفعل استطرد قائلا في هدوء نسب : 

- إن ما يدفعه إلى الزواج من امرأة تكبره بعشرة 
أعوام هو الطمع في مالما وعقارها. . . 

وجد السيّد في تحول النقاش إلى هله التقطة فائدة ل 
تغب عن المعيته» فهو ينزع الفتى من تركيز تفكيره في 
أمور أشدٌ حساسيّة وأبعث للألم وبحسبه أن يصرفه عن 
النظر فيا يدفع أمّه إلى الزواج إلى ما يدفع الرجل» 
وإلى هذا كله لم تَخْفَ عليه ما في رأي ابنه من وجاهة 
فيها يتعلّق بالزواج فسرعان ما اقتنع به وشاركه تخاوفه 
فيه. أجل إن هنيّة ‏ أمْ ياسين ‏ غنيّة لدرجة لا باس 
بباء وقد سلمت لا ثروتها من العقار على ما خاضت 
من تجارب الرواج والهوى» بيد أمْها كانت فيها مضى 
شابئّة حسناء ذات سحر وسلطان» يخاف منبها ولا تاف 
عليهاء أمَا الآن فبعيد عن الاحتتيال أن تملك نفسها 
نقذ غزة القن "الاخرية ديفا ملكت» اذ فاروينا 
خليقة بأن تتبدد في معركة الغرام التي لم تعد من 
يُماتماء وإنّه لحرام وأيّ حرام أن يخرج ياسين من 
جحيم هله المأساة جريح الكرامة وصفر اليدين؛ وقال 
السيّد يخاطب ابنه وكأنه يحاور نفسه ويستلهمها 
الرأي : 

أراك على حقٌ يا بي فيما تقول» إِنْ امرأة في سئّها 
صيد يسير خليق بأن يغري الطبّاعين من البشرء فا 
عببى أن نفعل؟ أنتلمّس سبيلا إلى ذاك الرجل لتحمله 
على العدول عن مغامراته؟!. . . إن الحملة عليه 
بالوعيد والتهديد سلوك لا ترتضيه آدابنا وما عرفئا به 
بين الناس. كذلك التوسّل إليه بالرجاء والاقتناع مهانة 
لا تبضمها كرامتنا... فلم يبق أمامنا إلا المرأة 


نفسها!... ولست أجهل ما حفرت بينك وبينها من 
قطبعة كانت بها ولا تزال ‏ خليقة؛ بل الحقٌ أني لا 
أرتاح إلى أن تصل ما انقطع بيلك وبينها لولا ما 
استجدٌ من أعذار قهرية. فللضرورة أحكامء ومهما 
يشِقٌّ عليك الرجوع فهو رجوع إلى أمَك. ومن يدري 
فلعل ظهورك المفاجئع في أفقها يردّها إلى شيء من 
الفبوانسا» 

وبدا ياسين أمام أبيهء كالوسيط أمام المنسوم 
المغناطيسي في اللحظات التي تسبق ما يوحي به إليهء 
ذاهلا صاماء فوشى حاله بنفاذ تأثير الرجل إلى نفسه. 
أو لعلّه دل على أنه لم يفاجأ ببذا الاقتراح. وأنّه يحتمل 
أن يكون مما دار بنفسه قبل مجيئه. بيد أنّه تمتم قائلا: 

د أليس ثمة حل أوفق. . . ؟ 

فقال السيّد بقوة ووضوح: 

أراه أوفق الحخلول. . . 

فقال ياسين وكأثه محادث نفسه: 

- كيف أرجع إليهاا!؟... كيف أزج بنفسي في 
ماض فررت منه وليس أحبٌ إِلّ من أن يبتر من 
حياتي بترًا!. .. لا أمْ لي. . . لا أمّ لي... 

ولكن بالرغم من ظاهر قوله شعر السيّد بأنّه وفق 
إلى جذبه إلى رأيه فقال بلباقة : 

هذا حقٌء ولكن لا أظنّ أن ظهورك أمامها فجأة 
بعد ذاك الغياب الطويل يمضى بلا أثرء لعلّها إذا رأتك 
بن ندعنا شاك تافيك] إن اح كذ رمعا لع ا 
عساه يسيء إلى كرامتك وتعدل عن سيرتها.. .من يدري؟! 

فطامن ياسين رأسه غارقًا في أفكاره. غير مبال, بم 
دل عليه من ضيق ويأسء» كان يرتعد خوفا من وقوع 
الفضيجة» ولعلّ هذا كان أفظع ما يكرّبه ولكنْ خوفه 
على ضياع الثروة التي ينتظر أن يرثها يوما لم يكن دون 
ذلك. وما عسبى أن يفعل؟!... مهما يقلّب أوجه 
الرأي فلن يجد حلا أوفق مما ارتأى أبوه. بل إِنْ صدور 
الرأي عن أبيه ألبسه في نظره ‏ على تقلقل حاله ‏ 
وجاهة وأعفاه هو من هموم كثيرة. ليكن. .. هكذا 
قال في نفسه. ثم قال مخاطبًا أباه : 

- كما ترى يا أبي. . . 


١4 

لا بلغت به قدماه طريق التهالية انقبض صدره 
حي شعر بأنه مختنق. لقد غاب عنه أحد عشر عاما. 
أحد عشر عامًا تصرّمت فلم ينازعه القلب إليه مرة 
واحدق أو ترفٌ عليه ذكرى من ذكرياته إلا في هالة 
قائمة مقبّضة نسج وشيها من ماذة الكابوسء والحقٌ أنه 
لم يكن غادره ولكن واتته فرصة ففرٌ منه فراراء ثم ولاه 
ظهره غاضبًا يائساء ثم تجئّبه لكل قوة فلم يعرفه بعد 
ذلك كغاية في نفسه أو معبرًا إلى سواه من الأحياء بيد 
أنه هو الحئ كما عهده في طفولته وصباهء ولم يتغيّر منه 
شىء؛ ما زال ضِيّقًا تكاد تسدّه عربة يد إذا اعترضت 
سزلقه وعا اهن برقا وكا الاواارل ماكر اماه رذق اكيت 
الصغيرة في تلاصقها وزحمتها والطنين الصادر عنها 
كخلايا النحل. وأرضه التربة بفجواتها المفعمة وحلاء 
وغلانه الذين يغشون جوانبه ويطبعون على أديمه آثار 
أقدامهم الحافيةء وسابلته الذين لا ينقطع لهم تيا 
ومقلى عمّ حسن ومطعم عم سليمانء كل أولئك باق 
كما عهده فتكاد ترفٌ على شفتيه ابتسامة حنان يريد ثغر 
طفولته أن يفترٌ عا لولا مرارة الماضى وسقم 

الحاضر. . , 
وتراءت لعيئيه عطفة قصر الشوق فحخفق قلبه بقوة 
حب كاد يصمٌ أذنيه, ثم لاحت على رأس منعطفها 
الأيمن سلال البرتقال والتفاح منضّدة على الطوار أمام 
دكان الفاكهة فعض شفتيه وغضٌ طرفه في خمزي. 
الملمى ملطخ بالعارء مدفون الرأس في الطين من 
الخجل. دائم الجار بالشكوى من الخزي والألم» ولكنه 
كله في كمّة وهذا الدكان في كقة وحدهء بل إن يرجم 
به إذ أنه رمزه الح الباقيى على الزمن. جمعت في 
صاحبه وسلاله وفاكهته وموقعه وذكرياته الخزي 
متبسجحَاء والألم ناطمًا بال هزيمة مولولة. وإذا كان الماضي 
أحد انا وذكريات هي بطبعها عرضة للتخلخل أو 
النسيان فهذا الدكّان يقوم شاهدًا مسا يكشف مخلخله 
ويفضح منسيّه. وكان كلما تقدّم من المنعطف خطرة 
تقهقر عن الحاضر خطوات طاويًا الزمن على رغم 
إرادته وكأنه يرى في الدكان وغلاماح يرفم رأسه إلى 


بان القصرين مم 


صاحبها ويقول «نيئة تطلب منك أن تحضر الليلة)» أو 
كأنه يراه وهو عائد بقرطاس الفاكهة ضاحك 
الأسارير» أو وهو يلفت نظر أمّه في الطريق إلى الرجل 
فتجذبه من ذراعه يعيدًا أن يلفت إليها الأنظارء أو 
وهو ينشج باكيًا أمام منظر الافتراس الوحشيَ الذي 
يخلقه خلقًا جديدًا ‏ كلما ورد على ذهنه ‏ على ضوء 
تجاربه الراهنة فيئقلب البشاعة نفسهاء طفقت الصور 
الملتهبة تطارده وهو يجدٌ في الفرار منهاء ولكنّه ما إن 
يتمص من قبضة إحداها حي يقع في قبضة الأخرى. 
مطاردة عليفة وحشيّة أثارت في أعماقه سركان الحنق 
والحقد فواصل السير إلى غايته وهو على أسوأ حال 
«دكيف أمرق إلى العطفة وعلى رأسها هذا الدكان. . . 
وهذا الرجل. أتراه بموقفه القديم منه؟. .. لن ألتفت 
نحوهء أي قوة ماكرة تغريني بالنظرء أيعرفبي إذا التقت 
عينانا؟!. . . إذا بدا منه أنّه عرفني قتلته. ولكن كيف 
له أن يعرفني؟ . , . لا هو ولا أحد من الى أجل 
عشر عاماء تركته غلاما وأعود إليه ثورًا ذا قرئين! ثم 
لا تواتينا القوّة على إبادة الحشرات السامّة التى لا تنفك 
تلدغنا. . . »؟ 

ومال إلى العطفة مسرعًا بعض الثيء. متخيّلا 
القوم وهم يستطلعونه بأنظارهم متسائلين «أين ومتى 
رأينا هذا الوجه!»: ورقي في الطريق المتصاعد في غير 
استواء. جامعًا عزمه على نفض الغبار الخائق عن 
وجهه ورأسه ولو إلى حينء وتشجيعا لعزمه فر بنفسه 
بعيدًا وراح يتأمّل ما حوله ويحدّث نفسه قائلا٠‏ «لا 
تضق بالطريق المتعب فكم كنت تفرح به صغيرًا وأنت 
تتزحلق على منحدره فوق لوح من الخشب!» بيد أنه 
عاد يقول حين تراءى له جدار البيت: «إلى أين 
أسير؟!... إلى أمي!... يا للعجّب. لا أصدّق. 
كيف ألقاها وكيف تلقاني!. .. وددت لو. . .» ومال 
بميئًا إلى عطفة مسدودة ثم انهه إلى أوّل باب في جانبها 
الأيسر. هو البيت القديم بلا أدنى شك قطع الطريق 
إليه كا كان يقطعه وهو صغيرء بلا ترد أو تساؤل 
وكأنه ما تركه إلا أمس القريبء ولكنّه اقتحم بابه 
هذه المرّة باضطراب غير معهود) ورقي في الدرج 


بين القصرين 
بخطوات ثقيلة بطيئة. وبالرغم من قلقه وجد نفسه 
يتفخصه باهتمام مطابقًا بينه وبين صورته المحفوظة في 
خياله فألفاه أضيق قليلا مما في ذاكرته وقد تآكلت 
بعض جوانبه وتيدّمت أجزاء صغيرة من أطراف 
درجاته المطلّة على بكر السلّمء وسرعان ما حجبث 
الذكريات الحاضر كلّه. ومرٌ وهو على تلك الحال 
بالدورين المأجورين حيّ انتهى إلى الدور الأخير 
ووقف لحظات يتنضّت وصدره يعلو وبلخفضء ثم هز 
منكبيه كالمستهين ونقر على الباب. وبعد دقيقة أو 
نحوها تح الباب عن وبجه خادم متوسّطة العمر ما إن 
تبيّت فيه رجلا غريبًا حيّى توارت وراء الباب وهي 
تسأله في أدب عا يريد. وثارت أعصابه فجأة وبلا 
داع معقول لما بدا من الخادم من جهل بشخصه 
فدخل بأقدام ثابتة واتهه نحو حجرة الاستقبال وهو 
يقول بلهجة أمرة : 
- قولى لستّك ياسين هنا. . . 
«ترى ماذا تظنْ الخادم بي؟6... والتفت وراءها 
فوجدها مسرعة إلى الداخلء إما لأنَّ لمجته الأمرة 
غلبتها على أمرهاء وإمًا... وعض على شفتيه وهو 
يمرق إلى داخل الحجرة. إنْها حجرة الضيوف | قذر 
بلا وعي في لهوجته وحدّته ولكنّ ذاكرته كانت تعرف 
أركان البيت بلا دليل» ولو وجد في ظرف غير الظرف 
لطاف مسترجعًا ذكرياته من الام الذي كان تحمل إليه 
وهو يبكي إلى المشربية التي كان ينظر من وراء ثقومها 
ال مركت الائة مساة وراء مما تر اناف ابلسية 
الراهن هو أثاث الماضى البعيد؟ 
نه لا يذكر من الأثاث القديم إلا مرآة طويلة ثبت 
في حوض مذهب تنبئق من ثغرات في سطحه ورود 
صناعيّة مختلفة الألوان. وتركّز في زاويتيه المتباعدتين 
فنايبر تتدلّ من أعناقها أهلّة بلوريّة طالما ولع بالعبث 
بها والنظر خلاها إلى المكان فيلوح في حلل غريبة يذكر 
إغراءها وإن غاب عنه منظرهاء ولكن لا داعي 
للتساؤل. فأثاث اليوم غير أثاث الأمس. لا لحدته 
فحسبء ولكن لأنْ حجرة امرأة مزواج خليقة بأن 
تتغير أو تتجدد. كما تَغيّر أبوهى وتاجر الفحمء 


والباشجويش. وركبه تور وضيق فادرك أنه لم يطرق 
باب البيث القديم فحسب ولكنّه نكأ جرحًا متورمًا 
وغاص في قيحه. ول يطل انتظارهء ولعلّه جاء أقصر 
ما يتصورء إذ ابتدر أذنيه وقع أقدام متتابعة متدافعة 
وصوت يتردّد محاورا نفسه بكلام علا جرسه ولم يستبن 
ألفاظه. ثم أحس بها وهو لم يزل مول الباب ظهره ‏ 
وضلفة الباب المغلقة تطقطق تحت صدمة منكبهاء ثم 
جاءه هتافها وهي تقول بأنفاس مبهورة : 
ابني!... كيف أصذق 
غبق اليه بوتيو وار ركسل ا 

وتدافم الدم إلى وجهه المكتنزء واستدار نحوها في 
ارتباك وهو لا يدري كيف يلقاها ولا كيف يكون 
اللقاء: ولكنٌ المرأة أعفته من تدبير أمره فهرعت إليه 
واحتوته بذراعيها وضمته إليها بشدّة عصبيّة وراحت 
تقبّل صدره ‏ وهو غاية ما وسع شفتاها أن تبلغاه من 
جسمه المنتصب ‏ ثم اختنقت نبراتها واغرورقت عيئاها 
فدفنت وجهها في صدره مستسلمة ملهًا ريثا تستر 
أنفاسها. لم يكن حي تلك اللحظة قد أىق حركة أو 
نطق بكلمةء ومع أنه شعر شعورًا عميقًا أليًا بأن 
موده أشدٌ من أن يحتمل إلا أنه لى يبدر منه ما ينم عن 
حياة: أي حياةء فلازم جموده وخرسهء بيد أنه كان 
تَأئرًا غاية التأثّر وإن لم ينضح له نوع التأثر بادئ الأمر 
بحال يطمئنٌ إليهاء ولكنّه. على حرارة استقبالهاء لم 
يجد رغبة للارتماء في حضنا أو تقبيلهاء لعله لم يستطع 
أن ينزع الذكريات المحزنة الناشبة في نفسه كمرضص 
مزمن رافقه منذ الصباء ومع أنه وجّه إرادته بعزم 
وتصميم إلى إخلاء المسرح من الماضي في اللحظة 
الراهنة ليملك فكره وحكمته, إلا أن المامى المطرود 
سكين عل عرفيحة قلبه لذلا قاقة كيان نكت عند 
الفم بعل أن خلّفت وراءها جرثومة تسرى. فأدرك 2 
ذاك الموقف الرهيب أكثر مما أدرك في ماضيه كله 
الحقيقة المحزنة التى طالما أدمت فؤاده وهي أن أمّه قد 
اقتلعت من صدره. ورفعت المرأة رأسها إليه وهي 
تدعوه إلى تقريب وجهه فلم يستطع الإباء وأدنى وجهه 
منها فقبّلته في ححدّيه وجبيئه, التقت أثناء العئاق عيناهما 


وسنا فصن 1 


فلشم جبيها تأرًا بارتباكه وحيائه لا لعاطفة أخرى. ثم 

قالت لي ياسين هناء قلت ياسين! من يكون 
هذا؟! ولكن من يكون غيره؟ ليس لي إلا ياسين 
واحدء ذاك الذي حرم بيني على نفسه وحرم نفسه 
عل. فاذا حدث؟ وكيف استجيب الدعاء آخر 
الدهر؟! وجئت عدوا كالمجنونة لا أصدّق أذتي» وها 
أنت» أنت دون غبرك والحمد للهء تركتني غلاما 
وعدت إل رجلاء كم قتلني الشوق إليك وأنت لا 
تحسّ لى وجوذا. . . 

وأخمذته من ذراعه إلى الكنبة فمضى معها وهو 
يسائل نفسه متى تنحسر هله الموجة الطاغية من 
الاستقبال الحار حتى يتبين الطريق إلى هدفه. وجعل 
يسترق إليها النظر في استطلاع مقرون بالدهشة 
والقلق؟. . . كأءْها لم تتغيّر إلا أن يكون جسمها قد زاد 
امتلاء ولكنّه لا يزال محافظًا على حسن تقطيعه» أمَا 
الوجه القمحيخ المستدير والعيئان السوداوان المكحولتان 
فعلى سابق عهدهما تقريبًا من القسامة البارعة. وم 
يرتح إلى ما رأه على صفحة الوجه والعنق من زواق 
كأنّه كان ينتظر أن تغيّر أعوام القطيعة من دأها القديم 
على العناية بنفسها وولعها بالتبرّج لداع ولغير ما داع 
أى حبّى في تلك الأوقات التى تخلو فيها إلى نفسها. 
وجلسا جنبًا إلى جنب وهي محدّق إلى وجهه بحنان تارة 
وتقيس طوله وعرضه بعينين معجبتين تارة أخرى ثم 
تمتمث بصوت متهدج : 

آه يا ري لا أكاد أصدّق عين» أنا في حلم» هذا 
ياسين| أيّ عمر ذهب هباء. كم دعوتك ورجوتك, 
وبعثت إليك الرسول تلو الرسولء ماذا أقول؟... 
دعني أسألك كيف قسا قلبك عاعٌ لهذا الحدّ؟.. 
كيف أعرضت عن دعواتي الحازة؟ كيف تصامفت عن 


نداء قلبى المكروب؟. . . كيفا. . . كيف؟ . . . كيف 


يك اذ لك أما منزوية هنا؟ 

ووقف انتباهه عند الجملة الأخيرة فوجدها غريبة 
تدعو إلى السخرية والرثاء معاء وكأتها أفلتت منها في 
ذهول الانفعال,» أجل يوجد شىء وأشنباف»- تذكرة 


بين القصرين 8/17 

صباح مساء بأنْ له أماء ولكن أي شيء وأي أشياء؟ ! 

ورفع إليها عينيه في حيرة دون أن ينبس فالتقت 
عيناهما لحظةء وابتدرثه المرأة قائلة : 

- لماذا لا تتكلم؟ 

فخرج ياسين من حيرته بتهدة مسموعة ثم قال 
وكأتّه لم يجد بدا مما قال: 

- ذكرتك كثيرّاء ولكن آلامي كانت أفظم من أن 
تطاق . 

وقبل أن يتم كلامه كان النور الذي ينبعث من 
نظرعها قد خمد. واحتلت الحدقتين غيامة خيبة وفتور 
ساقتها رياح مب من جوف الماضى الأسيف. فلم تعد 
تطيق التحديق في عينيه وخفضت جفنيها وهي تقول 
بلهجة حزيئة : 

ظئنتك برئت من أحزان الماضي ؛ وإشا علِم الله 
لا تستحقٌ بعض ما أوليتها من غضب حملك على 
هجرق أحد عشر عاما. 

وعجب لعتابها عجبا أحنقه» واستنكره استدكارًا ذر 
على غضبه المكتوم فلفلا فانفعل انفعالًا لولا القصد 
الذي جاء من أجله لثار بركانه» أتعني المرأة حقًا ما 
تقول؟ أهان عليها ما فعلت لهذا الحدٌ؟ أم تظنّ به 
الجهل بما كان؟! بيد أنه ضبط أعصابه بقوة إرادته التي 
لم تغفل عن هدقها وقال: 

تقولين إِثّبا لا تستحقٌ غضبي؟. . . أراها تستحق 
الغضب كل الغضب وأكثر. 

فتركت ظهرها يسقط على مسند الكنبة كثيء 
تهدّم» ورمته بنظرة بين العتاب والاستعطاف قائلة: 

ما وجه العيب في أن تتزوج امرأة بعد طلاقها؟ 

فشعر بئيران الغضب تتأجّج في عروته وإن لم بد 
منبا آثار إلا في انطباق شفتيه ثم التصاقهاء لا زالت 
تتكلّم ببساطة كأئها مقتنعة على يقين ببراءتها!. . . 
وتتساءل عن وجه العيب في أن تتروج «امرأة» بعد 
طلاقها. حسن.ء لا عيب في أن تتروج «أمرأة» بعد 
طلاقهاء أمَا أن تكون المرأة أمّه فهذا شيء آخرء شيء 
آخر جدَّاء وأيّ زواج الذي تعنيه؟!... إنّه زواج 
وطلاق ثم زواج وطلاق ثم زواج وطلاق؟ . . . هناك 


15م بن القصرين 


ما هو أدهى وأمرٌّء ذلك والفكهاني»!. . . أيذكرها 
به؟... أيصفعها بما في نفسه من مر ذكرياته؟ 
أيصارحها بألّه لم يعد جاهلا كا تظن؟ وأرغمته حذة 
الذكريات على الخروج عن اعتداله هذه المرّة فقال 
بامتعاض شديد : 

- زواح وطلاقء زواج وطلاق. هذه أمور شائنة ل 
تكن لتليق بكء. ولسْدٌ ما مزرقت نياط قلبي بلا 
رحمة, . . 
فشبكت ذراعيها على صدرها في استسلام اليائس 
وقالت بإشفاق حرين : 

إنّهِ سوء الحظ ولا شبىء غيره؛ إن سيّئة الحظ. 
هذا كل ما هنالك . ْ 

فبادرها قائلاء وقد تقلصت أساريره وانتفخ لغده 
فلفظ الكليات كأنما يلفظ مستخيئًا تعافه النفس : 

- لا تحاولي أن تبرئي ساحتك فا يزيدني هلكا إلا 
آلب على ألى. من الخير أن نسدل على آلامنا ستارًا 
يخفيها ما دمنا لا نستطيع أن نمحوها من الوجود محوا. 

ولاذت بالصمت على كره والقلب يشفق إشفاقا 
شديدًا من هائج الذكريات على طيب اللقاء وما بعثه 
في نفسها من آمال؛, وجعلت تلحظه بقلق كأنما 
تستخيره عنّا يطوي عليه صدره؛ فلا ثقل عليها صمته 
قالت متشكية ؛ 

لا تلح في تعذيبي وأنت وحيدي . 

ووقع الكلام من نفسه موقعًا غريبًا كأنما يُكشف له 
لأوؤل مرّةء بيد أنه وجد فيه باعنا جديدًا للهياج 
والتوثّرء إِنْه ابنها حمّاء إِنّا أمّه الوحيدة كذلك» ولكن 
كم رجلا!... وأشاح عنها بوجهه ليخفي ما ارتسم 
على صفحته من آي التقزّز والغضب ثم أغمض عينيه 
فرارًا من ذكريات مناظر بشعة, عند ذاك سمعها تقول 
برقة وتوسّل : 

- دعني أعتقد بن سعادي الراهنة حقيقة لا وهمء 
أجل حقيقة لا وهم. وبانّك جتتني منفضًا عن قلبك 
أحزان الماضي كله إلى الأبد. . . 

فنظر إليها نظرة طويلة مركّزة وشت بلخطورة أفكاره 
إلى حينء وم يكن شيء في تلك اللحظة يستطيع أن 


يعدل به عن النفاذ إلى غرضه ولو بتأجيله. فقال 
بصوت يدل على أنْ ألفاظه التي يتفوّه بها أقل بكثير من 
المعاني التي يوحي مها : 

هذا يتوقف عليك أنت» فإن شئت كان لك ما 
فتجلّت في عيني المرأة نظرة قلق نمت عمًا تعاني من 
إنماء الخوف وقالت: 

- إني أرغب في مودّتك من أعماق قلبي. وطلما 
عنيتهاء وكم سعيت إليها فردّدتني بلا رحمة. 

ولكنّه كان مشغولا عن كلامها الحارٌ يما يضطرب في 
ذهنه فقال: 

- بيدك ما تتمئّين» بيدك أنت وحدكء إذا جعلت 
من اللكمة زائدك. 

فتساءلت المرأة في انزعاج : 

- ماذا تعنى؟ 

فأحنقه تجاملها وقال بتذمر: 

- مضمون كلامي واضح ؛ هو أن تعدلي عما لو 
صم ما بلغني عنه لكان فيه الضربة القاضية علي! 

فانّسعت عيناها وتجهم وجهها في يأس غير حافب. 
وقفتمت وهىي لا تدري : 

هاذا تعنبى؟ 

كد تلن اتنا امدة خل الكياهاة القاك ينيطل” 

- أعنى أن تلغي مشروع الزواج الجديد, ولا 
تسمحي لنفسك بمعاودة التفكير في شيء من هذا 
القبيل» لم أعد طفلاء وليس بصبري متّسع لطعنة 
جديدة . 

أطرقت في حزن بالغ. ولازمك الأطواق كاننا 
أخذتها سِنئّة من النوم. ثم رفعت رأسها في بطء فلاح 
الحزن في وجهها أعمق مما قذّر. ثم قالت بصوثت 
ضعيف وكأتها تخاطب نفسها: 

- إذن جئت من أجل هذ|؟ ! 

ودون تفكير فيها يقول قال: 

- نعم ! 

فوقع جوابه كطلقة ناريّة فإذا بكل شيء حوله يتغر 
ويتبآل سريعاء ويكفهرٌ الجو. وقد استرجع فيا بعد. 


وهو خال إلى نفسه ‏ ما دار من حديث بيئه وبين أمه 
في هذه المقابلة فأقرٌ أقواله جميعًا حيّى بلغ هذا الجواب 
الأخير فتردّد حياله لا يدري أأخطأ أم أصاب. وظلْ 
على تردّده طويلا. أما المرأة فقد غمغمت وهي تنظر 
فيا أمامها: 

شد ما أتمَيّى أن أكذّب أذ . 

وأدرك أنه تعجّل بعد فوات الفرصة» وسخط على 
نفسه حاتئقاء ثمٌّ صب سخطه على ما حوله. فاندفع 
قائلا بلا وعيى مداريًا خطأه بما هو أمعن في الخطأ: 

- إنْك تفعلين ما تشائين دون تقدير للعواقب» 
وكنت أنا دائمًا الضحيّة التي تتلقّى الإساءة بلا ذنب 
جنته» وقد ظئلت العمر راذك إلى شيء من العقل فا 
أعجب إلا لقائل يقول إنّك شارعة في الزواج من 
جديد!... يالها من فضيحة تتجدّد كل بضعة أعوام 
كأن لا ناية لها., , . 

من شذة اليياس راحت تصغي إليه فيم| يشبه 
اللامبالاة» ثم قالت بأسى : 

- أنت ضحيّة» وأنا ضحيّةء كلانا ضحيّة لما 
يوسوس به إليك أبوك وتلك المرأة التى تعيش في 
كئفها! 

وعجب هذا الانحراف في مجرى الحديث الذي بدا 
له مضحكاء بَيْد أنه لى يضحكء ولعلّه ازداد غضبًا 
وهو يقول: 

ما دخل أبي وزوجه في هذا الشأن!... لا 
تتملصي من فعالك بإلقاء التهم في وجوه الأبرياء. 

فهتفت بصوت يشبه الرئين: 

ما رأيت ابئا أقبى منك! ... أهذا خطابك لي 
بعد فراق أحد عشر عاما! 

فلوح بيده في احتجاج غاضب وقال بحدّة وسخط: 

الآم الخاطئة خليقة بأن تلد ابنا قاسيًا. 

د لمق تماطنة ع مالةب وتاك 
قاس غليظ القلب كأبيك. 

فنفخ في ملل وصاح بها: 

رجعنا إلى أي!. . . حشبنا ما نحن فيه. . . انّقي 
الله وتراجعي عن الفضيحة الجديدة. .. أريد أن أمنم 


بين القصرين 6م" 

هذه الفضيحة بأ ثمن. 

ومن شدّة اليأس والحسزن خرج صوتا متلفعًا 
بالبرودة وهي تقول : 

وناك ا لك ناه 

فصاح في دهش : 

- كيف لا تبمني فضيحة أمَي؟! 

فقالت في حزن مشوب مما تيشر من التهكم : 

- أنت في الحقٌ لا تعدّني أما لك. 

ماذا تعنين؟ 

فغمغمت في يأس متجاهلة تساؤله : 

- ما دمت قد خلعتنيى من نفسك فيجدر بك أن 
تدعني وشأني . 

فهتف غاضا: 

حسبي ما كان. لن أسمح لك بتلويث سمعتي 
من جديد, 

فقالت وهي تزدرد ريقها؛ 

لا شىء هنالك مما يلوث السمعة. والله شهيد. 

قياها مب 

- أتصرّين على هذا الزواج؟! 

فصمتت ملا مطرقة محزوئة غارقة في اليأس» ثم 
لذت عا تنهّدة عميقة» ثم قالت بصوت لا يكاد 
بسع 

- قضى الأمر وكتب العقد. ولم يعد بوسعي منعه! 

فانتفض ياسين قائمًا وقد تصلب جسمه البدين 
وعلت وجهه صفرة وركز بصره في رأسها المطرق وهو 
يغلٍ غضباء ثم صاح مها بصوت كالزثير: 

يا لك من امرأة. .. عرمة!. . , 

فغمغحت بصوت مغموس يدل على الاستسلام 
المطلق : 

سامحك الله , 

عند ذاك خطر له أن يلطمها يما يعرف مما نظن أنه 
يجهله - من ماضي سيرتهاء بحديث «الفكهاني» 
الأسود. قذيغة يصبها على رأسها بغتة فتنثره إربًا ويثار 
بها أفظع الثار. وتوهج في عينيه بريق مخيف تطاير من 
تحت جبهة عابسة مكفهرّة تجمعت فى أحاديدها 1 


5 بين القصرين 
الشرّ والوعيد, وفغر فاه ليطلق قذيفته؛ ولكنّ لسانه لم 
يتحرّك. التصق بسقف حلقه كأتما جذبه إليه عمّه الذي 
لم يعيه العناء عن البلاء» ومرّت اللحظة الرهيبة في 
سرعة الزلزال الخاطف الذي يشعر فيه الانسان 
بأنفاس الموت تتردّد على وجهه لحظات ثم يعود كل 
شيء إلى مستقره» وزفر وهو كظيمء وتراجع غير آسف 
وجبينه يسح عرقًا باردًا. وقد ذكر موقفه هذا فيم) 
بعد فيها ذكر من مواقف هله المقابلة الغريبة فارتاح 
لتراجعه كل الارتياح وإن عجب له أشدّ العجبء 
وكان أعجب ها عجبه شعوره بأنّه إئما تراجع رحمة 
بنفسه لا رحة بها وكأنه تسثر على كرامته لا على 
كرامتها وإن لم يكن ثمة ما يجهله من الأمر! 

وأفرغ غشبه في كفيه فجعل يضرب واحدة عل 
الأخحرى ويقول: 

مجرمة!... فضيحة مجسمة!... كم سأضحك 
من غبائي كلما أذكر أنّْنى أملت خخيرًا من هسذه 
الزيارة!... (ثمّ بلهجة تبكّميّة)... إن أعجب 
كيف طمعت يعد هذا فى مودتي؟! 

فجاءه صوتها وهو يقول في الكسار وحسرة: 

- متي نفسي أن نعيش عسل مودّة رغم كسل 
شيء!.. وبعئت زيارتك المفاجئة في قلبي آمالَا حارة 
خيّل إل معها أني أستطيع أن أهبك أسمى ما في قلبي 
من حبُ. . . بلا كدر, 

وابتعد عنا متقهقرًا كأنما يفرّ من لين كلامها الذي 
لم يعد شيء يورّث غضبه مثل) يؤرّئه. وشعر حائقا 
يائسًا بأنه لم تعد ثمّة فائدة من بقائه في هذا الجو 
الكريه فقال وهو يستدير لياخذ سَّمته إلى الخارج : 

- وددت لو أستطيع قتلك. . . 

فغضت بصرها وقالت في حزن بالغ : 

- لو فعلت لأرحتني من حياتي. . . 

وبلغ به الضيق العباية فألقى عليها نظرة أخيرة 
مظلمة بالمقت ثم غادر المكان وأرض الحجرة ترتجٌ 
نحت وقع قلميه. وعندما انتهى إلى الطريق. وأخخمذ 
يثوب إلى نفسهء ذكر لأوّل مرّة أنه نسي -حديث العقار 


والمال فادم يطرقه بكلمة واحدة. ل كأنما لم يكن هو 
الباعث الأول هذه الزيارة! . , 


4 

فتحت الست أمينة الباب وأدخلت رأسها وهي 
تقول برقتها المعهودة : 

أفي حاجة إلى خدمة يا سيّدي الصغير؟ 

فجاءها صوت فهمي قائلا : 

- تعالى يا نينة. حمس دقائق فقط. , 

فدخلت المرأة مسرورة بتلبية الدعوة فرأته واقفًا أمام 
مكتبه يلوح في وجهه الحدٌ والاهتام فأخحذها من يدها 
إلى كنبة غير بعيدة من الباب وأجلسها ثم جلس إلى 
جانبها وهو يتساءل : 

- ناموا حميعًا؟ 

وأدركت المرأة أمْها لم تُدعَ لتقديم سخدمة عابرة وإلا 
ما كان هذا الاهترام وهذه الخلوة فانتقل الاهتيام 
بسرعة إلى نفسها المطواعة للإيحاء وقالت تجيبه : 

- ذهبت خديجة وعائشة إلى حجرتها في ميعاد كل 
ليلة؛ أمَا ىال فقد تركته الآن في فراشه. 

كان فهمي يترقب هذه اللحظة منذ آوى إلى حجرة 
المذاكرة عند أول المساء فلم يستطع كعادته تركيز 
انتباهه في الكتاب الذي بين يديه؛ وجعل يتابع» بين 
آونة وأخرى, أحاديث أمّه وشقيقتيه في جزع لا يدري 
متى ينتهينء ثم إلى أمّه وكال وهما يحفظان معًا حملة 
من سورة عم. حتّى ساد الصمت ثم جاءت أمه 
لتحيّيه تحيّة المساء فدعاها إليه وقد تناهى به توثر 
الاتتظار. ومع أن أمّه بدت كالحامة الوديعة» ومع أنه 
لم يشعر حيالها قط بتحفّظ أو خوفء إلا أنه وجد 
عسرا في التعبير عما يريد الإفصاح عنه. فعلاه ارتباك 
الحياء» ومضت فثرة صمث ليست بالقصيرة قبل أن 
يقول مختلج الجفنين : 

- دعوتك يا نيئة في أمر بِهمّني جدًا. 

واشتدٌ الاهتام بالمرأة حيّى تميّله قلبها الرقيق خخوفًا 
أو شبيهًا بالخوف وقالت: 

- إفي مصغية إليك يا بن. . . 


فتنفس تنفّسًا عميقًا ليخفف عن أعصابه وقال: 

نافنا رانك فيبيا لو ... أعنى اليس من الممكن 
أن. ., 

وتوفّف متردّداء ثم غيّر لحجته قائلا بسرقة وتردّد 
وارتباك : 

ليس لي من أفضي إليه بدخيلة نفسي إلا أنت. . 

طبعًا طبعًا يا بن . 

فقال متشْجعًا عبّا قبل : 

ما رأيك إذا اقترحت عليك أن تخطبي لي مريم 
تك نكا ونا البسن عم وضبوان .9 

تلك امينة كلانه بنهفة أزلة #الحاسه تلحنا 
أجابت بابتسامة تدل على الحيرة أكثر من الفرح ثم 
القشع اللنوف الذي قبض صدرها حيئًا وهي تترقب 
إنماخه هنا بريد 20 السعظ التسامتهنا وأشرقت 
معلئة عن سرور صاف. وتردّدت لحظات لا تدري 
ماذا تقول ثم اندفعت قائلة : 

أهذه رغبتك حمقًا؟... سأقول لك رأبي 
صراحة. . . إِنْ يومًا أمضى فيه لأخطب لك بنت 
ادل كن انسعة ابامرسياق» .. 

فتوزد وجه الشابٌ وقال بامتئان : 

عا قدي ال 

ورنت إليه ببسمة لطيفة وقالت برجاء: 

يا له من يوم سعيدء لقد تعبت كثيرًا وصابرت 
كثيراء وليس بالكثير على الله أن يجزيني على تعبي 
وصيري بمثل هذا اليوم المرججى. بل بأيام مثله كثيرة 
ليقرٌ عينيى بك. وبأختيك خديجة وعائشة. . 

وغابت عيئناها في رؤى الأحلام السعيدة التي بدا لها 
ما أيقظها فجأة فتراجم رأسها في قلق كقطة أقبل 
نحوها كلب وتمتمت في إشفاق: 

د.ولكن .... أبوك؟! 

وابتسم فهمي ممتعضا وقال: 

من أجل هذا دعوتك للمشاورة. 

ففكرت المرأة قليلا ثم قالت وكأتها تخاطب نفسها : 

لا أدري ماذا يكون موقفه من هذا الرجاء؟ أبوك 
شخص غريب, غير الناس جميعاء وقد يرى جرية فيه 


بين القصرين 41" 

يراه العتن كني عاديًا. . . 

- ليس في الأمر ما يدعو إلى الغضب أو الاعتراض . 

- هذا رأبي . . . ! 

- وغ عن البيان أن الزواج سيؤجُل حيّى أنمٌ 
دراستي وأجد لنفسى عملا. . . 

00 

- فيم يكون الاعتراض إذن؟! 

فنظرت إليه نظرة كأنما تقول له: «ومن ذا بحاسب 
أباك إذا أراد أن ينبذ المنطق جانبًا؟) هي التي لم تعرف 
حياله إلا الطاعة العمياء أصاب أم أخخطاء عدل أم 
ظلمء بيد أئْها قالت: 

أرجو أن سارك رجاءك بالقبول. . . 

فقال الشابت بحياس: 

- لقد تروج أبي وهو في سي هله. ولسبث أقصد 
شيئًا من هذاء ولكئي سأنتظر حي يكون الزواج طبيعيًا 
لا اعتراض عليه من أي ناحية. . 

- رينا يحقق رجاءنا. . . 

وسكنا إلى الصمت مليًّا وهما يتبادلان النظرات» 
مجتمعين في فكرة واحدة وهما عن بداهة يدريان إذ كان 
كلاهما يفهم صاحبه خير فهم» ويقرأ ما يدور بخاطره 
في غير ما عسر. ثم قال فهمى مفصحًا عا يشغلهما 
معا' 

- بقي أن نفكر فيمن يفاتحه بالموضوع. . . ! 

وابتسمت المرأة ابتسامة أفقدها التفكير والقلق 
روحهاء وأدركت أن ابنها الأريب يذكرها بالواجب 
الذي لا يستطيع أن يؤدّيه أحد سواها بالأسرة. ولم 
تعترض على هذا لأنّه لا سبيل غيره. إلا ئها قبلته على 
كره كا تقبل أمورًا كثيرة وهي تسأل الله حسن العاقبة, 
وقالت برقة وعطف: 

- ومن غيري يفاتحه؟ . . . رينا معنا. . . 

إفي آسف. . . لو كان بوسعي أن أفاتحه لفعلت. 

- سأحدّثه. وسيوافق بإذن الله. مريم فتأة جميلة, 
مؤدُّبة من أسرة كرعة. . . 

وسكتت الحظة ثم استدركت متسائلة كأنما خطر لها 


4خ" بين القصرين 
الخاطر لأول مرة: 

- ولكن ألبست هي في مثل سنّك أو تزيد؟! 

فقال الفتى جرعًا: 

لا مِهمَني هذا بتانًا! 

على بركة الله. ربنا معنا... «ثم وهي تمبض» 
أدعك الآن لعناية المولى» وإلى الغد. . . 

ومالت نحوه وقبّلته ثم غادرت الحجرة وأغلقت 
الباب وراءها. لكن كم أدهشها أن ترى كيال جالسًا 
على الكنبة مكنا على كرّاسة بين يديه فهتفت به: 

ما الذي عاد بك إلى هنا؟ 

فنبضس الغلام مبتسًا في ارتباك وقال: 

تذكرف آل. نسيت كراسة الاتجليزيئ. ققدت 
لآخذها ثم بدا لي أن أستعيد الكلمات مرة أخيرة. 

وذهبت معه مرّة أنحرى إلى حجرة النوم ولم تتركه 
حيّى تمدّد تحت الخطاءء ولكنّه لم ينم. وكان النوم 
أعجز من أن يغلب اليقظة الماكرة التى تنبعث في 
شعورف فلم يلبث أن وثب من السرير ومضى إلى 
سمعه وقم أقدام أمّه وهي ترقى السلّم إلى الدور 
الأعلى» ثم فتح الباب وجرى إلى -حجرة شقيقتيه ودفع 
بابها ودخمل دون أن يغلقه ليوسم للمصباح المعلق 
بالصالة منفذًا يضيء منه جانبًا من الظلمة الغاشية في 
الداحلء وهرع إلى الفراش وهو بهمس «آبلة 
خديجة|» فجلست الفتاة في الفراش دهشة فوثب إلى 
جانبها وهو يلهث من الانفعال» وكأنه لم يقنع بمستمعة 
واحدة ليستودعها السب الذي أطار النوم من عينيه فمدّ 
يده إلى جسم عائشة وهره. ولكنّ الفتاة كانت قد 
تهت إلى القادم وأزاحت عنها الغطاء ثمّ رفعت 
راسها بين الاستطلاع والاحتجاج متسائلة : 

ماذا جاء بك الآن؟ 

لم يأبه للهجة الاحتجاج لأنّه كان على يقين من أن 
كلمة واحدة يشير بها إلى سرّه خليقة بأن تقلبهها رأسا 
على عق وقفر لهذا قلبه ببجة وسرورًاء ثم قال 
هامسا كانه محاذر أن يسمعه رابع : 


فسألته خدنجة : 

ار" 
شطارتك , . , 

ولم يعد باستطاعته الكتبان فقال: 

- أخي فهمي يريد أن يخطب مريم. . . 

عند ذاك جلست عائشة في الفراش بدورها في 
حركة آليّةَ مريعة كأنما التصريح رشّة ماء بارد ألقيت 
في وجه وسنانء. وتقاربت الأشباح الشلاثة في شكل 
هرم كما بدا على الضوء الخافت النافذ إلى الحجرة 
والمنعكس على أرضها فيا يل الباب المفتوح على هيئة 
متوازي الأضلاع مذبذب الأطراف تبعًا لذبذبة ذبالة 
المصباح الذي تعرّض - بترك الباب مفتوحًا ‏ إلى تيار 
وإن نسم من خصاص النافذة إلى الصالة في لطف 
همسات تذيع سراء ثم تساءلت نخديجة في اهتمام : 

كيفا عرفت هذ|ا؟ 

- تركت فرائي لأحضر كراسة الإنجليزي. وعند 
باب أخخي ادل صوته وهو يتكلم فلبدت في 
الكنبة , , . 
نم أعاد على مسمعيهما ما تسرب إليه من وراء 
الباب الموارب وهما تنصتان إليه في اهتام ملك عليهما 
الأنفاس حي فرغ من حديئه وهنا تساءلت عسائشة 
كأن بها حاجة إلى المزيد من الاقتناع : 

أتصدقين هذ!؟ 


. هات ما عندك وارنا 


فقالت خديجة بصوت كأنه ينبعث من تليفون بمدينة 
بعيلة : 

- أتتصوّرين أن يخترع هذا «مشيرة إلى كبال» حكاية 
طويلة عريضة كهذه؟ 

لك حقٌّ «ثمّ ضاحكة لتقف من حدّة اهتهامها» 
اختلاق موت غلام في الطريق شيء» أمّا هذه الحكاية 
فشيء أنخحر. 

فتساءلت خديجة دون أن تلقي بالا إلى احتجاج 
كيال الذي اعترض على التعريض به : 

- كيف وقع هذا يا ترى؟! 

فضحكت عائشة قائلة ' 

- ألم أقل لك مرّة إن أشكٌ في أنْ اللبلاب هو الذي 


يدعو فهمي إلى السطح كل يوم؟! 

إِنه اللبلاب الآخر الذي التفف حول ساقه هو, 

فترنُت عائشة بصوت .خفيض : 

لا ملام عليك يا عيوني في ححبه . 

فنبرتها عد عجة قائلة : 

تكس دن لين هد وقت الغناء... مريم في 
العشرين وفهمي في الثامئة عشرة. . . كيف توافق نينة 
على هُذا؟ ! 

اه 
لاء ولكن صررًاء اليس من الحقّ أن أقول إِنَّ مريم 
جميلة وطيّبة؟!... ثم إن بيتنا هو البيت الوحيد في 
الحي الذي لم يعرف الأفراح بعد. . , 

كانت تحديجة ‏ كعائشة ‏ تحب مريمء ولكنٌّ الحبّ 
لم يستطع أبذًا أن يخفى عن عينيها مواضع الانتقاد في 
المحبوب أيَا كان شأنه. فلم يكن يعجزها ‏ عند 
الضرورة - الوقوف عند مواضع الانتقاد فحسب, ولما 
كانت سيرة الزواج تثير مخاوفها الكامئة» وغيرتهاء فقد 
القليت على صديقتها دون مشقّةع وأى قلبها أن يقبلها 
زوجة لأخيهاء ومضت تقول: 

دتشكونة نم9 1 مريم جميلة ولكتبا دون فهمي 
بمراحل بعيدة... فهمي يا حمارة طالب بالعالي» 
وسيكون قاضيًا يومًا ماء فهل تنصورين مريم زوجًا 
لقاضٍ كبير المقام؟!... إنها مثلنا على أكثر تقدير, 
بل هي دوننا في أكثر من ناحية ولن تتزوج إحدانا 
شاضن يرم ذا 

الت عائشة في نفسها: «من قال القاضي 
أحسن هن الضابط!!» ثم سألتها متجة : 

لم لا؟! 

فواصلت الأخحرى حديثها دون اهتمام باعتراضها: 

- يستطيع فهمي أن يتزوج بفتاة أجمل من مريم 
مائة مرّة» وفي نفس الوقت تكون متعلمة وغنيّة وبنت 
بك أو حبّى بنت باشاء فلاذا يتسرّع بخطبة 
مريم؟!... ما هي إلا أميّةَ طويلة اللسان. أنت لا 
تعرفينها | أعرفها. . . 

وأدركت عائشة أنْ مريم القلبت في نظر خديجة إلى 


لينة حمامة وديعة لا تدري كيف تقول 


ببن القصرين ان 

حملة من العيوب والنقائص. بيد أثْها لم تتهالك نفسها ب 
حيال وصفها بطول اللسان تلك الصفة الى لخديجة 
منها أكبر نصيب - من أن تبتسم مستترة بالظلمة, 

- لندع الأمر لله , , . 

فقالت خمديجة بثقة وإيمان: 

- الأمر لله في السماء ولأبى في الأرض وسوف نرى 
ماذا يكون رأيه غدًا... وثمَ موجهة الخطاب إلى 

عاد كيال إلى حجرته وهو يقول لنفسه ول يَبْنَّ إلا 
ياسين . وسأخخيره غذاع. . . 


١ 

جلست تنحديجة وعائشة القرفصاء متواجهتين لصق 
الضلفة المغلقة من باب حجرة الوالدين بالدور الأعلى 
وهما تكتان أنفاسهها في حذر وتمدّان آذاءما إلى الداخل 
في اهتام وتلقف. كان الوقت قبيل العصر بقليل. 
وكان السيّد قد مض من قيلولته فتوضاً وجلس كعادته 
يحتسبى القهوة منتظرًا الأذان ليصل قبل عودته إلى 
الدكان, فتوقعت الأحتان أن تفاتح الأمْ أباهما في الأمر 
الذي أنباهما عنه كمال؛ إذ لم يكن أنسب لذلك 
الغرض من هذا الوقت. وتناهى إليهها من الداخمل 
صوت أبيهما الجهوريّ وهو يتتحدّث عن أمور البيت 
العاديّة فأنصتتا في جزع وترقب وهما تتبادلان النظر 
متسائلتين .حي سمعتا أخيرًا الأم وهي تقول في أدب 
بالغ ولهجة نخاشعة : 

- سيّدي» إذا أذنت لي حدّئتك عن شأن رجاني 
فهمي أن أبلغك إِيَاه. 

عند ذاك أومات عائشة بذقهها إلى الداخل كأنما 
تقول و«هذ! هو الحديث» على حين راحت خديجة 
تتخيّل حال أمّها وهي تنهيّا للكلام الخطير فرق قلبها 
لها وعضت على شفتها في إشفاق شديد؛ ثم جاءهما 
صوت السيّد وهو يتساءل : 

ب ماذا يريد؟ 

وساد الصمت قليلاء أو طويلا بالقياس إلى اللتين 


"٠‏ بين القصرين 
تسترقان السمع. ثم قالت المرأة برقة : 

نيو جا اد لسار وباك د 
وتفرّقه وأدبه. حماه الله من شي الأعينء ولعلّه بلغي 
رجاءه إدلالا بمنزلته عند والده. , 

فقال الأب بلهجة تمخيّلتاه معها راضيا: 

ومال رأساهما نحو البساب وكل منهما تحملق في 
الأخرى ولا تكاد تراها فمجاءهما الصوت المتهافت وهو 
يقول : 

سيّدي يعرف جارنا الطيب السيّد محمد 


رضوان. . . ؟ 

افليها ديد 

- رجل فاضل مثل سيّدي وأسرة كريمة وجيران ولا 
كل الجيران. . 

اله رن 

واستطردت بعد تردّد؛ 

- فهمي يسأل يا سيّدي هل يجيز له والده أن. . 
يخطب مريم كريمة جارنا الطبب لتبقى على ذمته حت 
يصير أهلا للزواج؟ 

وهنا علا صوت السيّد وقد غلظت ثيراته بالغعضب 
والاستتكار: 

- يخطب؟!.. . ماذا تقولين يا وليّة؟... هذا 
الغلام!. .. ما شاء الله. , . أعيدي على سمعي ما 

فقالت الأمّ بصوت متهدّج وقد تميّلتها خديجة وهي 
تنكمش في ذعر: 

- ليس إلا أنّه يتساءل. مجرّد تساؤل يا سيّدي 
والكس للفو 

فقال الصوت المتمجر بالغضس: 

- لا عهد لي ولا له ببذا التدلّل المائمء ولا أدري ما 
الذي أتلف تلميدًا حي يتمادى في مطالبه إلى هذا 
الحدٌ؟... ولكنٌ أمًا مثلك خليقة بأن تفسد أبناءهاء 
فلو كنت أمّا كيا ينبغي لما جسر على مفاتحتك بمثل هذا 
الهذر الوقح . . . 

ركب الفتاتين .خوف ووجوم خالطهاا في قلب 


خديجة ارتياح. لم سمعا صوت الام المستخذي وهي 
تقول : 

لا تشم نفسك مشقّة الغضب يا سيّدي, كل 
شيء يبون إلا غضبك. ما قصدت من ناحيتي إساءة 
قطء ولا تميّلها ابي وهو يحَمّلني رغبته ببراءة» ولكنه 
رجاني بحسن نية فرأيت أن أعرض الأمر عليك. وما 
دا هذا هر راياة شازلفة جا وسيلاعن لد كر 
خضوع كا يذعن لأمرك دائا. . . 

- سيذعن أراد أم لم يردء ولكيٌّ أريد أن أقول لك 
إنك م ضعيفة لا يرجى منها خير. . , 

- إن أتعهدهم بما توصي به. . 

- ختريني عا دعاه إلى التفكير في هذا الرجاء؟ 

وأرهفت الفتاتان السمع في اهتيهام وانزعاج وقد 
فاجأهما هذا السؤال الذي لم تتوقعاه. ولكمّهها لم تسمعا 
لأمهم] جوابًا وتصوّرتاها وهي ترمش في ارتباك وحوف 
فعطف قلباهما في إشفاق شديد: 

ماذا أخرسك؟ , . . ختريبي هل رآها؟ 

- كلا يا سيّدي, إن ابني لا يرفم عينيه إلى جارة 
ولا إلى غيرها. . . 

- كيف رغب في خطبتها دون أن يراها؟. . . ما 
كنت أحسب أن لي أبباء يسترقون النظر إلى حرمات 
الجيران ! 

- معاذ الله يا سيّدي معاذ الله. . . إن ابني إذا سار 
في الطريق لا يلتفت يمنة ولا يسرة» وهو في البيت لا 
كاف يعاقان تسريه إلا لشم ور 

ما الذي دعاه إلى طلامها إذن؟ 

- لعله يا سيّدي سمع شقيقتيه وهما تتحدّثان 
عنها. , 

وسرت في بدن الفتاتين رعدة شديدة ففغرتا ثغريهها 
في فزع وما تلصتان . . , 

- ومتى كانت شقيقتاه خاطيتين! . . . يا سبحان الله 
أينبغي أن أهجر دكاني وعملي وأقبع في البيت لأضبطه 
وأدفع عنه الفساد! 

فهتفت الأ في نبرات باكية : 

خ يتك أشراف البيوت» بالله يا سيّدي إلا ما هوّنت 


عليك الخغضب». انتهى الأمر وكأن ما كان لم يكن. . . 

فصاح الرجل بصوت ملؤه الوعيد: 

- قولي له أن يتاذب ويستحي ويلزم عن لودو وأنّ 
من الخير أن يتفرغ لدروسه . . . 

وسمعت الفتاتان حركة في الداخل فقامتا في حذر 
وابتعدتا عن الباب على أطراف أصابعههما. . . 

رأت الست أميئة أن تغادر اللحجرة كشأنها إذا ند 
عنها عفوًا ما يثير غضبه فلا تعود إليها بعد ذلك إلا إذا 
هاه - ' لذ:.علوقها" العنوربة أن مككها م بدي حال 
الغعضب ثم سعيها إلى تسكينه برقيق الكلام لا يزيد 
النار إلا استعارًا. ووجد السيّد نفسه وحيدًا فزايلته 
آثار الغضب المحسوسة التي تثور عادة في عينيه وبشرة 
وجهه وحركات يديه وكلامه, ولكن بقي الغضب في 
أعياق صدره كالعكارة في قعر القدر. 

من المحقق أنه كان يغضب في البيت لأتفه الأسباب 
لا انّباعَا لخطته الموضوعة في سياسة بيته فحسب»ء 
ولكن مدفوعًا كذلك بحدّة طبعه التي لا تشكمها بين 
آله فرملة الكياسة التي يتقن استع الا خارج البيت» 
وربما ترويحا عا يعاني بين الناس كثيرًا من ضبط النفس 
والتسامح واللطف ومراعاة الخاطر واكتساب القلوب 
بأ ثمن» وليس بالنادر أن يتضح. له أنه استسلم 
للغضب في غير موجب ولكنّه حّى ني تلك الحال لا 
يندم على ما فرط منه لاعتقاده بِأنْ غضبته للثّافه من 
الأمر عسيّة بأن تملع وقوع الخطير منه بما يستحقٌ 
الغضب عن جدارة, بَيْد أنه لم يعد ما بلغه عن فهمي 
ذلك اليوم هفوة تافهة بل رأى فيها نزوة قبيحة لا يجوز 
أن تعتلج في نفس تلميذ من آل بيته. وما كان يتصور 
أن تتسرّب «العواطف» إلى بئيان البيت الذي يحرص 
على أن يشبٌ في جو من النقاء الصارم والطهارة 
المنقشعة. ثُمْ جاءت صلاة العصر فرصة طيبة لرياضة 
النفس خرج منها أهدأ قلبًا وأزوّح بالاء فوسعه أن 
يترئع على سحادة الصلاة ويسط راحتيه ويسأل الله أن 
يبارك له في ذرّيته وماله. وأن يدعو خاضة لفخر أبنائه 
بالهدى والرشاد والتوفيق. فلا أن غادر البيت كان 
تجهّمه مظاهرة يراد بها التخويف لا أكثر. وفي الدكان 


التقى ببعض الأصدقاء فقصٌ عليهم «نادرة اليوم» لا 
كفاجعة لأنه يكره أن يلقى أحدًا بالفاجعات» ولكن 
كدعابة سخيفة؛ فعلّقوا عليها بما حلا لهم من المزاح؛ 
فلم يلبث أن شاركهم مزاحهمء فغادروه وهو يقهقه في 
غير تحفظ. . . بدت له «النادرة» في الدكان على غير ما 
بدت في حجرته بالبيت. وأمكنه أن يضحك منبهاء بل 
وأن يعطف عليهاء حيّى قال لنفسه أخيرًا باسا راضيا 
«من شَابَهَ أباه فا ظلّم». . . 


"5 

حين مرق كمال من باب البيت كان المساء يزحف 

في خطوات حاسمة غاشيًا الطرقات والأزقة والمآذن 
والقباب» ولعله لم يعدل بسروره مبذه الخرجة المفاجئة 
التي قل أن تُتاح له في مثل ذاك الوقت المتآخر إلا زهوه 
بالرسالة الشفوية التي حمله إِيّاها فهمي», فلم يغب عنه 
أنه عهد بها إليه وحده دون غيره» في جو من السرية 
والتكتم الأمر الذي أضفى عليها ‏ وعليه بالتالي - أهمية 
خاصّة أحسّها قلبه الصغير ورقص لحا طربًا وقخارًا. 
وتساءل في عجب عا زلزل فهمي حتّى ركبته حال من 
القلق والحزن بدا في لباسها القاتم شخصًا غريبًا لم يره 
ولم يسمعه من قبل» هو مثال وحده. إِنْ أباه يشور 
كاليركان لأتفه الأسباب. وإِنْ ياسين على حلاوة حديثه 
قابل للالتهاب. حبّى خديجة وعائشة لا تخلوان من 
نوبات عفرتة» هو مثال وحدهء ضحكه ابتسام وغضبه 
تقطيب» وهدوءه عميق على صدق عواطفه وأصالة 
حماسه. فلم يذكر أنه رآه على الحال التي رآه عليها 
اليوم. لن ينسبى كيف نحلا إليه في حجرة المذاكرة: 
بصر زائغ وصوت متهدّج, ولا كيف خخاطبه لأؤل مرة 
في حياته بلهجة توسّل ححارّة عجب لا أشدٌ العجب 
حيّ استوجب حفظ الرسالة التي حملها أن تكرر عليه 
مرّات ومرّات. وقد أدرك من فحوى الرسالة نفسها أنْ 
للأمر صلة وثيقة بالحديث الغريب الذي استرق 
السمع إليه من وراء الباب؛ والذي نقله إلى شقيقتيه 
فأثار بينبما جدلًا ونزاعَاء وبالجملة أنه يتعلق بمريم. 
تلك الفتاة التي كثيرًا ما تعابثه ويعابئهاء ويأنس إليها 


4 بين القصرين 


1 


حيئًا ويضجر منبا حيئًا آخر.ء دون أن يعرف لا هذه 
الخطورة التي أحاطت هدوء أخيه وسلامته. 
مريم؟!. . . اذا استطاعت دون سائر البشر أن تفعل 
هذا كله بأخيه العزيز الرائع!! ووجد في الجو 
غموضًاء كذاك الغموض الذي يكتنف ححياة الأرواح 
والأشباح» والذي طاما استثار حبٌ استطلاعه وخوفه. 
فتوئّب قلبه للنفاذ إلى مكنون سرّه في تطلّع وحيرة. 
ولكنّ حيرته لم تصرفه عن تسميع الرسالة لنفسه كيا 
سمعها لأخيه من قبل حيّى يضمن ألا يضيع منه حرف 
واحد من مضموماء فمرٌ تحت بيت آل رضوان وهو 
يستعيدهاء ثم مال إلى أوؤل عطفة تليه حيث يوجد 
باب البيت. لم يكن البيت بالغريب عنه؛ فطلما تسلل 
إلى فنائه الصغير حيث تنزوي في ركن منه عربة يد 
مندثرة العجلات كان يركبها مستعيئا بخياله على 
إصلاح عجلاتها وتحريكها حيث شاءء وطالما تردد بين 
حجراته بغير استئذان فقوبل بالترحيب والمداعبة من 
رئة البيت وابنتها اللتين يعدّهما وعلى حدائلة سئهع 
صديقتين قديمتين: فكان يألف البيت بحجراته الثلاث 
الى تتوسطها صالة صغيرة وضعت بها ماكيئة خياطة 
وراء النافذة التي تطل على حمام السلطان مباشرة كما 
يألف بيته بحجراته الواسعة وبصالته الكبيرة حيث 
يجتمع مجلس القهرة مساء بعد مساء. وإلى هذا خخلفت 
بعض متعلقات البيت أثرًا في نفسه استجابت له عهدًا 
طويلا من صباه. كعش يامة في أعلى المشربيّة المنّصلة 
بحجرة مريم الذي تبدو حافته فوق ركن المشربيّة 
الملتصق بالجدار كقطع من محيط دائرة يشتبك حوله 
القش والريش ويلوح منه أحيانًا ذيل اليامة الأمّ أو 
منقارها كيفا انّفق وضعها فيتطلع إليه تتنازعه رغبتان. 
إحداهما وهي المنبعثة من نفسه ‏ تدعوه إلى العبث به 
واختطاف الصغار والأخرى ‏ وهي المكتسبة عن اهن 
توقفه عند حدٌ التطلّم والعطف والمشاركة الخياليّة في 
حياة الييامة وأسرتهاء وكصورة للسفيرة عزيزة معلّقة 
بحجرة مريم أيضًا زاهية الألوان رقراقة البشرة وسيمة 
القسمات فاقت بجاها الحسناء التي تطالعه صورتها 
عصر كل يوم بدكان ماتوسيان فكان يديم النظر إليها 


متسائلًا عن «حكايتها» فتقصٌ عليه مريم من أنبائها ما 
تعلم وما لا تعلم بزلاقة لسان تستهويه وتستأثره. لم 
يكن البيت بالغريب عليه إذن» فشقٌ سبيله إلى الصالة 
دون أن يشعر به أحد. وألقى على أولى الحجرات نظرة 
عابرة فلمح السيّد محمد رضوان راقدًا في فراشه كما 
اعقاد أن يراه منذ سنوات. كان يعلم أن الشيخ 
مريضص» وقد سمع عنه كثيرًا أنه مشلول» حيّى سأل 
أمّه مرّة عن معنى الشلل. . . فجرعت وراحت تستعيذ 
بالله من شر الاسم الذي نطق به فانكمش متراجمًاء 
ومنل ذاك اليوم والسيّد يستثير رثاءه واستطلاعه المقرون 
بالخوف. ثم مرٌ بالحجرة التالية فرأى أمّ مريم واقفة 
أمام المرآة وبيدها ما يشبه العجين تمطه فوق خدها 
وعلقها وتجذبه جذبات سريعة متتابعة ثم تتحسس 
موضعه من بشرتها بأناملها لتعرف مسّه وتطمئنّ إلى 
نعومته. ومع أنّبا كانت فوق الأربعين إلا أنّْبا كانت 
بارعة الحسن كابنتهاء شغوفة بالضحك والدعابة» فيا 
تلقاه حتّى تقبل عليه في مرح فتقبله ثم تسأله فيها يشبه 
نفاد الصير «متى تبلغ رشدك لأتروجك؟» فيعلوه الحياء 
والارتباك وإن استلذ مداعباتها ووذ الإكثار منها. وكم 
أثارت فضوله هذه العمليّة الى تعكف عليها من حين 
لآخر أمام المرآة» وقد سأل أمّه عنبا مرّة فنهرته ‏ والغهر 
أقصى ما تمارس من ضروب التأديب ‏ مؤثبة إيّاه على 
سؤاله عدا لا يعنيه. بيد أن أمّ مريم أكبر سماحة ورقة 
فل) لحظته مرّة يرمقها بدهشة أوقفته على مقعد أمامها 
ولرقت بأنامله ما حسبه أول الأمر عجينة وبسطت له 
صفحة وجهها وقالت ضاحكة «اشتغل وأرني 
شطارتك» فمغى يقلّد حركاتها حي أثبت لما شطارته 
بخفة عَبَطَنْه عليهاء ولكنّه لم يقنم بلذّة التجربة فسألا 
«لماذا تفعلين هذا؟؛ فقهقهت «هلا انتظرت عشرة 
أعوام أخرى حي تعرف بنفسك؟! ولكن لا داعي 
للانتظار أليست البشرة الناعصسة أحسسن من 
الخشلة؟... هذه هي؟. . .» وقد مر بباءها بخفة حي 
لا يشعرها بنفسه لأنْ رسالئه كانت أخطر من أن 
تسمح له بمقابلة أحد إلا مريم وحدها التي وجدها في 
الحجرة الأخيرة متربّعة على فراشها تقزقز لبا وبين يديها 


طبق فنجان قد امتلاً بالقشر فلا رأته قالت بدهشة: 
ب كيال!... «وكادت تسأله عمًا جاء به في هذه 


الساعة ولكنّها عدلت عيًا هت به أن تخيفه أو 


محجله»... شرفت البيت... تعال اجلس إلى 
جانبي . . . 
فمدٌ لها يده بالسلام. ثم فك أزرار حذائه ذي 
الرقبة الطويلة وخلعه؛ ووثب إلى الفراش في جلباب 
مقلم وطاقكة ١‏ رقاء«عسيتنة سخطرط عقراء ...حكنت 
مريم ضحكاتها الرقيقة ودسّت في يده شوية لب وهي 
تقول : 

قزقز يا عصفور وحرّك أسنانك اللؤلؤية. . 
أتذكر يوم عشضضت معصمي وأنا أدغدغك , , 
هكذا. . , 

ومدّت يدها صوب إبطه ولكنّه - بحركة عكسيّة ‏ 
شبك ذراعيه على صدره ليحمي إبطيه. وندّت عنه 
ضحكة عصييّة كا لو كانت أناملها دغدغته بالفعل» 
دي 

في عرضك يا أبلة مريم. . 

فأمسكت عنه وهي تتعججب من خوفه قائلة : 

ا ا لا 
أبالي بها . 

وراحت تدلغدغ نفسها باستهانة وهي ترميه بنظرة 
ازدراء فلم يملك أن قال لما متحذيا: 

دعيي أدغدغك أنا وسنرى! 

فما كان منها إلا أن رفعت ذراعيها فوق رأسها 
فغرس أصابعه تحت إبطيها وراح يدغدغها بما وسعه 
باح رصيق داعي ل معنن ال رن 
الجميلتين ليتلقّف أوّل بادرة تَضْعْضع عنهاء حت 
اضطرٌ أن يستردٌ يديه متتّدًا في يأس وخجل فشيعته 
بضحكة رقيقة سائخخرة وقالت: 

- أرأيت أيّبا الرجل الصغير العاجرا. . . لا تزعم 
أنك رجل بعد اليوم «ثمٌ لي من تذكر أمرًا هامًا 
نسيت أن تقبلبي!... ألم 
ا ايان د قبلة؟ | 

وأدنت وجهها منه فمدّ شفتيه ولثم حدّهاء ثم رأى 


بعتة؛ . . . يا داهيتي! . . 


بين القصرين ؤم 

فتانًا من اللبّ المتسئب من زاوية فيه قد التصق بِحْدّها 
فأزاله بأنامله في حياء. أما مريم فتناولت ذقنه بأنامل 
يمناها وقبلت شفتيه مرة ومرّةء ثم سألته فيها يشبه 
الإعجاب : 

- كيف استطعت أن تفلت من بين أيدييم في هذه 
الساعة؟!... لعل تيزة تبحث عنك الآن في كلّ 
حجرات البيت, 

آه لقد استنام إلى الحديث واللعب حتّى أوشك أن 
يسى الرسالة التى جاء من أجلهاء ولكنّ تساؤها ذكره 
بمهمته فرنا إليها بعبن أخرى . العين التي تودٌ أن تنشّب 
في ذاتها عن السرٌ الذي زلزل أخاه الرزين الطيّب, إلا 
أن تشوّفه تبافت حيال شعوره بأنّه يحمل أنباء غير 
سازة ‏ فقال بوجوم : 

- فهمي الذي أرسلني . 

ازتسفت ل غينيها ار ندييدة فيضن هذاه 
وتفرّست في وجهه باهتام لترى ما وراءه فشعر بِأنْ 
الج قد تغيّر كأنما انتقل من فصل إلى فصلء ثم 
سمعها تسأل بصوت خافت: 

له ؟ | 

فقال لها بصراحة دلت عل أنّه لم يقدّر خطورة 
الأنباء التي يحملها رغم شعوره الفطريّ ببخطورتها: 

- قال لي بلّغها تحيّاق وقل ها إِنّه استأذن والده في 
حطبتها ولكنّه لم يوافق على أن يعلن خطبته وهو 
لمعل بوظليه إليه أن برعطر حل يع عراسعه. 

كانت تحدق إلى وجهه باهتام شديد فلا بلغ 
السكورت خفضت عينيها دون أن تبس بكلمة. 
فغشيت الحلسة صمتة واحمة ضاق لبها قلبه الصغير, 
وتلهّف على كشفها مهما كلّفه الآمر فقال: 

إِنّه يؤّد لك أن الرفض جاء على رغمه واأنّه 
فيكل البين فلن فذق دا مدن : 

ولا لم يجد لكلامه أثْرًا في إخراجها من غشاوة 
الصمت ازداد تلهفه على إعادتها إلى ما كانت عليه من 
بهبجة ومرح فقال بإغراء : 

هل أحدّثئك عا دار بين فهمي وبين نيئة من 
حديث عنك؟ 


4" بين القصرين 

فتساءلت بلهجة بين الاكتراث وعدمه: 

ماذا قال وماذا قالت؟ 

فانشرح صدره ببذا النجاح الجرئيّ وقص عليها ما 
ترامى إليه من حديث من وراء الباب حبّى أى عليه 
فخيّل إليه أنها تتبدى ثم قالت بتبرم : 

إن والدك رجل شديد معخيفء. الكل يعرفه 
هكذا. 

فقال وهو لا يدري : 

- نعم . . . أبي كذلك. 

ورفع رأسه إليها في موف وحذر ولكنّه وجدها 
كالغائبة: فساطا متذكّرًا ما وضاه به أخوه: 

ماذا أقول له؟ 

فضحكت من أنفها وهي تبر كتفيهاء وشمت 
بالكلام ولكتها أمسكت متفكرة مليّاء ثم قالت وقد 
التمعت في عينيها نظرة ماكرة : 

- قل له إثها لا تدري ماذا تفعل لو تقدّم لها خاطب 
في أثناء هذه المدّة الطويلة من الانتظار! 

وعني كال بحفظ الرسالة الجديدة أكثر مما عني 
بفهمهاء وسرعان ما شعر بأنْ مهمّته قد انتهت فأودع 
بقيّة اللبّ جيب جلبابه» ومدٌ ها يده بالسلام؛ ثم 
انزلق إلى أرض الحجرة خارجا. 


5 

بدت عائشة وهي تنظر في المرآة شديدة الإعجاب 

بنفسهاء دون الأسرة اللامعة.» بل أيّ فتاة في الحيّ 
كلّه تتحل بمثل هذه الخصلات الذهبيّة وهاتين العينين 
الزرقاوين؟! إنْ ياسين يتغزّل بها جهارّا. وفهمي لا 
يخلو إذا تحدّث إليها لأمر أو لآخر من نظرات تنم عن 
الإعجاب. حتّى كال الصغير لا يحلو له الشراب من 
قل إلا من الموضع البتل بريقهاء وهذه أمّها تدلّلها 
فتدعوها «قمر» وإن لم دف قلقها نحو نحافتها ورقتها 
الأمر الذي جعلها تحثٌ أمْ حنفي على تركيب وصفة 
لتسميها. أمَا عائشة فلعلها كانت أعرف الجميع 
بحسها البارع كما تدلٌ عليه عنايتها الشديدة به 
واستثناسها إليه. على أن هذه العناية المفرطة لم تمر 


بخديجة دون تعليق» بل مؤاخذة وتقريعء لا لأنها 
تستنيم إلى الإهمال فالحقٌّ أنْ خديجة هي الوريثة الأولى 
لأمها في الواقع بالنظافة والأناقة.» ولكن لأثها رأت 
الفتاة تستقبل النهار عادة بتمشيط شعرها وإصلاح 
هندامها حيّى قبل القيام بواجبات المنزل كأنها لاا تطيق 
أن يبقى جماها ساعة من العمر غير حاط بالعناية 
والرعاية» ولكن لم تكن العناية بالجمال وحدها هي 
الباعث على هذا التجمّل الباكرء فعند ذهاب الرجال 
كل إلى عمله ‏ تأوي إلى حجرة الاستقبال وتفرّج بين 
ضلفي الشبّاك المطلّ على بين القصرين زيقًا رقيقًا 
فتقف وراءه مادّة بصرها إلى الطريق يعلوها قلق 
الانتظار واضطراب الخوف. هكذا وقفت ذاك الصباح 
فظلٌ طرفها حائرًا ما بين حمّام السلطان وسبيل بين 
القصرين وفؤادها الف يواصل نحفقاته حتى تراءى عن 
بُعد «النت.» وهو ينعطف قادمًا من الخرئفش خاطرًا 
في بذلته العسكريّة والنجمتان تلمعان على كتفه. 
وجعل كلما اقترب من البيت يرفع في حذر عينيه دون 
رأسهى حيٌ تدانى من البيت فهفت في أساريره ابتسامة 
خفيفة آية في الخفّة- تدرّك بالقلب أكثر مما تدرك 
بالحواس ‏ كأنبا الغلال في ليلته الأولى» ثم اختفى 
نحت المشربية فاستدارت في عجلة لتتابع مشاهدته من 
النافدة الأخرى المطلّة على النسّاسين فا راعها إلا أن 
ترى خخديجة منتصبة على الكنبة بين النافذتين ملقية 
بنظرها على الطريق من فوق رأسها! . . . 

فرّت منها آهة, وانسعت عيناها في رعب فاضح » 
فتسمرت في موقفها... متى وكيف جاءت! كيف 
علت الكنبة دون أن تشعر بها؟!... وماذا 
رأت؟!..., هتى وكيف وماذا؟ أما خديجة فقد ثبتت 
بصرها وهي تضيّق عينيها رويدًا صامتة؛. مطيلة 
المت كأئما لتطيل تعذيبهاء ثم تمالكت عائشة بعض 
نفسها فخفضت عينيها في جهد شديد ومالت نحو 
الفراش متظاهرة ‏ عبمًا ‏ بضبط الأعصاب وهي 
لغمغم : 

- أرعبتنيى يا شيخة! 

م يبد نحديجة اكتراناء ظلّت بمموقفها على الكنبة 


وعيناها إلى الطريق خلل الزيق... ثم تمتمت 
ساخرة : 

د ارععباك ا ين ام الله هلك ابي أطفل 
بعبع ! . 

وعضت عائشة على نواجذها في غيظ وحنق وياس 
بعد أن تراجعت قليلا إلى مأمن من عينيهاء إلا أمها 
قالت بصوت هادى: 

رأيتك فجأة فوق رأمى دون أن أشعر بدخولك. 
لاذا تسترقين الخطو؟ ْ 

فوثبت نخديجة إلى الأرض» ثم جلست على الكنبة 
في استرخاء ساخر وهي تقول: 

آسفة يا أخحتي. في المرّة القادمة سأعلّق جرسًا في 
عنقى مثل عربة المطاق لتنتبهي إلى حضوري فلا 
لعي 

فقالت عائشة في ضيق والرعب لم يفارقها: 

لا لزوم لتعليق الجرس. حسّبك أن تسيري 
كالناس الذين خلقهم ريّنا. . . 

فقالت الأخرى بنفس اللهجة الساخحرة وهي ترميها 
بنظرة ذات معبى : 

- ربّنا يعلم أن أسير كالناس الذين خلقهم» ولكن 
الغلاهر أنّك إذا وقفت وراء النافذة ‏ أقصد وراء هذا 
الزيق - استغرقت فيما أمامك بحيث تفقدين الوعي بما 
حولك فلا تبقين كالناس الذين خلقهم ريّنا. 

فلفخت عائشة متمغمة: 

هكذا أنت دائيا. 

وعادت خديجة إلى الصمت قليلاء ثم حولت 
عينيها عن فريستهاء ورفعت حاجبيها كأئما تفكّر في 
مشكل عسيرء ثم تظاهرت بالسرور كأما اهتدت 
للحل الموفق» وقالت مخاطبة نفسها هذه المرّة دون أن 
تنظر إلى الأخرى : 

- إذن هذا فهي تعْئّى كثيرًا ويا بو الشريط الأحمر يا 
7 أسرتني ترحم ذلي!»!.. وكم حسبته بسلامة ني 
غناء بريثًا لمجرّد التسلية! 

وحفق قلب الفتاة خفقة قاسية؛ وقم المحذور ولم 
يعد ينفع التعلّق بأوهام الأمايّ الكاذبة. وركبها 


بين القصرين 46م 

اضطراب زلزل أركان نفسها فكادت تَشْرَق بالبكاءء 
إلا أن اليأس نفسه دفعها إلى الاستتاتة في الذود عن 
نفسها فهتفت بصوت طمس اضطرات ثيراته معانيّه : 

- ما هذا الكلام غير المفهوم؟! 

ولكن لم يَبِدُ على نخديجة أنّبا سمعت كلامها 
فواصلت مخاطية نفسها قائلة : 

- وهذا أيضًا تتزيّن في الصباح الباكرا طالما ساءلت 
نفسي أيعقل أن تتبرّج بنت قبل الكنس والمسح 
والتنفيض؟! ولكن أي كنس وأيّ تنفيض يا خديجة يا 
مسكيئة, يا من ستعيشين بلهاء. وتموتين بلهاء» اكسي 
أنت ونفضي أنت. ولا تتزيّنى لا قبل العمل ولا حيّى 
بعدهء ولاذا تتزينين يا تعيسة؟! انظري من زيق 
الشباك من اليوم إلى الغد فإِن اعتنى بك عسكري 
دورية أقطع ذراعي ! 

فهتفت عائشة في اضطراب وعصبية : 

حرام عليك. . . حرام . 

- لها حقّ يا نجديجة» هذه فنون لا تستطيعين فهمها 
بعقلك المظلمء عيون زرق؛» وشعر من سبائك 
الذهب. شريط أحمر ونجمة لامعة؛ شيء مفهوم. 
شىء مفهوم ومعقول. 

خديجة» أنت محطئة. كنت أنظر إلى الطريق 
فحسبء لا لأرى أحدًا ولا ليراني أحد, 

فالتفتت نخحديجة إليها كأنما تنتبه إلى اعتراضها لأوؤل 
مرة وتساءلت كالمعتذرة: 

هل تخاطبينني يا شوشو؟! لا مؤاخذة إني أفكر في 
بعض الأمور الهامّة فأجلي حديثك إلى حين. . . 

وعادت تبز رأسها في تفكير وتخاطب نفسها قائلة : 

- شي» مفهوم ومعقول. ولكن ما ذنبك أنت يا سيد 
أحمد عبد الجواد؟ أسفي عليك يا سيد يا شريف يا 
كريم؛ تعال شوف حريمك يا سيدي وتاج راسي !| 

وقف شعر الفتاة عند سماع اسم أبيهاء فدار 
رأسهاء ورد على ذهنها قول السيد لأمها وهو يحمل 
على رغبة فهمي في خخطبة مريم: «أخبريني هل 
رآها!؟». . . وما كنت أحسب أن لي أبناء يسترقون 
النظر إلى حرمات الجيران». هذا رأيه في الابن فكيف 


كه" بين القصرين 
يكون في البنت! وهتفت بصوت مخنوق النبرات : 

دقة ...ال يلبق هيلا ...انق غطقة:, 
أنت مخطكة , , 

ولكنّ خحديجة تابعت ححديثها دون التفات إليها: 

- ترى أهذا هو الحبٌ؟! يمكن! ألم يقولوا عنه: 
«الحب كبش في قلبي . . . قرّبت أروح منه طوكر: . 

ترى أين طوكر هذه؟! لعَلّْها في النحخاسين. بل 
لعلّها في بيت السيّد أحمد عبد الحواد . 

لم أعد أحتمل كلامك؛ ارحميني من لسانك؛ 
ربّاه. . . لماذا لا تصدّقيئني؟ ! 

- تدثري أمرك يا نحديجة ليس ما نحن فيه لعباء 
وأنت الأخت الكرى, والواجب هو الواجب مهما بدا 
مرْاء يجب أن يعلم أولو الشأن. هل تفضين بالسرّ إلى 
والدك؟! الحقٌ أني لا أدري كيف أخخاطبه في مثل هذا 
الس الخطير. ياسين؟! ولكنّه كعدمه وغاية ما يرجى 
منه أن يترنّم بكلام غير مفهومء فهمي؟ ولكنه يعطف 
بدوره على الشعر الذهبيّ أصل البلوى كلّهاء أظنّ من 
الأفضل أن أخير نيئة. وأترك ها التصرّف مما ترى. 

وندّت عا حركة كأئها هم بالقيام فهرعت عائشة 
إليها كدجاجة مذبوحة وأمسكت بكتفيها صائحة 
بصدر يعلو وبنخفض: 

ماذا تريدين؟ 

فتساءلت خيدنحة : 

أتبددينني؟ ! 

هت عائشة بالكلام فخنقتها العبرات بغتة وهينمت 
بكلام مزّقه البكاء شرّ تمزق» وجعلت خديجة تحدّق 
إليها صامتة متفكرة» ثم زايل أساريرها عبث السخرية 
حتّى تجهم وجهها وهى تصغي في غير ارتياح إلى نشيج 
الفتاة» ثم قالت بلهجة جذيّة لأول مزة: 

لقد أحطات يا عائشة , 

وأمسكت ووجهها يشتدٌ تجهّمهء وكأن أنفها ازداد 
بروراء وبدا عليها التأثر واضِحًا فاستطردت قائلة : 

- يجب أن تقرّي بخطئك. ختريني كيف سولت 
لك نفسك هذا العبث يا مجنونة؟ ا 

فغمغمت عائشة وهي تجفف عينيها: 


هانق سين الظن نين.. 

فنفخت خديجة مقطبة كأئما ضاقت ببذه المكابرة 
الضائعةء بيد أمّبا عدلت بهائيًا عن نيّة الاعتداء أو 
حبّ المعابثة إِمْها تعرف دائمًا أين ومتى تقف فلا تجاوز 
الحدّء وقد أشبعت السخرية ميولها العدوانيّة القاسية 
فقئعت بها ى] تقنم بها عادة» ولكن بقيت لديها ميول 
من نوع آخر- أبعد ما تكون عن العدوان والقسوة ‏ لم 
تشبع بعد ميول تنبعث من عاطفة الأخت الكبرى. 
بل من عاطفة أمومة لا يخطثئها فيها أحد من الأسرة 
مهما اشتدّت حملتها عليه. وتحت تأثير الرغبة في إشباع 
هذه الميول الوديّة قالت: 

لا تكابريء لقد رأيت كل شيء بعيني » لسث 
الآن أهزل ولك أريد أن أصارحك باك أخطات 
خطأ كبيراء هذا عبث لم يعرفه هذا البيت في الماضي 
ولا يود أن يعرفه في حاضره أو مستقبله, إِنّْه الطيش 
وحذه هو الذى أوقعك فيه أصغي إل واعقلي 
نصيحتي, لا تعودي إلى هذا أبدّاء لا يخفى شيء وإن 
طال كتانهء فتصوّري ماذا يكون أمرنا جميعًا لو لمحك 
أحد من الخيران؛ وأنت أدرى باألسنة الناس» تصوري 
ماذا يكون لو نمى الخبر إلى أبى والعياذ بالله ! 

فنكست عائشة رأسها تاركة الصمت يعثر عن 
اعترافهاء وقد تضِرّج وجهها بحمرة الخجل. ذلك 
الدم الذي ينزفه الضمير في الداخل إذا جرحته 
خطيئة. وعند ذاك تبّدت خديجة قائلة : 
فبنطة انور ناته لجنيا تيا ماو ألم يَرّكِ؟ فاذا 
يقعده عن أن يتقدّم لك مثل الرجال الشرفاء؟ وقتها 
نقول لك مع ألف سلامة؛ بل في سثّين داهية يا 


بس حذار. سذار. فاهشمة؟ مافاءة 


007 
5 عائشة أنفاسهاء فافترٌ ثغرها عن ابتسامة 
لاحت كلمعة اليقظة الأولى في العين عقب غيبوبة 
طويلة, وكأنْ خديجة عر عليها ‏ برؤية هذه الابتسامة ‏ 
أن تفلت الفتاة من قبضتها بعد أن نعمت بامتلاكها 
فترة طويلة فصاحت بها: 
- لا تظئي أنّك بلغت برّ الأمانء إِنْ لساني لا 


يسكت إذا لم تحسني مشاغلته. . . 

فتساءلت الأخرى في ارتياح : 

ماذا تعنين؟ 

- لا تتركيه وحده حيٌ لا تعاوده نزعة الشرء أطيه 
بشىء من الحلوى ليشغل بها عنك. علبة مليّن مغلا 
من شنجرلي. . . 

لك ما تشتهين وأكثر. 

وساد الصمت فشغلت كلتاهما بأفكارها. على أن 
قل نخديجة كان كيا كان من بادئ الأمر ‏ مرتعا 
لضروب من المشاعر هتباينة . . . غيرة وحلق وإشفاق 
وحئان. . 


3 

كانت ست أمينة مشغولة بإعداد أدوات القهوة 
استعدادًا لجلسة العصر التقليديّة فجاءتها أمم حنفي 
مهرولة» يبشّْر لمعان عينيها بأنباء سارّة. ثم قالت 
بلهجة موحية : 

سئّى ثلاث سيّدات غريبات يرغبن في 
زيارتك , . . 

أخلت الأمّ يديها من كل شيء» وانتصبت قامتها في 
عجلة دلّت على تأثير الخبر في نفسهاء وحدجت الخادم 
بسظرة اهتيام شديدة كأنه من المحتمل أن تكون 
الزائرات من البيت المالك أو من السماء نفسهاء ثم 
تحتمت استزادة من التوكيد: 

غريبات؟ ! 

فقالت أمْ حنفي بلهجة تنم عن فرحة الظفر: 

نعم يا سي طرقن الباب ففتحت لمن فقلن لي 
«أليس هذا بيت السيّد أحمد عبد الجواد؟؛ فقلت طن 
«بل» فقلن «الهوانم فوق؟» فقلت «نعم» فقلن «لريد 
أن نتشرّف بالزيارة» فسألتهن «أقول من الزائرات؟) 
فقالت لي إحداهنٌ ضاحكة «دعى هذا لناء وما على 
الرسول إلا البلاغ» فجئتك يا سيِّى طائرة وأنا أقول 
لنفسي «يا رب حمق لنا الأحلام». . 

فقالت الأمّ بعجلة دون أن يزايل الاهتمام عينيها : 

- ادعيهنٌ إلى -حجرة الاستقبال. . . أسرعي . . 


بين القتصرين لا“ 


ولبثت دون حراك ثواني» مستغرقة في خواطرها 
الجديدة, في الحلم السعيد الذي تفتّحت لما دنياه 
الغنّاء فجأة وإن بدا شغلها الشاغل طول الأعوام 
الأنحيرة, م أفاقت إلى نفسها فئادت خديجة بلهمحة لا 
نحتمل التأجيل فنجاءت الفتاة على الأثرء وما إن التقت 
عيناههما حي غلبها الابتسام وقالت وهي لا تملك نفسها 
من الفرح: 

ثلاث سيّدات غريبات في حجرة الاستقبال. . . 
ارتدي خير ملابسك. . . واستعدّي . . . 

ولمًا تورّد وجه خحديجة تورّد وجهها أيضا كأنما 
التقلت إليه عدوى الحياء؛ ثم غادرت الصالة إلى 
حجرتها في الدور الأعلى لتستعدٌ بدورها لاستقبال 
الزائرات. وجعلت خديجة تنظر إلى الباب حيث 
اختفت أمهاء غائبة الطرف. وقلبها يخفق للحَدٌ الألم 
متسائلة (ما وراء هذه الزيارة؟» ثم نزعت نفسها من 
موقفهاء وسرعان ما استردٌ عقلها نشاطه الفائق فنادت 
كيال الذي جاءها من حجرة فهمي فبادرته قائلة : 

اذهب إلى أبلة مريم وقل لما إن خديجة تقرئك 
السلام وترجوك أن ترسلى ا معي علبة البودرة 
والكحل والأحمر. . . 

وتلقّف الغلام الأمر وهو يعدو إلى الخارجء أما 
خديجهة فأسرعت إلى حجرتها ومضت تخلع جلبابها 
وهي تقول لعائشة التى -حظتها بعين متسائلة . 

اختاري لى أحس فستان. ,.. أحسن فستان بلا 

فتساءلت عائشة : 

ما الداعي إلى هذا الاهتام؟ . . . 

فقالت نخديجة بصوت نحافت: 
. ثم وهي تضغط على مخارج 
مع عوينات 1 


زائرة؟! من؟! 


د ثلاث سيدات . 
اللفظ؛ . 

فتراجع رأس عائشة في دهش, ثم انسعت عيناها 
الحميلتان سرورًا. وهتفت: 

آه. . . هل يفهم من هذا أنَّ. . . يا له من خير! 

لا تتسرّعى في الحكم . . فمن يدري عم هناك . . 

فاتجهت عائشة نحو صوان الملابس لتنتقي الفستان 


بين القصرين 
المناسب وهي تقول ضاحكة : 

في الجر شيء. . إنْ الشرح يُشْمّ كالروائح 
الركيّة . . . 
فضحكت خديجة لتخفي اضطرابهاء واقتربت من 
المرآة ونظرت إلى صورتها بإمعان» ثم أخفت أنفها 
براحتها وقالت بتهكم : 

لا بأس بوجهي الآن. وجه مقبول» «ثمّ رافعة 
راحتها». . . أمَا على هذه الحال فريّنا وحده المنسجي ! 

فقالت عائشة ضاحكة وهي تساعدها في نفس 
اتوقت قل ازقداء سهان آبيقن موئى. بازفبار 
- لا تغمطي نفسك... ألا يسلم شىء من 
لسانك!... ليست العروس أنفًا فحسبء. هناك 
العينان والشعر الطويل» والدم الخفيف| 

فلوت تخدئجة بوزها قائلة : 

ف لكات ترس : إلا العيوت.. 

هذا صحيح بالقياس إلى من على شاكلتك من 
الناس» ولكن ليس كل الئاس على شاكلتك واللحمد 
لله . , 

- سوف أجيبك حين أفرغ لك. . . ! 

فرئتت الأخرى على خاصرتها وهي تسوي الفستان 
قائلة : 

ولا تنسي هذا الجسم البض الممت. . . يا له من 
جسم ! . 

فضحكت حخحديجة في سرور وقالت: 

- ادق كان العريمن اعبى نا :عملت عسيانا 
لشيء. . . وإن أرضى به في تلك ال حال ولو كان شِيحُما 
من شيو الأزهر. . . 

- وماذا يعيب شيوخ الأزهر!. . . أليس منهم مُن 
خيراته كالبحر؟! 

ولسمًا فرغتا من الفستان ندّت عن عائشة نغمة تأفف 

ماذا بك؟ 

فقالت بتذمر؛ 

- ليس في بيتنا كلّه نقطة بودرة أو كحل أو أحمر كأن 


ليس به نساء. . . ؟! 

من الأفضل أن تبلّغي هذا الاحتجاح لوالدنا. . . 

- أليست نيئة سيّدة ومن حمّها أن نتريّن؟ 

- إنْها جميلة هكذا بلا زينة! 

وحضرتك؟ هل تلقين الزائرات هكذا؟ 

فقالت نخحدئجة ضاحكة : 

- أرسلت كمال إلى مريم ليعود بالبودرة والكحل 
والأحمرء وهل وجهي وجه أقابل به الخاطبات عاطلا؟ ! 

ولمَا كان الوقت لا محتمل تبديد دقيقة بلا عمل 
فقد نزعت خديجة منديل رأسها وأخذت تحل ضفيرتيها 
الغليظتين الطويلتين». على حين جاءت عائشة بالمشط 
وراحت شط شعرها المسترسل وهي تقول: 

عريا اسفن قتع فيفل طون .ىم افا ترارك# فاجد اه 
في ضغيرة واحدة. ألا يكون ذلك أروع؟ 

- بل ضفيرتين. . . ولكن خيريني هل أبقي الجراب 
في قدميّ أو أدخل عليهنّ عارية الساقين؟ 

- إن الوقت شتاء يستوجب لبس الجراب ولكبْي 
أخحثى إذا أبقيته أن يحسبنّ بساقك عيبا تتعمدين 
إخفاءه , , . ! 

- صدقتء إِنْ المحكمة أرحم من الحجرة التي 
تنتظرني الآن. .. 

قوى قلبك» ربنا يوعدنا. . . 

وهنا دخل الحجرة كال مسرعًا وهو يلهث فقدّم إلى 
أنحته أدوات الزينة وهو يقول: 

- قطعت السلّم والطريق جريًا. .. 

فقالت له خحديحجة باسمة : 

عفارم: عفارم. . . ماذا قالت لك مريم؟ 

- سألتنى هل عندنا ضيوف. . . ومن هنّء فأجبتها 
بأني لا أدري . . . 

فتجلّت في عيني نخديجة نظرة اهتمام وهي تساآله : 

- وهل قنعت مِبْذه الإجابة؟ 

- حلفتني بالحسين أن أصرح لما بما عندي فحلفت 
ها بأنه ليس عندي غير ما قلت. . . 

فضحكت عائشة قائلة ويداها لا تكفان عن 


العمل : 


ستخمن ما هنالك, . 

فقالت خديجة وهي تذرٌ البودرة على وجهها: 

إنها بنت هرمةء وهيهات أن يفوتها شيء. 
وأراهنك على أْها سوف تزورنا غدًا على الأكثر لإجراء 
0 

ولم يشأ كمال أن يغادر الحجرة ىا كان المنتظرء أو 
لعلّه لم يستطع مغادرتها تحت إغراء المشهد الذي ينل 
أمام عينيهء والذي يراه لأول مرّة في حياته فلم يسبق 
له أن رأى وجه أخته وهو يلقى هذا التغيّر الذي 
استحال معه وجهًا جديدّاء البشرة تبيضٌ والوجنتان 
تتورّدان والعينان تصطبغ أشفارهها ا لطيف يرسم 
لها حدودًا جذابة ويضفي على حدتتيهما صفاء ببيجاء 
وجه جديد هش له قلبه فطرب هاتفا: 

- أنت يا أبلة الآأن كالعروس التِى يشتريها بابا في 
مزلك الف م 

فضحكت الفتاتان» وسألته نخديجة : 

هل أعجبك الآن؟ 

فاقترب منها مسرعًا ومدّ يده صوب أرنبة أنفها وهو 
يقول: 

لو تزول هذه! 

فتفادت من يله لم قالت لأنختها : 

أخرجي هذا النّام . 
عائشة على يده وجذبته إلى الخارج رغم 
مقاومته حيّ أخرجته وأغلقت الباب. ثم عادت إلى. 
استكناف عملها الجميل» فواصلتا نشاطههما في صمت 
من المتفق عليه في الأسرة أن 
تقتصر مقابلة الخاطبات على خديجة ووحدها إلا أنّ 
الفتاة قالت لعائشة على سبيل المكر: 

- ينبغي أن تتأهبي أنت أيشًا لاستقبال الزائرات. 

فقالت عائشة بمثل مكر أنحتها: 
- لن يكون هذا قبل أن نزثي إلى عريسك! 
ثم استدركث قائلة قبل أن تتكلّم خديجة : 
أمًا الآن فكيف للنجوم أن تطلع مع القمر؟! 
فرمتها أخنتها بلظرة مستريبة وتساءلت: 
- من يكون القمر؟ 


يذ 5 


وجدٌ. ومع أنه كان 


بين القصرين 841" 

فقالت عائشة ضصاحكة: 

عاظيعا نال 

فلكزتها بكوعهاء ثم تنبدت قائلة : 

- لو تعيرينبي أنفك كا أعارتني مريم علبة بودرتها! 

- تناسبي أنفك ولو الليلة على الأقلّ. إن الأنف ‏ 
كالدمل ‏ يضخم بالدأب على التفكير فيه!. . 

أوشكتا عند ذاك على الفراغ من عملية 5 
فتراخمى انتباه خمديجة عن التركيز في مظهرها وانجه في 
رهبة إلى موقف الامتحان الذي ينتظرها فشعرت 
بخوف لم تشعر بمثله من قبل» لا بالقياس إلى جذته 
فحسب ولكن - قبل كل شيء ‏ بالقياس إلى خطورة 
عواقبه. وما لبنت أن قالت متشكية : 

أيّةَ جلسة هذه التي قضي عل بها!.. . تصوّري 
نفسك في مكاني» بين نسوة غريبات لا تدرين أي 
خُلّق خُلْقهنَ ولا أيّ أصل أصلهنٌء وهل جتن بنيّة 
صادقة أو لجرّد الفرجة والتسلية» وماذا يكون من 
أمري لو كنّ عيّابات شتامات (ثمٌ ضاحكة ضحكة 
أجلس بينبنٌ في أدب واستسلام أتلقى نظراتينئغ من 
اليمين والشهال؛ ومن الأمام والخلف» وأصدع بأمرهن 
بلا أدنى تردّدء إذا طلبن قيامًا قمت» أو مشيًا مشيت 
أو كلامًا تكلّمت حي لا يفوتمنٌ شيء من جلوسي 
وقيامي وصمتي وكلامي وأعضائي وقسماتي, وعلينا بعد 
هذه «البهدلة» كلها أن نتودّد إليهنّ ونُطري لطفهنٌ 
وكرمهنٌ, ثم لا ندري بعد ذلك أنفوز بالرضى أو نفوز 
بالغضب:ء أف... أف. . . ملعون الذي أرسلهنٌ! 

فعاجلتها عائشة قائلة بلهجة ذات معنى : 

بعد الشر عنه! 

فقالت نحديجة ضاحكة أيضا: 

لا تدعي له حبّى نتأكد أنه من نصيبنا. . . آه يا 
رب كم أن قلبي يدق!. . 

فتراجعت عائشة خطوة خطوة عن مرمى كوعها 
وقالت: 


هه؟ وماذا بوسعى إلا أن 


- صبرك. . . ستجدين في المستقبل فرصا كثيرة 
للانتقام من مجلس اليوم الرهيب» فكم سيصلين من 


٠‏ بين القصرين 

قا لعائلق والتق سيت السك ولعلين يذكون 
امتحان اليوم وهنْ يقلن لأنفسهنٌ يا ليت الذي جرى 
ما كان!... 

وقنعت تحديجة بالابتسام. لم يكن في الوقت متسع 
لرد المجومء ولم تجد في الهجوم ‏ الذي تجد فيه عادة 
سرورًا شافيًا ‏ لذّة على الإطلاق لغلبة الرهبة على 
نفسها وحيرتها بين اللخنوف والرجاءء ولما فرغتا من 
:'مهمته) وقفت تلقي على صورتها نظرة شاملة؛ 
وعائشة ‏ إلى الوراء خطوتين ‏ تردد نظرها بعناية بين 
الصورة والأصل. وجعلت خديجة تتمتم : 

د اعستكم يداك مقر حمين: الس قذلك؟ 1 
هذه عرقة خناء ... الاين بالق الآقب م جلت 
حكمتك يا ربّء بقليل من الجهد صار كل شيء 
مقبولًا فلماذا (ثمّ مستدركة) أستغفر الله العظيمء لك 

وتراجعت خطوات وهى تفحص صورتبا بعناية ثم 
قرأت الفاتحة في سرّهاء والتفتت نحو عائشة قائلة : 

- ادعي لي يا بلت. . 

وغادرت الحجرة. . . 


51 

اكتسب مجلس القهوة بحلول الشتاء ميزة جديدة 
تمثلت في المدفأة الكبيرة التي توسّطت الصالة فتكاكات 
حولها الأسرة. الذكور في معاطفهم والنساء ملتقات 
بخاراتينَ» فهيّا لهم المجلس إلى لذّة الشراب وحلو 
السمر متعة الدفء. وقد بدا فهمي ‏ على حزنه 
الصامت الطويل في الأيّام الأخيرة ‏ كمن يتحفز 
لواحهة أهله بخير هامٌ. وم يكن تردده وطول تفكيره 
إلا دليلا على خطورة الخير وأهميّته. بَيْد أنّه انتهى من 
تفكيره وتردّده إلى التصميم على إبلاغه ملقَيًا عبئه بعد 
ذلك على والديه والأقدارء فلذلك قال: 

- عندي خبر هام لكم فاسمعوا. . . 

فتطلّعت إليه الأعين باهتهام لن يشِذ عنه أحدء لأنّ 
ما عرف به الشابٌ من انّزان جعل الجميع ينتظرون 
حبرا هاما حمًا ىا قال؛ أمّا فهمي فاستطرد قائلا: 


الخبر هو أن حسن أفندي إبراهيم ضابط قسم 
الجمالية وهو من معارقي ىا تعلمون ‏ قابلني ورجاني 
أن أبلغ والدي رغبته في خطبة عائشة. . ! 

وأحدث الخبر كا قدّر فهمي من قبل ما دعاه إلى 
التردّد وطول التفكير- آثارًا جدّ متباينة. فتطلعت الأم 
إليه باهتام شديد» على حين صفر ياسين وهو يرمق 
عائشة بنظرة مداعبة ويبرٌ رأسه. وخفضت الفتاة 
الصغيرة رأسها حياء ولتخفى وجهها من الأعين أن 
تفضحها أساريرها فتعلن للناظرين ما يضطرب في 
قلبها الخافق, أما حديجة فقد تلقّت اللخر بدهشة بادئ 
الأمر لم تلبث أن القلبت خوفا وتشاومًا لم تَدْرٍ هما سببًا 
واضحًا ولكّها كانت كتلميذ يتوقع بين آونة وأخرى 
ظهور نتيجة الامتحان ‏ إذا تناهى إليه نجاح زميل له 
بلغته النتيجة من مصدر نخاصٌ» وتساءلت الأمّ في 
ارتباك لا يتناسب ومناسبة الفرح الراهئة : 

أهذا كل ما قال؟ 

فقال فهمي وهو يتحاشى النظر ناحية خديجة : 

- بدأني بقوله إنه يودٌ أن يتشرف بطلب يد شقيقتي 
الصغرى. 

وماذا قلت له؟ 

شكرث له حسن ظنّه بطبيعة الحال. . . 

لم تطرح عليه السؤال تلو السؤال في رغبة استطلاع 
شىء تودٌ معرفتهء ولكن لتداري ارتباكها وتنتزع من 
المفاجأة مهلة للتروّي , م راحت تتساءل ترى هل 
لهذا الطلب علاقة بالزائرات اللاي جئنها منذ أيّام؟! 
وذكرت عند ذاك كيف قالت إحداهنٌ ‏ قبل ظهور 
خديمة - وهي بمعرض الحديث عن أسرة السيّد أحمد 
إن سمعن أنْ للسيّد كريمتين فأدركت وقتها أمْبنّ 
جئن لرؤية الفتاتين ولكنّبا تصامت عن الإشارة» وقد 
انتسبت الزائرات إلى أسرة تاجر بالدرب الأحمر_ غير 
والد الضابط الذي قال فهمى عنه هرّة إِنّه موظف 
بوزارة الأشغال ‏ ولكن هذا لا ينفي نفيًا قاطعًا العلاقة 
بين الأسرتين لأنّه المألوف أن تبعث الأسر بخاطبات 
من بعض فروعها دون الأصل على سبيل الخرص. 
وكم ودّت أن تسأل فهمي عن هذه النقطة بالذات 


وكأنها أشفقت من أن يجيء الجواب مصداقًا لمخاوفها 
فيقضى على آمال ابنتها الكبرى ويسيمها خيبة جديدة. 
كل أن تجزعة نابت عن أمّها ‏ انفافًا - بطرح ما يعتلج 
في صدرها خارجًا حين دارت هبوطها بضحكة فاترة 
وقالت متسائلة : 

لعلّه هو الذي بعث بالزائرات اللاتي زرثنا مدل 
أيَام. 

ولكنّْ فهمي بادر قائلا : 

كلاء فقد قال لي إِنَّه سيرسل أمّه إلينا في حالة 
الموافقة على طلبه , . . 

ولكنّه بخلاف لهجته الموحية بالصدقء. لم يكن 
صادقًا فيا قال. فقد فهم من حديث الضابط أن 
السيّدات اللاي زرن والدته قريباته» بيد أنه أشفق من 
إيلام شقيقته الكبرى التي كان على حبه عائشة 
واقتناعه بجدارة صديقه الضابط ‏ يعطفب عليها عطفا 
أخوياء ويالم أشدٌ الألم لسوء حظهاء ولعلّه كان لا مني 
به من خميبة أثر قوي في البلوغ مبذا العطف ذروته. 
وضحك ياسين ضحكة غليظة وقال بجذل صبيانٍ : 

- يبدو أنْنا ستجمع قريبًا بين فرحين. . . 

فهتفت الأمْ في فرح صادق : 

- ربنا يسمع منك. , . 

- هل تخاطبين أبي نيابة عتي؟ . . . 

للّ عنه السؤال وهو مشغول بمسألة الخطبة عمًّا 
عداهاء ولكنّه ‏ عقب النطق به وقم من أذنيه موقعًا 
غريبّاء فكأنه ألقي عليه من حافظة ذكرياته لا من 
طرف لسانهء أو كانه حين ألقى على سمعه لم يقف 
عند أذنيه ولكنّه غاص إلى أعماقه ثمّ طفا عالقا به ما 
علق به من ذكرياته. وللحال ذكر سؤالا مماثلا لهذا 
السؤال توجه به إلى أمّه في ظروف مشابهة فانقبض 
قلبهء وهاجت آلامه. وعاوده إحساسه بالظلم الذي 
وأذ لالم وجل زول لبه كن] اقال ل هيو اذاف الجا 
الأخيرة» كم كان يكون سعيدًا بيومه مستبشرًا بغده 
راضيًا عن اللحياة كلّها لولا إرادة أبيه القاسية» وانتزعته 
الذكرى من الاهتيام بشئون غيره» فاستسلم للحزن 
الذي يقرض شغاف قلبهء أمّا الأمَ ففكرت مليًا ثم 


بين القصرين 4٠1‏ 

تساءلت : 

ألا يحسن بنا أن نفكّر فيها عسبى أن أجيب أباك 
إذا سألني عا دعا الضابط إلى طلب عائشة بالذات؛ 
ولاذا لم يطلب يد خديجة, ما دام لم يِرْ هذه ولا 
تلك؟ , , , 

وانتبهت الفتاتان إلى ملاحظة أمّهما معاء ولعلهما 
ذكرتا موقفهما وراء النافذة في وقت واحدء بيد أن 
خديجة تلقّت الذكرى بامتعاض ضاعف من امتعاضها 
الراهن. واحتجٌ قلبها على الحظً الأعمى الذي يأبى إلا 
أن يجري النزق والاستهتار بالإحسان., أما عائشة فقد 
اعترضت تيار سرورها ملاحظة أمّها كما تعترض 
الحلق ‏ وهو نشوان بازدراد أكلة لذيذة شهيّة - شوكة 
حادّة مدسوسة في الطعام» وسرعان ما امتصٌ المخوف 
حرارة الفرح الي كان ينتفض بها روحها. فهمي 
وحده الذى ثار على قول أمّه لا دفاعا كما بدا عن 
عائشة ‏ فإِنّه ما كان يجيز الدفاع عن عائشة نحت سمع 
خديجة في هذه النقطة الحسّاسة بالذات ‏ ولكن غضيًا 
لحرنه الكظيم الذي / يسعه الجهر بالدفاع عنه حيال 
أبيه فقال محتدًا يخاطب أباه في شخص أمّهء وهو لا 
يدري , 

هذا تعسّف ظالم لا ميرّر له» من عقل أو حكمة 
ألا يعرف الرجال أشياء كثيرة عن نساء عدّرات عن 
طريق الفضليات من قريباتهم اللاتي لا يقصدن 
بحديثهنّ إلا الجمع بين رجل وامرأة في الحلال. 

ولكنّ الآمّ لم تقصد باعتراضها إلا تواريًا وراء أبيه 
حتّى تجد غغرجًا من اللمأزق الذي وجدت فيه نفسها بين 
عائشة ونخديجة. فلا صارحها فهمي باحتجاجه لم تجد 
بدا من مصارحته بما يدور: 

ألا ترى أنّه من الأفضل أن ننتظر حيّى يأثينا نبأ 
الزائرات؟ ! 

ولم تعد خديجة تطيق الصمت مدفوعة بكبريائها 
الي أبت عليها إِلَا أن تعلن عدم البالاة بالأمر كله 
بالرغم مما يصطرع داخلها من القلق والتشاؤم . 
فقالت: 

هذا شيء وذاك شيء آخخر وليس ثمّة داع لتأجيل 


15 بين القصرين 


هذا من أجل ذاك. . . 

فقالت الأمّ مبدوء مؤثر: 

- كلّنا متفقون على تأجيل زواج عائشة حي تتزؤج 
حل يجة . 

ولم يسع عائشة إلا أن تقول برقة وتسليم : 

- هذا أمر مفروع منه. . . 

امتلأ صدر خديجة حنقًا لدى سماع النبرات الرقيقة 
التي نتكلم, ولعلّ رقتها نفسها كانت أشدٌ ما أحنقهاء 
رئما لأنها أوحت بعطف أبتّه كل الاباء؛ أو لأمها ودّت 
لو تعلن الفتاة معارضتها صريحة لتتيح لها فرصة 
لهاجمتها بما يشفي حنقها على حين قام ذاك العطف 
الكلاب البغيض درعًا يدفع عنها الأذى ويضاعف من 
حئق المتريئص المتحفزء وأخيرًا لم يسعها إلا أن تقول 
بلهجة م تَخْلَ من حدّة : 

لا أوافق على أن هذا أمر مفروم منه. فليس من 
العدل أن يحملكم حظ عاثر على كسر حظ 
سعيك!] . , , 
وننبه فهمي إلى ما ينطوي عليه كلام خديجة من 
حزن غاضب بالرغم من ظاهره الموحي بالويثار فانتزع 
نفسه من قبضة أحزانه الشخصيّة نادمًا على ما صدر 
منه من قول في غضبته مما قل تحسبه خديجة ميلا صريحًا 
منه إلى قضيّة أختها فقال موجها خطابه إليها: 

- إن مفاتحة باب عن رغبة حسن أفندي لا تعني 
التسليم بتقديم زواج عائشة على زواجك. وما علينا 
من بأس إذا نلنا موافقته على الخطبة» أن نؤجل إعلانها 
لوقف افكاسيه !ب 

وم يكن ياسين مقتنعًا بوجاهة الرأي الذي بكم 
تقديم زواج على زواج » ولكنه لم يجد الشجاعة الكافية 
للوفصاح عن رأيه إلا أنه روح عله بكلام يفهم منه 
من يشاء ما يشاء فقال: 

- الزواج مصير كل حيّ. ومن لم تتزوّج اليوم 
فستتروج غذا. 

وهنا انطلق صوت كمال الرفيع الذي كان يتابع 
الحديث باهتام متسائلا على غير انتظار: 

- نيلة. . . لماذا كان الزواج مصير كل حيع؟ 


ولكتها لم تُعْنَ بالالتفات إليهء فلم يحدث تساؤله 
من أثر إلا عند ياسين الذي قعقع بضحكة غليظة دون 
أن ينبس بكلمة, على حين قالت الأمُ : 

اعلم أن كل فتاة ستتروج اليوم أو غدّاء ولكن 
هناك اعتبارات لا ينبغي إغفاها. . . 

وعاد كيال يسأها: 

- وهل ستتزوجين أنت أيضا يا نيئة؟ 

وضحٌ الجميع ضحكًا فخفف هذا من حدّة التوتّرى 
وانتهز ياسبن هذه الفرصة السانحة فتشجّع قائلا : 

- اعرضبي الأمر على أبي» فالكلمة كلمته على أيّ 
00 

وقالت -حديجة بإصرار غريب: 

- لا بد من هذا . , . لا بد من هذا. . , 

كانت تعنى ما تقول: لأمْها من ناحية تعلم باستحالة 
إخفاء مثل هذا الأمر عن أبيهاء ولأئّبا من ناحية أخرى 
تعتقد بِأنْ والدها لا يمكن أن يقبل تقديم زواج عائشة 
عليهاء ولأنما ‏ إلى هذا وذاك ‏ ما زالت تصرٌ على 
التظاهر باللامبالاة, ومع أنها لم تكن تعلم بما بين 
الضمابط والزائرات من سبب. . . إلا أنْ القلق 
والتشاؤم اللذين شعرت بها من بادئ الأمر لم يتخليا 
عنها لحظة واحلة. . 


"6 

مع أن السيّدة أمينة جرّبت في حياتها أكثر من سبب 
من الأسباب التي تكدّر الصفو إلا أنْها لم تكن قديمة 
عهد بنوع طارئ من هذه الأسباب. امتاز بطابع 
خاصٌ بهء إذْ بدا في ذاته ‏ على خخلاف سوابقه ‏ مما 
يجمع الناس على اعتباره من أسس السعادة الجوهرية 
في الدنياء ومع هذا انقلب في بيتهاء بل في قلبها 
خاصّة, باعئًا هامًا من بواعث القلق والكدر» وكم 
كانت صادقة وهي تسائل نفسها: من كان يظنّ أنَّ 
مَقدّم عريس. الأمر الذي تتلهف النفوس على 
استقباله» يجرٌ علينا هذا التعب كله!. . . ولكن هكذا 
جرى الحخال؛ فتنازع قلبها أكثر من رأي دون أن 
تمدن إل واحن من ١‏ .راستعا أن الرالقة بعل ورا 


عائشة قبل خديجة كفيلة أن تقضى على مستقبل ابنتها 
الكبرى. ورأت حيئا آخر أن الإلحاح في معارضة 
الأقدار موقف شديد الخطورة قد يعود على الفتاتين 
بأوحم العواقبء وإلى هذا وذاك ‏ شق عليها أكثر أن 
توصد الباب في وجه عريس رائع كالضابط الشابٌ 
ليس من اليسير أن يجود الحظ ممثله مرّة أخرى. ولكن 
ما عسبى أن يكون موقف نحديجة إذا تمث الموافقة وما 
عسبى أن يكون حظها ومستقبلها؟!. . . ل تَذْرٍ لنفسها 
مستقراء خاصّة وأنّ ما طبعت عليه من سلبيّة شاملة 
جعلها أعجز من أن تجبد حلا موققًا لمشكل من 
المشاكل. ولمذا وجدت راحة وهي تتحمز لإلقاء 
العبء كله على عاتق السيّدء بل وجدت هذه الراحة 
بالرغم مما يخامرها من خوف كلما أقدمت على مفاتحته 
بأمر ترتاب في حسن تقبله له وقد التظرت حيّى فرغ 
من احتساء قهوته ثم قالت بصوتها المهمسوس الناطق 
بالأدب والخضوع : 

سيّدي . . . حدّئبي فهمي قال إن صديقًا له رجاه 
أن يعرض عليك رغبته في خطبة عائشة. . . 

سدّدت العينان الزرقاوان نظرة اهتيام ودهشة من 
فوق الكنبة إلى حيث تجلس المرأة على شلتة غير بعيدة 
من قدميه. كأنما يقول لها: «كيف تحدّئينني عن عائشة 
وأنا في انتظار أخبار عن خديجة بعد ما كان من نبأ 
الزائرات الثلاث». . . ثم تساءل ليستوثق مما سمع: 

عائشة؟ . , 

- نعم يا سيدي . . . 

ونظر السيّد أمامه في ضيق», ثم قال وكأنه يحدّث 
لقسية , 

قرّرت من زمن بعيد أنْ هُذا سابق لأوانه. . . 

فقالت المرأة في عجلة أن يظنّ بها معارضة لرأيه: 

- إني أعلم رأيك يا سيّدي. ولكن يجب أن أطلعك 
على كل شيء يدور بيئنا. . . 

تفخصها الرجل ببصر حادٌ كآنه يسير ما في قولها من 
صدق وإخلاص ولكن لمعت عيناه بخاطر طارئْ حال 
بينه وبين تشخصهاء فتساءل في اهتام وقلق : 

ثرى ألهذا علاقة بالسيّدات اللاتي زرنك؟ 


بين القصرين 1١7‏ 


أجل. علمت ببْذه العلاقة» وهي منفردة بفهمي, 
وقد اقترح عليها الشاتٌ أن تخفي أمرها عن والده عند 
مفاتحته بالخبر فوعدته بالتفكير في المسالة طويلا. 
وتردّدت بين قبولها ورفضهاء ثم مالت أخيرًا إلى كتمانها 
كا اقترح فهميء ولكتها حين جوبهت بسؤال السيّد 
وهي تشعر بنظرة عينيه كضوء الشمس الوفاج تشتتت 
عزيمتها وتبدّد رأيها فقالت بلا تردّد: 

- نعم يا سيّدي. علم فهمي أنْبِنْ قسريبسات 
صديقه. . . 
فعبس السيّد غاضبًا وكعهده إذا غضب امتلأث 
صفحة وجهه البيضاء بالدم وتطاير الشرر من عيئيه. 
من يستهن بخديجة فكأنئما استهان بشخصه؛ ومن يمس 
كرامتها فكأئما طعنه في صميم كرامته, ولكنّه لم يدر 
كيف يعلن غضبه إلا عن طريق صوته الذي علا 
وغلظ وهو يتساءل بحنق وازدراء : 

من هو هذا الصديق؟ 

فقالت وهي تجد للنطق بالاسم قلمًا لا تدري له 
من سيببا: 

حسن إبراهيم ضابط قسم الحالية . 

فقال السيّد متسائلا في انفعال: 

- قلت إِنَك أدخلت خديجة وحدها على 
السيّدات؟ !., . . 

- نعم يا سيّدي . , 

- هل زرنك مرّة أخرى؟ 

- كلا يا سيّدي وإلا كنت أخيرتك. 

فسأها منتهرًا كأئما هي المسئولة عن هذه الغرابة : 

- أرسل قريباته فرأين خديجة, وإذا به بطلب 
عائشة!. . . ما معبى هذا؟!. . , 

فازدردت الأم ريقها الذي جف بين الأخخذ والرد 
ف مهسا . 

- في مثل هذا الخال لا تدسل اللخاطبات البيت 
المقصود إلا بعد أن يزرن كثيرًا من بيوت الحيران 
متحرّيات عا مهن وبالفعل قد أشرن في حديثهن 
معي إلى أن سمعن بأنْ للسيّد كريمتين ولعل تقديم 
واحدة دون الأخرى. . . 


5 بين القصرين 

أرادت أن تقول «لعل تقديم واحدة دون الأخرى 
ود لديهنّ ما سمعن عن جمال الصغرى» ولكّبا 
أمسكت خوفا من مضاعفة غضبه من ناحية. وإشفافًا 
من الخهر ببذه الحقيقة التي ترتبط في ذهنها بألوان قاتمة 
فون لقان و اراس يناعن | لخر ننا سات 1 
بإتمام الحديث بإشارة من يدها كأنما تقول «الخ الخ 

وحدج السيد إليها بنظر حادٌ حيّى غضت الطرف 
استخذاءء وانقلب إلى حال من الامتعاض والحزن 
كثفت الغضب في صدره فمضى يقرع أضلعه يروم 
متنفسًا أو يدشد صحبة» ثم صاح بصوت عاصف: 

- عرفنا كل شيءى. ها هو ذا عريس يتقدّم طالبا يد 
ابنتك فأسمعيي رأيك؟ . . . 

شعرت بسؤاله يستدرجها إلى حفرة لا قرار لما 
فقالت بلا ترد وهيى تبسط راحتيها في تسليم : 

- رأبي رأيك يا سيّدي ولا رأي لي غيره. . 

نصاح في زمجرة: 

- لو كان الأمر ىا تقولين ما فاتحتنى في الأمر. 

فقالت في لمحجة ملهوجة وإشفاقٌ: 

- ما حدّثتك يا سيّدي إلا لأخبرك عي جد في 
الأمرء لأنْ واجبي يقضى عل بان أطلعك على كل ما 
يتصل ببيتك من قريب أو بعيد. . . 

فهر رأسه في حنق قائلا: 

- من يدري. إي والله من يدري . . . ما أنت إلا 
امرأة» وكل امرأة ناقصة عقل» والزواج خاصّة يفتنكنّ 
عن الرشاد. فلعلك, , 

فقاطعته بصوت متهدّج : 

- سيّدي أعوذ بالله مما تظن بي» إِنْ نخديجة ابنتي 
ومن لحمي ودمي كا هي ابنتك. . . وَإِنْ حظّها ليفتت 
كبدي» أمَا عائشة ف! تزال في أوّْل ربيعها ولن يضيرها 
أن تنتظر حيّى يأخذ الله بيد شقيقتها. 

فراح يمسح براحته على شاربه الغليظ بحركة 
عصبيّة حي توقف فجأة, كأنما تذكر أمرًا وتساءل: 

هل علمت نخدعية؟ 

- نعم يأ سيّدي . 

فلوح بيده غاضبا وهو يصيح : 


- كيف يطلب هذا الضابط يد عائشة بالرغم من 
أن أحدًا لى يرها؟! 

فقالت بحرارة وقلبها ير نجف: 

- قلت يا سيّدي لعلْهنٌ سمعن عنها. 

- ولكنه يعمل في قسم الحاليّة أي في حيناء وكانه 
من أهله . 

فقالت الأمّ في تأثّر شديد : 

- إِنْ عن رجل لم تقع على إحدى ابي مدل 
انقطاعهما عن المدرسة في سنّ الطفولة. 

فضرب كما بكفٌ وصاح بها: 

- مهلا. . . مهلا. . . هل حسبتني أشكٌ في هذا يا 
ولية؟! لو شككت فيه ما أشبعنى القتل!. . . 

نما اتحدّث عا يجري في عقول بعض الناس مّن لا 
يعرفونئاء «إِنْ عين رجل لم تقع على إحدى ابي . . . 
ما شاء الله. وهل كنت تريدين أن تقع عين رجل 
عليها؟!... يا لك من مجئونة مهذارة. إن أردّد ما 
قد تشيع به ألسنة السفهاء من الناس» أجل . . . إِنه 
ضابط الحيّ. يسير في شوارعنا صباح مساء فلا يبعد 
أن يقوم عند البعض ظنّ احتمال رؤيته لإحدى الفتاتين 
إذا علموا بزواجه منها... لا أحبّء لا أريد أن 
أعطي ابنتي لأحد ليثير الشبهات حول سمعتي» بل لن 
تتتقل ابنتي إلى بيت رجل إلا إذا ثبت لدي أنَّ دافعه 
الأول إلى الزواج منها هو رغبته الخاصّة في مصاهرتي 
أنا. . . أنا. . . أنا. . . هلم تقع عين رجل على إحدى 
ابنقّ». . . مبارك. . . مبارك يا ست أميئة . 

وأصغت الأمّ دون أن تنبس بكلمة فساد الصمت 
الحجرة. ثم بض الرجل فآذنها نهوضه بأنّه سيشرع في 
ارتداء ملابسه استعدادًا للعودة إلى الدكان فبادرت 
بالقيام» ونزع السيّد ذراعيه من الجلباب ورفعه 
ليخلعه. ولكنّه توقف قبل أن تجاوز طاقة الجحلباب 
ذقنه. وقال والجلباب مكوم فوق منكبه كلبدة الأسد: 

- ألم يقدذر سي فهمي خطورة الطلب الذي تقدّم به 
صديقه؟ . . 

(ثم مركا رأسه في أسف)... يحسدني الناس على 


إنجاب ثلاثة ذكورء والحق أني لم أنجب إلا إنانًا, . . 
و اا 


55 

على أثر مغادرة السيّد للبيت ذاع رأيه في خطبة 
عائشة» ومع أنه قوبل بتسليم عامٌ ‏ تسليم من لا 
حيلة لهم سوى التسليم ‏ إلا أنّه كان متباين الصدى 
في النفوس» أسف فهمي للخرء وساءه أن تفقد 
عائشة زوجًا صاللنًا مثل صديقه حسن إبراهيمء أجل 
كان قبل أن يبت أبوه في الأمر متردّدًا بين التحمس 
للعريس التقدّم وبين العطف على موقف نحديجة 
الدقيق» فلا أن قضي الأمر واستراح جانبه المشفق على 
خديجة أسفف جانبه الآخر الراغب في سعادة عائشة 
وأمكنه أن مجهر برأيه فقال: 

لا شك أنْ مستقبل خديجة ببمّئا جميعًا ولكئنى لا 
أوافق على الإصرار على حرمان عائشة من الفرص 
الحسنة التي تتام لماء الحظ غيب لا يعلمه إلا الل 
ولعلٌّ الله يدّخر للمتاخّر حظًا أوفر من المتقدّم . 

ولعلّ خحديجة كانت أشدٌ الجميم شعورًا بالحرج 
لوقرفها للمرّة الثانية عثرة في سبيل أختهاء لم تكن تفكر 
في الحرج وهي تحت المطرقة. ولكن حين ما إليها رأي 
أبيها الحاسمء وتقهقر الخطر الذي يتهدّدهاء زايلها 
الحنق والألم وحلّ محلها شعور أليم بالخجل والخرج. 
ومع أن حديث فهمي لم يترك في نفسها أثرًا حسنًا لأنها 
طمعت في أعماقها أن تجد من الجميع حماسًا لرأي أبيها 
وأن تبقى هي الوحيدة المعارضة له, إلا أثّبا قالت 
معلّقة عليه : 

صدق فهمي فيهما قال» وكان هذا رأبي دائيا. . . 

فعاد ياسين يؤكّد رأيه السابق قائلا: 

- الزواج مصير كل حيّ... لا تخافوا... ولا 
تجزعوا. . . 
قنع هذه المرّةَ بالكلام على ولعه بعائشة وشذة 
استيائه لما حاق مها من ظلم. ولكنّه ماف أن يعلن 
رأيه صراحة أن تسبىء خديجة فهمه أو نظن أنْ ثمة 
علاقة بين هذا الرأي وبين ما ينشب بينها كثيرًا من 


بين القصرين 4٠8‏ 
نقار بريء» وإلى هذا وذاك كان إحساسه الباطئ بأنه 
نصف أخ فقط يقعده عند مواجهة الخطير من شئون 
الأسرة الحساسة عن إبداء الرأي الخليق بجرح أسحد 
من أفرادها. . . ولم تكن عائشة قد نبست بكلمة 
فقسرت نفسها على الكلام قسرًا أن يشى صمتها 
باآلامها الي صممت على إخفائها والتظاهر يعدم 
الاكتراث لها مهما سامها ذلك من عذاب وتوثره بل 
أجمعت على إعلان الارتياح مجاراة لجو البيت الذي لا 
يعترف للعواطف بحقٌ من حقوقها. . . والذي ثدارى 
فيه أهواء القلوب بأقنعة الزهد والرياءء فقالت: 

لا يصحٌ أن أتزوج قبل خديجة, والخير كل الخير 
فيما يرى أبي (ثم مبتسمة)... لماذا تتعجلون 
الزواج؟... ومن أدراكم بأندا سنحظى في بيسوت 
الأزواج بحياة سعيدة كالتى نحظى بها في بيت أبينا؟ ! 

ولمًا تواصل الحديث كشأنه كلّ مساء حول المدفأة 
لى تمسك عن الاشتراك فيه بما وسعها قوله بالرغم من 
شرود ذهها وتشتت نفسهاء وكم في الواقم شاببت 
الدجاجة المذبوحة التي تندفم مبسوطة الحناحين ‏ كأنما 
تنتفض حبويّة ونشاطا- على حين يتدفق الدم من 
عنقها مستصفيًا آخر قطرات الحياة. 

على أنْها توقعت هذه النتيجة قبل عرض الأمر على 
أبيها» أن لا ثمَة غامض داعب أحلامها كما يداعبنا 
الأمل في كسب الئمرة الأولى في اليانصيب الكبير. . . 
وقد تطوعت أوّل الأمر للمعارضة في زواجها مدفوعة 
بأريحيّة الظفر والسعادة. وبالعطف على شقيقتها السيئة 
الحظ. الآن حمدت الأريحيّة ونضب العطف. فلم يبق 
إلا الامتعاض والسخط والياس. ليس لما من الأمر 
شىء. هذه إرادة الاب ولا معقّب لهاء وما عليها إلا 
الإذعان والاستسلام. بل عليها أكثر من هذا الرضى 
والارتياح» لأنْ محض الوجوم ذنب لا يغتفرء أما 
الاحتجاج فإئم لا يطيقه أدبها وحياؤها. أفاقت من 
سكرة السعادة الغامرة الى انتشت بها يومًا وليلة على 
يأس مظلم. ما أكثف الظلمة تجيء عقب النور 
الباهرء في تلك الحال لا يقتصر الألم على الظلمة 
الراهنة» ولكنه يضاعف مرّات ومرّات بالحسرة على 


5 بين القصرين 
النور الذاهب وتسائل نفسها إذا كان ثُمَة نور أمكن أن 
يضىء ملا فلماذا لم يواصل الضياءء اذا يخبوء لماذا 
خباء فتكون حسرة جديدة تنضمٌ إلى بقيّة الحسرات 
النئي ينسجها الحزن حول قلبها منترعا إيَاها من 
ذكريات الماضي وواقع الحال وأحلام المستقبل. وعلى 
إغراقها في التفكير في هذا كله وحضوره . تبعًا لذلك - 
في شعورها فإنها تعود تتساءل وكأنها تتساءل لأول مر 
وكأن الحقيقة أللرّة ترتطم بشعورها للمرّة الأولى: هل 
حم ححا النور؟ | 

هل تمرّقت الأسباب بينها وبين الشابٌ الذي ملأ 
قلبها وخخيالها؟! 

سؤال جديد رغم تكراره» وصدمة جديدة رغم 
نفاذها إلى العظام. ذلك أن الحسرة الكاوية لا تنفكٌ 
يتنازعها اليأس المستقرٌ في الأعماق والآمال المتطايرة في 
الحواء كلما تطاير منها شعاع الأمل المتطاير» ثم تعود 
فتستقر في الأعماق. ثم تطفو مرة أخرى. وثالثة. حت 
تأوي إلى مستقرها ‏ وقد ودّعت النفس آآخر آمالها- 
فلا تغادره إلى الأدد. انتهى كأن لم يكن. لا سبيل إليه 
أبداء ما أهون الأمر عليهم. عالحوه كيا يعالجون أمور 
يومهم العاديّة مثل ماذا ناكل غدّاء أو حلمت ليلة 
أمس حلا غريبًاء أو رائحة الياسمين تملا جو 
السطح. كلمة من هنا... كلمة من هناك. .. 
واقتراح يعلن ورأي يبسطء في هدوء وحلم غريبين, 
ثم تعزية باسمة. وتشجيم كأنّه الدعابة. ثم 
تغيّر الحديث وتشعّبء انتهى كلّ شيء, وأدرج في 
التاريخ الذي تنزل عليه الأسرة النسيان. أين قلبها 
من هذا كلّه؟!... لا قلب لهاء لا يتصوّر وجوده 
أحدي لا وجود له في الواقعم. ما أشدٌ غربتهاء ضائعة 
مفقودة. ليسوا منها وليست منهم؛ وحيدة هنبوذة 
مقطوعة الصلات, ولكن كيف تسبى أن كلمة واحدة 
لو جاد مها لسان أبيهاء كانت تكفي لتغيير وجه الدنيا 
وخلقها خخلقًا جديدًا؟!. . . كلمة واحدة لا أكش, لا 
تزيد عن لفظة «نعم» ثم تحدث المععجزة لى تكن 
لتكلفه إلا عُشر ما تكلّف من جهد في المناقشة الطويلة 
التي انتهت إلى الرفض. ولكن لم خَمْر بذاك مشيثته 


وارتفى لها هذا العذاب كله. ومع أنْها كانت متألّة 
حائقة ساخطة إلا أن ألمها وحنقها وسخطها وقفت عند 
شخص أبيها وارتذت عنه خحائبة ارتداد الوحش المائج 
إذا اعترضه مروضه الذى يحنه ويخافه. لم يسعها أن 
تحمل عليه ولو في أعماق سريرتهاء وظلٌ قلبها على 
ولائه وحّه فلم تضمر له إلا الإخلاص والوفاء كاله 
إله لا يجوز أن تقابل قضاءه إِلَّا بالتسليم والحبٌ 
والوفاء . 

شدّت الصغيرة ذاك المساء حبل اليأس حول عنقها 
الرقيق فآمن قلبها المتفتح بأنّه نضب وأجدب إلى 
الأبد. وضاعف من تثوثّر أعصابها الدور الذي صمّمت 
على أن تمثْله بينهم. دور البشْر واللامبالاة وما سامته 
نفسها من المشاركة في سمرهم حتّى ناءت هامتها 
الذهبية بحمله. وانقلبت الأصوات في أذنيها وقرّاء فا 
جاء وفت الانسحاب إلى حجرة النوم حيّى مضت في 
إعياء كالمرضى» وهناك في أمن من ظلمة الحجرة نجهم 
وجهها لأول مرّة وعكس صورة صادقة من قلبها. 

يد أنه لحق بها وقيب ‏ خديجة ‏ أيقنت من بادئ 
الأمر أن تصنئّعها لن يجدي معها شيئًا وقد تحامت في 
المجلس نظراتها أمّا الآن ‏ إذ جلست إليها ‏ فلا مهرب 
منها ولا مفرٌ. وتوقعت أن تبيجم الفتاة على الموضوع 
بعنادها المعروف. وانتظرث تسلّل صوتا إلى أذنيها بين 
لحظة وأخرى, ورحّب قلبها بالحديث؛ لا لأنّه سيبعث 
رجاء جديدّاء ولكن لأنّبا أملت وراء الاعتذار والحرج 
اللذين ستعلنبط الفتاة صادقة حتًا شيئًا من العزاء. ول 
يطل الانتظار فيا لبث أن جاءها الصوت يشْقّ الظلمة 
قائلا : 

- عائشة. إني حزيئة آسفة؛ ولكن علم الله لا حيلة 
لي وكم وددت لو تواتبي الشجاعة فأرجو أبي أن 
يعدل عن رأيه , 

وتساءلت عرًا وراء هذا الكلام من صدق أو رياء 
منفعلة بثورة حنق ثارت مها لدى سباع النرات الأسيفة 
مباشرة؛ ولكتّا اضطرّت إلى العسودة إلى استعادة 
النبرات التي ظلّت تتحدّث بها في مجلس أمّها فقالت: 

- فيم الزن والأسف. ما أخطأ أبي وما ظلم ولا 


داعي للعجلة ! 

هذه ثاني مرّة يؤججل زواجك بسببي ! 

لست آسفة مطلقًا. 

فقالت خعديجة بلهجة ذات مغرّى: 

- ولكن هذه المرّة غير المرّة الأول . 

أدركت الفتاة ما وراء هذه الكليات بسرعة الرق. 
فخفق قلبها خفقان اللوعة والحسرة. وبكى وذا وحبّاء 
ذلك الحبٌ الكامن يثار بالإشارة تجيئه من الخارج عفوا 
أو قصدًا كيا يثار الجرح أو الدمّل باللمس والشكُ. 
وهمْت بالكلام ولكتّها أمسكت مضطرّة لأنْ أنفاسها لم 
تسعفها فخافت أن تفضحها نراتهاء وعند ذاك تنبدت 
حديجة قائلة : 

هذا تجدينني في غاية الحرن والأسف. ولكن رين 
كريم» وما شدَّة إلا وبعدها الفرج» فعسى أن ينتظر 
ويصير ويكون من نصيبك بالرغم مما بدا. 

وهتفت جوارحها: «يا ليت». أما لسانها فقال: 

- سيان عندي. الأمر أبسط مما تظنين. 

أرجو أن يكون كذلك. . . إن جد حزيئة وآسفة 
يا عائشة . 

وفتح الباب فجأة وبدا شبح كمال في الشعاع 
الخافت الذي تسلل من فرجة الباب فصاحت به 

- لماذا حثت؟ وماذا تريد؟ 

فقال الغلام بصوت يثى باحتجاجه على سوء 
مقاءلتها له: 

- لا تبريني. .. وأفسحي لي... 

ووثب إلى الفراش وركع بينهماء ثم دس يدا إلى 
واححدة ويدًا إلى الأخرى.» وراح يدغدغهم) ليهيئ 
لحديثه جوًا طيْبًا غير الحو الذي أنلذرت به نبرة 
خديجة» ولكتها نثرتا يديه» وقالتا بصوتين متتابعين: 

آن لك أن تنام , فاذهب ولم. 

لن أذهب حيّى أعرف ما جثت أسأل عنه! 

عُمْ تسأل في هذه الساعة من الليل؟ 

فقال مغيرًا لهجته حي تستجيبا له: 


بين القصرين ادع 


- أريد أن أعرف هل تتركان بيتنا إذا تزوجت!؟ 

فصاحت به خديجة : 

- انتظر حتى يجيء الزواج! 

فتساءل في عناد: 

- ولكن ما هو الزواج؟ 

- كيف أحييك وأنا لم أتروج. . . اذهب ونم الله لا 
- لن أذهب حيّى أعرفف . 

- يا حبيبي توكل على الله وفارقنا. 

قال بصوت حزين: 

- أريد أن أعرف هل تغادران البيت إذا تزوجتما؟ 

- نعم يا سيدي . . . ماذا تريد أيضًا؟ 

فقال في جزع : 

- إذن لا تتروجا. . , 

سمعا وطاعة. . 

فعاد يقول في احتجاج ثائر: 

أنا لا أطيق أن تذهبا بعيدًا عنّا وسأدعر الله ألا 
يروجكا. . . 

فهتفت : 

- من فمك لباب السما. . . عال. . . عال. . 
ربّنا يكرمك. تفضل فارقئا مع السلامة. . 


>37 

سرى في البيت شعور بأنه يستقبل من حياته المرهقة 

بالتزمت يوم راحة يستطيع ‏ إذا شاء ‏ أن يستروح فيها 
نسمة من الْحرَيّة البريئة في أمن من الرقيب. فظن كيال 
أنه غدا في حل من أن يقطم اليوم كله في اللعب 
داخل البيث أو خارجه. وتساءلت خديجة وعائشة ألا 
يمكن أن تنسلا مساء إلى بيت مريم لقضاء ساعة في لهو 
ومرح؟1 تجبيء هذه الراحة نتيجة لانقضاء شهور الشتاء 
الكالح وحلول بشائر الربيع ملوّحة بالدفء والبشاشة, 
إذ ليس من شأن الربيم أن يبب هله الأسرة حرّيّة 
يحرمها إيّاها الشتاء؛ ولكنّها جاءت نتيجة طبيعيّة لسفر 
السيّد أحمد إلى بور سعيد في مهمّة تجاريّة تدعوه كل 


7 بين القصرين 


عدّة أعوام إلى السفر يوما أو بعض يوم» واتّفق أن 
سافر الرجل صباح الجمعة فجمعت العطلة الرسميّة 
بين أفراد الأسرة... وتجاوبت رغباتهم الظمأى إلى 
الحرية في اللجو الطليق الآمن الذي خلقه على غير 
التتظار رحيل الأب عن القاهرة كلّهاء بَيْد أن الأم 
وقمت من رغبة الفتاتين وجماح الغلام وقفة المترذد. 
لآنها كانت تحرص على أن تواظب الأسرة على سيرتها 
المألوفة. وأن تلتزم ‏ في غياب الأب الحدود التي 
تلتزمها في حضوره خوفا من مخالفته أكثر منها اقتناعًا 
بوجاهة شدّته وصرامته. ولكتها ما تدري إلا وياسين 
يقول لما: 

لا تعارضى بالله. . . إِنّئا نحيا حياة لا يحياها أحد 
فو النافو عند اول أن ندل ف ادام ال 
نر نين عن نفسك أنت؟!... ما رأيكم في هذا 
الاقتراح؟ ! 

وتطلّعت إليه الأعين في دهشة ولكنٌّ أحدًا لم ينبس 
بكلمة: ولعلهم ‏ كأمّهم التي رمته بنظرة تأنيب لم 
يحملوا قوله حمل الحدّء إلا أنه استطرد قائلا: 

- لماذا تنظرين إل هكذا؟!... لم أخمطئ في 
البخاري. وليس تمّة جريمة والحمد لله. ما هو إلا 
مشوار قصير ترجعين منه وقد ألقيت نظرة على جزء 
صغير من الح الذي عشث فيه أربعين عامًا دون أن 
تري منه شيئًا. . . 

فتمبدت المرأة متمتمة : 

- سامحك الله. . , 

فقهقه الشاتٌ قائلا : 

- عَلامم يسامحني؟.. . هل اقترفت ذنبًا لا يُغتفر؟ 
والله لو كنت مكانك لمضيت من توي إلى سيّدنا 
الحسين ألا تسمعين؟. . . حبيبك الذي تبيمين به على 
البعد وهو قريب. قومي إنّه يدعوك إليه. . . 

وخفق قلبها خفقانًا لاحت آثاره في احمرار وجهها 
فخفضت رأسها لتخفي تأثرها الشديد. انجذب قلبها 
إلى الدعاء بقوة تفجرت في نفسها فجأة على غير انتظار 
لا منبا ولا من أحد تمن حولها حي ياسين نفسه, كأنا 
زلزال قد وقع بأرض لم تعرف الزلازل؛ فلم تدر كيف 


استجاب قلبها للنداء. ولا كيف تطلّع بصرها إلى ما 
وراء الحدود المحرّمة, ولا كيف تراءت المغامرة ممكنة 
بل مغرية بل طاغية؛ أجل بدت زيارة الحسين عذرًا 
قونان له صفة القداسة ‏ للطفرة اليساريّة التي نزعت 
إليها إرادتهاء ولكتها لم تكن وحدها التي تمخضت عنها 
نفسها إذ لبت دعاءها في الأعماق تيّارات حبيسة متلهفة 
على الانطلاق كا تلبي الغرائز المتعطشة للقتال نداء 
الدعاء إلى الحرب بحججة الدفاع عن الرّيّة والسلام . 
وم نَدْرٍ كيف تعلن عن استسلامها الخطيء ولكثها 
نظرت إلى ياسين وسألته بصوت متهدج : 

- زيارة الحسين منية قلبي وحياتي. . . ولكن. . 
أبوك؟ 

فضحك ياسين قائلا : 

- أي في طريقه إلى بور سعيد ون يعود قبل ضحى 
الغد. وبوسعك - زيادة في الحيطة ‏ أن تستعيري ملاءة 
3 حنفي اللف حىّ إذا اتفى أن رآك أحد وأنت 
تغادرين البيت أو وأنت تعودين إليه ظنّْك زائرة. , 

ورذدت عينيها بين الأبناء في خحجل وتيب كأتمها 
تنشد المزيد من التشجيع» فتحمست -2خديجة وعائشة 
للاقتراح. وكأنها تعيران بحاسههما عن رغبتههما الحبيسة 
في الانطلاق. وفرحتها بزيارة مريم التي باتت ‏ بعد 
هذا الانقلاب ‏ في حكم المقرّرء وهتف كيال من 
أعباق قلبه : 

سأذهب معك يا نيئة لأدلك على الطريق. . . 

وحدجها فهمي بنظرة عطف أثاره في نفسه ما طالعه 
في وجهها البريء من سرور حائر كسرور الطفل إذا 
مي بلعبة جديدة فقال لها في تشجيع واستهانة : 

- ألقي نظرة على الدنياء لا عليك من هذا فَإني 
أخاف أن تسي المثى من طول لزومك للبيت! 

وفي فورة الحماس جرت خديجة إلى آم حنفي ثم 
عادت بملاءتهاء وتزاحمت الأصوات بالضحك 
والتعليق» فغدا اليوم عيدًا سعيدًا لا عهد لأحد به 
واشترك الجميع - وهم لا يدرون - في الثورة على إرادة 
الأب الغائب. والتفت الست أمينة في الملاءة وأسدلت 
البرقع الأسود على وجههاء ثم نظرت في المرآة فلم 


تتمالك من أن تضحك طويلا حبّى اهتزٌ جذعهاء 
وارتدى كيال بذلته وطربوشه وسبقها إلى فناء البيت. 
ولكتّبا لم تتبعه. ركبها شعور الرهبة الذي يلازم 
المواقف الفاصلة. فرفعت عينيها إلى فهمي وتساءلت: 

ما رأيكم. هل أذهب حمًا؟ 

فصاح بها ياسين : 

- توكل على الله. , , 

وتقدّمت منها خخديجة ووضعت يدها على منكبيها 
ودفعتها برفق وهي تقول : 

الفاتحة أمانة, . , 

ولم تزل تدفعها حيّى أوصلتها إلى السلّم؛ ثم رفعت 
يدها فنزلت المرأة والجميع في أعقاءها. . . ووجدت 3 
حنفي في انتظارهاء فألقت الخادم على سيّدتها- أو 
بالأحرى على الملاءة الملتفة بها نظرة فاحصةء ثح 
هرت رأسها هرًةٌ انتقادية؛ وتقدّمت منها وأعادت لف 
الملاءة حول جسمها وعلمتها كيف تمسك بطرفها في 
الوضع الملناسب. فانقادت لما سيّدتها التي كانت 
ترتدي الملاءة اللف لأول مرّة. وعدد ذاك ارتسمث 
ملامح قامتها وقدّها في تفصيل وسيم. تخفيه عادة 
جلابيبها الفضفاضة؛» فألقت خديجة عليها نظرة 
إعجاب باسمة وغمزت بعينها لعائشة وأغرقتا في 
الضحك , , 

ولاقت وهي تعبر عتبة الباب الخارجي إلى الطريق 
لحظة دقيقة جف لا ريقها فضاع السرور في نوبة القلق 
ووطأة الإحساس بالذنب» وتحركت في بطء وهي 
قابضة على يد كمال بحال عصبية. وبدت مشيتها 
مضطربة مخلخلة كأئها عاجزة عن مبادئ المثيى الأوليةى 
إلى ما اعتراها من حياء شديد. وهي تتعرّض لأعين 
الناس الذين عرفتهم من عهد بعيد من وراء خخصاص 
المشربيّة ‏ عم حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول 
والفولي اللبان وبيُومي الشربتلي وأبو سريع صاحب 
المقلى - حيّى توهثمت أنْهم سيعرفونها كما تعرفهم ‏ أو 
لأمْها تعرفهم ‏ ووجدت مشقّة في تثبيت حقيقة بديهيّة 
في رأسها وهي أنْ عيئًا منهم لم تفع عليها مدى الحياة 
وعلى تلك الحال عبرا الطريق إلى درب قرمز لأنه وإن 


بين القصرين 4١4‏ 
يكن أقصر الطرق إلى جامع الحسين إلا أنه كان لا 
يمر كطريق النحّاسين ‏ بدكّان السيّد فضلا عن خلرٌه 
من الدكاكين وانقطاع المارّة عنه إلا فيها ندرء وتوقفت 
لحظة قبل أن توغل فيهء والتفتت صوب المشربية 
فرأت شبحي ابنتيها وراء ضلفة منها بيدا رفعت ضلفة 
أخرى عن وجهي ياسين وفهمي الباسمين, فاستمدّت 
من منظرهما شجاعة استعانت بها على ارتباكهاء ثم 
جدّت في السير ‏ هي وغلامها ‏ يقطعان الدرب المقفر 
في شيء من الطمأنينة, لم يغب عنا القلق ولا 
الإحساس بالذنب ولكنّهما تراجعا إلى حاشية الشعور 
الذي احتلت مركزه عاطفة استطلاع حماسيّة نحو 
الدنيا الي يتراءى لها درب من دروبها وميدان من 
ميادينها وغرائب من مبانيها وعديد من أناسهاء 
ووجدت سرورًا ساذجا لمشاركة الأحياء في الحركة 
والانطلاق» سرور من قضت ربع قرك سجيئة 
الحدران ما عدا زيارات معدودات لأمها في الخرنفش - 
بضع مرات في العام تقوم بها داخل حنطور بصحبة 
السيد فلا تسعفها الشجاعة حبّى لاستراق النظر إلى 
الطريق. .. وجعلت تسأل كيال عنًا يصادفهما) في 
طريقهم| من مشاهد وأبنية وأماكن, والغلام يحدّثها في 
إسهاب مزهوا بدور المرشد الذي يقوم به. فهذا هو 
قبو قرمز المشهور الذي يجب - قبل الدخول فيه . تلاوة 
الفاتحة. وقاية من العفاريت التى تسكنه. وهذا ميدان 
بيت القاضى بأشجاره الباسقة وكان يسمّيه ميدان 
دذقن الباشاء مطلمًا عليه اسم الزهر الذي يعلو 
أشجاره؛ أو يسمّيه أحيانًا أخرى «ميدان شنجرلي» 
ساحبًا عليه اسم بائع الشيكولاتة التركئء أمّا هذا 
البناء الكبير فهو قسم الماليّة» ومع أنْ الغلام لم يجد 
به ما يستحقٌ اهتامه سوى السيف المدلى من وسط 
الديدبان إلا أن الأمّ ألقت عليه نظرة مليئة بحبٌ 
الاستطلاع الخليق بمكان يقيم به الرجل الذي سعى 
إلى طلب يد عائشة» حيّى بلغا مدرسة خان جعفر 
الأولية, التى قضى بها عاما قبل التحاقه بمدرسة خليل 
أغا الابتدائية» فأشار إلى شرفتها الأثرية وهو يقول «في 
هذه الشرفة كان الشيخ مهدي يلصق وجوهنا بالجدار 


4٠‏ بين القصرين 
لأقل هفوة. ويركلنا بحذائه خمسًا أو سنا أو عشْرًا كما 
محلو له» ثم أوما إلى دكان يقع نحت الشرفة مباشرة 
وقال بلهجة لم يغب عنها مغزاها وهو يتوقّف عن السير 
دوهذا عم صادق بائع الحلوى». ثم لم يقبل الترحزح 
عن موضعه حيّى أخحذ قركا وابتاع به ملبئا أحمرء 
انعطفا بعد ذلك إلى طريق خان جعفر فلاح لها عن 
بعد جانب من المنظر الخارجي الجامع الحسين. يتوسطه 
شبّاك عظيم الرقعة محل بالزخارف العربيّة» وتعلوه 
فوق سور السطح شرفات متراصة كأسئة الرماح 
فتساءلت والبشر يسجع في صدرها «سيّدنا الحسين؟) 
ولما أجايها بالإيجاب مضت تقارن بين المنظر الذي 
تقترب منه ‏ وقد حكّت خطاها لأوّل مرّة منذ غادرت 
البيت ‏ وبين الصورة التي خلقها خيالها له مستعيئًا في 
خلقه بنداذج من الجوامع التي في متناول بصرها كبجامع 
قلاوون فوجدت الحقيقة دون الخيال لأنمها كانت تنفخ 
في الصورة طولا وعرضًا على قدر يئاسب منزلة صاحب 
الجامع من نفسها بيد أنْ هذا الاختلاف بين الحقيقة 
والخبال لم يكن ليؤثْر شيئًا في فرحة اللقاء التي ثملت 
بها جوانحها. ودارا حول الجامع حيّى الباب الأختضر 
ودخلا في زحمة الداخلات. ولما وطثئت قدما الرأة 
أرض المسجد شعرت بأنّ بدنها يذوب رقّة وعطفًا 
وحناناء وأئّها تستحيل روحًا طائرًا يرفرف بجناحيه في 
سماء يسطم بجنباتها عرف النبوة والوحي فاغرورقت 
عيناها بالدمع الذي أسعفها للترويح عن جيشان 
صدرها وحرارة حبها وإيمانها وأريحيّة امتنانها وفرحهاء 
وراحت تلتهم بأعين شيّقة مستطلعة. جدرانه وسقفه 
وشْمّده وأبسطته ونجفه ومنيره ومحاريبه» وإلى جانبها 
كان كال ينظر إلى هذه الأشياء من ناحية أخرى خاضة 
به ترى أنّ الجامع يكون هزارًا للناس في النهار والمزيع 
الأول من الليل: وبيئًا من بعد ذلك لصاحبه الشهيد 
يذهب فيه ويجيء مستعملا ما فيه من أثاث على نحو 
ها يستعمل المالك ملكه. فيطوف بأرجائه ويصلٍ 5 
المحراب ويرتقي المنبر ويعلو النوافذ ليشرف على يه 
المحيط. وكم تمق حالمً) لو ينسونه في الجامع بعد أن 
يغلق أبوابه فيمكنه أن يلقى الحسين وجهًا لوجه وأن 


يمفي في حضرته ليلة كاملة حيّى الصباح, وتخيل ما 
يخلق به أن يقدّمه له عند اللقاء من آي الحِبٌ 
والنضوع وما يجدر به أن يلقيه عند قدميه من أمانيه 
ورغياته وما يرجوه بعد ذلك عنده من العطف والبركة, 
تيل نفسه وهو يقترب منه خافض الرأس فيسأله 
الشهيد برقة «من أنت؟» فيجيبه وهو يقبّل يده «كيال 
أحمد عبد الحواد» ويسأله عن عمله فيقول له «تلميذ ‏ 
ولن يسيى التنويه بتفوقه - بمدرسة خخليل آغا» ويسأله 
عا جاء به في هذه الساعة من الليل» فيجيبه بأنه حبّ 
آل البيت عامّة والحسين خاصّة؛ فيبسم إليه عطفاء 
ويدعوه إلى مرافقته في تجواله اللي وعلد ذاك يبو 
له بأمانيه جملة قائلا: «اضمن لي أن ألعب كما أشاء 
داخل البيت وخارجهء وأن تبقى عائشة وخحديجة في 
بيتنا إلى الأبد. وأن تغيّر طبع أبي» وأن تمد في عمر 
أمي إلى ما لا نبهاية» وأن آذ من المصروف قدر 
كفايتي» وأن ندخخل الحئة جميعًا بغير حساب». . . هذا 
وتيار الزائرات الزاحف في بطء يدفعها رويدًا حي 
وجدا نفسيهها في مثوى الضريح » طالما تلقفت أشواقها 
عل زيارة هذا المثوى كما تتلهّف على حلم يستحيل 
تحقيقه في هذه الدنياء ها هي تقف بين أركانه. بل ها 
هي لصق جدران الضريح نفسه. تشرف نفسها عليه 
خلال الدموع. وتودٌ لو تتريّث لتتملّ مذاق السعادة 
لولا شدّة ضغط الزحام؛. ومدّت يدها إلى الجدران 
الخشيية . واقتدى كمال بهاء ثم قرآ الفاتحة» ومسحت 
بالجدران وقبلتها ولسبانها لا يني عن الدعاء والتوسّل» 
ودت لو تقف طويلا أو تجلس في ركن من الأركان 
لتعيد النظر والتأمئل ثم لتعيد الطواف,. ولكن نخادم 
المسجد وقف للجميع بالمرصاد؛ لا يسمح لواحدة 
بالتلكؤ ويحتٌ المتباطئات, ويلوّح منذرًا بعصاه 
الطويلة. وهو يدعو الجميع إلى إتمام الزيارة قبل حلول 
ميعاد صلاة الجمعة. ارتوت من المنهبل العذب ولكئّها 
لم تطفئْ ظماهاء وهيهات أن يَرُْوى لها ظماء لقد 
أهاج الطواف -حنينها فتفجّرت عيونه وسال وزخخر ولن 
يزال يَنْشّد المزيد من القرب والابتهاج» ولا وجدت 
نفسها مرغمة على مغادرة المسجد انتزعت نفسها منه 


انتزاغاء وأودعته قلبها وهي توليه ظهرهاء ثم مضت 
حسرى يعذّبها شعورها بِأنْها تودّعه الوداع الأخير» بيد 
أن ما طبعت عليه من قناعة واستسلام آخذها على ما 
استسلمت له من الحزن فردها إلى تمل ما ظفرت به 
من سعادة طارت بها هواجس الفراق». ودعاها كيال 
إلى مشاهدة مدرسته فمضيا إليها في نهاية شارع 
الحسين. ووقفا عندها مليًا. ولا أرادت الرجوع من 
حيث أتت أنذره ذكر العودة بانتهاء الرحلة السعيدة مع 
أمّه التي لم يحلم بمثلها من قبل فأبى التفريط فيها 
واستمات في الدفاع عنها فاقترح عليها أن يسيرا في 
السكة الجديدة حيّى الغوريّةء ولكي يقضي على 
المقاومة التى بدت في صورة تقطيبة باسمة من وراء 
البرقم حلَّفَها بالحسين فتّدت. واستسلمت ليده 
الصغيرة» ومضيا يشقّان طريقه) في زحمة شديدة وبين 
تيارات متلاطمة من السائرين في جميم الجهات مما لم 
تجد عَشر معشاره في الطريق الحادئ الذي جاءت منه 
فعلاها الارتباك. وأحذت تفقد نفسها في اضطراب 
شامل. ولم تلبث أن شكت إليه ما تلقى من عناء 
وإعياء» ولكنّ تبالكه على إتمام الرحلة السعيدة جعله 
يصم أذنيه عن شكاتها ويشجّعها على مواصلة السير 
ويلهيها عن متاعبها بلفت نظرها إلى الدكاكين 
والعربات والمارة» وهما يقتربان في بطء شديد صوب 
منعطف الغورية. وعند ذاك المنعطف لاح لناظريه 
دكان فطائر فسال لعابه وثبتت عيئاه عليها لا تتحؤلان 
وراح يفككر في وسيلة لإقناع أمّه بالدخول إلى الدكان 
وابتياع فطيرة. وبلغا الدكّان وهو لا يزال يفكرء ولكنّه 
ما يدري إلا وأمّه تفلت من يده فالتفت نحوها في 
ذهول ورعب دون أن يبدي حراكا ولكنّه على ذهوله 
ورعبه رأى بجانب عيئه ‏ في نفس الوقت تقريبا - 
سيّارة تفرمل محدئة صونًا عنيفا ومرسلة وراءها ذيلا من 
الدخحان والغبار فكادت تدوس الملقاة لولا أن انحرفت 
عنها مقدار شبر» وتعالى صياح وحدثت ضجة وهرع 
الناس إلى المكان من جميع نواحي الطريق كما تمسرع 
الصبيّة إلى صفارة الحاوي فضربوا حوها حلقة غليظة 
بدت أعيئًا مستطلعة ورءوسًا مشرئبة وألسلة متف 


بين القصرين 4١١‏ 


بكلام اختلطت أسئلته بأجوبته. وأفاق كيال من 
الصدمة بعض الشيء فراح يردّد عينيه بين أمّه الملقاة 
عند قدميه وبين الناس في حال ناطقة بالخوف 
والاستغاثة ثم ارتمى على ركبتيه إلى جانبها ووضع كمه 
على منكبها وناداها بصوت تفتّتت نيراته بحرارة الرّجاء 
ولكنّها لم تستجب له فرفع رأسه مقلبًا عينيه في وجوه 
الناس, ثم صرخ باكيا في نحيب حارٌ علا على الضجة 
التي تكتنفه حتى كاد يسكتها وتطوع البعض لمواساته 
بكلمات لا تعنى لماء وانحنى آخرون فوق أمسه 
مستطلعين بنظرات كمنت وراءها رغيتان: تنشد 
إحداهما السلامة للضحية وتنزع الأخحرى - في حال 
اليأس من السلامة. إلى أن ترى الموت ‏ ذلك الحتم 
المؤجّل ‏ وهو يطرق بابًا غير باهم. وينتزع روحًا غير 
روحهم كأنهم يودٌون أن يقوموا بشبه بروفا آمنة لأخطر 
دور قضي عليهم جميعًا أن يختموا الحياة بلعبة» وصاح 
أحدهم قائلا وصدمها باب السيّارة الأيسر في ظهرهاء. 
وقال السائق الذي غادر السيّارة ووقف محتنهًا بجوّ 
الاتهام الذي يطبق عليه «لقد انحرفت عن الطوار بغتة 
فلم أستطع أن أتفادى من صلمهاء ولَكبي قرهلت 
بسرعة فجاءت الصدمة خخحفيفة, ولولا رعاية الله 
لدستها». . . وجاء صوتث من المحدّقين إليها قائلا «ما 
زالت تتنفس... أغمي عليها فقط»» وعاد السائق 
يقول وقد لمح الشرطيٌ قادمًا يترنْحم سيفه بجنبه الأيسر 
«إنْبا صدمة حفيفة... لم تتمكن منها أبذًا. إثْها 
بخير. .. بخير يا جماعة والله. . .» ثم انتصبت قامة 
أوّل رجل تقدّم لفحصها وقال كما يلقي خطبة 
«وابتعدوا ولا تمنعوا المحواء... فتحت عينيها... 
بخير. . . بخير والحمد لله!. . .2 كان يتكلم بابتهاج 
لا يخلو من زهو كأنه هو الذي رد إليها الحياة» ثم 
تحول إلى كال الذي غلبه بكاء عصبيّ فاسترسل فيه في 
انفعال لم تجد معه مواساة المواسين. تحؤل إليه وربت 
على خدّه بحئان وقال له «حسبك يا بنّ... أمك 
بخير. . . انتظر. . . هلم ساعدني على إقامتها». . . 
ولكنّ كيال لم يمسك عن البكاء حي رأى أمّه تتحرّك 
فيال نحوها ووضع يسراها على كتفه. وعاون الرجل 


بين القصرين 
على إقامتها حي أمكن بجهد شديد أن تقف بينهها في 
إعياء ونور وقد سقطت عا الملاءة الني امتذت بعض 
الأيدي لتعيدها إلى موضعها ‏ بقدر الإمكان ‏ حول 
كتفيهاء ثم قدّم لها الفطائري الذي وقعت الحادثة أمام 
دكانه مقعدًا فأقعدوها عليه وجاءها بقدح من الماء 
فتجرعت جرعة سال نصفها على عنقها وصدرها 
فمسحت بيدها على صدرها بحركة عكسية وهي تزفر 
زفرة عميقة. وجعلت تردّد أنفاسا مضطربة بصعوبة 
وتنظر في وجوه المحدقين بها في ذهول وهي تتساءل 
«ماذا جرى؟... ماذا جرى؟. . . رباه لماذا تبكي يا 
كيال؟41 وعند ذاك اقترب الشرطي منها وسألها دهل 
بك سوء يا سيّدتي؟ وهل تستطيعين السير إلى القفسم؟» 
فصدم اسم «القسم» عقلها فرججّها من الأعياق وهتفت 
بفزع «لاذا أذهب إلى القسم؟... لا أذهب إلى 
القسم أبدًا؛ فقال لها الشرطيئ «لقد صدمتك السيّارة 
فأوقعتك, فإذا كان بك سوء وجب أن تذهبي أنت 
وهذا السائق إلى القسم لتحرير المحضر» ولكتّها قالت 
وهي تلهث وكلا... كلا... لن أذهب. .. أنا 
بخير» فقال لها الشرطيّ «توكدي مما تقولين» أنبضي 
وامشي لنرى إن كان أصابك سوءء ولم تترذد عن 
النبوض - مدفوعة بالفرع الذي أثاره ذكر القسم ‏ 
فيضت وأصلحت ملاءتها ثم سارت نحت الأعين 
المستطلعة وكبال إلى جانبها ينفض عن الملاءة ما علق 
بها من تراب» ثم قالت للشرطيّ وهي ترجو أن تنتهي 
هُذه الحال المؤلة بأي ثمن إن بسخير. .. (ثم مشيرة 
إلى السائق). . . دعوه. . . لا شيء بي» لم تعد تشعر 
بخور فيا ركبها من خحوفء هاا منظر الناس 
المحدقين مهاء خاصة الشرطيّ الذي يتقدّمهمء 
وارتعدت تحت وقم النظرات المصوبة نحوها من كل 
مكان متحدّية باستهانة بالغة تاريخًا طويلا من التستر 
والتخفّى فتخايلت لعينيها فوق هذا الجمع صورة 
السيّد وكأئها تتفرس في وجهها بعيئين باردنين 
متحجرتين منذرتين بما لا تطيق تصوره من الشرّء فلم 
تأل أن قبضت على يد الغلام واتجهت به صوب 
الصاغة فلم يعترض سبيلها أحد وما غيبهها منعطف 


الطريق حب شهقت من الأعماق وخخاطبت كيال وكأئما 
تخاطب نفسها ديا ري ماذا حدث؟ ماذا رأيت يا كيال؟ 
كانه حلم مفزع. خيّل إل أني أهوي من عل إلى 
هاوية مظلمة؛ وأنْ الأرض تدور تحت قدمٌ» ثم 
غبت عن كل شيء حب فتحت عي على ذلك المنظر 
الشيقد» وتافم .عل ازافيعنا ان يدهت بال 
القسم؟! يا لطيف يا رب. .. يا منجي يا رب» متي 
نبلغ بيتها؟! بكيت كثيرًا يا كال لا دمعت عينيك 
أبدًا. . . جف عينيك ببذا المنديل حيّى تغسل وجهك 
في البيت. . . أه. 

وتوفّفت عن السير بعد أن أوشكا أن يطويا طريق 
الصاغة. واعتمدت بيدها على متكب الغلام وقد 
تقلّص وجههاء فرفم كيال وجهه إليها منزعبًا وسأها: 

ماذا بك؟! 

فأغمضت عينيها وهي تقول بصوت ضعيف: 

- إِنْ تعبة» تعبة جذَّاء لا تكاد تحملني قدماي, 
ادع أوؤل عربة تصادفك يا كمال. 

ونظر كمال فيها حوله فلم ير إلا عربة كارو واقفة 
عند باب مستشفى قلاوون فنادى الحوذيّ الذي بادر 
إلى سوق العربة حتّى وقف بها أمامه) واقتربت الأم 
منها متكئة على كتف كال ثم صعدت إلى سطحها 
بمعونته واعتمادًا على منكب الحوذيّ الذي وظأه لما 
حتى تربعت وهي تتدهد في إعياء شديدء وجلس كهال 
إلى جانبها ثم وثب الحوذيّ إلى المقدّمة ونخس الحوار 
بقبضة سوطه فمشثى مشيته الوئيدة والعربة تترنّح وراءه 
مطقطقة... وتاأوؤهت المرأة متمتمة وما أشدٌ ألمي. 
عظام كتفي تتفككك» هذا وكال يرمقها في جزع 
وقلق. . . ومرّت العربة في طريقها بدكان السيّد دون 
أن يعيراها التفاناء ومضى كال يتطلع إلى الأمام حي 
لاحت لعينيه مشربيات البيت... لم يعد يذكر من 


الرخلة السعينة إلا فبايقها المحونة:. 


584 
فتحت أمّ حنفي الباب فأذهلها أن ترى سيّدتها 
متربئعة على عربة كاروء وقد ظنْت لأوّل وهلة أنه ريما 


يكون قد خطر لها أن تختم رحلتها بجولة في العربة 
على سبيل اللهو فلاحت على وجهها ابتسامة ولكن إلى 
لحظة قصيرة إذ ما لبثت أن رأت عيني كبال المحمرتين 
من البكاء فارتدّت عيناها إلى سيّدتما في انزعاج 
واستطاعت هذه المرّة أن تلمس ما تعاني من إعياء 
فندّت عها آهة وهرعت إلى العربة هاتفة «سيّي 
مالك. بعد الشرّ عنك» فقال الحوذيّ «تعب بسيط إن 
شاء اللهء عاونيني على إنزالها» وتلقّتها المرأة بين 
ذراعيهاء وسارت بها إلى الداخل وتبعهما كمال واجما 
محزوناء وكانت خخديجة وعائشة قد غادرتًا المطبخ 
وانتظرتا في الفناء وكلتاهما تفكر في دعابة تلقى مها 
القادمين فا راعهما إلا أن تطلع عليههما أمّ حنفي من 
الدهليز الخارجئ وهي تكاد تحمل الأمّ حملا فددّت 
عنبيا صرخخةء وهرعتا إليها فزعتين وهما تبتفان: 

0 . مالك! 

وتعاونوا جميعًا على حملهاء ولم تكفٌ خديجة في أثناء 
ذلك عن أن تسأل كبال عا حدث حبّى اضطرٌ الغلام 
إلى أن يغمغم في خحوف بالخ : 

سيارةٌ] 

ع سساو لو 

هكذا هتفت الفتاتان معا مرذدتين الاسم الذي وقع 
من نفسيههما موقعا ممْزعًا فاق الاحتال. فولولت تخديجة 
هائفة ويا خير أسود. . . بعد الشر عنك يا نينة»؛ أمّا 
عائشة فانعقد لساءها وأفحمت في البكاء. ولم تكن الأمُ 
غائبة عن الوجود وإن كانت من الإعياء في نهاية 
فهمست على إعيائها رغبة في تسكين اضطرابهها : 

- إن بخير» لم يحدث سوءء ما بي إلا تعب. 

وتناهت الضبجة إلى ياسين وفهمي فخرجا إلى رأس 
السلمء وأطلا من فوق الدرابزين وما لبثا أن نزلا 
مهرولين منزعجين وهما يتساءلان عا حدث,؛ ولم تملك 
خديجة إلا أن تشير إلى كيال ليجيب بنفسه مشفقة من 
ترديد الاسم الرهيب فاتجه الشابّان إلى الغلام الذي 


عاد يغمغم بحزن وارتياك : 
- سيارة ! 
ثم انتحب باكيّاء وتحول الشابان عنه مؤجلين ما 


بين القصرين +١‏ 

يلح عليهما من أسئلة إلى حين» وحملا الأمّ إلى حجرة 
الفتاتين وأجلساها على الكنبة» ثم سأها فهمي قلمًا 
معذّبًا : 

- خريني عما بسك يا نيلة. أريد أن أعرف كل 
شيء . 

ولكتها مالت برأسها إلى اللسوراء ولم تنبس بكلمة 
ريثا تستردٌ أنفاسها على حين علا بكاء نخديجة وعائشة 
وأمْ حنفي وكيال حيّى فقد فهمي أعصابه فثار مهن 
ونبرهنْ حبّى أمسكن, ثم جذب كمال إليه ليستجوبه 
عا يريدء كيف وقع اللحادث, وماذا فعل الناس 
بالسائق.» وهل أخذوكيا إلى القسم. وكيف كان حال 
الأمّ في أثناء ذلك كله هذا وكيال يجيبه على أسئلته بلا 
تردد وفي إسهاب» وعن أكثر التفاصيل» وكانت الأم 
تتابع الحديث بالرغم من وهنها فلم) سكت الغلام 
استجمعت قواها وقالت: 

- إفي بخير يا فهمي. لا تزعج نفسك, كانوأ 
يريدون أن أذهب إلى القسم فرفضت, ثم واصلت 
السير حيّى هباية الصاغة وهناك خارت قواي فجأة, لا 
تنزعج » سأستردٌ قواي بعد راحة قصيرة. 

إلا أن ياسين على - إلى انزعاجه للحادث ‏ حرجا 
شديدًا لأله كان المسئول الأول عن الرحلة المشئومة - 
بهذا وصفت بعد الحادث ‏ فاقترح عليهم أن يستدعوا 
طبيباء وغادر اللحجرة لتنفيذ اقتراحه دون انتظار لمعرفة 
رأي الآخرين» وارتعدت الأمٌ لذكر الطبيب كما 
ارتعدت من قبل لذكر القسم فرجّت فهمي أن يلحق 
بأخيه وأن يثنبه عن عزمه مؤكدة له بأثها ستبرأ دون 
حاجة إلى طبيب ولكنّ الشابٌ رفض الإذعان لرجائها 
مبينًا لها أوجه الفائدة المنوطة بمجيئهء وني أثناء ذلك 
تعاونت الفتاتان على نرع الملاءة عنهاء وجاءتها أمْ 
حنفي بقدح ماء ثم أحاطوا بها حميعا وهم يتفشخصون 
بقلق وجهها الذي عبلاه الشحوب ويسالوها صرارًا 
وتكرارًا عا تجد. وهي تحاول ما استطاعت أن تتظاهر 
بالهدوء أو أن تقنع بأن تقول إذا أل عليها الألم «ثمة 
ألم خفيف في كتفي اليمى) ثم تستدرك قائلة «ولكن ل 
يكن من داع لاستدعاء طبيب»؛ والحقٌ أنْها لم ترتح 


4 ؛ بين القصرين 
لاستدعائه أبدّاء لأثّها من ناحية لم تلق طبيبًا قط لا 
لحصانة صحّتها فحسب - ولكن لأنّبا نجحت دائًا في 
مداواة ما يلم مها من توعّك أو انحراف بطبّها الخاص 
فلم تؤمن بالطبٌ الرسمي, إلى أنه اقترن في ذهنها 
بالحوادث الخطيرة والخطوب الفادحة. ومن ناحية 
أخرى فقد شعرت بأنّ استدعاء الطبيب من شأنه أن 
هوّل الأمر الذي تودٌ له السثر والطئ قبل عودة 
السيّد. . . ول تَالُ أن أفصحت لأبنائها من مخاوفها. 
ولكتّهم لم يبتموا في تلك اللحظة الدقيقة إلا بثيء 
واحدى هو سلامتها. 

ولم يغب ياسين أكثر من ربع ساعة لأنْ عيادة 
الطبيب كانت في ميدان بيت القافى. ثم عاد يتقدّم 
الرجل الذي أدخل على الأمُ حال حضوره؛» وأخليت 
الغرفة فلم يبق بها معه إلا ياسين وفهمي. وسأل 
الطبيب الأمٌ عا تشكو فأشارث إلى كتفها اليمى وقالت 
وهي تزدرد ريقها الذي جف من الخنوف: 

- أشعر هنا بأل . 

وعلى هَذْي إشارتهاء إلى ما حدّثه به ياسين في 
الطريق عن الحادث جملة؛ تقدّم لفحصهاء وطال وقت 
النحص في شعور الشاتئين النتظرين في الداحل» 
وشعور المنتظرات وراء الباب مرهفات السمع شخخافقات 
القلبء وتحول الطبيب عن المصابة إلى ياسين قائلًا: 

- كسر في الترقوة اليمنى» هذا كل ما هنالك. 

وأحدثت «لفظة» الكسر ارتياعًا في الداحل 
والخارج. وعجب الجميع لقوله «هذا كل ما هنالك) 
كأنَ وراء الكسر شيئًا ينّسع له احتوالهم. على أنْم 
وجدوا في ذات التعبير» واللهجة التي ألقى ببا ما 
بغري بالطمأنينة فتساءل فهمي وهو بين الخنوف 
والأمل : ْ 

د وبل هرذ وححطور؟ 

كلا ألبتة» سأعيد العظم إلى سابق موضعه وأشدّه 
ولكن عليها أن تنام بضع ليال, وهى قاعدة مسئلة 
الظهر إلى وسادة لأنه سيتعذّر عليها أن تنام على الظهر 
أو الجنيين؛ وسوف يجبر الكسر وتعود إلى ما كانت عليه 
في ظرف أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر. لا داعي 


للخوف مطلقًا. . . والآن دعوني أعمل. . . 

ومها يكن من أمر فقد استروحوا نسمة سلام بعد 
أذ تحدية منهم الحناجرء وبدا هذا الأثر واضحًا بين 
الجماعة خارج الحجرة فتمتمث خخدنجة : 

فلتحلّ بها بركة سيّدنا الحسين الذي ما .خرجت 
إلا لزيارته. 

وكأنًا تذكّر كال بقولها أمرًا هاما أنْسيه طويلا فقال 
بدلهشة : 

كيف أمكن أن يقع لها هذا الحادث بعد تبركها 
بزيارة سيّدنا الحسين؟ 

ولكنّ أمّ حنفي قالت ببساطة: 

- ومن أدرانا بما كان يحدث لها والعياذ بالله - لو لم 
تتيرك بزيارة سيّدها وسيدنا؟ 

ولم تكن عائشة قد أفاقت من أثر الصدمة فضاق. 
صدرها بالحديث وهتفت برجاء حاز: 

- آه يا ري متى ينتهي كل شيء كأله لم يكن! 

وعادت حديجة تقول بأسفف وحسرة: 

ما الذي ذهب بها إلى الغورية؟! لو رجعت بعد 
الزيارة إلى البيت مباشرة لما حدث لما الذي حدث! 

فدقٌ قلب كال خوفًا وانزعاجًا وتجسّم ذنبه لعينيه 
جريمة نكراء ولكنّه حاول التملص من الشبهات فقال 
بلهجة تلم عن لوم : 

- أرادت أن تتمنّى في الطريق وعبثًا حاولت أن 
أئنيها عن إرادتها. 

فحدجته خديجة بنظرة اتهام وهمّت بالردٌ عليه ولكتّها 
أمسكت إشفافًا وعطفًا عل وجهه الذي علاه 
الاصفرار» ثم قالت لنفسها وحسبنا ما نحن فيه 
الآن؛. 

وفتئح الباب وغادر الطبيب الحجرة وهو يقول 
للشابين اللذين تبعاه: 

- ينبغي أن أعودها يوما بعد يوم حبّى يجبر الكسر. 
وكا قلت لكا لا داعي للخوف مطلقا. 

واقتحم الجميع الحجرة فرأوا أمهم قاعدة في 
الفراش» مسئدة الظهر إلى وسادة مكسورة وراءها ول 
يكن ثمّة تغيبر إلا ارتفاع في كتف الفستان فوق منكبها 


الأيمن وشى بالرباط الذي تحته فهرعوا إليها وهتفوا: 

الحمد لله . 

وكم اشتدّ بها الألى والطبيب يعالج الكسر فأنّت 
أنيئًا متواصلا. ولولا ما طبعت عليه من حياء لصرخحت 
عاليّاء ولكن زايلها الآن الألم» أو هكذا بداء وشعرت 
براحة نسبيّة وسكيئة؛ بيد أن زوال حدّة الألى مكنت 
لعقلها من استئناف نشاطه فاستطاعت أن تفكر في 
الموقف من مختلف نواحيه وما لبث أن ركبها الخوف 
فقالت متسائلة وهي تردّد بيهم بصرًا زائعًا: 

ما عسبى أن أقول لأبيكم إذا رجم؟ 

اعترض هذا السؤال ‏ ساخرًا متحذيا-د نسمات 
الطمأنينة الى سكنوا إليها ى) تعترض الصخور الناتئة 
سبيل سفينة آمنة» على أنه لم يج مفاجئة لوعيهم. بل 
لعلّه اندسٌ في زحة المشاعر الأليمة التي ورت بها 
قلوبيم لدى ارتطامها بالخبر ولكدّه ضاع في زحمتها 
فتأجل حسابه إلى حين. الآن قد عاد ليحتل الصدارة 
من نفوسهمء. فلم يجدوا مهربًا من مواجهته. ورأوا 
بحقٌّ أنه أشدّ عليهم وعلى أمّهم من الإصابة التي 
خحرجت منها وشيكة الشفاء. وشعرت الأم - للصمت 
الذي قوبل به سؤالها ‏ بعزلة المانب إذا تخل عنه رفاقه 
حين انكشاف تهمته فتمتمت بنيرات شاكية : 

- سيعلم حتًا بالحادث. وسيعلم أكثر من هذا 
بخر وجي الذي أذى إليه . 

ومع أنْ أمّ حنفي لم تكن دون أفراد الأسرة قلمًا ولا 
أقلّ إدراكًا لخطورة الموقف إلا أثْها أرادت أن تقول 
كلمة طيّبة» تلطيفًا للجوّ من ناحية» ولأئها كانت تشعر 
من ناحية أخرى بأنْ الواجب يقضي عليها- كخادم 
الأسرة القديمة الأميئة ‏ بالا تلوذ عند الشدائد بالممت 
أن يظنٌ بها عدم اكتراث. فقالت وهي أذرى سعد 
قوها عن الواقع : 

إذا علم سيّدي بما وقع لك فلن يسعه إلا أن 
يتنابى هفوتك حامدًا الله على نجاتك . 

وقويل قوها بالإهمال الذي يستحقّه عند قوم لا 
تخفى عليهم من حقيقة الموقف خافية» إلا أن كمال 
أمق ناك ونال مففتةا وكانه ين كلام | مدن 


بين القصرين 4١١‏ 

- خصوصًا إذا قلنا له إِنْ خروجنا كان لزيارة سيّدنا 
لض 

وردّدت المرأة عينيها الخابيتين بين ياسين وفهمى 
وتساءلت : ْ 

ما عمبى أن أقول له؟ 

فقال ياسين الذي هاضته شدّة مسئوليته : 

أي شيطان أضْأَتي حين نصحت لك بالخروج: 
كلمة جرت على لساني ولَيْنّها ما جَرَتَء ولكن هكذا 
شاءت الأقدار لترمي بنا في هذا اللأزق الأليم» على 
أنّني أقول لك بأنّنا سنجد ما نقوله, وأيًا كان الأمر فلا 
ينبغي أن تشغلي فكرك بما سيكون. دعي الأمر لله 
وحسبك ما قاسيت في يومك من الام ومحاوف . 

تكلم ياسين بحاس وعطف معاء فصبٌ سخطه 
على نفسه. وعطف على الأمّ عطف التألم لحالهاء ومع 
أن كلامه لم يقدم وم يؤر إلا أنه روح عن شعوره 
الضيق بالحرج؛ وأفصح به في نفس الوقت عمّا عساه 
يدور في عقول بعض - أو كل من يقفون إلى جانبه 
فأغناهم عن الإفصاح عنه بأنفسهم إذ أن التجربة 
علّمته بأنّه أحيانا ما يكون السبيل خير السبيل للدفاع 
عن النفس هو الحجوم عليها وأنْ الاعتراف بالذنب 
يغري بالصفح بقدر ما يغري الدفاع عنه بالغضب. 
وكان أخوف ما يخاف أن تنتهز خديجة الفرصة السائحة 
لتحمّله جهارًا مسئوليّة ما أدّت إليه مشورته وتتخذها 
سبيلا إلى مهاحمته فسبقها إلى غرضها قاطعًا عليها 
الطريق» ول يكذب ظنّه فالحنٌ أن خديجة كانت على 
وشك أن تطالبه - بصفته المسثول الأول عا وقع ‏ بأن 
يجد لما خرجاء فلا ألقى خطابه استحيت من مهاجمته 
خاصّة وأئبا لا عماجمه عادة إلا على سبيل النقار لا 
الكراهة. بذلك تحسّن موقفه بعض الشيء ولكن 
الموقف العام بقى على سوئه. وظل كذلك حتّى 
خرجت نخديجة من صمتها قائلة : 

- لماذا لا ندّعي أنّبا سقطت من السَلّم؟ 

فتطلّعت إليها أمّها بوجه يتلهّف على النجاة من أي 
سبيل ؛ وقلبته بين فهمي وياسين وقد لاحت بعينيها 
لمعة أمل» بيد أن فهمي تساءل في حيرة: 


2١5‏ بين القصرين 


- والطبيب؟... سيعودها يومًا بعد يوم وسيقابل 
أبي بالضرورة. 

ولكنّ ياسين أى أن يغلق الباب الذي تسلّلت منه 
نسمة أمل حريّة بأن تستنقذه من آلامه ومخاوفه فقال: 

- نتّفق مع الطبيب على ما ينبغي أن يقال لأبي؟ 

وتبودلت النظرات بين التصديق والتكذيب» ثم 
شاع في الوجوه البثر للإحساس المشترك بالنجاة وتغير 
الحو القاتم إلى جو بهيج كما تبدو وسط السحاب 
المكفهرز فجوة زرقاء على غير انتظار فتنداح بمعجزة 
عجيبة حي تشمل القبّة الساويّة في دقائق معدودات 
ثم تضىء الشمس» قال ياسين وهو يتاهد : 

- نجونا والحمد لله , 

فقالت خخديجة بعد أن استعادت في الجر الحديد 
نشاطها المألوف: 

- بل نجوت أنت يا صاحب المشورة. . . 

فقهقه ياسين حتّى اهتز جسمه الضخم وقال: 

أجل نجوت من عقرب لسائك» طاما توقعت أن 
تمتدٌ إل بين حين وآخر لتلسعني. . . 

ولكتبا هي التي أنقذتك, ومن أجل الورد يسقى 
الع 

كادوا ينسون من فرحة النجاة أن أمّهم طريحة 
الفراش مكسورة الترقوة» ولكها هي نفسها كادت أن 


1 

فتحت عيليها فوقم بصرها على خخديجة وعائشة 
جالستين على الفراش عند قدميها رانيتين إليها بعينين 
يتنازعهما الخوف والرجاء. فتتيّدت ثم التفتت صوب 
النافذة فرأت خصاصها ينضح بضوء الضحى فتمتمت 
كالمستغرية : 

حلت وات 1 

فقَالتِ عائسة : 

- ساعات معدودة بعد أن طلع عليك الفجر دون 
أن يغمض لك جفن . . . يا لها من ليلة لن أنساها 
مهما امت بي العمر. . . 


وعاودتها ذكريات الليلة الماضية من الأرق والألم 
فنطقت عيناها بالرثاء ‏ لنفسها وللفتاتين اللتين سهرتا 
إلى جانبها طول الليل يبادلاا الألم والآرق - وتحركت 
شفتاها وهي تستعيذ بالله بصوت غير مسموع ثم 
حمست قائلة فييا يشبه الحياء : 

شد ما أتعبت)! . . . 

فقالت نخديجة بلهجة توحي بالدعابة : 

- تعبك راحةء ولكن إيَاك وأن تعودي إلى 
إرعابنا. .. (ثم بنبرات غلبها التأثر)... كيف 
هاجمك ذاك الألم المخيف؟1!... لقد حسبتك 
استغرقت في النوم وأنت على أحسن حال» واستلقيت 
لأنام بدوريء وإذا بي أستيقظ على أنينك». ثم لم 
تمسكي عن آه. , . آه حيّى مطلع الفجر. . . 

وعملل وجه عائشة بالتفاؤل وهي تقول : 

على أيّ حال أبشري» لقد أخبرت فهمي عن 
حالك حين سألني عن صحّتك في الصباح فقال لي إِنْ 
الألم الذي انتابك دليل على أن العظم المكسور كان 
آخدًا في الالكام. . . 

وجذببا اسم فهمي من ل أفكارها فتساءلت : 

ذهبوا بسلامة الله؟ 

ب طبعاء كانوا يودّون محادئتك ليطمئئوا عليك 
بأنفسهم لكي لم أسمح لأحد بأن يوقظك من النوم 
الذي لم تدخبليه حبّى شيبتنا. . . 

فتنيدت الأم في استسلام : 

الحمد لله على كلّ حال. ريّنا يجعل العواقب 
سليمة. . . في أي وقت نحن الآن؟. . . 

فقالت نخد نحجة ؛: 

- كلها ساعة ويؤذن الظهر. . . 

ودعاها تأر الوقت إلى أن تخفض عينئيها متفكرة 
ثم رفعتهما فإذا بها تعكسان نظرة قلق؛ وتمتمت : 

د لعلهة الآن فى الطريق ]ل اليتاء.... 

وأدركتا من تعني» ومع أئْهها شعرتا بدبيب الخوف 
في قلبيها إلا أن عائشة قالت بثقة : 

أهلا به وسهلا. لا داعي للقلق» اتفقئا على ما 


ينبغي أن يقال وانتهى الأمر. . . 

ولكنْ اقتراب عودته أشاع في نفسها المهزولة القلق 
فتساءلت : 

- تُرى هل يمكن التسيّر على ما وقع؟ 

فقالت لخديجة بصوت ارتفعت حذته بنسبة قلقها 
المتزايد : 

فاوط 491 
الأمر بسلام . . . 

تلت في تلك الساعة لو بقي ياسين وفهمي إلى 
جانبها ليشجعاها. تقول خديجة سنخيره بما تم الاتفاق 
عليه فيمرٌ الأمر بسلام. ولكن هل يظلٌ ما وقع سرًا 
مغلقًا إلى الأبد. . . ألا تجد الحقيقة فرجة تنفذ منها إلى 
الرجل؟... كم تخاف الكذب بقدر ما تحاف 


. سنخبره بما تم الاثفاق عليه فيمرٌ 


الحقيقة» ولا تدري أيّ مصير يترئص ببها. . . وردّدت 
عينيها بعطف بين الفتاتين وفتحت فاها لتتكلم حين 
دخلت آم حنفي مهرولة وهي تقول بصوت مهموس 
كأنها تخاف أن يسمع خارج الحجرة : 

- سيّدي جاء يا سب , . . 

وخفقت قلوببن في اضطراب. وجلت الفتاتان عن 
الفراش في وثبة واحدة ثم وقفتا حيال أمهما يتبادلن 
حميعًا النظر صامتات حي غمغمثت الم : 

لا تتكلما أنتها فإ أخاف عليكا مغبّة ممادعته, 
اتركا لي القول والله المستعان. . . 

وساد صمت مشحون بالتوئر كالصمت الذي يركب 
أطفالا في الظلام إذا قرع آذانهم وقع أقدام من 
يظنوهم عفاريت يجوسون في الخارج؛ حيّى شرامى 
إليهنّ وقع أقدام السيّد على السلّم وهي تقترب 
فأزاحت الأمّ كابوس الصمثت بمشقّة وغمغمت. . . 

- إذا تركناه صعد إلى حجرته لم يجد أحدًا؟! . . . 

ثم التفتت صوب أمْ حنفي قائلة : 

- أخبريه بأنّئى هناء مريضة, ولا تريدي. . . 

وازدردت ريقها الجافق. أما الفتاتان فمرقتا من 
الحجرة مستبقتين وغادرتاها وحيدة» ووجدت نفسها 
وكأئهبا في عزلة عن العالم كله فاستسلمت للمقادير. 
وكثيرًا ما يبدو هذا الاستسلام في سلوكها ‏ الأعزل من 


بين القصرين 4١17‏ 

كل سلاح ‏ كأسلوب من أساليب الشجاعة السلبيّة, 
واستجمعت فكرها لتتذكر ما يجب قوله بَيْد أنْ الشكُ 
في سلامة تدبيرها لم يزايلها قط وكّمَنَ في أعباق 
شعورها معلنًا عن ذاته بحال من القلق والتوثّر وتبدد 
الثقة وجاءها وقع طرف عصاه على أرض الصالة 
فخمغمت «رحمتك يا رب وعونك» ثم تطلّع بصرها إلى 
الباب حتى اعترضه جسمه الطويل العريضء ورأته 
وهو يدخل مقتربا ملقيًا عليها نظرة متفخصة من عينيه 
الواسعتين حتّى وقف في منتصف الحجرة وهو يتساءل 
بصوت غالَتّهِ رقيًا على غير عادته : 

مالك؟ . , 

فقَالت وهي تغض بصرها: 

- حمدًا لله على سلامتك يا سيّدي» بخير ما دمت 
- لكنّ أمّ حنفي قالت لي إِنْك مريضة. . . 

فأشارت بيسراها إلى كتفها وقالت: 

- أصيب كتفي يا سيّدي لا أراك الله سوءًا. . . 

فتساءل الرجل وهو يتفرّس في كتفها باهتمام وقلق : 

ماذا أصابه؟ 

حم الأمر» وجاءت الدقيقة الفاصلة؛ ما عليها إلا 
أن تتكلم, أن تنطق بكذبة النجاة» فتمرٌ الأزمة بسلام 
وتستزيد من العطف المتساحء ورفعت عينيها وهي 
تتونّب» فالتقت عيناها بعينيه: أو بالأحرى عيئاها في 
عينيه» فاشتدٌ وجيب قلبهاء وتتابع بلا رحمة» هناك 
تبخر ما جمعته في رأسها من رأي, وانتثر ما كّلته في 
إرادمبا من عزم» ورمشت عيناها في اضطراب 
وذهول. ثم رنت إليه بطرف حاشر دون أن تنبس 
بكلمة» وعجب السيّد لاضطرابها فتعجّلها متسائلا: 

ماذا حدث يا أميئة؟ | 

لا تدري ماذا تقول» كأنّه ليس لدبها ما تقوله ولكن 
بات في حكم اليقين أنه لم يعد بوسعها أن تكذب, 
أفلتت الفرصة دون أن تدري كيف» ولو أئها أعادث 
المحاولة لخرجت من صدرها مبتورة مكشوفة. كانت 
كمن يسير وهو منوّم تنويًا مغناطيسيًا على بل إذا 
دعي إلى إعادة مخاطرته وهو صاح , وكلما مرّت الثواني 


4 بين القصرين 
غاضت في الارتباك والمزهة حيّى أَشْفَت على 
اللافن دن 
- لماذا لا تتكلمين؟ . . . 

ها هي لمجته بدأت تنم عن نفاد صير ولا يبعد أن 
تقعقع قريبًا بالغضب, رباه لشدّ ما هي في حاجة إلى 
العون. أي شيطان أغواها بتلك الخرجة المشثومة. . . 

- عجبًا ألا تريدين أن تتكلمي؟!... 

وبات السكوت فوق طاقتها فتمتمت بصوتث 
متهدّج مدفوعة الاين والقهر: 

أخطات خطأ كبيرًا يا سيّدى... صدمتني 
سيارة . . . 

وانّسعت عينا السيّد دهشة ولاح فيهها انزعاج 
مقرون بالإنكار... وكأنه بات يشكٌ في صحّة قواها 
العقليّة. ول تعد المرأة تحتمل الترذد وصمّمت على أن 
تبوح باعترافها كاملا مهما تكن العواقب» كمن يقدم - 
مغامرًا بحياته على إجراء عمليّة جراحية خطيرة 
ليتخلّص من آلام داء لا قِبّل له به» وتضاعف عند 
ذاك شعورها بفداحة الذْئب وخطورة الاعتراف 
فدمعت عيناها وقالت بصوت لم تُعْنَ بإخفاء نبراته 
الباكية إمّا لأنه غلبها على صوتا أو لأنْبا أرادت أن 
تبذل محاولة يائسة لاستدرار العطفا. . . 

ظئنت أن سيّدنا الحسين يدعوني إلى زيارته 
فلبيت... ذهبت للزيارة... وفي طريق العودة 
صدمتني سيارة. .. قضاء الله يا سيتدي. .. ولقد 
بضت من سقطبتي دون معاونة أحد (قالت العبارة 
الأخيرة بوضوح) ولم أشعر بادئ الأمر بأيّ ألم فحسبتني 
بخير وواصلت السير حي عدث إلى البيت» وهنا 
ترك الألم فأحضروا لي الطبيب ففحص كتفي وقرّر أن 
به كسرًا ووعد بأن يعودني يومًا بعد يوم حتّى يجير 
الكسرة لقد أخطأت خطا كبيرًا يا سيّدي وجوزيت 
عليه بما أستحق. . . والله غفور رحيم. . . 

أنصت السيّد إليها صامتا جامدّاء لم تتحول عنها 
عيناهء ول يَبْدّ في وجهه أثر تما يعتلج في صدره على 
حين نكست هى رأسها في تفشع بحال من ينتظر 
النطق بالحكم. وطال الصمت,. وإشتدٌء وشاعت في 


عو القن ذو كنوت والوضيةه وف وت ديق ار 
تدري عن أيّ قضاء يتمخض ولا إلى أيّ مصير يقذف 
بباء حتّى جاءها صوته وهو يقول في هدوء غريب: 

- وماذا قال الطبيب؟... هل ثمّة خطر على 
الكسر؟! 

فالتفت رأسها صوبه بذهول... أجل توقعت كل 
شيء إلا أن يجود ببذا القول اللطيف, ولولا رهبة 
الموقف لاستعادته لتتوكد من صحّة ما سمعت. وغلبها 
التأثر فطفرت من عينيها دمعتان غزيرتان فشدّت على 
شفتيها أن تفحم في البكاء. ثم غمغمت في ذلة 
وانكسار: 

- قال الطبيب إِنَّه لا داعي للخوف مطلقاء نباك 
الله من كل سوء يا سيّدي . . . 

ووقف الرجل بعض الوقت وهو يقاوم رغبة تدعوه 
إلى المزيد من السؤال حيّى تغلب عليها فتحوّل عن 
موقفه ليغادر الحجرة وهو يقول: 

- الزمي فراشك حتّى يأخذ الله بيدك. . . 


| 

هرعت خديجة وعائشة إلى الحجرة بعد ذهاب 
والدهماء ووقفتا حيال أمهما تنظران إليها بعينين 
مستطلعتين تنطق نظراتبط بالاهتهام والقلق. ثم لاحظتا 
احمرار عينيها من أثر البكاء. فوجمتا وتساءلت خديمة 
وقد استشعر قلبها الخوف والتشاؤم : 

- عير إن شاء الله ؟ . . . 

فلم تعد الأمّ أن قالت باقتضاب وهي ترمش 
بعينيها ارتباكا : 

اعترفت له بالحقيقة . . . 

الحقيقة ! . . . 

فقالت باستسلام : 

- لم يسعني إلا الاعتراف. فيا كان من الممكن أن 
يخفى الأمر عليه إلى الأبد» وحسئًا فعلت. . . 

فدقت حدنجة صدرها بيدها وهتفت: 

يا مهارنا الأسود. . 

على حين مبتت عائشة فحملقت في وجه أمّها دون 


الفسسيى كلف ,51م :لام التسيف قن (بغيه ارقو 
المقرون بالحياء؛ وتورد وجهها الشاحب وهي تستعيد 
ذكرى العطف الذي شملها به حين لم تكن تتوقع منه 
إلا غضبًا كاسحًا يعصف بها وبمستقبلها... أجل 
شعرت بزهو وحياء وهي ثتهيّا للحديث عن عطف 
السيّد عليها في عنتها وكيف نسي غضبه فيه اعتراه من 
تأثر وإشفاق» ثم غمغمت بصوت لا يكاد يسمع: 

كان بي رححييًا أطال الله عمره؛ أنصت إلى فصتي 
صامتاء م سألني عن رأي الطبيب في خخطورة الكسر 
وغادرني وهو يشير عل أن ألزم الفراش حيّى يأخذ الله 
بيدي . 

وتبادلت الفتاتان النظرات في دهشة وعدم تصديق 
ولكن زايلهها الخوف سريعًا فتنهدتا في ارتياح عميق 
وأضاء وجهاهما بالبشرء وهتفت خديجة : 

أرأيت بركة الحسين؟ 

وقالت عائشة بنخيلاء : 

- لكل شيء حدود حيّى غضب باباء ما كان يسعه 
أن يغضس ع يراها على هذه الخال. الآن عرفنا 
قيمتها علده. .. (ثُمْ مخاطبة أمها في دعابة)... يا 
لك من أمّ محظوظة. هنيئًا لك التكريم والعطف! 

فعاود و-جه الام التوود وقالت بتلعثم وحياء : 

أطال الله عمره... (ثمْ متديّدة) والحمد لله على 
النيحاة! 

وتذكرت أمرًا فالتفتت إلى خديجة وقالت باهتمام : 

- يجب أن تلحقي به لأنه سيحتاج إلى خدمتك 
حتا. . 

وشعرت الفتاة ‏ لما يركبها في محضر أبيها من 
الارتباك والاضطراب .- كأنها وقعت فى شرك» فقالت 
عتدة : 

- ولماذا لا تذهب عائشة؟! 

ولكنّ الأم قالت في عتاب: 

أنت أقدر على خدمته. لا تتلكثي يا شابّة إذ رَبما 
يكون في حاجة إليك الآن. , . 

وكانت تعلم أنْ احتجاجها لن يغني عنها شيئًا ا لا 
يغنى عنها عادة كلما دعيت إلى أداء واجب ترى الم 


بين القصرين 5١95‏ 


نْبا أقدر عليه من أختهاء ولكئّها أصرت على إعلانه 
كما تصِرٌ عادة على إعلانه في أمثاله من المواقف, 
مدفوعة بأعصابها السريعة الالتهاب. وجريًا مع نزعتها 
العدوانية التي تجد من لسانها أطوع أداة وأحذهاء ثم 
لتحمل أمّها على إعادة القول بأئّها «أقدر على كيت 
وكيت من عائشة» كإقرار من أمّها وإنذار لشقيقتها 
وعزاء لها هي نفسهاء والحقٌ أنه لو حدث أن عهدت 
بواجب من هذه الواجبات «الخطيرة) لعائشة دونبا 
لثارت ثورة أشدٌ ولحالت بينها وبينه» ما دامت تجد ‏ في 
أعماق قلبها . أنْ القيام مِبْذْه الواجبات حقٌّ من حقوقها 
وامتياز لها كامرأة جديرة بالمكانة التالية لأمها في البيت: 
ولكتّبا أبت في الوقت نفسه أن تعترف جهارًا بأمّها 
قارس - بالقيام بها حقًا من حقوقها ولكنّ واجا ثقيلا 
تقبله مضطرّة حبّى تدعى إليه ‏ إذا دُعيت في حرج 
من الداعي, ولتحتجٌ عليه إذا احتجّت - في غضب 
يروح عن نفسهاء ولتسمع بالمناسبة التعليق الذي 
تود ثم ليحسب لا بعد ذلك كله جميلا تستحقٌ من 
أجله الشكر! . . . ولذلك غادرت الحجرة وهي تقول : 

- في كل مأزق تنادين نحديجة, كأنّه لا يوجد أمامك 
غير خديجة, ماذا تصنعين لو لم أكن موجودة! 

ولكنّ خيلاءها تخلّ عنبا بمجرّد مغادرتها للحجرة 
وحلّت محله رهبة واضطراب فعجبت كيف يتأن لها أن 
كل يدي الرجل ‏ وحن تعرة عل استفور رمات 
تلقى منه إدا تلجلجت أو أخطات! على أن السيّد كان 
قد خلع ملابسه وارتدى جلبابه بنفسهء ولا وقفت 
بالباب تسأله عنًا هو في حاجة إليه أمرها بأن تصنع له 
فدجان قهوة: فبادرت تُعدّها ثم قدّمتها له خافضة 
العينين خفيفة الخطى من الخوف واللحياء. . . ورجعت 
إلى الصالة فمكثت بها لتكون رهن إشارته إذا دعاها 
فلم يفارقها إحساس الرهبة حيّى تساءلت كيف يا تثرى 
يمكنها أن تواصل خدمته طوال الساعات التي يقضيها 
في البيت يومًا بعد يوم حبّى تنقفى الأسابيع 
الثلاثة؟!. . . وبدا لها الأمر شاقًا حمًّا وأدركت لأوّل 
بل خطرية النراء: الذي تهيذه انها ان النيت: دناعت 
ها بالشفاء. حبًا فيها من ناحية ورحمة بنفسها من 


ل بين القصرين 


ناحية أخرى. , 

ومن سوء حظّها أنْ السيّد شعر برغبة في الراحة 
عقب تعب السفر فلم يذهب إلى الدكان كما كانت 
تأمل. واضطرّت تبعًا لذلك أن تبقى في الصالة 
كالسجينة» وفي أثناء ذلك صعدت عائشة إلى الدور 
الأعلى وتسلّلت إلى الصالة حيث تجلس أنحتها. دون 
أن تحدث صوئًا لتريها نفسها وتغمز لما بعينيها على 
سبيل التنديد بحالها ثم تعود إلى أمّها تاركة إيّاها وهي 
تغل من الغيظ إذ كان مما يحنقها أشدّ الحنق أن يعابئها 
5 بالمزاح وإن لذ لها هي أن تعابث الجميعء وم 
تستردٌ حرّيّتها - إلى حون طبعًا ‏ إلا عندما أسلم السيّد 
جنبه للنوم فطارت إلى أمّها وأنشات تحدّثها عا قذمت 
لأبيها من خدمات حقيقيّة ووهميّة وتصف لما ما قرأت 
في عيسيه من أي العطف والتقدير خدماتها!. .. وم 
تنس أن تعرّحج على عائشة فتهال عليها بالزجر والتوبيخ 
على ما بدا منها من تصرئف صبيانٌ» ثم عادت إلى 
الأب بعد استيقاظه فقدّمت له الغداء. ولمًا فرغ 
الرجل من غدائه جلس يراجع بعض الأوراق وقنّا غير 
قصير ثم دعاها إليه وطلب إليها أن تبعث له ياسين 
وفهمي بمجرد رجوعها إلى البيت. . . 

وقلقت الأم للطلب وخافت أن يكون قد حز في 
نفس الرجل غضب مكظوم وأنه يروم الآن- في 
الاين متنفّسًا عن غضبه؛ ولمًا جاء ياسين وفهمي 
وعليا بما كان ثم بُلّا أمر أبيها بمقابلته؛ دار 
بخاطرهما ما دار بخاطر المرأة من قبل وذهبا إلى حجرته 
وهما يتوجّسان خيفة, ولكنّ الرجل خيّب ظنونه| فقد 
لاقاهما بهدوء غير معهود وسألما عن الحادث وظروفه 
وتقرير الطبيب. فحدّثاه طويلا بما يعلمان وهو يصغي 
إليهما باهتمامء وني العباية سأهما: 

- أكنتما في البيت حين خروجها؟ 

ومع أن هذا السؤال كان متوقعًا من بادئ الأمر إلا 
أنه وقع من نفسيهها ‏ بعد الهدوء العجيب غير المنتظر. 
موقع الانزعاج فخافا أن يكون مقدّمة لتغيير طبقة 
النغمة التي ارتاحا إليها ارتياح النجاة» ول يسعهما) 
الكلام فلاذا بالصمت. . . بيد أن السيّد لم يلحف في 


السؤال وكأنه لم يعبأ بساع الجواب الذي استنتجه 
مقدّماء أو لعله أراد أن يسججل عليهما النطأ بلا 
اكتراث بإقرارهما به. . . ولم يزد بعد ذلك على أن يشير 
إلى باب الحجرة آذنًا لها بالانصراف» وعندما مضيا إلى 
الخارج سمعاه يقول مخاطبًا نفسه: 

- ما دام الله لم يرزقنى رجالا فليهبني الصير. 

ومع أنّ الظواهر دلت على أنْ الحادث قد هر نفس 
السيّد حيٌّ غير المألوف من سلوكه تغيرًا دهش له 
الجميع إلا أنه لم يستطع أن يثني إرادته عن قضاء 
سهرته الليلية التقليدية]... فا جاء المساء حيّى 
اوقلع بوالاسيه قاف تفمووه تاك 1 ب ليه ددا 
طيْباء إلا أنه مرّ في طريقه إلى الخارج بحجرة الأمْ 
وسأل عنها فدعت له طويلا ممتئة شاكرة. .. لم تر في 
ذهابه إلى سهرته ‏ وهي طريحة الفراش - تجافيًا 
للعطفء ولعلّها وجدت في مروره بها وسؤاله عنها 
تكريًا فاق ما كانت تنتظرء بل أليس محرّد امتناعه عن 
صبٌ غضبه عليها مئة لم تكن تحلم بها؟... وكان 
الإخوة ‏ قبل مبارحته حجرته ‏ قد تساءلوا «ثرى هل 
يعدل الليلة عن سهرته؟» ولكنّ الأمّ أجابت قائلة 
دولاذا يبقى بعد أن علم أن الحال مطمئنة؟!» ولعلها 
عن سهرته كا يليق بزوج أصيبت زوجه بما أصيبت 
هي بهء ولكنّها كانت أدرى بطبعه فسبقته بانتحال 
العذر له حي إذا انطلق إلى سهرته ى) تتوقع أمكنها ‏ 
مداراة لموقفها ‏ أن تسوغ انطلاقه بالعذر الذي 
التحلت لا بقلة الاكتراث. ولكنّ خحديجة قالت «كيف 
يطيق السهر وهو يراك على هذه الحال؟4 فأجانها ياسين 
دلا عليه إذا فعل ما دام قد اطمأن عليها. حزن 
الرجال غير حزن النساء؛ وذهاب الرجل إلى سهرته لا 
يتناق مع حزنهء بل لعل التفريج عن نفسه واجب 
عليه ليتسئّى له مواصلة حياته الشاقة). ولم يكن ياسين 
يدافم عن أبيه بقدر ما كان يدافم عن رغبته في 
الانطلاق التي بدأت تتحرّك في أعاقه, إلا أنْ مكره لم 
تجرْ على نخحديجة فسّألته : «هل تطيق أنت مثلا أن تسهر 
في قهوتك الليلة؟) فبادرها قائلا وهو يلعنها في سرّه: 


«طبعًا لاء ولكن أنا شيء وبابا شيء آخر!». 

ولمًا فارق السيد 0 عاودها الشعور بالراحة 
الذي يعقب النجاة من خطر محمّق فتالق اها 
بابتسامة وقالت: 

لعلّه رأى أن جزائي كفاف ذنبي فعفا عبّي؛ عفا 
الله عنه وعنا جميعا. . , 

فضرب ياسين كما بكف وهو يقول محتجًا : 

إِنْ رجالا غيورين مثلهء منهم أصدقاء لف لا 
يرون بأسًا في السياح لنسائهم بالخروج كلما دعت 
ضرورة أو مجاملة» فا باله يقيم لَكنْ من البيت سجنًا 
موبدًا؟ ! 

فلحظته خخديحة مبزء وسأالته : 

- ل ل تلق بدفاعك هذا وأنت بين يديه؟ ! 

فانقلب الشابٌ مقهقهًا حت إرتجّت كرشه ثم أجابها 
قائلا : 

يلزمني مثل أنفك أوَلا كي أدافع به عن نفسي 
عند الضرورة... ٌْ 

وتتابعت يام الرقاد. فلم يعاودها الأ الذي 
هصرها أوّل ليلة وإن تبدّد جذعها وكتفها الوجع لأفل 
حركة تأتيهاء ثمْ تقدّمت نحو الشفاء بخطوات سريعة 
بفضل بنيتها القويّة وحيويّتها الدافقة التى تكره بطبعها 
السكون والقعود تما جعل الإذعان لأوامر الطبيب مهمة 
شاقّة غطى عذابها على آلام الكسر إبّان احتدامهاء 
ولعلها لولا تشدّد الأبناء في مراقبتها الخرقت وصايا 
الطبيب ومبضت عجلى لأمورها. . . على أنْ رقادها لم 
يمنعها من نشر الرقابة على شئون البيت من فراشها. 
ومراجعة الفتاتين بدقة متعبة فيها يعهد إليهما بسه... 
خاصّة عن دقائق الواجبات التي تخاف عليها الإهمال أو 
النسيان» فتسال وتلح في السؤال «هل نفضت أعلى 
الستائر؟. . . وخصاص الشبابيك؟. . . هل بحرت 
الحّام لأبيك؟.. هل سقيت اللبلاب والياسمين؟»؛ 
الأمر الذي أحنئق نخديجة مرّة فقالت لما «اعلمي أنّك 
إذا كنت تعنين بالبيت قيراطا فإِنِ أعنى به أربعة 
وعشرين»... وإلى هذا كله أورثها تخليها الإجباري 
عن مركزها المرموق شعورًا معقّدًا عانت منه كثيراء 


بين القصرين 47١‏ 
فرئما تساءلت ثرى ألم يفقد البيت ‏ أو أحد من أهله ‏ 
بتخليها عنه شيئًا من نظامه أو راحته؟! وأبّبا يا تَرى 
أحبٌ إليهاء أن يبقى كل شيء كما كان بفضل فتاتيها ‏ 
غرس يديها ‏ أم أن يختل شيء من توازنه يكون خليمًا 
أن يذكّر الجميع بالفراغ الذي خلّفته وراءها؟! وهب 
السيّد بالذات استشعر هذا الفراغ فهمل يكون ذاك 
مدعاة لتقديره لأهميّتها أو لسخطه على ذنبها الذي جر 
هذا كله؟! تحيّرت المرأة طويلاً بين عاطفتها المستحبية 
نحو نفسها وعاطفتها الصريحة نحو فتاتيهاء ولكنّ 
المحقّق أنه لو اقل شىء من النظام لأحدث لها كربا 
شديدّاء كا أنه لو حافظ على كاله كأن لم يطرأ نقص 

أمّا الواقع فهو أن فراغها لم يسدّه أحد؛ وأثبت 
البيت أنه أكير من الفتائين على نشاطه] 
وإخلاصهها... ول تسر الأمّ لهذا لا في الظاهر ولا في 
الباطن» توارى شعورها نحو ذاتهاء ودافعت عن 
خديجة وعائشة دفائًا حارًا صادقاء ثمٌ ركبها الجزع 
والألم فلم تعد تطيق صررًا على انزوائها. . . 


"١ 
وفي فجر اليوم الموعود الذي انتظرته طويلا هيت‎ 
من الفراش في حفة صبيائيّة من الفرح كأئها ملك يعود‎ 
إلى عرشه بعد نفى... ونزلت إلى حجرة الفرن‎ 
متداركة عادتها التى انقطعت عنها ثلاثة أسابيع فنادت‎ 
أمْ حنفيء واستيقظت امرأة وهي لا تصدق أذنيهاء ثم‎ 
مضت إلى سيّدتها فعانئقتها ودعت لحاء ثم باشرتا عمل‎ 
الصباح في سرور لا يوصف. وعند شروق أول شعاع‎ 
للشمس صعدت إلى الدور الأول فتلقاها الأبئاء‎ 
بالتهاني والقبل» ثم مضت إلى حيث ينام كال‎ 
فأيقظته. وما فتح الغلام عينيه حتى بت دهشة‎ 
وفرحًاء ثم تعلّق بعنقها ولكئّها بادرت إلى التخلص‎ 
: من ذراعيه برقة وهي تقول‎ 
. . . ألا تخاف أن ثردٌ كتفي إلى ما كانت عليه؟‎ 
! متى يا عزيزي نخرج معا مرة أخرى؟‎ - 


فأجابته بلهجة لا تخلو من عتاب باسم : 

- عندما ديك الله فلا تسوقني رغم إرادتي إلى 
الطريق الذي كدت أهلك فيه. . . ! 

وأدرك أنْها تشير إلى عناده الذي كان السيب المباشر 
فيا وقع لها فضحك ملء فيه ضحك مذنب واتته 
النجاة بعد أن ظلّ ذنبه معلّمًا فوق رأسه ثلاثة أسابيع, 
أجل لشدْ ما حاف أن يجِرٌ التحقيق الذي باشره إخوته 
إلى معرفة الجاننٍ المستتر» وقد أوشكت الريبة التي 
سلّطتها عليه خديجة حيئًا وياسين حيئًا آخر تكشفه في 
الركن المنزوي فيه لولا صمود أمَه في الدفاع عنه 
وتصدهبها لتحمل مسئوليّة الحادث وحدهاء فليا انتقل 
التحقيق إلى يدي والده تناهى به الخوف وتوقع بين 
لحظة وأحرى أن يدعى إلى مقابلته» هذا إلى عذابه ‏ 
طوال الأسابيع الثلاثة ‏ وهو يرى أمّه المحبوبة طريحة 
الفراشس. شديدة العناءء عاجزة عن الاستلقاء 
والنبوض معا. . . الآن مضى الحادث. ومضت في أثره 
عقابيله. وانتهى التحقيق» وعادت أمه توقظه في 
الصباح؛ وسوف تنيمه في المساء. رجع كل شيء إلى 
أصلهء ونشر الآمان ألويتهء فحقٌ له أن يضحك ملء 
فيه وأن مئْ ضميره على الراحة المتاحة. , . 

وغادرت الأمٌ الحجرة فصعدت إلى الدور الأعلل. 
ولا تدانت من باب حجرة السيد ترامى إليها صوته 
وهو يرذد في صلاته وسبحان ري العظيم» فخفق قلبها 
ووقفت على قيد خطوة من الباب كالمتردة» ثم وجدث 
نفسها تتساءل «أتدخل لتصبح أو الأجدر أن تعدٌ مائدة 
الفطور أوَلَا؟» لا على سبيل التساؤل حمًا ولكن فرارًا 
مما شاع في نفسها من الخوف والمنجل, أو كليهها معّا 
كما يقع للإنسان أحيانًا أن يخلق مشكلة وهميّة يلوذ مبا 
من مشكلة راهنة يشقٌّ عليه فضّها... ومضت إلى 
حجرة المائدة فأقبلت على العمل بعناية مضاعفة, إلا 
أن قلقها تزايدء فلم تنتفع بمهلة التفكير التي 
اقتنصتهاء ول تجدها راحة كها أملّت ولكن محنة انتظار 
أَسْك عناء من الموقف الذي نكصت عن مواجهته. . , 
وعجبت كيف جفلت من دخول وحجرتبا؛ كأنما كانت 
مهم بدخوها لأوَّل مرّة» خاصّة وأنْ السيّد لم ينقطم عن 


زيارتها يومًا بعد يوم في أثناء رقادهاء ولكن الحنٌ أنّ 
برءها رفع عنها الحماية التي ضريها حوها المرضص 
فشعرت بأنئها ستلقاه بمفردها لأوّل مرّة مذ كشفت 
خطيئتها... ولا جاء الأبناء تباعًا خحفت وحشتها 
قليلاء وما لبث أن دخل السيّد الحجرة في جلبابه 
الفضفاض ولكن لم يبد في وجهه أثر لدى رؤيتها. 
وقال مبدوء وهو ينّجه إلى مكانه في المائدة : 

جئت؟ (ثم مخاطبًا الأبناء وهو يتَخْذ مجلسه). . . 
1 

وأخذوا في تناول فطورهم على حين وقفت هي 
بمكانها المعتاد» ومع أنْ الخوف تناهى بها حال دخوله 
إلا أنْها مضت تستردٌ أنفاسها بعد ذُلك. أي بعد أن 
تم أول لقاء بعد الشفاء ومرٌ بسلام» وشعرت عند ذاك 
بأئها لن تجد مشقّة في الانفراد به في حجرته عن 
قليل. .. وانقضت المائدة فعاد السيد إلى حجرته. 
لتاقي جد راثائق تحاملة ره القهرة الي رسكي 
على الخوان وتنحت جانبًا في انتظار فراغه من احتسائها 
لساعده على ارتداء ملايسه. وحسا السيّد قهوته في 
صمت عميق2 لا ذاك الصمت الذي يقع عفوا أو 
كالراحة عقب التعب أو كغطاء لصدر فارغ من شئون 
الحديث. ولك صمت صامت مسريل بالتعمد. وم 
تكن تعدم أملا ولو ضعيمًا في أن يتعسظف عليها 
بكلمة رقيقة. أو في الأقل أن يلم بشآن من شئون 
حديثه المعتاد في مثل هذه الساعة من الصباح» فحيّرها 
صمته المتعمّد وعادت تسائل نفسها ترى ألا يزال 
بنفسه شيىء وأخل القلق ينشب إبرّه في قلبها مرّة 
أخحرى؛ على أن الصمت الغليظ لم يمتدّ طويلا... 
كان الرجل يفكر في سرعة وتركيز لم يذق معهما طعّاء 
لا ذاك التفكير الذي ينبعث من وحي الساعةء ولكن 
آخر عنيدًا قديمالم يزايل نفسه طوال الأيَام 
المنقضية. . . وأخيرًا تساءل دون أن يرفع رأسة عن 
فلجال القهوة الفارع : 

- استرددت صحختك؟ 

فقالت أمينة بصوت خفيض : 

الحمد لله يا سيّدي , 


فاستطرد الرجل قائلا بمرارة : 

- إن أعجب ‏ وهيهات أن ينتهي لي عجب ‏ كيف 
أقدمت على فعلتك! 

فدقٌ قلبها بعنف وأطرقت في وجوم... لم تكن 
تطيق غضبه وهي تدافع عن خط ارتكبه غيرها فكيف 
مها الآن وهي المذنبة!. . . وعقل المذوف لساخها ولكته 
بانتظار الجواب واصّل حديثه متسائلاً في استنكار: 

أكنت لمحدوعًا بك طوال هذه السنين وأنا لا 
أدري؟! 

عند ذاك بسطت راحتيها في جزع والم وشمست 
بأنفاس مضطربة : 

أعوذ بالله يا سيّديء إِنَْ خطثي كبير حقًا ولكتي 
لا أستحقٌ هذا القول. 

ولكنّ الرجل واصل حديثه بهدوئه الرهيب الذي 
مون إلى جانبه الزعيق قائلا : 

كيف اقترفت هذا الخطأ الكبير! . . الأني ابتعدت 
عن البلد يوما واحدًا؟! 

فقالت بصوت متهدّج وشت ببرائه بالرجفة التي 
ملكت جسمها: 

أخطات يا سيّدي؛. وعندك العفوء كانت نفسي 
تتوق إلى زيارة سيّدنا الحسينء وحسبت أن زيارته 
المباركة تشفع لي في الخروج ولو مرة واحدة. 

فهرٌ رأسه في شيء من اللحدّة كأتما يقول ١لا‏ فائدة 
تُرجى من الجدال» ثم رفع إليها عيئيه متجهءًا ساخطا 
وقال بلهجة لا تقبل المراجعة : 

- ليس عندي إلا كلمة واحدة! غادري بيت بلا 
توان . 

هوى أمره على رأسها كالضربة القاضية فبهتت لا 
تنبس بكلمة ولا تستطيع حراكاء طالما توقعت في أشدٌ 
أوقات محنتها - وهي تنتظر عودته من رحلة بور سعيد- 
ألوانًا من المخاوفء, كأن يصبّ عليها غضبه أو يصمّها 
بزعيقه وسبابه» حيّى الضرب لم تستبعده. أما الطرد 
من البيت فلم يزعج لما خاطرّاء لا لشيء إلا أنه 
سكنت إلى معاشرته حمسا وعشرين عامًا فلم تتصور أن 
ثمّة سببًا يمكن أن يفرّق بينه) أو ينتزعها من البيت 


بين القصرين 417 
الذي صارت جزءًا منه لا يتجرأ... أما السيّد فقد 
تخلص - بكلمته الأخيرة- من عبء فكر درّح دماغه 
طوال الأسابيع الثلاثة المنقضية.. وقد بدأ الصراع في 
اللحظة التي اعترفت فيها المرأة بخطئها باكية وهي 
طريحة الفراش» لم يصدّق أذنيه لأول وهلة. ثم أذ 
يفيق إلى نفسه وإلى الحقيقة البغيضة التى تطالعه 
متحدّية كبرياءه وصلفه. بيد أنه أجل حنقه ريغا يرى 
ما أصابهاء أو أنه وهو الأصدق - لم يسعه أن يفكر 
فيها تحدّى كبرياءه وصلفه لما اعتراه من قلق عميق بلغ 
حد الخوف والجزع على المرأة التي يألفها ويعجب 
بمزاياها فعطف عليها عطفًا أنساه خطأها وسأل الله ها 
السلامة. انكمش جيروته حيال الخطر المحدق مها 
واستيقظ ما تنطوي عليه دفسه من حنان موفور فعاد 
يومذاك ‏ إلى حجرته محزوثًا مككبًا وإن لم يفصح 
وجهه. . إلا أنه مضى يستعيد طمانينته وهو يراها 
نترائل للشفاء بخطى سريعة ثابتة» ومضى بالتالي يعيد 
النظر إلى الحادث كله أسبابه ونتائجه ‏ بعين جديدة 
أو بالأحرى بالعين القديمة التى اعتاد أن ينظر بها في 
بيته» فكان من سوء حظ - حظ الأم طبعًا ‏ أن يعيد 
النظر في هدوء وهو خال, إلى نفسه. وأن يقتدم بأنه إذا 
غلب العفو ولبى نداء العطف ‏ وهو ما نزعت إليه 
نفسه ‏ فقد أضاع هيبته وكرامته وتاريخه وتقاليده جميعًا 
وأفلت منه الزمام وانتشر عقد الأسرة التي يأى إلا أن 
يسوسها بالحزم والصرامة. وبالحملة لن يككون في تلك 
الخال أحمد عبد الحواد ولكن شخصًا آخر لن يرنضى 
أن يكونه أبذًا. . . 2 55 
النظر في هدوء وهو خال, إلى نفسهء إذ لو أتيح له أن 
ينّس عن غضبه حين اعترافها لانفنأ حلقه ومرّ 
الحادث دون أن يسحب وراءه عواقب خطيرة. ولكنه 
م يسعه الغضب في وقته كما لم يكن مما يرضي كبرياءه 
أن يعلن غضبه عقب شفائها بعد هدوء دام ثلاثة 
أسابيم ‏ إذ أن هذا الغضب يكون أقرب إلى الزجر 
المتعممد منه إلى الغضب الحقيقئ, ولمًا كانت 
حساسيّته الغضبيّة تستعر عادة من طبع وتعمّد معاء 
ولمَا كان الجانب الطبيعي منبها لم يجد متنفْسًا في حينه 


5 بين القصرين 
فقد وجب على الحانب المتعمد ‏ وقد أتيحت له فرصة 
من الهدوء لمعاودة التفكير. أن مجد وسيلة فعالة لتحقيق 
ذاته على صورة تتناسب وخطورة الذنب. وهكذا 
انقلب الخطر الذي تبدّد ححياتها حيئًا والذي أمّنبا من 
غضبه بما أثار من عطفه أداة عقاس بعيدة المدى بما 
أتاح له من وقت للتدبير والتفكير. , . ومبض مقطبًا 
فولاها ظهره مستقبلا ملابسه على الكنبة ثمّ قال 
بجقاء : 

- سأرتدي ملاسي بنفسي . 

كانت لم تزل متسمرة في مكانها ذاهلة عا حوضها 
فأفاقت على صوته. وسرعان ما أدركت من قوله 
ووقفته أنه يأمرها بالانصراف فاتههت نحو الباب في 
خطى لا وقع لاء وقبل أن تجاوزه أدركها صوته وهو 
يقول: 

لا أحب أن أجدك هنا إذا عدت ظهرًا. 


بض 

خارت قواها في الصالة فارتمت على طرف كنبة 
وكلائه القاسية الحاسمة تترذد في باطنهاء ليس الرجل 
هازلاء ومتى كان هازلا؟! ولم تستطع مباررحة مكانها - 
على رغبتها في الفرار ‏ أن يثير نزوها قبل مغادرته 
البيت على خلاف اللمألوف ريبة الأبناء الذين لا تحت 
لهم أن يستقبلوا يومهم أو يذهبوا إلى أعالهم متجرّعين 
خدر طردهاء وثُمّة إحساس آخخير ‏ لعلّه الحياء ‏ أقعدها 
عن أن تلقاهم في ذل المطرود وقرّرت أن تبقى حيث 
هي حيّ يغادر البيت. أو أن تأوي إلى حجرة المائدة 
وهو الأفضل حبّى لا تقع عليها عيناه إذا مضى إلى 
الخارج فتسلّلت إلى الحجرة كسيرة الفؤاد وقعدت على 
شلتة ساهمة واجمة. ثُرى ماذا يعني؟ أيطردها إلى حين 
أم إلى الأبد؟ إنها لا تصدّق أنه ينوي تطليقها.» هو 
أكرم من هذا وأنبل» أجل إِنّه غضوب جبّار ولكن من 
الإسراف في التشاؤم أن تغيب عنها آي شهامته 
ومروءته ورحمته. وهل تسبى كيف حزن لخالها حين 
الرقاد؟. . . وكيف عادها يومًا بعد يوم مستفسرًا عن 
صحّتها؟. . . مثل هذا الرجل لا مبون عليه أن يرب 


ينا أو يكسر قلبًا أو ينزع أمًا من بين أبئائها. وجعلت 
تدير هذه الأفكار في رأسها كأنما لتدخخل بها بعض 
الطمأنينة إلى نفسها المزعزعة. وألحت في هذا إِلحاخًا 
إن دل على شيء فعلى أنْ الطمأنيئة لا تريد أن تستقرٌ 
بنفسها كبعض المرضى الذين يزيدون تعيًا بقوتهم كلما 
ازدادوا إحساسا بضعفهم إذ كانت لا تدري ماذا تصنع 
بحياتها أو ماذا يمكن أن تغنى الحياة لما لو خماب الرجاء 
ووقم المحذور. وترامى إلى أذنيها وقع عصاه على 
أرقن الصالة وهو فى غاركا اناطان الكارها و لمعك 
باهتام تتابعه حت ع وشعرت عند ذاك بألم جارح 
لحالها وسخطها على الإرادة المتحجّرة التي ل تَرْعَ 
لضعفها حقاء ثم نهبضت فيها يشبه الإعياء وغادرت 
الحجرة لتنزل إلى الدور الأول فجاءتها عند رأس 
السلّم أصوات الأبناء وهم ينزلون تباعًا فمدّت رأسها 
من فوق الدرابزين فلمحت فهمي وكال وهما يتابعان 
ياسين إلى الباب المفضي إلى الفناء. هناك غمزت 
خطرة من الحنان قلبها فأذهلته» وعجبت لنفسها كيف 
تركتههما يذهبان دون أن تودّعهاء أليست قد مَحرّم 
عليها رؤيتههما. .. أيَامًا أو أسابيع؟ ورتما لا تراهصا 
مدى العمر إلا لمامًا كالغرباء؟. . . 
الحنان متتابعًا وهي مموقفها من السلّم لا تٌريمء بيد أن 
قلبها ‏ على امتلائه ‏ كير عليه أن يصدّق أن يكون هذا 
المصير الأسود نصيبها المقدورء لإيمامها اللانبائي بالله 
الذي حفظها في وحدتها الغابرة من العفاريت نفسهاء 
ولثقتها برجلها التي تأى أن تغبارء ولأنها لم يصبها في 
حياتها الماضية شر خطير خليق بأن يسلبها الطمأنيئة إلى 
الحياة الوادعة فيالت نفسها إلى اعتبار محنتها تجربة 
قاسية ستمرٌ بها دون أن تنشب فيهاء ووجدت خديجة 
وعائشة مشتبكتين في جدال كعادتما ولكتها نزعتا عن 
كانتا فيه حين رأتا وجومها ونظرة عينيها الخابية. 
ولعلهما خافتا أن تكون قد برحت الفراش قبل أن 
تسترد كامل صحّتها فسألتها خحديجة في قلق : 
ماذا بك يا نيئة؟ 


وعاودها غمز 


- لا أدري والله ماذا أقول. . . إن ذاهبة. . 


ومم أَنْ العبارة الأخيرة سحاءت مقتضة غير ملودة 


الهدف إلا أنبا اكتسبت من نظربها اليائسة ونبراتها 
الشاكية معئى حالكًا ريعتا له فهتفتا معًا: 

- إلى أين؟ | 

فقالت بانكسار وهي تشفق سلفًا من وقم كلامها 
من أذنيهها بل ومن أذنيها هي نفسها : 

د إل آمو 

فهرعتا إليها مذعورتين وهما تقولان : 

- ماذا تقولين؟ , . . لا تعيدى هذا القول. . . ماذا 
جرى؟! ْ 

وجدث في فرع فتاتيها عزاء ولكنّه كشأنه في مثل 
هذا الموقف فجر أشجاءا فقالت بصوت متهدّج وهي 
كمانم دموعها : 

- ل ين شيئًا ولم يَعْفُ (ردّدت هذا بأمى دل على 
عمق حزنها)... كان يضمر لي الغضب ويؤجله ريثا 
أبرأء لم قال لي غادري بيت بلا توان. . . وقال لي 
أيضا لا أحبٌ أن أجدك هنا إذا عدت ظهرًا (ثمّ 
بلهجة تنم عن عتاب أسيف وخيبة أمل) سمعًا 
.. سمعا وطاعة. . 


ولاق 


- لا أصدّق. لا أصدّق. قولي قولا آخر. . . ماذا 
جرى للدنيا؟! 

وصاحت عائشة بصوت متهدج : 

لن يكون هذا أبدّاء أهانت عليه سعادتئا حميعًا 
لهذا الحلٌ؟ | 

وعادت خديجة تتساءل في حدّة وحنق : 

ماذا يقصد. . , ماذا يقصد يا ئينة؟ 

لا أدري» هذا قوله بلا زيادة ولا نقصان. 

اقنفتك: اول وهلة ال" القول» ولعلهسا رشيت 
بالاقتصار عليه أن تستزيد من عطفها وتتعزى 
بجزعهماء ولكن غلبها الإشفاق من ناحية والرغبة في 
طمأنة نفسها من ناحية أخحرى فاستطردت قائلة : 

- لا أظنه يقصد أكثر من إبعادي عنكم أيَامًا عقايًا 
في على ما فرط مني . 

فتساءلت عائشة محتجة : 

أما كفاء ما وقع لك؟ ! 


بين القصرين 47١‏ 


فتبدت الأ محرونة وغمغمت قائلة: 

- الآمر لله. . . يجب الآن أن أذهب. 

ولكن حديجة اعترضت سبيلها وهي تقول بصوت 
مختلق بالبكاء : 

- لن ندعك تذهيين؛ لا تتركى بيتك فلا أظئه 
يصرٌ على غضبه إذا عاد ووجدك 0 

وقالت عائشة برجاء: 

- انتظري حبّى يعود فهمي وياسين. ولن يرضى أبي 
أن ينتزعك من بيننا جميعا. 

ولكنبا قالت فيها يشبه التحذير: 

ليس من الحكمة في شىء أن نتحدّى غضبه. 
فمثله من يلين بالطاعة ويشتدٌ بالعصيان. 

وهمتا بالاعتراض مرّة أخرى ولكنها أسكتتهما بإشارة 
من يدها واستطردت قائلة : 

لا جدوى من الكلام: لا بد من الذهاب. 
سأجمع ثيابي وأرحل. لا تجزعاء لن يطول افتراقناء 
وسنجتمع مرّة أخخرى إن شاء الله , 

وانتقلت المرأة إلى -حجرتها بالدور الثاني والفتاتان في 
أعقاما و*ما تبكيان كالأطفال» وأحذت تخرج ملابسها 
من الصوان ححتّى أمسكت خديجة بيدها وسالتها 
بانفعال ؛ 

ماذا تفعلين؟ 

وشعرت الأم بدموعها تغالبها فامتنعت عن الكلام 
أن تفضحها نيراتهاء أن تستسلم للبكاء الذي صمت 
على مقاومته ما دامت بمرأى من ابنتيهاء فأشارت بيدها 
كأئها تقول «الخحال يوجب أن أجمع ملاسي». 

ولكنّ تحديية قالت بحذة: 

- لن تأخذي معك إلا تغييرة واحلة. . 

فلت عنها تنّدة. ودّت تلك اللحظة لو يكون 
الأمر كله حليًا مزعجّاء ثم قالت: 

أخاف أن ثثور ثائرته إذا رأى ملابسبى بمكاا! 

ستحفظها عندنا. ْ 

وجمعت عائشة الثياب إلا تغييرة واحدة كما اقترحت 
أختها فأذعنت الأمٌّ لهما في ارتياح عميق كأنْ بقاء 


: وأحلة 


بين القصرين 
ملابسها في البيت ثم يثبت لما حمًا في العودة إليهء ثم 
جاءت ببقجة وصرّت فيها الملابس التى سمح ا بهاء 
وجلست على الكنبة لتلبس جوربما وحذاءها والفتاتان 
حيالها تنظران في حزن ذاهل حي رق قلبها هما فقالت 
بتكافة اطدوه: 

سحوة كل قورو إل اضله تسحنااضق الا 
تستفرًا غضبه, إل أعهد إليكا بالبيت وآله ولي كل 
الثقة في كفاءتكاء ولا شك عندي في أنك ستجدين 
من عائشة كل معاونة, قوما بما كنا نقوم به معًا كا لو 
كنت معكماء كلتاكما شابّة خليقة بأن تفتح بينَا 
وتعمره , 

ومبضت إلى ملاءتها فارتدتها وأسدلت على وجهها 
البرقع الأبيض في تهّل متعمّد لتؤجل ما استطاعت 
اللحظة الأخيرة المعذية المحيّرة ووقفن حيال بعض لا 
يدرين كيف تكون الخطوة التالية. لم يسعفها صوتها 
على النطق بكلمة الوداع» ولم ثُواتٍ إحداهما الشجاعة 
على الأرتماء في حضها كا توذ ومرت الثواني محملة 
بالعذاب والقلق بيد أنّ المرأة المتجلّدة خافت أن يخوبها 
تجلدها فخطت خطوة نحوهما ومالت إليهم) فقبّلتهها 
بالتتابع وهي تهمس : 

- تشبجعا؛ ربنا معنا جميعا. 

هنالك تعلقتا مها وأفحمتا في البكاء. 

وقد غادرت الام البيت بعينين ذارفشين تراءق 
الطريق خلال دمعهم| وهو يتميع . . . 


قا 

طرقت باب البيت القديم وهي تفكر. بألم وحياء 
معًا ‏ فيها سيحدثه بحيئها مخضوبًا عليها من الانزعاج 
والكدرى وكان الباب يفتح على عطفة مسدودة متفرعة 
من شارع الخرنفش تنتهي بزاوية أقيمت بها الصلاة 
عهذا طويلا ثمّ هجرت من أعوام لقدمها ولكن بقيت 
آثارها المتهدّمة لتذكرها ‏ كلما زارت أمهًا بطفولتها 
حين كانت تنتظر ببامها أباها حقّى يفرغ من صلاته 
ويعود إليهاء وحين تمد رأسها داخلها في أويقات 
الصلاة لتلهو بمنظر الركع السجود. أو حين تتفرّج على 


بعض أهل الطرق الذين كانوا يجتمعون فيا يليها من 
العطفة فيضيئون المصابيح ويفرشون الحصر وينشدون 
الأذكار. ولا فتح الباب أطلّ منه رأس جارية سوداء 
في العقد الخامس, ما إن رأت القادمة حيّى مهلل 
وجهها وهتفت مرخبة بهاء ثم تنحت جانبا لتوسع لها 
فدخلت أمينة» ولبثت الخادم بموقفها كأئها تنتظر دخول 
قادم آخر فأدركت أميئة ما تعنيه وقفتها فهمست 
بامتعياض : 

أغلقى الباب يا صديقة, . 

فتساءلت الخارية بدهشة : 

!م بأت السيّد معك؟ 

فهرّت رأسها بالنفيى متجاهلة دهشتها ومضت- 
عابرة فناء البيت الذي تتصذره حجرة الفرن وتقع البئر 
في ركنه الأيسر - إلى سلّم ضيّق فرقيته إلى الدور الأوّل 
والأخير. ثم اجتازت دهليرًا إلى حجرة أمّها ودخلت». 
رأت أمها مترئعة على كنبة في صدر الحجرة الصغيرة 
قابضة بكلتا راحتيها على مسبحة طويلة متدلية في 
حجرهاء منّجهة العينين صوب الباب في تطلم أثاره 
بلا ريب طرق الباب ثم وقع القدمين المقتربتين» ولما 
تدالت أميئة هنبا تساءلت: 
0000 

وافترٌ غرها وهي تتساءل عن ابتسامة خفيفة تنم 
عن البشْر والترحاب». كأنما حدست هويّة القادم 
فأجابتها أمينة قائلة بصوت منخفض من الانقيباض 
والحزن: 

أنا أمينة يا أمي . . . 

فألقث العجوز بساقيها إلى الأرض وتحسّست 
بقدميها موضع الشِبْشب حتّى عثرت عليه فدستههما فيه 
ووقفت باسطة ذراعيها منتظرة في شوق فرمت أمينة 
بالبقجة إلى طرف الكنبة وانطوت بين ذراعي أمها 
وهي تقبّل جبينها وخدّيها والأخرى تلثم ما يتّفق وقوع 
شفتيها عليه من الرأس والخدٌ والعنق» ولمًا انتهى 
العناق ربّتت العجوز على ظهرها بحنان ثم لبثت 
بموقفها متطلعة صوب الباب وعلى شفتيها ابتسامة تعلن 
عن ترحيب جديد؛ كما فعلت صديقة من قبل 


فأدركت أمينة للمرّة الثانية ما تعئيه هذه الوقفة وقالت 
بامتعاض واستسلام : 

لجثشت وحدي يا أمي . . . 

فتحوّل الرأس إليها كالمتسائل؛ وتمتمت المرأة: 

- وحدك؟!... (ثمّ مبتسمة ابتسامة متكلفة لتطرد 
ما انتابها من قلق) سبحان الذي لا يتغيّرا 

وتراجعت إلى الكنبة فجلست وهي تتساءل بلهجة 
أفصحت هذه المرّة عن قلقها: 

- كيف الحال؟ . . . لماذا لم يحضر معك كعادته؟ 

فجلست أميئة إلى جانبها وهي تقول بلهجة التلميل 
الذي يعترف برداءة إجاباته في الامتحان: 

- إنه غاضب عل يا أمى . . . 

شيش الام واجمة ثم تمتمت بئيرات حزيئة : 

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» قلبي لا يكذّبني 
أبدّاء وقد انقبضص وأنت تقولين لى «جئت وحدي يا 
أمي» ترى ماذا هيج غضبه على ملاك كريم مثلك لم 

زرت سيّدنا الحسين في أثناء سفره إلى بور 

فتفكرت الأمّ في حزن وكابة ثم تساءلت: 

- وكيف علم بأمر الزيارة؟ 

حرصت أآمينة من باديئخ الأمر على ألا تشير إلى 
حادث السيّارة رحمة بالعجوز من ناحية وتحفظًا من 
المسثوليّة من ناحية أخرى. وهذا أجابتها بما أعدّنه 
سلفًا هذا السؤال قائلة : 

- لعل أحدًا رآني فوشى بي عنده. , 

فقالت العجوز بحدة: 

لا يعرفك أحد من البشر إلا من اختلط بك 
داخل بيتك, ألم تشكّي في أحد؟... هذه المرأة أَمْ 
حنفي؟! أو ابنه من المرأة الأخرى؟ 

فبادرتها أمينة قائلة بثقة ويقين: 

- لعل جارة رأتني فأخبرت زوجها بحسن نيّة فاعاد 
الرجل الخبر على مسمع السيّد غير مقدّر لشطورة 
عواقبه. ظيِّ ما تشائين إلا الشكُ في أحد من أهل 


بين القصرين 477 


0 

فهزت 
تقول : 

- طول عمرك سليمة الطويّةء الله وحده هو المطلع 
وهو الكفيل بردٌ كيد الكائد. ولكن زوجك؟... 
الرجل العاقل. . . الداخل على الخمسين. . . أل يجد 
وسيلة لإعلان غضبه إلا طرد عشيرة العمر من بين 
أولاده؟!. . . سبحانك يا ربٌ. .. الئاس تكبر تعقل 
ونحن لكبر نتهورء هل من الكفر أن تزور امرأة فاضلة 
سيّدنا الحسين! ألا يسمح أصدقازه, وهم لا يقلون 
عنه غيرة ورجولة. لروجاتهم بالخروج لامختلف 
الأغراض؟!. . . أبوك نفسه الذي كان شيحًا من حملة 
كتاب الله كان يأذن لى في الذهاب إلى بيوت الجيران 
للتفرج على المحمل . 

وغلب الصمت والكآبة مليًا حيّ التفتت العجوز 
ناحية ابنتها وعلى شفتيها ابتسامة عتاب حائرة ثم 
تساءلت : 

أيّ شىء أغراك بعصيائه بعد ذاك العمر الطويل 
فن الفاغ العحياء 1 : شد ما يجري هذا... إذ 
مهما يكن من حمية طبعه فهو زوجك ومن السلامة 
الحرص على طاعته من أجل راحتك وسعادة الأولاد. 
أليس كذلك يا ابنتى؟... أعجب شيء أنني لم أجدك 


العجوز رأسها قْ جيرة وشِك وأنشات 


يوما في حاجة إلى نصح ناصح . . . !! 

فنذت عن أمينة ابتسامة ارتسمت على زاوية ثغرها 
على صورة انحراف خفيف من الارتباك والحياء؛ 
وغمغمت : 
تحكم الشيطان! 

- عليه لعنة اللهء أيزلٌ اللعين قدميك بعد خمسة 
وعشرين عامًا من الوثام والسلام!... ولكنّه هو 
الذي أخخرج أبانا آدم وأمّنا حواء من الجلة!. . لشدّ ما 
يحزنني يا ابنتي. ولكتْها سحابة صيف ثم تنقشع ويعود 
كل شيء إلى أصله. . . (ثمّ وهي كأئها تحادث نفسها) 
ماذا كان عليه لو استوصى بالحلم؟!. . . ولكنه رجل. 
ولن يلو رجل من عيوب تخفي عين الشمس. .. (ثم 
بلهجة ترحيب وسرور متكلفة) اخلعي ملابسك 


إلى اختيار أمر من اثنين: فإمًا أن تسمح للغرباء بأن 
يسكنوه وهو أعرّ شىء لديها بعد ابنتها وأحفادهاء وإمًا 
أن قتركة مهجورا 55 العفاريت ملعبًا بعد أن ظل 
طوال عمره مقامًا لشيخ من حملة كتب الله هو زوجها. 
إلا أن انتقالها إلى بيت السيّد كان خليمًا بأن يخلق لما 
مشاكل معمقّدة لا تفض في نظرها بميسور الحلول لأمها 
ما انفككت ثسائل نفسها وقتذاك أتقبل ضيافته بدون 
مقابل وهو ما لا ترتاح إليه بحالء أم تنزل له عن 
معاشها لقاء إقامتها في بيته وهو ما يقلق غريزتها في 
الامئلاك التي أضحت ‏ مع الكبر عنصرًا جوهريا من 
عناصر «وسوستهاء العامّة؟! 

بل قد تومت أحيانًا عند إلحاحه عليها في الانتقال 
إلى بيته أنه يضمر نيّةَ استغلاليّة نحو معاشها وبيتها 
الذي سيخلو بعد انتقالها ففزعت إلى الرفض لحد 
العناد الأعمى ولا نزل السيّد عند إرادتها قالت له 
بارتياح «لا تؤاخذني بإصراري يا ابني» رينا يكرمك بما 
أوليتئي من عطف. ألا ترى أنّْه لا يسعني أن أهجر 
بيقي؟ . . . وما أجدرك أن تجاري عجوزًا مثلي على 
علاتها بَيْد أن استحلفك بالله إلا ما سمحت لأمينة 
والأولاد بزياري الحين بعد الحين بعد أن أمسى 
خروجي من البيت متعذّرَّا وهكذا بقيت في بيتها كا 
أرادت متمتعة بسيادتها وحرّيّتها وكثير من عادات 
الماضى العزيز. وإذا كان بعضص هذه العادات. 
كالمغالاة الشادّة في الاهتام بشئون البيت ولمال. ما 
يتناق مع هدوء الشيخوخة الحكيمة وتسامحهاء وبالتالي 
تما يبدو كعارض من أعراض اطرم الانتكاسية» فثمة 
عادة أخرى ما .حافظت عليه جديرة بأن ترين 
الشباب». وبأن تضفي على الشيخوخة جلالاً.» تلك 
هي العبادة. كانت ولم تزل مطمح حياتها ومشرق 
أمالما وسعادتباء»ء رضعتها صغيرة في كنف أب شيخ من 
شيوخ الدين» وتغلغلت في أعاقها بزواجها من شيخ 
آخر لم يكن دون أبيها ورعًا وتقوى. وظلت تمارس 
بحب وإخلاص غير مفرقة في إخلاصها بين ما هو دين 
حمًا وما هو خرافة خالصة حي عرفت بين جاراتها 
بالشيخة المباركة. صديقة الجارية وحدها هي التي 


بين القصرين 9؟6 
عرفتها بخيرها وشرهاء فربما قالت لما على أثر مشادّة 
ما ينشب بينهما «يا ستّى أليست العبادة أولى بوفتك من 
الشجار والنقار على التافة من الأمور!؟») فتجيبها محتدذة 
ويا لثيمة إِنْك لا توصيئي بالعبادة حبًا فيها ولكن كي 
يخلر لك مجال العبث والاعمال والقذارة والسلب 
والنبب» إن الله يأمر بالنظافة والأمانة فمراقبتك 
ومحاسبتك عبادة وثواب!» ولأنْ الدين قد شغل من 
حياتبا تلك المكانة العالية فقد سيا أبوها ومن بعدله 
زوجها إلى مكانة رفيعة من نفسها فوق ما كان لمما 
بحكم القرابة» وطلما غبطتهها على ما شرفا به من 
حيازة كلمات الله ورسوله في صدريهاء ولعلّها ذكرت 
هذا حين خاطبت أمينة مواسية ومشحّعة فقالت: 

ما أراد السيّد بإخراجك من بيتك إلا إعلان 
غضبه على محالفتك لأمره ولكنّه لن يجاوز حدود 
التأديب» أجل لن يحيق سوء بمن كان لها أب كأبيك أو 

وابتل صدر أميئة بذكر أبيها وجدّها كما يبتل صدر 
المنقطع به الطريق في الظلات إذا ترامى إليه صوت 
الغفير وهو يبتف «هوه؛ فآمن قلبها بقول أمها لا 
لتلهّفها على الطمأنينة فحسب, ولكن لإيمانها قبل كل 
شىء ببركة الشيخين الراحلين» فلم تكن إلا صورة 
من أمّها في حسّها وإيمانها وجل طباعها. وانثالت على 
وجدانها في تلك اللحظة ذكريات أبيها الذي أفعم 
قلبها وليدة بالحبّ والايمان-فدعت الله أن ينتشلها من 
ورطتها إكرامًا لبركته. وعادت العجوز إلى مواساتها 
فقالت وعلى شفتيها الحافتين ابتسامة رقيقة : 

إن الله يرعاك دائمًا برحمته. اذكري عهد الوباء لا 
أرجعه الله وكيف نباك الله من شرّه فقضى أخوائتك ولم 
يلك ضوع 

غلبها الابتسام على كابتها فابتسمت. وتفرست في 
غبش من الماضى كاد يمحوه النسيان فوضحت ‏ بعيض 
الوضوح ‏ من خليط الذكريات صورة أحيت في نفسها 
أصداء من عهد الرعب» وهي صبيّة نتحجل خارج 
أبوان غلقت على آخوات مستلقيات على أسرّة المرض 
والموت» وهي وراء النافذة تنظر إلى سيل من النعوش 


8 بين القصرين 


واستريجي . لا نجزعي » ماذا يضيرك من قضاء عطلة 
قصيرة مع أمّك في الحسجرة التي ولدت فيها؟! 

فجرى بصرها في غير اكتراث على الفراش القديم 
الذي حال لون عمده؛ والسجّادة البالية التِى انجرد 
وبرها ونسلت أطرافها وإن بقيت رسوم ورودها حافظة 
لحمرتها وخضرتباء ولكنٌ صدرها ‏ لما ران عليه من 
فرقة الأحباب- لم يكن مهيّنًا لتلقّي موجات 
الذكريات, فلم تبج دعوة أمّها في قلبها الحنان الذي 
تبيجه عادة ذكريات متباعدة لهذه اللحجرة وهي قريرة 
العين» ولم يسعها إلا أن تتعيّد قائلة : 

- ما بي إلا قلق على الأولاد يا أمي . . . 

- إنهم في رعاية الله ولن يطول بُعدك عنهم بإذن 
الرحئن الرحيم . . . 

قامت أمينة لتخلم ملاءتها على حين انسحبت 
صلديقة - حزيلة أسيفة لما سمعت ‏ من موقفها عند 
مدخل الحجرة الذي لزمته أثناء الحديث. ثم عادت 
المرأة إلى مجلسها جنب أمْها وما لبثنا أن قلبتا الحديث 
ظهرًا لبطن وهما تبدآن وتعيدان وكأن في تقابله) جنبًا 
لجنب ما يدعو إلى تأمّل قوانين الورائة العجيبة وقانون 
الزمن الصارم, كأنمها شخص واحد وصورثه الملعكسة 
في مرآة المستقبل أو نفس الشخص وصورته المنعكسة 
في مرأة الماضي وبين الأصل والصورة على الحالين ما 
يشير إلى الصراع الرهيب الناشب بين قوانين الورائة 
التي تعمل على التشابه والبقاء من ناحية وبين قانون 
الرمن الذي يدفع إلى التخيّر والنباية من ناحية أخرى» 
ذلك الصراع الذي ينجلي عادة عن سلسلة من الهزائم 
تلحق تباعا بقوانين الوراثة حيّى يفدو قصاراها أن 
نودي وظيفة متواضعة في نطاق قانون الزمن الصارم . 
في نطاق ذلك القانون استحالت الأمّ العجوز جسم 
نحيلا ووجها ذابلا وعينين لا تبصران إلى تطوّرات 
باطنيّة لا تنالها الحواس. حبّى لم يُبْق لما من ببجة 
الحياة إلا ما يدعونه بجمال الشيخوضة أي السمث 
الهادئ والوقار المكتسب الحزين والرأس المرضع 
بالبياض . بيد أنها كانت تنحدر من جيل معمّر عرف 
بصلابة المقاومة فلم يكن طعنها فيا بعد الخامسة 


والسبعين بمقعدها عن أن تنهض في الصباح كعادتها 
ملذ نصف قرن فتتحسس سبيلها بدون إرشاد 
الجارية ‏ إلى الحيام فتتوصا ثم تعود إلى حجرتها 
فتصل , أمَا بقيّة الغبار فتقطعها في التسبيح والتأمل 
الصامت الذي لا يدري به أحد طلما كانت الجخارية 
مشغولة بأعبال البيت» أو مستانسة إلى حديث المرأة إذا 
فرغت لمجالستهاء حتى الصفات التي تلازم عادة وفرة 
النشاط للعمل وحدّة الحراس للحياة لم تزايلها بحال. 
مثال هذا شدَّة محاسبتها للجارية على كل صغيرة وكبيرة 
فيما يتعلق بالمصروفات, وتنظيف البيت وترتيبه 
وتلككؤها إذا تلكات في مهمّة, وتأخرها إذا تآخرت في 
مشوار. ولم يكن بالنادر أن تحلفها على المصحف 
لتطمئن إلى صحة تقاريرها على غسل الام والأواني 
وتنفيض النوافذ. دقة بالوسوسة أشبه» ومن الحائز أن 
تكون مثابرتها عليها استمرارًا لعادة تأصّلت في صدر 
الشباس. كما أنه من التائز أن تكون تكملة مما يعتري 
الشيخوخة ويلحق بطباعها المتطرّفة استمساكها بالبقاء 
في بيتها في شبه وحدة كاملة بعد وفاة بعلهاء ثم 
إصرارها على البقاء فيه حبّى بعد فقدانا لبصرهاء 
متصامتة عن دعوات السيّد المتكرّرة لما بالانتقال إلى 
بيته لتعيش في رعاية ابنتها وأحفادهاء تما عرضها لتهمة 
الخرف وجعل السيّد يعرض عن دعوتها نائياء ولكنّ 
الحقّ أنْبا كرهت هجر بيتها لتعلقها الشديد به. 
ولتحاميها ما عسى أن تلقى في البيت التديد من إعمال 
غير مقصود أو ما يستوجبه وجودها من إلقاء أعباء 
جديدة على عاتق أبنتها المثقل بالواجبات». ولنفورها 
من الرج بنفسها في بيت اشتهر صاحبه بين آله 
بالشراسة والغضب أن تنزلق وهي لا تدري إلى 
ملاحظاته الأمر الذي تشفق من عواقبه على سعادة 
ابنتهاء وأخيرًا لما تنطوي عليه في قرارة نفسها من ححياء 
وكبرياء حببا إليها الحياة في البيت الذي تملك معتمدة ‏ 
بعد الله على المعاش الذي تركه لما زوجها الراحل» 
على أن ثمّة أسبابًا أخرى لإصرارها على البقاء في بيتها 
لا يمكن تبريرها برهافة اللحساسيّة أو سداد البصيرة. 
كخوفها ‏ إذا أخلت البيت ‏ من أن تجد نفسها مضطرٌة 


لا ينقطع والناس تفرٌ من طريقهاء أو وهي تسمع إلى 
جماهير من الشعب التقت في ذعرها ويأسها برجل من 
رجال الدين ‏ كما كان يتفق لأبيها ‏ وراحت تجار 
بالشكوى وترسل الدعوات إلى رب السماء؛ وعلى رغم 
استفحال الث وهلاك أخواتها حميعا فقد أفلتت من 
برائن الوباء سالمة آمئة لم يكدّر صفوها إلا عصير 
الليمون والبصل الذي كانت تجبر على تجرعه مرة أو 
مرّتين في اليوم. واستطردت الأم بصوت ثمت رقته 
وحنانه على الاسترسال في الأحلام كأئما قد ردّها التذكر 
إلى العهد الخالي فاستعادت حياته وذكرياته ‏ العزيزة 
الغالية لاقترانها بالشباب ‏ خالصة من شوائب الال 
المنسىّء فقالت: 

- ول يقنع حمّلك السعيد بإنقاذك من الوباء لكنّه 
أبقاك وحيدة الأمسرة وكلٌ ما لها في الدنيا من أمل 
وعزاء وسعادة فترعرعت في صميم قلوبنا. 

لم تعد أمينة ترى الحجرة ‏ بعد هذا الخطاب ‏ كيبا 
كانت تراها قبله. بعثت جذة الشباب في كل شيء؛ في 
الجدران والسججادة والسريرء في أمّها وفيها هي 
نفسهاء وردٌ أبوها إلى الحياة واتخل مجلسه المعهود. 
وعادت تصفي إلى مناغاة الحبٌ والتدليسل وتحلم 
بقصص الأنبياء والمعجزات»: وتستعيد نوادر السابقين 
من الصحابة والكفار إلى عرابي باشا والإنجليزء بعت 
الحياء الماضية بأحلامها السحريّة وآمالما الواعدة 
وسعادتها المرجوة ثم قالت العجوز بلهجة من يقزر 
النتيجة التبائيّة لما مهد به من مقدّمات منطقية : 

أليس الله حافظك وراعيك؟! . . . 

بَيْد أنَّ القرل نفسه تضمّن عزاء موحيًا ذكرها 
بحاها الراهئة فاستيقظت من حلم الماضي السعيد 
عائدة إلى كآبتها كيا يعود السالي إلى اجترار أحزانه 
بكلمة مواساة تُلقى إليه بحسن نيّة ولبنت إلى جانب 
أمّها في حال من الفراغ الصارم لم تعهدها إلا حين 
مرضها فأنكرتها وضاقت بها ولم يشغل حديئها المتواصل 
مع أمّها إلا نصف انتباهها على حين بقي النصف 
الآخر مرعى للضيق والقلق؛. ولا جاءت صديقسة 
ظهرًا بصيئية الغداء قالت لما العجوز بقصد تسلية 


ابنتها ول وجاءك رقيب ليكشف عن سرقاتك؟» ولكن 
أمينة لم يكن يهمّها وقتذاك أن تسرق المرأة أو تلتزم 
الأمانة» ول ترد الجارية على سيّدتها [كرامًا للضيفة من 
ناحية ولأثها من ناحية أخحرى ألفت مرارة سيّدتها 
وحلاوتها فلم يعد لما غناء عن الاثنتين. وباستدارة 
العبار اشتدٌ تعلق فكرها ببيتها وتهالك عليه لأنّه في 
ذلك الوقت يعود السيّد إلى البيت للغداء والقيلولة. 
ثم يرجع الأبناء تباعًا عقب خروج الرجل إلى الدكان. 
فرأت بخيالها الذي استمدٌ من الألم والحنين قوة 
خارقة» البيت وآله كأئهم شهود. رأت السيّد وهو 
يخلم جبته وقفطانه دون مساعدتبها التي تخاف أن يكون 
قد ألِف الاستغناء عنها منل رقادها الطويل. وحاولت 
أن تقرأ ما يدور وراء جبينه من أفكار ونواياء هل 
يستشعر الفراغ الذي خلفته وراءهاء وكيف كان 
إحساسه حين لم يجد لما من أثر في البيت» ألم يرد لها 
ذكر على لسائه لسبب أو لآخر؟... وها هم الأبناء 
عائدون. وها هم ببرعون إلى الصالة بعد طول اشتياق 
إلى مجلس القهوة فيلقون مجلسها شاغرّاء ويسألون عنها 
فتجيبهم نظرات أختيهم المتجهّمة الدامعة» ترى كيف 
يتلقّى فهمي الخبرء وهل يدرك كيال وهنا خفق قلبها 
خفقة جارحة ‏ معنى غيابها؟ أيتشاورون طويلا؟. . . 
ماذا ينتظرون؟... لعلّهم في الطريق يستبقون 
إلبها. .. يجب أن يكونوا في الطريق. أم يكون قد 
أصدر أمرًا بعدم زيارتها؟ يجب أن يكونوا في 
الخرنفش. . . سترى عمًا قليل. . . 

أتحدّثينني يا أمينة؟ 

مبذا السؤال قاطعت العجوز خيالها فانتبهت إليها 
في دهشة ممزوجة بالحياءء إذ فطنت إلى أن كلمات - من 
حديثها الباطن مع نفسها ‏ قد تسأّلت في غفلة منها إلى 
طرف لسابها محدثة الحسٌ الذي التقطته أذن أمّها 
المرهفة فلم ثّرّ بدا من أن تجيبها قائلة : 

ع إن أتساءل يا أمي ألا كر 

- أظتهم حاءوا. . . | 

قالت العجوز وهي ترهف السمع مادّة رأسها إلى 
الأمام فانصتت أمينة صامتة فترامى إليها صوت مطرقة 


الباب وهي ترسل ضربات سريعة متلاحقة كأنمها 
صوت يبعث في طفة بصرخات استغاثة حارة فعرفت 
وراء هذه الضربات العصبية قبضة كيال الصغيرة كيا 
كانت تعرفها وهي تدقٌ عليها باب حجرة الفرن» 
وسرعان ما هرعت إلى رأس السلّم وهي تشادي 
صديقة لتفتح الباب». ثم أطلت من فوق الدرابزين 
فرأت الغلام وهو يثب فوق درجات السلّم وني أثره 
فهمي وياسين وتعلّق كال بعنقها فعاقها قليلًا عن 
عناق الآخرين» ثم دخلوا الحجرة وهم. من جيشان 
النفس وتبلبل الخاطرء يتكذّمون في وقت واحد لا يبالي 
أحدهم ما يقول الآخرونء ولمًا رأوا الجذة واقفة 
مبسوطة الذراعين مشرقة الوجه بابتسامة ترحاب مفعمة 
بالحبٌ أمسكوا عن الكلام إلى حين وأقبلوا عليها تباعا 
فساد صمت نسبي تخللته همسات المقُبّل المتبادلة وأخيرًا 
هتف ياسين بصوت ينم عن الاحتجاج والحزن : 

دناتهي :لآق لآ بيك الناء نولي ركو 8 لنابيقة ب 
تعودي إليه . 

وآوى كال إلى حجرها كالهارب وهو يقول مفصحا 
لأؤل هرّة عن نيته التي طوى صدره عليها في البيت 
وفي الطريق : 

- سأبقى هنا مع لينة. . . ولن أعود معكيا. . 

أمَا فهمي فقد رنا إليها طويلا صامتاء كشأنه إذا 
أراد أن يحدّثها بالنظرء فوجدت في نظراته الصامتة خير 
معبر عا يعتلج في صدريها معًا. هذا الحبيب الذي لا 
يفوق حبّه لما إلا حبّها له والذي يندر أن يشير في 
أحاديئه معها إلى عواطفه ولكن تشي به خطرات نفسه 
وكلماته وفعاله» وقد قرأ الفتى في عينيها نظرة تدل على 
الألى والخجل فاشتدٌ تأثّره وقال بحزن وتالم: 

نحن الذين اقترحنا عليك الخروج» وشجعناك 
عليهء ولكن ها أنت وحدك تتلقّين العقاب. . 

فابتسمت الأمّ في ارتباك وقالت: 

لست طفلة يا فهمي» وما كان ينبغي لي أن 
5 

فتائر ياسين لهذا الحوار المتبادل. واشتدٌ كربه لفرط 
إحساسه بالحرج بصفته صاحب الاقتراح المشئوم . 


بين القصرين "١‏ 
وتردد طويلا بين معاودة الاعتذار عن اقتراحه. على 
مسمع من الجدّة أن تعاتبه أو تضمر له حثقاء 0 
السكوت على ما به من رغبة في التنفيس عن تحرجه. 
ثم خرج من تردّده بأن ترجم كلام فهمي إلى لغة 
أخرى قائلا : 

أجل نحن المذنبون وأنت المتهمة؛ (ثمّ ضاغطا 
على حارج الكليات كأنما يضغط على عناد أبيه 
وصلابته) ولكنك ستعودين»: وسوف تنقشع السحابة 

ولفت كيال وجهها إليه من ذقنهاء واغبال عليها 
بسيل من الأسئلة» عن معنى مغادرتها البيت» وكم 
تطول إقامتها في بيت جدنهء وعبا يحدث لو عادت 
معهم. وغير ذلك من الأسئلة التى لم يسمع عنها جوابًا 
واحدًا حقيًا بأن يسكن خاطره الذي لم ينفع في 
تسكينه عزمه على أن يبقى مع أمّه حيث هي, ذلك 
العزم الذي كان أول من يرئاب في قدرته على تحقيقه 
وتخبّرت وجهة الحديث بعد أن فرغ كل منهم من 
التعبير عن عواطفه. فأخذوا يعاللحون الموقف معالحة 
جدّيّة أنه ىا قال فهمي ‏ «لا يجدي التكلّم فيا كان 
ولكن ينبغي أن نتساءل عمًا سيكون» وقد أجابه ياسين 
على تساؤله قائلا «َإِنّ رجلا كابينا لا يرضى بأن يمر 
بحادث كخروج أمّنا مَرَا كريماء فلم يكن بد من أن 
يعلن غضبه بطريقة لا يسهل نسيانباء ولكنّه لن يجاوز 
حدود ما فعل» بدا هذا الرأي مقنعا لما صادف من 
ارتياح النفوس إليه فقال فهمي مفصحا عن اقتناعه 
ومرجوّه معًا «والدليل على صححّة رأيك أنه لم يقدم على 
فعل شيء آخرء ومثله لا يؤجل عزمه لو صحت نيته 
عليه». وتكلّموا كثرًا عن «قلب» أبيهم فاثفقت 
كلمتهم على أنه قلب خير رغم ورته وحدّته وأنْ أبعد 
شىء عن تصوّرهم هو أن يقدم على عمل من شأنه أن 
يسىء إلى السمعة أو يؤذي أحدًا وعند ذاك قالت الحدة 
على سبيل الدعابة وهي تعلم باستحالة ما تدعو إليه: 

لو كنتم رجالا حمًا لالتمستم الوسيلة إلى قلب 
أبيكم ليتحول عن عناده. . 

فتبادل ياسين وفهمي نظرات ساخرة من هذه 


«الرجولة» المزعومة التي تذوب لدى ذكر أبيهم , 
وخافت الأمّ من ناحيتها أن يتطور الحديث بين الشابين 
والجدّة إلى ذكر حادث السيّارة فافهمتهما بالإشارة ‏ 
وهي تردّد يدها بين كتفها وأمّها ‏ أنْها أخفت عنها 
الأمرع ثم قالت تخاطب أمها وكأنها تنبري للدفاع عن 
رجولة الشائين: 

لا أحبٌ أن يتعرّض أحدهما لغضبه فلنتركه لنفسه 

وهنا تساءل كيال : 

- ومتى يعفوة 

فأشارت الآمْ بسبابتها إلى فوق وهي تغمغم «ريّئا 
عنده العفوه. وكالألوف في مثل هذه الحال دار 
الحديث حول نفسه فأعاد كل ما سبق له قوله بنفس 
الألفاظ أو بألفاظ جديدة من إيثار متواصل للظنون 
الورديّة فطال الحديث دون أن يستجدٌ به جديد» حي 
خيم الظلام ووجب الرحيل. وحين وجب الرحيل 
وغشيت كابته القلوب كالضباب شغل به الفكر عن 
الكلام فساد سكون كالسكون الذي يسبق العاصفة. 
الهم إلا كليات لا يراد با إلا التخفيف من وطأة 
الصمت أو التهرّب من الاعتراف بجثوم الوداع وكأن 
كلا منبم يلقي تبعة إعلانه على عاتق غيره رحمة 
بالجانب الأآخرء هنالك حدس قلب العجوز ما 
تضطرم به النفوس حولا فرمشت عيناها المظلمتان 
ولعبت أصابعها بحبات السبحة في عجلة ولهوجة. 
ومضت بها دقائق بدت على قصرها كاتمة للأنفاس 
كاللحظات الت يترقب فيها الحالم في كابوس سقطة من 
علو شاهق. حبّى جاءها صوت ياسين وهو يقول «أظنْ 
أن لنا أن نذهب.» وسنعود لناخذك معنا قريئًا إن شاء 
الله وتسمعت العجوز لترى كيف تتهدج نرات ابنتها 
عند الكلام ع ولكتها لم تسمع كلامًا بل سمعت حركة 
دالّة على مموض الجلوس. وأصوات قبل وشمهمة 
توديع» واحتجاج كيال على انتزاعه بالقوة فبكاءه. ثم 
جاء دورها في التسليم في جو مشبع بالحزن والفتور. 
وأخبرًا أخحذت الأقدام تبتعد تاركة إيَاها في حذة 


وشاجن . 


وعادت قدما أمينة الخفيفتان فمضت العجوز 
- أتبكين؟! يا لك من عبيطة! كأنّك لا تطيقين أن 


2 

بدت خخديجة وعائشة أضيق الجميع بغياب الأمّ 
فإلى حزما الذي يشاركههما فيه الاخوة تحملتا وحدهما 
أعباء البيت وخدمة الأب بَيْد أنْ أعباء البيت لم تكن 
لتنوء ببهاء أما خدمة الأب فهي التى عملتا لها ألف 
حساب ونزعت عائشة إلى اهرب من منطقة أبيها معتلة 
بِأنْ خديجة سبق ها أن تدرّبت على خدمته في أثناء 
رقاد الأم فوجدت خديجة نفسها مرغمة على العودة إلى 
تلك المواقف الدقيقة الرهيبة الى تكابدها وهي على 
كثب من السيّد أو وهي تقضي له -حاجة من -حاجاته. 
ومئذ الساعة الأولى لذهاب الأمّ قالت خديجة «ينبغي 
الا تطول هذه الحال» إن الحياة بدونها في هُذا البيت 
عناء لا يطاق» فأمّت عائشة على قوها ولكنها لم تجد 
من -حيلة في وسعها غير الدموع فذرفتهاء وانتظرت 
عودة إخموتها من بيت الحدّة حيّى جاءوا وقبل أن تلفظ 
كلمة ما يدور في نفسها راحوا يحدثون عن حال أمّهم 
في «منفاها» فوقم الحديث من نفسها موقع الغرابة 
والاستنكار لأمّبا كانت تسمع عن قوم غرباء لا يتاح لها 
لقاؤهم فغلبها الانفعال وقالت بحدّة: 

- إذا قنع كل منًا بالسكوت والانتظار فرثتما تلاحقت 
الأيام والأسابيع وهي مبتعدة عن بيتها حتّى يضنيها 
الحرن. أجل إِنْ مخاطبة بابا في هذا الشأن مهمّة شاقة 
ولكتّبا ليست أشقٌّ من السكوت الذي لا يليق بناء 
ينبغي أن نجد طريقة. . . ينبغي أن نتكلم. . 

ومع أنْ صيغة «نتكلّم: الي خحتمت مها جملتها 
جاءت شاملة لجميع الحاضرين إلآ أنه قصد بها كما 
فهم بالبداهة - شخص أو شخصان شعر كلاهما لدى 
سماعها بارتباك لم تف بواعثه على أحد. بَيْد أن 
حديجة واصلت ححديثها قائلة : 

- لم تكن مهمة مخاطبته فيا يعرض من أمور بأيسر 


على نينة تما هي علينا ومع ذلك لم تكن تتردّد عن 
مخاطبته إكرامًا لأيّ واحد مئاء فمن الإنصاف أن 
نتحمّل نفس التضحية من أجل خخاطرها. 

تبادل ياسين وفهمي نظرة فضحت إحساسهيما 
بالخناق الذي أخذ يضيق حوفها سريعًا ولكنّ واحدًا 
مهما لم يجرؤ على فتح فيه أن ينتهي به الكلام إلى أن 
بقع عليه الاختيار ليكون كبش الفداء فاستسل) لانتظار 
ما يجيء به النقاش كيا يستسلم الفأر للهرّة» وتركت 

يجة التعميم إلى التخصيص فالتفتت إلى ياسين 
قائلة : 

- أنت أخونا الأكبر وإلى هذا فأنت موظف», أي 
رجل كامل. فأنت أجدرنا مبذا الواجب. 

ملا ياسين صدره بالحواء ثم نفخ وهو يعبث بأنامله 


مل 


في ارتباك ظاهر وتمتم قائلا: 

- والدنا رججل ناريّ الغضب لا يقبل مراجعة 
لرأيه» وأنا من ناحيتي ل أعد غلامًا بل صرث رجلا 
وموظفًا كا تقولين» وأخُْوّف ما أخاف أن ينفجر فِّ 
غاضبًا فيفلت مث زمام نفسي ويثور غضبي بدوره! 

وغلبهم الابتسام على أعصابهم المتوترة المحزونة 
فاتسمواء وأوشكت عائشة أن تضحك فأخفت وجهها 
في كفيهاء ولعلّ حاهم المتوتّرة نفسها مما هيّاهم لقبول 
الابتسام كمسكن وقتّ للتوئر والألم ىا يحدث للنفوس 
أحيانًا عند اشتداد الحزن من الاستسلام للطرب لأتفه 
الأسباب على سبيل التخفيف عن حال بأضدادهاء 
ذلك أنئهم عدّوا قوله نوعًا من الدعابة الجديرة 
بالضحك والستخرية. وكان هو أول من يعلم بعجزه 
التامّ عن عجرّد التفكير في الغضب أو المقاومة حيال 
والده وأوّل من يعلم أنه قال ما قال فرارًا من مواجهة 
أبيه واثقاء لسخطه. فلا رأى هزءهم لم يسعه إلا أن 
يبتسم بدوره وهو يهزٌ منكبيه كأنما يقول لهم «دعوني 
وشأني». فهمي وحلده بدا متحفْظا في ابتسامه لشعوره 
أن القرعة ستصيبه قبل أن تغيب ابتسامته.» وصدق 
شعوره إذ أعرضت خديجة عن ياسين في ازدراء ويأس 
ونخاطبته قائلة برجاء وإشفاق: 

فهمي . . . أنت رجلنا! . . . 


بين القصرين 477 

فرفعم حاجبيه في ارتباك متطَلَعًا إليها بنظرة كأنما 
يقول لها «انت أدرى بالعواقب!) حمًا كان يتممّع بمزايا 
لا يتمتع ببعضها أحد في الأسرة فهو طالب بمدرسة 
الحقوق. وهو أكبرهم عقلاً وأنفذهم رأيّاء وله من 
ضبط النفس في المواقف الحرجة ما يدل على الشجاعة 
والرجولة ولكنّه سرعان ما يفقد جملة مزاياه إذا مثل بين 
يدي أبيه فلا يعرف غير الطاعة العمياء. وبدا وكأنه لا 
يدري ماذا يقول فحئته على الكلام بإيماءة من رأسها 
فقال متحيرا : 

- هل ترينه يقبل رجائي؟... كلا... ولكنه 
سينهر ني قائلا : ولا تتدخل فيها لا يعنيك». هذا إذا لم 
يثر غضبه فيوجه إل كلامًا أشدٌ وأقسى! 

وارتاح ياسين إلى هذا الكلام «الحكيم؛ الذي وجد 
فيه دفاا عن موقفه أيضًا فقال وكأنّه يكمل رأي 
أخيه ؛ 

- ورتما جر تدخخلنا إلى محاسبتنا من جديد على موقفنا 
يوم خروجها فنفتح على أنفسنا فتحة لا ندري كيف 
نسدّها! 

فالتفتت الفتاة نحوه مغيظة محنقة وقالت بمرارة 
وسخرية : 

لا منك ولا كفاية شءك! 

فقال فهمى الذي استمدٌ من غريزة وحبٌ البقاءم 
قوة جديدة للدفاع عن نفسه : 

- فلنفكر في الأمر بعناية شاملة, , . لا أظنّه يقبل 
لي أو لياسين رجاء ما دام يعتبرنا شريكين في الخطاء 
وعليه فالقضيّة خاسرة إذا تقدّم أحدنا للدفاع عنباء أمّا 
إذا حدّئته واحدة منك) فلعلّها تدجح في استعطافه أو 
لعلها تجد ‏ على أسوأ الظنون ‏ إعراضًا هادثًا لا يبلغ 
حلٌ العدفء فلاذا لا تحدّئه إحداىا؟ . . . أنث مثلة با 
حد غية | ؟ 

فانقبض قلب الفتاة التى وقعت في الشرك وحدجت 
ياسين وفهمي بنظرة غيظ وهي تقول: 

القت هذاه الييقة اخلق بالرسفال| 

فقال فهمي مواصلا شفجومه السلمي : 

- العكس هو الصحيح مما دمنا نتوخى نجاح 


4 بين القصرين 


المسعى, ولا تسي أنْكما لم تتعدرّضا لغضبه طول 
حياتكما إلا في النادر الذي لا يقاس عليه» فهو يألف 
الرفق بكما كا يألف البطش بنا! 

فأطرقت خديجة متفكرة في قلق غير نخافب» وكأئها 
خافت إن طال صمتها أن تشتدٌ عليها الحملة فتستقر 
المهمة المخنطيرة في قرعتها فرفعت رأسها قائلة : 

إذا كان الأمر كما تقول فعائشة أخلق مي 
بالكلام ! 

- أنا!. . . له؟! 

نطقت بها عائشة في فزع من وجد نفسه في مرمى 
الخطر بعد أن اطمأنٌ طويلا إلى موقف المتفرّج الذي 
بسن لشن الأمى قت وتعماقنة بورقاء لدان مانا 
وغلبة إحساس الطفولة المدلّلة عليها ‏ لم تكن تندب 
لشىء هام فضلا عن أخمطر مهمّة يمكن أن تعرض 
لأحد منهمء إلا أن خديجة نفسها لم تجد فكرة واضحة 
لتبرير اقتراحها بيد أنْها أصِرّت عليه في عناد مشبع 
بالمرارة والتهكم فقالت تيب شقيقتها: 

- لأنه ينبغي الانتفاع بصفرة شعرك وزرقة عينيك 
في إنجاح مسعانا! 

وما دل شعري وعيّ في مواجهة أبي؟ ! 

لم تكن نخديجة تبثم في تلك اللحظة بالإقناع بقدر 
ما تهالكت على إيجاد مخرج لها ولو بتحويل الأذهان إلى 
أمور هي بالمعابثة أشبه تمهيدًا للتقهقرء فالفرار من 
أسلم السبل الممكنة كمن يقع في مازق حرج وتعوزه 
الحجّة في الدفاع عنه فيلجأ إلى المزاح ليمهّد لنفسه 
مفرًا في ضبّة من السرور بدلا من الشياتة والازدراء 
للك قالت: 

- أعرف هما تأثيرًا ساحرًا في كل من يتصل بكء 
ياسين. . . فهمى . . . حتّى كيال» فلماذا لا يكون لما 
نفس التأثير عند أبي؟ 

فتورد وجه عائشة وقالت بانزعاج : 

- كيف أنخاطبه في هذا الشأن وأنا لا تقع علي عيناه 
حب يطير ما في رأسي؟! 

عند ذاك ‏ وبعد أن تَهربوا تباعًا من المهمّة المخطيرة ‏ 
لم يعد يشعر أحد منهم بتهديد مباشر ولكن النجاة لم 


تعفهم من إحساس بالذنب» بل لعلها كانت أوّل 
دافع الف .حييف: أن الإنسان ركز تفكيره في النجاة عند 
الخطر حتّى إذا ظفر بالئجاة عاد ضميره يناوشه. 
كالجسم الذي يستنفد حيويّته كلها في العضو المريض 
حبّى إذا ما استردٌ صِحّته توزعت حيويّته بالتساوي على 
الأعضاء التي أهملت إلى حين, وكأنّ خديجة أرادت أن 
تتخقف من هذا الإحساس فقالت: 

ما دمنا نعجز جميعا عن مخاطبة بابا فلنستعن 
بجارتنا الست أم مريم. 

وما إن نطقت باسم «مريم» حتّى لحظت فهمي 
بحركة عكسيّة فالتقت عيناهما لحظة قصيرة في نظرة لم 
يرتح لها الشابٌ لإيحائها فأشاح عنها بوجهه متظاهرًا 
بعدم الاكتراث» ذلك أن اسم مريم لم يَجِرٍ على لسان 
أمام فهمي منذ نبذت فكرة خصطبتهاء إمَا مراعاة 
لعواطفه» وإمًا لأنْ مريم اكتسبت معيّى جديدًا بعد 
اعترافه بحنها سلكها في زمرة المحرّمات التي لا 
تتسامح تقاليد البيت بلوكها علانية حيال صاحب 
الشأن. وبالرغم من أنْ مريم نفسها لم تنقطع عن 
زيارة الأسرة متظاهرة بجهل مادار بشأنها وراء 
الأبواب. . . ول تَفْثْ ياسين لحظة الارتباك المتبادل بين 
فهمي وتخديجة فأراد أن يغطى على أثرها المحتمل 
بتوجيه الانتباه إلى وجهة جديدة فوضع يده على كتف 
كال وقال بلهجة بين التهكم والتحريض : 

هذا رجلنا الحقٌّء هو وحده الذي يستطيع أن 
يرجو والده ليعيد إليه أمّه! 

' يحمل كلامه محمل اللحدٌ أحدى وأوشم كال 
نفسهء بيد أنْ قول ياسين وثب إلى ذاكرته في اليوم 
التالي وهو يقطع ميدان بيت القاضي عائدًا من 
المدرسةء بعد شار مضى أكثره في التفكير في أمّه 
المنفيّة» فتوقف عن السير صوب درب قرمزء والتفت 
إلى طريق النحاسين متردّدًا وقلبه المحزون يتابع خحفقاته 
في كآبة وتالم. ثم غيّر طريقه متّجهًا نحو النحاسين في 
خطوات متباطئة دون أن يجمع عزمه على رأي» يسوقه 
العذاب الذي يعاني لفقد أمّْهء ويرجعه الخوف الذي 


يركبه لمجرّد ذكر أبيهء فضلا عن مخاطبته أو التوسّل 


إليه؛ لم يكن يتصوّر أنه يستطيع أن يقف بين يديه 
محدّثًا في هذا الأمرى ولم تغب عن شعوره المخاوف 
العسيّة بان تحيق به لو فعل. ولم يصمّم على شيء إلا 
أنه رغم كل هذا واصل السير البطيء حبّى لاح لعينيه 


بين القصرين ه47 
الأب ضيقًا وهتف بحدّة: 
دا تكلم يد هل فقدت النطق؟ ! 
وتجمّحت قوّته كلها في إرادة واحدة وهي أن يخرج 
من صمته بأيّ ثمن اثّقاء لغضب أبيه ففتح فاه قائلا 


باب الدكان كأنما ينزع إلى إرضاء قلبه المعذّب ولو كيفما اتفق له: 


إرضاء عميمًا ‏ كالحداأة التي تحوم حول خاطف 
صغارها دون أن تجد الشجاعة على مهاحمته ‏ وتدانى 
من الباب حيّى وقف على بعد أمتار منه وطال الوقوف 
وهو لا يتقدّم ولا يتأخرء ولا يستقرٌ على رأي؛ وفجأة 
خرج من الدكان رجل وهو يقهقه عاليًا وإذا بأبيه يتبعه 
حي عتبة الباب مودّعًا وهو يغرق في الضحك كذلك». 
فأذهلته المفاجأة» فتسمر في مكأثة مشر فا «وتخه أنيه 
الضاحك الطليق في إنكار ودهشة لا توصفان. لم 
يصدّق عينيه وخيّل إليه أن شخصيّة جديدة قد حلت 
في جسم أبيهء أو أن هذا الرجل الضاحك - على ما به 
من شبه بأبيه ب شخص آخر يراه لأول مرة» شخص 
يضحك,. ويغرق في الضحكء. وينطلق البشر من 
وجهه كيا ينطلق الضوء من الشمسء واستدار السيد 
ليدخل فوقع بصره على الغلام المتطلّع إليه بذهول 
فاخحذته الدهشة لموقفه وهيئته على حين استرذت 
أساريره بسرعة مظهر الحدّ والرزانة» ثم سأله وهو 
يتفرس في وجهه: 

ماذا جاء بك؟ ! 

وللحال دبّت في أعماق الغلام غريزة الدفاع عن 
النفس - رغم ذهوله - فتقدّم من أبيه ومذدٌ يده الصغيرة 
إلى يده وتطامن عليها حبّى لثمها في أدب وخشوع دون 
أن ينبس بكلمة. فسأله السيّد مرّة أخرى: 

ع ترك لين ؟! 

فازدرد كمال ريقه وهو لا يجد ما يتلقّظ به إلا أن 
يقول مؤثرًا السلامة «إنّه لا يريد شيئًا وأنّه كان في 
طريقه إلى البيت» ولكنٌ السيّد استبطاه فلاح في وجهه 
الضيق وقال بحخشونة : 

- لا تقف كالصئم وقل ماذا تريد. . . 

ونفدذدت خشونة الصوت إلى قلبه فارتعد؛ واتعقد 
لسانه فكأنّ الكلام قد التزق بسقف حلقه. فازداد 


كنت عائدًا من المدرسة إلى البيت. . . 
وماذا أوقفك هنا كالمعتوه؟! 
رأيت. . رأيت حضرتك فأردت أن أقبل 
يدك , . . ! 

فتجلّت في عيني السيّد نظرة استرابة. وقال بجفاء 
وتبككم : 

أهذا كلّ ما هنالك!. . . أوحشئك لهذا الحلٌ؟! 
ألم تستطع أن تنتظر إلى الصباح لتقبل يدي إذا 
أردت؟!... أسمع. . . إِياك وأن تكون قد عملت 
عملة في المدرسة . . . سأعرف كل شيء. . . 

فقال كيال بسرعة واضطراب: 

- لم أعمل شيئًا وحياة ريّنا. . . 

فقال الرجل بنفاد صير: 

- إذن تفضل. . . ضيّعت وقتي بلا مناسبة. . . غُرْ 
من وجهي ... 

فغادر كال موقفه لا يكاد يرى موضع قلمه من 
الاضطراب, وتحرّك السيّد عن مكائه ليدخل ولكن 
عاودت الغلام الحياة بمجرد حول عيني أبيهة عن عيئيه ) 
وصاح بلا شعور قبل أن يغيب الرجل وتضيع 
الفرصة : 

رسع نيئة الله يخليك , . . 

وأطلق ساقيه للريح . . . 


مم 
كان السيّد يحتسى قهوة العصر في حجرته حين 
دخلت خدنيحة 56 بصوت كاد من التخشع ألا 
ع 
جارتنا ست أمّ مريم تريد مقابلة حضرتك. . . 
فتساءل السيّد متعجبا: 
حرم السيد محمد رضوان؟ ماذا تريد؟ 


"”غ بين القصرين 

ع ل أعرفية نا اانا ون 

فأمرها بإدخالها وهو يمسك عن التعججب. ومع أنْ 
بجي ء بعض الفضليات من الخارات لمقابلته ‏ لشسان 
يتعلق بتجارته أو لصلح يسعى به بينبنْ وبين أزواجهنٌ 
من أصدقائه لم يكن مع ندرته بالحديد عليه إلا أنه 
استبعد أن يكون ما دعا هذه السيّدة إلى مقابلته واحد 
من هذه الأسباب. وخطرت على ذهئنه. وهو يتساءل» 
مريم وما دار عن خخطبتها بينه وبين زوجه. ولكن أي 
علاقة ثمّة بين هذا السرّ الذي لا يمكن أن يتعدّى 
دائرة أسرته وبين هذه الزيارة!؟ ثم ذكر السيد محمد 
رضوان لاحتال أن تكون الزيارة لسبب يمت إليه بَيْد 
أنّه كان ول يزل مجرّد جار لا تربطه به إلا صلة الخيرة 
التي لم ترتفع يوما لمرتبة الصداقة» فاقتصر تزاورهما 
قديًا على المناسبات الضروريّة حبّى شل الرجل فعاده 
مرّات. ثم لم يعد يطرق بابه إلا في الأعياد. على أن 
ست أمّ مريم ليست بالغريبة عليه؛ فإنّه ليذكر أنْبا 
قصدت دكانه مرّة لابتياع بعض الحوائج وهناك عرّفته 
بنفسها استرعاء لاهتامه فبذل لما من كرمه ما رآه 
جديرًا بحسن الجواره ومرّة أخرى التقى بها عند باب 
بيته إذ صادف خروجه قدومها للزيارة مصطحبة 
كريمتها وعند ذاك أدهشته بجسارتها حين حيّته قائلة 
دمساء الخير يا سى السيّد». أجل علّمه اختلاطه 
بالأصدقاء أنْ من يتسامح فيا يتشدّد فيه متطرّفا 
من التزام الآداب المتوارثة للأسرة. فلا يرون بأسّا من 
أن تخرج نساؤهم للزيارة أو للاستبضاع. ولا يجدون 
حرجا في توجيه تحيّة بريئة كالتي وجهتها أمّ مريم إليه. 
ولم يكن - رغم حنبليته - بالذي يطعن فيما يرتضون 
لأنفسهم ولنسائهم. بل لم يكن يسيء الظَنْ حب 
ببعض الأعيان من أصدقائه الذين يصطحبون 
زوجاتهم وبناتهم في العربات للتدرّه في الخلوات أو 
لغشيان الملاهي البريئة مكتفيا في مثل هذه الخال بترديد 
قوله «لكم دينكم ولي دين». أي أثنه له ينزع إلى 
تطبيق آرائه على الئاس تطبيقًا أعمى. إلى أنه يحسن 
التمييز حقًا بين ما هو خير وما هو شر إلا أنه لا يفتح 


صدره لكل دما هو خير» ضالعًا في ذلك مع طبيعته 
التقليديّة الصارمة حيّ أنه عدّ زيارة زوجه للحسين 
جريمة قضى فيها بأقصى عقوبة أصدرها في حياته 
الزوجيّة الثانية» ولهذا كله لاقت تميّة أمّ مريم له من 
نفسه دهشة مقروئة بما يشبه الانزعاج دون أن يسبيء 
بأخلاقها الظنْ. وسمم خارج باب الحجرة نحلحة 
فأدرك أنْ القادمة تنذره بالدخول» ثم دخلت ملتفّة في 
ملاءتباء مستورة الوجه ببرقع أسود تتوسّط عروسه 
الذهبية عينين مكحولتين دعجاوين وتدانت منه بجسم 
جسيم لحيم مترنّح الأرداف. فبهض السيّد لاستقبالها 
وهو يمد يده قائلا: 

أهلا وسهلاء شدفت البيت وأهله. 

فمدّت له يدها بعد أن لفتها في طرف الملاءة أن 
تنقض وضوءه وقالت : 

عونا وناك اقدرة راسي اللسديي 
ودعاها للجلوس فجلست» لم جلس وهو يساها 
جاملة : 

كيفب حال السيد محمد؟ . . . 

فقالت متتبّدة بصوت مسموع كأنّ السؤال حرّك 
أشجاها : 

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. رينا 

فهر السيّد رأسه كالآسف وتمتم : 

- رينا يأخذ بيده ويمنحه الصير والعافية. . 

وأعقب حديث المجاملات صمت قصير فأخذت 
السيدة تتهيّا للحديث الحدَّئّ الذي جاءت من أجله 
كا يتهيّا المطرب للغناء بعد الفراغ من عزف المقدّمة 
الموسيقيّة على حين غض السيّد بصره تحشَمًا تاركا على 
شفتيه أبتسامة لتعلن ترحيبه بالحديث المنتظر: 

يا سيد أحمدء أنت في المروءة مثل يضرب في 
لحي كلهء فلن يخيب رجاء لمن يقصدك مستشفمًا 
007 

فتمتم السيّد بصوت حي وهو يتساءل في نفسسه 
«ثرى ما وراء هذا كلّه؟!». . . 

- أستغفر الله, , . 


- المسألة أنْنى جثت الساعة لأزور أنحتي ست أمْ 
فهمي فم هالني إلا أن أعلم بائّها ليست في البيت 
وأننك غاضب عليها! . . . 

وأمسكت المرأة لتسبر أثر كلامها ولتسمع رأي 
السيّد فيه. ولكنّه لاذ بالصمت كانه لا يجد ما يقوله 
ومع أنه شعر بعدم ارتياح إلى فتح هذا الموضوع إلا أن 
ابتسامة الترحيب ظلت معلقة بشفتيه. . 

- هل توجد ستّ أكمل من ست أمّْ فهمي؟! ست 
العقل والحياء» جارة عشرين عامًا وأكثرء لم نسمسع 
خلالها منها إلا ما يسرّ الخاطرء فا عسى يمكن أن تجني 
مما تستحقٌ عليه غضب رجل عادل مثلك؟ ! 

فثابر السيّد على صمته متجاهلا تساؤهاء ثم دارت 
برأسه خخواطر زادت من عدم اوتناكنه :..: سرف 
أجاءت زيارة المرأة للبيت اتَفاقَا أم أنْها استدعيت 
بتدبير مدبر؟! تحديجة؟ عائشة؟ أمينة نفسها؟ إنهم لا 
مُلُون الدفاع عن أمّهم. هل يسبى كيف تَهِرأ كال على 
الصراخ في وجهه مطالبًا بعودة أمّه. الأآمر الذي عرّضه 
في| بعد لعلقة سائصة تطاير بخارها من يافوحه؟ ! 

يا ها من سيّدة طيّبة لا تستأهل عقابًا. . . ويا 
لك من سيّد كريم لا يليق به العنف. ولكنّه الشيطان 
اللعين أشخزاه الله وما أجدر نلك بإفساد كيده. . 

وشعر عند ذاك بأنْ الصمت غدا أثقل من أن 
يحتمل مجاملة للزائرة فتمتم قائلًا باقتضاب متعمّد: 

- ينا يصلح الخال. . . 

فقالت أمْ مريم بحياس متشجعة بما أصابت من 
لجاح في استدراجه إلى الكلام : 

- لشِدٌ ما يعر علءٌ أن تترك جارتنا الطيّبة بيتها بعد 
ذاك العمر الوا مق الجن ولك اشير 

- ستعود المياه إلى مجاريهاء ولكن لكل شيء 
ميعاذ . . 

- أنث أخيء بل أعز من الأخ» ولن أزيد على هذا 
كلمة واحدة. . . ! 

جد جديد من الأمر لم يغب عن وعيه اليقظ فسججله 
كا يسجل المرصد الزلزال البعيد مهما تدق حركته. 
خيّل إليه وهي تقول «أنت أخي» أن فسوفيا رق 


بين القصرين ا“ 


وعذب. فلا قالت «بل أعزر من الأخ» جهر الصورت 
بحنان داق نشر في الجو المحتشم نفحة طيّبة» فتعجّب 
وتساءل؛ ولم يعد يطيق غضٌ بصره على الششكُ فرفعه 
مستأنيًا. . واسترق إلى وجهها النظر - فوجدها ‏ على 
غير ما توقع ‏ تتطلّع إليه بعينيها الدعجاوين» فجاش 
صدره وخفض بصره مستعجلا بين الدهشة والحرج ثم 
قال مواصلاً الحديث كي يغطي على تأثيره: 

- أشكرك على ما أوليتني من أوّة. . 

وعاد يتساءل ثرى أكانت تتطلّم هكذا طوال 
الحديث أم صادف رفع بصره إليها تطلّعها إليه؟ وما 
القول في أنْها لم تغض بصرها عند التقاء العينين؟ 
ولكنّه سرعان ما هرأ بأفكاره قائلا لنفسه إن ولعه 
بالنساء ونصيرته بمعاشرتبنٌ أرهفا حاسّة سوء الظنّ 
عنده. وأنْ الحقيقة بلا ريب أبعد ما تكون عن 
تصوره. أو لعل المرأة من النساء اللاتي يفضن الحنان 
طبعًا وسجيّة فيظه من لا يعرفهنَّ غَرَلَا وما هو 
بِالعَزْلء ولكي يتحقن من صدق رأيه ‏ لأنّه لم تزل 
ثمة حاجة إلى التحقيق ‏ رفع بصره مرّة أخرى فا هاله 
إلا أن يراها رانية إليه» فتشجّع هله المرّة وثْبّت عليها 
عينيه قليلا فلم تزل ترئو إليه باستسلام جسور حي 
غض بصره فى حيرة شاملة. وعند ذاك لاحقه صوتما 
الناعم وهو يقول: 

متاركع بعل ك1 الرسناك []ا كك فا أمدرة 
عتل كك 

نرق الى قيلت هلاه الكلمة قير 1د اله 
المشبع بالحساسيّة المكهرب بالشك والحيرة؛ لمرّت دون 
أن تترك أثرّاء أمّا الآن؟! وعاود النظر في غير قليل من 
الحرج فقرأ في عينيها بعض المعاني التي عابثت ظنونه, 
هل يصدق إحساسه؟ وهل يمكن هذا حال استشفاعها 
لزوجه؟ ولكن كيف يعجب من كان في مثل خخصيرته 
بالنساء؟ سيّدة لعوب ذات بعل مشلول. وسرت في 
وجدانه وثبات مبيجة ملأته حرارة وزهواء ولكن متى 
نشأت هذه العاطفة؟ أهي قديمة وكالت تتحيّن 
الفرص؟ ألم تزر دكانه مرّة فلم يندٌ عنها ما يريب. . 
ولكن الدكّان ليس بالمكان الذي تطمئنّ إليه مثلها في 


8 بين القصرين 
بّ هوى مكنم غير مسبوق بتمهيد كما فعلت زبيدة 
العالمة, أم هي عاطفة بنت ساعتها وجدت مع الفرصة 
السائحة في الغرفة الخالية؟ لو صح هذا فهي «زبيدة) 
أخرى في لباس سيّدة مصونة؛ وليس غريبًا أن يجهل 
أمرها ‏ وهو العليم ببئات الموى - ما دام يحسرص 
الحرص كله على احترام الجيران احترامًا مثاليّاء وأيا 
كان الأمر فكيف يجيبها؟ «أنت آثر عندي مما تظئين؟» 
قول جميل ولكنبا حريّة بأن ترى فيه تحيّة استجابة 
لدعائهاء كلا إِنّه لا يريد هذاء إِنْه يأباه كل الإباء. لا 
لأنه لم يشبع بعد من زبيدة؛ ولكن لأنّه لا يقبل أن 
يحيد عن هبادئه في تقديس الأعراض عامة. وما يمس 
الأصدقاء والجيران منهم خاضة. لهذا لم تسود صفحته 
نقطة واحدة يمكن أن يخزى بها أمام صديق أو جار أو 
أحد من الأطهار على إفراطه في العشق والصبوات» ول 
يزل دأبه أن يخاف الله في لهوه كيا يخافه في -جدّه فلا 
يبيح لنفسه إِلَا ما يراه مباحًا أو في حدود الهفوات. لا 
يعنى هذا أنه أوتي إرادة خارقة تعصمه من الأهواء. 
ولكنّه لهج بالهوى المبذول. وصان طرفه عن الترمات 
حبّى أنه لم يتعمد النظر إلى وجه امرأة من ١حيه‏ طوال 
عمره» على أنه ما يذكر له أنه صدّ مرّة عن هؤى متاح 
رحمة بأحد معارفه» إذ جاءه يومًا رسول يدعوه إلى لقاء 
أخت ذلك الرجل ‏ أرملة نَصّف ‏ في ليلة سّاها فتلقى 
السيّد الدعوة صامئًا وصرف الرسول متلطفًا كعادته ثم 
قاطع الطريق الذي يوجد به البيت أعواما متواصلة. 
ولعل أمّ مريم كانت أوْل تجربة - عرضت لبادثه ‏ 
يكابدها بعينيه؛ ومع أثّا أعجبته إلا أنّه لم يستجب 
لنوازع الهوى. وغلّب صوت الحكمة والوقاره صائنًا 
سمعته التي يتحدّث بها الناس عن موطن المؤاخذة. 
كأنّ هذه السمعة الطيّبة آثر عنده من اقتناص لَذَة 
مواتية» متعزّيًا في نفس الوقت بما يتاح له من حين 
لآخر من غراميّات مأمونة العواقب» وهذه الروح 
الراعية للعهد المخلصة للإخوان لا تزايله حيّى في 
مغاني اللهو والشهوة. فلم يؤخذ عليه أبدًا أنه سطا 
على محظيّة صاحب أو طمح بطرف إلى خليلة صديق» 
مؤثرًا الصداقة على الأهواء, لأنْه كيا اعتاد أن يقول 


«الصديق ود دائم والعشيقة هؤى عابر»» ولهذا قنع 
بانتقاء خليلاته من يجدهنّ بلا خليل» أو ينتظر حقٌ 
تنقطع علاقة فيبض لانتهاز فرصته» وأحيانًا يستاذن 
الخليل القديم قبل أن يتودّد إلى من كانت خليلته 
مواصلا العشق في سرور لا يشوبه الندم ولا تكدّر 
صفوه إحن النفوس. بمعيّى آخر أنه نجح في التوفيق 
بين «الحيوان» المتهالك على اللذدّات وبين «الانسان» 
المتطلّع إلى المبادئ العالية توفيقًا اثتلافيًا يجمعهما في 
وحدة منسجمة لا يطفى أحد طرفيها على الآخر 
ويستقلٌ كل منهه| بحياته الخاصّة في يسر وارتياح» كما 
وفق من قبل في الجمع بين التديّن والغواية في وحدة 
خالية من الإحساس بالذنب والكبت معاء غير أنه لم 
يكن يصدر في وفائه عن إخلاص مجرّد للأخلاق 
ولكن - إلى هذا أو قبل هذا عن رغبته التليدة في أن 
يظلٌ حائرًا للحبٌ متميّعًا بالسمعة العطرة» إلى أن 
غزواته المظفرة في العشق هوّنت عليه الإعراض عن 
الحبٌ الموسوم بالخيانة أو النذالة. وفضلا عن هذا 
وذاك فإنّه لى يعرف الب الحقيقي الذي كان خليمًا بأن 
يدفعه إلى إحدى اثنتين: فإما الإذعان للعاطفة القوية 
دون مبالاة بالمبادئ. وإمًا الوقوع في أزمة عاطفية 
حلقيّة حادّة لم يقدّر عليه الاكتواء بنارها. فلم يكن في 
أَمّ مريم إلا صنف لذيذ من الطعام لن يضيره ‏ إذ 
هدّده تناوله بسوء الهضم ‏ أن يعدل عنه إلى غيره من 
الأصئاف المأمونة الشهيّة التى تحفل بها المائدة. لذلك 
أجابها برقة قائلًا: 

- شفاعتك مقبولة إن شاء الله وستسمعين ما يسك 
عا قريب. . 

فقامت المرأة وهي تقول: 

- ربنا يكرمك يا سبي السيّد. . . 


ومدّت له يدا بضّة فمدٌ لها يده وهو يغض بصره 
فخيل إليه - وهي تسلّم ‏ ما ضغطت قليلًا على يده 
وجعل يتساءل أهذه طريقتها في التسليم أم أنها 
تعمّدت الضغط على يدهء. وحاول أن يتذكر كيفيّة 
تسليمها عند استقبالها ولكن الذاكرة لم تسعفه» وقضى 


أكثر الوقت الذي سبق عودته إلى الدكان وهو يفككر في 
المرأق. حديثهاء ولينبالء وتسليمها. . . 


0 

نيزة حرم المرحوم شوكت تريد مقابلة حضرتك . 

رمى السيد خديجة بنظرة حمراء وصاح بها: 

لماذا؟ 

ولكن أعلنت نيراته الغاضبة ونظراته الثائرة على أنه 
لم يقصد الوقوف عند مدلول «للاذا» وكأنه أراد أن يقول 
لها ول أكد أفرغ من وسيط الأمس حتّى جتتني بوسيط 
جديد اليومء من قال لك إِنْ هذه الحيل تجوز 
علني؟... كيف تجسرين أنت وإخوتك على المكر 
بي ؟24. 

واصفرٌ وجه خديجة وهي تقول بصوت متهدج : 

- لا أدري والله. .. 

فحرّك رأسه حركة كأنها تقول لما «بل تدرين 
وأدري أنا أيضًا ولن يجرّك مكرك إلا إلى أوخم 
العواقب» ثم قال ساخطا: 

- خليها تتفضّلء لن أشرب قهوتي براحة بال بعد 
الآن. أصل حجري محكمة وقضاة وشهود» وهذه هي 
الراحة التي أجدها في بيتي. لعنة الله عليكم 
أجمعين!. . . 

اختفت خديجة قبل أن يتم كلامه ى) يختفي الفار 
إذا قرعت سمعه قرقعة. وظل السيّد لحظات متجهما 
حانقا» حي خطرت على ذهنه خديجة وهي تنسحب 
خحائفة فعثرت قدمها بقبقابه وكاد رأسها يصطدم 
بالباب» فارتسمت على شفتيه ابتسامة إشفاق مسحت 
غضبته المتعسّفة وقطرت على صدره عطفاء يا لهم من 
أطفال يأبون أن ينسوا أمّهم ولو دقيقة واحدة: واتْجه 
بصره إلى الباب وهو يتهيا لاستقبال الزائرة بوجه 
انبسطت أساريره كأنه لم يصب غضبه منذ ثوان على 
فكرة زيارتهاء ولكن لم يجد له حيلة فيها يركبه من 
غضب ‏ وهو في بيته ‏ لأتفه الأسباب أو بلا سبب على 
الاطلاق. وفضلًا عن هذا كله كان للقادمة منزلة 
خاصّة لا يرتقي إليها أحد من النساء اللاي يتردّدن 


بين القصرين 98 


على البيت من حين لآخرء حرم المرحوم شوكت» 
والمرحوم شوكت من قبل» أسرة ارتبطت مع أسرته 
بآصرة الود الخالص من عهد الجحدود. كان للراحل 
منزلة الأب من نفسهء ولم تزل أرملته عنده ‏ وعند 
أسرته بالتبعيّة ‏ بمنزلة الأمّ» هي الى خطبت له أمينة 
بنفسهاء وتلقّت أبناءه بيديها وهم يستقبلون نور 
الدنياء وإلى هذا كله فآل شوكت أناس صداتتهم 
شرف؛ لا لأصلهم التركيئّ فحسبء ولكن لرتبتهم 
الاجتتاعية وعقاراتهم الكثيرة ما بين الحمزاوي وبين 
الصورين» وإذا كان السيّد من أوساط الطبقة الوسطى 
فهم من أهل القمّة فيها بلا جدال» ولعل الأمومة التي 
تشعر بها المرأة له ويشعر بها لها هي التي جعلته يقف 
من شفاعتها المنتظرة موقف التهيب والحرج. فليست 
هي بالتي تلتزم الاحترام في مخاطبته. ولا بالتي تتعب في 
استعطافه. فضلا عرّا عرفت به من صراحة جارحة لما 
ميرّراتها من شيخوختها ومكانتها معاء أجل ليسث 
في 
وأمسك عن أفكاره لدى سماعه وقم خطواتهاء ثم 
مض وهو يقول بترحيب : 

اهلا وسهلاء زارنا النبئ. . . 

اقتربت منه سيّدة طاعنة في السنّ. تدبٌ على مظلة 
وهي ترفع إليه وجها ناصع البياض كثير التجاعيد لم 
يكد يحجب منه شيئًا برقعها الأبيض الشفاف». وتلقّت 
تحيّته بابتسامة جلت عن أسناءها الذهبيّة» وسلّمت. 
ثم اتخذت نجلسها إلى جانبه بلا كلفة وهي تقول: 

عاق تع :4 عق انكددا: رين البرجاك ادم 
وحبّى هذا البيت تحدث فيه هذه الأمور التي لاا يطيب 
التحدّث عهها!ا.. . شِحت وربٌ الحسين وبادرك 
لبون 
واسترسلت في الكلام مطلقة العنان للساهما يقول 
ويعيد غير تاركة للسيّد من فرصة لمقاطعتها أو التعقيب 
عليهاء حدّثته كيف جاءت للزيارة» وكيف اكتشفت 
غياب زوجه «ظننت بادئ الأمر أنها حرجت في زيارة 
فدققت صدري بيدي دهشة وقلت ماذا حدث 
للدنيا؟!. . . وكيف سمح لها السيّد بالخروج مستهيئا 


44١‏ بين القصرين 
بالشرائع الإهيّة والقوانين البشريّة والفرمانات 
العئانية! . . .» بيد أءْها سرعان ما عرفت الحقيقة كلها 
«فثبت إلى رشدى وقلت الحمد لله الدنيا بخيرء هذا 
حمًا هو السيّدء وهذا أقلّ ما يننظر منه» ثم غيّرت 
لهجتها الساخرة وراحت تؤنبه على قسوته. ولم تقتصد 
في الرئاء لزوجه التي تعدّها آخر امرأة تستحقى عقاباء 
وجعلت كلا هم بمقاطعتها تصيح به دهس. ولا 
كلمة. . . دع حديئك الحلو الذي نحسن تنميقه فلن 
أخدع بهء إني أريد عملا صالحًا لا مزوّقاه وصارحته 
بأله يغالي في المحافظة على أسرته مغالاة حرقت 
المألوف. وأنه يجمل به أن يأخذ نفسه بشيء من الموادة 
والرفق» استمع السيّد إليها طويلا» ولا سمحت له 
بالكلام ‏ بعد أن أعياها الكلام» شرح لما وجهة نظره 
المعروفة ولم يمنعه دفاعها الحار» ولا مكالتها عنده من 
أن يؤكّد لها بن سياسته مع أسرته عقيدة لا يتحول 
عنها وإن وعدها في الماية ‏ كما وعد أمْ مريم من قبل - 
خيراء وظنّ أن آن للجلسة أن تنفضٌ ولكنه ما يدري 
إلا وهي تقول: 

- غياب أمينة هالم مفاجأة غير سارّة لي لأني كنت 
أريدها لأمر هام جدّاء ولأن الخروج لم يعد بالمهمة 
اليسيرة على صحّتي» ولا أدري الآن إن كان يحسن بي 
أن أتكلّم فيا أردت الكلام فيه أم أنتظر عودتبا؟ ! 

فقال السيّد مبتسما؛ 

- كنا تحت أمرك, . . 

- وددت لو كانت هي أول من يسمعني وإن كنث لم 
تترك لها من الأمر شِيئًاء ولكن لكن فاتبى هذا فعزائى 
لها فرصة سعيدة للحودة. . ْ ش 

فاحثار السيد في فهم حديثها وحدج إليها متسائلا : 

ما وراء هل!؟ 

فقالت وهي تلكث السجّجادة بسنّ مظلتها: 

لا أطيل عليك. لقد وقع احتياري على عائشة 
لتكون زوجًا لخليل أببي . . . 

ودهش السيد دهش من أخذ على غرة من حيث لم 
يتوقع فركبه الارتباك» بل الانزعاج. لبواعث غير 
خافية» أدرك من أوّل وهلة أن تصميمه القديم على ألا 


يزوج الصغرى حيّى تتزؤج الكبرى سيرتطم هذه الرّة 
برغبة عزيزة لا يسعه إهماها. . . رغبة عالنته مها من لا 
تجهل تصميمه ذاك مما دل على أنّبا ترفضه سلما وتأبى 
أن ثنزل عند -حكمه. . . 

ما لك صامتا كأنك لم تسمعني؟! 

وابتسم السيّد ارتباكًا وحياءء ثم قال على سبيل 
الملاحظة والمجاملة ريثا يقأب الأمر على وجوهه: 

- هذا شرف عظيم لنا. . . 

فرمته السيّدة بنظرة كأثما تقول له وابحث لك عن 
طريقة أخرى غير معسول الكلام» وقالت بلهجة 
هجومية : 
لا حاجة بي إلى الضحك عل بأجوف الكلام. 
لن أرضى بغير الموافقة التامّة» لقد ندبني خليل لاختيار 
زوجة له فقلت له عندي عروس هي خيير ما يمكن أن 
تظفر به فسرٌ لاحتياري ول يعدل بمصاهرتك شيئًا. . . 
فهل جاء زمن تقابل فيه مثل هذه الرغبة. مثي أناء 
بالصمت والتهرّب؟! الله. . . الله. . 

إلامّ يقع في هذه المشكلة المعقدة التي لا يمكن أن 
يخرج منبا دون أن يصيب إحدى ابنتيه بصدمة 
فاسية؟!... ونظر إليها كما يستجدي عطفها على 
موقفه. وغمغم : 

- ليس الأمر كا تتصورين» رغبتك فوق العين 
والراسى» ولك 

ذا ادق لك الى لا خقل اإتلقه قووف الا رورسم 
الصغرى حيّى تتزوج الكبرى؛ من أنت حتّ تقرّر هذا 
أو ذاك؟... دع ها لله لله وهو أرحم الراحمين. إن 
شئت ضربت لك عشرات الأمثال عن أخوات صغار 
تروجن قبل الكبار فلم محل زواجهنَ دون زواج 
أخواجبنٌ بأحسن الأزواج. وخديجة شابة ممتازة ولن 
تعدم زوجًا صالحًا عندما يشاء الله... إلامّ تقف 
حائلا بين عائشة وبين حظها؟..,. أليست هي 
الأخرى جديرة بعطفك ورحمتك؟! 

قال لنفسه: إذا كانت خدئجة شابة ممتازة فلاذا لا 
تختارينها؟!. . . وهم بإحراجها كا أحرجته ولكنه 
خاف أن ترميه بإجابة تتضمّن إساءة ‏ ولو بحسن نيّة - 


لخديجة وبالتالي له هو. وقال بصوت ملؤه المد 
والاهتيام : 

- ليس إلا أنّني أشفق على خديجة . 

فقالت بحدّة كأنا هي المطالبة لا هو: 

- كل يوم تقع أمور كهذه دون أن تربك أحدّاء إِنْ 
الله يكره من عبده العناد والمكابرة» اقبل رجائي وتوكل 
على الله لا ترفض يدي فإني ما مددتما إلى أحد 

فدارى السيّد انفعاله بابتسامة وقال: 

هذا شرف عظيم كبا قلت لك منذ لحظة. .. 
فقط أمهليني قليلاً ريثا أراجع نفسي وأرتب أموري» 
وستجدين رأبي عند حسن ظنك إن شاء الله. . . 

فقالت بلهجة من يجهز على الحديث: 

لا يجوز أن آخل من وقتك أكثر مما أحذت» م 
نه كلما طال الأخذ والردٌ خيّل إل أنك لا تتقبّل رغبتي 
بقبول حسن» ومثلي من تطمع إذا قالت لك أريد أن 
تبادرها بنعم دون لت وعجن, فلن أزيد عرّا قلت إلا 
كلمة واحدة: خليل ابنيى وابدك وعائشة بنتك 
وبلتي. .. 
وقامت فقام السيّد ليوْعهاء لم يكن يتوقع إلا كلمة 
توديع وتحيّة ولكتّها أبت إلا أن تذكره بوصاياها جملة. 
كأنما خافت أن يفوته شيء منبا فأعادتها تفصيلا. وما 
يدري - أو تدري ‏ إلا وهي ترجم لتأييد بعض آرائها 
وتوكيد البعض الآخحرء ثم غلبها تداعي الأفكار 
فاسترسلت فيه بلا ممائعة حيّى أعادت على مسمعه جل 
ما قالت عن الخطبة: وإلى هذا كله لم تشأ أن تغبي 
ذاك الحديث دون أن تودّع حديث الأم المبعدة بكلمة 
أو كلمتين أو ثلاث وإذا بتداعي الآفكار يغلبها مرة 
أخرى فتسترسل فيه حبّى كاد الرجل يفقد أعصابه. ثم 
أوشك أن يضحك في الماية وهي تقول له: لا يجوز 
أن آخذ منك أكث مما أخحذت» وأوصلها إلى الباب 
مشفقًا في كلّ خطوة من أن تتوقف عن المسير وتشتبك 
في الكلام كرّة أخرىء ثم عاد أخيا إلى مجلسه وهو 
يتنفس من الأعباق. عاد مغتما مكتئبّاء قلب رقيق» 
أرق مما يظنّ الكثيرون: بل أرق ما ينبغي» فكيف 


بين القصرين 44١‏ 
يصدّق هذا من لا يرونه إلا مكشّرًا أو صاخبًا أو 
ضاحكا ساعرًا!. . . إن مسّة حرن تلذع فلذة من 
كبده خليقة بأن تنص العيش كله وتطيّن وجه الحياة 
في عينيه. ولكم يسعده أن يجود بكل غال, في سبيل 
إسعاد فتاتيه سواء هذه التي يرى في وجهها الجميل 
وجه أمّه أو تلك التي لم تُصِب من الحسن إلا لونا 
شاحبّاء كلتاهما من نبض قلبه وعصارة روحه. بيد أن 
الرؤج الذي تقدّمه حرم المرحوم شوكت لقيّة بكل ما 
في هذه الكلمة من معئٌ, في في الخامسة والعشرين» 
ذو دخل شهري لا يقلّ عن الثلاثين جنيهاء حمًا إن 
ككثير من الأعيان لا عمل له؛ وحقًا إِنَّ حطّه من 
التعليم ضثيل لا يتعدّى معرفة القراءة والكتابة» ولكنّه 
ينّصف بجملة من خلال أبيه الطيّبة وكرم الأخلاق. 
ما عبى أن يفعل؟... يجب أن يجسم أمره لأنه لم 
يألف التردد ولا الشورى ولا يقبل أن يبدو أمام أهله ‏ 
ولو لحظة قصيرة ‏ كمن لا رأي قاطعًا له ألا يشاور 
خاضّته المقرّبين؟ إِنّْه لا يرى غضاضة في مشاورتهم 
كلما جدّ أمرء والواقع أنْ سمرهم يبدأ عادة بمناقشة 
الهموم والمشاكل قبل أن تطير مهم الخمر إلى الدنيا التي 
لا تعترف بالهموم والمشاكل. ولكنّه قدر ما يستبدٌ في 
باطنه برأيه فلا يحيد عنه» فهو من الذين يلتمسون في 
الشورى ما يؤيّد رأيهم لا ما يعدل بهم عنه. ولكتبا 
حبّى في هذه الحال عزاء ومتنفس. ولمًا ضاق الرجل 
بأفكاره هتف قائلا : 

من يصدّق أن ما بي من هم لا يحتمل ما هو إلا 
نتيجة لخير أكرمني به الله؟! . . . 


ذا 

لم يكن لأمينة من عمل في أيام منفاها إلا الجلوس 
إلى جانب أمّها والاسترسال في الحديث؛ في كل ما 
يخطر على البال من أحاديث تجاذبها الماضي البعيد 
والماضى القريب والحاضرء ما بين الذكريات العزيزة 
والمأساة الراهئة ولولا عذاب الفراق وشبح الطلاق 
لاطمأنّت إلى حياتها الجديدة كعطلة للاستجام من 
عناء الواجباث أو كرحلة خيالية في عام الذكريات. 


4 بن القصرين 


بَيْد أن مرور الأيّام دون وقوع الشيء الذي تخاف وما 
بلغها من شفاعة أم مريم وحرم المرحوم شوكت لدى 
السيّدء كل أولئك ثبت قلبها ودوح عن نفسهاء إلا 
أن زيارات الأبناء المسائيّة التى لم تنقطع يومًا واحذا 
طلّت جوى صدرها بنفحات أمل متجدّدة. ومع أن 
الزمن الذي يتغيّبونه عنها فيب البيت الجديد ل يزد كثيرا 
عن نظيره في البيت القديم ‏ في كلتا الحالتين لم تكن 
تجتمع بهم إِلّا حين فراغهم في جلسة المساء - إلا أئها 
باتت تشتاق إليهم اشتياق المغترب في يلد بعيد إلى 
أحباب فرق الدهر بيئه وبينهم: اشتياق من حرم عليه 
تنس جوّهم والعيش بين ذكرياتهم» والإشراف على 
مواطن جدّهم ولموهم, كأن الجسم كلما قطع ني طريق 
الفراق قبراطًا كابده القلب أميالاء ودأبت العجوز على 
أن تقول للا كلما وجدت منها صمتًا أو آنست في 
حديئها الشرود: 

- الصير يا أمينة؛ إن أرثي لحالك. الأمْ غريبة ما 
ابتعدت عن أبنائهاء غريبة ولو حلت في البيت الذي 
ولدث فيه , 

أجل إِنْها غريبة» كأنه ليس البيت الذي لم تعرف 
حياتها الأولى سواه موطئاء وكأئها ليست الأمْ التي لم 
تكن تطيق البعد عنها لحظة واحدة؛ لم يعد «بيتها» ما 
هو إِلَا منفّى تنتظر بين جدرانه على لهف العفو من 
الساف قاد القفق يقن طول اللاو مغره: الفا 
ذات مساءء دخلوا عليها وفي أعينهم لمعة كسنا البرق 
خفق لما فؤادها خفقة اهترّ لها الصدر كله حبّى أشفقت 
من أن تكون ذهبت في تأويلها إلى أبعد ما تحتمل» 
ولكنّ كبال جرى نحوها وتعلق بعنقها ثم هتف بها 
وهو لا يتمالك نفسه من الفرح: 

- البسبى ملاءتك وهيًا بنا. . . 

وقهقه ياسين قائلا : 

جاء الفرج (ثمّ هو وفهمي معّا) دعانا أبي وقال لنا 
اذهيا فعودا بأمكيا. . . 

وغضّت بصرها لتداري فرحتها الغامرة. ما 
أعجزها عن كتمان ما يضطرب في نفسها من شق 
العواطف.» كأنّ وجهها مرآة شديدة الحساسيّة لا تترك 


كبيرة ولا صغيرة ما في أعماقها إلا سجّلته. لَشِدٌ ما 
ودّت أن تتلقّى النبأ السعيد بهدوء خليق بأمومتهاء 
ولكنّ الفرح استخفها فضحكت أساريرها ونطقت 
بابتهاج صبيانَ» وفي نفس الوقت تولاها حياء لم تَذْرٍ 
له سيباء» وطال حمودها في مكابما فلتقد صير كيال 
فشْدّها من يدها راميًا بثقله إلى الوراء حتى طاوعته 
ناهضة» ووقفت قليلا في ارتباك غريب وما تدري إلا 
وهي تلتفت إلى أمها متسائلة : 

- أذهب يا أمّي؟ 

بدا السؤال الذي نك عنها- في نغمة الارتباك 
والحياء - غريباء فابتسم فهمي وياسين» ودهش كال 
وحده فيا يشبه الانزعاج وراح يؤكد لا نبا العفو الذي 
عادو ادقع مما 111 شاك ششورتف «تشدوره كله 
وحدست باطنها فرق قلبها وتحاشت أن تظهر الإنكار 
لسؤاها ولو بابتسامة حفيفة» وقالت بلهجة جذية : 

- إلى بيتك مصحوبة بسلامة الله. . . 

فذهبت أمينة لترتدي ملاءتها وتصرٌ ثيامها وكال في 
أعقاباء وهنا خاطبت الحذة الشائين متسائلة بلهجة 
خمفتها بابتسامة رقيقة : 

أما كان الأضلق بأبيكما أن يأتي بنفسه. . .؟! 

فأجاءها فهمي كالمعتذر قائلا: 

أنت أدرى يا جدي بطيع أبينا. . . 

على حين قال ياسين ضاحكا : 

فلتحمد الله على ما كان. . . ! 

فهمهمت الجحدّة بأصوات غير مفهومة ثم تغبدت 
قائلة كأنئما تردٌ على همهمتها: 

على أيّ حال السيّد أحمد رجل ولا كل الرجال. 

وغادروا البيت ودعاء الحدة هم بالبركة يترذد في 
آذاعهم. وقطعوا الطريق لأوْل مرّة في حياتهم حتى بدا 
المنظر في أعيههم بالعًا في غرابته فتبادل فهمي وياسين 
نظرات باسمة. وتذكر كمال يوم سار كما يسير الآن - 
ممسكًا بيد أمّه يقودها من عطفة إلى عطفة, ثم ها تلا 
ذلك من آلام وغحاوف لا يحيط بها الكابوس نفسه 
فتعجّب طويلاء بَيْد أنه تنابى سريعًا أحزان الماضي في 
فرحة الساعة. ووجد من نفسه ميلا للدعابة فقال لأمّه 


ل 


ضاحكا: 

تعالي نخطف أرجلئا إلى سيّدنا الحسين. . . ! 

فضحك ياسين بلهجة ذات معبنى : 

رضى الله عنه, إنّْه شهيد يحب الشهداء. . 

زلاليت هم المشربية وشبحان يتحركان وراء 
خحصاصها فهفا قلب الأم إليهها في حنو واشتياق» ثم 
وجدت وراء الباب أم حنفي في استقبالها فغمرت يدي 
سيّدتها بالقُبّل» والتقت في فناء الدار بخديجة وعائشة 
اللتين تعلّقتا مها كالأطفال. ورقوا السلّم في مظاهرة 
صاحبة؛ ونشوة من الفرح مطربة حيّى استقروا جميعا 
في حجرتها فتبادروا إلى نزع ملابسها ‏ رمز الفراق 
البغيض - وهم يضحجون بالضحك» فلم جلست بينهم 
كانت تلهث من الانفعال والتأثر. وأراد كبال أن يعبر 
عن فرحه بها فلم يجد خيرًا من أن يقول لما: 

هلا اليوم أغر عندي من المحمل نفسه! 

واجتمع شمل الأسرة لأؤل مرة منذ زمن غير يسير 
في مجلس القهرة؛ فعادوا إلى السمر في جوٌ من المسرّة 
ضاعف من مبجته ما سبقه من أيام فراق وكابة تزداد 
لذة اليوم الدفيء يجيء في أعقاب أسبوع من الزمهرير, 
ولم تَنْس الأمٌ - التي استيقظت غرائزها رغم ضرحة 
اللقيا - أن تسأل الفتاتين عن شئون البيت متدرّجة من 
حجرة الفرن حيّى اللبلاب والياسمين» كيا سألت كثيرًا 
عن الأب. وكم سرّها أن تعلم أنه لى يسمح لأحد 
بمعاونته عند خلع ملابسه أو عند ارتدائهاء فمهما يكن 
من أمر الراحة التي تبيات له في غيابها فثمّة تغيير قد 
طرأ على نظام حياته حمله بلا ريب عشاء سيزول 
بعودتهاء عودتها التى تكفل له وحدها ‏ الحياة التي 
يألفها ويرتاح إليها. . . ! الشىء الوحيد الذي لم يخطر 
لأمينة على بال أن تكون بعض القلوب السعيدة بعودتها 
قد وجدت في هله العودة بالذات مبرّرًا لاجترار الحزن 
والأسبى! ولكن هكذا كان, فهذه القلوب التي شغلت 
بحزن الأمٌ عن أحزاءها عادت إلى التفكير في أشجاها 
بعد أن اطمأنّت على سلامة الأمٌ؛ كالمغص الشديد 
الطارئ نسبى به رمدًا مزمئًا حبّى إذا ذهب عادثنا آلام 
الجفون. عاد فهمي يقول لنفسه «لكل حزن - فيما 


بين القصرين 547 
يبدو نهايةء هذه أمُي قد رفع عنها الهم ولكن ححزني 
يبدو كأآن لا خباية لهو ورجعت عائشة إلى أفكارها 
الى لا يطلع على سرّها أحد. تتراءى لما الأحلام وتلم 
مبا الذكريات وإن عدّت بالقياس إلى أخيها أهدأ حالا 
وأسرع إلى النسيان خطوة» ولكنٌّ أمينة لم تكن تقرأ 
الأفكار فلم ينغص عليها صفوها منغص, ولمًا آوت 
إلى حجرتها ليلا تبيّن ا أن النوم لا يجد متّسعًا في 
نفسها التى أفعمها الفشرح فلم تذقه إلا لاما حي 
انتصف الليل فغادرت الفراش إلى المشربيّة تنشظر 
كعهدها مسرّحة البصر من خصاص النوافد إلى 
الطريق الساهر حيّى جاءت العربة تتهادى حاملة بعلها 
إلى بيتهء خفق قلبها بشدّة. وتورّد وجهها حياء 
وارتباكاء كأئْها ستلقاه لأوّل مرّة. وكائها لم تفكر طويلا 
في هذه اللحظة. .. لحظة اللقاء المنتظرء كيف تقابله؟ 
كيف يعاملها بعد هذه الغيبة الطويلة؟... ما عسى 
أن تقول له أو يقول ها؟ لو يسعها أن تتصئم النوم! 
ولكتّها لا تجيد التمثيل قط ولا تطيق أن يدخخل عليها 
وهي مستلقية؛ بل لا يسعها أن همل واجب الخروج 
إلى السلّم بالمصباح لتضيء له وأكثر من هذا كله أنْها 
بعد طفرها بالعودة وزوال السخط عنها شاعت أريحية 
الرضا في قلبها فعفت عا سلف بل وحملت نفسها 
الذنب كله حّى رأت بعلها بالرغم من أنه لم يَعْنّ 
بالذهاب إلى بيت أمّها لمصالحتها ‏ حقيقًا بالاسترضاء. 
فتناولت المصباح ومضت إلى السلّم ومدّت ذراعها من 
فوق الدرابزين ووقفت تتابع وقع القدمين المقتربتين 
بفؤاد خافق حبّى صعد إليهاء لقيته برأس مطأطأ فلم 
تَرْ وجهه عند اللقاء. ولم تذْرٍ أي تغيّر طرأ عليه حين 
مرآهاء حيّى سمعته يقول بلهجة طبيعيّة لا أثر فيها من 
الماضى القريب الأسيف: 

ماشه الكان.» 

فغمغمت: 

- مساء الخير يا سيّدى . . . 

وذهب إلى الحجرة وهي في أثره رافعة يدها 
المصباح. وبدآ محلم ملابسه صامتًا فتقدّمت منه 
معاونته وباشرت عملها وقلبها يرذد أنفاس الراحة. 


4 بين القصرين 
ومع أثها ذكرت صباح القطيعة المشئوم حين بض 
لارتداء ملابسه وقال لما بجفاء «سارتدي ملابسي 
بنفسي؛ إِلَا أن ذكراه خطرت عارية عن أحاسيس الألم 
واليأس التى غشيتها وقتذاك» وشعرت وهي تتعهده 
ببذه الخدمة التي لم يسمح بها لسواها بأئها تسترد أعز 
ما تملك في الوجود. واتّخذ محلسه على الكنبة فتربئعت 
على الشلتة عند قدميه دون أن ينبس أحدهما بكلمة, 
وكانت تتوقع أن يشيّم «المافي الأسيف»., بكلمة. 
نصيحة أو تحذير أو ما شابه ذلك. وعملت لذلك ألف 
حساب ولكنّه سأها ببساطة : 

- كيف حال أمْك؟ 

فأجابته وهي تتمّد بارتياح : 

- بخير يا سيّدي وعبديك التحية والدعاء . 

ومضت فترة صمت أخرى قبل أن يقول فيها يشبه 
عدم الاكتراث : 

- حرم المرحوم شوكت فاتحتني برغبتها في اختيار 
عائشة زوجًا لخليل. 

فرفعت إليه أمينة عيئيها في دهشة ناطقة بأثر 
المفاجأة, ولكنّه هر كتفيه استهانة, وكأنتما خاف أن 
تدلي برأي يتّفق أن يكون موافقًا لقراره الذي ل يعلم 
به أحد فتقوم عندها شبهة ظَنٌّ بأنه أخذ برأيها فسبق 
قائلا : 

- فكرت في الأمر طويلا فانتهى بي التفكير إلى 
الموافقة. لا أريد أن أعترض حظ البنت أكثر مما 
فعلت. ولله الأمر من قبل ومن بعد. 


1 

تلقّت عائشة البشرى بفرح جدير بفتاة تستشرف 

حلم الزواج منذ الصبا الباكر لا يشغلها عنه شاغل. 
وكادت لا تصدّق أذنيها حين زف إليها الخرء هل حمًا 
وافق أبوها؟ هل بات الزواج حقيقة قريبة لا حلا ذا 
دعابات قاسية؟... لم يكن قد فات على الخيبة التي 
منيت بها إلا قرابة أشهر ثلاثة» ومع أنَّ وقعها في 
نفسها كان شديدًا قاسيًا إلا أنه مغفى يخفٌ ويبون حي 
أفسسة» ذكرى شاحبة تستثير- إذا استذشرت ‏ حرا رقيقًا 


غير ذي خطورة. كل شيء في هذا البيت يخضع 
عقون اس الإرادة علا ذات يار لأيحة شاه 
بالسيطرة الديئيّة أشبهء حبيّى الحبٌ نفسه- بين 
جدرانه ‏ يسترق خطاه إلى القلوب في حياء وترذد 
وعدم ثقة بالنفس». فلا يتمتع بما يتمتع به عادة من 
سطوة واستبداد. إذ لا استبداد هنا إلا لتلك الإرادة 
العليا» ولذلك فعندما قال الأب «لا» استقرٌ قوله في 
أعماق نفسها وآمنت الفتاة يمنا راسحًا أن كلّ شيء قد 
التهى حقّاء لا مهرب ولا مراجعة ولا رجاء بنافع, 
كأنّ «لا» هذه حركة كونيّة كاحتلاف الليل والنهار. 
غير محل أيّ اعتراض عليهاء ولا محيد عن اتخاذ موقف 
موافق لما. وعمل هذا الإيمان من ناحيته ‏ بشعور 
وبغير شعور منها ‏ على إنهاء كل شيء فانتهى , على أنّها 
تساءلت فيا بينها وبين نغسها: إذا كانت الموافقة على 
زواجها قد تمت ولمًا ينقض على الرفض السابق ثلاثة 
أشهر فلم تكن من نصيب الشابٌ الذي هفا فؤادها 
إليه؟. . . ألا ينطوي حظها السعيد نفسه- تبعًا 
لذلك ‏ على معاكسة غير مفهومة؟ بيد أنّه تساؤل ظل 
في طيّ الكتانء لم يطلع عليه أحد ولا أمّها نفسهاء 
لأن إعلان الفرح بالعريس ‏ كشخصيّة معنويّة 
فحسب - عد استهتارًا يجاني الحياءء فا بالك بإظهار 
الرغبة في رجل بالذات! ولكن بالرغم من هذا كله 
وبالرغم من أن العريس الجديد كان مجهولا لديها إلا 
فيا حدّثت عنه أمّه في جملة حديثها عن أسرتها فقد 
سعدت بالبشرى أيما سعادة, ووجدت عواطفها 
الظامئة قطبًا تنجذب إليه في هيرانهاء كأن حبّها نوع 
من «القابليّة» أكث منه تعلَقًا برجل بالذات» فإذا 
استبعد رجل وحلٌ محله آخر ظفرت قابليّتها نما 
يشبعهاء ومضى كل شيء في سبيله؛ وقد يكون رجل 
ا 0 
معه طعم اللحياة أو يدفع إلى التمرّد والعصيان؛ وللما 
طابت نفسًا ورف قلبها رفيف الغبطة انبعث منها نحو 
أختها ‏ كشاها في مثل هذه الحال ‏ عطف ورحمة غير 
مشوبين» فودّت لو أنّْبا سبقتها إلى الزواج» وقالت لما 


بين الاعتذار والت' لتشجيم : 


- وددت لو تقدّمتني إلى بيت الزوجية! . . . ولكتها 
القسمة والتصيية: توركل اق قرس 

ولكنّ خديجة . التي تضيق عند الهزيمة بعزاء 
العطف ‏ تلقّت قوها بامتعاض شديد لم تَخْفَ عليها. 
وقبل ذلك اعتذرت لا أمّها قائلة برقتها وحيائها 
المعهودين : 

تمتينا حميعا أن يكون دورك السابق ‏ وعملنا على 
هذا أكثر من مرّة. ولكن لعل عنادنا فيها ليس لنا فيه 
من حيلة هو الذي عاق حظك إلى اليوم» فلسدع 
الأقوو قشين كنا يقناة الله .وك تاخميرة فيها خيرة: 

ووجدت من ياسين وفهمي نفس العطف يبديانه 
تارة بالكلام المباشرء ويصدران عنه تارة أخحرى فيما 
يحيطاءها به من تجاملة حلت ولو إلى حين ‏ محل المزاح 
القارص الذي كان مألوفًا بينها وبينها أو بينها وبين 
ياسين خاضة,؛ الحقّ أنه لى يعدل حزنها على سوء ححظها 
إلا نرفزتها من العطف الشائع في جوّها لا لنفور من 
العطف مركب في طبعهاء ولكن لأنْ مثلها مثل 
المصاب بالأنفلونزا يضار بالتعزض للهواء الطلق الذي 
يلعشه عادة وهو صحيح, نا كانت تأبه لعطف تعلم 
أنّه بديل غير تُجْدِ لأمل ضائع. ولعلّها ارتابت - إلى 
هذا كلّه ‏ في البواعث التي تدفعهم إلى إغداق العطف 
عليهاء ألم تكن أمّها الواسطة دائمًا بين الخاطبات وبين 
أبيها؟ فمن يدريها أنْها كانت تقوم بالوساطة أداء 
لواجب ريّة البيت لا سعيًا وراء رغبة حفية في تزويج 
عائشة؟! أوٌليس فهمي هو الذي حمل رسالة ضابط 
قسم الحاليّة؟ . . . ألم يكن بوسعه أن يعدل به عن 
رأيه من وراء وراء؟! 

أوليس ياسين. .. ولكن بأيّ وجه تلوم ياسين وقد 
خانها من هو أقرب منه إليها؟ . . . فأيَّ عطف هذا؟! 
بل أي رياء وأيّ كذب! لذلك برمت بالعطف, 
وذكرت به الإساءة لا الإحسان» فامتلات حبقا 
وامتعاضًا ولكتها طوتهما في الأعاق أن تظهر بمظهر 
الكاره لسعادة أخحتها أو تعرّض نفسها ‏ هكذا صور لا 
سوء ظبّها - لشياتة الشامتين» على أنّه لم يكن لما محيد 
عن كتبان عواطفها لأنْ الكتمان في هذه الأسرة ‏ نخاصة 


بين القصرين 518 
فيها يتعلّق بالعواطف ‏ عادة متأصّلة وضرورة أخلاقيّة 
طبعت عليه في ظل الإرهاب الأبوي» وبين الحنق 
والامتعاض من ناحية والكتتان والتظاهر بالرضى من 
ناحية أخرى لاقت من حياتها عذابًا منصلا وجهدًا 
مطردًا. وأبوها؟! ماذا عدل به عن رأيه القديم؟! 
أهانت عليه بعد إعزاز؟! هل نفد صيره في انتظار 
زواجها فقرّر التضحية بها وتركها للأقدار؟! لسِد ما 
تعجب لتخلّيهم عنما كأئها شيء لا يكون. نسيت في 
ثورتها مواقفهم السابقة في الدفاع عنها فلم تذكر إلا 
دخيانتهم: الأخيرة» على أنْ غضبتها العامة هذه لم تكن 
شيا بالقياس إلى ما تجمّع في صدرها نحو عائشة من 
مشاعر الغيرة والحنق! كرهت سعادتهاء وكرهت أكثر 
مداراتها لهذه السعادةء وكرهت جالما الذي بدا في 
عينيها أداة تدكيل وتعذيب كا يبدو البدر الساطع في 
عين المطاردء ثم كرهت الحياة التي لم تعد تدّخر لها إلا 
اليأس» وتتابعت الأيّام لتزيدها حزنًا على حزن بما 
حملت إلى البيت من هدايا العريس ونفحاته ويما نشرت 
في الج كله من بواعث الغبطة والفرح فوجدت نفسها 
في غربة موحشة تتوالد فيها الأشجان كما تتوالد 
الحثرات في البركة الآسنة. ثم شرع السيّد في نجهيز 
العروس فاستائر حديث الجهاز بجلسات الأسرة 
المسائيّة. تعرض عليها أنواع من الآثاث والثيياب 
فتطري شيئًا وتعرض عن شيء» توازن بين لون 
ولون؛ في اهتام نسوا فيه الشقيقة الكبرى وما بيب لها 
من عزاء وبجاملة. وحتّى هي نفسها اضصطرت ‏ مجاراة 
لما تتظاهر به من رضى - إلى المشاركة في نشاطهم 
وحماسهم ومناقشاتهم التي لا تنتهي. بيد أَنْ هذا 
الموقف العاطفيّ المعقّدع الذي يبدو لعين الغريب عن 
الأسرة كنذير شك لا محمد عواقبه. تغيّر فجأة حين انه 
التفكير إلى تفصيل ثياب العروس وبالتّالي حين تعلقت 
الأبصار بخديجة وتركز فيها الاهتهام كله والأمل كله . 
وقد توقعت هذا الواجب كأمر لا مفرٌ منه. محنقها قبوله 
شد الحنق ولا يسعها رفضه وإلا فضحت خبيئتها. 
ولكنّبا حين تطلّعت إليها الأبصار فأوصتها أمّها بأختها 
خبرًا ورنت إليها شقيقتها بعين ملؤها الحياء والرجاء 


بين القصرين 

ل ئشة على مسمع منما: «لن تكوني 
عروسًا 0 حبّى تميك لك خحديجة ثياب 00 
وكال اجن سمانااضل 'قرانه: 
الحقيقة فوق اللحدل؛. حين حدث هذا كله فر حنقها 
وعَقّل ثورتها الحياء فطفت عواطفها الطيبة المطمورة. 
كا يستخرج الماء العذب الأخضر من البذور الكامنة 
تحت الطين. ول تَرْبَبْ في بواعث هذا الاهتمام كا 
ارتابت من قبل في بواعث العطف «الزائف» لشعورها 
بصدقه من ناحية ولأنّه اله إلى براعتها التي لا شك 
فيها من ناحية أخرى. فكأنه اعتراف جامع بأهميّتها 
وخطورة شأنهاء وبأنْ هذه السعادة ‏ التي أبت أن 
تكون من نصيبها - لن تستكمل عناصرها حّى تسهم 
هي فيهاء فاستقبلت العمل المذية بس فلت إل 
أقمى حدّ ممكن من انفعالاتها السوداء. إن الاتفعالاات 
السوداء تلم ببذه الأسرة كا تلم بغالبية البشر ولكتّها لا 
تظفر منها بقلب أسود فترسب فيه وتستقرٌ. منهم من 
اله للغضبة كقابائة الكصول: للاشتجال» .ولكن 
سرعان ما يسكت عنهم الغضب فتصفو نفوسهم وتعفو 
قلوهم كأيّام من شتاء مصر يطلخم سحابها حي تمطر 
رذاذًا؛ وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حي تنقشع 
السحب عن زرقة صافية وشمس ضاحكة. لا يعني 
هذا أنْ خخديجة نسيت أحزاها ولكنٌ السياحة صفتها 
من الضغيئة والحقد. ويومًا فيوما لم تعد تعتب على 
عائشة ولا على أحد من أهلها بقدر ما عتبت على 
بختها حيّى نصبته في النباية هدفًا لامتعاضها وتذمّرهاء 
ذلك البخت الذي قَثْرٌ عليها في الحسن وأجّل زواجها 
حب جاوزت العشرين وكدٌّر غدها بالقلق والمخاوف. 
واستسلمت أخيرًا ‏ كأمها للمقادير. عجز جالبها 
الحامي الموروث عن أبيهاء كما عجز جانبها المعقّد 
المكتسب من موقفها حيال بيئتهاء عن معالجة حظّها 
العاثرء فوجدت السلامة في أن تلوذ بالجانب السلمي 
الموروث عن أمَها فاستسلمت للمقادير؛ كالقائد الذي 
تعييه الحيل عن بلوغ الهدف فيختار موقعًا ذا حصانة 
طبيعية ليثبت فيه فلوله» أو يدعو إلى الصلح والسلام . 
وراحت تشكو بثْها في الصلاة ومناجاة الرحمئن. والحق 


0 هذه 


اننا كتانق مئة ععافاد تارق انينا ف 'تتديها 
ومحافظتها على الفرائض مثابرة دلت على يقظة عاطفتها 
الدينية» لا كعائشة التي تلم بالعبادة في نوبات حماسية 
متباعدة ولا تطيق المداومة عليهاء وطالما تعجبت 
خديجة ‏ وهي بمعرض المقارنة بين حظها وسين حظ 
أخنها ‏ من سوء الجزاء الذي تثاب على إخلاصهاء 
وحسن الحزاء الذي تثاب به الأحرى على تباونها. . 
دإني أحافظ على الصلاة أمّا هي فلم تطق المحافظة 
عليها يومين متتاليين» وإني أصوم رمضان كله وأمًا هي 
فتصوم يومًا أو يومين ثم تتظاهر بالصوم على حين 
تنسلٌ خفية إلى المخزن فتملأً بطا بالثقل حيّى إذا 
أطلق مدفع الإفطار هرعت إلى المائذة قبسل 
الصائمين!»... وحبّى من ناحية الجمال لم تسلّم 
لعائشة بدون قيد ولا شرطء نعم إِثْها لم تجهر برأيها 
لأحدء بل لعلّها تؤثر كثيرًا أن تباجم نفسها بنفسها 
لتقطع الطريق على المتحفّزين ولكئّها كانت تطيل النظر 
إلى وجهها في المرآة وتناجي نفسها قائلة: «عائشة جميلة 
نلا شك ولكتبا نخيلة السمنة تقيف: الخال أن 
سميئلةء واكتناز وجهي يكاد يغطي على كبر أنفي. م 
يبق إلا أن يشدّ بختي حيله». على أئْها فقدت ثقتها 
بنفسها في الأزمة الأخيرة. ومع أنها عاودت كثيرًا تلك 
المناجاة عن الجتمال والسمئة والبخت إلا أنّبا عاودتها 
هذه المرّة لتذري ‏ أمام نفسها ‏ إحساسها المقلق يعدم 
النقة كها نلجأ أحيانًا إلى المنطق لتستمدٌ منه الطمانينة 
عل الور الس والمرض والسعادة والشقاء والحبٌ 
والكراهية ‏ لا تمت إلى المنطق بسبب. . 

ولم تنس أميئة - رغم كثرة مشاغلها كام العروس- 
خحديجة» أو أنْ فرحها للعروس كان يذكرها بحزنها على 
أختها كا تذكرنا الراحة التي نحظى بها بفعل عمدّر 
بالألم الذي سيعاودنا بعد حين, وكان زواج عائشة قد 
أثار متخاوفها القديمة عن سخديجة فأرسلت - التماسا 
للطمانينة من أيّ سبيل ‏ أمّ حنفي إلى الشيخ رءوف 
وعادت المرأة بنوع من البشرى فقالت لسيّدتها إن 
الشيخ قال لا وستحملين إِليّ رطلين من السككر عم 


فريب») ومع أثها لم تكن أوؤل بشرى من هذا النوع 
تزفٌ إليها عن خخحديجة إلا أنها أملتها خيرًا ورحبت بها 
كمسكن للقلق الذي لا يزايلها. . 


0 

«ألم يثن الأوان يا بنت المركوب؟! ذُبْتٌُ يا 
مسلمين. ذبت كالصابونة ولم يبق منها إلا رغوة» هي 
تعلم بِبْذا ور كم النافذة تدألي. . . تدللي 
با بنت المركوب» ألم نتفق على هذا الميعاد؟ 5 لك 
حنُ... فردة لدي من صدرك تكفي الخراب 
مالطة. . . وفردة تالية تطيّر مخ هلل تبرج . عندك قنر 
رئنا يلطف بي» ربّنا يلطف بي وبكل مسكين مشلي 
يؤرقه الندي الناهد والعجيزة المدملجة والعين 
المكحولة؛ العين المكحولة في الآخرء إذ رب ضريرة 
ريا الروادف كاعب الثديين شخير ألف مرّة من عجفاء 
مسحاء مكحولة العينين» يا بنت العالمة وجارة 
التربيعة. . . تلك لقُنتك أصول الدلال وهذه تمذّك 
بأسرار الجمال» لهذا ينبد ثدياكِ من كثرة من عبث بهما 
من العشّاق» اتّفَقئا على الميعاد لست أحلم» افتحي 
النافذة» افتحي يا بنت المركوب» افتحي يا أجمل من 
اقشعرّت له سرّتي» ومصٌ الشفة ورضع الحلمة 
لأنتظرن حبّى مطلع الفجرء ستجدينني طوع بنانك» 
إن أردت أن أكون مؤشر عربة الكارو التي تتأرجحين 
عليه أَكُنْهٌُ إن أردت أن أكون الخبار الذي يجرٌ العربة 
اف نا" وقعقلك: ا تاشوقي.«نا كرات جعلف يتين عبد 
الحواد» يا شياتة الاستراليئين فيك. .. يا أنا يا طريد 
الأزبكيّة وحبيس الكاليّة. الحرب يا هوهء شمْها غليوم 
في أوربًا ورحت ضحيتها آنا في النحاسين؛ افتحي 

النافذة يا روح أمَك. افتحي يا روحي أنا. . .؛ 
هكذا جعل ياسين يحادث نفسه وهو جالس على 
الأريكة بقهوة سى علٌء وعيئاه تتطلّعان إلى بيت زبيدة 
العالمة خلل الك الظلة فل القورقة» عل شكة 
الجزع غرق في أحلامه وخواطره فترفه جزعه وتهيج 
أشواقه معّاء كبعض الملومات الطبَيّة التي تعالج الأرق 
وتتعب القلبء كان قل تقدّم خطوة في مغازلة زنوبة 


بين القصرين 147 


العوادة مغازلة رسع با من دور التحضير ملازمة 
قهوة سى عل مساء والنظر والسير وراء عربة الكارو 
والابتسام وفتل الشارب وتلعيب الحاجب . إلى دور 
الملفاوضة والتاهبٍ للعمل. حدث ذلك في عطفة 
التربيعة الطويلة الضيّقة المسقوفة بالخيش الملتوية ذات 
الدكاكين الصغيرة المتلاصقة على الجانبين كخلايا 
النحل. ولم تكن التربيعة بالجديدة عليه؛ كيف وهي 
سوق النسوان من جميع الطبقات يتقاطرن عليها 
لابتياع ما خف حمله وجلّت فوائده من مختلف صنوف 
العطارة ذوات البهجة والجبال والنفع» فهي هدفه كلم 
خلا طريقه من هدف يجذبه إليه» وهي مراحه صباح 
الجمعة يقطعها متمهّلا ‏ بحكم الزحمة والرغبة مما 
من طرف إلى طرف كأنمًا يستعرض الدكاكين لانتقاء 
حاجة وهو في الحقيقة يتفخص الوجوه والأجسام وما 
تنحسر عنه البراقم وما تضيق به الملاءات» ما يرى 
جملة وما يرى تفصيلا. ما يسطع هنا وهناك من روائح 
زكيّة» ما يندٌ من حين لآخر من أصوات أو يوسوس 
من ضحكات» ملتزمًا عادة حدود الأدب لغلبة 
العناصر الطيّبة على الزائرات» قانعا بالمشاهدة والموازنة 
والنقدء لاقطا من المرئيّات صورًا متازة يزين بها 
متحف ذاكرته, لا يفوق سعادته إذا ظفر بلون بشرة 
صاف لم يره من قبل» أو بلحظ عين لم يتعرض لثله. 
أو لندي عجيب في نبودهء أو لعجيزة خرقت المألوف 
في ضخامتها أو حسن تكويتها فيرجع مرة وهو يقول 
«فاز بالسبق اليوم نهد الست التي كانت واقفة أمام 
الدكان الفلاني» أو «هذا يوم الكَفل الرابي رقم 26 أو 
«يا ها من حقيبة ويا لحا من حقيبة... هذا يوم 
الحقائب المشرقة» إذ تأدى به مزاجه إلى التهالك على 
جسم المرأة متجاهلا شخصيّتها ثم إلى تركيز العناية في 
أجزاء من الجسم متجاهلا جملته. وكأه ني هذا كله 
ينعش آماله ويجدّدها أبدا كرجل لا يقدّم على النسوان 
غاية في دنياه - عند الفرص المحتملة المدّخرة ليوم أو 
لغد. إلى ها ب يسنح له في هذه الحولات الحنسية من 
صيد طيّب في أحوال نادرةء قفي ذات أصيل - وهو 
بمجلسه تحت الكوة بقهرة سي علٍّ ‏ رأى العوادة تغادر 


مخ : بين القصرين 


البيت بمفردها فنبض من توه وتبعهاء ومالت إلى عطفة 
التربيعة فيال وراءهاء ثم وقفت أمام دكان فوقف إلى 
جانبهاء وانتظرت حبَّى يفرغ العطار من بعض الزبائن 
فانتظر ولم تلتفت ناحيته فاستدلٌ بذاك «التجاهل» على 
أنما فطلت لوجوده ‏ كنا لا بذ أن تكون حدست 
متابعته لما من بادئ الأمر ‏ فهمس قريبا من أذمما 
«مساء الخين» فواصلت النظر إلى الأمام إلا أنه لمح 
بجانب فيها انحراف ابتسامة ردًا لتحيّته أو مكافأة له 
على طول متابعته لها مساء بعد مساءء فتنبد تنهد 
الراحة والظفر مطمئثًا إلى جني ثمرة صبره فسال لعاب 
شهوته ى) يتحلّب ريق الجائع النهم إذا تطايرت إلى 
أنفه رائحة الشواء الذي هيا له ورأى عن حكمة أن 
يتظاهر بأئّها جاءا معًا فأدّى ثمن مشترياتها من الحناء 
والمغات عن طيب خاطر خليق برجل يؤمن بأنه ‏ بأداء 
هذا الواجب اللذيذ ‏ يكتسب حمًا ألذّ وأمتع» غير 
يتاريف :ند امنا سن اللنل: إل الااكتان فين ' المشنتريات 
حين اطمأئت إلى أنه سيدفع الثمن. وفي طريق العودة 
قال نيعل بدن اف رد كه اخهاء الطريق ««رياامييت 
الحسن والجمال قضيت العمر كما تشهدين وراءك, 
وجزاء المحتٌ اللقاء فقط؟» فلحظته بنظرة شيطئة 
متسائلة في تبكم واللقاء فقط؟) فكاد يضحك بروحه 
وجسمه كحاله إذا أخذته نشوة فرح ولكنّه بادر إلى 
إحكام إغلاق فيه أن يحدث ضحجة تلفت الأنظار 
وأجاءبا هامسا «اللقاء ولوازمه!؛ فقالت بلهجة انتقادية 
«الواحد منكم يطلب بكل بساطة (اللقاء). . . كلمة 
صغيرة... ولكنّه يعنى بها عملا ضح لا ينال عند 
يعض الناس إلا بالسؤال والشفاعة وقراءة الفاتحة 
والمهر والجهاز والماذون» أليس كذلك يا حضرة 
الأفندي الذي يضاهي الجمل طولا وعرضًا؟!» فتورّد 
وجهه فيا يشبه الارتباك وقال ديا له من تأديب مهما 
يكن من قسوته فإنه من شفتيك كالشهد, أليس هكذا 
العشق يا سث الحسن مذ خلق الله الأرض ومن 
عليها؟» فقالت وهي ترفعم حاجبيها حبّى حاذيا طرف 
عروس البرقع فبدت كيعسوب باسط جناحيه ٠ومن‏ 
أدراني بالعشق يا جمل؟ . . . لست إلا عوّادة» ترى 


هل للعشق لوازم أيضًا؟»؛ فقال وهو يغالب الضيحك 
دهي ولوازم اللقاء شيء واحدء وبلا زيادة ولا 
نقصان؟» «بلا زيادة ولا نقصان» «ولا واحدة طالعة 
ولا واحدة نازلة؟!. . .» دلا واحدة طالعة ولا واحدة 
نازلة» «لعلّها التي يسمّونها الزنا؟!» «بلحمه وعظمه!ء 
فندّت عنبا ضحكة, قالت «اتّفقنا... انتظر حيث 
تنتظر كلّ مساء بقهوة سي عل وعندما أفتح النافذة قم 
إلى البيت». انتظر مساء ومساء ومساء؛ مساء خرجت 
مع الجوقة على الكارو: ومساء ذهبت مع العالمة في 
حنطورء ومساء لم يَبْدٌ على البيت أثر للحياة؛ وها هو 
ينتظر وقد أعيا أعصاب رأسه طول النظر إلى الشبّاك, 
ومرٌ مَوْهِن من الليل فأغلقت الدكاكين وأقفر الطريق 
وشمل الغوريّة ظلام. ووجد ‏ كما يقع له كثيرا في 
إقفار الطريق وإظلامه مثارًا غريبًا لمكمن الشهوة في 
جسده فازداد جرعًا على جزعء نيك آنه لكل شيء نهاية 
حبّى الانتظار الذي يبدو وكأن لا نهاية له فترامى إليه 
من ناحية الشبّاك الغارق في الظلمة طقطقة نفخت في 
حواسّه روح أمل جديد كما تنبعث روح الأمل في نفس 
النائه في القطب إذا ترامى إلى سمعه أزيز الطيارة التي 
حدس أنها جاءت للبحث عنه بين الثلوج» ولااحت 
فرجة يِسْمٌ منها ضوءء ثم تلور شبح العوادة وسط 
الفرجة فقام من فوره وغادر القهوة عابرًا الطريق إلى 
بيت العالمة ودفع الباب دون أن يطرقه فانفتح كأن يدا 
رفعت مزلاجه فمرق إلى الداحل ليجد نفسه في ظلمة 
دامسة ل يَبْنَدِ معها إلى موقع السلّم فلزم موقفه ليأمن 
الاصطدام أو العثار ووئب إلى رأسه سؤال لا يخلو من 
قلق: ترى أدعته زنُوبة على غير علم من العالمة؟ وهل 
تبيح لها العالمة الاجتماع بعشّاقها في بيتها؟ ولكنه أبرز 
لسانه استهانة لأنْ رادعًا لم يكن ليثنيه عن مغامرة 
ولأنّ ضبط عاشق في بيت تقوم جدرانه على مهج 
العاشقين ليس بما تحاذر عواقبه وانقطع عن التفكير 
حين لاح لعينيه ضوء شاحب بببط من أعلى» ثم لمحه 
يترنم على الحدران التي وضحت رويدًا فتبيّن موقفه 
على بعد ذراع من أولى درجات السبلم عن يميله» وما 


2 
هر 


عتم أن رأى زنُوبة قادمة وبيدها مصباح فمضى نحوها 


في سكرة من الشوق وضغط في حنان على ساعدها 
امتنانا ورغبة حبق ضحكت ضحكة رقيقة أوحت على 
رقتها بائبا لا تحاذرء وتساءلت بمكر: 

طال انتظارك؟ 

فمسل سوالفه بأنامله وهو يقول بصوت شاك: 

- شاب شعري الله يسامحك (ثمم بصوت خافت) 
الست هنا؟ 

فحاكت صوته الخافت على سبيل المزاح وقالت: 

- نعم. . . في نخلوة مع رفيق قد الدنيا. . . 

ألا تغضب إذا علمت بحضوري في هذه الساعة؟ 

فاستدارت وهي تبزٌ منكبيها استهانة ورقيت الدرج 
وهي تقول : 

- وهل أنسب من هذه الساعة ضور عاشق 
مثلك؟ 

إِذا لا ترى بأسّا في اجتباعنا ببيتها؟ 

فحرّكث رأسها حركة راقصة وقالت: 

- لعلّها ترى كلّ البأس في عدم اجتماعنا! . . . 


00" عاش . 


فاستطردت في لهجة تنم عن الفخار قائلة : 

لست عوؤادة فحسبء آنا بنت أختهاء وهي لا 
نَضِنٌ عل بغال . . . تقدّم بسلام. . . 

ولا بلغ الدهليز جاءهما من الداخل صوت غناء 
لطيف يصاحبه عود ودف فأنصت ياسين قليلًا ثم 
تساءل : 

خحلوة أم حفلة؟ 

فهمست في أذنه : 

_ خلوة وحفلة مغاء عشيق السلطانة رجل صاحب 
طرب ومزاج» لا يطيق أن يخلو مجلسه ساعة من العود 
والدفٌ والكاس والضحك. . . عقبى لك. . . 

ومالت إلى باب ففتحته ودخلت وهو وراءها, 
ووضعت المصباح على كونصول ثم وقفت أمام المرآة 
لتلقي نظرة فاحصة على صورتها فتناسى ياسين زبيدة 
وعشيقها الطروب وسدد عيئيه المنهومتين إلى الجسم 
المشتهى الذي بدا لناظريه متجرّدًا عن الملاءة لأول مرة 
سدّدهما بقوّة وتركيز وحرّكها في أناة وتلذذ من فوق 


بين القصرين 544 
عشرات النوايا الي اعتلجت في صدره قالت زنوبة 
كأئما تصل ما انقطع من حديثها: 

- رجل لا نظير له في لطفه وطربهء أمًا كرمه 
فحدّث عه من اليوم إلى الغد... هكذا يكون 
العشق وإلا فلا. . . 

لم يغب عله هأ في إشارتها إلى «كرم» عشيق العالمة 
من معان؛ ومع أنّه سلّم من بادئ الأمر بن غسرامه 
الجديد سيفرض عليه ضرائب باهظة إلا أنَّ تلميحها ‏ 
الذي بدا له مبتذلا - ضايقه» فلم يسعه إِلّا أن يقول 
مدفوعا بغريزة الدفاع عن النفس : 

- لعلّه رجل واسعم الثراء ! 

فقالت وكاتها تجيبه على مناورته : 

- الثراء شيء والكرم شيء آخر... رُبّ شري 

فتساءل لا عن رغبة في المعرفة ولكن تفاديًا من 
الصمت الذي حاف أن يفضح استياءه : 

- تُرى من يكون هذا الرجل الكريم؟ 

فقالت وهي تدير عجلة المصباح لترفع فتيلته : 

- إِنّه من حيّنا ولا بد أنك تسمع عنه. . . السيد 
أحمد عبد الجواد . , 

101 

فالتثفتت نحوه دهضّة لترى ما أفرعه فَالْفَنْه متصلب 
القامة جاحظ العينين فسألته مستدكرة: 

ما لك؟ 

كان تلقّى الاسم الذي نطقت به كأنه مطرقة هوت 
بعلف على يافونحه فند عنه التساؤل فى ثيرات صارخة 
من الفزع وهو لا يدري». وغاب علم) حوله للحظات 
مليئة بالذهول». ثم تراءى له وجه زنوبة في حالة من 
الدهشة والإنكار فشخاف افتضاح أمره وركّز إرادته كلها 
في الدفاع عن موقفه فعمد إلى التمثيل يداري به فزعه 
فضرب كما بكفت كأئما لا يصدّق ما قيل عن الرجل 
لظنه الوقار به وتمتم مستغربا: 

السيّد أحمد عيد الجواد!... صاحب دمّان 
النحخاسين؟ 


مع بن القصرين 
فيحل حته بنظرة انتقاد مر لإزعاجها بلا سبساا وسألته 


مستهرئة : 

لعم هو. . . فاذا استصرخك كأنّك عذراء تُفْض 
بخارتها؟ 

فضحك ضحكة آليّة وقال كالداهش وهو محمد الله 
في سرّه على أنّه لم يذكر لها اسمه كاملا يوم التعارف: 

- من يصدّق عن هذا الرجل الوقور الورع؟! 

فرمته بنظرة ارتياب وقالت ساخرة: 

أهذا ما أفرعك حقًا؟... ولا شيء غيره؟! 
أظئنته من المعصومين؟. . . وماذا عليه من هذا؟. . 
هل يكمل الرجل إلا بالعشق؟!. . . 

وقال بلهجة المعتذر: 

- صدقت. . . لا شىء يستحقٌّ الدهش في هله 
الدنيا إثمّ ضاحكا في عصبيّة) تصوّري هذا الرجل 
الوقور وهو يطارح السلطانة الغرام ويشرب الخمر 
ويطرب للغناء, . . ! 

فقالت وكأئها تكمل حديئه بنفس لمجتها الساخرة : 

- ويلعب بالدفٌ بيد ولا يد عيّوشة الدفافة وينثر 
النكات كالدرر فيقتل من حوله ضِحكا وليس عجبًا ‏ 
بعد هذا كله أن يرى في دككانه مثالا للجدٌ 
والوقار. . . فالجدٌ جد واللهو هوء وساعة لربّك» 
وساعة لقللكة , 

بلعب ,نالكف يدولا ل غترشة الذفافة 1ج :يتا 
الدكات فيقتل من حوله ضحكًا!... من عمبى أن 
يكون هُذا الرجل؟! 

أبوه السيّد أحمد عبد الجواد؟! الصارم الجبار 
الرهيب التق الورع؟! الذي يقتل من حوله رعبا؟! 

كيف يصذدق ما سمعت أذناه؟! كيفء 
كيف؟!. . . ألا يكون ثمّة تشابه في الأساء وألا 
علاقة بين أبيه وبين هذا العاشق الدفاف؟! ولكنّ 
زنُوبة وافقت على أنه صاحب دكّان والنحاسين» وليس 
في النحاسين من دكّان تحمل هذا الاسم إِلّا دكان 
أبيه!. . . ربّاه هل ما سمعه حقيقة أو أنه ببذي؟! 
لشدّ ما يود أن يطلع على الحقيقة بنفسه. أن يرى 
بعينيه دون وسيطء رغبة تملكته لحظتئذ فبدا تحقيقها 


كأخطر شيء في الحياة ولم يستطع لها مقاومة فابتسم إلى 
الفتاة وهو عبر رأسه هرّة حكيم كأما يقول ويا لما من 
أيَام كلها عجائب!» ثم سأها بلهجة من يدفعه حبٌ 
الاستطلاع وحده: 

ألا أستطيع أن أراه من حيث لا يراني؟ 

فقالت معترضة : 

أمرك عجيب». وما الداعي إلى هذا التجسّس؟! 

فقال برجاء : 

- منظر يستحقٌ المشاهدة فلا حرمتني منه!. . . 

فضحكت باستهانة وقالت: 

- عقل طفل في جسم جملء أليس كذلك يا 
جمل؟.. . ولكن لا عاش من يبب لك رجاء. . . 
الْزْو في الدهليز وسأدخل عليههما سطبق من الفاكهة 
تاركة الباب مفتوحا حيّى أرجم . . . 

وغادرت الحجرة فتبعها عل الأثر بفؤاد حافق 
وانزوى في ركن من الدهليز المظلم على حين تابعت 
العوّادة سيرها إلى المطبخ » وبعد قليل عادت حاملة 
طبًا من العنب فاتجهت إلى الباب الذي ينبعث منه 
الغناء فنقرت عليه, وانتظرت دقيقة ثم دفعته ودخلت 
دون أن تغلقه وراءهاء هناك بدا مجلس الطرب في 
صدر الحجرة تتوسطه زبيدة محتضنة العود وهي تلعب 
بالأوتار بأناملها وهي تَعْئّى ديا مسلمين يا أهل الله 
وعلى كثب منها جلس «أبوه» دون غيره ‏ وقد اشتد 
خفقان قلبه لدى رؤيته ‏ متجِرّذا من جبته مشمرا عن 
ساعديه راعشًا الدفٌ بين يديه متطلعًا إلى العالمة بوجه 
يقطر بشاشة وبشّْرًا. لم يلبث الباب مفتوحًا إذ ريشما 
رجعت زلُوبة» دقيقة أو دقيقتينء ولكنّه رأى فيه) 
منظرًا عجبّاء حياة غامضة؛» قصّة طويلة عريضة. 
استيقظ في أعقابها كالذي يستيقظ من نوم طويل عميق 


ملخصًا في صورة كمن يرى في حلم هنيهة صورة 
جامعة لأحداث شيء يستغرق وقوعها في عال الحقيقة 
أعوامًا طويلة. رأى أباه حقاء أباه دون غيره من 
البشرء ولكن لا كما تعود أن يراهء فلم يسبق له أن 


رآه متجرّذا من جبته في جلسة مريحة منسابة مع 


سجيّتهاء ولا رأى شعره الفاحم ثائر الأطراف كأئا 
جاء يعدو حاسر الرأس.» ولا رأى ساقه العارية كما 
لاحت على حافة الديوان تحت ذيل القفطان المدحس. 
ولا رأى- إي والله ‏ الدفٌ بين يديه يرعش باعثًا 
شخشخته الراقصة المتقطع بالنقر الرشيق» ولا رأى ‏ 
ولعلّه أعجب ما رأى ‏ هذا الوجه الضاحك المتالق 
الريّان بالود والصفاء الذي أذهله كبا ذهل كيال من 
قبل حين رآه يضحك أمام الدكان يوم قصده مدفوعًا 
برغبته في الإفراج عن أمّهء رأى هذا كله في دقيقتين. 
ولمًا أغلقت زنوبة الباب وعادت إلى حجرتها لبت 
بموقعه يستمع إلى الغناء وخشيخثة الدف برأس دائر 
نفس الصوت الذي استمع إليه حال دضوله البيت» 
ولكن أي تخيّر اعتور الأثر الذي ينطبع منه على نفسه, 
أيّ معان وصور جديدة ينقلها الآن إلى وجدائه كرنين 
جرس المدرسة يبش له الطفل إذا سمعه وهو غريب 
عدبا ويلقلب في أذنيه نذيرًا لمتاعب جمة إذا سمعه وهو 
ضمن تلاميذها. ونقرت زنُوبة على الحجرة كأنها تدعره 
ليلحق بها فأفاق من غيبوبته ومضى إليها وهو يحاول أن 
يتمالك نفسه كيلا يبدو أمامها مضطربًا أو ذاهلا فدخل 
وعلى شفتيه ابتسامة عريؤفبة : 

هل أنساك نفسك ما رأيت؟! 

فقال بلهجة تشي بالرضا والارتياح : 

منظر نادرء وغناء بديع . . . 

أنتحب أن نفعل مثلهما؟ 

عا ليلمتا الآول؟ وي كاد لاحت أن 
أخلط بك شيئًا آخير ولو كان الغناء نفسه! . . . 

ولئن تكلف بادئ الأمر الحديث ليبدو أمامها ‏ وأمام 
نفسه على السواء ‏ هادثًا طبيعيًا فقد انتهى إلى الانههاك 
فيه بلا تكلف ثم إلى استرداد حاله الطبيعيّة بأسرع مما 
قذّرء كالذي يتصئم هيئة الباكي في مأتم فينخرط في 
البكاء. على أنه ربا عاودته الدهشة فجأة فيقول لنفسه 
«أغجب بها من حال لم تخطر لي على بال من قبل» أنا 
هنا مع زنُوبة وأبي في الحجرة القريبة مع زبيدة: كلانا 
في بيت واحد!» ولكنّه سرعان ما بهرّ كتفيه ويستطرد 
في حديثه مع نفسه «كيف أحمّل نسي مشقّة العجب 


بين القصرين 46١‏ 
لوقوع شيء باعتباره بعيدًا عن التصديق ما دمث المسه 
واقعًا! إِنّه هناك فمن السخف أن أتساءل ذاهلا هل 
يمكن تصديق هذا. فلأصذق ولأتعججب... وماذا 
عليه من هذا!» ولم يشعر إلى تفكيره بارتياح فحسب 
ولكنّه فرح فرحة فاقت كل تقدير, لا لأنّه كان ببحاجة 
إلى مشججّع ليواصل حيائه الشهويّة» ولكن لأنّه ‏ 
كأكثريّة الغارقين في الشهوات المحرّمة ‏ يستأنس إلى 
الشبيهء فكيف إن وجد في ششخص أبيه ‏ القدوة 
التقليدية ‏ الذي طالما أزعجه. بشعور وبلا شعور 
منه؛ أن يجد نفسه وإيّاه على طرفي نقيض» تناسى كل 
شيء إلا فرحته. كأئّها أعرّ ما ظفر به في حياته؛ وشعر 
نحو أبيه بحب وإعجاب جديدين ‏ غير الحبٌ 
والإعجاب اللذين اكتسبههما قديمًا تحت ستار كثيف من 
الإجلال والخوف. حب وإعجاب ينبعان من أعماق 
النفس ويختلطان بجذورها الأولل. بل كأنهها وحبٌ 
الذات والاإعجاب بها شىء واحدء لم يعد الرجل بعيدًا 
عزيز المنال مغلق الأبواب ولكن دانيًا قريباء قطعة من 
نفسه وقلبه. أبا وابناء روحًا واحذاء ليس الرجل 
الذي يرعش الدفٌ في الداخل السيّد أحمد عبد الجواد 
ولكنّه ياسين نفسه. كما يكون وكيا يجب أن يكونء 
وكا ينبغي أن يكون. لا يفرّق بينها إلا اعتبارات 
ثانويّة من العمر والتجربة وهنيئًا لك يا والدي» اليوم 
اكتشفتك, اليوم عيد ميلادك في نفسي», يا له من يوم 
ويا لك من أبء لم أكن قبل الليلة إلا يتييّاء أشرب 
وألعب بالدفٌ لعبّاء ولا يد عيّوشة الدفافة. إني فخور 
بكء هل تعئّى أيضًا يا تُرى؟ . . .2. 

ألا ال أحمد عبد الجواد أحيانًا. . , ؟ 

ألا زال فكرك مشغولا به؟! يا ويل الناس من 
الناس!.. . بل يغتّى أحيانًا يا جملي... يشترك في 
اهنك إذا سكر. . , 

وكيفا صوته؟ . , . 

«إلى هذا الأصل ترجع الأصوات التي تغْئى في 
بيتناء الجميع يخئون. أسرة عريقة في الطرب. ليتني 
أسمعك ولو مرّة, لا احفظ لك فى ذاكري إلا الزعق 


والعبر» غنوتك الوحيدة المشهورة بيننا ويا ولد - يا 
ثور يا بن الكلب» أريد أن أسمع منك «الوداد في 
الملاح صَدّف» أو «حيّيت يا حميل» كيف تسكر يا أبي؟ 
كيف تعربد؟ ينبغى أن أعرف لأحتذي مثالك وأحبي 
تقاليدك؛ كيف تعشق؟ كيف تعائق؟ , . 

وانتبه إلى زثوبة فرآها أمام المرآة وهي تسوي 
أهداب شعرها بأناملها وقد لاح إبطها من فرجة 
الفستان أملس ناصعًا يتصل متنحدره بأاصل بهد 
كقرفة الجن فرت ريون 1و الج بر اتدل 
عليها كأنه فيل ينقض على غزال. . . 


اك 

وقفت ثلاث سيّارات تطوع بتقديمها بعس 
الأصدقاء أمام بيت السيّد أحمد في انتظار العسروس 
وحاشيتها لحملهنٌ إلى بيت آل شوكت بالسكرية. كان 
الوقت أصيلا وقد الحسرت أشعّة شمس الصيف 
المائلة عن الطريق واستقرت على البيوت المواجهة لبيت 
العروشن » ول كرو اثئة مظاهر ندل عل عرس + اللي 
إلا الورود التي ازّْيّنت مها أولى السيّارات الثلاث 
فلفتت أنظار أصحاب الدكاكين القريبة وكثير من 
المارّة» ومن قبل ذلك اليوم تمت الخطبة ووردت الهدايا 
ونُقل الجهاز وعُقد القران فلم تنطلق من البيت 
زغرودة أو تعلق ببابه زينة أو تشى بما يدور داخله 
علامة من علامات الأفراح المألوفة الى تفاخر الأسر 
بإعلانها في أمثال هذه المناسبات» وتتعلل بسوائحها 
لتفصح عن مكئون حنينها للمسرة بالغناء والرقص 
والزغاريد. تم كل شىء في صمت وهدوء فلم يدرٍ به 
لقا رس اماه وساف اانه يران لفل 
أن يتزحزح عن تزمته أو أن يسميح لأحد من آل بيته 
بأن يتزحزح عنه ولو ساعة واحدة. وني ظل هذا الحو 
الصامت غادرت العروس والمدعوّات البيثت رغم 
احتجاج أمّ حنفي على الخرجة الصامتة. فمرقت 
عائشة إلى السيّارة في سرعة خاطفة كأنما تحاف أن 
يشتعل فستان العرس أو قناعه الحرير الأبيض الموشى 
بالفلٌ والياسمين تحت نظرات المتطلعين. وتبعتها 


خديجة ومريم وبعض الفتيات» واستقلّت الأمّ وبعض 
النسوة من الأهل والحارات السيّارتين الأخخريين. على 
حين اتخذ كمال مجلسه إلى جانب سائق سيّارة 
العروس. ورغبت الأمّ في أن يمضي الركب إلى 
السكريّة عن طريق الحسين لتلقى نظرة جديدة على 
مقامه الذي كلفها الشوق إليه قبل ذلك غاليًا 
ولتستوهب صاحب المقام البركة لعروسها الحسناء. 
فاخترقت السيّارات الطرق التي قطعتها هي ذلك اليوم 
مع كيال. ثم مالت إلى الغوريّة عند المنعطف الذي 
كادت تلقى فيه حتفها حي وقفت بن عند بوابة 
المتول أمام مدخخل السكريّة الذي يضيق عن دخول 
السيّارات. وترجلن حميعا ودخلن العطفة فطالعتهنٌ 
معالم الزينات وهرع إليهنْ غلمان الحارة هاتفين وتعالت 
الزغاريد من بين آل شوكتء. أوْل بيت إلى يمين 
الداخل ‏ حيث ازدحمت نوافذه برءوس المطللات 
المزغردات. ووقف عند مدشمله العريس خليل شوكت 
وشفيقه إبراهيم شوكت وياسين وفهمي., وتقدّم خليل 
مبتسم]أ من العروس ومنحها ساعده فارتبكت ولم ع 
حراكًا حي بادرت مريم إلى يدها فشبكتها بساعده. 
ثم سار بها إلى الداخخل مارا بحذاء الفناء المزدحم 
والورد والملبس ينبال على أقدامها وعلى أقدام من تبعنها 
من حاشية العروس حتّى واراهنْ باب الحريم» ومع 
أن قران عائشة بخليل تم قبل ذلك اليوم بشهر أو أكثر 
إلا أن منظر اشتباكهما وسيرهما ممًا لافى من ياسين 
وفهمي - والأخير خاصّة ‏ دهشة مقرونة بالحياء 
وشعورًا بالإنكار أشبه كأن جو أسرتما لا يضم حت 
طقوس حفلات الزفاف المشروعة., وبدا هذا الآثر 
بصورة أوضح عند كال الذي جعل يجذب أمّه من 
يدها في انزعاج وهو يشير إلى العروسين اللذين 
يتقدّمان الجميع على السلم كأنه يستعدبها على دفع شب 
فظيع» وخطر للشابين أن يسرقا النظر إلى وجه أبيهها 
ليريا أيّ أثر تركه ذاك المنظر الفريد. فشملا المكان 
بنظرة سريعة ولكتّها لم يقفا له على أثر؛ لم يوجد عند 
المدخل. ولا فيما يلل هذا من فناء البيت الذي 
اصطفت به الأرائك والمقاعد وأقيمت فى صدره منصة 


الغناء. والواقع أنْ السيّد حلا إلى نفر من خخاصّة 
أصدقائه بمنظرة الفناء فلم يفارقها مذ حلّ بالبيت 
مصمًّ على ألا يفارقها حبّى ختام الليلة مبتعدًا بنفسه 
عن «الجمهور؛ الصاخحب خارجهاء لم يكن أشد 
إحراجًا لنفسه من الظهور بين آله في ليلة زفاف, إذ لا 
يرضى أن ينشر فوقهم رقابته في يوم خالص السرورء 
ولا يطيق من ناحية أخرى أن يشهد عن كثب 
انطلاقهم مع دواعي الفرح. وفضلًا عن هذا وذاك لم 
يكن أكره لديه من أن يرى - بينهم ‏ على غير ما عهدوا 
من وقار صارمء ولو كان الأمر بيده لتم الزفاف في 
صمت شامل ولكنْ حرم المرحوم شوكت وقفت من 
اقتراحه في هذا الشأن موقف معارض لا تلين صلابته 
وأبت إلا أن تحييها ليلة حافلة فانّفقت على إحيائها مع 
العاللة جليلة والمغئي صابرء وبدا كيال لفرط ابتهاجه مما 
اتبح له من حَرّيّة وسرور كأنه عريس الليلة» وكان 
أحد أفراد قلائل أبيح هم التنقّل كيفما شاءوا بين 
الحريم في الداخل وبين مجلس الطرب في فناء الدارى 
لبث طويلا مع أمّه بين النساء منقّلا طرّفه بين زينتهن 
وحليهنَ مصئيًا إلى دعاباتينٌ وأحاديثهن التي يستاثر 
الزواج بخلاصتهاء أو منصتا معهنّ إلى العالمة جليلة 
التي تصدّرت البهو كالمحمل ضخامة وزيئة وراحت 
تنشد الطقاطيق وتعاقر الشراب جهارّاء فاستانس إلى 
الجوٌ الضاحك لغرابته وجاذبيّته ‏ والأهمٌ من هذا كله 
لوجود عائشة على حال من التبرّج لم يحلم مها من قبل, 
وشبجّعته أمّه على البقاء ليظلٌ تحت رعايتهاء بيد أمْها 
عدلت عن موقفها بعد حين واضطرّت إلى أن تحنه 
همسًا على الانتقال إلى مجلس أخويه لأمور لم تتوقع 
حدوثهاء من ذلك ما بدا من اهتيامه بعائشةء بفستانها 
حيئًا وبرواقها حيئًا آخرء فخيف منه على هندامهاء أو 
ما بدر منه من ملاحظات صبيانية صريحة نحو بعض 
السيّدات كما هتف بأمه مرّة وهو يشير إلى امرأة من آل 
العريس قائلا: «انظري يا نيئة إلى أنف هذه 
الستٌ. . . أليس أكير من أنف أبلة حديجة» أو ما فاجا 
به الجميع وجليلة تغئى من الاشتراك مع التخت في 
ترديد ويامة .حلوة. . . ومئين أجيبها» حيّى دعته العالمة 


بين القصرين 4617 
إلى الجلوس بين أفراد تختهاء وببذا وغيره جذب 
الأنظار إليه فأخيذت المدعوات في مداعته. ولكن أمه 
لم ترتح إلى الضجّة التي أثارهاء وآثرت على كره منها - 
إشفاقًا على البعض من عبئه وإشفاقًا عليه من أعين 
المعجبات ‏ أن تحمله على مغادرة المكان؛ انضِمٌ إلى 
مجلس الرجال» وتردد بين الصفوف. ثم وقف بين 
فهمي وياسين حتّى نحتم صابر دور وبس ليه تعشق يا 
جميل» واستانف تجواله حتّى مرّ بالمدظرة فأغراه حبّ 
الاستطلاع بالنظر إلى داخلها فمدٌ رأسه وما يدري إلا 
وعيناه تلتقيان بعيني والده فتسمر في مكاله وعجز عن 
استردادهماء. ورآه أحد أصدقاء أبيه ‏ السيد محمد 
عفت - فناداه فلم يجد بدا من تلبية النداء ليتفادى من 
إغضاب أبيه فتدانى من الرجل على كره وخوف حت 
وقف أمامه منتصب القامة مضموم الذراعين إلى جانبيه 
كأنه عسكري في طابور» وصافحه الرجل قائلا: 

اها شنا الله وي في أي سنة يا عم؟ 

- سنة ثالثة رأبع. . . 

داعال غال:.. 

ومع أنّه كان يجيب على أسثلة محمد عفْت إلا أنْه 
راعى من بادئ الأمر أن تكون إجاباته بحيث ترضى 
أباه. . . فلم يَدْرٍ كيف يجيب عل السؤال الأخير أو أنه 
تردّد قبل أن يعد الإجابة ولكنّ الرجل بادره متلظمًا : 

داعت اد" 

فقال الغلام بتوكيد: 

ا 

وبدا من بعض الحاضرين ما يدل عل أنْهم 
سيعلّقون على هذه الإجابة ‏ آخر ما يننظر من شخص 
يتتمي إلى عبد اللحواد ‏ مازحين؛ ولكنّ السيّد حذّرهم 
بعيئيه فأمسكواء أمَا السيّد محمّد عفّت فعاد يسأله: 

ألا تحب أن تسمع شيًا؟ 

فقال كيال وهو يلحظ أباه: 

القرآن الشريف. 

فتعالت أصوات الاستحسسان وسمصح للغلام 
بالانصراف فلم يتأت له أن يسمع ما قيل عنه وراء 
ظهره حين قهقه السيّد الفار قائلًا: 


سمعت صابر؟ 


4 بين القصرين 

- إن صمّ هذا فالغلام ابن زنا! 

فض حك السيّد أحمد عبد الحواد وقال وهو يشير إلى 
حيث كان يقف كال: 

- هل رأيتم أمكر من ابن الكلب يدّعي التقرى 
أمامي ! . . . رجعت مرّة إلى البيت فترامى صوته وهو 
يغني ديا طير يا للي على الشجر» . 

فقال السيد على : 

- آه لو رأيته وهو يئنصت بين أخويه إلى صابر 
وشفتاه تتحرّكان مع الغناء في انسجام تام ولا انسجام 
أحمد عبد الحواد نفسه. 

على حين خاطب محمّد عفْت السيّد أحمد متسائلا: 

- المهم أن تخبرنا هل أعجبك صوته في دور «يا طير 
يا لل على الشجر»؟ 

فضحك السيّد قائلا وهو يشير إلى نفسه : 

ذاك الشبل من هذا الأسد. 

فهتف الفار قائلا: 

- الله يرحم اللبؤة الكبيرة التي أنجبتكم . 

غادر كال المنظرة إلى الحارة وكأنه يفيق من كابوس 
ووقف بين الغللان الذين ازدحم بهم الطريق» وما 
لبث أن استعاد ارتياحه فتمنَّى مزهوا بملاسسه 
الجديدة. مغتبطا بحرّيّته التي جعلت من المكان كله 
فيا غذا المتنظرة امكينةت الا احا اقدمية دون 
معترض أو رقيب. فأ ليلة هذه في الزمان! شيء 
واحد جعل ينخُص عليه صفوه كلما خطر على فؤاده هو 
انتقال عائشة إلى هذا البيت الذي باتوا يدعونه «ببيتها» 
هذا الانتقال الذي نفَذ على رغمه دون أن يستطيع 
أحد إقناعه بوجاهته أو فائدته. تساءل طويلا كيف 
سمح أبوه به وهو الذي لا يسمح لظلٌ امرأة من آله 
بأن يلوح وراء خخصاص الثافلة فتلقّى الجواب ضحكا 
عالياء وساءل أمّه في عتاب» كيف تفرّط في عائشة للد 
النزول عنها للغير فأجابته بأنه سيكبر يومًا ويأخذ مثلها 
من بيت أبيها فتشيع إليه بالزغاريد» وسأل عائشة هل 
يسرها حمًا أن تهجرهم فأجابت أن لاء ولكن الجهاز 
حمل إلى بيت الرجل الغريب ولحقت به عائشة التي لا 
يطيب له الرّيّ إلا من موقع شفتيهاء حمًا أنّ الفرح 


الراهن يسى أشياء ما كان يتصور أن ينساها لحظة 
ولكن خاطرة الأمى تغشى فؤاده الجذل كما تغثشى 
السحابة الصغيرة وجه القمر في ليلة صافية السباء. 
ومن عجب أن سروره بالغناء في تلك الليلة فاق أي 
سرور عداه. كاللعب مع الغلمان أو مشاهدة النساء 
والرجال في مرحهم المطلق أو حيّى عيش السراي 
والألظيّة على مائدة العشاءء ولئن أدهش اهتيامه 
الجدَي بسماع جليلة وصابر- الذي لا يتفق مع سنه ‏ 
كل من لاحظه من النساء والرجال؛ فلم يدهش أحدًا 
من أسرته التي تعرف سلابقه في الغناء مع معلمته 
عائشة كما تعرف بحسن صوته الذي تعدّه أحسن 
أصواتها بعد عائشة وإن كان صوت الأب الذي لا 
يسمعونه إلا مزجراد أحسنها جميعاء وقد استمع كيال 
طويلا إلى جليلة وصابر ولكنّه على غير المنتظر وجد 
غناء الرجل وعزف تخته أحبّ إلى قلبه وآخخل لنفسه. 
فرسخت مره في ذاكرته جمل غنائيّة مشل «تعشق 
ليه. . . علشان كده» حمل يردّدها بعد ليلة الزفاف 
طويلا في سقيفة اللبلاب والياسمين فوق سطح بيتهم. 
وشاركت أمينة وخحديجة كال في بعض ما أتيح له من 
أسباب السرور والحرّيّة» فلم يسبق هما مثله ‏ أن 
شهدتا ليلة كتلك الليلة بما حفلت من أنس وطرب 
ومرحء وأببج أمينة خاصّة ما لاقت من الرعاية 
والمجاملة بصفتها أمّ العروسء هي التي لم تنعم في 
حياتها برعاية أو مجاملة» حبّى خخديجة احتفى همها في 
أنوار الفرح كا تختفي الظلمة عند إشراق الصباح, 
نسية: أحن انها بين الضحكات الناعمة والأنغام العذبة 
والأحاديث الطليّة» وازدادت لا نسيانًا بفضل حزن 
جديد خالص الطويّة منشؤه شعورها بفراق عائشة 
الوشيك. شعور أثمر حبّا وعطفًا خالصين فتوارت 
الأحزان القديمة أمام الحزن الخديد ى! تتوارى الأسحقاد 
أمام الأريميّة» أو كا يقع لشخص حيال آخر يحبٌ منه 
جانبًا ويككره جانبًا أن تتوارى ‏ ساعة الفسراق مثلا - 
الكراهية للجانب أمام الحزن على الجانب الآخخرء هذا 
إلى ما شاع في نفسها من ثقة حين تبدّت في زينة 
أضفت على جسمها ووجهها سواء لفت إليها أنظار 


بعض النساء فلهجن بالثناء عليها ثناء ملأها أملا 
وأخلذيا عاشث با زمنا رغذدا. 

وجلس ياسين وفهمي جنا لجنب - يراوحان بين 
السمر والساع. وجلس خليل شوكت- العريس - 
ينضمّ إليهما بين ساعة وأخرى وكلّما وجد فرجة بين 
أشغال ليلته الشاقة الممتعة» وبالرغم من الحو المشبع 
بالبهجة والطرب انطوى ياسين على قلق فارتسمت في 
عينيه نظرة شرود مزمنة وراح يسائل نفسه بين حين 
وآخر ثرى هل يتاح له أن يروي ظمأه ولو بكأس أو 
بكاسين؟ لذلك مال مرّة على أذن خليل شوكت - وكان 
صديقًا للأخوين و*مس قائلا: 

- أدركني قبل أن تضيع الليلة . 

فقال له الشات وهو يغمز بعيئه مطمئئًا: 

أفردت مائدة في حجرة خاصة لأمثالك من 
الأصدقاء . 

عند ذاك اطمأنٌ باله وعاودته حيويّته للسمر 
والدعابة والسماع, لم يكن في نيته أن يسكرء ففي مثل 
هذا المكان الحافل بالأهل والمعارف يعد القليل من 
الخمر فورًا كبيرا. خاصّة وأنْ والده وإن انزوى في 
المنظرة ‏ غير بعيد ‏ فلم يكن وقوفه على أسرار حياته 
يزحزحه عن مكالته التقليديّة من نفسه., لم يزل قائا 
بحصنه الحصين من المهابة والإجلالء ولم يزل هو 
بموقف الطاعة والعبوديّة, حيّى السرّ الذي اطلع عليه 
حفية لم يفككر في البوح به لإنسان ولا لفهمي نفسه 
أقرب المقرّبين إليه, لهذا كله قنع من بادئ الأمر 
بكأس أو بكاسين يتملق ببها رغيته الجاععة: ويتهيًا بها 
لتذوّق المرح والسمر والطرب وغيرها من المسرّات التي 
لم يعد لحا عنده طعم بغير شراب. فهمي ‏ بخلاف 
ياسين ‏ لم يبد أو لم يطمئنٌ إلى أنه سيجد ريا لظمثه. 
نال لحل من حيك لا وصظل يلخن اللعروانوب 
ذهب مم العريس وياسين لاستقبالها بقلب حل فوقع 
بصره على مريم وهي تسير وراء العروس مباشرة 
ومتألقة الثغر بابتسامة تحيّة للمكان كلى لاهية 
بالزغاريد والورود عنهء وقد شف قناعها الحريريّ عن 
ديباجة وجهها الصاني؛ فتبعها نظره بقلب خافق حت 


بين القصرين ه65 
واراها باب الحريم. ثم عاد إلى مجلسه مزلزل النفس 
كأنه قارب تعرّض بغتة لإعصار بيد أله كان قبل 
رؤيتها هادئ النفس لاهيًا بشجون السمر شأن السالي 
النابى. والحق قمر به أوقات فيجد نفسه على هذه 
لين السلو والنسيان كأنْ قلبه يستجمٌ من العناء 
ولكن ما إن تخطر خطرة أو تهفو ذكرىء. أو يجري 
اسمها على لسان. أو... أو حيّى يمخفق فؤاده ألماء 
ويفرز الحسرة تلو الحسرة كالضرس المسوؤس الملتهب 
تجيء عليه فترة فيسكن ألمه حيّى إذا هرس لقمة أو 
مس جسمًا صلبًا انفجر به الألىن وهناك يقرع الحبث 
أضلعه من الداخل كأئما يروم متنفسّاء صائحًا بأعل 
صوته أنه لا زال حبيسًا لم يطلق سراحه العزاء أو 
النسيان. طلما تمق لو يعمى عها الراغبون حتى 
يستوي على قدميه رجلا حرٌ التصرّف في تقرير مصيره. 
وقرّب أمنيته كر الأيّام والأسابيع والأشهر دون أن 
يتقدّم لها خاطب, ولكنّه لم ينعم بالطمأنيئة الحقّة» وم 
يزل عرضة للقلق والخوف يتناوبانه الحين بعد الحين 
ينغصان صفوه ويكدّران أحلامه ويخلقان له ضرويًا من 
الألم والغيرة إن تكن وهمية فليست دون الواقع ‏ فيما لو 
تحققت ‏ ضراوة وقساوة, حبّى بات التمئي نفسه وتآخر 
وقوع البلاء من بواعث تَهدّد القلق واللوف وبالتالي 
الألم والغيرة فودٌ كلما اشتدٌ به العذاب أن يقم البلاء 
ليلقى نصيبه من الحزن دفعة واحدة لعلّه يعد ذلك 
يبلغ باليأس مالم يبلغ بالأماني العابئة من الراحة 
والسلام» ولكنّه لم يستسلم للشجن في مجلس طرب 
تكتنفه أنظار الأصدقاء والأقرباء؛ إلا أنه كان تلقّى من 
منظر مريم وهي تسير وراء أخته «أثرّاه لا يمكن أن 
يمضي بلا رد فعل محسوس. ولمًا لم يسعه أن يجترٌ به 
أحرانه وأن يجلو المستور من نفسه فقد استهلكه ‏ 
بطريقة عكسيّة بالإغراق في الحديث والضحك 
والتظاهر بالغبطة والسعادة, على أنه كلما خلا إلى نفسه 
ولو سلحظات شعر في أعماقه بعزلة قلبيّة عمّا حوله., 
وأدرك مع مرور الوقت أن رؤيته مريم وهي تخطر ني 
معيّة العروس قد هيجت ححبه كما تبيج ضوضاء مفاجئة 
مهمومًا ذا قابليّة للأرق» وأنّه لم ينعم على الأقل هذه 


5 بين القصرين 

الليلة - بصدر مستقرّء وأنْ شيئًا نما يدور حوله لن 
يستطيع أن ينتزع من مميّلته صورتها أو الابتسامة التي 
حيّت بها جو الاستقبال الحارٌ المشبع بالزغاريد 
والورود. ابتسامة عذبة صافية وشت بقلب خبى 
متشوّق للهدوء والسرورء ابتسامة لا يوحي رواؤها بأنه 
يمكن أن ترتسم على موضعها من الشفتين تقلّصات 
الألم؛ فهر منظرها قلبه وكاشفه بأنّه يكابد الألم منفردًا 
وحمل متاعبه وحده. ولكن آلا يقهقه هو الآن عاليّا, 
يحرّك رأسه مع الأنغام كالمنبسط الطروب؟. . . ألا 
يجوز أن يخدع الناظر بحاله ويظَنْ به ما ظنّ هو 
بها؟. .. وجد في تفكيره شيئًا من العزاء ولكن ليس 
أوكد من عزاء المصاب بالتيفود حين يسائل نفسه «ألا 
يحتمل أن أشفى كما يشفى فلان الذي أصيب به 
قبل». وما لبث أن ذكر رسالتها التى عاد بها كيال إليه 
مند أشهر وهي: قل له إِنْبا لا تدري ماذا تفعل لو 
تقدّم لها خاطب أثناء هذه المدّة الطويلة من 
الانتظار. . . وتساءل كما تساءل عشرات المرّات من 
قبل هل ثمّة عاطفة وراء هله الكليات؟. . . أجل لا 
يستطيع إنسان مها بلغ به التعنت أن يؤاخذها على 
عقل وحكمة ولكنٌ هذا نفسه ما أشعره بالعجز حياها 
وما أحنقه بالتاليى عليهاء إذ يندر أن يرضى العقل 
والحكمة طموح عاناكة لاصفت ليها ارده وعاد 
إلى الحاضرء إلى مجلس الطرب, إلى الحبٌ المائج . 
ليست رؤيته لها وحدها البى رجّته هذه الرجة العنيفة, 
فلعل ذلك لأنّه رآها لأوّل مرّةء في مكان جديد ‏ فناء 
بيت آل شوكت - بعيدًا عن داره التي لم يرها حارج 
نطاقها من قبل» كان وجودها الدائم في المقام القديم 
قد سلكها في الية العادة اليومية على حين بعث 
ظهورها المفاجئ: في المكان الجديد ‏ ذاك الظهور الذي 
خلقها في عينيه خلقًا جديدًا ‏ حياة جديدة في وجدانه. 
أيقظت الحياة الأصليّة الكامنة» ثم تعاونتا معًا على 
إحداث هذه الرجّة العنيفة. ولعلٌ ذلك أيضًا لأنّْ 
وجودها بعيدًا عن بيته وما يقترن به من تقاليد صارمة 
أقامت بينه وبينها سدًا من اليأس» وجودها في جرٌ من 


الحرية والانطلاق. وعلى حال لم يعهدها من التبرّج 
والتركة. وجودها في بيئة الزفاف وما توحي من خواطر 
الحبٌ والوصال. كل أولئك أطلقها من قمقمها إلى 
حيث يراها القلب أملا غير عسيرء وكأنما تقول له 
«انظر أين تراني الآن؛ ما هي إلا خطوة أخرى فتجدني 
بين ذراعيك» ولكن ما لبث هذا الأمل أن ارتطم 
بالواقع الشائك مسهمًا في إحداث الررجة العنيفة» ولعل 
ذلك أيضًا لأنّ رؤيتها والمكان الجديد زادتها رسوخًا في 
نفسه وتغلغلا في حياته - ونشويها في ذكرياتهء فإِنْ 
الصور تتعمّق ف أنفسنا باندماجها في محتلف الأماكن 
التي تمتدٌ إليها تجاربناء وكا اقترنت مريم قديما بسطم 
البيبت وبستان اللبلاب والياسمين وكمال وتسميع 
الكلمات الإنجليزيّة ومجلس القهوة وحديئه مع أمّه في 
حجرة المذاكرة والرسالة التي عاد بها كيال فستقترن منذ 
الليلة بالسكريّة وفناء آل شوكت ومجلس الطرب وغناء 
صابر وزفاف عائشة وغير ذلك مما يشال على سمعه 
وبصره وكافة حواسّهء ومثل هذه العمليّة. . . لا يمكن 
أن تنم دون أن تشارك في إحداث الرجّة العنيفة التي 
.. وحدث في فترة الاستراحة أن ترامى صوت 
العالة إلى يجلس الرجال من النوافذ المطلة على الفئاء 
وهي تغنيى «حبيبي غاب» فنشط إلى السماع باهتهام 
شديد وجمع حواسّه كلها في النغات؛ لا لأنّ صوت 
جليلة أعجبه ولكن لظنه أنْ مريم تنصت إليها في تلك 
اللحظة. لأنْ الجملة الغنائيّة تخاطب أذنيهها في وقت 
زالحك وكا لانن" الدف ين عل مال وا ةده 
الإنصات وربما من الإحساس, لأءْها خلقت يا موعدًا 
يلتقيان فيه بروحيهباء وحمله هذا كله على احترام 
الصوت وحبٌ النغيات كي يجتمع بها في إحساس 
واحد. وحاول طويلا أن ينفذ إلى نفسها بالرجوع إلى 
نفسه, أن يتلمس ذبذبات تأئّرها ممتابعة ذبذبات 
تأثْره ليعيش في ذاتها لحظات بلا حجاب على بعد 
المسافة وكثافة الجدران. وحاول إلى هذا أن يستخير 
الجمل الغنائيّة على آثارها في النفس المحبوبة» ماذا 
تركت في قلبها جملة وحبيبي غاب» أو وبقى له زمان ما 
بعتش جواب»»؛ ثرى هل غابت في لج 


دوخحته , 


الحتذكنهات ؟ :ا أولم تدحسر موجة منه عن 
وجهه؟. . . ألم ينقبض قلبها لشكة ألم أو لحزّة حسرة؟ 
أم لها سادرًا طوال الوقت لا يجد في النغمة إلا فرحة 
الطرب؟... وتصورها وهي هب انتباهها للنغم 
سافرة متبرّجة الحيويّة أو وثغرها يفترٌ عن ابتسامة كتلك 
التي لمحها على شفتيها عند مجيئها فآلمته لأنه توسّم فيها 
رمز السلو والنسيان» أو وهي تحادث إحدى أخنحتيه كما 
يحلو لما كثيرًا وهو ما بحسدهما عليه على حين لا تدان 
فيه الأمر الذي يدهكه لحدٌ الانزعاج إلا حديئًا عاديا 
كسائر الأحاديث التي تشتبكان فيها مم غيرها من 
فتيات اللخيران»: أجل طلما عجب لموقف أختيه منهاء لا 
لأا لا تكترثان لها فالحقٌ أنهها تحبانماء ولكن لأنم) 
تاها كبا تحبّان غيرها من فتيات الجيران كأنها مجرّد 
«فتاة» من فتيات الجيرانء وكيف تلقيائها بترحيب 
عاد دون أن يضطرب لما نفس كنا يلقى هو فتاة 
عابرة أو أيّا من أقرانه طلبة مدرسة الحقوق» وكيفف 
تتحدّثان عنها فتقولان «مريم قالت أو مريم فعلت؛ 
وتنطقان بالاسم كبا تنطقان بأيَّ اسم... أم حنفي 
ملا كأنّه ليس الاسم الذي لم ينطق به على مسمع من 
غيره إلا مرّة أو مرّتين وهو بعجب لموقعه من أذنه أو 
كآنه لينل الاشم الذي لا ينطق به في وحدته إلا كما 
ينطق بالأسماء المبجلة المنقوشة في خياله بتهاويل 
الأحلام التي لا ينطق بأحدها حيّى يردف «رضي الله 
عنه؛ أو «عليه السلام». . . وكيف إذن عطل الاسم 
بل الشخص نفسه ‏ عندهما من سحره وقدسيته؟! 
وعننما انتهث جليلة من الأغنية تعالى الحتافف 
والتصفيق فركز فيه انتباهه باهتام لم تَحَظ الأغنية نفسها 
بمثله لأنْ حنجرة مريم ويديها اشتركت فيه وتمئى لو 
كان بوسعه أن يميّز صوتها من تلك الأصوات وأن يفرز 
تصفيقها من ذلك التصفيق ولكن لم يكن ذلك بأسهل 
من تمييز صوت موجة بالذات من هدير الأمواج 
المتنلاطمة على الشاطيء. على أنه وهب حبّه للهتاف 
كله وللتصفيق كله بلا تمبيز كالأمٌ التي يترامى إلى 
سمعها أصوات التلاميذ من المدرسة التي يتبعها ابنها 
فتدعو لهم جميعًا بالبركة والسلامة . 


بين القصرين /اه؛ 

لم يكن أشبه بفهمي في عزلته الباطنية - وإ 
اختلفت الأسباب ‏ من أبيه الذي لزم المنظرة بين نفر 
من خاصّة خلانه. حيّى الأصدقاء الذين لم يطبقوا 
التوقرء والغناء يجلجل في الخارج. انفضّوا من حوله 
وتفرقوا بين المستمعين يطربون ويلهون. فلم يب معه 
إلا النفر الذين بحلسه أحبّ إليهم من اللهو نفسه 
فلبئوا حميعًا في رزائة غير معهودة كأنما يؤدون واجبًا أو 
يشهدون مأقماء هذا ما قدّروه من قبل حين دعاهم 
السيّد إلى ليلة الزفاف». لما خبروه من طبيعته المزدوجة 
التي عرف بجانب منها بين أصدقائه وبالجانب الآخر 
بين آل بيتهء ولم يفتهم وجه من وجوه التناقض بين 
مجلسهم الوقور هذا الذي يحتفلون فيه «بليلة زفاف» 
وبين مجالسهم المسائية المعربدة التي لا يحتفلون فيها 
بشىء! وما عتّموا أن جعلوا من توقرهم موضوتًا 
للمراح الخفيف المحادئ ف إن علا صوت السيّد عفت 
مرّة وهو يضحك حبّى بادره السيّد الفار واضِعًا سبابته 
على شفتيه كأنما يأمره بعخفض صوته وهمس في أذنه 
محذّرًا زاجرًا: نحن في فرح يا رجل!... ومرّة أحرى 
وكان الصمت قد غلبهم مليًا فإذا بالسيّد عل يقب 
عينيه في وجوههم ثم يقول رافعًا يده إلى رأسه 
كالشاكر: وشكر الله سعيكم» وعند ذاك دعاهم السيد 
إلى اللحاق بصحبه في الخارج ومشاركتهم وهم ولْكنّ 
السيّد عفت خاطبه بلهجة تلم عن شديد العتاب 
قائلا: نتركك في مثشل هله الليلة؟! وهل يعرف 
الصديق إلا عند الضيق؟! فيا تمالك السيّد أن ضحك 
قائلً: ما هي إلا عدّة ليالي زفاف أنحرى حيّى يتوب 
الله علينا حميعًا. . . على أنْ ليلة الزفاف تضمّنت في 
نظر السيّد أحمد معاني أخخرى غير التوقر الإجباري في 
مجلس أنس وطربء معاني تخصّه وحده كاب ذي 
طبيعة رقت المألوف من الطبائع» فلم يزل يجد لفكرة 
زواج كريمته إحساسًا غريبًا لا يرتاح إليه وإن لم يقره 
عقله أو دينه. لا يعني هذا أنه ود آلا تتزوّج كريمتاهى 
فالحقٌ أنه كسائر الآباء جميعًا رجا الستر لفتاتيهء ولكن 
لعلّه تَنى كثيرًا لو لم يكن الزواج الوسيلة الوحيدة لهذا 
«الستره ولعلّه تمَيّى لو كان الله قد خلق البنات على 


هة: بين القتصرين 


طبيعة لا تَحنّم الزواج. أو لعله تمئى في الأقل لولم يكن 
أنجب إنانًا قظ. أمًا وتلك أمان لم تتحقّق ولا سبيل 
إلى تحقيقها فلم يكن بد من أن يرجو الزواج لفتاتيه 
ولوك برجو الاتسان: اخيناالبأسه موروقاء مره 
ميتة شريفة أو ميتة مريحة! طلما أفصح عن نفوره هذا 
بسبل متباينة سواء عن شعور أو لا شعورء فربما حلّث 
بعض -خلصائه قائلا: «تسألني عن إنجاب الإناث؟ إِنْه 
شر لا حيلة لنا فيه ولكن الشكر إلى الله واجب على 
أي حال. لا يعنى هذا أني لا أحبّ ابن فالحقٌ أني 
أحبهها كا أحبٌ ياسين وفهمي وكمال سواء بسواء 
ولكن كيف يطمئنٌ خاطري وأنا أعلم بأني سأحملهما 
يومًا إلى رجل غريب مها يبدو لي من مظاهر فالله 
وحده المظلع على باطنه؟. . . ما حيلة البنت الضعيفة 
حيال رجل غريب وهي بعيدة عن رعاية أبيها؟. . . 
وكيف يكون مصيرها لو طلّقها يومًا وقد ماث أبوها 
فلجاث إلى بيت أخيها لتعيش عيشة المنبوذين؟! لست 
أخاف على أحد من أبنائي لأنه مهما يحدث لأيّهم من 
أمر فهو رجل قادر على أن يواجه الحياقق أمّا 
الك .: لله احفظنا!؛ أو يقول فييا يشبه 
الصراحة: «البنت مشكلة حمًا. .. ألا ترى أنَا لا 
تألوا أن نؤدْيها ونذّمبا ونحفظها ونصوهها؟. . . ولكن 
ألا ترى أنا بعد هذا كله نحملها بانفسنا إلى رجل 
غريب ليفعل بها ما يشاء. . . الحمد لله الذي لا يحمد 
على مكروه سواه. . .» وتسم هذا الإحساس القلق 
الغريب في النظرة الانتقاديّة التى والى بها خليل شوكت 
«العريس» نظرة متعسفة عيابة أبت أن ترجم قبل أن 
تظفر بعيب يرضي تعنتها. كأنه ليس من آل شوكت 
الذين ألْفت بينه وبيهم أسباب المودّة والولاء من قديم 
الزمان. أو كأنه ليس الشابٌ الذي شهد له كل من 
رآه بالرجولة والجمال والوجاهة, لم يسعه أن ينكر مزيّة 
من مزاياه ولكنه وقف طويلا عند وجهه الريّان ونظرة 
عينيه الادئة الثقيلة الموحية بالكسل فطاب له أن 
يستدل بها على ما تركه الفراغ في حياته من حيوانية 
قائلا لنفسه «ما هو إلا ثور يعيش ليأكل وينام!» لم يكن 
اعترافه بمزاياه أوَلا ثمّ فحصه عن أيّ عيب ليلصقه به 


أخيرًا إلا منطمًا عاطفيًا يعكس ما يكمن في نفسه من 
رغبة في تزويج الفتاة ونفوره من فكرة الزواج. 
فالاعتراف مهد إلى تحقيق الزواج والفحص عن 
العيوب نفس عن العاطفة العدائيّة» كمدمن الأفيون 
الذي تستذلّه لذته وترعبه خطورته فينشده بكلٌ سبيل 
وهو يلعنه» بيد أنه تناسبى مشاعره الغريبة وهو بين 
أصدقائه الحميمين يتسل بالحديث حيئًا وبالساع حيئًا 
آخرء ففتح صدره للرضى والغبطة ودعا لفتاته 
بالسعادة والحياة المطمئثة, حيّى نظرته الانتقادية لخليل 
شوكت استحالت إحساسًا ساخرًا غير مشوب بالحنق . 

وعندما دعي المدعوون إلى الموائد افترق فهمي 
وياسن لأوّل هرّة فقاد خليل شوكت الأخير إلى المائدة 
الخاضّة حيث بذل الشراب بغير حساب ولكنّ ياسين 
بدا حذرًا مقدّرًا للعواقب فأعلن قناعته بكاسين وقاوم 
بشجاعة ‏ أو بجبن ‏ تبّار الشراب المتدفق حي إذا ما 
لسعته النشوة فهيّجت ذكرياته عن لذَّة النشوات 
ووهنت إرادته فرغب في الاستزادة من النشوة إلى القدر 
الذي لا يخرجه عن حدود الأمان فتناول كأسًا ثالثة ثم 
فرّ بنفسه عن المائدة إلا أنّه ‏ على سبيل الاحتياط أو 
لأنّه لم يزل عيئًا في الدئة وعيئا في النار- أخنفى زجاجة 
تملوءة حثّى النصف في مكان حفيّ للرجوع إليها عند 
الضرورة القصوىء, وعادوا إلى مجلسهم بأرواح جديدة 
راقصة انطلق منها إلى الجرٌ المحيط مرور ممرّر من 
القيود. . , 
وفي الحريم كان السكر قد بلغ بالعالمة جليلة حدٌ 
السلطنة. وإذا بها تقلّب عيئيها في وجوه المدعوّات 
وتتساءل : 

من منكنْ حرم السيد أحمد عبد الحواد؟ 

فجذب تساؤها الأنظار وأثار اهتمامًا شاملا حي 
غلب الحياء أميئة فلم تنبس بكلمة وجعلت محملق في 
وجه العالمة بحيرة وإنكار» وليّا أعادت العالمة السؤال 
تطوؤعت حرم المرحوم شوكت بالإشارة إلى أمينة وهي 
تقول : 

ها هي حرم السيّد أحمد ففيمٌ يا ثرى التساؤل؟ 

فتفخصتها العامة بعينين ثاقبتين ثم أطلقت ضحكة 


رثانة وقالت بلهجة تنم عن الرضى : 
ى عستا وححق بيت الله إن ذوق اللسيد ا 


يجارى . . . 
وبدت أمينة كالعذراء في حيائهاء بيد أنْ الحياء لم 
يكن كلّ ما تعانيه,» ساءلت نفسها في حيرة وانزعاج 
عا يعنيه حديث العالمة عن حرم والسيد أحمد عبد 
الجواد» وعن إطرائها ذوق السيّد بلهجة لا يدعيها 
لنفسه إلا الخبير به» وشاركتها شعورها عائشة وخخديجة 
التي ردّدت عينيها بين العالمة وبين بعض الفتيات من 
صديقاتها كأئما تسائلهنٌ رأسِنّ في «هذه المرأة 
السكيرة؛. ولكنّ جليلة لم تأبه لما أثاره كلامها من 
انزعاح فحوّلت عينيها إلى العروس وتفخصتها كما 
تفخصت أمّها من قبل ثم أرعشت حاجبيها وهي تقول 
بإعجاب : 

- قمر ورسول اللهء أنت بنت أبيك حقّاء ومن ير 
هاتين العينين يذكر من توه عينيه... (ثُم 
مقهقهة).. . أراكنّ تتساءلن من أين هذه المرأة معرفة 
السيّد أحمد؟!... إن أعرفه من قبل أن تعرفه زوجه 
نفسهاء إِنّْه ربيب حيّنا وقرين صبايء وكان والدانا 
صديقين, أم تحسبين العالمةءلا أب لما؟... كان أب 
شيخ كتّاب من أهل البّركة... ما رأيك يا زينة 
السّاتث؟ !. . . 

وجّهت السؤال الأخير إلى أمينة فدفعها الخوف وما 
طبعت عليه من لين وتودّد إلى أن تجيبها6 وهي تقاوم 
ما ركبها من ارتباك ‏ قائلة : 

رحمه اللهء كلّنا أبناء حواء وآدم . 

فجعلت جليلة تحرّك رأسها يمنة ويسرة وهي تضيق 
عينيها كأنمًا بلغ تأثرها بالذكرى وموعظتها خبايته. أو 
لعل رأسها السكران وجد في هذه الحركة رياضة الت 
مها ثم استطردت قائلة : 

وكان رجلا غيورًاء ولكثئى نشأت بفطرتي لعوبًا لا 
أبالي كأنما رضعت الغنج في المهد. كنت أضحك 
الضحكة في الدور الأعلى فتضطرب لما جوانح الرجال 
في الشارع» فا يبلغه صو حيّى ينبال عل ضربا 
وبرميني بشرٌ الصفات» ولكن ما حيلة التأديب فيمن 


بين القصرين 161 


قدّرت عليها فنون العشق والطرب والدلال؟!... 
ضاع التأديب هباءء ومضى الرجل إلى الجنة ونعيمها. 
وقُضى عل بأن أتحذ مما رماني به من شر الصفات 
شعارًا لي في الحياة. . . هي الذنيا. . . ربنا يطعمكن 
خيرها ويكفيكنٌ شرّها... ولا حرمنا الله جميعًا من 
الرجال سواء في الحلال أو في الحرام . . . 

وعزف الضحك في جنبات الحجرة حتّى غطى على 
تأوّهات الدهش التي ندّت هنا وهناك؛ ولعل ما 
استثاره قبل أ شيء آشير هو وجه التناقض بين الدعاء 
الإباحي الأخير وبين ما سبقه من عبارات توحي - في 
ظاهرها على الأقلٌ _ بالجحدٌ والتأمّى» أو بين ما تقنعت 
به المرأة من ستار الح والرزانة وما جهرت به أخيرًا 
من مزاح مكشوفء حتّى أمينة نفسها ‏ وعلى رغم 
ارتباكها ‏ ما تمالكت أن ايتسمث وإن نكست وبجهها 
لتواري ابتسامتهاء على أنْ النساء كن يستجبن- في 
مثل هذا المجلس ‏ لدعابات مهرجات العوالم ويرحبن 
بمزاحهنٌ وإن خدش الحياء أحيانًا كأتما ينفسن به على 
طول تزمتهنّْ. وواصلت العالة السكرانة حديثها 
قائلة : 

وكان جعل الله الجنّة مثواه سليم الطويّة. وآي 
ذلك أنه جاءني يومًا برجل طيّبٍ مثله وأراد أن يزوجني 
منه (وكركرت ضاحكة). . . أيّ زواج يا عمر؟! وماذا 
بقى للزوج بعد ما كان مما كان!... وقلت لنفسي 
انفضحت يا جليلة وواقعتك كحل, . , 

وأمسكت مليًا لتستزيد من التشويق» أو لتتمتّع أكثر 
بصمت الانتباه المركّز فيها الذي لا تحظى بمثله حين 
الغناء نفسهع لم عادت تقول: 

- ولكنّ الله سلّم فأدركتني النجاة قبل الفضيحة 
المتوقعة بأيّام إذ هربت مع المرحوم حسّونة البغل تاجر 
المنزول» وكان للمرحوم أ عواد عند العامة نيرك 
نعلّمني العود. ثم طاب له صوتي فعلمني الغنا 
رامل ولاق حل افق إل قف نيرك الى جلات 
تحلها بعد وفاتباء ومارست الغناء دهرًا عرفت فيه من 
العشّاق مائة و... (وقطبت وهي تتذكر بقيّة العدد ثم 
التفتت إلى الدفافة وسآلتها) وكم يا فينو؟ 


بين القصرين 

فبادرتها الدفافة قائلة : 

- وخمسة في عين من لم يصلّ على النبئ. . . 

وتعالى الضحك مرّة أخرى فجعلت بعضص 
المشغوفات بالحديث يسكتن الضاحكات ليصفو الحو 
للعالمة ولكنها نمضت بغتة واتمهت نحو باب الحجرة 
غير ملقية بالا إلى اللاتي تساءلن عن وجهتها دون أن 
يحظين بجواب» ولكنٌ أحدًا لم يلح عليها في السؤال لا 
اشتهرت به عند الناس من أنْها صاحية نزوة إذا نادتها 
لبت دون مراجعة. وهبطت اليل إلى باب الحريم ثم 
مرقت منه إلى فناء الدارء ولمًا جذب ظهورها المفاجئ 
بعض الأنظار القريبة تلبت بمكانها لتتيح لنفسها أن 
ترى من الجميع فتستمتع بما يحدثه منظرها فيهم من 
اهتمام طمعت في أن تتحذى به صابرًا وهو في ذروة 
التطريبء وتحقّقت رغبتها إذ سرت عدوى الالتفات 
نحوها ‏ كالتثاؤب - من فرد إلى فرد وترذد اسمها على 
الألسن» ثم شعر صابر نفسه ‏ رغم انبماكه في الغناء ‏ 
بالفجوة الفجائيّة التي فصلت بيئه وبين حجمهوره فمدٌ 
بصره إلى الهدف الذي استشرفته الأعين حيّى استقر 
على العالمة وهي تنظر إليه من بعيد برأس مائل إلى 
الوراء من سلطنة السكر والخيلاء فاضطرٌ إلى الإمساك 
عن الغناء وأشار إلى تخته فتوقف عن العزف. ثم رفع 
يديه إلى رأسه تحيّة لما!. . . كان صابر خميرًا بنزوات 
جليلة - وعلى خلاف الكثيرين ‏ عال) بطيبة قلبهاء 
ومقذُرًا في الوقت نفسه لخطر معالدتهاء فأظهر ها 
التودّد بلا تحفظ. ونجحت حيلته فانطلقت أسارير 
المرأة بالبشر وهتفت به «واصل غناءك يا سى صابر فيا 
جئت إلا لسماعه» فصمّق المدعوون وعادوا إلى صابر 
مهلّلين على حين اقترب منها إبراهيم شوكت شقيق 
العريس الأكبر وسأها بلطف عن حاجتها فذكرت 
بسؤاله السبب الحقيقيّ الذي دعاها إلى المجيء وسألته 
بدورها بصصوت ترامى إلى الكثيرين ومنهم - وهو 
الأهم . ياسين وفهمي : 

- ما لي لا أرى السيّد أحمد عبد الحواد؟!. .. أين 
يختبئ الرجل؟ 

فأخذ إبراهيم شوكت بيدها وسار بها إلى المنظرة 


باسرّاء على حين تبادل فهمي وياسين نظرة ملت دهسًا 
واستغرابا وشيعاهما بعينين متسائلتين حتّى واراهما 
الباب» ولم يكن السيّد دون ابنيه دهشا لدى رؤيتها 
مقبلة نحوه تخطر فحدجها بنظرة الزعاج وتساؤل بينما 
جليلة الجتميع بنظرة عابرة قائلة : 

ب مساع الأنس يا رجال. . . 

وركزت عينيها في السيّد فيا تمالكت أن أغربت في 
الضحك وهي تتساءل ساخرة : 

هل أخحافك مجيئي يا سيد أحمد؟! 

فأشار السيّد إلى الخارج محَذَّرًا وهو يقول لما جادًا : 

- اعقل يا جليلة؛ ماذا حملك على المجيء إلى هنا 
تحت أنظار الناس حميعًا؟ ! 

فقالت كالمعتذرة وإن لم تزايلها بسمة ساخرة: 

- عزّ عل ألا أهئتك على زواج كريمتك! . . . 

فقال السيّد في ضيق : 

- لك الشكر يا سيّى» ولكن أما فككرت فيا يثيره 
مجيئك لدى من يشهده من ظنون؟ 

فضربت جليلة كفا بكفت وقالت فيا يشبه العتاب : 

هذا أحسن ما عندك لى من استقبال!. . . (ثم 
موبجهة الخقطاب إلى صحبه). . . أشهدكم يا رجال 
على الرجل الذي لم يكن يتل صدره حيّى يغرز فردة 
شاربه في سرّق» انظروا إليه كيف لا يطيق الآن 
رؤيتي.0.. 
فلوّح السيّد لها بيده كأئما يقول لها ولا تزيدي الطين 
بلة8:وقاله بريجاء: 

علم الله ما بي استياء لرؤيتك ولكنّه الحرج كما 
ام 
هنا قال السيّد عل كأنمًا ليذكّرها بما لا ينبغى لما أن 
تتنناة:* 

- لقد عشتما حبيبين وافترقتها صديقين» وليس بينكما 
ثأرء ولكنّ أهله فوق وأبناءه في الخارج. . . 

فقالت متادية في إغاظة السيّد؛ 

- لماذا تتظاهر بالتقوى بين أهلك وأنت بركة فسق! 

فرماها بنظرة احتجاج قائلا : 


جليلة . . . !. . . لا حول ولا قوّة إلا بالله . 

جليلة أم زبيدة يا ول الله؟ ! 

حسّبي الله ونعم الوكيل. . 

فأرعشتث له حاجبيها كما أرعشتهها لعائشة من قبل 
ولكن على سبيل التهكم لا الإعجاب هذه المرّة وقالت 
بصوت هادئ جاد كالقاضي ينطق بالحكم : 

- سيّان عندي أن تعشق زبيدة أم غيرها من النساء 
ولكن يؤسفني ورأس أمي أن تتمرّغ في التراب بعد أن 
غرقت حيّى أذنيك( مشيرة إلى نفسها) في القشدة. . . 

عند ذاك نمض السيّد محمد عمّت ‏ وكان من أقرب 
المقربين إليها ‏ وقد خحاف أن يتادى مها السكر إلى ما 
لا تحمد عقباه فتناول يدها وجذبها برفق صوب الباب 
هامسًا في أذنبا : 

حلفتك بالحسين إلا ما رجعت إلى مستمعاتك 
المنتظرات على نأر. . . 

فطاوعته بعد ممائعة ولكنها التفتت نحو السيّد وهي 
تبتعد رويدًا وقالت: 

لا تنس أن تبلغ تميّاتقٍ إلى القارحة؛ ونصيحتي 
إليك ‏ بحقّ الأخوّة ‏ أن تغتسل بعدها بالكحول لأنّ 
عرقها مصاص للدماء. 

شيّعها السيّد بنظرة ساحطة وهو يلعن الحظ الذي 
قفى بأن ينكشف أمام كشيرين خاصّة أهله ‏ تمن 
عرفوه مثالا للجدّ والرزانة» أجل لم يزل ثمّة أمل في 
ألا يبلغ الحادث أحدًا من آله ولكنّه أمل ضعيف. ولم 
يزل ثمّة رجاء في ألا يفهموه إذا بلغهم ‏ بما طبعوا عليه 
من براءة ‏ على حقيقته ولكنّه رجاء غير مضمون لأكثر 
من سبب بيد أنه على أسوأ الفروض لا يحق له أن 
يمع لأنّ خضوعهم له من ناحية وسيطرته عليهم من 
ناحية أخرى أثبت من أن يزعزعهما مزعزع ولا هذه 
الفضيحة نفسهاء وفضلا عن هذا فإِنْ احتمال انكشاف 
أمره لدى أنحد من أبنائه أو لديهم جميعًا لم يكن عنده 
يومًا بالفرض المستحيل» ولكنّه لم يقلق لذاك أكثر مما 
ينبغي2 لثقته بقوته» ولأله لم يعتمد في تربيتهم على 
القدوة والإقناع فيخاف انحرافهم عن الحادّة تبعا لما قد 
يظهر لهم من انحرافه عنباء ولأنّه استبعد أن يطلعوا 


بين القصرين 45١‏ 


على شيء من أمره قبل أن يبلغوا أشدّهم أي حين لا 
ببمّه كثيرًا أن ينكشف لهم سر ولكنٌ شيئًا من هذا لم 
يستطع أن يلقلف من أسفه على ما وقع. حمًا لم يَخْلُ 
من سرور ومن ثيه -جنسي ؛ إذ أن مميء امرأة كجليلة 
بنفسها إلى مجلسه لتهئّىه أو لتعابشه أو حت لتتهكم 
بعشقه الجحديد «حادث» له مغزاه الام في الأوساط التي 
تشهد لياليه. وظاهرة طا دلالتها البعيدة لرجل مثله لا 
يعدل بالهوى والطرب والأنس شيا ولكن كم كانت 
تكون سعادته صافية لو وقع الحادث الجميل بعيدًا عن 
هذه البيئة العائلية ! 

أما باسين وفهمي فلم تنحؤل عيناهما عن باب 
المنظرة منذ ولخته جليلة حتى خرجت منه مصحوية 
بالسيّد محمّد عفت. دهش فهمي دهشة بكرًا دار لها 
رأسه كياسين حين سمع زثوبة وهي تجيبه قائلة: «إِنّه 
من حيّنا ولا بد أنك تسمع عنه. . . السيّد أحمد عبد 
الجواد...4؛ على حين ركب ياسين حبٌ استطلاع 
هم فأدرك ‏ في سعادة ‏ أيقظت في قلبه نشوة الإعيجات 
والمشاركة الوجدانية التى شعر بها نحو أبيه في حجرة 
لوطه ادن نهار أخرى في حياة أبيه التى بات 
يؤمن بأئّْها سلسلة ذهبيّة من المغامرات, وأنّ الرجل 
فاق كل ما تصوّره خياله عنهء ولبث فهمىي يأمل 
ويرجو أن يعلم بين حين وآخر بان العالمة نما أرادت 
مقابلة والده لسبب أو لآخر يتعلق بدعوتها إلى إحياء 
فرح عائشة حي جاء خليل شوكت وأشبرهما ضاحكا 
أن جليلة «تداعب السيّد» وبأئها «تتودّد إليه تودّد 
الصديق للصديق» وعند ذاك لم يطق ياسين صبرًا على 
كتمان ما عنده من سي ووثبت نشوة الشراب به إلى 
الإدلاء بمعلوماته فانتظر حبّى غادر خليل م مال على 
أذن أخيه قائلا وهو يغالب ضحكه «كتمت عنك أشياء 
تحرجت من البوح بها في حينهاء أمًا وقد رأيت ما 
رأيت وسمعت ما سمعت فسأبوح لك بها؛ ومضى 
بيقصٌّ عليه ما سمع وما رأى في بيت زبيدة العالمة, 
وفهمي يقاطعه من آونة لأخرى قائلا في ذهول «لا تقل 
هذا...» وهل فقدت وعيك4) «كيف تريدني على أن 
أصدّقك» حيّ أى الشابٌ على قصّته بكل تفاصيلها. 


5 بين القصرين 
لم يكن فهمي» بما نشأ عليه من عقيدة ومثالية» على 
استعداد لفهم ‏ بله هضم ‏ السيرة الخفيّة التي تنكشف 
له لأوّل مرّة خاصّة وأنْ والده نفسه كان من أركان 
عقيدته ودعائم مثاليّته» ولعل ثمّة وجهًا من التشابه 
بين شعوره وهو يعانى هذا الكشف لأول وهلة وبين 
شعور الجنين ‏ إن صدق الخيال ‏ وهو ينتقل من مستقر 
الرحم إلى مضطرب الحياة» ولعله لو كان قيل له إِنْ 
جامع قلاوون انعكس وضعه فصارت المئذنة أسفل 
بنائه والضريح عاليهء أو كان قيل له إِنْ محمد فريد 
خان رسالة مصطفى كامل وباع نفسه للإنجليز لما كان 
هذا أو ذاك بأدعى إلى إنكاره وانزعاجه. «أبي يذهب 
إلى بيت زبيدة ليشرب ويغى ويضرب الدف!. . . أبي 
يذعن لمداعبة جليلة وتودّدها!. . . أبي يقترف السكر 
والزناء كيف اجتمعت الثلاث! . . . إذن هو غير الأب 
الذي عرفته في البيت مثالا للورع والقوّة!. .. أيْبما 
الصحيح؟... كأني أسمعه الآن وهو يردد: الله 
أكير. . . الله أكبر. فكيف ترديده للغناء!... حياة 
تايل ورياء! ولكنّه صادق. صادق إذا رفع رأسه 
للدعاء. صادق إذا غضصب... أيكون أبي رديلة أم 
كن النمنى افعييلة 4 

ذهلت؟! . . . ذهلث أنا أيضًا عندما نطقت زنوبة 
باسمهء ولكن سرعان ما استسخفت نفسى وسألتها 
ماذا عليه من هذا؟!... كفرا هكذا اسان كياد 
هكذا يجب أن يكونوا. . . 

«هذا القول جدير بياسين حمًا... ياسين شيء 
وأي شىء أخمر... ياسين!... ما ياسين!؟. . . 
رلك كنت هن نل اق ازقة اذا الان رايع اك اتلس 
لا يختلف عنه في شيء إن لم يَقْقه تدهورًا. . . كلا 
لبس تدهورًا... ثمة أمر أجهله. .. أبي لا 
يبخطئ . . . غير قابل للخطا. فوق الشبهات. . . وعلى 
أيّ حال فوق الاحتقار. 

ما زلت ذاهلة؟ | 

لا أتصوّر شيئًا ما قلت! 

- لماذا؟. .. اضحك وافهم الدنياء يغ وماذا في 
الغناء من عيب؟ ويسكر وصذقني أنْ السكر أل مرن 


الأكل. ويعشق والعشق كان ملهاة الخلفاء. اقرأ ديوان 
الحماسة والأخبار التي بهامشه. ليس على أبينا حرج. 
اهتف معي ليحي السيّد أحمد عبد الجوادى ليحي 
افونا بات قله مفظة رويف]: أرووي هلم المجاتية ب 
الزجاجة التي أخفيتها تحت الكرسئ. 

بعودة العاللة إلى التخت شاع ف الحريم نبأ مقابلتها 
للسيّد أحمد عبد الجحواد فانتقل من لسان إلى لسان حي 
تناهى إلى الأمّ وخديجة وعائشة ومع أَحْمنْ كنْ يسمعن 
شيئًا كهذا لأوّل مرّة إلا أنّْ سيّدات كثيرات ‏ من بين 
بعولحنّ وبين السيّد سبب من أسباب المودة - تلقّين النبا 
في غير ما دهش وغمزن بأعينبنٌ باسمات شأن الذي 
يعرف أكثر مما يقال» ولكن واحدة منبنٌ لم تسوّل للا 
نفسها النوض في الموضوع إِمّا لأنْ النوض فيه جهارًا 
أمر لا يجمل بن أمام كريماتبنَ وإِمًا لأنْ دواعي 
المجاملة أملت عليهنّ بأن يمسكن عنه حيال أمينة 
وكريمتيهاء غير أن حرم المرحوم شوكت قالت لأمينة 
مداعبة وحذار يا أمينة هانم فالظاهر أنْ عين جليلة 
زاغت إلى السيّد أحمد!» فابتسمت أمينة متظاهرة بعدم 
الاكتراث ودم الحياء والارتباك يخضب وجههاء لأؤل 
مرّة تلمس دليلًا محسوسًا على ما قام بنفسها قديما من 
شكوك. ومع أنّْها ألفت الصبر والتسليم بما قدّر عليها 
إلا أنّ ارتطامها بدليل محسوس حرٌ في قلبها فأحسّت 
عذابًا لا عهد لما به وجرحًا داميًا في صميم كبريائها. 
وأرادت امرأة أن تعلق على قول حرم المرحوم شوكت 
بكلمة مجاملة تليق بِأمّ العروس فقالت «من يكن له 
وجه كوجه سثْ أمْ فهمي قسامة فلا يحقٌ لها أن تخشى 
زيغان عين زوجها إلى امرأة أحرى!» فاهترت جوانحها 
للثناء وعاودتها ابتسامتها الحييّة ووجدت ‏ على أي 
حال بعض العزاء عرّا تعانيه من ألم صامتء إلا أنه 
لما بدأت جليلة أغنية جديدة فملأ صوتها مسمعيها ثار 
بها غضب مفاجئ وشعرت ثواني بأن زمام نفسها 
سيفلت من قبضتها ولكنّبا سرعان ما كظمته بقوّة 
خليقة بامرأة لم تعترف لنفسها قط بحقّ الغضب. هذا 
على حين تلقّت خديجة وعائشة النبأ بدهش فتبادلتا 
نظرة حائرة وتساءلتا بعينيهها عا يعنيه الأمر كله بيد 


أن دهشها لم يقترن بانزعاج ىا حدث لفهمي ولا بام 
كي عدف لأنياء ولعلهنا وجدنا في قيام امرأة كجليلة 
من تختها وتكبّدها مشمّة النزول إلى مجلس أبيها لتحيته 
وحادثته شيئًا مثيرًا للإعجاب حقّاء ثم شعرت شخديهة 
برغبة غريزيّة في استطلاع وجه أمها فاسترقت إليها 
النظر ومع أمْها رأتها تبتسم إلا أتها تكابد ألما وارتباكًا 
ينغُصان عليها صفوها وأحسّت بضيق وما لبئت أن 
حنقت على العالمة وحرم المرحوم شوكت والمجلس 
كله . 

ولبَا أزفت ساعة الزفة نسي كل همّه. أسابيع 
مضت فشهور وصورة عائئة في ثوب الزفاف لا تبرح 
الأذهان . 

دادعإو 

بدت الغوريّة متلفعة بالظلام والصمت حينم 
غادرت الأسرة بيت العروس عائدة إلى النحاسين. 
سار السيّد أحمد في المقدّمة وحدهء وتبعه على بعد أمتار 
فهمي وياسين الذي أفرغ ما في وسعه كما يتالك نفسه 
ويتحكم في مشيته أن يخونه وعيه الزائغ من فرط 
الشراب» ثم جاءت في المؤخرة أميئة وحديجة وكمال 
وأَمّ -حنفي » انضع كال إلى القافلة على رغمه فلولا 
الحادي الذي يتقدّمها لوجد سبيلا إلى عصيان يد 
والدته وانقلب راجعًا إلى حيث غادروا عائشة. وجعل 
هذا يتلقّتِ بين خطوة وأخرى صوب بوّابة المتولي 
ليودّع أسيقًا حزونًا آخر ما لاح من مظاهر الفرح, 
ذلك المصباح المضيء الذي رقي عامل في سلم خشبي 
إليه ليقتلعه من مربطه فوق مدخخل السكريّةء لشدٌ ما 
يقطم قلبه أن ينظر إلى أسرته فيجدها قد تلت عن 
أحبٌّ أفرادها إليه بعد أمّهء ورفع بصره إلى والدته 
وشاط] :قاضنا: 

- متى تعود أبلة عائشة إلينا؟ 

فأجابته بمثل صوته : 

لا تكزر هذا وادع لها بالسعادة» ستزورنا كثيرًا 
ونرورها كثيرا. 

فهمس مرّة أخرى محلقًا: 


- ضحكتم عل ! 


بين القصرين 5517 


فأشارت بيدها إلى الأمام: في الجاه السيّد الذي 
كادت تيتلعه الظلمة «(هس». ولكنّه كان معلا 
باستحضار صور مما مر به في بيت العرس إلى مخيلته. 
رأى أنْها متناهية في غرابتها وفيما بعئه في نفسه من حيرة 
فجذب يدها إليه ليبتعد مها عن خديجة وأمْ حنفي ثم 
همس متسائلًا وهو يشير إلى الوراء : 

أما علمت بما يدور هنالك؟ 

هاذا تقصد؟ 

نظرت من ثقب الباب . 
فانقيض قلب الأمّ جزعًا لأنْها حدست أيّ باب يعني 
ولكمّها سألته مكذبة نفسها: 

أيّ باب؟ 

باب غرفة العروس! 

فقالت المرأة بانزعاج : 

يا له من عيب أن ينظر الإنسان من ثقوب 
الأبواب! 

فهمس من فوره : 

ما رأيته أعيب! 

و 

- رأيت أبلة عائشة وسى خليل يجلسان على 
الشيزلتج . .. وهو. . . 

فلكزته في كتفه بشدّة حبّى أمسك ثم همست في 
أذنه : 

يجب أن تخجل مما تقول؛ لو سمعك أبوك 

ولكنّه قال بإصرار وبلهجة من يشعر بأنه يكشف لها 
عن حقيقة لا يمكن أن تتصور هي وقوعها: 

كان يتناول ذقنها بيده ويقبّلها. 

ولكزته مرّة أخرى بقسوة لم يعهدها من قبل فادرك 
أنّه أخطا حمًا وهو لا يدري وسكت خائقاء ولكنه 
عندما كانا يقطعان فناء البيت المظلم متأخرين عن بقية 
الأسرة ‏ وقد تخلّفت عنها أمّ حنفي لتسك الباب 
وتضبّبه وتترّسه ‏ ألس عليه ما يكابد من حيرة ورغبة في 
الاستطلاع فخرج من صمته وخوفه وسأها برجاء : 

لماذا يقبّلها يا نيئة؟ ! 


فقالت له بحرم . 
إذا عدت إلى هذا أخرت والدك! 


١ 

آوى ياسين إلى حجرة النوم وهو على حال من 
السكر شديدة؛ ما كاد يخلو إلى فهمي ويأمن الرقباء - 
سرعان ما غط كال في نومه عقب وضع رأسه عل 
المخدّة مباشرة ‏ حيّى حمحت به رغبة في العربدة كرد 
فعل للجهد العصبئ الذي بذله طوال السهرة» خاضة 
في طريق العودة؛ كيم| يضبط نفسه ويسيطر على 
سلوكه. ولكنّه وجد الحجرة أضيق من أن تتسع 
لعربدته فال إلى التنفيس عن صدره بالكلام فنظر نحو 
فهمي وهو ينزع ملابسه وقال ساخحرا : 

د قاوة ون عيضا «ويرة يراقة” أيكا] بريد سحن له 
لرجل . . 

وعلى رغي ما حرّك هذا الكلام من ألم فهمي 
وحيرته إلا أنّه قلع بأن يقول وهو يرسم على شفتيه 
الممتعضتين شيه ابتسامة : 

البركة فيك فأنت نعم الخلف. 

أيحمزنك أن يكون والدنا من كبار القناصة؟ 

د 'ؤددت: لى تند .يد التفيس إل :صدوزته: الائلة فى 
في . 

فقال ياسين وهو يفرك راحتيه في سرور: 

- الصورة الحقيقيّة أببى وأمتع: أَعْظِمِ به من أب 
هو المثل الأعلى. آه لو رأيته وهو قابض على الدفٌ 
والكأس بين يديه تزهر! عفارم... عفارم يا سيّد 
أحمل ! 

فتساءل فهمي في حيرة : 

- وحزمه وتقوأه؟ ! 

فقطب ياسين ليركّز فكره في المسألة ولكنه وجد 
نفسه في حال الجمع بين الأضداد أروح لها من التوفيق 
بينبا فقال مدفوعًا بالإعجاب وحده: 

- ليس ثمّة مشكلة على الاطلاق» عقلك الرعديد 
وحده الذي يخلق المشكلة من العدم, أبي حازم ومؤمن 
ويحبٌ النسوان» شيء بسيط واضح ,521١+ ١‏ 


ولعلى أشبه الناس به على وجه التقريب لأنٍ مؤمن 
وأحبٌ النسوان وإن قل نصيبي من الحزمء. أنت 
نفسك مؤمن وحازم وتحبٌ النسوان. ولكن بينا تحقق 
إهانك وحزمك إذا بك تنكص عن الثالثة رثم 
ضاحكًا) والثالئة هي الثابتة! 

لعلّه نبى عند آخر كلامه باعث الاعجاب الذي 
ننه إل :الاتترسال ليدع اد نوك وكاا عن نيا فى 
الظاهر فقط. أمّا في الحقيقة فلم يكن إِلَا تعبيرًا عن 
شعور وهاج هاج به دمه المخمور» عن نشوة جاحة 
ركبته عقب انخحتفاء الرقباء الذين يجذرهم.؛ شهوة 
أثارها خيال مكهرب بالشراب» فرغب جسده في 
الحبٌ رغبة جنونيّة عنجزت إرادته عن شكمها أو 
ملاطفتهاء ولكن أين يجد مطلبه؟ هل يتّسع له 
ارقف |2 ماذا حول بيه 
وبينها؟!. . . طريق قصيرء ضجعة قصيرة» ثم يعود 
فينام نومًا عميقًا هادئاء هش للأخيلة المغرية هشاشة 
شخص لا عقل له يراجعه فاندفع إلى تحقيقها بلا 
تردّدء وما ليث أن قال لأخبيه: 

الجو حار. سأصعد إلى السطح لآتنشم هواء 
الليل الرطيب. 

وغادر الحجرة إلى الدهليز الخارجيّ» ومضى مببط 
متلمْسًا طريقه في ظلمة غاشية» محاذرًا غاية الحذر أن 
يندٌ عنه صوت. ترى كيف يستطيع الوصول إلى زنوبة 
في هذه الساعة من الليل؟ هل يطرق الباب؟ ومن 
عسى أن يجيء لفتحه؟ وبمَ يجيبه إذا ساله عن 
مقصده؟ وإذا لم يستيقظ أحد لفتح الباب؟ أو إذا جاء 
الخفير لبراقبه بتطفّله المعروف؟ عامت هله الخواطر 
على سطح عه كالفقاقيع ثم انداحت غارقة في تيار 
الخمر الجارف فلم يتجهم لما كعوائق يلبغي تقدير 
عواقبها ولكنّه ابتسم لما كدعابات مما قد يؤنس وحشة 
مغامرته) ثم جاوزها خياله طائرًا إلى حجرة زنوبة 
المطلّة على مفرق الغوريّة والصنادقيّة فتخيّلها في 
قميص النوم الأبيض الشفاف الذي يتقوّس مطاوعًا 
فوق النهدين وحول الردفين وتنحسر حاشيته عن 
ساقين مدملجتين حمريتين فجن جنونه ووذ لو يثب فوق 


روس ادن 


الدرجات لولا الظلمة الغاشية. خرج ‏ بخروجه إلى 
الفناء ‏ إلى ظلمة أخف قليلا بما نفضته النجوم عليها 
من أضواء خافتة بَيْد أنئّا بدت لعينيه اللتين كايدتا 
ظلمة السلّم طويلا نورًا أو كالنور. وعندما شخمطا 
خطوتين متّجهًا إلى الباب الخارجئّ في آخر الفناء 
جذب عيئيه نور ضثيل ينبعث من سراج على وضم 
أمام حجرة الفرن فألقى عليه نظرة لا تخلو من 
استغراب حبّى عثر قريبا على جسم منطرح على الأرض 
فتنوؤره على ضوء السراج فعرف أُمْ حنفي التي بدت 
وكأئها استحبْت النوم في الحواء الطلق فرارًا من جو 
حجرة الفرن الخانق. وهم بمواصلة السير ولكن ثمّة 
شيء استوقفه فعطف رأسه مره أخرى صوب النائمة 
فامكنه أن يتبيّها من موقفه. الذي لم يفصله عنها إلا 
بضعة أمتار» بوضوح غير منتظرء رآها مستلقية على 
ظهرها ثانية ساقها اليمنى التي رسمت في المواء بحافة 
الجلباب الملتصقة بالركبة هرما قائما وكشفت في نفس 
الوقت عن فخذها اليسرى التي لاحت عارية فيها يل 
الركبة ثمّ غرقت في ظلمة الفرجة التي انحسر عنها 
الجلباب بين الساق القائمة والأخرى الممدودة مع أن 
إحساسه بضيق الوقت ووجوب البدار إلى غايته لم يمن 
إلا أنه لم يستردٌ بصره عن الجسم الملقى غير بعيد منه. 
أو لعلّه لم يستطع استرداده وانساق وهو لا يدري إلى 
تفرّسه بإمعان بدا في يقظة عينيه المحمرتين وانفراج 
شفتيه الممتلئتين» فاستحالت يقظة العين- وهي 
تتفخص الجسم اللحيم الذي شغل فراعًا كبيرًا كأنه 
جاموسة مسمئة ‏ رغبة مريبة حتّى استقرٌ البصر على 
الفرجة المعتمة ما بين الساق القائمة والساق الممدودة 
ثم حول التيار المضطرم في شراييئه من التطلّع صوب 
باب الخروج إلى حجرة الفرن» وكأنه يكتشف لأول 
مرة المرأة الي خالطها أعوامًا طويلة بغير مبالاة. على 
أن أمْ حنفي لم تحْظ بسمة واحدة من سهات الحسن» 
وبدا وجهها أكبر من سلبها الحقيقية التي لم تكد تجاوز 
الأربعين. حسّ اكتنازها باللحم والدهن كان لتنافره 
وسوء تنسيقه ‏ بالانتفاخ الغليظ أشبهء ولذلك. وريبما 
أيضًا لطول انزوائها في -حجرة الفرن وقديم معاشرته 


بين القصرين 1586 
لها التي بدأت مع صباه. لم يلتفت إليها قط. بيد أنه 
كان وقتذاك على حال من اليّجان فقّد معها أيه قدرة 
على التمييز فأعمته الشهوة وأيّ شهوة؟ شهوة مولعة 
بالمرأة لذاتها لا لمعانيها ولا لألوائباء تعشق الحسن ولا 
تعزف عن القبح. والكل عندها في «الأزمات» سواء 
كالكلب يلتهم بلا تردّد ما يصادفه في القيامة» عند 
ذاك بدت له مغامرته الأولى ‏ زنُوبة - محفوفة بالمتاعب 
غهرة الندراقيي 15 يعد والوطرل ينا وده 
الساعة من الليل؛ وطرق الباب. وما يقول لفاتحه. 
والخفر» دعابات يبسم لما ولكن عوائق يجدر به أن 
يتفادى منها. تقدّم في خفّة وحذر فاغرًا فاى ذاهلاً عن 
كلّ شيء إلا قنطار اللحم المنطرح عند قدميه الذي بدا 
لعينيه الغهمتين وكأنّه أخل أهبته لاستقباله. حيّى توقف 
بين الساق القائمة والأخرى الممدودة. ثم انحنى عليها 
قليلا قليلاً بلا وعي تقريبًاء وبإغراء شديد من الداخل 
والخارج معّاء وما يدري إلا وهو ينبطح فوقها , لعله لم 
يتعمّد الذهاب إلى هذا الحدٌ دفعة واحدة. ولعلّه هم 
بشيء من التمهيد كان لا ينبغي أن يسبق الحركة 
العنيفة الأخيرةء ولكنٌ الجسم الذي انبطح عليه 
اضطرب اضطرابة فزع شديدة وندّت عنه صرخة 
مدوّية ‏ سبقت يده الى رامت كتمها ‏ فمرّقت 
السكون الشامل ولطمت مُه لطمة قويّة ردّت إليه 
وعيه فأطبق راحته على فمها وهو ببمس في أذنها بقلق 
وتحوف بالغين : 

- أنا ياسين» أنا ياسين يا أمّ حنفي» لا تخاني. . . 

وطفق يكرّر قوله حيّى اطمأنْ إلى وعيها إيَاه فاسترد 
راحتهء ولكنّ المرأة التي لم تمسك عن المقاومة قط - 
قكنت أخيرًا من تنحيته عنباء فاستوت جالسة وهي 
تلهث من الجهد والانفعال ثم سألته بصوت أزعجه 
أئما إزعاج : 

ماذا تريد يا سبى ياسين؟ 

فقال لها بلهجة 2 ملؤها الرجاء : 

- لا ترفعي صوتك هكذاء قلت لك لا مخائي. 
ليس ثمّة ما يدعو إلى الخوف بتانًا. . . 

قايرك اله مسقا وه فضت هن عينرها فلية: 


”ع بين القصرين 

ماذا جاء بك؟ 

فجعل يربّت على يدها متودّذا وهو يتنبئد في شبه 
أمارة مشبّعة وقال لها: 

ماذا أغضبك؟ ل أَرِدْ بك سوءًا (مبتسمًا ابتسامة 
وشت بها نبراته) هلمي إلى حجرة الفرن. . . 

فقالت المرأة بصوت مضطرب ولكنّه ذو دلالة 


محازمة : 
كلا يا سيّدي» اذهب إلى حجرتك؛, اذهب. الله 
يلعن الشيطان., . . 


لم تزن أمّ حنفي كلماتها بميزان ولكتها ندّت عنها كيم 
اقتضى الحال. لعلها لم تعبّر أصدق التعبير عن رغباتها. 
ولَكتّبا عبرت تمامًا وبغير شعور منها على شدّة المفاجأة. 
مفاجأة لم تسبق يومًا بتمهيد من أي نوع ككانء التي 
انقضت عليها في نومها كا تنقض الحدأة على الفرخ. 
فصِدّت الشات وزجرته بلا أدل تفكير حقيقئ في 
الصدّ أو الزجرء بَيّْد أنه أساء فهمها فامتلا حنقًا 
وثارت برأسه الخواطر. . . «ما العمل مع بنت الكلب 
هذه! لا يمكن أن أتراجع بعد أن كشفت نفسي 
وتماديت إلى حدّ الفضيحة, لا بذ مما أريد ولو الات 
إلى القرّة» وفكر بعجلة في أنجع وسيلة للتخلّب على ما 
تراءى له من مقاومة ولكنه - قبل أن يِتَحْدْ قرارًا- سمع 
حركة غريبة» لعلّها أقدام. آتية من باب السلّم 
فوب قائم| وهو من الفزع في خباية. مزدرذا شهوئه ا 
يزدرد اللصّ فص الماس المسروق إذا بوغت في 
مكمنه. واستدار صوب الباب ليعاين ما هئالك فرأى 
والده وهو يجتاز العتبة مادا ذراعه بالمصباح. تسمّر في 
مكانه تحتف الدم مستسلًا ذاهلا يائسًا. أدرك من توه 
أن صرخة أمّ حنفي لم تضع هباء. وأنّ النافذة الخلفيّة 
لحجرة الأب كانت له بالمرصاد» ولكن ما جدوى 
الإدراك المتأخر؟. . . لقد وقع في فح القضاء والقدر. 
وجعل السيّد يتفرّس في وجهه بقسوة صامنّاء مطيلا 
الصمت. وهو ينتفض غضباء ودون أن يحول عينيه 
القاسيتين أشار بيده إلى الباب يأمره بالدخول» ومع أن 
الاختفاء كان أحبٌ إليه في تلك اللحظة من الحياة 


نفسها إلا أنّه من الخوف والارتباك لم يستطع أن يمرك 
ساكئاء فضاق صدر الأب وللاحت في عبوسته بوادر 
الانفجار ثم زمجر صائحًا وعيناه ‏ اللتان انعكس عليهما 
ضوء المصباح المرتعش بارتعاش اليد القابضة عليه 


ترسلان شررا. . . 


- اطلع يا مجرم يا بن الكلب. . 

فا ازداد إلا استمسائًا بجموده حي هجم عليه 
السيّد فقبض على ذراعه بيمناه وشدٌ عليها بغلظة ثم 
جذبه بشدّة نحو الباب فاندفع بقوة الجذبة الخارقة 
فكاد يقع على وجههء وثمالك توازنه وهو يلتفت وراءه 
فزعاء وفر بنفسه وبا وهو لا يبالي ظلمة. 


5 

علم بفضيحة ياسين شخصان ‏ غير أبيه وأمْ 

حنفي ‏ هما ست أمينة وفهمي. سمعا صرخة أمّ 
حنفيى. فشاهدا من نافذتيههما ما دار بين الشابٌ وبين 
السيّ ثم حدسا ما هنالك دون حاجة إلى كبير ذكاء. 
على أنْ السيّد كاشف زوجه بزلة ابنه وسأها مدققًا عن 
تعلم من أخلاق «أمَّ حنفي» فدافعت أمينة عن 
خادمتها بما علمت من طبيعتها واستقامتها وذصّرت 
السيّد بأنه لولا وصرختهاء ما درى أحد بما كان, 
فقضى الرجل ساعة وهو يسبٌ ويلعن. سبٌ ياسين, 
وسبٌ نفسه لأنّه وما كان ينبغي أن ينجب أطفالا 
ليكدروا صفوه بأهوائهم الشرّيرة» واستفاض به 
الغضب فسبٌ البيت وأهله جميعًا!. . . وظلّت أمينة 
صامتة كيا واصلت صمتها فيما بعد كابما لم تدر شيثاء 
كذلك تجاهل فهمي الأمر كلّه. تظاهر بالاستغراق في 
النوم حين عاد أخوه إلى الحجرة لاهئًا عقب الموقعة 
الخاسرة. وم يَبَذُ منه فيا بعد ما ينم عن علمه بشيء: 
كره أن يعلم الآخر بوقوفه على ما نزل به من ذل 
ومهانة إكراما لاحترام يكنه له بصفته أسماه الأكبر 
احترام لم يذهبه كل ما تكشّف له من استهتاره ومجونه 
أو ما تقدّم هو به عليه من علم وثقافة» أو ما يبدو من 
ياسين نفسه من عدم مبالاة بإلزام أحد من إخوته 
باحترامه بما يعابئهم من مزاح ودعابةء أجل لم يزل 


35 هرانا ندل بحرمه ظل الإبعاء صل رايعم إل 
ما يأخذ به نفسه من تأديب وجدٌ ورزانة أكسبته مظهرًا 
أكبر من سنّهء بَئِد أن نحديجة لم ينها أن تلاحظ ‏ غداة 
ركس ]لس 1 لزن سي من لان 
فسألته باستغراب عن المانع فأجابها بأنّه لم يضم عشاء 
الفرح» وشعرت الفتاة ‏ بسوء ظنها الطبيعيّ المرهف 
أن ثمّة علّة لتخلّفه غير عسر الحضم فساءلت أمها 
ولكتْها لم تجد جوابًا شافيّاء ثم رجع كمال من حجرة 
الطعام وهو يتساءل أيضاء لا بدافع من حبٌ 
الاستطلاع أو الأسف, ولكن أملا أن يجد في اللعواب 
ما يبشّره بفترة أخرى يخلو الميدان فيها من منافس 
خطير كياسين؛ وكاد الأمر ينسى لولا أنْ ياسين غادر 
البيبت مساء من غير أن يشترك في مجلس القهوة 
المعهودء ومع أنّه اعتذر لفهمي والأمٌ بارتباطه بميعاد إلا 
أنْ خديجة قالت بصراحة «في الأمر شيء» لست 
عبيطة . . . أقطع ذراعي إن لم يكن ياسين متغيرًا». 
وعند ذاك اضطرّت الأمٌ أن تعلن غضب السيّد على 
حامين المي تعلحة م 
يمخمئون السبب حيّى أميئة وفهمي اشتركا مع الآخرين 
مداراة للواقع. وظل ياسين على تَمنْبه لمائدة أبيه حيّى 
دُعي ذات صباح إلى مقابلته قبل الفطور. لم تفجاه 
الدعوة» وإن أزعجته رغم ذلك فكم توقعها يومًا 
بعد يوم لاستيثاقه من أن أباه لا يمكن أن يقنم من زلته 
بتلك الحذبة العنيفة التي كادت أن تلقيه على وجهه. 
وأنّه لا بدّ عائد إليها بطريق أو بآخر ولعلّه توقم أيضًا 
معاملة لن تليق بحال بموظف مثله مما حمله حيئا على 
التفكير في مغادرة البيت إلى سحين أو إلى الأبد. أجل لا 
يجمل بأبيه ‏ أبيه كها عرفه في بيت زبيدة خاصة. أن 
يلقى زلته مبذا العنت كلّه. كما لا يجمل به هو أن 
يعرض نفسه لعاملة لا تليق برجولته فالأكرم له أن 
يفارقه, ولكن إلى أين؟. .. ليس إلا أن يعيش عيشة 
مستقلة بمفردهء ولن يعجره هذاء بيد أنه قلّب الأمر 
على ختلف وجوههء قدّر النفقات وتساءل عبّا يبقى له 
بعدها لملادُه: لقهوة مي علي وحانة كوستاكي وزنُوبة. 
هنالك فتر حماسه حيّى انطفا ىا تنطفئ شمعة سراج 


وانقضت ساعغة وهم 


بين القصرين 19 
تعرّضت طبة هواء عنيفة» وراح يقول لنفسه وهو 
شاعر بخداعه ولو طاوعت الشيطان وهجرت البيت 
لأحدثت تقليدًا خبيثًا لا يليق بأسرتناء مهما يقل أبي أو 
يفعل فهو أبي وهيهات أن نضام حيال تأديبه ثم قال 
بصراحته التي يصطنعها إذا غلبته روح الدعابة «شيئًا 
من التواضع يا ياسين بكء دعنا من الكرامة وحياة 
أمك. أيهها أحبٌ إليك كرامة سيادتك أو كونياك 
كوستاكي وسرّة زنوبة)». هكذا عدل عن التفكير في 
مغادرة البيت ولبث ينتظر الدعوة المتوقعة حَبّى وقعت 
فجمع نفسه ومفى كارهًا متوجّسًاء دخل الحجرة 
خافض الراس خفيف القدم ووقف بعيدًا عن مجلس 
أبيه من غير أن يجرؤ على التسليم عليه؛ وانتظر. 
وألقى السيّد عليه نظرة طويلة ثم هر رأسه كالمتعجب 
وهو يقول: 

ما شاء الله!. . . طول وعرضء» شارب وقفاء إذا 
رأك الرائي في الطريق قال لنفسه بإعجاب نعم الرجل 
ونعم الابن» فليت القائل يجيء إلى البيت ليراك على 

ازداد الشابٌ ارتباكًا وحياء ولكنّه لم ينبس بكلمة 
ومضى السيد يتفخصه بسخط ثم قال باقتضاب 
وبلهجة جافة آمرة : 

- قرّرتٌ أن تتروج. . . ! 

ودهش ياسين دهشة لم يكد يصِدّق معها أذنيه. 
كان يتوقع سبًا ولعئًا فحسب ولكن لم يخطر له على بال 
أنه سيسمع قرارًا خطيرًا يغبّر يحرى حياته كلها فيا 
تمالك أن رفع عيئيه إلى وجه أبيه حيّى إذا ما التقتا 
بعينيه الزرقاوين الحااتين خفضههما متورّد الوجه لائذا 
بالصمت. وفطن السيّد إلى أن ابنه بوغت هذا القرار 
«السعيد» بدلا من المعاملة الفطَّة التي كان يتوقّعها فثار 
حنقه على الظروف التي أملت عليه أن يلقاه نجانب 
دمث خليق بتكذيب ظنّْه بجروته المعروف فبثٌ حنقه 
في نبرات صوته؛ وهو يقول عايسا: 

- الوقت ضضصيّق وأريد أن أسمع جوابك. . . 

ما دام الرجل قد قرّر أن يزوجه فهو يأى إلا أن 
يسمع جرابًا واحذاء ولا مانع من أن يُسمعه الجواب 


4 بين القصرين 
الذي يريدء لا طاعة لأمره فحسبء. ولكن تلبية 
لرغيته هو أيضًا. أجل ما كان والده يعلنه بقراره حبّى 
انظلى كفيالة هين له وعوو شا سافن اهران تكون 
ملك يمينه ورهن إشارته حين يشاء فأببج الخيال قلبه 
حجٌّ أوشك أن يفضحه صوته وهو يقول: 

- الرأي رأيك يا بابا. . . 

- تريد أن تتزوج أو لا؟. . . انطق. . 

فقال الشات بحذر من يرغب الرواج وهو غير 
مستعدٌ له ماليًا: 

ما دامت هذه إرادتك فإني موافق على العين 
والراسن 

فخفف السيّد من خشونة لحجته وهو يقول: 

- سأطلب لك كريمة صديقي السيّد محمد عفت 
تاجر الأقمشة بالحمزاوي» لقية ظفرها برقبة ثور 

فابتسم ياسين ابتسامة خفيفة وقال مداهنًا: 

- ولكي بفضلك أصير كفئًا لها. 

فرمقه بنظرة حادّة كأنما لينفذ مما إلى أعياق مداهنته 
وقال : 

- من يسمع كلامك لا يتصوّر فعالك يا منافق. . . 
اغرب عن وجهي . . . 

وهم ياسين بالتحرّك ولكنه أوقفه بإشارة من يده ثم 
تساءل مستدركًا كأئما عرض التساؤل له انّفاقًا : 

- أظئك حوشت المهر؟ 

لم بحر جوابا وعلاه الارتباك فاغتاظ السيّد وتساءل 
مستدكر | : 

- ولكّك عشت رغم توظّفك 'في كفالتي ىا كنت 
تعيش وأنت تلميذ فىاذا صنعت برتّبيك؟ 

فلم يزد على أن حرّك شفتيه دون أن ينبس فحرّك 
الأب رأسه ممتعضًا وذكر قوله له منذ عام ونصف وهو 
يوصيه لناسبة توظفه ولو طالبتك الآن بأن تتعهّد 
بنفقات نفسك بوصفك رجلا مسئولا ما خمرقت 
الألوف بين الآباء والأبناء ولكيّي لن أطالبك ملْيم 
واحد كي أهيَئْ لك فرصة لاقتصاد مقدار من المال 
تجده بين يديك إذا دعت الحاجة إليه؛ ودلٌ ذلك 


م 
٠‏ 


التصرف من جانبه على ثقته بابله. والحق أنه لم يتصور 
أن يجنم أحد من أبنائه ‏ بعدما نال من تأديبه وتبذيبه 
الصارمين ‏ إلى هوى من الأهواء المامحة التي تبدد 
المالء لم يتصوّر أن ينقلب ابنه «الصغير» سكي 
ماجئاء فالكمر والنساء التي يراها في حياته هو لونا من 
اللهو لا يمس رجولة ولا يؤذي إنما تنقلب إذا «لونت) 
أحدًا من أبنائه جرعة لا تغتفرء ولذلك فإنّ زلّة الشابٌ 
التي كشفها في فناء البيت طمأئته بقدر ما أغضبته لأنّْ 
أمّ حنفي في نظره لا يمكن أن تغري شابًا إن لم يكن 
تحمّل ما فاق طاقته من الاستقامة والعفّة... أجل لم 
يشكَ في براءة ابنه بيد أنه ذكر ما لاحظه كثيرًا من 
زلسية بالانتاقة ودر النقيس من التول' والقيضيان 
وأربطة الرقبة وكيف لم يرتح إلى ذلك وحذّره الإسراف 
ولكن تحذيرًا هيّئاء إمَا لأنّه لم يْرَ في الأناقة جريمة. وإما 
لأنْ تشبّه ابئه به وتكراره لصورة من صور سلوكه. 
الذي لا يرى بأسا في أن يكرّره أبناؤه ‏ حركا في صدره 
العطف والتسامح» ولكن كيف كانت نتيجة ذلك 
التسامح؟ وهي ما وضح له الآن من تبذيره نقوده في 
التافه من الكماليّات. ونفخ الرجل مغيظًا عحنقًا وقال له 
محتدًا: 

اغرب عن وجهي . . . 

غادر ياسين الحجرة مغضوبًا عليه بسبب تبذيره لا 
بسبب زلته ىا توقع وهو ذاهب إلى الحجرة» تبذيره 
الذي لم يكربه من قبل فسلّم إليه نفسه بلا تفكير ولا 
تدبّره ينفق ما في جيبه حيّى يفرغ غارقًا في ساعته 
متعاميًا عا يسمّونه المستقبل» كأنه شيء لا وجود له 
ومع أنّه غادر الحجرة مرتبكا وجلا لغبرة أبيه إلا أنه م 
َخْلّ من ارتياح عميق إذ أدرك أن تلك النهرة لا تعني 
طرده فحسب ولكن أيضًا أن السيّد سيتكفل بنفقات 
زواجه. ومغى كالطفل الذي يضيق أبوه بإلحاحه في 
طلب قرش فينقده إيَاه ويدفعه خاريجًا فينسبى شذة 
الدفعة في فرحة الظفرء ولبث الأب ساخخطا راح يردّد 
ويا له من حيوان. جسم طويل عريض ولكن بلا مخّ» 
أغضبه إسرافه كانه لم يتتخذ هو من الإسراف شعارًا في 
الحياة ‏ ولكنّه لا يرى بأسًا في إسرافه كسائر آهوائه ‏ ما 


دام ل يفقره وينسيه واجباته أو يدهور يتم كه 
ولكن كيف يضمن أن يصمد أمامه ياسين؟... فلم 
يكن يمرّم عليه ما يحل لنفسه من استبداد وأنانية 
فحسب ولكن شفمقًا عليه وإن دل شفقه هذا على ثقة 
بالنفس وعدم ثقة بالآخر لا يخلوان من غرور. وزايله 
الغضب ععادته. بنفس السرعة التي ركبه بها فصفت 
نفسة واننسطت أساريره وأخحذت الأمور تتبدّى له بوجه 
جديد لطيف مسباح . .. 
ثور. . . إذن لا تأخذ جانبًا وتهمل الحوانب الأخرى» 
كن أحمد عبد الجواد كله إن استطعت أو فالزم 


«تريد أن تتشبه بأبيك يا 


0 نما رجوت 
أن أجدك مقتصدًا كي أزؤجك بنقودي على وفرة 
النقود لديكء هذا هو الرجاء الذي خيّبت. وهل 
حسبتني م أفكر في اختيار زوجة لك إلا بعد ضبطك 
متليّسًا بالزناء وأ زنًا. . . زنًا حقير كحقارة ذوقك 
وذوق أمَك؟! كلا يا بغل إني أفكر في سعادتك منذ 
توظفت» كيف لا وأنت أوّل من جعلبي أبا. . . وأنت 
شريكي في العذاب الذي أصّلتنا إياه أمفك 
اللعينة؟!... ثم أليس من حقي أن أفرح بك 
خصوصًا وأنه عل أن انتظر طويلا حبّى أفرح بالثور 
الآخر أيك أسير العشق ويا ثرى من يعيش؟!. . .» 
في اللحظة التالية استرجع ذكرى ذات سبب وثيق 
بموقفه الراهن ذكر كيف قصٌّ على السيد محمد عفت 
«جريمة) ياسين وما كان من زجره وجذبه تلك الجذبة 
الي كادت تلقيه على وجهه وهو بصدد طلب يد كريته 
للشابٌ ‏ الواقع أن الموافقة على ذلك مت بين الرجلين 
من قبل مفامحة ياسين ‏ وكيف قال له الرجل «ألا ترى 
أنّه يجمل بك أن تخيّر من معاملتك لابنك كلما قارب 
سنّ الرشد خاصّة إذا توف وصار رجلا مسثولا؟ (ثمّ 
ضاحكا) الظاهر أنّْك من الآباء الذين لا يرتدعون 
حبّى يجهر أبناؤهم بالثورة عليهم». وكيف أجابه بثقة 
قائلا: «هيهات أن تتعرّض الرابطة بيني وبين أبنائي 
لتغئر الزمن» صدرت عنه الإجابة الأخيرة بمباهاة وثقة 
لا حدنّ لهاء على أنه اعترض له بعد ذلك أنْ معاملته 


أرجو أن أزوجك بنقودك؟! خسثت. 


بين القصرين 159 


تتخيّر في الواقع بتغيّر الأحوال وإن عمل من جانبه على 
ألا يفطن أحد إلى نيّة التغيير الباطنة ثم قال: «الحقٌ 
أني لا أقبل أن أمد يدي الآن على ياسين ولا حبّى على 
فهمي. والحقٌّ أني جذبت ياسين تلك الجذبة تحت تاثير 
غضب ثائر ومن غير أن أقدّر المدى الذي ذهبت إليه؛ 
ثم استطرد قائلا وهو يكرٌ إلى فترة من الماضي البعيد 
وكان أبي رحمة الله عليه يلتزم في تربيتي شدة تبون إلى 
جانبها شدَتي مع أبنائي ولكنّه سرعان ما غيّر من 
معاملته لي منذ أن دعاني إلى معاوئته في الدكان؛ ثم 
استحالت معاملته صداقة أبويّة منذ تزوجت أم 
ياسين» وقد بلغ بي الاعتزاز بالنفس أن عارضت في 
زواجه الأخير لكبره من ناحية وحدائة سن العروس 
من ناحية أخرى فلم يزد على أن قال لي «أتعارضني يا 
ثور. . . وما دخحلك في هذا الشأن؟ إني أقدر منك على 
إرضاء أيّة امرأة» فيا تمالكت أن ضحكت وطيبت 
خاطره معتذرًا ذكر هُذا كلّه فورد على ذهنه المثل القائل 
«إذا كير ابنك آخه» فشعر ‏ رما لأؤل مزة في حياته - 
بتعقّد مهمّة الأبوّة كما لم يشعر بها من قبل. في نفس 
الأسبوع أذاعت الآمّ خطبة ياسين في مجلس القهوة, 
كان فهمي قد علم بها عن طريق ياسين نفسهء أما 
حديجة فها تمالكت أن ربطت بين الخطبة وبين ما عرف 
من قبل عن غضب الأب على ياسين ظنا منها أن 
الغضب إنما وقم نتيجة لرغبة ياسين في الزواج قياسا 
على ما كان بين الأب وفهمي للسبب نفسه فصرّحت 
برأيها كالمتسائلة فقال ياسين ضاحكا وهو يخطف من 
الأمّ نظرة لا تخلو من حياء وارتباك : 

الحنّ أن ثمّة علاقة قويّة بين الغضب وبين 
الخطبة. . 

فثالت خديجة متظاهرة بالاستلكار على سبيل 
السخرية والمزاح : 

يابا معذور في غضبه لأنْ حضرتك لا يمكن أن 
تشتفه أمام صديق كبير مثل السيّد محمد عقت. . . 

فجاراها ياسين في سخريتها قائلا : 

وسوف يزداد موقف أبي حرجًا إذا ما علم السيّد 
الكبير المذكور أن للعريس أخنًا مثل حضرتك! 


بين القصرين 

عند ذاك تساءل كيال : 

هل سيتركنا ياسين كما تركتنا أبلة عائشة؟ 

فقالت له أمه باسمة: 

- كلا ولكن ستنضمٌ إلى بيتنا أخت جديدة هي 
الغزوس» :: 

ارتاح كال إلى هذه الإجابة التي لم يكن يتوقعهاء 
ارتاح إلى بقاء «روايته» الذي بمتعه بحكاياته ونوادره 
ومؤانسته ولكنه عاد يتساءل لاذا لم تبق عائشة أيضًا؟ 
فأجابته أمّه بأنْ العادة قضت بأنْ العروس تنتقل إلى 
بيت العريس وليس العكس., لم يَذْرٍ من سَنْ هذه 
العادة وكم تم لو كان العكس هو المتبع ولو يضححَي 
بياسين ولطائفه. بَيْد أنه لم يستطع أن يجهر برغبته 
فأفصح عنها بنظرة ناطقة رنا بها إلى مه فهمي وحله 
الذي أثار الخبر أشجانه لا لأنّه لم يشارك ياسين فرحته 
ولكن لأنْ سيرة الزواج غدا شأنها أن توقظ عاطفته 
وتستثير حزنه كما تستثير سيرة النصر حزن أمْ فقدت 
ابنها. . . في موقعة ظافرة. . . 


1 

تمرّك الحنطور مقلا الأمم وخديجة وكال في طريقه 
إلى السكريّة. أيكون زواج عائشة إيذانًا بعهد جديد 
من الحرّيّة؟ أيقدّر لهم أخيرًا أن يطلعوا على نور الدنيا 
من حين لآخخر وأن يتنفُسوا هواءها الطليق؟! بَيْد أن 
أمينة لم تستسلم للتفاؤل أو تسبق الحوادث. فالذي 
حرم عليها زيارة أمّها فيها ندر قادر على أن يحرم عليها 
زيارة ابنتها كذّلك . ول تنس أنه مضت أيَّام كثيرة على 
زواج الفتاة زارها خلالها الأب وياسين وفهمي وحسٌ 
أ حلفي دون أن يؤذن لها هي بزيارتما أو تواتيها 
شجاعتها على الاستئذان للزيارة: تحرّزت من تذكيره 
بأن ها ابنة في السكّريّة يجب أن تراهاء ولازمت 
الصمت وإن لم تبرح صورة الصغيرة عيّلتها. على أنه 
لا ضاق صدرها بآلام التصيّر استجمعت إرادتها 
وسألته ٠‏ 

- إن شاء الله يكون سيّدى عازما على زيارة عائشة 
قريبًا لنطمئن عليها؟. . . 


فطن السيّد إلى ما وراء السؤال من رغبة خفيّة 
فحنئق عليهاء لا لأنه كان قرّر أن يحول بينها وبين 
زيارة عائشة. ولكن لأنّه ود كشأنه في مثل هذه 
الحالة ‏ أن يصدر السياح منه منحة غير مسبوقة بطلب 
أن تقوم بنفسها شبهة بأنْ طلبها ذو أثر في استصدار 
السباح. فكرة أن تسعى إلى تذكيره بنذا السؤال 
الماكر» ومن قبل فكر في الأمر بضيق فأحنقه أن يجده 
ضرورة لا مخيص منباء ولذلك هتف بها حائقًا : 

- عائشة في بيت زوجها ولا حاجة بها إلى أحد مناء 
على أنْني زرتها كما زارها أخواها فاذا يقلقك عليها؟! 

غاص قلبها في صدرها وجف ريقها يأسًا وقهراء 
أما السيّد فقد تعمّد أن يلزم الصمت كأنه انتهى من 
الأمر كلّه معاقبة لها على ما عدّه مكرًا منها لا يغتفر 
ثم أهملها طوال الوقت وهو يختلس النظر إلى ما غشي 
أساريرها من كمدء حيّى حان وقت اثصرافه إلى عمله 
فقال لما بجفاء واقتضات : 

- اذهبي غدًا إلى زيارتها. . . ! 

تدافع دم الالشراح إلى الوجه الذي لا تخفى 
بصفحته خافية فبدت في سرور الطفل فم عتم أن 
عاوده حلقه قفصاح بها: 

- لن ثريها بعد ذلك إلا إذا سمح لها زوجها 
بزيارتنا. . . ! 

فلم تعلق على قوله بكلمة ولكنّبا لم تنس عهدًا 
حملته وهي تشاور خديجة في مفاتحته فقالت بعد تردد 
وإشفاق: 

هل يسمح سيّدي بأن آخذ معي خديجة؟ 

فهر رأسه كأنما يقول دما شاء الله... ما شاء 
الله. . .» ثم قال لها محتدًا: 

- طبعًا. . . طبعًا!. . . ما دمت قد قبلت أن أزوّج 
ابنتي فيجب أن تنضم أسرتي إلى أبناء الشوارع!. . . 
خذيهاء ربنا يأحذكم جميعا. . . 

تم لها فوق ما تطمع من السرور فلم ثُلْيٍ بالا إلى 
الدعاء الأخير الذي ألفت سماعه. . . وأكثر في أوقات 
غضبه أو تظاهره بالغضب على السواء - كانت تعلم 
بال اعوط قن يانه :واله اع ها ركو من اقلنس مغلة 


كمثل القطة تبدوء. حين تحمل صغارهاء وكأنبا 
تلتهمها. تحقق الرجاء وانطلقت العربة بهم في طريقها 
إلى السكريّة. بدا كال. لزيارة عائشة وخروجه 
بصحة أنه وأخته وركوبه الحلطورء أوفر الثلاثة 
سرورّاء وكأنه لم يستطع كتبان فرحه أو أنه رغب في 
إعلانه على الملا أو لعلّه أراد لقت الأنظار إلى شخصه 
وهو يتمذ مجلسه في الحنطور بين أمّه وأخته فا اقتربت 
العربة من دكان عم حسنين الحلاق حيّى وقف بغتة 
هاتفًا «يا عم حسنين... انظرا» فنظر الرجل إليه 
ولا لم يجده وحده غض بصره في عجلة مبتسما فذابت 
الأم خجلا وارتباكا وجذبته من طرف جاكتته أن يعيد 
الكرّة أمام الدكاكين التالية وراحت تؤنبه على فعلته 
والجنونيّة». بدا بيت السكريّة ‏ وليس كذلك بدا في 
حلّة الأنوار ليلة الفرح ‏ عتيمًا هرمًا ولكن دلّ عتقه 
نفسه فضلل عن ضخامة بنيانه ونفاسة أثائه على السؤدد 
والحاه» فآل شوكت أسرة «قديمة» وإن لم يبق لهم من 
عرة القدم ‏ خاصّة بعد توزيع الثروة بالتوارث 
والاستكبار على التعليم ‏ إلا الاسم. وقد أقامت 
العروس بالدور الثاني على حين نزلت حرم المرحوم 
شوكت - ومعها ابتها الأكبر إبراهيم ‏ الدور الأول 
لعجزها مع الكبر عن ارتقاء السلّم فبقي دور ثالث 
شاغرًا لم يسعهم أن يشغلوه وأبوا أن يسكنوه. ولما 
أدخلوا شقّة عائشة همْ كيال. منطلقًا مع سجيّته كما لو 
كان في بيتهء يجوس خلالها كي يعثر بنفسه على أخته 
مستمتعًا بلدّة المفاجاة التى تمخيّلها وهو يرقى في السلّم 
ولكنّ أمّه لم تدعه يفلت من يدها رغم مقاومته وما 
يدري إلا والخادم تقودهم إلى حجرة الاستقبال ثم 
تتركهم وحدهم! شعر بأثهم يعاملون معاملة «الغرياء» 
أو «الضيوف» فانقبض صدره وانكسرت نفسه وجعل 
يرذد قُِ جزع «أين عائشة؟ . . . لماذا تبقى هنا؟» فلا 
يسمع إلا كلمة «هس» وتحذيرًا من منعه من الزيارة 
مرّة أخرى إذا علا صوته!. . . ولكنّه سرعان ما زايله 
الألى حين جاءت عائشة مهرولة مشرقة الوجه بابتسامة 
غطّى سناها على أضواء حلتها الزاهية وزيئتها الباهرة 
فجرى نحوها وتعلق بعنقهاء فتبودل التسليم بينها وبين 


بين القصرين الباع 


أمّها وأختها وهو على ذلك الوضع! 

بدت عائشة سعيدة كلّ السعادة بنفسها وبحياتها 
الجديدة وبزيارة أهلهاء حذثتهم عن زيارات أبيها 
وياسين وفهمي» وكيف غلبها الشوق إليهم على خوفها 
من أبيها فواتتها الجرأة على أن ترجوه بالساح لهم 
بزيارتها!. .. قالت «لا أدري كيفف طاوعني لساني 
حي تكلمت! لعل مظهره الجديد الذي ل يتراءً لي به 
من قبل هو الذي شبجُعني, بدا لطيفًا وديمًا باسّاء إي 
والله باسمّاء على أنّني تردّدت رغم ذلك طويلاء خفت 
أن ينقلب فجأة فينتهرنيء ثم توكلت عل الله 
ونطقت!» فسألتها أمّها عن رده كيف كان فقالت «قال 
لي باقتضاب: إن شاء الله ثمّ استطرد مسرعًا بلهجة 
جدّيّة تنم عن تحذير: ولكن لا تظئي المسألة لعبًا فكل 
شي ء بحساب. فخفق قلبي ورحت أدعو له طويلا 
تودّدًا واسترضاء!» ثم رجعت إلى الوراء قليلا فوصفت 
حاها عندما قيل طا والسيد الكبير في حجرة الاستقبال» 
قالت دركضت إلى الحّام فغسلت وجهي لأزيل كلّ أثر 
للمساحيق حبّى تساءل مي خليل عا يدعو إلى ذلك 
كله ولكئ قلت له: أدركني, لا أستطيع أن ألقاه 
بفستان صيفئ يكشف عن ذراعي! ولم أبرح موضعي 
حي تلفعت بشال كشميري!» ثم قالت «ولمًا علمت 
نيئة. . . (ضاحكة) أعني نينة الجسديدة. . . لما قصٌ 
عليها بى خليل ما جرى ضحكت وقالت له: ف 
أعرف السيّد أحمد ثمام المعرفة. .. هو هذا وأكثر (ثم 
ملتفتة إيّ) ولكن اعلمي يا شوشو أنّْك لم تعودي من 
آل عبد الجواد. أنت الآن شوكتية فلا تبالي 
الآخرين. ..». أصاب منظرها البهيج وحديثئها من 
نفوسهم موضع الحبٌ والإعجاب فحملق كيال فيها كا 
فعل في ليلة الزفاف وتساءل محتججا «لاذا لم تكوني 
تبدين هكذا وأنت في بيتدا!؟) فأجابته على الفور 
ضاحكة «لى أكن وقت ذاك شوكتية) حبّى خديجة رمقتها 
بعين الحبت. انقطعت بزواج الفتاة دواعي الملاحاة التي 
كانت تنشب بينهيا بسبب الاختلاط. ومن ناحية أخرى 
لم يبقّ من الأحساس بالحئق الذي ركبها عند السسراح 
بزواج الفتاة قبلها إلا أثر باهت حمّلته وبختها» من دون 


بين القصرين 
الفتاق» فلم يعد ينطوي قلبها إلا على الحبٌ والشوق. 
لشِدٌّ ما تفتقدها كلما آنست من نفسها حاجة إلى أليس 
تفضي إليه بذات نفسها. ثم تحذئت عائشة عن البيت 
الجديد. عن المشربيّة التي تطل على بوّابة المتولي» 
والماذن التي تنطلق عن قربء. وتيار السابلة الذي لا 
ينقطع. كل شيىء حوها يذكّرها بالبيت القديم وما 
يكتنفه من سبل وأبنية فلا اختلاف فيها 'عذا الأسياء 
وبعض العالم الثانويّة «ولكن على فكرة البوابة العظيمة 
لا نظير لها عندكم (ثمْ بشيء من الفتور) وإن كان 
المحمل لا يمرْ تحتها ى! أخبرني سي خليل!؛ وواصلت 
حديثها «تحت المشربية مباشرة مجلس يضم ثلاثة لا 
يفارقونه قبل جثوم الليل: شخاذ كسيح وبائع مراكيب 
وضارب رمل» أولئك جيراني الجُدد. إلا أنْ ضارب 
الرمل أسعدهم حطّاء لا تسألوا عن أفواج النساء 
والرجال الذين يجلسون القرفصاء أمامه مستخرين عن 
طوالعهم. كم وددت لو كانت مشربيي أوطأ كيم) 
أسمع ما يقول لحمء وألذٌ منظرء منظر سوارس القادمة 
من الدرب الأحمر إذا تقابلت مع عربة حجارة قادمة 
من الغوريّة فضاق عنها مدخل البوّابة وركب كل 

ئق رأسه متحدّيًا الآخر أن يتراجع ليفسح السبيل» 
يبدأ الكلام ليئًا بعض اللين فيحتدٌ. ثم يخشوشن, ثم 
تبدر الحناجر بالسباب والشتائم. وتجيء في أثناء ذلك 
عربات كارو وعربات يد فيغصٌ بها الطريق ولا يدري 
أحد كيف يعود الخال إلى ما كان عليهء هنالك أقف 
وراء الخصاص أكاتئم الضحك وأتامّل الوجوه والمناظرة 
وما أشبه فناء اليبت الجديد بفناء بيتهم. حجرة الفرن 
والمخزن وحماتهبا سيّدة الفناء والجارية سويدان ولا أجد 
لي عملا فلا أذكر المطبخ حيّى تحمل إل صيئيّة الطعام) 
وعند ذاك لم تتهالك خحديجة نفسها من أن تضحك قائلة 
ونلت ما طلالما تمنْيته!» لم يجد كمال في الحديث شيئًا ذا 
بال إلا أنّه أحسٌ في نغمته العامّة بما يوحى «باستقرار؛ 
المتحذئة فداخله الانزعاج وسأها: ْ 

فلن تفووف: إلينا؟ ىد 

فملأ الحجرة صوت يقول: 

- لن تعود إليكم يا مي كمال. . . 


وإذا بخليل شوكت يدخل ضاحكًا وهو يرفل 
بجسمه الربعة في جلباب حرير أبيض. كان ذا وجه 
بيضاوي ممت» أبيض البشرة في عيئيه جحوظ خفيف 
وفي شفتيه غلظة» أمّا رأسه الكبير فينتهي بجبين ضيّق 
يفترق عند قمّته شعر أسود كثيف يشبه في لونه 
وتسريحته شعر السيدء تلوح في عينيه نظرة طيّبة وحمول 
لعلّها أثر للراحة والفراغ والرضى. انحبى على يد الأمَ 
ليقبلها فجذبتها بسرعة في خحجل وارتباك وهي تتمتم 
شاكرة ثمّ سلَّم على خديجة وكال وجلس وكانّه ‏ على 
حدٌ تعبير كيال فيا بعد واحد منهم. وانتهز الغلام 
فرصة تشاغل العريس بتحديثهم وتفرّس في وجهه 
طويلاء ذاك الوجه الغريب أصلًُا الذي برز في مخيط 
حياتهم ليحتلٌ مكانًا مرموقًا يؤمْله لان يكون أقرب 
الأقرباء أو بالأحرى أن يكون قريئًا لوجه عائشة. كلما 
خطر هذا على باله جر وراءه ذاك كما بجر الأبيض 
الأسود. تفرّس فيه طويلا وهو يردّد في نفسه قوله 
الممتى ثقة «لن تعود إليكم يا سى كمال» فوجد نحوه 
إنكارًا ونفورًا وحقدًا وكادت تتمكن من قلبه لولا أن 
قام الرجل فجأة ومضى إلى الخارج ثمّ عاد حاملا 
صيئيّة فضيّة ملئت حلوى من مختلف الألوان فقدّم له 
باسنا وإن كشف افترار ثغره عن سِئّتين ركبت 
إحداهما الأخرى ‏ نخبة من أشهى الأصناف. وجاءت 
حرم المرحوم شوكت معتمدة على ذراع رجل استدلوا 
فشائعه ليل »عل اتنااخر: الاقبر اقم بوكر ابد اليم 
تقديم الأرملة بقويها «إبراهيم ابني... ألم تعرفوه 
بعد؟!» وعندما لاحظت ارتباك أمينة وخديحجة حال 
التسليم قالت باسمة «نحن كالأسرة الواحدة من قديم 
الزمان ولكن بعضنا يرى البعض الآخر الساعة لأؤل 
مرّة... لا بأس...! فطنت أمينة إلى أن المرأة 
تشجّعها وتبوّن عليها الأمر فابتسمت» ولكن ساورها 
شيء من القلق وتساءلت: ثرى هل يوافق السيّد على 
مقابلتهها لهذا الرجل - وإن عد عضِوًا جديذدًا في 
الأدرة كتخليل. سواه سستواة ع يخي القنات 9 وهل 
تكاشفه بالمقابلة أو تتحاثى ذكرها إيثارًا للسلامة؟ , . . 

كان إبراهيم وخليل أشبه بالتوامين لولا فارق 


السنّ, على أن اختلافه| بدا أقل من القليل بالقياس 
إلى اختلاف عمرهماء والحقّ أنه لولا قصر شعر 
إبراهيم» ولولا شاربه المفتولء لما كان ثم ما يميه عن 
خليل» كأنه لم يبلغ الأربعينء أو كان شيابه ومظهره لا 
يتأّران بكرور الأعوام» لذلك ذكرت أميئة ما حدّثها 
به السيّد مرّة عن المرحوم شوكت من أنه «كان يبدو 
أقل من عمره الحقيقئ بعشرين عامًا أو يزيد» أو قوله 
عنه وإنّه رغم طيبته ونبله كان كالحيوان لا يسمح 
لفكره أبدًا بأن ينغْص عليه صفوه!4»: أليس عجيبًا أن 
يبدو إبراهيم في الثلاثين مع أنه تزوج في صدر شبابه 
وأنجب طفلين ثم ماتت زوجه وطفلاه؟! ولكنه مرق 
من تجربته القاسية سالمً) لم يمس ثم عاود الحياة مع 
أمّه في حمول ودعة وفراغ شأن آل شوكت جميعاء راق 
خديجة أن تسترق النظر ‏ كلها أمنثت أعين الرقباء إلى 
الشقيقين» إلى أوجه الشبه العجيبة بينبماء بيضاوية 
الوجه وامتلائى جحوظ العينين الواسعتين» البدانة 
الخمول. فحرّك كل أولئك السخرية الكامنة في نفسها 
حبّى ضحكت أفكارها ومضت تذخر في ذاكرتها من 
الصوّر ما تعود إليه إذا ضِمُها مجلس القهوة ومالت 
جريًا على سنّتها في التهكم إلى العبث والإضحاك, 
وإلى هذا فكرت باهتام في اختيار اسم وصفيٌ عياب 
ها على مثال الأسماء الوصفيّة التي تطلقها على 
ضحاياها من الئاس أو بالأحرى أسوة بأمّهما التي تطلق 
عليها «المدفع الرشّاش» لتنائر ريقها عند الحديث. 
واسترقت مرّة نظرة إلى إبراهيم فا راعها إلا أن تلتقي 
عيناها بعينيه الواسعتين وهما تتفرسان في وجهها باهتهام 
من تحت حاجبيه الكثيفين فغضت بصرها في حياء 
وارتباك» وتساءلت في خوف المريب عا عسى أن يظله 
بنظرتباء ثم وجدت نفسها تفكر بقلق في منظرها وما 
يمكن أن يتركه في نفسه من أثر. تُرى أيسخر من أنفها 
كما سخرت من بدانته وخموله؟!. . . واستغرقها التأمل 
والقلق . . 

سكم كال الجلسة التي وإن تكن جعته بعائشة إلا 
أنئْبا جمعته بها على نحو ما تجمع بين الضيوف فلم 
نتحمّق ‏ عدا ما منحت من حلوى ‏ شيئًا من رغابه. 


بين القصرين 47/7 
فانتقل إلى جوار العروس وأبدى لها إشارة فهمت منبا 
أنه يريد أن يخلو ها فقامت وأخذته من يده وغادرا 
الحجرة. ظبّته قانعًا بمجالستها في الصالة ولكئه جذبها 
من يدها إلى حجرة النوم ورذ الباب وراءهما حتى 
أرتج. انطلقت أساريره ولعت عيناه: وتطلم إليها 
طويلا ثمّ تصفّحم الحجرة ركنا ركنا وهو يتشمّم رائحة 
الأثاث الحديد مازجها أريج زكيئع لعلّه بقيّة مما انتشر 
من أيدي المتطييين وصدورهم, ثم رنا إلى الفراش 
الوثير» إلى النمرقتين الورديتين المتجاورتين على الغطاء 
فوق الوسائد وسألما وما هما؟» فأجابته «وسادئان 
صغيرتان» فسأطا «أتتوسّديها؟» قالت باسمة دكلاهماأ 
للزيئة فقط» فأشار إلى الفراش متسائلا «أين تنامين؟) 
فاجابت باسمة أيضًا «في الداخل» فسألا كأنه متوكد 
من أنه يئام معها «وسي خليل؟» فأجابت وهي تقرص 
خدّه برقة «في الخارج. ..» عند ذاك التفت صوب 
«الشيزلنج) بغرابة» وسار إليه وجلس» ودعاها إلى 
الجلوس جنبه فجلست» وما لبث أن غاب في 
الذكريات غاضًا بصره ليخفي نظرة مريبة وصَّمها 
بالريبة اشتداد أمّه بالحملة عليه مساء ليلة الزفاف وهو 
يسم إليها بما رأى من ثقب الباب» راودته نفسه على أن 
يبوح لا بسرّهء أن يساطا عنه. تحت ضغط إغراء لا 
يخلر من قسرةء ولكنّ الخجل الناجم عن الشعور 
بالريبة عقّله فشكم رغبته على رغمه, ثم رفع إليها 
حيدق صافبين والنسم إلبها«فاعيعت إلية ومالك 
نحوه فقبّلته» ثم نمضت قائلة وملء وجهها أبتسامة 
حلوة : 
لأملنٌ جيوبك بالشيكولاتة , , . 


5 
تصايح الغلان المتجمهرون أمام البيت وعلى طواد 
سبيل بين القصرين مهذثلين, تَيّرْ صوت كمال وهو 
يتف «هلّت سيّارة العروس» وردّدها ثلانّا فخرج 
ياسين ‏ وهو في كامل زينته وأمّبته ‏ من بين الجاعة 
الوافقة :عتك.. نكنل الفناءة, وق إل الطريق اقرقك 
أمام البيت متّجهًا صوب النحّاسين فرأى موكب 


5 ع5 بين القصرين 


العروس وهو يتقدّم على مهل كأنّه يتبختر. في تلك 
الساعة الحافلة بالسعادة والرهبة على رغم الأعين 
المحملقة فيه من داخل البيت وخخارجه ومن فوق ومن 
تحتء بدا ثابئًا غير هيّاب مفعًا رجولة وفحولة» لعل 
مما أيّده في ثباته إحساسه بأنّه محط الأنظار فغالب 
بشجاعة ما يخفق بين جوائحه من اضطراب أن يبدو 
للناظرين في حال تخجل منها الرجولة, ولعله أيضًا 
علم بِأنْ أباه مدكمش في مؤخرة الجاعة المنتظرة عند 
مدخل الفئاء - التي تضم آل العروسين من الذكور 
بحيث لا تمتد إليه عيناه» فوسعه أن يتهالك نفسه وهو 
يرنو إلى السيّارة الموشاة بالورود التى تحمل إليه عروسه 
بل زوجه منل أكثر من شهر وإن لم تقع عيناه عليها 
بعد. أو الأمل الذي صاغه بأحلامه الظامئة لسعادة لا 
تقنع بما دون الدوام. وتوقفت السيّارة أمام البيت على 
رأس ذيل طويل من السيّارات فأخذ أهبته للاستقبال 
السعيد وقد استجدّت عنده الرغبة في أن يستشفث 
النقاب الحريري ليرى وجه عروسه لأؤل مرق ثم فتح 
باب السيارة وترجلت جارية سوداء في الأربعين قوية 
البنية لمّاعة البشرة نجلاء العينين فاستدلٌ بما يلوح على 
حركاتها من الثقة والإدلال على أنّها الجارية التي تقرّر 
إلحاقها بخدمة العروس في بيتها الجديد. تنحت جانيا 
ووقفت منتصبة القامة كالديدبان ثم خاطبته بصوت 
كرنين النحاس وهي تبتسم عن أسنان ناصعة البياض 
قائلة : 

5 تفضل خذ عروسك. . , 

فتقدّم ياسين من باب السيّارة ومال إلى الداخل 
قليلا فرأى العروس في حلتها البيضاء بين غادتين على 
حين استقبله عرف طيب مفتئة للجوارح فتاه في جو 
الحسن منبهراء ومدٌ لما ذراعه لا يكاد يرى شيئًا ىا 
يكل بصر طالّم نورًا ساطعّاء وعقل الحياء العروس 
فلم تُبْدٍ حراكًا فتطرّعت التي إلى يمينها فتناولت يدها 
وطرحتها على ذراعه هامسة بنيرة ضاحكة : 

- تشجعي يا زيلب. . 

دخلا جننًا لجنب وهي من الحياء تحول بيئه وبينها 
بمروحة كبيرة من ريش النعام وارت بها رأسها وعنقها 


فقطعا الفناء بين صفّين من المنتظرين يتبعههما المدعوّات 
من ألما اللواتي تعالت زغاريدهن كان لا يبالين 
السيد أحمد وقيامه على ذراع منبنّ» هكذا لعلعت 
الزغاريد في البيت الصامت لأول مرّة وعلى مسمع من 
سيّده الجبار فلعلها وقعت من آذان أهله موقع 
الدهشة. بَيْد أئّبا دهشة مزجت بالفرح ولم تَخْل من 
شهاتة بريئة مرحة رؤحت بها القلوب عن قرار الحظر 
الصارم الذي قضى بألا تكون زغاريد ولا غناء ولا 
هو وبأن تمضى ليلة زفاف الابن البكر ا تمضى غيرها 
من الليالي . وتبادات أميئة وخديجة وعائشة النظرات 
متسائلات باسيات وتكأكان على خصاص نافذة مطلة 
على الفناء ليشهدن أثر الزغاريد في نفس السيّد فرأينه 
يحادث السيّد عمّد عت ضاحكا فتمتمت أمينة قائلة : 
«لن يسعه الليلة إلا أن يضحك مهما يبدو مما لا 
يروقه!» وانتهزت أمّ حنفي الفرصة السائحة فاندسشّت 
بين المزغردات كالبرميل وأطلقت زغرودة قويّة مجلجلة 
غطت على الزغاريد كلها وعوّضت بها ما ضيّعت ‏ في 
ظَلّ الإرهاب ‏ من فرص المرح والمسرّة على عهد 
خطبتي عائشة وياسين. وأقبلت على سيّداتها الشلاث 
وهي تزغرد حبّى استغرقن في الضحكء ثم قالت غنّ 
«زغردن ولو مرّة في العمر. . . إنّه لن يدري الليلة من 
المزغرد!»)؛ رجع ياسين بعد إيصال العروس إلى باب 
الحريم فالتقى بفهمي الذي لاحت على شفتيه ابتسامة 
موحية بالحرج والإشفاق لعلّها أثر تا خلّفته في نفسه 
هذه الضحّة البهيجة «المحرّمة». وكان يخالس أباه 
النظر ثم يردّه إلى وجه أخيه ضاحكًا ضحكة مقتضبة 
مخضوضة» فيا كان من ياسين إِلّا أن قال له بلهجة لا 
تخلو من استياء : 

- أيّ استنكار في أن نحبي ليلة الزفاف بالفرح 
والزغاريد؟ . . . وماذا كان عليه لو وافق على استدعاء 
عاللة أو مِعْنٌ؟! 

تلك كانت رغبة الآسرة التى لم تجد إلى اللإفصاح 
عنها من سبيل إلا أن تحرّض ياسين على الاستشفاع 
بالسيّد محمد عفت على أبيه. ولكنّ السيّد اعتذر وأبى 
إلا أن تكون ليلة زفاف صامتة وأن تقتصر مسراتها على 


العشاء الفاخر. وعاد ياسين يقول آسفمًا: 

لن أجد من تزفبي هذه الليلة التي لن تتكرّر أبد 
الدهر!... سأدخل حجرة العروس غير مشيّع 
بالأناشيد والدفوف كأنني راقص بيهر جذعه دون 
إيقاع . 

ثم لاحت في عينيه ابتسامة مرحة ماكرة فقال: 
الذي لا شك فيه أن أبانا لا يطيق «العوالم» إلا في 
بيوتهن ! 

مكث كيهال في الدور الأعلى الذي أعدٌ لجلوس 
المدعوّات ساعة ثم نزل باحنا عن ياسين في الدور 
الأوّل الذي هُيَى لاستقبال المدعوؤين ولكنّه وجده في 
فناء البيت يتفقّد المطبخ المتنقل الذي أقامه الطاهي 
فأقبل نحوه مسرورًا إدلالا بأداء المهمّة التي عهد بها 
إليه وقال له: 

- فعلت كا أمرتني فتبعت العروس حتى حجرتبها 
وتفخصتها بعد أن حسرت النقاب عن وجهها. . . 

فانتحى به جانبًا وهو يسأله باسما: 

هه؟... كيف عودها؟ 

ضاحكا: 

في هذه الناحية لا بأس؟ . . . أتعجبك كعائشة؟ 

كلا. . . أبلة عيشة أجمل كثيرًا. . . ! 

- مخرب بيتك أتريد أن تقول إنها كخديجة؟ 

كلا إئّها أجمل من أبلة خخديجة, . . 

كثيرًا؟ ! 

فهرٌ رأسه مفكرًا فسأله الشات بلهفة: 

- حدّئنى عا أعجبك فيها؟ . . . 

أنفها صغير كأنف نيلة. . . 
أيضا. . , 
م 
- لونها أبيض وشعرها أسود ورائحتها حلوة 


هٌ 
جذأ. . 


وعيناها كعيني ليلة 


ب لسحملمة , , , رينا يبشرك بخير, . . 
وخيّل إليه أن الغلام يغالب رغبة في معاودة الكلام 
فسأله في شيء من القلق : 


بين القصرين ه/9غ 

هات ما عتدك ولا غَمَفْ! 

- رأيتها تخرج منديلا ثم تتمخط! 

والتوت شفتاه تقَرٌرًا كأنما كر عليه أن تند الفعلة 
عن عروس في رَيُّق فتنتهاء فا تمالك ياسين أن ضحك 
قائلا : 

لد هنا عال» ريّنا عل العواقب سليمة! 

ألقى نظرة كثيبة على الفناء اخالي إلا من الطاهي 
وصبيانه» وبعض الأولاد والبنات فتخيل ما كان ينبغي 
أن يوجد من معالم الزينة وسرادق الطرق ومجلس 
المدعوين. من تفبى بهذا؟... أبوه!... الرجل 
الذي يفوح عرقه بالمجون والعريدة والطرب. . 
أعُجب به من رجل يحل لنفسه اللهو الحرام ويحرّم عل 
بيته اللهو الحلال. وراح يتخيل مجلس السيد كيا راه 
في حجرة زبيدة بين الكأس والعود فيا يدري إلا وقد 
وثبت إلى ذهنه فكرة غريبة لم تخطر له من قبل على 
شدّة وضوحها فيها رأى. تلك هي التشابه بين طبيعتي 
أبيه وأمّه! طبيعة واحدة في شهوانيّتها وجريها وراء 
الل في استهتار لا يقيم وزنًا للتقاليد ولعلّ أمّه لو 
كانت رجلا لما قصّرت عن أبيه في الليْج بالشراب 
والطرب أيضًا! لذلك النقطم ما بينه]- أبيه وأمه 
سريعاء فيا كان لمثله أن يطيق مثلها وما كان لمثلها أن 
تطيق مثلهء بل ما كانت الحياة الزوجيّة لتستقيم له 
لولا وقوعه على زوجته الراهنة! ثم ضاحكا ضحكة لم 
يتح لها روعه من هذه (الفكرة الغريبة» روحًا من 
السرور «عرفت الآن من أكون» لسث إلا ابن هُذين 
الشهوانئين» وما كان لي أن أكون غير ما كنت!» في 
اللحظة التالية تساءل ثرى ألم يخطئه الصواب عند 
إغفال “دعوة أمّه إلى زفافه؟! تساءل رغم إصراره على 
الاعتقاد بأنه لم يتب عن الصوابء, لعل أباه رام 
إراحة ضميره حيئ| قال له قبل ليلة الزفاف بعدّة ليال, 
«أرى أن تبلغ أمَك. ولك إن شئت أن تدعوها إلى 
شهود زفافك» ذاك قوله بلسانه لا بقلبه فيا يعتقد. فيا 
يتصوّر أن يرضى أبوه له بأن يذهب إلى حيث يقيم 
ذلك الرجل الحقير الذي اتخذته أمّه زوجًا لما من بعد 
أزواج كثيرين» وأن يتودّد إليها على مرأى منه بأن 


+؛ بين القصرين 

يدعوها إلى شهود زفافى لا كان الزفاف» ولا كانت 
أي سعادة في هذه الدنيا إن حملته يومًا على أن يصل ما 
انقطع بيئه وبين تلك المرأة. . . تلك الفضيحة. . . 
تلك الذكرى المخزية! وما كان منه إلا أن أجاب أباه 
وقتذاك قائلا : دلو كان لي م م لكانت أوّل من أدعو 
إلى زفافي!؛ انتبه فجأة إلى الأولاد والبنات وهم يرلون 
إليه ويتهامسون فخصٌ البنات بنظره وَسأَهن بصوت 
جهوريّ ضاحك «هل تحلمن بالزواج من الآن يا 
بنات؟) واتجه نحو باب الحريم وهو يذكر قول خخديجة 
الساخر له بالأمس «إِيَاك وأن تستسلم غدًا للحياء بين 
المدعوّين وإلا عرفوا الحقيقة المرّة وهي أنْ أباك الذي 
زوّجك ونقد مهرك وجملة تكاليف ليلتك. ولكن تمرك 
بلا توقف, تتقّل بين حجرات المدعوّين» ضاجِكٌ هذا 
وكلّم ذاك. اطلم وانزل, تفقّد المطبخ. اهتف 
وازعق. لعلّك توهم الئاس بأنك ,حقًا رجل الليلة 
وسيّدها!» فمضى ضاحكا وفي نيّته أن يمتثل النصيحة 
الساحرة فخطر بين المدعوين بجسمه الطويل الحسيم 
في أناقة بديعة ووسامة جذابة وشباب ريّق. ذهب 
وجاء» ونزل وطلع, وإن لم يفعل شيئاء بيد أن الحركة 
نفضت عن نفسه طوارئ الفكر فصفت نفسه لفائن 
الليلة. ولا خطرت العروس على قلبه سرت في بدنه 
قشعريرة بهيميّة» ثم ذكر آخر ليلة قضاها عند زثوبة 
العرّادة من شهرء كيف أنبأها بزواجه الوشيك وهر 
يودعها وكيف هتفت به بلهجة اصطنعت الغيظ «يا بن 
الكلب!... كتمت الخير حي نلت وطرك!, . . 
(المركب اللي تودّي أحسن من اللي تجيب)... مع 
ألف شبشب يا بن المركوب»» لم يعد لزنُوبة من أثر في 
نفسه. ولا لغيرهاء أسدل السثار على هذا الجانب من 
حياته إلى الأبد. ربا عاود الشراب فيا يظنٌ أن تموت 
رغبته فيهء أمّا النساء فلم يتصور أن تزيغ عيئاه إلى 
امرأة عابرة وبين يديه حسناء طوع بنائه» عروسه لذّة 
متجدّدة, ري للظم الوحثيّ الذي طالما قلقل كيانه. 
ثمّ راح يتمثل حياته المقبلة» الليلة؛ والليالي الآتيات» 
الشهر والعام فالعمر كلّه ووجهه يسطع ببجة ناطقة 
لحظها فهمي بعين مليئة بحب الاستطلاع والغبطة 


الحادئة وغير قليل من الأمى. وجاء كيال الذي كان 
يتراءى في أيّ مكان فجأة وخاطب ياسين والبشر يتالق 
في وجهه: 

الطاهي قال لي إِنْ الحلوى تزيد على حاججة 
المدعوين والمدعوات وإِنّه سيتبقى مها مقدار وفير. , . 


.4 
زاد مجلس القهوة وجها جديدًا بانضام زينب إليه. 

وجهًا زكاه بريق الشباب وفرحة العرس» وفيها عدا 
هذاء وفيا عدا فرش الحُجُرات الثلاث المجاورة 
لحجرة الوالدين في الدور الأعلى بجهاز العروس. فلم 
يحدث زواج ياسين تغييرًا يذكر في النظام العام للبيت 
سواء من الناحية السياسيّة التي ظلّت خاضعة بكل 
معاني الكلمة لسلطان السيّد وإرادته أو من الناحية 
الإداريّة الداخليّة التي ظلّت وحدة تابعة طيمنة الأمّ كيا 
كان الحال قبل الزواج. التغيير الجوهريّ حمًا كان 
الذي طرأ على النفوس ودار مع الخواطر فدقت رؤيته 
على الحواسٌ» إذ لم يكن من اليسير أن تشغل زينب 
مكانة الزوجة للابن البكر وأن يجمعها وبقيّة أفراد 
الأسرة بيت واحد دون أن يطرأ على العواطف والمشاعر 
تطور ذو شأنء رمقتها الم بنظرة امتزج فيها الرجاء 
بالحذرء هذه الفتاة الى قضى عليها بأن تعاشرها دهرا 
طويلاً ربا امتدٌ حيّ باية العمرء أيّ إنسان تكون؟ 
ماذا تخبىع وراء ابتسامتها الرقيقة؟ بالحملة استقبلتها كما 
يستقيل مالك البيت ساكئا جديدًا فيؤمّله ويحاذره, أما 
خحديجة فعلى رغم المجاملات التي تبودلت بينبها جعلت 
تسدّد نحوها عينين نافذتين مفطورتين على السخرية 
وسوء الظنّ منقبة عن العيوب والمآخذ بحرص 
ساخط لم يلق من انضامها إلى البيت وفوزها بالزواج 
من أخخيها إلا ضيمًا خنيًاء فلا اعتكفت الفتاة في 
حجراتها الأيام الأولى من الزواج ساءلت نخديحة أمها 
وهما في حجرة الفرث «ثرى هل حجرة الفرن مكان غير 
لائق (بها)؟» ومع أن الأمٌ وجدت في تبجّمها ترويحًا 
عن حيرة ظنوبها إلا أثها انمهذت موقف الدفاع عن 
الفتاة وأجابتها قائلة: «صبرك؛ لم تزل عروسًا في بدء 


عهدها الحديد!» فتساءلت الأخرى بلهجة تثى 
مالا عاك و رون 13 الا انق اندر فييك 
للعرائس؟!4» فسألتها أمّها وكأتما تطرح السؤال على 
نفسها هي «أتفضّلين أن تستقلٌ بمطبخها؟: فهتفنت 
خديحة معترضة «لو كان المال مال أبيها لا مال أي از 
هذا! ولكيّي أعني أئّها يجب أن تعمل معناء» على أنه لم 
قرّرت زينبء بعد انقضاء أسبوع على الزواج» أن 
تحمل بعض الأعباء في حجرة الفرن لم يرخب قلب 
خدئحة ذه الخطوة التعاونية ومضت تلاحظ عمل 
العروس بدقة انتقاديّة وتقول لأمّها: «لم تجئ لتعاونك 
ولكن لتمارس ما لعلّها تدّعيه لنفسها من حقٌ». أو 
تقزل .ساعرة: وطالما معنا عن آل عدف اليم .من 
الصفوة وأثهم يأكلون ما لا يأكل الناس... فهل 
وجدت في طهيها شيئًا عجيبًا لم نسمع به؟!» بيد أن 
زينب اقترحت يوما أن تصنع «الشركسية» باعتبارها 
الصنف الأثير على مائدة أبيها وهي المرّة الأولى 
لدخول الشركسيّة في بيت السيد ‏ فحازت لدى تناوها 
إعجابًا شاملا بلغ أقصاه عند ياسين حتّى أن الأم 
نفسها لم تبرأ من لسعة غيرة» أما خديجة فجن جدونها 
وجعلت تهزأ بالصنف قائلة «قالوا شركسية قلنا يعيش 
المعلم يتعلّم ولكن ماذا رأينا؟ أررًا وصلصة في هيئة 
بوليتيكاء طعمها لا هنا ولا هناك كالعروس تزف إلى 
عريسها في حلة خلابة وحلّ لألاء حبّى إذا نزعت عنها 
ياب العرس بدت فتاة عاديّة من نفس الخلطة المعروفة 
من قبل أي اللحم والعظم والدم!» ثم ما كاد يمفي 
عن الروام ابرع وا حل الله عل معمن مت آنها 
وكيال إن العروس وإن كانت بيضاء البشرة وذات حظ 
«معتدل» من الال إلا أنَّ دمها ثقيل كالشركسيّة سواء 
بسواءء قالت هذا في نفس الوقت الذي أكبّت فيه عل 
استظهار دقائق صنع الشركسيّة بحذقها المعترف به! 
على أنْ ثمّة أحاديث صنلاوت-عن. زينت: يسن لهاب 
في الأقلّ لأنْ وقت سوء الثيّة لم يثن بعد فآثارت 
الخواطر وألقت عليها ظلا من الشكٌ إذ طاب لها كلّما 
تبيّات مناسبة أن تنوه بأصلها التركيّ وإن الترمت 
الأدب واللطف كما لذَّ لها أن تروي لهم بعض ما 


بين القصرين /الا؛ 
شاهدت من رحلات في حبلطور والدها وبصحبته إلى 
الملاهي البريئة والحدائق فوقع الحديث كله من نفس 
الام موقعًا أدهشها إلى حدّ الانزعاج. عجبت لتلك 
الحياة التي تسمع عنبا لأول مرّة. وأنكرتمباء 
واستدكرت فيها بينها وبين نفسها هذه الحرّيّة الخريبة 
استنكارًا جاوز كل تقديرء إلى أن المباهاة بالأصل 
التركئ - وإن لفت بالأدب والبراءة ساءتها كشيرا 
لأنها كانت على تخشعها وانطوائها ‏ شديدة الاعتزاز 
بأبيها وبعلها فترى أنْا مما في مكانة لا تدان إلا أنْبا 
كظمت ما قام بنفسها فلم تلق زينب منها إلا اهتمام 
الإصغاء وابتسامة المجاملة, ولولا حرص الأمٌ الشديد 
على السلام لانفجرت خديجة حنقًا ولساءت العاقبة, 
على أنّْا نفْست عن غيظها بطرق ملتوية ليس من 
شأبها أن تعككر صفو السلام كتعليقها على أنباء 
الرحلات مثلا ‏ وهي التي لم يسعها أن تجهر فيها 
برأيها ‏ بالمبالغة في إظهار الدهشة» أو بالمياف وهي 
تحملق في وجه محدّئتها ويا خبر!» أو بأن تضرب 
براحتها على صدرها وهي تقول: «ويراك السابلة 
وأنت تمشين في الحديقة41». أو بقولها: «ما كنت أتصور 
إمكان هذا يا ريٌ!» وغير ذلك من العبارات التي وإن 
لم تفصح ألفاظها عن إساءة إلا أنْ لهجتها الممطوطة 
التمثيليّة تضمّدت أكثر من معنى كلهجة الزجر التي 
يصطنعها الأب وهو يتلو القرآن إذا ما أنس من ابنه 
غير البعيد عنه إتعلالا بالنظام أو الأدب وعرٌ عليه 
لزجره صراحة أن يخرج من الصلاة. لذلك لم تكن 
تخلو إلى ياسين حيّ تبادره مروّحة عن غيظها الذي عز 
عليه المتنفّس «يا سلام يا سلام على عروسك 
النزهيّة). فيقول لما ضاحكًا «هذه هي الموضة التركية 
التي تسمو على إدراكك!» فتذكرها صفة «التركيّة) 
بالمباهاة الثقيلة على قلبها فتقول «على فكرةء» ست 
الدار تباهي كثيرًا بأصلها التركئ » لاذا؟. . . لأن جد 
جد جد جد جدّها تركئ!. . . حذار يا أخي فَإِن 
خاتمة التركيّات الجنون» ولكثه يقول لها مجاريًا سخريتها 
«الجبون أحبٌ إل من وجه أنفه يجن ذا الذوق 
السليم!» تراءى لأعين المتنيئين النقار المتوقع بين 


بين القصرين 
خديجة وزيئب في أفق الأسرة فنبهها فهمي إلى ضبط 
لسانها أن يبلغ الفتاة شيء من هذرهاء وأشار محذُرًا 
إشارة خفيّة إلى ال الذي داب على التنقّل بيهم وبين 
العروس تنقّل الفراشة ‏ حاملة اللقاح ‏ بين الأزهار! 
ولكن غاب عنه ‏ كما غاب عن الأسرة جميعًا ‏ أن 
القدّر كان يعمل من جانبه على ال حيلولة بين الفتاتين» 
إذ زارت البيت حرم المرحوم شوكت وعائشة زيارة لم 
يحلم أحد من قبل يأن تتوّج بالنباية التي توجت بهاء 
قالت العجوز تخاطب الأمٌ على مسمع من خخديجة : 

يا أميئة هانم جئتك اليوم خاصة لأخطب خديجة 
لابني إبراهيم . . . 

فرحة بلا تمهيد وإن طال النتظارها حيّى شى. 
فلذلك سجع صرت الرأة في أذني الأمّ سجمًا جميلا 
حتّى إِنْبا لم تذكر أن قولا قبله ‏ بل صدرها بندى 
الطمأنيئة والسلام كما بل فكاد يستخفّها الفرح وهي 
تقول بصوت متهدج : 

- ليس لي في خديجة أكثر مما لكء هي ابنتك 
ولتجدن في جماك أضعاف ما تجد في بيت أبيها من 
السعادة. . . 

استرسل الحديث السعيد إلا أنّْ خديجة جعلت 
تغيب عنه فيا يشبه الذهول.» خفضت عينها في حياء 
وارتباك وقد زايلها روح السخرية التى طالما توهجت في 
حدقتهاء فشملتها وداعة غير معهودة ثم جرت مع تيار 
خواطرها. حاء الطلب مفاجأة. فكما بدا عسيرًا فى 
غيابه بدا غير مصِدّق في حدوئه حبّى لقد غشيت 
فرحتها موجة ثقيلة من الذهول. . . «لأخحطب خديجة 
لابني إبراهيم». . . ماذا دهاه؟. . . إِنّْه على وله 
الذي أثار هزءها حسن المحيّا وجيه في الرجال» فياذا 
دهاه؟ ! 

ومن -حسن الطالع أن يجمع بين الأختين في بيت 
واسحد . 

صوت حرم المرحوم شوكت يؤكّد الحقيقة ويزكي 
وجوهها... ليس ثمّة شك. . . إبراهيم مثل خليل 
مالا وجاعًا فأئّ حظ ادخرته لما الأقدار. لشدّ ما 
أسفت على أن عائشة سبقتها إلى الزواج إذ لم تكن 


تدري أن زواج عائشة هو الذي قدّر له أن يفتح ها 
أبواب الحظ المغلقة. 

ما أجمل أن تكون السلفة هي الشقيقة فيزول 
سبب جوهري من أسباب وجع الدماغ في الأسر (ثم 
ضاحكة) فلا تبقى إلا حماتها وأظنّ أمرها هيئًا! 

إن تكن سلفتها هي شقيقتها فحاتها هي أمها بلا 
نقصال . 

لم تزل الأمّان تتجاملان. لقد أحبّت العجوز وهي 
ترف إليها البشرى بقدر ما أبغضتها يوم خطبت 
عائشة! يجب أن تعلم مريم بالخبر اليوم» لا تطيق أن 
تؤْجّله إلى الغد. لا تدري ما الدافع إلى هذه الرغبة 
الملحة. لعله قول مريم لحا غداة خطبت عائشة «ماذا 
كان عليهم لو أثّهم انتظروا حيّى تتم خطبتك أنت؟!» 
فأغراها وقتذاك سوء ظنها المطبوع باتهام براءته 
الظاهرة. ولمّا انصرفت أسرة شوكت قال ياسين بقصد 
التحرش والدعابة : 

- الحقٌ أني هذ رأيت إبراهيم شوكت قلت لنفسي ما 
أجدر هذا الرجل الثور الذي لا يبدو أنه يفرّق بين 
الأبيض والأسود أن يقع اختياره يومًا على زوجة مثل 

فابتسمت تخديجة ابتسامة حفيفة ولم تلبس بكلمة 
فهتفا بدهشة : 

هل عرفت الأدب والحياء أنخيرًا! 

بيد أن وجهه نطق وهو بمازحها بالرضا والغبطة فلم 
يعكر صفوهم إلا حين تساءل كال في قلق : 

أتتركنا خديجة أيضًا؟ 

فقالت الأمّ تعرّيه وتعرّي نفسها: 

دالضة) السكر نه بعيدة: 

على أنْ كال لم يستطع أن يدلي بما عنده في حرية 
كاملة إلا حين انفرد بأمّه ليلا فتربّع قبالتها على الكنبة 
وسأنها بصوت ينم عن الاحتجاج واللوم : 

ماذا جرى لعقلك يا ليئة؟... أتفرّطين في 
حديجة كا فرطت في عائشة؟ 

فأفهمته أئها لم تفرّط فيه ولكتّها ترضى بما 
يبسعلهما , 


فقال عحذّرًا كأنما ينبّهها إلى شىء فاءها ويوشك أن 
يفوتها مرّة أخرى : 

ستذهب هي الأخرى» وعا ظحت اغا ستعود ى) 
ظئنت بعائشةء ولكتها لن تعودء وستزورك إذا زارتك 
كالضيفة فا إن تشرب القهوة حتّى تقول لك السلام 
عليكم. إني أقولها في صراحة إِنْها لن تعود, 

ثم محذّرًا وواعظًا في آن: 

- ستجدين نفسك وحدك بلا رفيق» من يعيندك 
على الكنس و«التنفيض؟... من يعينك في حجرة 
الفرن؟ من يجالسنا في جلسة المساء؟... من 
يضحكنا؟. . . لن تجدي إلا أمّ حنفي التي سيخلو لها 
الميدان لسرقة طعامنا كله , 

فأفهمته مرّة أخخرى أنْ في الزواح سعادة؟! . . . 

أؤكد لك أنه لا سعادة مطلمًا في الزواج. كيف 
يحظى أحد بالسعادة بعيدًا عن نينة؟ 

ومردفًا بحماس : 

- ثم إنها لا ترغب في الزواج كما لم ترغب فيه 
عائشة من قبل. . . لقد صارحتني بذلك ذات ليلة في 
فراشها! 

ولكتّبا قالت له إِنّهِ لا بدّ للفتاة من أن تتروجء فلم 
يتتالك من أن يقول: 

من قال بأنّه لا بدّ للفتاة من أن تذهب إلى بيوت 
الغرباء!. . . ثم ماذا تفعلين لو أجلسها الآخر على 
الشيزلئج وتناول ذقنها هي الأخرى و. . . 

عند ذاك زجرته وأمرته بألا يتكلّم فيما لا يعنيه 
فضرب كفا بكفٌ وهو يقول منلرًا : 
. وسثرين! 

في تلك الليلة لم يغمض لآمينة من يقظة الفرح 
جفن كائها السماء المقمرة لا تغشاها الظليماء» فظلت 
مستيقظة حب جاء السيّد بعد منتصف الليل» ثم زفت 
إليه البشرى فتلقاها بغبطة أطارت عن رأسه السمار 
بالرغم ما في هذا الرأس من نظريات غريبة عن زواج 
البنات, إلا أنه تجهُم بغتة متسائلا : 

هل أتبح لإبراهيم أن يراها؟ ! 

ساءلت المرأة نفسها ألا يمكن أن يدوم ابتهاجه ‏ 


أنت ححرّة. . 


بين القصرين 49/4 
ونادرًا ما يعلنه ‏ أكثر من نصف دقيقة؟... وتمتمت 
أمه. . 
فقاطعها محتلٌ! : 

- هل أتيح لإبراهيم أن يراها؟ ! 

فقالت وقد ولَّى عنها السرور لأوّل مرّة في تلك 
الليلة : 

دخل علينا مرّة في شقّة عائشة باعتباره فردًا من 
الأسرة فلم أر في ذلك من بأس . 

فتساءل مرمجرًا: 

- ولك لم أعلم بذلك. 

كل شيء ينذر بالشرّء ترى هل يبوي على مستقبل 
الفتاة بضربة قاضية؟. . . على رغمها اغرورقت عيناها 
بالدمع وما تدري إلا وهي تقول مستهيلئة بغضبته 
المكفهرة : 

د سيّدي» حياة خديجة وديعة بين يديك. هيهات 
أن يبتسم لما الحظ مرتين. 

فرماها بنظرة قاسية وراح يبدر مدمدمًا مهينما مهمهم] 
كأتما ردّه الغضب إلى حالة من حالات التعبير 
بالأصوات التي مر بها أسلافه الأولونء ولكنّه لم يزد 
عل ذاك شيئًاء لعلّه أضمر الموافقة من أوّل الأمر 
ولكنّه أبى أن يسلّم بها قبل أن يسججل سخطه 
كالسياميَ الذي يباجم خصمه وإن اقتنع بالغاية التي 
يستهدفها ‏ ذودًا عن مبادئه , 


كة 

مضى شهر العسل وياسين متفرّغ بكليّته لحياته 
الزوجيّة الجديدة» لا يصرفه عنبا عمل في الغبار حيث 
وافق زواجه أواسط العطلة الصيفية» ولا سهر بالليل 
خارج البيت لأنْه لم يكن يغادره إلا للضرورة القصوى 
كابتياع زجاجة كونياك مثلاء وفيها عدا هذا لم يجد 
لنفسه عملا أو معيّى أو صفة خارج نطاق الزوجيّة 
فاندلق عليها بقوّة وحماس وتفاؤل خليقة برجل ظنّ أنه 
ينشُذ الخطوات الأولى في برنامج ضخم من المتعة 
الجسديّة سيمتدٌ يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر وعاما 


بين القصرين 

بعد عام. ولكنه أدرك في الثلث الأخير من الشهر أن 
تفاؤله لا بدّ أن يكون مبالعًا فيه على نحو ما أو أنْ 
خللا لا يدري كنبه قد طرأ على حياته. كان يعاني في 
حيرة بالغة ولأوّل مرّة في حياته ذاك المرض المتوطن في 
نفس الإنسان الملل. لم يعرفه من قبل عند زثوبة ولا 
حيّى عند بائعة الدوم لأنّه لم يملك هذه أو تلك كسما 
يملك زينب الآن بيمينه ويحوزها تحت سقف بيته. فأيّ 
فتور يتبخر من تلك «لملكيّة» الآمنة المطمئئة. .. 
الملكيّة ذات الظاهر الخلاب المغري لدرجة الموت 
والباطن الرزين الثقيل لحدٌ اللامبالاة أو التقرّز كائا 
الشيكولانة المزيّفة التي تبدى في أوَل إبريل بقشرة من 
الحلو وحشو من الثومء وأي مأساة في أن تندمج نشوة 
القلب والجسد في آليّةَ العادة المنظمة العاقلة الباردة 
المتكرّرة القاتلة للشعور والحجدّة كأنها رؤية روحانية 
رفيقة تجِسّدت في صلاة لفظيّة تردّدها الذاكرة بلا 
وعى!... وراح الفتى يتساءل عما دهى ثورته. عم 
هدى شياطينه» عن ذاك الشبع وأين جاء؛ عن تلك 
الفتنة أين ذهبث» أين ياسين وأين زينب» أين 
الأحلام , أهذا شأن الزواج أم شأنه هوء وكيف إذا 
تتابعت الشهور في أعقاب الشهور! ليس أنه لم يعد له 
رغبة فيهاء ولكتّها لم تعد رغبة الصائم في لذيذ المأكل. 
هاله أن يدركها المدوء حيث انتظر لما الازدهار, 
وضاعف من حيرته أنه لم يبد على الفتاة عارض من 
عوارض رد الفعل أو بالأحرى أمْها تزيد حيويّة ورغبة 
فحين) يظنٌ أنْ النوم بات واجبًا بعد طول التعب لا 
يدري إلا وساقها تطرح على ساقه كأتما طرحت عفوًا 
حبّى قال لنفسه ديا عجبًا. .. أحلامي عن الزواج 
نحققت عندها هي !» إلى هذا كله وجد في عنفها نوعًا 
من الاحتشام وإن طاب له أوْل الأمر أنه جعله يهيم 
آخمرًا في وديان الذكريات التى ظنّ أنه ودّعها إلى 
الأبد» طغت على رأسه من الأعماق «زثوبة» وأخخريات 
كا تطفو ودائع البحر عند هدوء العاصفة لاا لشرّ يبيت 
فالحقٌ أنه مرق إلى عش الروجيّة عامر القلب بالئيّة 
الحسنةء ولكن للموازنة والمقارنة والتأمل» وليقتنع 
أخيرًا أن «العروس» ليست المفتاح السحريّ لدنيا 


المرأة» ليس يدري كيف يخلص حمًا للنوايا الحسنة 
التي فرش بها طريق الزواج» يبدو جانب ‏ على الأقل - 
من أحلامه الساذجة عسير التحقيق وهو ظئّه بأنْه 
سيستغني بأحضان زوجه عن العالم الخارجي» وأله 
سيلبد بكنفها العمر كلّهء ذاك حلم من أحلام الشهوة 
في سذاجتهاء وسيجد من الآن فصاعدًا أنْ الانقطاع 
عن عالمه وعاداته مما يشقّ عليه وليس ثمة ضرورة 
تدعو إليهء وأنه ينبغي أن يتلمس وسيلة أو أخرى ‏ 
الو تكس الرقك ان "لصن اللرني هدق افيه وا فكازه 
وحيبتهء حقّ المغئي المجيد إذا طال في تقاسيم الليالي 
انبعث في نفس السامع الشوق إلى الدخول في الدور, 
ثم إنه في الانطلاق من محبسه فرصة للاختلاط 
بالأصحاب اللمتزوجين لعله يظفر عندهم بأجوبة مسكنة 
للأسئلة الحيرى التى تلم عليهء ولن يتأن له من وراء 
ذلك الدواء الشافي لكلّ داء.. . وكيف يؤمن بعد 
اليوم بوجود دواء شافب لكل داء؟! يحسن به من الآن 
ألا يرسم برامج بعيدة المدى. لا تلبث أن تنهار سائخرة 
من قدرته على التخبيل. ليقلع من تنسيق حياته 
بالخطوة تلو الخطوة حيّى يرى أين يرسوء وليبدأ بتنفيذ 
اقتراح اقترحته هي زوجه ‏ عليه بأن يخرجا معا. 

ما توق الآسرة ذاك«مساء إلا :وياسين وروسة 
يغادران البيت من دون أن يطلعا أحدًا على مقصدهما 
بالرغم من أمبيما قضيا معهم سهرة المساء. بدا الخروج 
بالنظر إلى وقته المتآخر من ناحية وإلى وقوعه في بيت 
السيّد من ناحية أخرى حادثًا غريبًا أثار شي الظنون 
فيا عتمت نخديجة أن استدعت نور جارية العروس 
وسألتها. عنًا تعلم عن خروج سيّدتها فاجابت اللحارية 
بصوتها الرنان في بساطة متناهية : 

- ذهبا يا ستي إلى كشكش بك . 

فهتفت خديجة وأمها في نمس واحد: 

- كشكش بك! 

ليس الاسم غريبًا عليهم» اقتحم ذكره الدور 
وتغنُ بأغانيه كل من هب ودبٌ ولكئه على ذلك يبدو 
بعيدًا كأبطال الخرافات أو كُزبلن إبليس الساء. أن 


يذهب ياسين بروجه إليه أمر مختلف جدًا ليس دونه أن 


يقال ذهبا إلى محكمة الحنايات. ردّدت الأم عينيها بين 
خحديجة وفهمي وتساءلت فيا يشبه الخوف: 

- متى يعودان. . ., 

فأجابها فهمي وابتسامة لا معنى ا تفغم على 
شهتيه : 
ع بعل متعك الول ورا قل النجن: 

صرفت الأم الجارية وانتتظرت حتّى غاب وقسم 
أقدامها ثم قالت في لهوجة وانفعال: 

- ماذا دهى ياسين؟! كان جالسًا بيننا في كامل 
عقله... ألم يعد يعمل حسابا لأبيه؟ 

ياسين أعقل من أن يدبّر رحلة كهذهء ليست قلة 
العقل عيبه ولكن به شنوع لا يليق بالرجال» أقطع 
ذراعي إن لم تكن هي حرضته. 

فقال فهمي مدفوعًا برغبة في تلطيف الحو المتوثر 
وان تق لع الور ودين عات ايه 

ياسين ذو ميل قديم إلى الملاهي . 

فضاعف دفاعه من حنق خديجة التى اندفعت 
فائلة : 

- لسئا بصدد الحديث عن ياسين وميولهء له أن 
بحب الملاهي كما يحلو له أو أن يواصل السهر في 
الخارج حيّى مطلع الفجر كلما شاء؛ ولكنّ اصطحاب 
زوجه المصون معه فكرة لا يمكن أن تصدر عن ذاته 
فلعلّها جاءته عن إيحاء عجز عن مقاومته خصوصا وأنه 
يبدو مستكيئًا بين يدها كالقطة الأليفة» ثم إنها فيما 
أرى لا تتورزع عن رغبة كهذه. ألم تسمعها وهي تروي 
قصص الرحلات التي شاهدتها بصحبة والدها؟! لولا 
إيماؤها ما أخذها معه إلى كشكش بك يا 
للفضيحة! ‏ في هذه الأيام الى ينجحر فيها الرجال في 
البيوت كالفيران رعبًا من الأستراليين. 

لم يقف التعليق على الحادث عند حدّ لما أثاره في 
النفوس - سواء المهاجمة أو المدافعة أو المحايدة ‏ من 
امتعاض». كمال وحده تابع النقاش المحتدم في صمت 
بقظ من دون أن يفطن إلى السرٌ الذي جعل من 
كشكش بك جرية نكراء استوجبت ذلك النقاش كله 


بين القصرين 48١‏ 
وذاك الكرب كلّهء اليس كشكش هذا صاحب التمثال 
الصغير الذي يباع في الأسواق بجسم متونّب في دعابة 
ووجه ضاحك ذي لحية عريضة وجبّة فضفاضة وعامة 
مقلوظة؟ أليس هو من تُنسب إليه الأغاني المرحة التي 
استظهر بعضًا منها ينشده مع صديقه فؤاد بن جميل 
الحمزاوي وكيل أبيه؟ فبأي شر يتهمون هذه الشخصية 
اللطيفة التي ارتبطت في خياله بالفكاهة والمرح؟. . . 
لعل مصدر هذا الكدر إلى اصطحاب ياسين لزوجه لا 
لكشكش بك نفسهء فإن كان ذلك كذلك فهو يتفق 
معهم في الانزعاج من جرأة ياسين خخصوصا وأنَ زيارة 
أمّه للحسين وما أعقبها من أحداث لا يمكن أن تبرح 
ميّلته. أجل كان الأجدر بياسين أن يذهب وحده أو 
أن يأخذه «هوء إن كان يريد رفيقا لا سيّما وأنه في 
عطلة الصيف فضلا عن نجاحه المتفوّق في المدرسة. 
وما يدري إلا وهو يقول متأئرًا بأفكاره : 

ألم يكن من الأفضل أن يأخذني أنا. . . ؟! 

اندسٌ تساؤله في الحديث كما تندس نغمة غربية 
مقتبسة في لحن شرقئ صميم» فقالت نعدية : 

من الآن فصاعدًا بحن علينا أن نعذرك في قلة 
عقلك . . . ! 

فندّت عن فهمي ضحكة قائلا: 

ابن الور عوام . . . 

بَيْد أن المثل رن فى أذنيه رنيئًا جافيًا وكد أثره السبّئ 
تحديق أمّه وأنحته خديجة في عيئيه باستغراب فانتبه إلى 
خطتئه غير المقصود وتداركه قائلً وقد دخله امتعاض 
وخحجل : 

أخو الور عوّام! . . . هذا ما قصدت أقوله. . . 

دل الحديث في جملته على تحامل خديجة على زينب 
من ناحية. وخحوف الأم من العواقب من ناحية 
أخرى. بَيْد أن أمينة لم تعلن ما في نفسها كله. في 
تلك الليلة عرفت في نفسها أمورًا لم تكن تعرفها من 
قبل. أجل كثيرًا ما وجدت نحو زيئب إنكارًا وضيقًا 
ولكنّه لم يبلغ أن يكون نفورًا أو كراهية فعزته إلى 
خيلاء الفتاة بداع وبغير داع » ولكن هاها اليوم أن 
تخرق الآداب والتقاليد. وأن نحل لنفسها ما لا يحل - 


بين القصرين 


قُِ نظرها هي إلا للرجال. عابت هذا السلوك بعين 
امرأة قضت عمرها حبيسة وراء الجدران» امرأة دفعت 
صحّتها وسلامتها ثمنا لزيارة بريئة لزين آل البيت لا 
لكشكش بكء. فازج انتقادها الصامت شعور طافح 
بالمرارة والغيظ كأنْ منطقها غدا يردّد فيها بينها وبين 
نفسها «إمّا أن تنال الأخرى الحزاء أو فلتذهب الحياة 
هباء). هكذا ثلوّث بالحئق والموجدة ‏ في الشهر الأول 
من معاشرته لامرأة جديدة- القلب الطاهر الورع 
الذي لم يعرف طول حياته المحفوفة بالجدٌ والصرامة 
والتعب إلا الطاعة والعفو والصفاء. وليًا أوت إلى 
حجرتها لم تدر إن كانت تود كما دعت بلساها أمام 
أبنائها ‏ أن يستر الله على «جناية؛ ياسين أم أثْها ترجو 
أن ينال أو بالأحرى أن تنال زوجه جزاءها من الرجر 
والتأنيب؟ بدت تلك الليلة وكائها لا يعنيها من أمسر 
الدنيا حميعًا إلا أن نصان تقاليد الأسرة من كل عبث 
وأن يدفع عنها ما يتحرّش بها من عدوان» بدت غيورا 
على الآداب إلى حد القسوة فطمرت عواطفها الرقيقة 
المألوفة في الأعاق باسم الإخلاص والفضيلة والدين 
متعلّلة بها فرارًا من ضميرها المتألم كالحلم الذي ينفس 
عن غرائز مكبوتة باسم الحرَيّة أو غيرها من المبادى 
السامية. جاء السيّد وهي على تلك الحال من 
التصميم إلا أن منظره بت الخوف في حناياها فانعقد 
لساكباء راحت تتابع حديئه وتيب عن أسئلته بذهن 
شارد وفؤاد خافق لا تدري كيف تنفّس عا احتدم 
بخاطرهاء وكلّما مرّ الوقت واقترب ميعاد النوم لحت 
عليها رغبة عصبيّة في الكلام. كم ودّت لو'تتكشف 
الحقيقة بنفسها كأن يجيء ياسين وزوجه مثلا قبل 
إخلاد أبيه إلى النوم فيتنبه السيّد بنفسه إلى فعلته 
النكراء فيجبه العروس الرعناء برأيه في سلوكها بغير 
تدخل منها هي الأمّ ‏ لا شك أنّه يحرمها بقدر ما 
يريحها... انتظرت طويلا في لهفة وقلق أن يطرق 
الباب الكبيرء انتظرت دقيقة بعد أخرى حي تثاءب 
السيد وقال بصوت متراح : 

- أطفئي المصباح . . 

حاقت عا المزيمة فالئحلت عقدة لساما فقالت 


بصوت خافت مضطرب كأئها تناجي نفسها: 

تآخر الوقت ولا يعد ياسين وزوجه! 

فحملق السيّد في وجهها وتساءل في عجب: 

وزوجه؟... أين ذهبا؟ 

ازدردت المرأة ريقها وقد ركبها الخوف» من السيّد 
ومن نفسها معّاء ولكن لم تجد بدا من أن تقول : 

د سمعت الجارية تقول إنهما ذهبا إلى كشكش بك! 

- كشكش ! 

عزف الصوت عاليًا في شراسة وتطاير الشرر من 
العينين اللتين ألهبهم| الكحول. وراح يطرح عليها 
السؤال تلو السؤال مزعرًا مدمدما حتّى طار النوم عن 
رأسه فأى أن يزايل مجلسه حيّى يعود «الضالان» فانتظر 
وهو يغلي من الحنق. ولما كان غضبه ينعكس على 
نفسها رعبًا فقد ارتعبت كا لو كانت هي المأنبة» ثم 
غصّت بالندم على ما بدر منهاء ندم عاجلها مبادرا 
عقب البوح بسرها مباشرة كأتّها لم تبح إلا كي تندم» 
فلم تكن تبخل بغال مهما غلا ساعتئذ لو تستطيع أن 
تصلح خطاهاء وقست على نفسها بلا تحفْظ فائهمتها 
بالوقيعة والشرّء ألم يكن الأجدر بها أن تتسثّر عليهما 
على أن تنبّههها إلى حطنهما غذًا إن كانت تسريد 
الإصلاح حمًا لا الانتقام؟.. ولكتّها أذعنت لعاطفة 
شريرة» عن عمد وسوء نيّة» فهيأت للفتى وعروسه 
نكدًا لم يدر لها بخلد وجرّت على نفسها ندمًا بات 
يحرق نفسها المعذّبة حرقًا بلا رحمة, وراحت تدعو 
الله حجلى من ذكره- أن يلطف بهم جميعا. مضى 
الوقت تقرع دقائقه قلبها بالألم حتّى انتبهت على صوت 
السيّد وهو يقول متهكُمًا بمرارة : 

امي لكان 

فأرهفت السمع وهي تتطلّع بناظريها إلى الدافذة 
المفتوحة المطلة على الفناء فترامى إليها صرير الباب 
الكبير وهو يغلق. وقام السيّد وغادر الحجرة فقسامت 
بطريقة آليّة ولكتها تسمرت في مكانها جبئا وخزيًا 
وضربات قلبها تتدافم حبق سمعت صوته الجهير وهو 
يخاطب القادمين قائلا «اتبعاني إلى حجري» فتناهى بها 
الخوف فتسللت من الحجرة هاربة. . . عاد السيّد إلى 


مجلسه يتبعه على الأثر ياسين وزينب. فحاج الفتاة 
بنظرة عميقة متجاهلا ياسين ثم قال بحزم وإن نقى 
نيراته من الغلظة والحفاء : 

- أصغي إل يا بنيّة جيّدَاء أبوك أخي أو أوثق صلة 
ومودّةء فانت ابنتي كخديجة وعائشة على السواءء ما 
تعيلاية انكل آنه كنار سفرك ولق 415 أفوى أعدد 
السكوت عنها جرية لا تغتفرء من ذلك أن تبقى فتاة 
مثلك خارج بيتها حبّى هذه الساعة من الليل» لا 
تسبي أن في وجود زوجك معك علرًا عن هذا 
السلوك الشادْ فإِنّ الزوج الذي يستهين بكرامته على 
هذا النحو غير خليق بأن يقيل من العثرات التي هو 
للأسف أوْل دافع إليهاء ولمًا كنت على يقين من 
براءتك أو بالأحرى من أنّه لا ذنب لك إلا أنك 
جاريته على هواه فرجائي إليك أن تعاونيني على إصلاح 
أمره بألا تستسلمي إلى غواياته مرّة أخرى. . . 

وحمت الفتاة واستحوذ عليها الذهول؛ وعلى أنها 
كانت تحظى في كنف أبيها بقسط من الحرّيّة إلا أئها لم 
تجد في نفسها شجاعة على مناقشة الرجل بله 
معارضته» كأنّ إقامتها في بيته شهرًا أعدت شخصيّتها 
بعدوى الخضوع لإرادته التى يفرّق حيالها كل حي في 
البيت. احتجٌ باطنها بأنْ أباها نفسه استساغ أكثر من 
مرّة أن يصطحبها إلى السيناء وأنه لا يحقّ له منعها من 
شىء سمح به زوجهاء إلى اقتناعها بأئها لم تخرق أدبا 
أو تبتك حرمة» قال باطنبا هذا وأكثر بيد أئها لم تستطع 
أن تنطق بكلمة واحدة حيال عينيه الملزمتين بالطاعة 
والاحترام وأنفه الكبير الذي بدا وهو يرفع رأسه 
كأئه مسدّس مصوّب نحوهاء فانكتم حديثها الباطن 
تحت مظهر من الرضى والأدب كما تنكتم الأمواج 
الصوتيّة في جهاز الاستقبال بالمذياع بإغلاق مفتاحه. 
ثم ما تدري إل وهو يسأها وكأنه يتيادى في تحديه لما : 

ألك اعتراض على قولي؟ 

فهت رأسها بالنفى ورسمث شفتاها حرف (لا» 
دون أن تنطق به فقال ها: 

- اثفقنا. تفضلى إلى حجرتك بسلام. . . 

غادرت الحجرة شاحبة الوجه فالتفت السيّد صوب 


بين القصرين ممم 


ياسين الذي أحفى عينيه في الأرض» ثم قال وهو يبز 
رأسه في أسف شديد: 

الأمر جد خخطير ولكن ما حيلتي؟!... لم تعد 
طفلا وإلا كسرت رأسك, ولكنّك واأسفاه رجل 
وموظف وزوج أيضًا وإن كنت لا تتورّع عن العبث 
برباط الزوجيّة. فا عسبى أن أصئم بك؟ أهذه ماية 
تربيتي لك؟. . . (ثمم بصوت أذهب في التأسف). . . 
ماذا دهاك؟ . . . أين الرجولة؟ . . . أين الكرامة؟ , , . 
بعر عل والله أن أصدّق ما وقع. 

لم يرفع ياسين رأسه ولم يتكلم فظن صمته خوفًا 
وشعورًا بالخطا- إذ لم يتصور أن يكون ما به سكر_ 
ولكنه لم يجد في ذلك عزاء. بدا الخطأ أفظع من أن 
يترك بلا علاج حاسم» فإذا لم يكن من سبيل إلى 
العلاج القديم ‏ العصا ‏ فلا أقلّ من الحزم وإلا انتثر 
سلك الأسرة حميعا. قال: 

- ألم تعلم بأني أحرّم على زوجي الخروج ولو لزيارة 
الحسين؟ كيف إذن سولت لك نفسك أن تأخذ زوك 
إلى ملهّى داعر لتسهر فيه إلى ما بعل منتصف 
الليل؟!... يا أحمق أنت تدفع بنفسك وبزوجك إلى 
الهاوية فأىّ شيطان ركبك؟ 

وجد ياسين في الصمت آمن ملاذ أن تفضحه نبراته 
أو أن يسترسل في الحديث بطلاقة مريبة تنم في النباية 
غل سكرةء لا سيّما وأنّ خياله أصب على التسللن ‏ 
هازئًا بالموقف الخطير من الحجرة فانطلق إلى آفاق 
بعيدة بدت لرأسه الثمل راقصة تارة ومترتحة أخرى. 
وم يسشطع صوت أبيه على سا ابتعت في نفسه من 
الرهبة أن يسكت الأنغام التي غناها المهرجون في 
المسرح فكانت تثب إلى ذهنه ‏ على رغمه ‏ بين لحظة 
وأخرى كالأشباح في ليل المرعوب هامسة : 

أبيع هدومي عشان بوسة 

ا 6 ل 0101 
يا حلوة زيّ البسبوسة 
با مهالبية كان واحسن 

تغيب تحت تأثير الهوف ثم تطفر راجعة؛ ولكنْ أباه 

ضاق بالصمت فصاح به غاضبا: 


5 بين القصرين 

- انطق حدّثني عن رأيك فإن مصمّم على ألا ير 
الحادث بسلام!. . . 

خاف عاقبة الصمت فخرج عنه متهيبا مضطربًا ثم 
قال وهو يبذل قصارى جهده ليتمالك نفسه : 

كان والدها يعاملها بشيء من التسامح . . . (ثمّ 
متعجلا) ولكئي أقرٌ بأنى أخطات . . . 

فصاح السيّد مغضبًا ومتجاهلاً الجملة الأخيرة: 

- لم تعد في بيت أبيهاء. عليها أن تحترم آداب 
الأسرة التى صارت عضوًا فيها. أنت زوجها وسيّدها 
وبيدك وحدك أن تصورها في أي صورة تشاء؛ خترني 
عن المسئول عن ذهابها معك أنت أم هي ؟ 

شعر على سكره بالفحٌ المنصوب له ولكنٌ المنوف 
دفعه إلى التواري فغمغم: 

- لما علمت بنيّتى في الخسروج توسّلت إل أن 
أصطحيها. . . 
فضرب السيّد كما بكفت وهو يقول: 

- أيّ رجل في الرجال أنت؟... كان الجنواب 
الخليق بها لطمة!. . . إِنّه لا يفسد النساء إلا الرجال 
وليس كل الرجال جديرًا بالقيام على النساء. . . وتذهب 
بها إلى مكان ترقص فيه النساء نصف عرايا. . . ؟ 

تخايلت لعينيه الصور التى أفسدها تعرّض أبيه له 
على رأس العبلم وعادت الأنغام تتجاوب في رأسه 
«أبيع هذومي . . .1 ولكن ما يدري إلا والرجل يقول 
له متوعدًا : 

لهذا البيك: قانوق أنت تعرفه قوط تسلف عل 
احترامه ما رغبت في البقاء فيه. . 


ع 
قامت عائشة بتزيين خديجة خير قيام بهمّة لا تجارى 
ومهارة فائقة كأنّ التزيين خير مهمّة تؤدّيها في الحياة على 
أكمل الوجوه. فبدت سخديجة عروسًا حقًا تأخل أهيتها 
للانتقال إلى بيت العريس وإن ادّعت. جريًا على 
عادتها في التقليل من شأن الخدمات التي يؤْدّها لها 
الغير- أن أكبر الفضل في إظهارها بالمظهر اللاثق إِنما 


يعود إلى سمانتها هي قبل كل شيء! على أن «جمالهاء لم 
يعد مثار وساوسها همذ طلب يدها رجل اثفق له أن 
رآها بعينيه» بيد أن جميع مظاهر السعادة التي أحاطت 
بها لم تستطع أن تمحو من نفسها خفقات الحنين الذي 
دب في أعماقها لوشك البين. حنين خليق بفتاة مثلها ل 
يخفق قلبها بحب شيء في الوجود كحبّها لآلا وبيتها 
جميعًا من الوالدين المعبودين إلى الدجاج واللبلاب 
والياسمين. حيّى الزواج نفسه الذي طالما تحرّقت في 
التنظاره بجزع الملهوف لم يكن ليهؤن عليها مرارة 
الفراق» من قبل أن تطلب يدها بدت كاللاهية عن 
حب البيت وإعزازه؛ وربما غلب عليها الضجر في 
مضطرب الحياة فوارى عواطفها العميقة الصادقة لأنّ 
الحبٌ كالصحًة: يبون في الوصال ويعرّ عند الفراق» 
فلا أن اطمأنت على مستقبلها أبى قلبها أن ينتقل من 
حياة إلى حياة دون جزع شديد كأنما يكفّر عن إثم أو 
يضنّ بغال,. تطلع كمال إليها صاممّاء لم يعد يتساءل 
هل تعودين» بعد أن عرف أنّ التي تتزوّج لا تعود إلا 
أله خاطب شقيقتيه مغمغمًا (سوف أزوركىا كثيرًا عقب 
الخروج من المدرسة) فرحّبتا به معا بيد أنه لى تعد تغرّر 
به الآمال الكاذبة» كثيرًا ما زار عائشة فلم يظفر 
بعائشته القديمة. يجد مكاهها أخرى متيرّجة تلقاه بتودّد 
بالغ يشعره بالغربة ثم لا يكاد يخلو إليها حي يدركهيا 
زوجها الذي لا يغادر البيت قانعا من ألوان التسلية 
بسجائره وغليونه وعود يعبث بأوتاره بين حين وآخرء 
لن تكون خديجة خيرًا من عائشة. فليس من رفيق في 
اليك إلا زيلب» وهي لا تتودّد إليه كما يحب إلا 
بمشهد من أنه كأئما تتودّد إليها هي فإذا غابت الأمَ 
تجاهلته كأنه لا يكون! ومع أن زيئب لم تشعر بأئها 
ستفقد عزيرًا بذهاب خديجة إلا أنئْها استدكرت »الجر 
الرزين الصامت الذي يغشى يوم الزفاف. فتعلّلت 
بذلك لتفصح عمًا تكنه لروح السيّد المسيطرة من حنق 
وغيظ فراحت تقول متهكمة «ما رأينا بيثًا يحرّم فيه 
الخلال كبيتكم هذا. . . حكم!) غير أنما لم تشأ أن 
توذع خحديجة من غير كلمة مجاملة فنوّهت كثيرا 
بمقدرتباء وأئها وستٌ بيت» خليقة بأن يهنأ عليها 


بعلهاء فأمنت عائشة على قوها وأردفت قائلة: 

لا عيب فيها إلا لسانها! . . . ألم ترّبيه يا زينب؟ 

فا تمالكت أن ضحكت قائلة : 

- لم أجربه والحمد لله ولكئى سمعته وغيري لجر به . 

وتعالى الضحك» وخديجة أولى الضاحكات. حتى 
رأين الأمٌّ ترهف السمع بغتة هاتفة «هس» فامسكن 
مرّة واحدة» فترامى إليهِنْ صوات من الخارج فصاحت 
محديجة من فورها منزعبجة : 

مات السيّد رضوان! 

كانت مريم وأمّها قد اعتذرتا عن عدم شهود 
الزفاف لاشتداد المرض على السيّد محمد رضوان فلم 
يكن غريبًا أن تستدل حديجة بالصوات على موت 
الرجل» وغادرث الأمّ الحجرة مهرولة فغابت دقائق ثم 
عادت وهي تقول بأسف شديد: 

و فاك الي شك :رفون صقان »يا لبه امن 
موقف حرج! 

فقالت زينب: 

عذرنا واضح كالشمس» لم يعد في وسعنا تأجيل 
الزفاف أو منع العريس من الاحتفال بليلته في بيته وهو 
بحمد الله بعيد» أما أنتم فهل تطالبون بأعمق من هذا 
الصمت البليغ؟ ! 

افع عدي كردت عراش اخرى القيشى ذا 
قلبها حوفًا فتطيّرت من النبا المحزن وغمغمت كائها 
تخاطب نفسها : 

يا لطيف يا ربٌ. . 

فقرأت الأمْ انكارها نانقرقن نوها يدها لتنا 
أسث أن تستكين لهذا الشعور الطارئٌْ أو أن ابنتها 
تستكين له فقالت باستهانة متصئعة : 

لا شأن لنا بقضاء الله فالحياة والموت بيده 
والتشاؤم من عند الشيطان. . . 

انْضِمٌ ياسين وفهمي إلى المجتمعات بحجرة 
العروس بعد أن فرغا من ارتداء ملابسههم) فأخيرا الأم 
أن السيّد ناب عن الأسرة ‏ بالنظر إلى ضيق الوقت ‏ 
في تقديم واجب العزاء إلى آل السيّد رضوان» ثم 
حدج باسين إلى تمديجة وقال ضاحمًا: 


بين القصرين 486 

أى السيّد رضوان أن يبقى في الدنيا بعد رحيلك 
عن جواره. . 

فرذت عليه بابتسامة شاحبة غاب عنه ما وراءها 
فمضى يتفخصها بعناية وهو يبز رأسه متظاهرًا بالرضى 
ثم فال ل 

صدق من قال «لبس البوصة تبقى عروسة». . . 

فقطبت معلنة عدم استعدادها لمجاراته ثم نهرته 
قائلة : 

- اسكت. إن متطثرة من موت السيد رضوان في 
يوم زفائي. 

فقال ضاحكًا: 

لا أدري أيكيا جنى على صاحبه؟ 

ثم وهو يواصل الضحك : 

لا خوف عليك من موت الرجلء لا تشغلي 
فكرك بى ولك أخاف عليك من لسانك فهو الأحقٌّ 
بأن تتطبّري منهء ونصيحتي التي لا أُمَلّ ترديدها أن 
تنقّيه في شراب مشبع بالسكر حي يحلو ويصلح 
لخاطية العريس د 

عند ذلك قال فهمي متلظفا: 

- مهما يكن من أمر السيّد رضوان فيوم زفافك لم 
تمْلُ من بركة طال انتظار الأرض لا: ألم تعلمي أن 
الهدنة قد أعلنت؟ 

فهتف ياسين : 

كدت أنسى هذا! ليس زفافك المعجزة الوحيدة في 
يومنا هذا. حصل مالم يحصل منذ أعوام فانتهت 
الحرب وسلّم غليوم . 

فتساءلت الأم : 

هل يذهب الغلاء والأستراليُون؟ ! 

فقال ياسين ضاحكًا: 


خحديجة هانم . 
لاح التفكير في عيني فهمي» ثم قال وكأنّه بخاطب 


- على الألمان! . . . من كان يتصوّر هذا؟!. . . لا 
أمل بعد اليوم في أن يعود عياس أو محمد فريلع 


5 بين القصرين 
كذلك آمال الخلافة قد ضاعت. لا يزال نجم 
الإنجليز في صعود ونجمنا في أفول فله الأمر. . . 

فقال ياسين: 

اثنان كسبا الحرب هما الانجليز والسلطان فؤاد 
فلا أولئك كانوا يحلمون بالقضاء على الألمان ولا هذا 
كان يحلم بالعرش. . , 

وسكت لحظة ثم استطرد ضاحكًا: 

وثالث لا يقل حهّْله عن السابقين هو عروستنا 
الى ها "كاقتة تخلى بالعرمس . 

فرمته -خحديجة بنظرة وعيد وقالت: 

- تأبى أن أغادر البيت من غير أن األدغك. . 

فتراجع وهو يقول: 

من الخير أن أطلب الهدنة فلست أعظم شأنًا من 
غليوم أو هندنبرج. . . 

ثم نظر إلى فهمي الذي لاح في وجهه التفكير بحال 
لا يتفق مم المناسبة السعيدة فقال له: 

- اطرح السياسة وراء ظهرك وتبيّا للطرب ولذيذ 
للأكل الفا رمي 

ومع أنْ خديجة تناوبتها أفكار كثيرة وخطرت على 
قلبها أحلام وأحلام إلا أن ذكرى قريبة ‏ من ذكريات 
الصباح فحسب _ الت عليها من شدّة تأثّرها بها حي 
كادت تحجب غيرها من الشجون, تلك دعوة أبيها لما 
على انفراد لمناسبة اليوم الذي يعد مبدأ حياة جديدة في 
حياتهاء قابلها بلطف ورحمة كانا بلسيًا شائيًا من وعكة 
الحياء والرهبة التي اعترتها حي تعثّرت في مشيتهاء. ثم 
قال لها برقة وقعت من نفسها موقعًا غريبًا لا عهد لا 
به : 

- ربنا يسدّد خحطاك ويهيّئ لك التوفيق وراحة 
البال» وما من نصيحة تُسدى إليك خيرًا من أن أقول: 
اقتدي بأمّك في كل كبيرة وصغيرة. . . 

وأعطاها يده فقبّلتها ثم غادرت الحجرة لا تكاد 
ترى ما بين يديها من الانفعال والتأثّر وجعلت تردّد 
طول الوقت «كم أنه لطيف رقيق رحيم!» ثم تذكر 
بقلب ملؤه السعادة قوله «اقتدي بأمّك في كل كبيرة 
وصغيرة»؛ وتقول لأمها النيي أصغت إليها بوجه متورّد 


وعينين مرتعشتين «ألا يعننى هذا أنه يراك القدوة 
الصالحة للزوجة الصالحة؟ (ثم ضاحكة) يا لك من 
امرأة سعيدة الَظ! ولكن من عسبى أن يصدّق هذا 
كله؟ كان كنت في حلم سعيد! أين كان يدّخر هذا 
العطف الجميل؟!» ثم دعت له طويلا حي اغرورقفت 
عيئاها بالدموع . . . 

وجاءت م حنفي تعلنهم بوصول السيارات . , . 


5 

خلا مجلس القهوة من وجه خحديجة كا خلا من وجه 
عائشة من قبل. على أنْ خديجة تركت فراغًا لم يسدّ 
فكأئّها استلت روحه وسلبته حيويّته وحرمته مزايا لا 
يستهان بها من الفكاهة والمرح والنقارء أو كا قال 
ياسين لنفسه «كانت في مجلسنا كالملح في الطعام» ليس 
الملح في ذاته لذيذًا ولكن ما لذّة الطعام من دونه؟» بَيْد 
أنه لم يجهر برأيه مجاملة لزوجه إذ أنه لم يزل ‏ على خحيبة 
أمله في الزواج التي لم يعد لما من دواء في البيت- 
يشفق من جرح مشاعرها على الأقل كيلا تسيء الظنْ 
بسهره المتواصل ليلة بعد أخرى في «القهوة» كا يزعم 
لهاء ولئن كان مزاحه يفوق جدّهء إن كان ثمّة جد 
إلا أنه فقد النديم الذي طلما طارحه الدعابة وهيّا له 
دواعيها فلم يبق له إلا أن يقنع بالقليل في هذه الجلسة 
التقليدية: ها هو يتربّع على الكنبة» يحسو القهوة, 
ويمذٌ بصره إلى الكنبة المقابلة له فيرى الأمّ وزوجه 
وكيال مستغرقين في أحاديث لا طائل تحتهاء ولعله 
يتعجب للمرّة المائة من رزانة زينب المعتمة فيذكر ما 
رمتها به خديجة من «ثقل الدم» ويسلّم بوجهة 
نظرها!. .. ثم يفتح ديوان الحماسة أو غادة كربلاء 
ويقراء أو يقصّ على كيال شيثًا مما قراء ويلتفت إلى 
مينه فيرى فهمي متوئبًا للحديث. عن أي شيء يا 
ترى» محمد فريد» مصطفى كامل.... لا يدري 
ولكنه سيتكلم بلا ريب» بل يبدو اليوم منذ عودته من 
المدرسة كالسا)ء المنذرة بالمطرء هل ينكشه؟. . . كلا 
لا حاجة به إلى ذلك. ها هو يستقبله باهتمام شديدء 

ويحدجه بنظرة موحية ناطقة ثم يسأله : 


ألم تبلغك أنباء جديدة , , , ؟ 

يسأله هو عن أنباء جديدة! عندي أنباء لا عد 
هها. .. الزواج أكبر مدعة» الزوجة تنقلب بعد أشهر 
شربة زيت خروعء لا تحزن على ما فاتك من مريم 
أيّا السياسيٌ الغرٌء أتريد أنباء أخرى؟! لدي منها 
الكثير لكنّها على وجه اليقين لا تمك آلبتة» ثُمّ إن 
الشجاعة تخوني إذا سولت لي نفسي إذاعتها على 
مسمع من زوجي.ء2 وما يدري إلا وهو يستشهد ‏ في 
سرّه طبعا ‏ بقول الشريف: 

عندي رسائل شوق لست أذكرها 

لولا «الرقيب» لقد بلُّنتها فاك 

م تساءل بدوره: 

أي أنباء جديدة تعني؟ . . 

فقال فهمى باهتيام شديد: 

ذاع بين الطلبة نبا عجيب كان حديثنا اليوم كله 
وهو أن وفدًا مصريا مكوّنًا من سعد زغلول باشا وعبد 
العزيز فهمي بك وعلّ شعراوي باشا توجه أمس إلى 
دار الحباية وقابل نائب الملك للمطالبة برقع اللحماية 
وإعلان الاستقلال. . . 

ورفع ياسين حاجبيه في اهتام ولاحت في عينيه 
نظرة شك مقرونة بالدهشة» لم يكن اسم سعد زغلول 
بالجديد عليه وإن لم يجد وراء الاسم في نفسه شيئًا ذا 
بال الهم إِلّا ذكريات غامضة اقترنت بحوادث أقى 
عليها النسيان من زمن دون أن تثرك في قلبه ‏ الذي لا 
يكاد يعبا بالأمور العامّة ‏ أثرًا عاطفيًا يدل عليها ولو 
من بعيد» إلا أن الاسمين الآخرين كانا يقعان في أذنه 
لأؤل مرّة. بَيْد أن غرابة الأسماء ليست شيئًا يذكر إلى 
جانب الحركة التي قام بها أصحابها إن صح ما يقول 
فهمي» إذ كيف يتصوّر أن يُطالب الإنجليز غداة 
انتصارهم على الألمان والخلافة باستقلال مصر؟! 
وسأله : 

ماذا تعرف عن هؤلاء السادة؟ 

فقال فهمي بلهجة لا تخلو من امتعاض خليق يمن 
يودٌ لو كان هؤلاء السادة من أعضاء الحزب الوط : 

- سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية» وعبد 


بين القصرين 5/41 


العزيز فهمي وعلّ شعراوي عضوان بهاء الحقٌ أني لا 
أعرف شيثًا عن الأخيرين أمّا سعد فأكاد أكون عنه 
فكرة لا بأس ببا تما ترامى إل عن كثيرين من زملائي 
الظدة الوطكن النذين متلدرن فد كا متم بين 
يعذّه ذَْبَا من أذناب الإنجليز ولا شيء أكثر من هذا 
ومنهم من يقرٌ له بمزايا عظيمة جديرة بأن ترفعه إلى 
مصافٌ رجال الحزب الوطيّ أنفسهم. ومههما يكن من 
شأن فالخطوة التى أقدم عليها مع وفطليةي وزقال: اله 
كان الداعي إليها كذلك ‏ عمل مجيد لعله لا يوجد 
الآن من ينبض به مثله بعد نفي المبرّزين من الوطنيين 
وعلى رأسهم زعيمهم تحمل فريد. . . 

بدا ياسين جادًا أن يظنّ به الآخخر استهانة بحياسه 
وردّد قائلاً وكأنه يسائل نفسه: 

- المطالبة برفع الحاية وإعلان الاستقلال! . 

- وسمعنا أيضًا أئّْهم طالبوا بالسفر إلى لندن للسعي 
إلى الاستقلال. وأئْهم لهذا القصد قابلوا السبر «ريجنالد 
ونجت؛ نائب الملك! . . . 

لم يستطع ياسين أن يواصل مداراة حيرته فأعلها 
بأساريره وهو يسأله بصوت مرتفع بعض الشيء : 

- الاستقلال!... أتعنى هذا حقًا؟... ماذا 
تعنى؟ . . . 

أعني إخراج الإنجليز من مصرء أو الجلاء كما عبر 
عنه مصطفى كامل ودعا إليه. . . 

ياله من أمل!.. لح يكن السعي إلى حديث 
السياسة من طبعه ولكنّه يقبل دعوة فهمي كلما دعا 
إليه» اثْقَاءٌ لتكديره: وطلبًا لنوع طريف من التسليةء 
ورتما ثار اهتامه بين اين والحين وإن لم يبلغ درجة 
الحماس» بل ريما شاركه أمانيه بطريقة سلبية هادئةع 
ولكنّه أثبت طوال حياته أنه قليل الاكتراث نذا 
الجانب من الحياة العامة كأنّه لا غاية له وراء التنعم 
بطيّبات الحياة ولذّاتباء لذلك لم يجد في نفسه استعدادًا 
للأخل ,ذه الأقوال ماخذ الحد وتساءل مرّة أخرى : 

هل يقع هذا في حدود الإمكان حقًا؟ 

فقال فهمي بحماس لا يخلو من لوم : 


84 بين القصرين 


لا يأس مع الحياة يا أخي !. . . 
فأثارت هذه الجملة في نفسه ما تثيره أمثالها من ميل 
إلى السخرية بيد أنه تساءل متظاهرًا بِالجحدٌ: 
- وكيف لنا بأن نخرجهم؟ 
ففكر فهمي قليلا ثم قال عابسا: 
نهدا لت سعد وزميلاه: اسفن إل لندن] 
تابعت الأمّ الحديث باهتمام مركّزة فيه وعيها كله 
كي تفهم أقصى ما يسعها فهمه منه كدأبها كلما ثار 
حديث في الشئون العامة البعيدة كل البعد عن اللغو 
المدزلي؛» تلك الأمور تشوقهاء وتدّعي القدرة على 
فهمهاء ولا تتردّد إذا سدحتث فرصة عن المشاركة فيها 
غير مبالية بما تحدثه آراؤها فى أحابين كثيرة من 
الاستهانة المشربة بالعطف. ولكن لم يكن شيء ليحطم 
مجاديفها أو يصدّها عن الاهتام ببذه الشكون «الكبيرة» 
التي يبدو أنها تتبعها مدفوعة بنفس البواعث التي 
تدفعها إلى التعلق بدروس كيال الديئيّة أو مناقشة ما 
يلقى عليها من معلوماته اللحغرافية والتاريخية على ضوء 
معارفها الدينيّة أو الأسطورية. وقد أكسبها هذا الحل 
شيئًا من الإلمام بما يقال عن مصطفى كامل ومحمّد فريد 
وأفنديئا المبعدء أولئك الرجال الذين ضاعف من حبها 
خم إخلاصهم للخلافة الأمر الذي قربهم في نظرها- 
كشخص يقدّر الرجال بحسب منازلهم الدييّة - من 
مراتب الأولياء الذين تهيم بهم. ولمًا أن ذكر فهمي أن 
سعدًا وزميليه يطلبان السفر إلى «لندن» خرجت عن 
صمتها فجأة متسائلة : 
أيّ بلاد الله لندن هذه؟ 
فبادرها كمال باللهجة المنغومة التي يسمّع بها 
التلاميذٌ دروسهم : 
- لندن عاصمة بريطانيا العظمى وباريس عاصمة 
فرنسا والكاب وعاصمتها الكاب . . 
ثم مال على أذنها هامسًا «لندن بلاد الإنجليز» 
فتولّت الأمّ الدهشة وقالت مخاطبة فهمي : 
- يذهبون إلى بلاد الإنجليز ليطالبوهم بأن يخرجوا 
من مصر؟!... ليس هذا من الذوق في شيء.. 
كيف تزورني في بيتي وأنت تضمر طردي من بيتك؟ ! 


أضجرت مقاطعتها الشابٌ فنظر إليها باس معاتبا 
في آن ولكتّبا ظنّت أمّْبا بسبيل إقناعه فأردفت قائلة : 

وكيف يطلبون إخراجهم من ديارنا بعد إقامة 
طالت هذا الدهر كله؟! لقد ولدنا وولدتم وهم في 
بلادنا فهل من «الإنسائيّة» أن نتصدّى هم بعد ذاك 
العمر الطويل من العشرة والخيرة لنقول هم بصريح 
العبارة ‏ وفي بلادهم أيضا اخرجوا؟! 

ابتسم فهمي كاليائس على حين قهقه ياسينء أما 
زينبف فقالت جاذة : 

- كيف تواتيهم الخرأة على أن يقولوا لهم هذا في 
بلادهم!... هب الإنجليز قتلوهم هناك فمن ذا 
يدري بهم؟... ألم يجعل جنودهم المئني ني الشوارع 
البعيدة من المخاطرات غير المأمونة؟... فكيف يمن 
تحدثه نفسه باقتحام ديارهم!؟ 

ود ياسين لو يسترسل مع المرأتين في حديئهها الساذج 
إرواء لعواطفه الظامئة إلى المراح ولكثه لمس ضجر 
فهمي فأشفق من إغضابه. فتحول إليه مواصلا ما 
انقطع من الحديث وهو يقول: 
أخي ما عسى أن يصئم سعد حيال دولة تعد الآن 
سيدة العالم بلا منازع؟ 

فوافقت الم على قوله بإيماءة من رأسها كأن 
الحديث كان موجّهًا إليها وراحت تقول: 

كان عرابي باشا أعظم الرجال وأشجعهم, لا 
يقاس به سعد ولا غيره» وكان فارسًا وكان مقاتلاء 
فإذا لقي من الإنجليز يا ولداه؟ أمروه ثم نفوه إلى 
بلاد وراء الشمس. . . 

فلم يتهالك فهمي من أن يقول ها بلهجة جمعت 
بين الرجاء والضيق : 

- نيلة! . . . هلا تركتنا لتتحدّث؟ !| 

فابتسمت في| يشبه الحياء مشفقة كل الإشفاق من 
إغضابه فغيّرت لمجتها الحاسيّة كأئما هي بتغيير لحجتها 
تعلن تغيّر رأيها كله ثم قالت برقة واعتذار: 

يا سيدي لكل مجتهد نصيبء» فليذهبوا في رعاية 
اللهء وعسى أن يحظوا بعطف الملكة الكبيرة, . . 


فيا يدري الشابٌ إلا وهو يسألها في غرابة : 

- أىّ ملكة تقصدين؟ 

الملكة فيكتوريا يا بنيّ. ألبين. هذا اسمها؟ ... 
طالما سمعث أبي وهو يتحدّث عنباء هي التي أمرت 
بنفي عرابي ولكنها أعجبت بشجاعته كثيرًا فيما 

فقال ياسين ساخرًا: 

- إذا كانت قد نفت عرابي الفارس فهي أجدر أن 
تنفى سعدًا العجوز! . . . 

فقالت الأم : 

- مهما يكن من أمرها فهي لم تزل امرأة يحمل 
صدرها ولا شك قلا رفيا فإذا أحسئوا مخاطبتها 
وعرفوا كيف يتوذدون إليها جبرت بخاطرهم. . . 

وجد ياسين سرورا كبيرًا في منطق الأمّ التى جعلت 
تتحدّث عن الملكة التاريخيّة كما لو كانت تتحدّث عن 
أَمّ مريم أو غيرها من الجارات» ولم يعد يرغب في 
مجاراة فهميء فسالا بإغراء : 

خترينا عا يحسن أن يقولوه لها؟ 

فاعتدلت المرأة في جلستها مسرورة ببذا السؤال 
الذي أقرٌ لما بالجدارة «السياسيّة» ومضت تفكر باهتام 
لاح في تقارب حاجبيها في صيغة مناسبة لأول 
«مفاوضة؛ بَيْد أن فهمي لم يمهلها حي تتم تفكيرها 
فقال لها باقتضاب واستياء : 

- الملكة فيكتوريا ماتت من زمن بعيد. لا تتعبي 
نفسك بلا طائل! 

انتبه ياسين عند ذاك إلى غاشية المساء الزاحفة من 
خلال خصاص النوافذ فأدرك أنه آن له أن يودّع 
المجلس ليمضي إلى سهرتئه؛ ولمًا كان يعلم حقٌ العلم 
بان ظمأ فهمي لم يروٌ بعد فقد رغب في أن يقدّم له 
اعتذاره عن ذهابه في صورة تأييد من نوع ما للننأ 
الذي أخدذ بلبّه فقال له وهو ينبضص: 

- نهم رجال يدركون بلا شك خطورة ما أقدموا 
عليه فعلّهم أعدّوا له الوسيلة الناجحة, فلندُعٌ لهم 
بالتوفيق . 

وغادر المجلس وهو يشير إلى زيلب لتلحق به فتجهز 


بين القصرين 484 
له ملابسه. فشيعه فهمي بنظرة لا تخلو من غضبء» 
غضب من لم يظفر بمشاركة وجدانية تتجاوب مع نفسه 
المتأججة؛ لشدٌّ ما تثير أحاديث الوطنيّة أكبر الأحلام في 
نفسه. في دنياها الساحرة تتراءى لعيئيه دنيا جديدة, 
ووطن جديد وبيت جديد. وأهل جددء ينتفضون 
حميعًا حيويّة وحماسة ولكن ما إن يفيق على هذا الجر 
الخائق من الفتور والسذاجة وعدم المبالاة حيّى تشبٌ 
بين أضلعه نار الحسرة والألم فتروم في قهرها متنفسًا ‏ 
أيّا ما كان تنطلق منه إلى السماء. ودّ في تلك اللحظة 
بكل قوته لو ينطوي الليل في غمضة عين ليجد نفسه 
مرة أخرى في جمع الطلاب من إخوانه فيروي ظمأه 
إلى الحماس والحرَيّة ويسمو في وقدة حماسهم إلى ذلك 
العالم الكبير من الأحلام والمجد. لقد تساءل ياسين 
عن ماذا يصئع سعد حيال بلد تعد اليوم بحقٌ سيّدة 
العالمى وهو نفسه لا يدري على وجه التحقيق ماذا 
سيصلع سعد ولا يدري ماذا يمكن أن يصنع ‏ ولكنه 
بشعر بكل ما في قلبه من قوّة بأنْ ثمّة ما يجب عمله. 
رتما لم يجده مائلا في عالم الواقع» ولكنّه يشعر به كامنًا 
في قلبه ودمه. ف أجدره أن يبرز إلى ضوء الحياة 
والواقع أو فلتمض الحياة عبثًا من العبث وباطلا من 
الأباطيل. . . 


55 

بدا الطريق أمام دكان السيّد أحمد ‏ كعادته ‏ مكتظلا 

بالسابلة والمركبات ورؤاد الدكاكين المثراصة على 
الجانبين إلا أن هامته ازدانت بشفافيّة مقظرة من جو 
وقمبر اللطيف الذي حجبث شمسه وراء سحائب 
رقاق لاحت رقاعها ناصعة البياض فوق مآذن قلاوون 
وبرقوق كأنها بحيرات من نورء لم يكن شيء في السماء 
ولا في الأرض قد خرق المألوف مما اعتاد السيّد أن يراه 
كل يوم: ولكنّ نفس الرجل» والأنفس الموصولة 
بنفسه وربًا أنفس الناس جميعًا تعرّضت لموجة عاتية 
من الانفعال والشعور خخرجت لبا عن طورها أو كادت 
حتّى قال السيّْد إنه لم تمر به أيام كهذه الأيام اجتمع 
الناس فيها حول نبا واحد وخفقت قلومهم بإحساس 


4٠‏ بين القصرين 
واحد. فهمي الذي يلوذ بالصمت بين يديه ما ١‏ يبدأه 
هو بالحديث, نقل إليه في إسهاب ما انّصل بعلمه عن 
مقابلة سعد لنائب الملك. وف مساء اليوم نفسه. وفي 
مجلس الطرب, أقّد نفر من الصحاب أنْ الخير حقيقة 
لا يرتفي إليها الشك. وفي دكّانه حدث أكثر من مرّة 
أن خاض زبائن لا تربط بيهم صلة تعارف سابق في 
حديث المقابلة» بل ما يدري هذا الصباح إلا والشيخ 
متو عبد الصمد يقتحم عليه الدككان بعد غينة طويلة 
فلم يقنع بتلاوة الآيات وأنحذ نصيبه من السكر 
والصابون وأى إلا أن يعلن نبا الزيارة بلهجة من يزفٌ 
البشرى لأوّل مرّة ولمًا سأله السيّد ‏ مداعبًا ‏ عا يظنّ 
أن تكون نتيجة الزيارة أجاب الشيخ «ممال! . . . محال 
أن يخرج الإنجليز من مصرء أتحسبهم مجانين كي يجلوا 
عن البلد بلا قتال!. . . لا بد من قتالء ولا قتال لناء 
فلا سبيل إلى إخراجهمء فلعلٌ رجالنا يوفقون ولو إلى 
إبعاد الأستراليين حبّى يعود الأمن إلى سابق عهده. 
والسلام؟؛ أيَام أنباء ومشاعر فيّاضة صادفت في السيّد 
رجلا ذا قابليّة شديدة لعدوى الأشواق الوطنيّة 
والسياسيّة فبات على حال من الانتظار والتوقع جعلته 
يقبل بانفعال على قراءة الجرائد التى بدت في الأغلب 
وكأئبا تصدر في بلد غريب لا انفعال فيه ولا توتّب, 
واستقبال الأصدقاء بنظرة استطلاع تتلهف عا وراءهم 
من جديدء وعلى تلك الخال استقبل السيّد محمد عفّت 
حين دخل الدكّان مهرولاء لم تكن نظرة القادم الحادٌة 
ولا حركته النشيطة نما يوحي بأنه مجرّد زائر قد عرّج 
إلى الدكّان لاحتساء قهوة أو رواية ملحة» فوجد السيّد 
في مظهره ما تجاوب مع نفسه القلقة المشوّقة فبادره 
قائلا والآخر يشِقّ طريقه بين الزبائن الذين قام جميل 
الحمزاوي على قضاء حوائجهم : 

صباحنا ناد. ماذا وراءك يا سبع؟ 

اتحَذ السيّد محمد عفّت مجلسه لصق المكتب وهو 
يبتسم ابتسامة وشت بالعجب كأنّ قول السيّد «ماذا 
وراءك» وهو نفس السؤال الذي يتكرّر كلما لاقى أحدًا 
من صحبه ‏ إقرار بأمميّته في هذه الأيّام البالغة في 
أهسيّتها بالنظر للا يربطه ببعض الشخصيّات المصريّة 


الهامّة من صلات القربى. كان السيّد عفت دائيًا همزة 
الوصل بين جماعته الأصليّة المكونة من تجار وبين من 
انضمٌ إليها بمضي الزمن من موظفين ممتازين ومحامين 
وإن تفرد السيّد أحمد بمنزلة الإعزاز بفضل شخصيته 
وسجاياه. غير أن صلة القرى هذه التي لم تفقد شيئًا 
من خخطورتها قط لدى أصدقائه التجار الذين يتطلعون 
إلى الموظفين وذوي الألقاب بنظرة ملؤها الإكبارء صلة 
القربى هذه قد زادت خطورة في هذه الأيام التي بات 
فيها «اللكر الجديد) أهم من الماء والغذاء!. . . بسط 
السيّد عت صحيفة كانت مطويّة بيمينه ثم قال: 

خطوة جديدة... لم أعد ناقل أنياء فحسب 
ولكئّي بت رسولا أحمل إليك وإلى غيرك من الأكرمين 
هذا التوكيل السعيد. . . 

وأعطاه الصحيفة وهو يغمغم مبتسسًا داقرأ» فتئاولها 
السيّد وقرأ: 

- نحن الموقعين على هذا قد أَنْيْنَا عنًا حضرات سعد 
زغلول باشا وعلّ شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي 
بك ومحمد عل علوبة بك وعبد اللطيف المكباقٍ ومحمد 
محمود باشا وأحمد لطفي السيّد بك» ولمم أن يضِمُّوا 
إليبهم من يختارون. في أن يسعوا بالطرق السلمية 
المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا في استقلال مصر 
استقلالا تامان. , . ْ 

فتهلل وجه السيّد وهو يتلو أسماء أعضاء الوفد 
المصريّ الذين سمع بهم فيا سمع من أبناء الحياة 
الوطنية الى تردّدها الألسن» وتساءل: 

- ماذا تعنى هُذه الورقة؟ 

فقال. الرجل يححياس : 

ألا ترى هذه الإمضاءات؟ . , . وقع تمتها 
بإمضائك وادع جميل الحمزاوي ليوقع بإمضائه أيضًا. 
هذا توكيل من التوكيلات التى طبعها الوفد ليوقّعها 
الشعب فيتخل مها صفة الوكالة عن الأمّة المصريّة . . 

أمسك السيّد بالقلم ووقع بإمضائه في سرور تل 
في تألق عينيه الزرقاوين وهو يبتسم ابتسامة رقيقة عت 
عن شعوره بالسعادة والخيلاء إذ يوكل عن نفسه سعدًا 
وزملاءه أولئك الرجال الذين ملكوا النفوس على 


حداثة شهرتهم حيث حرّكوا منها أهواء عميقة مكبوتة 
كالدواء الحديد يستأثر بافكار المرضى بداء قديم 
استعصى علاجه بالرغم من استعياله لأول مرّةء ودعا 
الحمزاوي فوقع بإمضائه كذلك. ثم التفت إلى صاحبه 
وهو يقول باهتام شديد: 

المسألة جد فيها يبدوا. , . 

فضرب الرجل حافة المكتب بقبضة يده ثم قال: 

غاية الجدّء كل شيء يسير بقوّة وتصميم. أما 
علمت بما دعا إلى طبع هذه التوكيلات؟ قيل إن 
والرجل» الإنجليزيّ تساءل عن الصفة التي كلمه بها 
سعد وزميلاه في صباح ١١‏ نوقمير الماضى فا كان من 
الوفد إلا أن عمد إلى هذه التوكيلات ليثبت أنه يتكلم 
بأسم الآأمة. , 

فقال السيّد بتأثر: 

لو كان محمد فريد بيننا ما عدا هذا. 

- لقد انضم إلى الوفد من رجال الحزب الوطي 
محمد عللّ علوبة بك وعبد اللطيف المكباتي. . . 

ثم هر منكبيه لينفض عنها الماضي كله ثم قال: 

كلّنا نذكر سعدًا بما كان يثير من ضحّة عظيمة 
على عهد توليه لنظارة المعارف ثم الحقّانيّة» ما زلت 
أذكر ترحيب اللواء به منذ ترشيحه للوزارة وإ لم أنْسّ 
حملاته عليه بعد ذلك. بل لا أنكر أن ملت مع انتقاد 
المنتقدين له لشدّة تعلقى بالمغفور له مصطفى كامل. 
ولكنّ سعد أثبت داثمًا أنه جدير بإعجاب المعجبين. 
أمّا حركته الأخيرة فهي خليقة بأن تحله من القلوب في 
أعرٌ مكان. , . 

صدقت. . . حركة مبارّكة, لنَّدْعٌ الله أن يتولاها 
بتوفيقه . . . 
ثم باهتمام : 

ب ترف ايوذن: حي إلى احفر مه ومناذا تراهم 
فاعلين إذا سافروا؟ . . . 

طوى السيّد محمّد عفت التوكيل ثم بض وهو 
يقول: 

عرفا الخن فيه 

في طريقها إلى باب الدكان غلبت روح الدعابة 


بين القصرين 451١‏ 

السيّد فهمس في أذن صاحبه: 

- كأني لشدّة سروري ببذا التوكيل الوطئ تمل يعل 
الكاس الثاملة بين فخذى زبيدة. . . ! 

فحرّك محمّد عفت رأسه في تأثر كأنّ الصورة التى 
جِسّمها خخياله عند ذكر الكأس وزبيدة قد امكرقك 
وعمغم : 

دياه ركو سي 

ثم غادر الدكان والسيّد في أعقابه مبتسمًا: 

- وبعده تشوفه. ..! 

ثم عاد إلى مكتبه وأثر المزاح منبسط في أساريره 
وانفعال الحماس في قلبه لا يخمد. شأنه في كل ما 
يعرض له من مهامٌ اللحياة بعيدًا عن داره. فهو يجدٌ 
الحدٌ كلّه كلّما دعا الداعي إلى الحدٌ ولكنه لا يتردّد عن 
تلطيف جوه بالمزاح والدعابة كلما لاحت له صادرًا في 
ذاك عن طبع لا يملك معه حيلة وإن بدا قدرة عجيبة 
على التوفيق بيهماء فلا جذّه بقاهر مزاحه ولا مزاحه 
بمفسد جدّهء وليًا كانت دعابته ليست ترفا مما يدور 
على هامش الحياة» ولكن ضرورة تتورّعها كاليدٌ سواء 
بسواءء فلم يسعه يومًا الاقتصار على الحدٌ الخالص أو 
تركيز همته فيه» وبالتالي قنع دائمًا من «وطنيته) 
بالعاطفة والمشاركة الوجدانيّة دون الإقدام على عمل 
يغبّر وجه الحياة الذي آنس إليه فلا يرضى عنه بديلاء 
لذلك لم يدر له بخلد أن ينضمٌ إلى لجنة من لحان 
الحزب الوطيٌ على شدّة تعلّقه بمبادئه, ولا حيّى أن 
بشم ا اجتماع من اجتاعاته, أليس في ذلك 
إهدار لوقته «الثمين»؟ ليس الوطن في حاجة إليه على 
حين يتلهُف هو على كل دقيقة منه لينفقها في أسرته أو 
تمجارته أو على الخصوص في لهوه بين الاحباب 
والخلان؟! ليكن إذن وقته خالصًا لحياته: وللوطن ما 
يشاء من قلبه وعواطفه, بل ماله كلما تيسّرء إذ لم يكن 
يضِن به إذا وجب التبرّع لغرض من الأغراض» وإلى 
ذلك فلم يشعر مطلمًا بأنّه مقضّر في واجبه على نحو 
ماء وعلى العكس ترف بين صحبه بالوطنيّة: إمَا لأن 
قلوهم لم تسْحّ بعواطفها كما سخا قلبه. وإمَا لأنْ 


الذين سخت قلويهم لم يذهبوا إلى حدٌ التبرّع بالمال 
مثلهء فتميّز بوطنيته. وعرف هو ذلك فأضافه إلى بقيّة 
مزاياه التي يباهي بها سرًا في أعاق قلبه. ولم يتصور أن 
الوطنيّة يمكن أن تطالبه بأكثر مما يجود به ذاك القلب 
المولم بالغرام والطرب والمزاح لم يضِى ‏ عن ارجات ب 
بالعاطفة القوميّة. وهي وإن قنعت بالقلب مجالا 
لحيويّتها إلا أنْها كانت قويّة عميقة تشغل النفس 
وتهمها, م تجئه عرضًا ولكن نشأت مع صباه فيا تلقته 
أذناه من أحاديث البطولة التي رواها السلف عن 
عرابي» ثم اتّقدت جذوتها بمقالات اللواء وخطبه. 
وكم كان منظرًا فريدًا - أهاج التأثر والضحك مما 
يوم رُئْسَ وهو يبكي كالأطفال عند وفاة مصطفى 
كاملء تأثّر صحبه لأنّْ أحدًا مهم لم يسلم من وعكة 
حزن ثم أغرقوا في الضحك في مجلس الطرب اللي 
حين تذكروا المنظر إذ لم يكن من اليسير أن يرى «رب 
المحك؛ وهو يجهش بالبكاء! اليوم» بعد سني الحرب 
الخامدة. بعد موت الزعيم الشابُ ونفي خمليفته. بعد 
انقطاع الأمل من عودة أفنديناء بعد هزيمة تركيّاء 
وانتصار الإنجليزء بعد هذا كلّهء أو بالرغم من هذا 
كلّهء تسري أنباء عجيبة حاملة حقائق كالأساطير. . . 
مواجهة الرجل الإنجليزي بمطالب الاستقلال» إمضاء 
التوكيلات الوطنيّة, التساؤل عن الخطوة التالية 
قلوب تنفض عن جوهرها الغبارء أنفس تشرق 
بالآمال, ماذا وراء هذا كله؟!. , . إِنْ خياله السلمي 
الذي ألف الاستكانة يتساءل دون جدوى, وإنْه 
ليتعجل الليل ليهرع إلى مجلس الطرب حيث بانت 
الأحاديث السياسيّة «مدّة» الشراب والطرب فائتلفت 
مع جملة المغريات التي تجذب حنانه إلى سهرته كزبيدة 
وحبٌ الإخوان والشراب والطرب وإِنه لتبدو في ذلك 
الجوٌ الخلاب عذبة الروح لطيفة التناول تغني القلوب 
بشِيٌٌ عواطف الحياس والحتٌ من دون أن تستاديه ما 
لا طاقة له به!... وإنَّه ليفكر فى هذا كله إذ اقترب 
منه جميل الحمزاوي وهو يقول: 

أما سمعت عن الاسم الجديد الذي أطلق على 
بيتك سعد باشاء .؟ نم يدعونه بيت الأمةع. , . 


بال البعل الخو اليفقى إلبه كينت فى لبه 
لخر 


مه 

في نفس الوقت الذي شّغل فيه الوطن بحريته كان 
ياسين دائبا بحزم وعزم على الاستئثار بحريته هو 
كذلكء فإنَّ انطلاقه إلى سهراته الليليّة - بعد امتناع 
موسوم بالاستقامة فيا أعقب الزواج من أسابييع ‏ م 
يفز به بلا نضال. ثمة حقيقة كثيرًا ما رددها لنفسه 
كاعتذار عن سلوكه الجديد. هي أنه لم يكن يتصور 
وهو في سكرة حلم الزواج - أنه سيرتد إلى حياة 
التسكع بين القهوة وحانة كوستاكي, اعتقد مخلصًا أنه 
ودّع ذاك إلى الأبد مضمرًا لحياته اسزوجية أحسن 
النيّات. حبّى دهمته الخيبة المستعصية في الزواج كله 
فجزعت أعصابه عن مَحمّل الملل أو الحياة الفارغة كما 
دعاهاء وفزع بكل قوّة بفسه المدللة الحسّاسة إلى 
الترفيه والتسلية والنسيان؛ إلى القهوة والحانة,. لا 
كحياة لهو عابرة كما ظتها في الماضي والزواج أمل 
مدّخرء ولكن كحياة هي كل ما تبقّى له من متعة بعد 
أن غدا الزواج خيبة مريرة» كالذي تشرّده الآمال عن 
وطنه فيردّه الإخفاق إليه تائبّاء بيد أن زينب التي 
عهدت عنده التودّد الحارٌ والتملّق النهم. بل الإعزاز 
الذي بلغ به يوما أن ذهب بها إلى مسرح كشكش بك 
مستهيئًا بالسياج المسلح من التقاليد الصارمة الذي 
يضربه أبوه حول الأسرة... زينب هذه كابدت من 
انصرافه عا إلى منتصف الليل ليلة بعد أخرى وعودته 
لملا يترنُمء صدمة عر عليها احتالها فا تمالكت أن 
كاشفته بأحزاءهاء وكان يعلم بداهة أنْ طفرة مفاجئة في 
حياته الزوجيّة لا يمكن أن تمرٌ بسلام فتوقع من بادئ 
الأمر المعارضة على أيّ لون جاءت. عتابًا أو خخصامًا 
وأعدٌ العدّة المناسبة ليحسم موقفه بقول أبيه له ليلة 
ضبظه راجعًا من كشكش بك «إنه لا يفسد النساء إلا 
الرجال» وليس كل الرجال جديرًا بالقيام على النساء 
فا تشككت حي قال لها: ولا داعي للحرن يا عزيزة. 
منذ القدم والبيوت للنساء والدنيا للرجال. هكذا 


الرجال جميعًاء والروج المخلص يحافظ على أمائته وهو 
بعيد عن زوجته كا يحافظ عليها وهو بين يديهاء ثم 
إنِي أتزوّد من السهرة ترويًا عن النفس وبهجة يجعلان 
من حياتنا متعة كاملة» ولمًا عرضت بسكره محتجة بأنها 
«تتخاف على صححّته ضحك وقال بنفس اللهيجة 
الجامعة بين الرقة والحزم «كل الرجال يسكرونء إِنْ 
صحّبي نتحسشن بالسكر (ثم ضاحكا مرّة أخرى) سل 
أن اد أنالة أو يرلا انا هتف بالاسة سال ف نفدت 
جريًا وراء أمل كاذب فشدَ حبل الحزم متشجعا بملله 
الذي هون عليه ما لم يكن يبون من إغضابها فراح ينوه 
بما للرجال من -حقّ مطلق في أن يفعلوا ما يشاءون. 
وما على النساء من واجب الطاعنة والتزام الحدود 
«انظري إلى امرأة أبي هل رأيتها اعترضت يومًا على 
تصرف لأىي؟... على ذاك فهما زوجان سعيدان 
وأسرة مطمئئة. ينبغي ألا نعود إلى هذا الموضوع). . . 
لعله لو كان ترك إلى شعوره وحده ما اصطنع في 
خطابها ما اصطئع من سياسة فإن خخيبته في الزواج 
جعلته يجد نحوها أحيانًا ما يشبه الرغبة في الانتقام, 
وأحيانا أخرى نوعًا من الكراهية المتقطعة وإن لم يكف 
عن الرغبة فيها بين هذا وذاك. ولكنه راعى عواطفها 
إكرامًا ‏ أو خوفًا ‏ من أبيه الذي علم بعظيم تعلقه 
بأبيها السيّد محمد عفت. والحق لم يكن يكربه شيء 
كإشفاقه من أن تشكوه إلى أبيها فيشكوه هذا بدوره إلى 
أبيى حيّى لقد صِمّم ا إذا وقم شيء مما يحاذر, 
أن يستقلٌ بمسكن مهما تكن العواقب ولكنٌّ محاوفه لم 
تتحقّق ع أثبتت الفتاة رغم حزها أنها امرأة «عاقلة» 
كأئها من طراز امرأة أبيه نفسهاء قذَّرت موضعها حقٌ 
قدره ونزلت عند حكم الواقعء مطمئئّة ‏ لبعلها_ با 
يرذده دائمًا من إخلاصه وبراءة سهراته. قانعة من الألم 
والحزن ببثْها في دائرة الأسرة الضيّقة ب مجلس القهوة ‏ 
من دون أن تظفر بتأييد جدّيّ؛ وكيف الها بذاك في بيئة 
ترى الخضوع للرجال ديئًا وعقيدة» بل لعل الست 
أمينة استدكرت شكواها وسخطت على ما تطمح إليه 
من استثثار غريب ببعلهاء لأنما لم يكن يسعها أن 
تتصوّر النساء إلا على مثالا هي ولا الرجال إلا على 


بين القصرين “4غ 


مثال زوجهاء فلم ثَرَ في استمتاع ياسين بحرّيته عجبا 
ولكن شكوى زوجه بدت هي العجب. فهمي وحده 
قذّر أحزانها فتطوع لترديدها على مسمع من ياسين ولو 
أله أيقن من بادئ الأمر أنه يدائع عن قضيّة خاسرة. 
ولعل ما شسّعه على ذاك كان كثرة تلاقبهها في قهوة 
أحمد عبده بخان الخليل. تلك القهوة التي تقع تحت 
سطح الأرض كأتها كهف منحوت في جوف جبلء 
مسقوفة بربوع الحيّ العتيق» منعزلة عن العالم 
بحجراتها الضيّقة المتقابلة» وباحتها التى تتوسطها 
نافورة صامئة. ومصابيحها التي توقد ليل نهار» وجوها 
الحادئ الحالم الرطيب. كان ياسين قد مال إلى هذه 
القهوة لدنوها من محانة كوستاكي من ناحية ولاضطراره 
إلى هجر قهوة سي عل بالغوريّة بعد قطع زنُوبة من 
ناحية أخرى» ثم لما خصّت به القهوة الجديدة من 
طابع أثرئ صادف هوى من نفسه الميّالة للشعرء أما 
فهمي فلم يعرف طريق المقاهي لخلل طرأ على سلوكه 
كطالب مجتهد ولكن تلبية لداء تلك الأيام الذي دعا 
الطلبة وغيرهم إلى التجمع والتشاور» فاختار ونفر من 
زملائه قهوة أحمد عبده ‏ لنفس ميزاتها الأثرية التي 
جعلتها يمامن من العيون ‏ للاجتباع مساء بعد مساء 
للحديث والتشاور والتنشّؤ وانتظار الحوادث. كثيرًا مأ 
التقى الأخوان في حجرة من الحجرات الصغيرة ولو 
لحين قليل أي حيّى يصل زملاء فهمي أو يأزف ميعاد 
ياسين للانتقال إلى حانة كوستاكي , وف مرّة من هذه 
المرّات أشار فهمي إلى كدر زيئب مبَدِيًا دهشته لسلوك 
أخيه الذي لا يتفق مع حياة زوجيّة ناشئة. ضحك 
ياسين ضحكة رجل يرى لنفسه الحقٌّ » كل الحقّ » في 
أن يضحك من سذاجة الآخر الذي ارتضى بأن يخاطبه 
بلسان الناصح في) يجهله. بيد أنه لم يشا أن يبرّر 
سلوكه مباشرة مؤثرًا أن ينس عن صدره بما يعن له 
من قول» قال مخاطبا الشاتٌ: 

- رغبت يومًا في الزواج من مريم» ولست أشكٌ في 
أنك حزنت جد الحزن لوقف أبيك الذي منع تلك 
الرغبة من أن تتحقّق. .. أقول لكء وأنا أدرى با 
أقول» إِنّك لو علمت وقتذاك بما يحْمُي الزواج وراء 


14 بين القصرين 
سطحه لحمدث الله على الفشل . . . 

دهش فهمي لحل الانزعاج لأنّه لم يتوقع أن يباغت 
في أؤل جملة يمخاطب بها بألفاظ تجمع بين «مريم» 
و«الزواج» و«الرغبة». أفكار لعبت على مسرح صدره 
أدوارًا لا تنسى ولا تمحى آثارهاء فلعلّه بالغ في إظهار 
دهشته ليخفي ما أشارت الذكريات في نفسه من 
الشجن والتأئّر. ولعله لذلك لم يستطع أن ينبس 
بكلمةء فتابع ياسين حديئه وهو يلوّح بيده سأمًا ومللا 
قائلا : 

ما كنت أتصوّر أن ينجل الزواج عن هذا الخواء: 
نه في الحقٌ لا يعدو أن يكون حلءًا كاذباء وقاسيًا ككل 
شيء ححبيث الخداع ! 

بدا له قوله عسير الهضم مثيرا للريب كا يخلق 
بشابٌ تتدقق ينابيع حياته الوجدانيّة نحو هدف واحد 
لا يتمثل له إلا في صورة «زوجة؛ وتحت مقولة 
«الزواج» فعر عليه أن يتناول أخحوه المستهثر مقولته 
المقدّسة مهذه المرارة الساخرة» وثمتم في دهشة بالغة: 

- ولكنٌ زوجك سيّدة. . . كاملة! 

فهتف ياسين ساخيرًا : 

سيّدة كاملة! هو ذاك؛ أليست كريمة رجل 
فاضل؟... وربيبة أسرة كريمة؟... حميلة.. 
مهذّبة. . . ولكن لا أدري أيّ شيطان موكل بالحياة 
الزوجيّة يجعل من جميع المزايا السالفة أعراضًا تافهة لا 
يُلقى إليها ببال تحت ضغط الملل المسقم كأئها بعض ما 
تغدق على الفقر من صفات النبل والسعادة كلما تراءى 
لنا أن تعزي فقيرًا عن فقره. . 

فقال فهمى ببساطة وصدق: 

- لا أفهم حرفا مما تقول. 

- انتظر حىّ تعرف بنفسك. . . 

- لماذا إذن يصرٌ الناس على الزواج مندذ بدء 


الخليقة؟ ., , . 
55 أن الزواج ‏ كالموت ‏ ا يلمع معه التحذير ولا 
الخو : 


- لشدٌ ما عبث بي الخيال فسما بي إلى عوالم تفوق 


مباهجها الأحلام؛ وطلما ساءلت نفسي: هل يجمعني 
جنا ميق الجن واتناقة نفام ل لاسي يا انفد 
حلم!... ولك أؤكّد بأنه ليست ثمَةَ مصيبة أفدح 
من أن يجمعك بيت واحد بحسناء إلى الأبد. . . 

وغمغم فهمي في حيرة رجل يعر عليه فيها يكابد 
من أشواق الشباب ‏ تصور الملل : 

- لعلّه بدت لعينك أشياء وراء الظاهر الذي لا 
يعاب ! 

فقال ياسين وهو يضحك بمرارة: 

لا أشكو إلا الظاهر الذي لا يعاب!. . . شكواي 
في الحق منصبة على الجمال نفسه!... هو... هو 
الذي مللت لحدّ السقم. كاللفظ الحديد يبهرك معناه 
لأول مرّة لم لا تزال تردده وتستعمله حي يستوي 
عندك وألفاظ مثل «الكلب» وو«الدودة» و«الدرس» 
وسائر الأشياء المبتذلة.» يفقد جدّته وحلاوته. وربما 
سيك معنا انفسة فند] عرد لفظ غريب: له مق له 
ولا وجه لاستعماله. ولعلّه لو عثر عليه الغير في إنشائك 
أخذهم العجب لبراعتك على حين يأخذك العجب 
لغفلتهم. ولا تسل عما في ملل الال من فجيعة. إذ 
أنه يبدو مللا بلا عذر مقبولء وبالتالي قضساء 
محتومًا. . . فيتعذّر التفادي من يأس ليس له من قرار. 
لا تعجب لقوليء إن عاذرك لأنك تنظر من بعيد. 
والجمال كالسراب لا يُرى إلا من بعيد. . . 

على مرارة اللهجة شك فهمي في حقيقة بواعثها إذ 
أله مال من بادئ الأمر إلى اتهام أخحيه ‏ لا السطبيعة 
البشرية ‏ لما عرفه عله من انحراف السلوك, ألا يجوز 
أن تُردٌ شكواه في الحقّ إلى ما لهج به من مجون في 
حياته السابقة على الزواج؟!... أصرٌ على هذا الظنْ 
إصرار رجل يأبى أن يفجع في أعرّ آمالى. ولبّا كان 
ياسين لا يتم بآراء أيه بقدر ما يبتم بالإفصاح عا 
في صدره هوء فقد واصل حديثه وهو يبتسم لأوؤل مرة 
ابتسامة وضيئة : 

- أصبحت أدرك موقف أبي حقّ الأدراك! . . . 
وأفهم ما جعل منه ذاك الرجل العربيد الراكشش. وراء 
العشق أبدًا!. . . كيف كان يتأن له أن يصير على 


طعام واحد ربع قرن من الزمان وقد قتلني الملل بعد 
خمسة أشهر؟ ! 
فقال فهمي وقد قلق لإقحام أبيه في الحديث: 
حيٌٍّ على افتراض أنْ شكواك صادرة عن تعاسة 
مركبة فى الطبيعة البشريّة, فالحل الذي تبشر به. . 
(همٌ بأن يقول: بعيد عن الطبيعة السويّة ثم عدل عنه 
ليكون أكثر منطقيّة فقال). . . 
فقال ياسين الذي كان يقنع من الدين دون اكتراث 


معن عن اللدون ‏ . 


جدي لأوامره ونواهيه : 

الدين يؤيّد رأبي. وآي ذلك أنه سمح بالزواج 
من أربع غير الجواري اللاتي كانت تكتظ من قصور 
الخلفاء والأغنياء» فقد فطن إذن إلى أنْ الجبال نفسه ‏ 
إذا ابتذلته العادة والألفة ‏ مل وأسقم وقتل. . . 

فقال فهمي باسما: 

كان لنا جدّ يمسي مع زوجة ويصبح مع أخرى 
فلعلّك أن تكرن وريثه. . فتمتم ياسين متنبّدًا : 

على أنّ ياسين ‏ حي ذاك الوقت - لم يكن أقدم على 
نحقيق حلم من أحلامه المتمرّدة» حتى أنه رجع إل 
القهوة فالحانة ولكنّه تردّد قبل أن يخطو الخطوة 
الأخيرة» قبل أن ينزلق إلى زنُوبة أو إلى غيرهاء وما 
الذي جعله يفكر ويتردد؟ . . . ريما لم يحل من إحساس 
بالمسكوليّة حيال الحياة الزوجيّة» وربما لم ينج من تبيب 
لرأي الدين في «الزوج الفاسق» الذي توكد لديه أنه 
غير رأيه في والشِابٌ الفاسق» ورتم أيضًا أنْ خيبة أقوى 
أمل تردّد في جوائبه صدّت نفسه عن لذّات الدنيا حتّى 
يفيق» على أن واحدة من أولاء لم تكن لتقيم في سبيله 
عائقًا جديا خليًا بأن يقف مجرى حياته: إلا أنه وجد 
إغراء لا يصمت في سيرة أبيه الى استحوذت عليه. 
وما بدا من زوجه من وحكمة» قرنتها في ذهنه بامرأة 
أبيه فينشط خخياله إلى رسم تخطيط لححياتها المستقبلة معه 
على مثال حياة الست أمينة مع أبيه؛ أجل تمن كثيرا لو 
تطمئنٌ زينئب إلى الحياة التى تقدر عليها كما تطمئن 
امرأة أبيه إلى حياتباء فيئب هو مثل وثبات أبيه الموفقة 
ليعود آخر الليل فيحظى ببيت هادئ وزوجة مستليمة . 


بين القصرين 45 
بذاك. وبذاك وحده تراءت له الحياة الزوجيّة محتملة. 
بل أثيرة ذات مزايا تفتقد. «فيم تطمح أيّة امرأة وراء 
البيت الرزوجئ والارئواء الجشئ؟!. . لا شيء!... 
إِنِنّ حيوانات أليفة كالحيوانات الأليفة م أن 
يعاملن: أجل لا يجوز للحيوانات الأليفة أن تفطفّل 
على حياتنا الخاصّة وإِنما عليها أن تنتظر في البيت حي 
نفرغ لمداعبتهاء أن أكون زوبجًا خالصًا للحياة الزوجيّة 
هو الموت» منظر واحد وصوت واحد وطعم واحد لا 
تزال تتكرّر وتتكرّر. .. حّى تنقلب الحركة والجمود 
سيّين» والهد.وت والصمت توأمين, كلا كلاء ما لهذا 
تروجت. . . إن قيل إِنْها بيضاء؛ ألست ذا مأرب من 
السمراء؛ بل والسوداء. .. وإن قيل إثها مدملجة فيا 
عزائيى عن النحيلة والجسيمة, أو ئها مهذّبة سليلة نبل 
وكرم فهل عطلت من المزايا ربيبة العربات 
الكارو؟! . . . إلى الأمام . . . إلى الأمام . . .؛. 


آأه 

كان السيّد مكبًا على دفاتره حين طرقت عتبة 
الدكّان حذاء ذات كعب عال فرفع عينيه باهتمام 
غريزي» فرأى امرأة تشتمل الملاءة اللف منها على 
جسم لحيم وتنحسر حافة البرقع الأسود على جبين 
لاصع وعينين مكحولتين» فابتسمت أساريره في 
ترحاب طال تشوّقه إليهء وعرف من توه الست أمْ 
مريم أو حرم المرحوم رضوان كيا صارت تدعى أخخيرًاء 
ولا كان جميل الحمزاوي مشغولا ببعض الزبائن فقد 
دعاها للجلوس على كثب من مكتبهء فأقبلت المرأة 
تخطر وجلست على المقعد الصغير الذي فاضت عنه 
أعطافها وهي تلقي إليه بتحية الصباح, ومع أن 
التحيّة من ناحيتها والترحاب من ناحيته جريا على 
النحو المعهود الذي يتكرّر كلّم| جاءته «زبونة» تستحقٌ 
التكريم, فإِنّ الجوّ الذي غشى ركن الدكّان من حول 
المكتب شحن بكهرباء تعوزها البراءة» لاحت أمارات 
لما في الحفنين المسبلين حياء حول عروس البرقع من 
ناحية» والنظرة المتريّصة فوق سفحي الأنف العظيم 
من ناحية أخرىء كهرباء خفيّة صامتة إلا أن نورها 


5 بين القصرين 


الكامن كان متحمّرًا في انتظار لمسة كي يسطع 
ويشعشع ويستعر نارًا. . . كأنه كان ينتظر هذه الزيارة 
التي انجابت عن آمال مهموسة وأحلام مكبوتة» ولكن 
لأنْ وفاة السيّد محمّد رضوان أثارت منه فكرًا وهييجت 
رغبات كما يبيج انطواء الشتاء شيّى آمال الشباب في 
الطبيعة والأحياء؛: زال بموته الشجا الذي اعترضص 
إحساسه بالمروءة فأمكنه أن يذكّر نفسه بِأنْ المرحوم لم 
يكن إلا جارًا - لا صديقًا ‏ ورحل؛ كا أمكن شعوره 
بجال هذه المرأة الذي أعرض عنه قديمًا حفاظًا على 
كرامته أن يعبر عن ذاته ويطالب بنصيبه من المتعة 
والحياةء إلا أنْ عاطفته نحو زبيدة» كان أدركها 
العطب كالفاكهة في نباية موسمهاء فلاقت المرأة منه - 
على خلاف الزيارة السابقة ‏ ذكرًا متوثبًا وعاشقًا 
متحرّرًا. . . على أنْ خاطرة ثقيلة ‏ أن تكون الزيارة 
بريئة ‏ مرّت به ولكنه نفاها عن نفسه بقوة. مستشهدًا 
بما بدا منها في الزيارة القديمة من رقيق الإشارات 
وبديع الريب» مؤكّدًا ظنونه ببذه الزيارة نفسها التي 
ليس ثمة ما يوجبها إن لم يكن مثل ما يدور بنفسه. لم 
صمّم أخيرًا على أن يتلمس سبيله كتخبير قديم... 
فقال لما برقة باسمً : 

خطوة عزيزة! 

فقالت في شىء من الارتباك : 

الله يكرمك. كنت راجعة إلى البيت فمررت 
بالدكان فتراءى لي أن آخذ لوازم الشهر بنفسي . 

فطن إلى «اعتذارها» عن المجيء ولكنه أى أن 
يصدّقه فإن يتراءى ها أن تأخحذ لوازم الشهر بنفسها 
ليس شيئًا إن لم يكن وراءه دافم» لا سيّها وأثها تدري 
بالبداهة والغريزة أنَّ مجيئها بعد «مقدّمات» الزيارة 
القديمة خليق بأن يثبر في نفسه الريب» وإن يبدو لعينيه 
دتمحكاء غير خحاني الدلالة» فزادته مبادرتها إلى الاعتذار 
ثقة وقال: 

- فرصة طيّبة لأحيّيك ولأكون في خدمتك!| 

فشكرته في اقتضاب أصغى إليه بنصف انتباه إذ 
شغل بالتفكير في الكلمة التالية, لعلّه كان من 
الطبيعيَ أن يعرّج على ذكر الزوج الراحل مترحْمًا ولكنّه 


تحاشى هُذا الخاطر أن يفسد عليه الجوّ كله ثم 
تساءل: هل يباجم أو يمسك حبّى يستدرجها إلى 
المجوم؟ لكلّ طريقة لذّاتها. . . بيد أنه لم يشا أن 
يسى أنْ مجيئها وحده خطوة كبيرة من جانبها تستحقٌ 
حسن الاستقبال من جانبه» فاستطرد قائلا وكأنه يتمم 
حديثه الأول: 

- بل فرصة طيّبة كي أراك! 

تمرك الحفنان والحاجبان حركة ربما دلت على الحياء 
أو الارتباك أو كليهما معّاء ولكئّها فضحت قبل كل 
شيء فطنتها إلى ما وراء مجاملته الظاهرة من معان 
حفيّة, على أنه رأى في حيائها استجابة لشعورها 
الباطئ الذي دفعها إلى زيارته أكثر منه استجابة 
لقولهء فازداد اطمئنانًا إلى تخمينه الأول وراح يؤكد ما 
عناه في نغمة رقيقة قائلا : 

- أجل فرصة طيّبة كي أراك. 

عند ذاك قالت بلهجة تنم عن عتاب حبيس : 

- لا أظنّْ أنك تعد رؤيتى فرصة طيبة! 

فوقعت لمجة العتاب من صدره موقع الرضى 
والسرورء لكنّه قال كالمحتجٌ : 

- صدق من قال إِنّْ بعض الظنٌ إثم . 

فهرّت رأسها هرّة كمن تقول له «هيهات أن يؤثّر ف 
مثل هذا الكلام» وقالت : 

- ليس ظنًا فحسبء إِنِ أعني ما أقولء إِنّك رجل 
لا يعوزك الفهم. وأنا كذلك وإن توهمت غيره. . 
فلا يجوز لأحدنا أن يحاول خدع صاحبه , 

ومع أن صدور هذا الكلام عن امرأة لم يض على 
وفاة زوجها شهران أثار في نفسه شعورًا بالسخرية 
والمرارة» فإنّه تطوّع لانتحال الأعذار ها الأمر الذي 
لم يكن ليفكّر فيه في ظروف أخرى - قائلا لنفسه: ما 
أحرى صبرها على مرضه الطويل بأن يشفع لا ثم 
تحلص من شعوره الطارئٌ بقوّة وقال متصِنّعًا الأمى : 

غاضبة عل؟! يا له من حظ سيئ لا أستحقه! 

فقالت في شىء من الاندفاع رتما كان الباعث عليه 
ضيق المكان والزمان عن ملاعبات الأخخذ والرد: 

- قلت لنفسي وأنا في الطريق إليك «ما ينبغي أن 


تذهبي». . فلا يحقّ لي الآن أن ألوم إلا نفسي! 

بعض هذا الغضب يا ست!. . . إني أسائل 
نفسي عم| جنيت؟ ! 

ات معنى : 

ما عسى أن تصنع إذا حيّيت إنسانا بتحيّة فلم يرد 
بمثلها ولا حيّى بأسوأ منها؟ | 

فأدرك من توه أثْها تشير إلى ما بدا منها في الزيارة 
القديمة من تودّد قابله بالصمتء. ولكنّه تجاهل 
الإشارة. . . وقال مجاراة لأسلويها الرمري : 

لعلّها لم تبلغ سمعه لسبب أو لآخر. 

- إِنّه قويّ السمع والحواسٌ جميعًا. 

فجرت على فمه ابتسامة عَجب لم يتالكهاء قال 
بلهجة المانب إذا أنشأ يعترف: 

- لعلّه ل يردّها نحاء أو تقو 

فقالت بصراحة أعجبته وهرّت فؤاده: 

أمًا الحياء فلا حياء لهء وأمًا سائر الأعذار فمن 
أين للقلوس الصادقة أن تباليها؟ 

فندذت عنه ضحكة ما لبث أن اختزلها وهو يسترق 
النظر إلى جميل الحمزاوي الذي بدا متعبمكما في العمل 
بين نفر من الزبائن»: ثم قال: 

لا أحبٌ أن أعود إلى الملابسات التى فست علي 
وقتذاك. على أنه لا يجوز لي أن أيأس ما دام ثمّة ندم 
وتوبة وعفو! 

فتساءلت في إنكار: 

من يدرينا بالندم؟ 

فقال بلهجة حارّة برع في تجويدها عامًا بعد عام : 

- تجرّعته طويلا والله شهيد! 

والتوبة؟ 

فقال وهو يثقبها بنظرة متوهجة : 

أن ترد التمحيّة بعشر أمثالها؟! 

فتساءلت في دلال : 

ومن أدراك بأنْ ثمة عفوًا؟ 

فقال بلباقة : 

أليس العفو من شيم الكرام؟ 

ثم في نشوة مسكرة : 


بين القصرين 44017 

- العفو كثيرًا ما يكون كلمة الس لولوج الحثة . 

ثم وهو يرنو إلى ابتسامة عذبة لاحت في عيليها: 
الجئة التي أعنيها تقع عند ملتقى بين القصرين 
بالنحاسين» ومن جميل التوفيق أنْ بابها يفتح على 
عطفة جانبيّة بعيدًا عن أعين الرقباء, وآلا محارس لما! 
وفطن إلى أنْ حارس الحئة السياويّة سمي «المرحوم» 
الذي كان حارسًا للجنة الأرضية التي يتلمس طريقه 
إليها» فشاب خاطره ضيق ونخاف أن تكون المرأة قد 
فطنت إلى نفس الحقيقة الساخرة ولكنه وجدها مهومة 
في| يشبه الحلم فتنيد وهو يستغفر الله في سرّه. وكان 
جميل الحمزاوي قد فرغ من زبائئه. فأقبل على السيدة 
ليقفى حوائجها فسلحت للسيّد فرصة للتامل» فراح 
يذكر كيف رغب ابنه فهمي يومًا في -خحطبة مريم أبئة 
هذه المرأة» ثم كيف أهمه الله الرفض» وقد اعتقد 
وقتذاك أنه تا ينفذ مشيئة حرمه فحسبء فلم يدر له 
يخلد أله جنب ابنه شر مأساة يُتكب بها زوجء وهل 
يمكن أن تهج فتاة إلا على مثال أمّها؟.. 
أه؟... امرأة خطيرة!. . . قد تكون جوهرة ثمينة 
عند أمثاله من الصيّادِين: ولكتها في البيوت مأساة 
دامية؛ ثُرى أي طريق سلكت طوال الأعوام التي 
عاشها زوجها ميْثًا حيًا؟... كل القرائن تشير إلى 
طريق واحدء ولعل كثيرين من الجحيران يعرفون؛ بل 
لعلّه لو كان في بيته من يحسن ملاحظة هذه الأمور لا 
خفي عليه ثبيء: ولما بقيت زوجه على الولاء لما 
والايمان مها حبّى هذه الساعة»؛ وعاودته رغبة ‏ 


: رأئّ 


استحوذت عليه أوّل مرّة عقب الزيارة المريبة القديمة. 
وم يجد عندئذ سبيلا آمنّا إلى تحقيقها دون إثارة 
الريب - وهي أن يحول بين المرأة المستهترة وبين بيته 
الطاهرء الآن يرى الظرف مهيّئًا ‏ لتحقيق رغيته. 
وذلك بأن يوحي لما بقطع أسبابها بزوجه رويدًا رويدًا 
منتحلا ما يعنّ له من أعذار حقيقة ببلوغ الحدف دون 
مساس بكرامتهاء هذه المرأة التي باتت أقرب ما تكون 
إلى فؤاده وأبعد ما تكون عن احترامه في الحظة واحدة! 
ولما انتهى الحمزاوي من إعداد حوائجها مضت مادّة 
يدها إلى السيّد فسلم باسمًا وهو يقول بصوت نحافت: 


بين القصرين 

- إلى اللقاء . 

فغمغمت وهي تبم بالانصراف : 

نحن في الانتظار. 

غادرته أوفر سعادة» نشوان بالظفر والعجب». 
ولكتّها خلقت له أيضًا هما لم يكن عمًا جديرًا بأن يحتل 
مكانًا باررًا من مشاغله اليوميّة» سوف يتساءل من 
الآن فصاعدًا عن آمن السبل للانسحاب من بيت 
زبيدة بنفس الاهتام الذي يتساءل به عما فعلت 
السلطة العسكرية وعم يبيت الإنجليز وعما ينوي 
سعدء أجل جِدٌ جديد من السعادة بيجِرٌ وراءه 
كالعادة ‏ ذيلاً من الفكر. لولا حرصه الشديد على 
حبّ الناس له. ذلك الحبٌ الذي يحظى منه بأسعد 
سعاداته, لحان عليه هجر العالمة بعد أن بلي حبّه وذوت 
أزاهره وأغرقه الشبع في مستنقع ان :ولكل فق 
دائيًا من أن يترك وراءه قلبًا حانقًا أو نفسا حاقدة» وكم 
يود كلما ضيّق الملل أنفاسه لو يبدأه الحبيب بالهجر من 
ناحيته فيكون مهجورًا بدل أن يكون هاجرًاء وكم يود 
أن تنتهي علاقته بزبيدة كما انتهت أخوات لما من 
قبلء. بكدر عابر تغسله هدايا الوداع المنتقاق ثم 
يستحيل إلى صداقة وطيدةء فهل تتقبل زبيدة - التي 
يظنّ أثها ليست دونه شبعا- اعتذاره بقبول حسن؟ 
وهل يطمع في أن تغفر له هداياه ما اعتزم من 
هجر؟... هل تثبت أنْها امرأة كبيرة القلب سحية 
النفس كزميلتها جليلة مثلا؟ هذا ما ينبغي أن يفكر فيه 
طويلا وأن يبي له أنجع الذرائعم. وتتيّد تيّدة طويلة 
كأمًا يشكو ما .جعل الحبٌ فانيًا لا يدوم ليكفي القلب 
متاعب الأهواء ثم شرد به الخيال طاويا النبار فتراءى 
له وهو يدب في الظلاء متلمسا سبيله إلى البيت 
الموعود. والمرأة تنتظر بيدها سراج . 


اه 
«أعلنت إنجرلترا حمايتها من تلقاء نفسها دون أن 
تطلبها أو تقبلها الأمّة المصريّة. فهي حماية باطلة لا 
وجود لها قانونا بل هي ضرورة من ضرورات الحرب 


كان فهمي يمل الكلمات» كلمة كلمة» في أناة 
وبصوت واضح النرات والأم وياسين وزينب يتابعون 
باهتيام درس الإملاء الجديد الذي اتكبٌ كمال على 
كتابته ) مركرًا وعيه في ألفاظه من دون أن يفقه معنى 
كلمة نما كتب صوابًا أو خطأ. لم يكن غريبًا أن يلقي 
فهمي على شقيقه الصغير درسًا في الإملاء أو غيرها في 
جلسة القهوة» ولكنّ موضوع الإملاء بدا جديدًا حق 
للأمّ وزينب» أمَا ياسين فنظر إلى أنحيه مبتسم): 

أرى هذه المعانىي قد ملكت عليك نفسك... 
فلم يفتح الله عليك بإملاء لهذا الغلام المسكين إلا 
خطبة سياسيّة وطيّة ينفتح لما المغلق من أبواب 
اكز 

فبادر فهمي إلى تصحيح رأي أخيه قائلا: 

هي من نخطبة سعد أمام سلاطين الاحتلال في 
جمعية الاقتصاد والتشريع . 

فتساءل ياسين باهتمام ودهشة : 

وكيف كان ردّهم عليه؟ 

فقال فهمى بانفعال : 

لم يج ردّهم بعدء والكل يتساءل عنه في حيرة 
وقلق» إنّبا غضبة مزمجرة في وجه أسد لم يُؤثْر عنه 
الحلم أو العدل. 

ثم وهو يتدبّد مغيظًا محنقا : 

كان لا بدّ من غضبة بعد أن منع الوفد من 
السفرء وبعد أن استقال رشدي باشا من الوزارة 
فخيب السلطان المأمول بقبول استقالته , 

ثم مضى إلى حجرته مسرعاء وعاد وهو يبسط ورقة 
مطويّة وقدّمها إلى أخيه وهو يقول : 

- ليسث الخطبة كلّ ما عنديء. اقرأ هذا المنشور 
الذي يورُّع سرًا متضِمّنًا رسالة الوفد إلى السلطان. . . 

فتناول ياسين المنشور وراح يقرأ: 

ويا صاحب العظمة . . .4. 

يتشرف الموفّعون على هذا أعضاء الوفد المصريّ أن 
يرفعوا إلى مقام عظمتكم بالنيابة عن الأمّة ما يل : 

لا اتفق المحاربون على أن يجعلوا مبادئ الحرية 
والعدل أساسًا للصلح وأعلنوا أن الشعوب التي غيّرت 


الحرب مركزها يؤخذ رأيها في حكم نفسهاء أخذنا على 
عاتقنا السعي في استقلال بلادنا والدفاع عن قضيتها 
أمام مؤتمر السلام ما دام أنْ الحقّ للأقوى قد زال من 
ميدان السياسة» وما دامت بلادنا قد أصبحت بزوال 
السيادة التركيّة حرّة من كلّ حقٌ عليها لأن الحاية التي 
أعلنبا الانجليز بلا اتفاق بينهم وبين الأمّة المصرية 
باطلة» ولم تكن في الواقع إلا ضرورة حربيّة تزول 
بزوال الحرب» اعتمادًا على هذه الظروف وعلى أن 
مصر غرّمت كلّ ما قدرت عليه من المغارم في صف 
القائلين بحقٌ حرّيّة الأمم الصغرى» لا يكون لدى 
مؤتمر السلام ما يملع من الاعتراف بحريتنا السياسية 
جريًا على المبادئ التى أسس عليها . 

عرضنا رغبتنا في السفر على رئيس وزرائكم 
صاحي الدولة حسين رشدى باشاء فوعد بمساعدتنا 
على السفر وثوقًا منه بأنّنا إنما نعيّر عن رأي الأمّة 
كاقة. . . فلا لم يُسمح لنا بالسفر وحبسنا داخل حدود 
بلادنا بقوة الاستبداد لا بقوة القانون. وحيل بيننا وبين 
الدفاع عن قضيّة هذه الأمّة الأسيفة. ولمّا لم يستطع 
دولته أن يحتمل مسئولية البقاء في منصبه في حين أن 
الشعب يصادَرٌ في مشيئته, استقال هو وزميله صاحب 
المعالي عدلى يكن باشا استقالة مجائية قوبلت من 
الشعب بتكريم شخصيها والاعتراف بصدق وطنيتهما. 

ولقد كان الئاس يظئون أنه كان لها في وقفتهما 
الشريفة دفاعًا عن الحرّيّة عضد قو من نفحات 
عظمتكمء لذلك لم يكن ليتوقع أحد في مصر أن يكون 
آخر حل لمسألة سفر الوفد قبول استقالة الوزيرين. 
لأنْ في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا وتمكيئًا للعقبة 
التي ألفيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمّة إلى المؤتمرء 
وإيذانًا بالرضى بحكم الأجنبئ عليئا إلى الأبد. 

قد نعلم أنَّ عظمتكم ربما كنتم مضسطرين 
لاعتبارات عائليّة أن تقبلوا عرش أبيكم العظيم الذي 
خلا بانتقال أخيكم المغفور له السلطان حسين؛ ولكنّ 
الأمة من جهة أخرى كانت تعتقد أنَّ قبولكم لهذا 
العرش في زمن الحاية الوقتيّة الباطلة رعاية لتلك 
الظروف العائليّة ليس من شأنه أن يصرفكم عن 


بين القصرين ا 


العمل لاستقلال بلادكمء غير أن حل المسألة بقبول 
استقالة الوزيرين اللذين أظهرا احترامهها لإرادة الآمة 
لا يمكن أن يتفق مع ما جبلتم عليه من حب الخير 
لبلادكم : والاعتداد يمشيئة شعبكم ؛ لذلك عجبس 
الناس من مستشاريكم كيف أتهم لم بلتفتوا إلى الأمة 
في هذا الظرف العصيب وهي إنما تطلب منكم ‏ يا 
أرشد أبناء محرّرها الكبير محمد عل أن تكونوا لا 
العون الأوّل على نيل استقلالهاء مها كلفكم ذلك 
فإنّ همتكم أرفع من أن تحدّدها الظروف. كيف فات 
مستشاريكم أنَّ عبارة استقالة رشدي باشا لا نسمح 
لرجل مصري ذي كرامة وطنية أن يخلفه ني 
مركزه؟! . . . كيف فاتهم أن وزارة تؤلف على برنامج 
مضادٌ لمشيئة الشعب مقضيّ عليها بالفشل؟ ! 

عفرًا مولانا قد تكون مداخلتنا في هذا الأمر وفي 
غير هذا الظرف غير لائقة... ولكنّْ الأمر قد جل 
الآن عن أن يراعى فيه أيّ اعتبار غير منفعة الوطن 
الذي أنت خادمه الأمين. إِنْ لمولانا أكبر مقام في البلاد 
فعليه أكبر مسئوليّة عناء وني أكبر رجاء لماء وإِنْنا لا 
نكذبه النصيحة إذا تضرّعنا إليه أن يتعرّف رأي أمّته 
قبل أن يذ قرارًا نهائيًا في أمر الأزمة الحاليّة. فإننا 
نؤكد لسدته العليّة أنّه لم يَبََ أحد في رعاياه من أقصى 
البلاد إلى أقصاها إلا وهو يطلب الاستقلال» فالحيلولة 
بين الأمّة وبين طلبتها مسئوليّة لم يتحر مستشارو مولانا 
أمرها بالدقّة الواجبةء لذلك دفعنا واجب -خدمة بلادنا 
وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدّته شعور أمّته التي هي 
الآن أشدّ ما تكون رجاء في استقلالها وأَخوّف ما تكون 
من أن تلعب به أيدي حزب الاستععارء والتي تطلب 
إليه بحقّها عليه أن يغضب لغضبها ويقف ني صمها 
فتنال بذلك غرضها. . . وأنّه على ذلك قدير. . .». 

رفع ياسين رأسه عن المنشور وفي عينيه ذهول ولي 
قلبه نبغ جديد من التأثير» َيْد أنه هر رأسه قائلا: 

يا له من خطاب]!... لا أحسبني أستطيع أن 
أوجّه مثله إلى ناظر. مدرستي دون أن ينالني العقاب 
الرادع . . . ! 

فرقم فهمى منكبيه استهانة وقال: 


٠‏ بين القصرين 

الأمر قد جِلّ الآن عن أن يراعى فيه أيّ اعتبار 
غير منفعة الوطن. . . ! 

ردّد العبارة عن ظهر قلب كما وردت في المنشورء 
فلم يتمالك ناسين اندنتول ماحم 

نظف اللقور ا وي رلك :3 اعت داك 
كأنك كنت تترصّد طول حياتك لمثل هذه الحركة كي 
تلقى إليها بكلٌ قلبك. ولعلي لا أخلو من مثل شعورك 
وآمالكء ولكبّى لا أقرّك على الاحتفاظ بهذا 
المنشور. . . خصوصًا بعد استقالة الوزارة وتحرش 
الأحكام العرفيّة. . . ! 

فقال فهمي في فخار: 

إِنْ لا أحتفظ بها فحسب, ولكثّي أقوم بتوزيعها 
ما سميم الجهد...! 

فانّسعت عينا ياسين في قلق وهم بالكلام. .. 
ولكنّ الأم كانت أسبق إليه منه فقالت بانزعاج : 

لا أكاد أصدّق أذيَء كيف تعض نفسك للشْرٌ 
وأنت سيد العقلاء؟ | 

م يدْرِ فهمي كيف يجيبهاء ولكنّه شعر بما جرّه عليه 
تبوّره من حرجء لم يكن أشفق عليه من محادئتها في 
هذا الأمرء كانت السماء أقرب إليه من إقناعها بأن 
تعريض نفسه للخطر في سبيل الوطن واجب ما دام 
الوطن كلّه لا يساوي في نظرها قلامة ظفرء بل قد بدا 
له أن إخراج الإنجليز من مصر أيسر من حملها على 
الاقشاع بوجوب إخراجهم أو إغرائها ببغضهم. فا إن 
يدور الحديث حول ذلك حي تقول ببساطة «لاذا 
تكرههم يا بني!... أليسوا أناسًا مثلنا لهم أبناء 
وأمّهات؟!» فيقول لما بحذة: «ولكتهم يحتلون 
بلادنااع»... وتحسّ بحذّة الغضب في نيراته فتلوذ 
بالصمت وهي تداري نظرة إشفاق لو نطقت لقالت له 
ولا عليك من هذا»... ومرة قال لها وقد ضاق 
منطقها: ولا حياة لقوم إذا حكمهم أجنبي» فقالت له 
في استغراب «ولكنًا لا نزال أحياء رغم أمْهم يحكموننا 
من زمن بعيدء وقد أنجبتكم جميعًافي ظل 
حكمهم!... إنْم يا بن لا يقتلون ولا يتعرّضون 
للمساجد ولا تزال أمّة محمد بخير!» فقال الشاب 


يائسًا: «لو كان سيّدنا محمد حيًا ما رضي أن يحكمه 
الإنجليز» فقالت بلهجة الحكيم: هذا حقّء ولكن 
أين نحن من الرسول عليه الصلاة والسلام؟. . . كان 
الله يعينه بملائكته. . .» فهتف بها حانقا: «سيعمل 
سعد زغلول ما كانت الملائكة تعمله؛ ولكنها هتفت 
وهي ترفع ذراعيها كأمًا تدفع بلاء لا دافع له: ولا 
تفل هذا يا ب؛ استغفر رك اللهم رحمتك 
وغفرانك!4». . . هذه هي» فكيف يجيبها الآن وقد 
استشعرت في توزيع النشور خطرًا يتهدده؟. .. مم 
سعه إلا أن يركن إلى الكذب فقال متصدّما 
الااستهانة : 

ما أردت إلا المزاح فلا تنزعجي للاشيء. . . 

فعادت المرأة تقول بنبرات تنم عن ضراعة : 

هذا ما أومن به يا ببيّ؛ هيهات أن يخيب ظنئي في 
أرشد الراشدين» ما لنا نحن وهذه الأمور! إذا رأى 
باشواتنا أن يخرج الإنجليز من مصر فليخرجوهم 
بأنفسهم , 

بدا كال طوال الحديث وكانه يحاول أن يتذكر أمرًا 
ذا بال» فا بلغ الحديث تلك النقطة حيّى صاح : 

ع امدرسن: الغرري قال لنا بالأفسن. إن الآى تتفل 
بعزائم أبنائها! . . . 

فهتفت الأم ساخطة : 

لعلّه قصد بخطابه كبار التلاميذ, ألم تحدّثني يوما 
أن عندكم تلاميذ قد ظهرت شواريهم؟ 

فتساءل كمال بسذاجة : 

عواضى الي النس تالعيذا كن ا؟ 

فقالت الأمّ بحدّة على غير مألوفها: 

كلا ليس أخوك كبيراء إِنّ أعجب لذلك المدررس 
كيف سوّلت له نفسه أن يتحدّث إليكم في غير 
الدرس!. . . إذا شاء أن يكون وطيًا فليوجّه هذا 
الكلام إلى أبنائه في البيت لا إلى أبناء الناس]! . . . 

كاد الحديث يحمس ويستمرٌ لولا أن سئحت كلمة 
عابرة فغيّرت مجراه أرادت زيئب أن تتودد إلى الأم 
بتأبيدها في دفاعها فحملت على مدرس العربي ولعتته 
بأنه «مجاور حقير عملت الحكومة منه رجلا ذا شأن في 


غفلة من الزمان». .. ولكن ما إن سمعت الأمّ هذه 
الإهانة توجّه إلى «المجاور»: حيّى أفاقت من انفعاها 
رامق ان تسكن فبا رفي كانه ناية ها 
مدفوعة بكلٌ ما تنطوي عليه نفسها من إجلال لذكرى 
أبيها فتحولت إلى زينب وقالت مبدوء: 

أنت يا ابنتى تحقّرين أشرف ما فيه الشيوخ 
خلفاء الرسل» [ثما يلام الرجل على خروجه عن حدود 
وظيفته الشريفة. ألا لينه قنع بأن يكون مجاورا 
وكييحا! د 
وم يفت ياسين سر تحول الأم المفاجئ» فبادر 
بالتدخل ليمحو الأثر الذي تركه دفاع زوجته 
الوه 


0 

انظر إلى الطريقء انظر إلى الناس» من يقول بعد 
هذا إِنْ الكارثة لم تقع؟! 

ولكنّ السيّد أحمد لم يكن في حاجة إلى مزيد من 
النظرء الناس يتساءلون؛ ويرجفونء وأصحابه 
يمخوضون في الحديث خوضا حارًا تجاوبت فيه الحسرة 
مع الحزن مع الغضبء إلى أن الخبر قد ترد على 
ألسنة كافة من مر به من الأصدقاء والزبائن» أجمع 
الكلّ على أنّْ سعد زغلول وصفوة أصحابه قد اعتقلوا 
وسيقوا إلى مكان مجهول في القاهرة أو خارجهاء قال 
السيّد عفت وهو محتقن الوجه بدم الحنق : 

لا تشكُوا في صحّمة الخبر فإنْ لأخبار السوء رائحة 
تزكم الأنوف... ألم يكن هذا متوقعا بعد خطاب 
الوفد للسلطان؟. . . أو بعد ردّه على الإنذار البريطانٌ 
بذلك الخطاب الجبّار إلى الوزارة الإنجليزيّة؟! . . . 

فقال السيد بوجوم شديد: 

يعتقلون الباشوات الكبار! . . . 
غغيف؛ تُرى ما عسى أن يصنعوا مهم؟ 

الله وحده يعلمء البلد يختنق في ظل الحكم 
العرق. . . 
ودخل عليهم السيّد إبراهيم الفار تاجر النحاس 
مهرولا وهو يبتف لاهمًا : 


بين القصرين 01ه 

أما سمعتم بآخر الأنباء؟! . . . مالطة!] 

وضرب يدا بيد وراح يقول: 

النفي إلى مالطة, لم يعد أحد منهم بينناء نفو 
سعدًا وأصحابه إلى جزيرة مالطة, . . 

وهتف اللجميع في نفس واحد: 

- نفوهم!. . . 

أثار «النفى» في نفوسهم ما خامرهم منذ الصبا من 
ذكريات قديمة أسيفة عن عرابي باشا ونهايتهء فتساءلوا 
وهم لا يملكون قلوبهم من الجزع : أيجري نفس المصير 
عل سعد زغلول وصحبه؟. .. أيتقطع حمًا ما بيغهم 
وبين الوطن إلى الأبد؟ . . . أتموت هذه الآمال الكبار 
وهي لا تزال في مهد الإزهار؟ . . . وشعر السيد بحزن 
لم يشعر بمثله من قبل. حزن ثقيل غليظ شاع في 
صدره كبا يشيع الغثيان. عان تحت وطأته حمودا 
وهمودًا واحتناقا وجعلوا يتبادلون نظرات ساهمة واجمة. 
ناطقة بغير لسان» صارخة بلا صوت» ثائرة بلا 
صخبء, وفي الريق مرارة واحدة؛ ثُمٌ -جاء في أثر الفار 
صاحب وبانٍ وثالث مردّدين نفس النبا. آملين في أن 
يجدوا عند الآخرين مسكنًا لما يستعر في تفوسهم. فلا 
يظفرون إلا بالحرن الصامت والوجوم الكئيب والثوران 
الكظيم . 

- هل تضيع الآمال اليوم كما ضاعت بالأمس؟ 

فلم محر أحد جوابّاء ولبث المتسائل يقلّب عينيه في 
الوجوه دون جدوى. لا جواب تأوي إليه النفس من 
مضطرَّيها وإن أبت أن تسلّم جهارًا بما بميتها خوفاء 
نفى سعد. . . هذا حقٌء ولكن هل يعود سعد ولو 
بعل حين؟.. . وكيف يعود سعل؟ . . . أية قوة تعيده؟ 
ل يعود سعد فأين تذهب هله الآمال العراض؟ . 
لقد البثقت من الأمل الجديد ححياة حارة عميقة يأبى 
استحوارها عليهم أن يسلّمهم للياس ولكتهم لا 
يدرون كيف يعللون النفس ببعثها من جديد. 

ولكن أليس ثمّة أمل في أن يكون الخبر شائعة 
كاذية؟ 

م يُعِرْ أحد القائل التفانًا في حين لم يحفل هو ببذا 
التجاهل لأنّه لم يقصد بقوله في الحقٌ إلا تلمس 


؟ ٠ه‏ بين القصرين 


مهرب - ولو وهميّ ‏ من اليأس الخانق , 

أسرّه الإتجليز. , . ومن ذا يغالب الإنجلير! 

- رجل ولا كل الرجال؛ بعث لحظهة من الحياة 
بأهرة . ومفضى . 

كالحلم. . . وسوف يُنسى فلا يبقى منه إلا ما 

وهتف هاتف بصوت أبخه الألم : 

الله موسجوت , , 

فهتفوا بصوت واحد : 

- تعم, : ٠.‏ وهو أرحم الراحمين. . , 

ذكر اسم الله فكان كالقطب الممغنط. جذب إليه 
شواردهم ومع أفكارهم التي شتتها اليأس . 2 مساء 
ذلك اليوم ‏ ولأول مرّة منذ ربع قرن أو يزيد بدا 
مجلس الإخوان محافيًا لهو والطرب يغشاه الوجوم. 
وتنجه أحاديثه جميعًا إلى الزعيم المنفيَ. قهرهم 
الحرن» وإن يكن وجد بينهم من تنازعه الزن والرغبة 
في الشراب مثلا. فقد غلب الأولى على الثانية احترامًا 
للشعور العام ومجحاراة للموقف» سيك أنه لل طال بهم 
مطال الحديث حتّى استنفدوا أغراضه لاذوا بما يشبه 
الصمت. وما لبث أن ركهم قلق خفئ وشى بحكة 
الإدمان التي تئن في أعاقهم فبدوا وكائهم ينتظرون 
إشارة المجسور الذي يتقدّم الصفوف. ولكنّ السيد 
محمد عفت قال فجأة: 

- أن لنا أن نعود إلى بيوتنا. , 

لم يكن يعني مأ يقول» ولكن كأعًا أراد أن ينذرهم 
بأنهم إذا تركوا الوقت يمضي كما مغبى فلن يبقى أمامهم 
إلا أن يعودوا إلى بيوتهم: وكانت المعاشرة الطويلة 
لقنتهم دقيق التفاهم بالوشارة فتشججع عل عبد الرحيم 
5 ثع الدقيق ذا الإنذار الخفئٌّ وقال: 

- أنعود إلى البيت دون كأس تف من بلوى هذا 
اليوم | 

فأحدث قوله في النفوس ما يحدثه الجرّاح في أهل 
المريض إذأ خرج عليهم من حجرة الخراحة وهو يقول 
والحمد لله , . . نجحث العمليّة. إلا أن الذي تنازعه 
الحزن والرغبة في الشراب قال فيم! يشبه الاحتجاج 


متسئرًا على ما أثلج صدره 


من ارتياح : 

- نشرب في مثل هذا اليوم؟ ! 

فحدجه السيّد أحمد بنظرة ذات معبى. ثم قال 

- دعهم يشربوا وحدهم وهلم بنا إلى الخارج يا 
تن ..: الكلب». 

نت عنهم ضحكات لأوؤل مرة ثم جاءوا بالقوارير 
وكأنما أراد السيّد أن يعتذر عن السلوك فقال: 

إِنّْ اللهو لا يغبّر ما بقلوس الرجال! 

نأمّنوا على قوله. كانت أوَّل ليلة يتردّدون طويلا 
قبل الاستجابة إلى نداء الصبّوات» وما لبث السيّد أن 
قال متأثُوًا بمنظر القوارير: 

- إِتما ثار سعد لإسعاد المصريّين لا لتعذيبهم فلا 
تخجلوا عند الحزن عليه من معاقرة الشراب. 

لم يكن الحرن يمنعه من المراحء بَيْد أن الليلة لم تهنأ 
بصفاء خال. من الكدر. حتّى وصفها السيّد فيا بعد 
بأنها «ليلة مريضة تداووا فيها بجرعات من الخمر!» 

+ جو #6 

استقبلت الأسرة مجلسها التفليدي في جو من 
الوجوم لم تعهده من قبل. انطلق فهمي في حديث 
توري والدموع في عينيه» واستمع ياسين آسفا حزيئاء 
وودّت الأمّ أن تبدّد الكآبة أو تخقّف البلوى ولكتها 
أشفقت من انقلاب غرضها عليهاء ثم ما لبت عدوى 
الحزن أن انتقلت إليها فرق قلبها للشيخ العجوز الذي 
انتزعوه من بيته وزوجته إلى منفى بعيدء قال ياسين : 

- أمر محزن». رجالنا جميعغاء عبّاس ومحمد فريد 
وسعد زغلول. . . مشرّدون بعيدًا عن الوطن. . 

فقال فهمي بانفعال شديد: 

- يا لهم من أوغاد هؤلاء الإنجليز! . . . نخاطبهم 
باللغة التي كانوا يستعطفون بها الناس في محنتهم 
فيجيبون بالإنذارات العسكرية والنفي والتشريد. . 

لم نطق الأمّ أن ترى ابنها منفعلا على تلك الخال 
فنسيت مأساة الزعيم وقالت برقة واستعطاف: 

- ارحم نفسك يا بنيّ» ربنا يلطف بئا. . 

ولكن هذه اللهجة الرقيقة زادته هياجًا فصاح دون 


أن يلتفت إليها : 

إذا لم تقابل الإرهاب بالغضب الذي يستحقّه فلا 
عاش الوطن بعد اليومء لا يجوز أن تنعم البلاد 
بالسلام وزعيمها الذي قدّم نفسه فدية لا يعانى عذاب 
الأسر. . . ! 

فقال ياسين متفكرًا : 

من حسن الحظ أنْ الباسل باشا بين المنفيّينء إِنَّه 
شيخ قبيلة مرهوبة الحانب ولا أظنّ رجاله يسكتون على 

فقال فهمي بحذة : 

والآخرون؟ أليس وراءهم رجال أيضًا؟ . . . إنّْبا 

خرن تليق راد توقفت وما يداف إلا جحدة وعتفا 
ولَكنّ المرأتين لاذتا بالصمت إشفاقًا ورعبّاء لم تستطع 
زينب أن تدرك بواعث هذه الثورة العاطفيّة فلم تفهم 
لما معئى. نفي سعد ورجاله معه. ومن المؤكد أثْهم لو 
عاشوا كبا يعيش «عباد الله» ما فكر أحد في نفيهم. 
ولكتّبم لم يريدوا ذلك. أرادوا أمورًا خطيرة مرادها 
وحيم العواقب دون ثمة ضرورة تدعو إليهاء ومههما 
يكن من أمرهم فاذا يبعث فهمي على هذا الغضب 
الجسون كأنْ سعدًا أبوه أو أخوه؟! بل ماذا بعث 
باسين - وهو الرجل الذي لا يأوي إلى فراشه إلا 
مترنحًا من السكر ‏ على هذا الأسف؟! أيمزن حقًا من 
كان مثله على نفى سعد أو غيره من الناس؟! كأن 
حياتها في حاجة إلى مزيد من التنغيص حي يعكر 
فهمي عليها صفو الجلسة القصيرة ببذه الثورة التي لا 
معنى لما. جعلت تفكر في هذا كله وهي تلحظ زوجها 
من آن لآخر متعبجّبة ساخطة ولسان حالها يقول له: 
«إن كنت صادقًا حمًا في حزنك فلا تذهب هذا 
المساء ‏ هذا المساء فقط إلى الحانة؟ ولْكتّها لم تنبس 
بكلمة؛ كانت أحكم من أن تلقي بأفكارها الباردة في 
هذا التيّار الناريّء في هذه الناحية الأخيرة شابهتها الأم 
الى سريعًا ما تفقد شجاعتها حيال الغضب وإن هان. 
لذلك لاذت بالصمت وانطوت على ضيق شديد وهى 


م 


تتابع مشفقة الحديث الثائر الهائج» ولكتها كانت أعظم 


بين القصرين “لايم 


من زوج ياسين إدراكًا لبواعث هذه العواصف فإِن 
رأسها لم يَخْلُ من ذكرى عرابي كبا أن قلبها لم يحل من 
أسف على أفنديناء أجل لم تكن كلمة «النفي» عاطلة 
من المعاني في نفسهاء بل لعلها خلت من الأمل الجدير 
بأن يداعب شخصا كفهمي فقد اقترنت في ذههها ‏ كما 
اقترنت في ذهن زوجها وأصحابه ‏ بالياس من العودة, 
وإلا فأين أفندينا؟... ومن أجدر منه بالعودة إلى 
وطنه؟. . . ولكن أيظلٌ فهمي على حزنه ما امتدٌ النفي 
سعد. ثرى أي نحس في هذه الأيّام يابى إلا أن 
يبيّتهم بنبأ ويصبّحهم بنبأ حتّى زلزل أمنهم وكذر 
صفوهم؟! كم تتمئى أن بعود السلام إلى ربوعه» وأن 
تطيب هذه الجلسة كها طابت العمر كلّهء وأن تنبسط 
أسارير فهمي ويلذٌ الحديث. كم تتمئى. . . 

مالطة . . . ! هذه هي مالطة! 

هكذا صاح كال فجأة وهو يرفع رأسه عن خريطة 
البحر الأبيض وقد ثبت أصبعه على رسم الجزيرة ونظر 
إلى أخيه بظفر وسرور كأنما عثر على سعد زغلول 
نفسهء ولكنّه وجد منه وجهًا متجهّمًا كالحّاء لا 
استجاب إلى ندائه ولا أعاره أدنى اهتيام فباخ الغلام 
وأعاد بصره إلى رسم الجزيرة في ارتباك وحياء. ومضى 
يتامله طويلا وهو يقيس ببصره المسافة بينه وبين 
الإسكندرية وبيئه وبين القاهرة ويتخيّل صورة مالطة 
الحقيقيّة ما شاء له الخيال؛ ومنظر أولئتك الرجال الذين 
يتحدّثون عنهم وهم مسوقون إليها. ولمًا كان قد سمع 
فهمي وهو يقول عن سعد إن الإنجليز قد لكر على 
أسنّة الرماح فإنّه لم يسعه أن يتصوّره إلا محمولا على 
أسئّة الرماح, لا متأل) أو صارخنا ى) يتوقم في مثل تلك 
الخال ولكن «ثابثًا كالطود» كا وصفه أخحوه أيضًا في 
مرحلة أخرى من الحديث. وكم ود لو يستطيع أن 
يسائل أخاه عن كُنْه ذلك الرجل الساحر العحيب 
الذي يثبت على أسئّة الرماح كالطود» ولكنه حيال ثورة 
الغضب التي التهمت سلام المجلس كله أجل تحقيق 
رغبته إلى فرصة أنسب. وأخيرًا ضاق فهمي بمجلسه 
بعد أن أيقن أنَّ ما بصدره من عاطفة أكير من أن 
تروّح عنها محادثة أخيه في هذا المكان الذي يقف من 


٠4‏ بين القصرين 


شعوره موقف المتفرّج إن لم يكن موقف الإنكار. 
نازعته نفسه إلى الاجتاع بإخوانه في قهوة أحمد عبده 
حيث يظفر بقلوب تستجيب لقلبه ونفوس تسابقه إلى 
الإعراب عمًا يضطرم في قرارتها من الإحساس 
برعي نالك عسوم ادا الحفي الح و كاي 
ويستانس بإبحاءاته الجسورة الملتهبة في جو باهر من 
التعطش إلى الحرّيّة الكاملة. مال إلى أذن ياسين 
ومس ' 

ل ا 

فتنفس ياسين من الأعراق لأنّه كان بدأ يتساءل وهو 
من الحرّج في غايته ‏ عن وسيلة ليقّة ينسحب بها من 
السافم» تعفن إل مور لكوك أن ور ةعم خضب 
نادبالا يكن ا يدسين إمك تعلتياء أو لم 
يكن تصِنّعًا كله هر النبا الخطير قلبهء ولكنّه لو ثرك 
إلى نفسه لتناساه بغير جهد كبير» ولمًا فرض على 
أعصابه ما فرض من تكلّف مجاراة لفهمي ومجاملة له 
واحترامًا لغضبه الذي لم يسبق له أن رآه على مثله من 
1 غادر الحجرة وهو يقول لنفسه: «حسبىي اليوم ما 
بذلت من جهد في سبيل الحركة الوطنيّة فإِنْ لبدني عل 
حقا) , 


5 

على ضربات العجن المتصاعدة من حجرة الفرن 

فتح فهمي عينيه. كانت الحجرة مغلقة النوافذ. بي 
شبه ظلام إلا ما لاح من نور باهت وراء ختصاص 
النوافذ» ترامى إلى أذنيه همس أنفاس كال المتردّدة 
فعطف رأسه إلى فراشه القريب» ثم انثالت عليه 
ذكريات الحياة» هذا صباح جديدء إِنَّه يستيقظ من 
نوم عميق سلّمه إلى تعب شمل النفس واللمتسمء وله 
لا يدري إن كان يستيقظ صباح الغد مِبْذا الفراش أم 
لا يستيقظ أبدّاء لا يدري ولا أحد يدري؛ فالموت 
يجوب شوارع القاهرة طولا وعرضًا ويرقص في 
أركانهاء يا للعجب, ها هي أمّه تعجن كعهدها منل 
قديم» وها هو كال يغط في نومه ويتقلب في أحلامه. 
وذاك ياسين يدل وقم قدميه فوق سقف الحجرة على 


أنه انتزع نفسه من الفراشء» أمّا أبوه فلعلّه الآن 
منتصب القامة تحت ماء الدش البارد» وها هو نور 
الصباح ذو البهاء والحياء تستأذن طلائعه في رقة بالغة 
كلّ شيء يواصل حياته المعهودة كأنْ شيئًا لم يحدث. 
كأنّ مصر لم تنقلب رأسًا على عقب, كأنّ الرصاص لا 
يعرف باحثًا عن الصدور والرءوس... كأنْ الدم 
الزكي لا يخضب الأرض والجدران. وأغمض الشابٌ 
عينيه وهو يتدد مبتسما إلى تيار مشاعره الزاخر بما يحمل 
في موجاته المتلاحقة من حماس وأمل وحزن وإيمان. 
حمًا لقد حبي في الآيّام الآربعة المنطوية حياة عريضة لم 
يكن له بها عهد من قبل أو أنّه لم يعرفها إلا أطيافًا في 
أحلام اليقظة. حياة طاهرة رفيعة» حياة تجود بنفسها 
عن طيب خاطر في سبيل شيء باهر أثمن منها وأجل. 
تتعرض للموت بلا مبالاة» وتستقبله بعناد. وجمبجم 
عليه باستهانة» وإذا أفلتت مخالبه مرّة عادت إليه كرة 
أخرى متنكبة عن ذكر العواقب جاتبّاء شاخصة طوال 
الوقت إلى نور رائع عنه لا تحيدء مدفوعة بقوة لا قبل 
لها بهاء مسلّمة مصيرها لله وهي تشعر به محيا بها 
كاهواء يغمرها من كل جانب. هانت الحياة كوسيلة 
حتّى لم تعد تزن ذرّة» وجلّت كفغاية حبّى وسعت 
السهاوات والأرض» تآخى الموت والحياة فكانا يدا 
واحدة في خدمة أمل واحدء. هذه تؤيّده بالجنهاد وذاك 
يؤيّده بالفداء» لو أن الانفجار الرهيب لم يقم لمات غم 
وكمدّاء فيا كان يحتمل أن تواصل الحياة سيرها الهادئ 
الوئيد على أطلال الرجال والآمال. كان لا بد من 
اتفجار ينس عن صدر الوطن وصدره كالزلزال الذي 
ينس عن أبخرة باطن الأرض المتجمّعة» فليا وقعت 
الواقعة وجدته على ميعاد فألقى بنفسه في خضمها. . . 
متى حدث هذا؟... وكيفف حدث؟. . . كان راكيًا 
ترام الخيزة في طريقه إلى مدرسة الحقوق فوجد نفسه 
بين شرذمة من الطلاب يتناقشون ملوحين بقبضاتهم : 
نفي سعد وهو يعبر عن قلوبنا فِمًا أن يعود سعد 
ليواصل جهاده وإمًا أن ننفى معهء وانضمٌ الراكبون 
من الأهالي إليهم في الحديث والوعيد حيّى الكمساري 
أهمل عمله ووقف ينصت ويتكلم. يالهامن 


ساعة! . . . فيها أشرق بنفسه الأمل من -جديد بعد 
ليلة من الحزن واليأس قاتمة. فأيقن أنْ هذه النار 
المتقدة لن تبرد. ولمً) أقبلوا على فناء المدرسة وجدوه 
مكتظًا صاخبًا مرعدًا فسبقتهم قلوهم إليهء تمّ هرعوا 
إلى زملائهم تحدثهم نفوسهم بحدث وشيكء, وما لبث 
أن انبرى أحدهم مناديا بالإضراب!... شيء جديد لم 
يسمع من قبل. بيد أنْهم هتفوا بالإضراب وهم 
يتأنطون كتب القانون. وجاءهم ناظرهم المستر والتون 
في لطف غير معهود ونصحهم بالدخول إلى الفصول 
فكان الجواب أن صعد شابٌ منهم إلى أعلى السلّم 
المفضي إلى حجرة السكرتير وراح يحطب بحاسة فائقة 
فلم يسع الناظر إلا الانسحاب. وأنصت إلى الخطيب 
بمجامع روحه وعيناه شاخصتان إلى عينيه. وقلبه يتابع 
دقاته في سرعة ونشاطى ثم ود لو يصعد إلى موقفه 
فيفيض من معين قلبه المستعرء ولكنّه لم يكن ذا 
استعداد قويّ للخطابة فقنم بأن يردّد غيره هوائف 
نفسهء وتابع الخطيب بالتباه حماسي حيّى وقف عند 
مقطع من خطابه فصاح مع زملائه جميعًا في نفس 
واحد «يحيا الاستقلال» ثم تابع الإنصات باهتام بت 
المناف فيه حيويّة جديدة حبّى انتهى الخطيب إلى 
مقطع ثان فهتف مع اللاتفين «لتسقط الحماية» ووالى 
الإصغاء بجسم متصلب من الانفعال وهو يعضٌ على 
أسنانه ليحبس الدمع الذي زفره جيّشان نفسه حتى إذا 
بلغ الخطيب المقطع الثالث هتف مع الماتفين «يحيا 
سعد». هتاف جديد. وكل شىء جديدًا بدا ذلك 
اليوم» بيد أنه هتاف مطرب 5-7 قلبه من الأعياق 
وظل يردده مع دقائه المتتايعة . كأنه صدّى للسانه.» بل 
هتاف لسانه كان صدّى لقلبه» فإنّه ليذكر كيف ردّد 
قلبه هذا المتاف في صمت مكظوم طوال الليلة السابقة 
للانفجار التي باتها مغمومًا محسوراء كانت عواطفه 
المكبوتة» حيّه وحماسه وطموحه وتطلّعه إلى المثل الأعلى 
وأحلامه تائهة مبعثرة حيّى انطلق صوت سعد مدويًا 
فانجذبت طائرة إليه كما ينجذب الحام السابح في 
الفضاء إلى صفير صاحبه. ثم لا يدرون إلا والمستر 
إيموس نائب المستشار القضائي البريطانّ لوزارة 


بين القصرين ه١٠ه‏ 
الحقانيّة يشِقّ طريقه بين جموعهم فقابلوه ببتاف واحد 
«دلتسقط الحاية, . . لتسقط الحماية: فتلقاهم الرجل 
بيرود لم يخرق به حدٌ اللطف ونصحهم بالعودة إلى 
دروسهم داعيًا إيَاهم إلى ترك السياسة إلى آبائهم. 
هناك تصدّى له أحدهم قائلا : 
إن آباءنا قد سسجنواء ولن ندرس القانون في بلد 
يداس فيه القانون. 
وتعالى الهتاف من أعماق القلوب كهزيم الرعد 
فانسحب الرجل. ود الشابٌ مرّة ثانية لو كان هو 
القائلء لَشِدٌ ما تنثال المعاني على روحه ولكن يسبقه 
السابقون إلى إعلانها فيشتدٌ حماسة ويتعزّى بن فيما 
ينتظره عوضًا عنًا يفوتهء وجرت الأمور سراعًاء دعا 
الداعي إلى الخروج فخرجوا متظاهرين وتوجهوا إلى 
مدرسة المهندسخانة فسرعان ما انضمت إليهم ثم إلى 
الزراعة فهرع طلبتها إليهم هاتفين كأئهم على ميعادى 
لم إلى الطبٌ فالتجارة وما بلغوا ميدان السيّدة زينب 
حت انتظمتهم مظاهرة كبيرة الضمت إليها جمرمع 
الأهالى وتعالى الهتاف لمصر والاستقلال وسعدء وكلما 
تَقدّموا خخطوة ازدادوا حماسة وثقة وإيانا بما يلقون في 
كلّ مكان من مشاركة تلقائيّة واستجابة بدبهيّة» وما 
يصادفون من نفوس متحمّزة تصدّعت بالغضب حي 
وجدت في مظاهرتهم التنفس . نساءل - ودهشته 
لحدوث المظاهرة تكاد تغلب انفعاله بالتظاهر نفسه ‏ 
«كيف حدث هذا كلّه!؟». لم تكن مضت إلا بضع 
ساعات على الصباح الذي شهد قنوطه واههزامه؛ ها 
هو الآن» قبيل الظهرء يشترك في مظاهرة ثائرة يكاشفه 
فيها كلّ قلب بأنّه صدَّى لقلبه. ويردّد هتافه؛ ويناشده 
بإيمان لا يتزعزع أن يسير إلى النباية. فأيّ سرور 
سروره» وأيّ حماس حماسه!. . . لقد الطلقت روحه 
في سياء من الأمل لا تحدّها الآفاق؛ نادمة على ما 
اعتورها من قنوط. نخحجلة بما رمت به الأبريله من 
ظنونء وفي ميدان السيّدة زينب بدا له منظر جديد من 
مناظر ذاك اليوم العجيب. رأى مع الرائين حماعات 
من فرسان البوليس وعلى رأسها مفتش إنجليري تتقدّم 
ساحبة وراءها ذيولا من الغبار» والأرض تضطرب 


بين القصرين 
تحت وقع السنابك» إِنّْه ليذكر كيف مذدّ بصره نحوهم 
في ذهول مَنْ لم يسبق له أن وجد نفسه عرضة لمثل 
ذلك الخطر الداهم. وتلقت فيها حوله فرأى وجومًا 
يلمع في محاجرها الحماس والغضب فتنبّد في عصبية 
ولوّح بيده هاتقًاء أحاط الفرسان دجموعهم ولم يعد 
يرى من الخضمٌ المائل الذي يضطرب فيه إلا رقعة 
محدودة يغرق في رءوسها المشرئبة» ثم ترامى إليهم أن 
البوليس اعتقل طلابًا كثيرين ممّن تصدّوا لمخالفته أو 
كانوا على رأس المظاهرة فللمرّة الثالثة ذلك اليوم تمتى. 
وكان تمئْيه أن يكون بين المعتقلين ولكن من دون أن 
يخرج من الدائرة التي يتحرّك فيها بجهد جهيد. 

على أن ذاك اليوم كان يوم سلام بالقياس إلى اليوم 
الذي تلاه. بدا يوم الاثنين منذ مطلع الصساح يوم 
إضراب شامل اشتركت فيه جميع المدارس بأعلامها 
وحشود من الأهالي لا يحيط بها الحصرء بعلت مصر 
بلدا جديدًا يبكر إلى الاحتشاد في الميادين للحرب 
بغضب طال كتانه» وألقى هو بنفسه بين الجموع في 
نشوة فرح وحماس كأنّه تائه ضال عثر على أهله بعد 
فراق طويل» وسارت المظاهرة مسيرًا مشهودًا مارّة 
بدور المعتمدين السياسيين معلنة احتجاجها بمختلف 
اللغات. حيّى بلغت شارع الدواوين وهناك سرت بين 
الجموع موجة اضطراب عنيفة وصاح صائحهم : 
«الإنجليز!» وما لبث أن فرقع الرصاص مغطيًا على 
أصوات اطاتفين فسقط أوْل القتل» وواصل قوم 
تقدّمهم في حماس جنون؛ وتسمّر آخرون» وتفرّق 
كثيرون يأُوذون بالبيوت والمقاهي. وكان هو ضمن 
الآأخجرين» اندسٌ وراء باب وقلبه يبعث ضربات فرعة 
متناسيًا كلّ شيء إلا حياته: ولبث على ذلك زمئًا لا 
يدريه حيّى شمل السكون الدنيا جميعها فمد رأسهى م 
قذمه. ومضى إلى حال سبيله غير مصدذّق بالنجاة وعاد 
إلى بيته فيا يشبه الذهول. وفي وحدته الحزيلة تمئى لو 
كان من الذاهبين أو في الأقل من الثابتين» وفي وقدة 
الحساب العسير وعد ضميره الفظ بالتكفير؛ ومن 
حسن الحظ أن بدا ميدان التكفير متّسعًا وقريبًا. 

وجاء الثلاثاء والأربعاء فكانا كالأحد والاثنين» أيام 


متشامات في أفراحها وأحزاهاء مظاهرات فهتاف 
فرصاص فضحاياء ألقى بنفسه فى خضمها جميعا 
يندفع بحماسء ويسمو إلى أفاق بعيدة من الإحساس 
النبيل» ويضطرب بالحياة ويعضه ندم على النجاة! ثم 
ضاعف من حماسه وأمله انتشار روح الغضب والثورة 
فيا لبث أن أضرب عمال الترام وسائقو السيارات 
والكئاسون فبدت العاصمة حزينة غاضبة موحشة. 
وترامت الأخبار حاملة البشرى بقرب إضراب المحامين 
والموظفين. إن قلب البلاد يخفق حيًا ثائرًا ولن تذهب 
الدماء هدرًا ولن يسى المنفيُون في منفاهم» لقد زلزرلت 
اليقظة الواعية أرض وادي النيل . 

تقلب الفتى في فراشه فاستردٌ وعيه من لحّة 
الذكريات وجعل يتابع دنائكه لد دةة غوف بهدلا 
ناظريه في أركان الحجرة التى أخحذت تستبين على النور 
المشرق رويدًا وراء النوافل المغلقة. أمّه تعجن! ولن 
تزال تعجن صباحًا بعد صباح. هيهات أن يشغلها 
حدث عن التفكير في إعداد الموائد وغسل الثياب 
وتنظيف الأثاث. إِنّ كبار الحادئات لا يعظل صغار 
الأعمال» وسيتسع صدر المجتمع دائمًا للجليل والتافه 
من الأمور فيرحب بها جنبًا إلى جنب». ولكن مهلاء 
ليست الأمٌ على هامش الحياة هي التي أنجبته والأبناء 
وقود الثورة» وهي التي تغذّيه والغذاء وقود الأبناء. 
الحنّ أن ليس ثمّة شىء تافه في الحياة. . . ولكن ألا 
يجيء يوم عبر فيه الحادث الكبير المصريّين حميعًا فلا 
تتفرّق عنده القلوب كما تفرّقت في مجلس القهوة مئذ 
خمسة أيَام؟ ألا ما أبعد هذا اليوم! ثم جرت على 
شفتيه ابتسامة إذ وثب إلى ذهنه هذا السؤال: وما عبى 
أن يصنع والده إذا علم «بجهاده؛ المتواصل يوما بعد 
يوم؟ ماذا يصنع أبوه الجبّار المستبدٌ وماذا تصنع أمه 
الرقيقة الحنون؟) ابتسم قْ حيرة وهو يعلم أن المتاعب 
الى قد تعترضه في تلك الخال ليست دون المتاعب التي 
قد تعترصه إذا نمى سيره إلى السلطة العسكرية نفسهاء 
ثم أزاح الغطاء عن صدره وجلس في الفراش وهو 
يعمغم : وسيّان أن أحيا أو أن أموت. الإيمان أقوى 
من الموث». والموت أشرف من الذلّء فهنيئًا لنا الأمل 


الذي هانت إلى جانبه الحياة, أهلاً بصباح جديد من 
الحرّيّة, وليَقْض الله مما هو قاض ». 


68 

' يعد أحد يستطيع الادّعاء بأنْ الثورة لم تغيّر ولو 

وجهًا من وجوه حياته» حتّى كيال نفسه عرض حريته 
التي تمنّم بها طويلاً في ذهابه إلى المدرسة وإيابه مها 
طارئ ثقيل ضاق به كل الضيق وإن لم يستطع له 
دفعٌاء ذلك أنْ الأمّ أمرت أمّ حنفي بأن تتبعه في ذهابه 
إلى المدرسة وعند إيابه منباء وألا تتخلى عنه بحال كي 
تعود به إلى البيت إذا صادفتها مظاهرة دون أن تدع له 
فرصة للتلككق أو مطاوعة نزوات الطيشء» دار رأس 
الأمّ بأنباء المظاهرات والاضطرابات وارتجٌ قلبها 
لحوادث الاعتداء الوحشيٌ على الطلبة فعانت من ذاك 
الزمن أُيّامًا كالحات ملأتبا هلعًا وجزعًا فودّت لو 
تستبقي ابنيها إلى جانبها حبّى تشوب الأمور إلى 
مستقرّهاء ولكنّها لم تجد إلى تحقيق مرادها من سبيل 
خصوصا بعد أن وعد فهمي ‏ وهو من ثقتها في «عقله» 
لا تتزعزع - أنّه لا يشترك في الإضراب بتاناء وبعد أن 
رفض الأب فكرة استبقاء كيال في البيت لعلمه بأن 
المدرسة تحول بين صغار التلاميذ وبين الاشتراك في 
الاضراب. سلّمت الأمّ بذهاب الأخوين إلى المدرسة 
على كره منها ولكنّبا فرضت على كال رقابة أم حنفي 
وهيى تقول له: «لو كان بوسعي أن أخرج كما أشاء 
لتبعتك بنفسى» وقد عارضها كال بما وسعه من قوة 
لأنه أدرك بالبداعة أنْ هذه الرقابة التي لن تخني 0 
أمّه خافية من شئونه ستقضى قضاء عبرمًا على كل ما 
يتمتّم به في الطريق من ألوان العبث والشطارة» وإنها 
ستلحق هذه الفترة القصيرة السعيدة من يومه 
بالسجنين اللذين يتردد بينه|: البيت والمدرسة. إلى 
هذا امتعضت نفسهء أشك الامتعاض من السير في 
الطريق مصطحبًا هله المرأة التي ستلفت الأنظار حتم) 
ببدانتها المفرطة ومشيتها المتهالكة, ولكنّه لم يسعه إلا 
أن يذعن لرقابتها سيّما بعد أن أمره أبوه بقبوهاء 
قصارى ما استطاعه تنفيسًا عن صدره أنه كان ينتهرها 


بين القصرين ١ه‏ 

كلّيا تدانت منهء وأنّه حثّم عليها أن تتأخر عنه مسيرة 
أمتار. على تلك الحال مضيا إلى مدرسة خليل آغا 
صباح الاميس وهو خامس أيّام المظاهرات في 
القاهرة. ولمًا بلغا باب المدرسة اقتربت أمّ حنفي من 
البوّاب وسالته تنفيذًا للأمر اليوميع الذي تلقّته في 
اليك" ْ 

هل يوجد تلاميذ في المدرسة؟ 

فأجاءبها الرجل بغير اكثراث : 

- هنهم من يدخل » ومنهم من يذهب» والناظر لا 
يتعرض لأحد! 

كانت هذه الاجابة مفاجأة سيّئة لكالء كان مهيئًا 
النفس لساع الإجابة التي باتت مألوفة منذ يوم الاثنين 
وهي «التلاميذ مضربون؛ فيعودان إلى البيثت حيث 
يمضى سحابة النبار في حريّة حببت إلى قلبه الثورة من 
557 ونازعئه نفسه إلى اهرب تفاديا من عواقب 
الاجابة الجديدة فخاطب البوّاب قائلا : 

أنا من يذهبون. 

وابتعد عن المدرسة ولمرأة في أثرهء بيد أنْها سألته : 
لاذا لا يدل مع الداخخلين؟ فرجاها متردّدًا لأوّل مرّة 
في حياته ‏ أن تقول لأمّه أن التلاميذ مضربون» وزيادة 
في الرجاء والتودّد دعا لما وهما يرّان بجامع الحسين ‏ 
بطول العمر والسعادة, إِلّا أنَّ أمّ حنفي لم تستطع إلا 
أن تصارح الأمْ بالحقيقة ىا سمعتها فأنبمه الأمٌ عل 
كسله وأمرت المرأة بأن تعود به إلى المدرسة فغادرا 
البيت وهو يسلقها بلسان حادٌ راميا إيّاها بالخيائة 
والغدر, لم يجد في المدرسة إلا بداته. . . ذوي الآسئان 
الصغيرة» أما مّن عداهم. وهم الأغلبية الساحقة. 
فكانوا مضربين. وألفى في فصله. الذي كان يتوافر له 
من صغار التلاميذ ما لم يتوافر لغسيره من الفصول ‏ 
نحوًا من ثلث التلاميذ, بيد أنْ المدرّس أمرهم أن 
يراجعوا دروسهم السابقة والكب هو على تصحيح 
بعض الكرّاسات فتركهم في شبه إضراب في الواقع . 
فتح كال كتابًا متظاهرًا بالقراءة دون أن يعيره أدنى 
التباه فقد ساءه البقاء في المدرسة بلا عمل فلا هو مع 
المضربين ولا هو في البيت يتمتع بالفراغ الذي جادت, 


4 بين القصرين 

به هذه الأيّام العجيبة بلا حسبان. ضاق بالمدرسة كا 
م يضق من قبل» وهفا خياله إلى أولئتك المضربين في 
الخارج بدهشة واستطلاع» كثيرًا ما تساءل عن حقيقة 
أمرهم. أهم كا تدّعي أمّه «متهوّرون: لا يرحمون 
أنفسهم ولا أهليهم ملقين بأرواحهم إلى التهلكة. أم 
هم ىا يصفهم فهمي أبطال فدائيّون يجاهدون عدو 
الله وعدوهم؟! وكثيرًا ما مال إلى رأي أمّه لحنقه على 
التلاميل الكبار فئة المضربين ‏ الذين خخلفوا في نفسه 
ونفوس أضرابه من التلاميذ الصغار أسوأ الآثار با 
ينالهم على أيديهم من غلظة واستكبار وهم يتحذونهم 
في فناء المدرسة بضخامة أجسامهم وقحة شوارمهم. 
بيد أنّه لن يستسلم إلى هذا الرأي كل الاستسلام طاما 
كان لقول فهمي من الإقناع في نفسه ما لا قبل له 
بالاستهانة به لن يسعه أن يسلبهم ما يضفيه عليهم 
من ضروب البطولة حي ودّ لو يطلع من مكان آمن 
على معاركهم الذامية» قامت قيامة الدئيا ما في ذلك 
من شلكٌء أو فلماذا يضرب المصريّون وينطلقون 
جماعات إلى الاشتباك بالجنود؟! وأيّ جنود؟! 
الانجليز؟ الإنجليز الذين كان يكفي ذكر اسمهم 
لإاخلاء الطرقات!... ماذا حَدّث للدنيا 
وللناس؟!. .. ذاك صراع عجيب تفى عنفه بأن 
تُنقّش عناصره الجوهريّة في نفس الغلام بلا وعي أو 
قصد فتغدو أسماء سعد زغلول. الإنجليز» الطلبةع 
الشهداء. المنشورات» المظاهرات. من القوى الْؤثْرة 
الموحية في أعماقه وإن وقف من معائيها موقف المستطلع 
الجائر. وضاعف من حيرته أن آله استجابوا للحوادث 
استجابة متبايئة وأحيانًا متناقضة» فبينا يجد فهمي ثائرا 
يحمل على الإنجليز بحنق قائل ويحن إلى سعد حنينًا 
يفجر الدمع. إذا بياسين يناقش الأخبار في اهتام 
رصين مشوب بأسف هادئ لا يمنعه من مواصلة حياته 
المعتادة بين السمر والضحك وتلاوة الأشعار 
والقصص. ثم السهر حي منتصف الليل» ما أمّه فلا 
تكف عن دعاء الله أن ينشر السلام ويعيد الأمان 
ويصفي قلوب المصريّين والإنجليز جميعٌاء والأدهى من 
كل أواكلف قتي زوفة جه التي أفزعتها الأحداث 


فلم تجد مَن تصبٌ عليه غضبها إِلّا سعد زغلول نفسه 
متّهمة إيّاه بأنّه سبب هذا الشيٌ كله وأنّه «لو عاش كا 
يعيش عباد الله في دعة وسلام ما تعرّض له أحل بسوء 
ولا اشتعلت تلك النيران». لذلك كان حماس الغلام 
يستعر لفكرة الصراع نفسهء وحزنه يفيض بفكرة 
الموت في ذاته دون أن يكون لنفسه معنى واضحًا لا 
يدور حوله من بعيد أو قريبء. وكم أسف يوم دعا 
تلامينٌ خليل آغا إلى الإضراب ‏ لأوّل مرّة - فسنحت 
له فرصة ليشهد مظاهرة عن كثب أو يشترك فيها ولو 
في فناء المدرسة. ولكنٌ الناظر بادر إلى حجز صغار 
التلاميذث في فصوهم فأفلتت الفرصة ووجد نفسه وراء 
الجدران ينصت إلى الحتافات العالية في دهشة ممزوجة 
بسرور خفيّ» لعل مبعثه الفوضى التي نشبت في كل 
شيء فعصفت بالروتين اليوميّ الثقيل بلا رحمة. أفلتت 
ذلك اليوم فرصة الاشتراك في مظاهرة كما ضاعت اليوم 
فرصة الاستمتاع بالفراغ في البيت» وسيبقى مغلولا لي 
هذه الحلسة المملة ينظر في الكتاب بعينين لا تريان 
شيئاء ويسترق لمسات مع رفيقه على القَمَطر في حذر 
وحوف حيّى يدرك نباية الههار الطويل» ولكن ثمّة 
شىء استرعى التباهه فجأة. قد يكون صوثًا غريبًا 
بعيدًا أو وشا في الأذن» ولكي يستوثق من حاسّته نظر 
فيا حوله فرأى رءوس التلاميذ مرفوعة وأعينهم تتبادل 
النظرات ثم نتجه ممما صوب النوافد المطلة على 
الطريق» إِنه حقيقة وليس وهنا ما استرعى انتباههم: 
إنها أصوات مندجة في صوت ضلكم غير متمايز تسمع 
لبعدها كهدير الأمواج من بعيد» الآن وقد اخذت 
تشتدٌ يمكن أن تسمى ضوضاءء بل ضوضاء تقترب» 
وسرث في الفصل حركة وتعالى الحمس ثم ارتفع 
صوت قائلا: «مظاهرة!» فخفق قلب الغلام وعلت 
عيناه لمعة تجمع بين السرور والاضطراب» وجعلت 
الضوضاء تقئرب وتقترب حتى وفعخيف :مانا برعد 
ويزمجر في جميع الجتهات المحيطة بالمدرسة؛» وعادت 
تقرع أذنيه الأسماء التي ملأت ذهنه طوال الأيام 
الاستقلال. .. الحاية» وتذانى 
المتاف وعلا حيّ أطبق على فناء المدرسة نفسها فوجمت 


قلوب التلاميذ وأيقنوا أنْ الطوفان لا بذ مغرقهم, 
ولكتّهم قابلوا ذلك بسرور صبيانّ تنكبٌ عن تقدير 
العواقب في حميّة نزوعه إلى الفوضى والانطلاق» ثم 
ترامى إليهم وقع أقدام مقبلة في سرعة وصخب. ثم 
فتح الباب على مصراعيه تحث وقع صدمة عنيفة 
واندفعت إلى الحجرة جماعات من الطلبة والأزهريين 
كما تندفع المياه من فوهة الخزان وهم يصيحون: 
دإضراب. . . إضراب. . . لا ينبغي أن يبقى أحد»ء 
وفي لحظات وجد نفسه غائصًا في موج مصطخب 
يدفعه أمامه دفعًا يعظل كل مقاومة وهو من 
الاضطراب في غاية» تمرك في بطء شديد تحرك حبوب 
البنّ في فوهة الطاحونة لا يدري أين تقع عيناهء ولا 
يرى من الدنيا إلا أجسامًا متلاصقة في ضبة تصكُ 
الآذان حيّ استدلٌ بظهور الساء فوق رأسه على بلوغ 
الطريق» واشتدٌ الضغط عليه حتى كادت تكتم أنفاسه 
فصرخ صراخًا حادًا عاليًا متواصلا من شدّة الفزع. 
وما يدري إلا ويد تقبض على ذراعه وتجذبه بقوّة وهي 
تشقٌ بين الئاس طريقًا حتّى ألصقته بجدار على 
الطوارء فراح يلهث ويتلمّس فيا حوله منجى حق 
عثر على دكّان حمدان بائع البسبوسة وقد أنزل بابها 
الحديديّ إلى ما فوق العتبة بقليل» فهرع إليه ودخل 
زحمًا على ركبتيه» ولمًا قام في الداخل رأى عم حمدان 
الذي كان يعرفه حق المعرفة وامرأتين وبعض صغار 
التلاميذ فأسند ظهره إلى جدار القائمة التى تحمل 
الصواني وصدره يعلو وينخفض بلا توان وسمع عم 
حمدان وهو يقول: 

د أزهريّونء طلبة. عيّال؛ أهالي... جميع 
الطرقات المؤدّية إلى الحسين مكتظة بالبشر. . . ما كنت 
أحسب قبل اليوم أنْ الأرض تستطيع أن تحمل كل 
هؤلاء البشر. 

إحدى المرأتين بدهشة: 

- كيف يصرّون على التظاهر بعدما كان من إطلاق 
النار عليهم؟ 

المرأة الأخمرى بحسرة : 

ريّنا ال هادي, كلهم أبناء ناس يا ولداه. 


بين القصرين 5:09 

فقال عم حمد أن : 

لم ْرَ شيئًا كهذا من قبلء ربّنا يحميهم. 

تفجر المتاف في الحناجر يزلزل البو زلزالا» حينًا 
عن قرب كأنه يدوّي في الدكان. وحيئا عن بعد في 
ضوضاء شديدة غير متايز كهزيم الريحء وتواصل بلا 
انقطاع, في حركة بطيئة مستمرّة دل عليها تفاوت 
درجات الشدة والارتفاع بين الأمواج القادمة 
والذاهبة: وكلما ظنْ أنّه انقطع جاء غيره حتّى بدا وكان 
لا نباية لهء تركزت حياة كال في أذنيه وهو يسرهف 
السمع في اضطراب وقلق» بَيّد أنه ليا تتابع الوقت 
دون وقوع مكروه استردٌ أنفاسه ومضى يعاوده الشعور 
بالطمانينة» ثم وسعه أخيرًا أن يفكّر فيا يدور حوله 
كطارئٌ لا يليث أن يزول فتساءل متى جد نفسه في 
البيت ليروي لأمّه ما وقم له؟. «افتحمت عليئا 
الفصول مظاهرة لا أوّْل لا ولا آخخرء وما أدري إلا 
وتيّارها الزاخر يحيط بي ويجرفني إلى الشارع» وهتفت 
مع من هتف: ليحيى سعدء لتسقط اللاية) ليحيى 
الاستقلال. وما زلت أتنقل من طريق إلى طريق حتى 
هجم الإنجليز علينا وأطلقوا الرصاص». ستفزع عند 
ذاك لحدٌ البكاء ولا تكاد تصدّق أنه حيّ يرزق وستتلو 
آيات كثيرة وهي ترتجف. «ومرّت رصاصة جنب رأسي 
ما زال زعيقها يطنْ في أذنّ» وتخبط الناس كالمجانين» 
وكدت أهلك مع الحالكين لولا أن جذبني رجل إلى 
دكان. . .؛. 

انقطع حبل أحلامه على صياح عال, غير منتظم 
ووقع أقدام متدافعة في اضطراب». فخفق قلبه ونظر في 
وجوه مَن حوله فرآهم محملقين في الباب كمن يتوقع 
ضربة على أمّ رأسهء واقترب عم حمدان من الباب 
وانحنى حبّى نظر من الفرجة في أسفله ثم تراجع وأنزله 
حيّ ألصقه بالأرض بسرعة وهو يتمتم في اضطراب : 

الا علي بدا 

وصاح كثيرون في الخارج: «الإنجليز... 
الإنجليز» ونادق اخرنون: :والشاك. 
غيرهم «نموت ويحيا الوطن». . . ثم سمع الغلام لأؤل 
مرّة في حياته الصغيرة طلقات الرصاص عن بعد قريب 


: البات» وهتهف 


بين القصرين 
فعرفها بالبداهة وارتعدت أوصاله. وما إن لذت عن 
المرأتين صرخة حيّى أفحم في البكاء. وجعل عم 
حمدان يقول بصوت متهدّج: «وخدوا الله. .. وحٌدوا 
الله؛ ولكن الغلام شعر بالخوف, باردًا كالموت يزحف 
على 14 من قدميه إلى رأسه. وثئوالت 
الطلقات: وصككث الآذان صلصلة عجلات وصهيل 
خيل» تتابعت الأصوات والحركات في سرعة فائقة 
تلاحقها زججرات وصراخ وأنين» فترة اعتراك خاطفة 
بدت للقابعين وراء الباب دهرًا في حضرة الموت. . 
ثم حل صمت ميف كالإغماء الذي يعقب تبريح 
الألم» تساءل كيال بصوت متهدّج مبحوم : 

ذهيوا؟!. . . 

فوضع عم حمدان سئابته على فيه وهو يغمغم 
«هس»... وتلا آية الكرسىّ» فتلا كيال في سره . إذ 
حانته قدرته على الكلام - 0 هو الله أحد» لعلّها 
تطرد الإنجليز كا تطرد العفاريت في الظلام . على أن 
الباب لم يفتح إلا عند الظهر فانطلق الغلام إلى 
الطريق المقفر ثم أطلق للريح ساقيه: وفيا هو يمر 
بالسلّم الحابط إلى قهوة أحمد عبده لحم شخصًا صاعدًا 
عرف فيه أخاه فهمي فهرع إليه كغريق عثرت يده على 
أداة النجاة وقبض على ذراعه فالتفت الشاتٌ نحوه 
فزعاء ولم) عرفه هتف به: 

- كيال؟! أين كنت أثناء الضرب؟ 

ولاحظ الغلام أن صوت أخيه مبحوح مطموس 
المخارج. يد أنه أجابه بقوله : 

- كنت في دكان عمّ حمدان وسمعت الرصاص وكل 


1 


شىء. . . 

فقال له بعجلته ولموجته : 

- اذهب إلى البيت ولا تقل لأحد إِنْك قابلتني. . . 
سامع؟ 

فسأله الغلام بارتباك : 

ألا تعود معيى؟ ! 

فقال باللهجة نفسها: 

كلا... لدو الا دود ساعود في موعدي 
المعتادي لا ننس أنك لم تقابلئي قط 


ودفعه حت لا يدع له فرصة للمناقشة فاندفع 
الغلام راكضًا حيّى بلغ منعطف خان جعفرء فرأى 
شيحًا واقفًا وسط الطريق يشير إلى الأرض ويخاطب 
نفرًا من الرجال فنظر حيث يشير فرأى بقعًا حمراء 
ملبسة بالتراب» وسمعه يقول بلهجة رثائية : 

هذا الدم الزكيّ يستصرخنا إلى مواصلة الجهاد. 
وقد شاء الله أن يسفك في رحاب سيّد الشهداء لنصل 
في الاستشهاد حاضرنا بماضيئاء والله معنا. . . 

وأحسٌ فزعا يركبه؛ فاستردٌ بصره من الأرض 
الدامية وانطلق يعدو كالمجئون. 


6 

كانت أميئة تتلمّس طريقها إلى باب الحجرة خلال 

ظلمة السّحرء في حذر وتمهّل أن توقظ السيّد. حين 
ترامى إلى أذنيها لغط غريب صاعدًا من الطريق يطنّ 
طنين النحل. لم يكن يطرق أذنيها في هذه الساعة التي 
اعتادت أن تستيقظ فيها إلا صلصلة عجلات غربات 
الديش وسعال العمّال المبكرين وهتاف رجل يحلو له 
عند مرجعه من صلاة الفجر أن يردّد في الصمت 
الشامل صائحًا بين حين وآخر «وحٌدوه» أمّا هذا اللغط 
الغريب فلم تسمعه من قبل» وحارت في تفسيره 
فتطلعت إلى معرفة مصدره فمضت بخطواتها الخفيفة 
إلى نافذة بالصالة مطلة على الطريق ثم رفعت 
خصاصها وأخرجت رأسها فوجدت في الخارج ظلمة 
مختلطة عند الأفق ببشائر ضياء ولكن ليس إلى الحدّ 
الذي تستطيع معه رؤية ما يجري تحتهاء بَيْد أن اللغط 
ازداد ارتفاعاء وازداد في الوقت نفسه غموضًاء حي 
تبِيّنت فيه أصوانًا آدميّة مجهولة السب. دارت عيئاها 
في الظلام الذي أخحذت تألفه شيئًا ما فرأت تحت سبيل 
بين القصرين وما يليه من تقاطع النحاسين مع درب 
قرمز أشياحًا آدمية غير واضحة العالم» وأشياء عل 
هيئة أهرامات صغيرات. وأخرى كأئها الأشجار 
القصار. فارتدّت في حيرة ونزلت قاصدة حجرة فهمى 


وكيال» لم تردّدت» أتوقظه ليرى ما هنالك ويحلٌ لها 


تلك الألغاز أم تؤجّل ذلك إلى حين استيقاظه؟! ثم 


أبت أن تزعجه طاوية رغبتها حيّى موعد استيقاظه عند 
مطلع الشمس الوشيكء ثم صِلَّتء ثم عادت 
مدفوعة بحبٌ الاستطلاع إلى النافذة فأطلّت متها. بدا 
وشي الشروق ناشبًا في غلالة السحر وأضواء الصباح 
تسيل هن ذرى المآذن والقباب. فأمكنها أن ترى 
الطريق في كثير من الوضوح وفتّشت عيناها عن 
الأشباح الى راعتها في الظلام فتبيّنت حقيقتها ونذت 
عنها آهة فزع وارتذت مهرولة إلى حجرة فهمي 
فأيقظته بلا احتراس فانتفض الشابٌ جالسا في فراشه 
وهو يتساءل منزعجا : 

نا لفسا ااي 

فقالت وهي تلهث: 

الإلجليز يملأون الطريق تحت بيتنا. . . 

هبّ الشابٌ من فراشه واثبًا إلى النافذة ورمى 
ببصره فرأى تحت سبيل بين القصرين معسكرا صغيرا 
يشرف على رعوس الطرق التي تتفرّع عندهء يتكوّن 
من عدد من الخيام» وثلاث لوريّات وشراذم متفرّقة 
من الجند. وفيما يلي الخيام أقيمت البنادق أربعا أربعاء 
كل عتعوعة تناد وميه وتقرقا قزامتيها تل عنة 
هرم ١‏ وقد وقف اللحرّاس كالتاثيل أمام الخيام وتبعثر 
الآخرون وهم يتراطنون ويتضاحكون». ورمى الشاب 
ببصره ناحية النحّاسين فرأى معسكرًا ثانيًا عند تقاطع 
النحّاسين بالصاغة كبا رأى في الناحية الأخرى من بين 
القصرين معسكرًا ثالئًا عند منعطف الخرنفش» ابتدره 
خاطر أهوج لأوْل وهلة أنْ هؤلاء الجنود قد جاءوا 
للقبيض عليه! . . . ولكنّه ما لبث أن استسخفه معتذرًا 
عنه بقومته المزعجة من النوم الذي لم يكد يفيق منه. 
ويبذا الاحساس بالمطاردة الذي لم يفارقه منذ شبّت 
الثورة» ثم وضحت له الحقيقة رويدّاء وهي أن الحي 
الذي أتعب السلطة المحتلة بمظاهراته المتواصلة قد 
احيّنّ احتلالا عسكريًا. لبث ينظر خلال الخصاص 
متفخّصًا الجئود والخيام والبنادق واللوريات وقلبه يخفق 
في رهبة وحزن وحنق» حتّى تحول عن النافذة شاحب 
اللون وهو يتمتم مخاطبا أَمْه : 

- نهم الإنجليز كما تقولين» جاءوا للإرهاب ومنع 


بين القصرين ١١اه‏ 

المظاهرات في منابتها. . . 

وجعل يقطع الحجرة ذهابًا وإيابًا وهو يقول في سره 
حاتقًا «هيهات. . . هيهات» حبّى سمع أمه تقول : 

سأوقظ والدك لأخخيره بالأمر, . . 

قالتها المرأة كآخر ما عندها من حيلة: كأنْ السيّد- 
الذي يحل لها جميع مشكلات حياتها - كفيل أيضًا بأن 
يجد حلا لهذا المشكل يبلغ به برّ الأمان. ولكنّ الشابٌ 
قال ها بأسى : 

دعيه حب يستيقظ في وقته. . . 

فتساءلت المرأة في رهبة: 

- ماذا نفعل يا بيّ وهم مرابطون أمام مدخخل بيتنا؟ 

فهر فهمي رأسه في حيرة قائلا : 

ماذا نفعل؟! (ثمّ بلهجة أكثر ثقة) لا داعي 
للخوف. ليس إلا أثْهم يرهبون المتظاهرين. . . 

قالت وهي تزدرد ريما جافا : 

أخماف أن يعتدوا على الأمنين في بيوتهم. . . 

ففكر قليلا في قوها ثم تم : 

كلا لو كان الاعتداء على البيوت مقصدهم ما 
وقفوا ساكنين حي الآن. . . 

لم يكن مطمئنًا إلى قوله كلّ الاطمئنان ولكنّه وجده 
أوقق بها يقال :وغادت آم تسائله” 

وحتّى متى يقيمون بيئنا؟ | 

بطرف شارد أجابا: 

- من يدري؟!... إنَم ناصبون الخيام فلن 
يرحلوا سريعا. . . 

تنه إلى أنها تسأله كا لو كان قائد القوات 
العسكريّة فنظر إليها في عطف وهو يداري بسمة 
سائخرة فرّجت ما بين شفتيه الممتقعتين» وفكر للحظة في 
مداعيتها ولكنّ كآبة الموقف صدّت نفسه, فعاوده الْحدٌ 
كيا يقع له أحيانًا إذا روى ياسين له «نادرة» من نوادر 
والده تدعوه بطبيعتها إلى الضحك ولكن يصدّه عنه 
القلق الذي يعتريه كلما اظلع على جانب من شخصية 
أبيه الخفيّة» وسمعا وقع أقدام جبرول نحيهماء ثم 
اقتحم الحجرة ياسين تتبعه زينب على الأثر» وصاح 
الشابٌ الذي بدا منتفخ العيئين مشعث الشعر: 


وهتمت زيلب : 

أنا الى سمعتهم ثم أطللت من النافذة فرآيتهم 
وأيقظت سي ياسين. . . 

وواصل ياسين الحديث قائلا: 

- لقد نقرت على باب والدي حتّى استيقظ وأخبرته 
وليًا رآهم بنفسه أمر بألا يغادر البيت أحد وألا يرفع 
مزلاج البيت؛ ولكن ماذا هم فاعلون؟. . . وما عسى 
أن نصم؟ . . . ألا توجد في البلد حكومة تحمينا؟ . . . 

فقال له فهمي : 

لا أظنهم يتعرّضون لغير المتظاهرين. 

خوك ع وق انط عبوموة ل سوتا؟ | ده إن 
البيوت ملأى بالنساء والأطفال فكيف يعسكرون 
تحنها؟ 

ففمغم فهمي في ضيق ' 

- سيجري علينا ما يجري على غيرنا فلنصبر 
ولننحظر. . 

وهتفت زيلب في عصبية ظاهرة : 

لم نعل نسمع أو نرى إلا الرعب والحرن؛ ربا 
على أولاد الحرام . . . 

عند ذاك فتح كيال عينيه فردّدهما دهشا في 
المجتمعين في حجرته على غير انتظارء ثم جلس في 
فراشه وتطلّم إلى أمّه بعينين متسائلتين فاقتربت من 
فراشه وربّتت بيدها الباردة على رأسه الكبير ثم قرأت 
بصوت مهموس وعمقل شارد الفاتحة. فساها الغلام : 

ماذا جاء بكم إلى هنا؟ 

راقع أن اقلقه الختن ا اسن شنورة كله فقالك 
برقة : 

- لن تذهب اليوم إلى المدرسة. . 

فتساءل بابتهاج : 

- بسبب المظاهرات؟ 

فقال فهمي بثىء من الحذة : 

- الإنجليز يسدّون الطريق! 

شعر كال بأنّه أدرك سر تجمّعهم فقأب عينيه في 
الوجوه مذهولاء ثم وثب إلى النافذة ونظر من 


خصاصها طويلا ثم عاد وهو يقول باضطراب : 
البنادق أربع ابه 

ونظر إلى فهمي كالمستغيث وتمتم في خوف: 

د امستتلونا بي 0 

لن يقتلوا أحدّاء جاءوا لمطاردة المتظاهرين. . . 

ومضت فترة صمت قصيرة وإذا بالغلام يقول وكاأنه 

ما أجمل وجوههم!. .. 

فسأله فهمي سائخرًا: 

هل أعجبوك حمًا؟. . . 

فقال كيال بسذاجة : 

جدَّاء كنت أتميّلهم كالشياطين. . . 

فقال فهمى بمرارة: 

- من يدريء لعلّك لو رأيت الشياطين أعجبك 
منظرهم . . . ! 

م يرفع مزلاج الباب في ذلك اليوم» ولم تفتح نافذة 
من النوافذ المطلّة على الطريق ولو لتغيير الحواء وإدخال 
الشمس» ولأول مرّة تبسّط السيّد أحمد في الحديث على 
مائدة الإفطار فقال بلهجة العليم الخبير إِنْ الإنجليز 
يتشدّدون في منع المظاهرات وإِنْهم لهذا احتلوا الأحياء 
الني تكثر مبا المظاهرات وإنه رأى أن يمكثوا يومهم في 
الببت حيّى تتّضح الأمور. استطاع الرجل أن يتكلم 
بثقة وأن يحافظ على مظهره المعهود من الجلال وألَا يدع 
منفذًا لأحد يسبب منه إلى القلق الذي تفمّى في باطنه 
مُلْ هب من فراشه على نقر ياسين. ولأوّل مرّة كذلك 
جسر فهمي على مناقشة رأي أبيه فقال بأدب : 

- ولكن يا والدي قد تظبّنى المدرسة إذا مكثت في 
البيت من المضر بين! 

لم يكن السيّد يعلم شيئًا طبعًا عن اشتراك ابنه في 
المظاهرات فقال: 

- للضرورة أحكام, أحوك موظف وموقفه أدقٌ من 
موقفك ولكنّ العذر واضح . . . 

م تواته شجاعته على مراجعة أبيه خشية أن يغضبه 
من ناحيةء ولأنّه ب من ناحية أخرى - وجد في أمره بمنع 
مغادرة البيت عذرًا يثرّر به أمام ضميره امتناعه عن 


لخروج ! إلى الطريق المحتلٌ بالجنود المتعظشين إلى دماء 
أمثاله من الطلبة. انفضت المائدة فأوى السيّد إلى 
حجرته. وما لبئت الأمْ وزيب أن اشتغلتا بواجباته) 
اليوميّة» ولا كان اليوم مشمساء وهو يوم من أيام 
مارس الأخيرة التي تكتنز في أعطافها نسائم دافئة من 
أنفاس الربيع فقد صعد الإخوة الثلاثة وجلسوا تحت 
عرش اللبلاب والياسمين. ووجد كبال في نخص 
الدجاج تسلية وأيّ تسلية فانتقل إليهاء وراح يبذر 
للدجاج الحَبٌ ويطاردها مسرورًا بدجدجتها ويلتقط ما 
يعثر عليه من البيض في حين راح الأخحوان يتحدثان 
بالأنباء المثيرة التي تتناقلها الألسئة عن الثورة المستعرة 
في جنبات الوادي من أقصى شمله إلى أقصى جنوبه. 
تكلم فهمي عنًا يعلم من قطع السكك الحديد 
والتلغرافات والتليفونات وقيام المظامرات في شتى 
المديريئات والمعارك التي تنشب بين الإنجليز والشوار 
والمذابح والشهداء والجنازات الوطنيّة الي 0 فيها 
النعوش بالعشرات والعاصمة المضربة طلبتها وعمّالها 
ومحاموها والتي ل يعد بها من وسيلة للمواصلات إلا 
العربات الكارو. ثم قال الشاتث بحرارة: 

هذه الثورة حمًا؟. . . فليقتلوا ما شاءت لهم 
وحشيتهم فلن يزيدنا الموت إلا حياة. , 

فقال ياسين وهو يهرٌ رأسه عجبا: 

- ما كنت أتصور أنْ في شعبنا هذه الروح 
المكافحة . . . 

فقال فهمي وكأنه نسي كيف أشفى على الياس قبيل 
نشوب الثورة حيّى فاجأته بزلزالها ومبرته بئورها: 

- بل إِنْه ممتئّ بروح الكفام الخالد التي تشتعل في 
جسله الممتدٌ من أسوان إلى البحر الأبيضس.؛ استثارها 
الإنجلير حيّى ثارت ولن محمد إلى الأبد. 

فقال ياسين وعلى شفتيه ابتسامة : 

- حتقى النساء خرجن في مظاهرة. . 

فتمئل فهمي أبيانًا من قصيدة حافظ في مظاهرة 
اعد اك 

حرج الغواني يحتجج 

من ورحُْتٌ أرقب جمعهئه 


بين القصرين اه 


فإذا عن دن مسن 

سود الثشياب شِعارهته 
فطلعن مثل كواكب 
يسطعن في وسط السدجئه 
يمجتزنت الطريق 


ِ 2 2 
ودار سعد قصدهئله 


وأخمذن 


فاهترّت نفس ياسين وقال ضاحهًا: 

ما كان أجدرني أنا يحفظها., . 

وذكر فهمي في خاطر طارئ ثم تساءل بحزن: 

5 أترامت أنباء لورتنا إلى سشعمل ف منفاه؟ . 
الل العم اك انسح ل اه 
غارقا في يأس المنفى ؟ . . 


/اه 
على السطح حتّى الضحى » وراق للأخوين أن 
براقا 0 الصغيرء فرأيا نفرًا من الجنود 
قد أقاموا مطبخًا وراحوا يعدّون الغداء. وتفرّق 
كثيرون ما بين مدخل درب قرمز والنخاسين وبين 
القصرين في خلاء من المارة» وبين حين وآحر كان 
يتجمع كثيرون في طابور على نداء النفير ثم يأنحلون 
بنادقهم ويركبون أحد اللوريات الذي ينطلق بهم 
صوب بيت القاضي نما دل على قيام مظاهرات في 
الأحياء القريبة» وكان فهمي يراقب تجمعهم وذهابهم 

بقلب خافق وخيال متقد. . 
وأخيرًا غادر الأخوان السطح تاركين كمال يلهو 
كيف شاء وحدهء وأويا إلى حجرة المذاكرةء فأقبل 
فهمي على كتبه يراجع ما فاته في الأيّام المنقضية, 
وتناول ياسين «ديوان الحماسة» ودغادة كربلاء؛ وخرج 
إلى الصالة يستعين بها على قتل الوقت الذي توافر 
وراء جدران سجنه كا يتوافر الماء وراء السدود. كانت 
الروايات - بوليسيّة وغيرها أشدّ استحوادذًا على قلبه 
من الشعر. ولكنّه أحبٌ الشعر كذلك. وعرفه من 
أيسر سبله, يفهم ما يسهل فهمه؛ ويقئع من الصعب 
بموسيقاه. فلدر أن يلجا إلى الهامش المشحون 
بالشروحء ورتمًا حفظ البيت وترنم به وهو لا يفقه من 


4 بين القصرين 
معناه إلا أقله. أو يتصوّر له معئّى لا يمت إلى حقيقته 
بسبب» أو لا يدرك له معنى على الإطلاق» ولكن رغم 
هذا كله رسب في عقله من صوره وألفاظه ما يعد ثروة 
بتيه بها مثله حبّى دأب على استغلالها لمناسبة ولغير 
مناسبة وهو الأكثر. فإذا عرض له يومًا أن يكتب رسالة 
تهيّأ لها تَبيّوْ الكتاب وأقحم عليها من الألفاظ الرنّانة ما 
يعلق بحافظته. وضِمّنا ما فتح الله به عليه من مأثور 
الشعر حيّى عرف بين معارفه بالبلاغة» لا لأنه كان 
بليعًا حمّاء ولكن لقصورهم عن مجاراته وارتياعهم 
حيال غريب محفوظاته. قبل اليوم لم يعهد مثل هذا 
الفراغ الطويل الذي قضى عليه بأن يكابده ساعة 
فساعة محرومًا من أسباب الحركة والتسلية» ورثما كانت 
القراءة خخليقة بأن تسعفه على تحمله لو كان به صبر 
عليهاء ولكنّه اعتاد أن يلم بها في رفق» وفي الأوقات 
القصيرة التي تسبق خروجه إلى سهرته اليوميّة دون 
غيرهاء وحبّى في تلك الأوقات لم يكن يجد بأسًا في أن 
يقطع القراءة بالمشاركة في أحاديث مجلس القهوة. أو 
يطالع قليلًا ثم يدعو كيال ليروي له ما قرأ مستلدًا 
بإقبال الغلام على الإصغاء بذاك الشغف المأثور عن 
الأطفال والغلمان. إذن لم يكن الشعر ولا الرواية بالتي 
تستطيع أن تؤنس وحشته يوما كيومه هذاء وقد قرأ 
أبيانًا من الشعر وفصولًا من «غادة كربلاء»» ومضى 
يتجرّع الملل قطرة فقطرة» لاعثا الإنجليز من أعياق 
قلبه. ضجرًا برما ضيق الصدرء حتّى حان وقت 
الغداء. جمعتهم المائدة مرّة أخرى» وقدّمت هم الم 
حساء ودجاجات محمّرة وأرزاء وأهّت أطباقها التي 
حرمت من الخضر بسيب الحصار المضروب حول 
البيت - بجبن وزيتون ومش» وأحضرت عسلا أسود 
بدلا من الخلوى, ولكن لم يأكل بشهوة إلا كيال آم 
السيد والاخوان فلم يسعدوا بقابليّة قويّة للطعام 
لقبوعهم يومهم بلا عمل ولا حركة؛ بَيْد أن الطعام 
هيا لهم فرصة للهروب من الفراغ بالنوم وعللى 
الخصوص السيد وياسين اللذين كان يسعههما الظفر 
بالنوم وقتما شاءا وكيفم| أحبًا. وغادر ياسين فراشه قبيل 
المغرب فنزل إلى الدور التحتايَ لشهود جلسة القهوة 


ولكنّها كانت جلسة قصيرة إذ أن الأمُ لم يسعها أن تترك 
السيّد وحده طويلًا فودّعتهم وطلعت إليه. ولبث 
ياسين وزينب وفهمي وكال يتسامرون في جو يغلب 
عليه الفتور حيّى استأذن فهمي ومضى إلى حجرة 
المذاكرة ثم دعا إليه كال فغودر الزوجان منفردين. «ما 
عسبى أن أصنع من الآن إلى مسا بعد منتصف 
الليل؟»... أزعجه هذا السؤال الذي ألم عليه 
طويلا وبدا له اليوم كثيبًا ذميًا منتزعًا بالقوّة الغشوم 
من مجرى الزمان الذي يتدقّق في الخارج حافلا 
بالمسرّات كبا يمتزع الغصن من الشجرة فيستحيل 
حطبًا. لولا الحصار العسكري لكان الآن بمجلسه 
المحبوب بقهوة أحمد عبده؛ يحسو الشاي الأخضر. 
ويسامر معارفه من روؤادها ويمتع النفس بجوها العتيق 
الذى يستهوي شعوره بمقدمه ويستائر خياله بحجراته 
المطمورة تحت أنقاض التاريخ . قهوة أحمد عبده أحبٌ 
المقاهي إلى قلبه. ولولا الغرض - والغرض مرض كما 
يقولون ‏ ما اختار غيرهاء ولكنه الغرض الذي جذبه 
فيها مضى إلى الكلوب المصري لقربه من مقام بائعة 
الدوم وهو نفسه الذي أغراه بالانتقال بعد ذلك إلى 
قهوة سبي عل بالغورية لوقوعها أمام بيت زنُوبة 
العوّادة. فهو يبدّل المقاهي تبعًا لغرضهء بل إِنَّه يبدل 
من تعرض له صذاقتهم فيها تبعا له. ففيما وراء 
الغرض لا متقهى ولا أصدقاء له. أين الكلوب 
المصري وأصحابه؟... أين قهوة سبى عل 
ومعارفها؟.. . من حياته ذهبواء ولعلّه لو صادفه 
أحدهم تجاهله أو تبرّب منه, والدور الآن على قهوة 
أحمد عبده وسيارهاء والله وحده يعلم ما يحيئه الغد من 
مقا وأصدقاء. على أنه لم يكن يمكث بقهوة أحمد عبده 
طويلا فسرعان ما يسترق الخطى إلى بقّالة كوستاكي أو 
بالأحرى إلى حانته السريّة ليحظى بالقارورة الحمراء أو 
«العادة» كيا محلو له أن يدعوها. .. أين منه «العادة» 
هذا المساء الكالم؟! وسرت في بدنه لتذكّر حانة 
كوستاكي رعدة شهوةء ثم ما لبث أن لاحت في عينيه 
نظرة سأم عميقة وعَلمَلٌ تململ السجين. بدا البقاء في 
البيت حسرة طويلة زاد من حدّة ألمها ما طاف ممسيّاته 


من صور اهناء وذكريات النشرة المقترنة بالحانة 
والقارورة» فعدّبته الأحلام وضاعفت من وجده. وقد 
جرّت حنيئه الملهوف على موسيقى الخمر الباطنية 
ولعبها بالرأس ذلك اللعب المدغدغ الحارٌ السائل ببجة 
وأفراحاء فلم يدرك قبل ذاك المساء أنه أعجز من أن 
يصبر على هجر الشراب يومًا واحدًا ولم يحرن لما بدا له 
من ضعفه وعبوديّته. ولا لام نفسه على إسرافها الذي 
جرٌ عليه التعاسة لأهون الأسباب» كان أبعد ما يكون 
عن لوم نفسه أو السخط عليهاء ولم يذكر من بواعث 
أله إِلّا الحصار الذي شنّه الإنجليز حول البيت»ء وأنه 
يحترق ظما ومورد النشوات غير بعيد. ثم لاحت منه 
التفاتة إلى زيئب فوجدها تتفرّس في وجهه بنظرة كأئما 
تقول له حانئقة وما لك شاردّاء ما لك واحماء اليس 
لوجودي أي أثر في التسرية عنك!4. . . أدرك معتاها 
كلّه في لحظة خاطفة التقت فيها عيناهماء ولكنّه لم 
يستجب لعتابها الحائق الحزين» وبالعكس لعلّه أحنقه 
وأثار ثائرته. أجل لم يحقد على شيء كما حقد على 
اضطراره للبقاء معها طوال الليل» بلا رغبةء ولا 
مسرّةء وحبّى محرومًا من النشوة التي يستعين بها على 
تحمل حياته الروجية. جعل يسترق إليها النظر 
ويتساءل في غرابة أليست هي هي!... أليست هي 
التي خلبت لبي ليلة الزفاف؟1... أليست هي التي 
شخفتني هيامًا ليالي وأسابيع؟! فا لما لا تحرك في 
ساكنًا!... أي شيء طرأ عليها! ما لي أتململ برما 
وسأمًا فلا أجد من حستبا وأديها ما يغنيني عن سكرة 
تأجّلت! ومال- كيا فعل مرّات من قبل - إلى رميها 
بالنقص فيا برعت فيه زنوبة ومثيلاتها من ضروب 
الخدمة والشطارة» والحقٌ أنْ زينب كانت أولى تجاريه 
في المعاشرة الدائمة. فلم تطل به معاشرة العوادة ولا 
بائعة الدوم» ولم يكن تعلّقه بإحداهما بمائعه من التنقل 
إذا سنحت دواعيه. وقد ذكر لحلات صيرته هذه 
وأفكاره عنما بعد كرور أعوام طوال فعرف من نفسه 
ومن الحياة عامّة ما لم يجر له في “خاطر. وانته على 
تساؤًا: 
لعلّك غير مرتاح إلى البقاء في البيت!؟. . 


بين القصرين هاه 


لى يكن على حال يطيق معها حتّى العتاب فوقبع 
تساؤطها التهكمئّ من نفسه موقع الضربة الطائشة من 
الدمّل فاندفع قائلاً بصراحة مؤلة وإصرار: 

5000 

ومع نْبا تحامت النقار من باد الأمر إلا أن لمجته 
آذتها أشدٌ إيذاء فقالت بحذة: 

ء ونين ل ال هلاه البن_ عسيةا: الا سبطيق 
التخلف عن سهرتك ولو ليلة واحدة. . 

فقال متسخْطا: 

- دليني على شيء واحد يجعل البيت محتملا. . . 

فقامت غاضبة وهي تقول في نيرات منذرة بالبكاء : 

- سأخلي لك المكان لعلّه يطيب لك. . . ! 

وولّت كالهاربة وهو يتبعها بصرًا جامداء ثم قال 
لنفسه ديا لحا من حمقاء لا تدري أنّ القدرة الإاهية 
وحدها هي التى تبقي عليها ني بيتي». ومع أنْ الشجار 
نفس عن حنقه قليلا إلا أنه كان يفضّل ألا يقع حيّى 
لا يضاعف من كأبة فرافه. ولى يكن يعجز عن 
استرضائها لو أراده ولكنْ عَقَلّهِ الفتور الذي ران على 
مشاعره جميعًا. غير أنه لم تقض دقائق حبّى شمله هدوء 
نسب فرنٌ صدى عباراته القاسية التي وجمهها إليها في 
أذنيه فاقرٌ بقسوتهاء وبأنه لم يكن ثمّة ما يدعو إليهاء 
وداخخله شبه ندم لا لعثوره فجأة على ثالة حب لا في 
مانا قله راك ,كترميه عل الاحيفا. الوتعاناتها عن 
حدّ الأدب ‏ رثا إكرامًا لأبيها أو خوقًا من أبيه ‏ حيّى 
في فترة الانتقال العصيبة التى أخذ على نفسه فيها 
إخحضاعها لسياسته بالصلابة والحزم. واعتذر عن 
إسرافها بالغضب, وم يكن الغضب بالائفعال 
المستغرب في هذه الأسرة. فما يركبهم الحلم إلا حين 
قيام الأب بينهم مستائرًا لنفسه من دونهم بكافة حقوق 
الخضيي: 

بيد أن غضبهم كالبرق سريع الاشتعال سريع 
الانطفاء ثم يرون إلى ألوان من الأسف والندم» إلى 
هذا كله خصٌ ياسين بالمكابرة فلم يدفعه أسفه إلى 
مصالحة زوجه بل قال لنفسه: وهي الي استشارت 
غضبي . . . ألم يكن بوسعها أن تخاطبني بلهجة 


أرق!». إِنّه بحب دائًا أن تتحلى بالصبر والحلم والعفو 
كيرا ينطلق على هواه مطمئنًا إلى خطوطه اللذافيّة. اشتدٌ 
ضيقه بسجله بعد غضبها وانسحابها فغادر المكان إلى 
السطح . وجد الجوٌ لطيفًا والليل ساجيًا والظلمة شاملة 
إلا أنها كثيفة تحت عرش اللبلاب والياسمين» رقيقة في 
نصف السطح الآحر المسقوف بقبّة السهاء المرضعة 
بلآلى الدجوم. وراح يقطع السطح ذهابا وجيئة ما بين 
السور المطل على بيت مريم ونباية حديقة اللبلاب 
المشرفة على قلاوون» مستسلا لخيالات شتّى» وفيا هو 
يسير ال هوينا عند مدخخل السقيفة تسلّل إلى أذنيه 
حفيفء أو لعلّه همسء بل الفاس تتركه بيخ مليفل 
وأخرى فحملق في الظلام متعجّبًا وهتف متسائلا : 

- من هنا؟ 

فجاءه صوت يعرفه حقٌ المعرفة وهو يقول في نبرات 
لحاسية : 

- أنا نور يا سيّدي . . . 

تذكر من توّه أن نور جارية زوجه تأوي ليلا إلى 
حجرة خشبيّة لصق خْصٌ الدجاج تحوي بعض 
الكراكيب» نظر صوب السطح حثّى ميّز شبحها القائم 
على بعد خطوة منه كأنّه قطعة من الليل تكاثفت 
وتجمدت» م تراءى له بياض عينيها الناصع كدائرتين 
مرسومتين بالطباشير على سبّورة حالكة السواد. واصل 
سيره دون أن ينبس وصورتها ترتسم في مميلته بطريقة 
تلقائيّة,» سوداء في الأربعين متيئة البنيان.» غليظة 
الاطر اقضم ااهدةر الستدو» عيلة الارد ققد لالت وده 
لامع. وعيئنين براقتين» وشفتين ممتلئتين. فيها قَرة 
وخشونة وغرابة» أو هكذا بدت له مذ طرأت على 
بيته. وفجأة» وعلى حين غرّة» تفبّرت في صدره نيّة 
الاعتداء كا تنفجر بعض المفرقعات بلا سابق إنذار 
ولكن قويّة مسيطرة كأنما تركز فيها هدف حياته. 
فملكته كي| ملكته على عتبة باب الفناء حيال أمّ حنفي 
ليلة زفاف عائشة, البعثت في وجدانه الخامد حياة 
فوارة» وانتشر القلق في دمه حي تكهرب. وحل بحل 
الملل والسأم اهتمام حارٌ ثائر جنويّ» كل أولئك في لمح 
البضي» موث القشاط :لق منطيعه بوكرو تالف ركنت 


وهو لا يدري عن قطع السطح من أوْله إلى آخره 
مقصّيًا خط ذهابه وإيابه إلى الثلثين ثم إلى النصف. 
وكلما مرّ بها اضطرب جسمه برغبة عارمة. جارية 
سوداء؟. .. خخادم؟... وإن كانت. له سوابق غير 
منكورة» ليس حتًا أن تقع بغيته على طراز زنُوبة 
ميزة حسن واحدة تغنيى كما أغنت عينا بائعة الدوم 
المكحولتان بحارة الوطاويط اللتان شفعتا لنتن إبطيها 
وتليّد الطين على ساقيها. بل الدمامة نفسها ‏ ما دامت 
قد ركبت على امرأة ‏ اعتذار مقبول عند شهوته العمياء 
كا تطلّم إليها عند أمّ حنفي أو عند ضاربة رمل عوراء 
خلا مبا وراء بوابة النصرء نور على أية حال ذات 
جسم مكتئز صلب يوحي - لا شك - ملمسه بالفتوة 
والصراع؛ إلى أنبا جارية سوداء تعد بطرافة في 
الوصال وجذة في التجربة وتحقيق للماثور عن بئات 
جنسها من بعث الحرارة والدفء. وبدا الجو من حوله 
مهيّئًا آمئا مظلًا فاستحرّت رغبته وتوئْبت أعصابه 
واسترسل قلبه في دقات متتابعة فرمى بنظرة ثاقبة 
موضعها ومال في سيره إليها بحيث «يتفق» له أن يحتك 
بها على نحو ما حين مروره بها مؤجّلا الجهر برغبته 
حتّى يتاح له جسٌ النبض في جو من الحذر أن تكون - 
كام حنفي ‏ بلهاء فتتجاوب أركان البيثت بفضيحة 
جديدة, تقدّم في خطوات وئيدة محملقًا صوبهاء يودٌ 
بكل ما اضطرم في صدره من شهوة لو تنفذ كلمات 
عينيه ‏ رغم الظلمة الفاشية - إلى نفسهاء حتّى اقترب 
منبأ فاختلطت دقات قلبهع ثم حاذاها فمسٌ كوعه 
أعلى جسمها ولكنّه واصل سيره كأن ما وقع كان 
عفوًاء غير أن رعدة سرت في بدنه عند لمس الموضع 
الذي لم يتحقّق من هويّته في الغيبوبة الى تاه فيها عاله 
فلم يبق منه عند الإفاقة النسبيّة في نهاية السطح إلا 
مسل طريّ غزير الحنان وما ند عن صاحبته من تراجع 
بريء أيْد ما رسّحه من عدم ارتيابها في أمره فاستدار 
مصمًًا على إعادة الكرّة. أعاد نحوها ثانية ذراعه حي 
مس كوعه إحدى ثدييها ‏ لم يخطئه إحساسه هذه المرّة ‏ 
ثم لم يسحبه كا كان ينتظر من شخص يِذّعي أنه ضل 
السبيل» بل تركه يصافم الشدي الأخرى مصافحة 


رقيقة لا تبالي دفعم الريب» ومفى وهو يقول لمفسه 
ستدرك غايتي بلا شك. بل لعلها أدركتها فندٌ عنها ما 
يوحي بِأنها أرادت أن تنتحي جانبًا ولكتها أبطات. أو 
بوغتت فذهلت. على أيّ حال لم تتقيني باليدء وم 
تحمرّك ساكناء فلن تصرخ فجأة كما فعلت بنت 
المركوب» لنجرّب مرّة ثالثة. عاد هله المرّة متعجلا 
جزعاء فتثاقل حيافاء لم مد كوعه إلى الصدر الناهد 
كقربة صغيرة منتفخة. ثم حرّك ذراعه حركة ناطقة 
بالتردّد والريبة معّاء وهم بمواصلة السير مدفوعًا برغبة 
في الفرار لولا أن وجد منها استسلامًا أو بلادة أغرقت 
مالة وعيه في تيّار من الجنون فتوقف متسائلاا بصوت 
حرج من بخار الشهوة منصهرًا متهذجا: 

هذه أنت يا لور؟ | 

فقالت الارية وهي تتقهقر وهو يتبعها كيلا تفلت 
منه حي التصى ظهرها بالحائط وأوشك هو أن يلتصق 
بها : 

نعم يا سيّذي . . . 

أراد أن يقول أيّ كلام يعن له حبّى يتمكن من 
الجهر بما يضطرب في أعباقه كالملاكم الذي يلوم 
بقبضته في الهواء متحيّنا الفرصة ليضرب ضربته 
القاضية فسأها وأنفاسه تترامى على -جبينها : 

لم لم تذهبي إلى حجرتك؟ 

فقالت الجحارية التي تعبرت في نطاق حصاره: 

كنت أشمٌ الهواء قليلا. . . 

وكامًا غلب النهم تردّده فمدٌ راحته إلى خاصرتها ثم 
جذبها برفق إلى صدره وهي تبدي ممانعة تحول بينه 
وبين ما يريد» ثم همس في أذنها وهو يلصى نخذه 
بخذها: 

- هلمّي إلى الحجرة. 

فتمتميت فق ارتباك: 

مدضيبية ابا اميدق د 

رنث نيراتها النحاسية في الصمت رنيئا أزعجه ١‏ 
تكن تعمّدت أن ترفع صوتها ولكتّها ‏ فيا بدا لا يتأق 
نها الممس أو أنْ من طبع همسها الرئين ولو في أخفض 
درجاته. على أنه سرعان ما زايله الانزعاج لتوقد 


بين القصرين لااه 


شهوته من ناحية ولخلوٌ لهجتها من الاحتجاج الذي 
يستوحيه مدلول عبارتهاء فجذبها بيده وهو يغمغم : 

تعالي يا -حلوة. 

فسلست ليدهء ريما عن رضّى وربما عن طاعة. وهو 
يغمر خدّها وصفحة عنقها بقبلاته مترنحًا من شدة 
الانفعال» وفي نشوة السرور جعل يقول : 

ماذا غيّبك عبّى طول هذه الأشهر! 

فأجابته بلهجتها العاديّة الخالية من أيّ احتجاج : 

- عيب يا سيدي . 

فقال وهو يبتسم : 

ما أرق ممانعتكء زيديني منها!. . . 

ولكّبا أندت شيئًا من المقاومة عند مدخل اللحجرة 
قائلة : 

دنعييه با اصيدى 20 (ثمّ كالمحذّرة) . . . اشجرة 
ملأى بالبق . 

فدفعها وهو سبمس في ثفاها: 

أنام على العقارب من أجلك يا نور. 

جاريةء هكذا بدت بأدقٌ ما تحمل هذه الكلمة من 
معان وقفت مستسلمة بين يديه في الظلام فوضع 
شفتيه على شفتيها وقبلها بحرقة وتشوق وهي ساكلة 
مستسلمة كأئها تشاهد منظرًا لا دور لها فيه» حتى قال 
ها بانفعال: «قبليني) ثم أعاد لصق شفتيه يشفتيها 
وقبّل فقبّلته! ثم طلب إليها أن تجلس فرددت قوها 
«عيب يا سيدي» الذي بدا مضحكًا من ابتذاله على 
وتيرة واحدة فأجلسها بنفسه فاستجابت بلا مائعة.» وما 
لبث أن وجد لذَّة جديدة في تردّدها بين السلبية 
والإذعان فجدّ في طلب المريد منه وتتابعت الميانعة 
اللفظيّة والإذعان الفعلّ فسي الزمن ثم خمّل إليه أن 
الظلام من حوله يتحرّك أو أن مخلوقات غريبة في طيّاته 
تتراقص, رتما الجهد أصابه من طول ما لبث إن كان 
طال لبثه فإنّه على وجه اليقين لا يدري كم لبثء. أو 
لعلها التيّارات المتوقدة المتلاطمة في رأسه راع من 
ارتطامها في بصره أنوار وهميّةء ولكن مهلا. إن 
جدران الحجرة تتماوج» تناضحة بضوء حافت ذابت فيه 
الظلمة الداجنة ذوبانًا يبتك الأسرار» ورفع رأسه 


بين القصرين 
عملقًا فرأى نِورًا خافثًا يتسلل من شقوق الجدار 
الخشبيع مقتحًا عليه خلوته؛ ثم ارتفع صوت زوجه في 
الخارج وهي تنادي الحارية قائلة : 

- نمت يا نور؟!... نور. ألم تري سي ياسين؟ 

فانتفض قلبه فزعًا ووثب قائمًا واندفع على عجل 
ولحفة يتخطف ثيابه ويرتديها وهو يتفخص الحجرة 
ببصر زائغ لعلّه يجد تبأ بين كراكيبها, ولكنّ نظرة 
واحدة آيسته من الاختفاء على حين صلكٌ أذنيه وقع 
شبشب يقترب فلم تتهالك الجارية من أن تقول بصوت 
باك : 

أنت السبب يا سيّدي» ماذ أفعل الآن؟! 

فلكزها في كتفها بقسوة حبّى أمسكت» وحذّق في 
الباب بفزع ويأس وهو يتقهفر - بدافع لا شعوري ‏ 
إلى الركن البعيد عن المدخل حتّى التصق بالجدارء 
وتجمّد في موقفه يترقب. تتابع النداء ولا مجيب. ثم 
انفتح الباب ولاحت ذراع زينب يتقدّمها مصباح وهي 
تف : 

و د 

فلم يسع الحارية إلا أن تخرج من صمتها مغمخمة 
بصوت شاحب حزين: 

- نعم يا سئي . 

فقالت زينب بصوت ينم عن الحنق والتعنيف : 

- ما أسرع أن تنامي يا شيخة! ألم تري سي 
ياسين؟. . . سيّدي الكبير أرسل في طلبه فبحثت عنه 
في الدور التحتانّ والفناء وها أنا لا أجده فوق 
السطح. هل رأيته؟ 

وما أتمت كلامها حبّى كان رأسها قد برز داخخل 
الحجرة وهو يطل على الجارية المرتبكة في جلستها 
باستغراب» ثم بحركة غريزيّة التفتت إلى يمينها فوقع 
بصرها على زوجها الملتصق بالحائط بجسم ضحم كأئا 
ترهل وتخاذل من الخزي والهوان» التقت عيناهما لحظلة 
قبل أن يغض بصرهء ومرّت الحظة أخرى في صمت 
قاتلء ثم ندذّت عن الفتاة صرخة كالعواء وتراجعت 
وهى تبتف ضاربة صدرها بيسراها: 

يا فضيحتك السوداء! . . . أنت]. 


ع انك[ ا 


وجعلت ترتجف كنا بدا من ارتجاف المصباح بيدها 
وارتعاش ضوئه المنعكس على الجدار المواجه للباب ثم 
ولت هاربة وعويلها يمزّق الصمت. قال ياسين لنفسه 
وهو يزدرد ريقه «انفضحت وما كان كان وليث بموقفه 
ذاهلا عا حوله حيّى انتبه إلى نفسه فغادر الحجرة إلى 
السطح دون أن يخطر له أن يتجاوزه. م يذر ماذا 
يصلم ولا إلى أي مدّى تذاع الفضيحة أتنحصر في 
شقّته أم تنتقل إلى الشقّة الأخرى؟. . . ثم راح يوخ 
نفسه على ذهوله وضعفه اللذين منعاه من أن يلحق بها 
في هر الفضيحة في أضيق حدود» م تساءل وهو 
في أشدّ حالات الضيق كيف يتلقى هذه الفضيحة؟ 
هل يسعفه الحزم هنا أيضًا؟ ربما لو لم يتسرّب نبؤها إلى 
أبيه. وسمع حركة آتية من ناحية الحجرة المشكومة 
فالتفت نحوها فرأى شبح الحارية يغادرها وبيده لفَة 
كبيرة» ثم هرولت نحو باب السطح ومرقت منهء هر 
كتفيه استهانة. وفيما فين ازتوخسين صدره بيده أدرك أنه 
نسي أن يرتدىقى الفائلة فعاد إلى الحجرة مسرعًا, 


م2 

في الصباح الباكر طرق الباب» وكان الطارق شيخ 
الحارةء فقابل السيّد أحمد وأخمره بأنّه مكلف من لدن 
السلطات بإبلاغ سككان الأحياء المحتلة بأنّ الإنجليز 
لن يتعرّضوا إلا للمتظاهرين وأنّ عليه أن يفتح دكانه. 
وعلى التلميذ أن يذهب إلى مدرسته والموظف إلى 
لاني .وض رق نمق معيو الفلذمية. أن مظع 
المضربين لافمًا نظره إلى الأوامر المشدّدة بمنع المظاهرات 
والإضراب» بذلك استردٌ البيت نشاطه الذي يستقبل 
به الصباح. وتنفس رجاله الصعداء لإطلاق سراحهم 
بعد حبس البارحةء واستروحت النفوس شيئًا من 
الطمأنينة والسلام. قال ياسين لنفسه تعقيبًا على زورة 
شيخ الحارة: «الأحوال خارج البيت تتحسّن أمّا داخخله 
فهي طين ووحل4: أجل قضت أكثريّة أهل البيت ليلة 
نكراء أحاطت بها الفضيحة ومِرّق أوصاها النكد, 
زينب لم يستطع الصير الذي تغلق به صدرها على 
حزنها وتذمرها أن يصمد للمنظر المروع الذي رأته 


عيناها في حجرة جاريتها فتفجّر صدرها قاذفًا بشُواظه 
كل سبيل». تعمّدت تعمّدًا أن يقرع عويلها آذان 
التقتدن: نكا ست مود رول تهات د وكيانف 
الفضيحة. . . قصّت عليه كل شيء متشبّعة باتفعالها 
الجنونَ الذي لعلّها لولاه ما واتتها شجاعتها على 
مواجهته بما قصت لا باتت تجد نحوه من تبيب لم تجد 
مثله حيال أحد من الناس» انتقمت بذاك لكرامتها 
الذبيحة. وللصير الذي تمجرّعته حينًا مختارة وحملت 
عليه في أكثر الأحايين: «جارية! خخادمة! في سن أمّه! 
وفي بيتى! ماذا عساه أن يفعل في الخارج إذن؟» لم تكن 
تبكي غيرة أو لعل الغيرة توارت إلى حين وراء حجب 
كثيفة من التقزز والغضب كما تتوارى الثار وراء سحب 
الدخان. وكأنما غدت تؤثر الموت على أن تبقى معه 
تحت سقف واحد ولو يومًا واحدًا بعد ما كان. أجل 
هجرت مخدعها فقضت الليل في حجرة الاستقبال 
يقظى أكثره عبذي هذيان المحمومين ونائمة أقلّه نومًا 
ثقيلا مريضًا مزعجًا. أصبحث وهى مصممة على هجر 
البيت. لعل هذا التصميم وحده الذي وجدت فيه 
مسكنًا لأوجاعها. ماذا بوسم حميها نفسه أن 
يفعل؟... لن يستطيع أن ينع المنكر بعد أن وقع, 
ولن يسعه مهما يكن جبروته أن ينزل بزوجها العقاب 
الذي يستحقه حيّى يستشفيى صدرهاء أقصى ما يرأه 
أن يزجرهء أن يصبٌ عليه غضبه؛ وسيئصت- 
الفاسق ‏ خخافض الرأس كي يواصل فيما بعد سيرته 
الخبيثة!. . . هيهات. لقد اا السيّد أن تدع الأمر 
بين يديه. ونصحها طويلا أن تعرض عن زلته 
مستوصية بصدر الفضليات من مثيلاتهاء ولكتها لم تعد 
تحتمل الصبر أو العفو. جارية سوداء فوقٌ 
الأربعين! . . . كلا. ستهجره هله المرّة بلا تردّد, 
ستفضي إلى أبيها ببنّها كله وستبقى في كنفه حقٌ 
يثوب إلى رشدهء فإذا جاءها بعد ذلك نادمّاء وغيّر من 
سلوكه أو فلتذهب هذه الحياة كلها بخيرها وشرّها- 
إلى الشيطان؛ أخطأ ياسين حين ظئْها قد طوت صدرها 
على كربها عقلًا وحكمة, الحقٌ أنه غلبها الجزع من 
بادئ الأمر فبثّت مها إلى أمهاء ولكنّ الأمّ أثبتت أمْها 


بين القصرين اه 
امرأة حكيمة فلم تدع الشكوى تسرب إلى الأب 
وأوصت ابنتها بالصبر قائلة إن الرجال يسهرون 
كوالدها مثلا ‏ وإثّبم أيضًا يشربون. وإنّه حشبها أن 
بيتها عامر بالخير» وأنْ زوجها يسود إليها مهما سهر 
ومهما سكر. أصغت الفتاة إلى النصيحة على مضضص. 
وجاهدت نفسها أيا جهاد متسمّلة بالصير ولم تألُ أن 
تحمل نفسها على الرضى بالواقع والقناعة من أحلامها 
العريضة بما سمحت به الحقيقة خصوصا وقد دب 
الجنين في بطنها مبشرًا بالأمومة المرموقة. رما كمن 
التذمّر في أعاقها بيد أئها راضت نفسها على التسليم 
متأسية بأمّها تارة وطورًا بامرأة سيّدها الكبير» ثم لم 
يِخْلُ الحال من ريبة تختلج في صدرها بين حين وآحر 
عا يمكن أن يفعل زوجها في سهراته الخمريّة» وحدث 
أن أفضت إلى أمّها بمخاوفهاء بل ل تخفب عنها ما لحق 
بالرجل من فتور في عواطفه. ولكنّ الأمّ الحكيمة 
أفهمتها أنْ ذاك الفتور ليس حتمًا نتيجة لما يقع في 
خاطرهاء إنّه «شىء طبيعيَ» وإنْ الرجال جميعًا لديه 
سواء» وما سوف تقتنع به بنفسها كلما تقدّمت بها 
تجار العمر.. على أنه لو صدقت وساوسها فاذا 
تراها فاعلة؟. . . هل تراها بجر بيتها لأنّ زوجها يلم 
بغيرها من النساء؟ . . . كلا. وألف مرّة كلاء لو تخلت 
امرأة عن مكانها لسبسب كهذا لأقفرت البيوث من 
الفضليات. والرجل قد يطمح طرّفه إلى امرأة أو 
أخرى ولكنه يعود دائمًا إلى بيته ما دامت زوجه خليقة 
بأن تبقى عنده المرجع الأخير والمأوى الثابتء والعاقبة 
للصابرات. ومضت تذكرها بالمطلقات بلا ذنب 
واللائي يشركهنّ في أزواجهنٌ أخريات» أليس طيش 
زوجها ‏ إن صم - خطبًا أحف من سلوك أولئك؟! ثم 
إنّه لم يجاوز الثانية والعشرين من عمره؛ ومصيره يعقل 
فيثوب إلى بيته ويشغل بذرّيته عن الدنيا جميعاء ومعنى 
هذا أنه ينبغي لها الصبر حّى لو صدقت وساوسها فا 
بالها والوساوس لم تصدق؟! ردّدت المرأة هذاء وغيره 
تما يجري مجراه. حبّى سلس جماح الفتاة وآمنت بالصبر 
وراضت نفسها عليه . بيد أن واقعة السطح قضت على 
كل ما وطّنت النفس عليه فانبار البنيان جميعًا كأن لم 


٠‏ بين القصرين 


ومع أن السيّد لم يفطن إلى هذه الحقيقة المؤسفة 
فظن الفتاة قد امتثلت لنصيحته إلا أن غضبته كانت 
أشدٌ من أن تمرٌ بسلام. وقد أحسنت الجارية صنعا 
بفرارهاء أمَا ياسين فلم يبرح السطحء لبث يفكر 
منزعججا في العاصفة التي تترئّص به. حت ترامى إلى 
أذنيه صوت أبيه وهو يناديه بديرات كفرقعة السياط 
فدقٌ قلبه. ولكنّه لم يجب وم يستجب وتسمّر يائسًا في 
مكانه. وما يدري إلا والرجل يقتحم عليه السطح ثم 
يقف مدمدمًا لحظات وهو يتفخص المكان حيّى يعار 
على شبحه فينّجه إليه ويقف على كثب منه شابكا 
ذراعيه على صدره مصِرَّيًا نحوه رأسًا متصلْبًا متعجرفاء 
ملتزمًا الصمت ومطيله كي يطيل له به العذاب 
والارهاب., كأنما أراد بصمته أن يعر له عا يجد نحوه 
ما يعبي الألفاظ حمله. أو أنه أراد أن يرمز به إلى ما 
كان يودٌ أن يؤدْبه به من مبْرح الركل واللكم فمنعه منه 
استواؤه رجلا وزوجّاء ثم لم يعد يستطيع مع الصمت 
صبرًا فائهال عليه سبّا وتعنيفا وهو ينتفض غضبًا 
وهياجًا وأنت تتحذان تحت سمعي وبصري!. . . 
فلتذهب أنت وخزيك إلى جهئم. . . دنست بيتي يا 
وغد. هيهات أن يتطهر هذا البيت ما دمت فيه. . 
كان لك قبل الزواج عذر واه فأ عذر لك 
الآن؟!»... «لو أصاب كلامي حيوانًا لأذبه ولكنه 
ينصبٌ على حجر.. إن بينا يضِممك خليق بأن 
فقول قله االشاة و ع «تسين .عن اصدوى المسنقضر 
بكليات كالرصاص المنصهر وياسين بين يديه ساكن 
ضافف خافظن الترائن كانت يروفك اث ندري قن 
الظلام. حيّى أجهد الرجلّ الرْعْقُ فولاه ظهره وغادر 
المكان وهو يلعنه ويلعن أباه وأمه. ومضبى إلى حجرته 
يفور بالغضب فورًا. في ثورة الغضب رأى زلّة ياسين 
جريمة تستحق الإبادة» وني ثورة الغضب لم يعد يذكر 
أنْ ماضيه كله صورة مطوّلة متكرّرة من ذلَةَ ياسينع 
وأنه لا يزال دائًا على سلوكه وقد انلتصف به العقد 
الخايس وشب أبناؤه فصار منهم الأزواج والروجات. 


لذ ين 


لذ الأنه. ى:اقوزة الحضيه شن سكا ولكن لأنه يحل 


لنفسه ما لا محل لأحد من ذويه, له أن يفعل ما يشاء 
وعليه التزام الحدود التى يريدهم على أن يلتزموها فلعل 
غضبه على ما في ذنب ياسين من «تحدٌه لإرادته 
و«استهانة» بوجوده و«تشويه) للصورة التي يحب أن 
يتصوّره بها أبناؤه» كان أضعاف غضبه على الذنب 
نفسه, على أن غضبه- كما هي عادته ‏ لم يستمرٌ 
طويلًا» ما لبث أن شيا لظاه وحمد توقّده فعاوده اللحدوء 
رويدًا وإن شاب مظهره ‏ مظهره فقط ‏ الوجوم 
والأسبى. عند ذاك أمكنه أن ينظر إلى «جريمة» ياسين 
من أكثر من زاوية واحدة» أمكنه أن يتأمّلها بعقل 
مستقرٌ فانجلى له قتامها عن مواضع شُبّى ساخرة تسل 
ها عن وحدته الاضطراريّة. أوْل ما ابتدر ذهنه أن 
يلتمس للمذنب عذرّاء لا حبًا في التسامح فإنّه يكره 
التسامح في بيته. ولكن ليتَخْذ من ذاك العذر المرجى 
«مبرّراع لفروجه عن إرادته, كأنما يقول لنفسه وإنْ ابئي 
م يشِنّ عصا الطاعة... هيهات» ولكن عذره كيت 
وكيت8... ولكن هل يلتمس له العذر عند شبابه 
باعتباره عهد طيش ونزق؟ . . . كلا. إن الشباب عذر 
عن الذنب وليس عدذرًا عن خروجه على إرادته وإلا 
لجاز لفهمي بل لكمال أن يتباديا في الاستهانة بتعاليمه. 
ليلتمس العذر إذن عند رجولتهء هذه الرجولة التي 
تحلٌ له أن يستقل بنفسه عن إرادته ولو شيئًا ما وتعفيه 
هو السيّد ‏ من محمّل مسئوليّة فعالهى كأنما يقول 
لنفسه: «إنّه لم يخرج على إرادتي» هيهات» ولكنّه بلغ 
السنْ التي لا يعد فيها ذنبه خروجًا على إرادي)... 
وغ عن القول إِنه يبى أن يعترف أمامه ببذا الحى 
ولن يعفو عنه لو يجاسر على المطالبة بهء بل إِنْه لا 
يعترف له به فيه| بينه وبين نفسه إلا في حال الوقوع في 
معصية تستوجب مبررًا للخروج على إرادته؛ ولم ينس 
حتّى في تلك الحال أن يذكر نفسه التماسًا للمزيد من 
الطمائيئة ‏ بأنه أذّبه تأديبًا غليظًا نادرًا قل من يستبيحه 
من الآباء فقوبل بخضوع كامل قليل من يتحمله من 
الأبناء. .. وعرّج خاطره إلى زينب متفكرًا ولكنّه لم 
يجد نحوها أيّ عطف. لقد واساها إكرامًا لأبيها العزيز 
اليب أرقن يكل إن الفا مون انها قا .ذا 


كان يخلق بروجة كريمة أن تفضح زوجها ‏ مهها نكن 
الظروف - على النحو الذي فضحت به ياسين!. . . 
لَشْدٌ ما أعولت! . . . لَشدّ ما صرخت! . . . ماذا كان 
يصنع هو السيّد ‏ لو أن أمينة فجَأته يومًا بمثل هذا 
التصرّف؟1... ولكن أين هي من أمينة؟!. .. ثم 
وكيف قصّت عليه ما رأت دون حياء! . . 
أف! لولم تكن هذه الفتاة كريمة محمّد عفْت لق 
لياسين أن يؤْدْبا بل لا رضي هو أن تمر هده الواقعة 
دون عقاب زاجرء لقد أخطأ ياسين ولكنّبا أخخطات 
خط أكبر. ثم عاد إلى ياسين سريعًا فراح يفكر - 
بباطن مبتسم. في الطبيعة الواحدة الى تجمع بينبماء 
تلك الطبيعة الموروثة عن الحد بلا ريب» ومن يدري 
لعلّها تضطرم الآن في صدر فهمي نحت قناع التهذيب 
والاستقامة, بل ألا يذكر كيف عاد يومًا إلى البيت على 
غير انتظار فترامى إلى سمعه صوت كمال وهو يغْئى «يأ 
طير يا لل على الشجر»؟!. . . تأخر الحتظتذاك وراء 
الباب ‏ لا ليتظامر بأنه وصل بعد انتهاء الغناء 
فحسب - ولكن ليتابع الصوت متذوّقًا معدنه سابرًا 
طول نفسه. حيّى إذا ما حتم الغلام النغمة صفق 
الباب بقوّة وهو يسعل ومفى إلى الداخل طاويًا صدره 
على ابتهاج لم يفطن إليه أحدء كم يلذّه أن يرى نفسه 
مترعرعة من جديد في حياة أبنائه على الأقلّ في ساعات 
الهدوء والصفاء. ولكن رويدًا. . . إِنْ لياسين طبيعة 
خاصة به لا يشركه هو فيها. أو أنه لا تجمع بينهما 
طبيعة واحدة إذا روعي المعبى الدقيق لحذه الكلمة, 
باسين حيوان أعمى... يلقض مرّة على أمْ حنفي 
ويضبط مرة أخرى مع نورء يتمرّغ في التراب دون 
مبالاة. وما هكذا هو! أجل إِنْه يدرك مقدار الضيق 
الذي ألم بياسين لاضطراره إلى قضاء الليلة في شبه 
سجن. يدرك لأنّه كابده هو أيضًا كتثيبًا محرونا كمن 
فقد عزيراء ولكن هَبْه كان يتئزّه في بستان السطح ‏ 
كما فعل الفتى ‏ فصادف جارية ‏ ولنفترض أنها تكون 
ملبية لذوقه ‏ أكان يقدم على المغامرة؟. . . كلا. مؤكد 
كلاء ولكن أي وازع كان يشكمه؟... لعلّه المكان؟ 
الأسرة! ولعله العمر الرشيد. آه. لقد تضايق عند 


وأفن ا 


بين القصرين ١؟ه‏ 


ورود الوازع الأخير على ذهنهء وخيّل إليه أنه يغبط 
ياسين على رَيّق شبابه وجنون زلته معًا!. . . مهما يكن 
مون أمين فالطبيعتان مختلفتان. لم يكن السيد ‏ كابنه ‏ 
مغرمًا بالمرأة بلا قيد ولا شرطء. امتازت شهوته دائ 
بالرفاهية وحداها الانتخاب الرفيع» بل أنّرت في 
ميزاتها ميزات اجتاعية ضمت إلى الميزات السطبيعية 
المألوفة, كان مغرمًا بالحال الأنثويّ في لحمه وتبختره 
وأناقته. فلم تخل جليلة أو زبيدة أو أمْ مريم وعشرات 
غيرهنٌ من هميزة أو أكثر من هذه الميزاتء وفضلا عن 
هذا كله فلم يكن مزاجه ليصفو ويطيب إلا باللدظر 
البهيج وبالمجلس الأنيس وما يتبعهها من شراب وسمر 
وغناء. فلا يكاد يمضى طويل وقت على عشيقة جديدة 
حتى تفطن إلى هواه فتهيئ له ما تبفو إليه نفسه من جو 
عذب يعبق فيه الورود والبخور والممسك. وكها كان 
يعشق الحال مرّدًا كان يعشقه كذلك في هالاته 
الاجتاعيّة اللألاءة. تجذبه المكانة المرموقة والصيت 
الغيكه :ولد له أن يكرّة جعاطكه ينعقة وتكرقاتة لا 
فبها ندر من أحوال توجب التسثّر والكتان كحال أمْ 
مريم. على أن هذا اللحبٌ «الاجتماعئ» لم يكن ليفرض 
عليه تضحية بالجمال. فالجمال والصيت - في هذا 
المجال - يسيران -جنبًا لجنب كالشيء وفظلةة وغالا نا 
يكون الجيال اليد الساحرة التي تشى السبيل إلى 
الصيت والمكانة المرموقة» وقد عشق أشهر عوالم عصره 
فلم تخب إحداهن نزوعه إلى الجمال وولعه بالحسن. 
هذا ما جعله يذكر نزوات ياسين بازدراء وهو يردد 
مستنكرًا «أمّ حنفي! نور!. . . يا له من حيوان؛ إِنْه 
بريء من هذا الشذوذ بيد أنه ليس في حاجة إلى أن 
يتساءل طويلا عن مصدره فإنْه ل ينس بعد ذلك اللمرأة 
الي أنجبت ياسين فأودعته طبيعتها المولعة بالقذارة. 
إنه مسئول عن قوة شهوته أما هي فمسئولة عن نوع 
هذه الشهرة النرّاعة إلى الحضيضص. وقل عاوده في 
الصباح التفكير «الجدّي» في المسألة فكاد يدعو 
الزوجين إليه كي يصفّي ما بينهما- وما بينه وبين 
كليهها - من حسابء ولكن أرجأ ذلك إلى منّسع من 
الوقت أنسب من الصباح . 


بين القصرين 

راذا بالل شي دين جه إل لياف من 
المائدة أجابه مقتضبًا «شيء تافه سوف أحدّثك عنه فيما 
بعد» وظلّ فهمي جاهلا سر غضب أبيه على أخيه حي 
علم باختفاء الجارية نور فحدس الأمر كله. شهد 
الصباح الأسرة على غير مألوفها فقد غادر ياسين البيت 
مبكرًا ولزمت زينب حجرتها ثم غادر الرجال البيث 
واجفين متحاشين أن يرفعوا بصرًا صوب الجنود والأم 
من وراء خصاص المشربيّة تدعو الله أن يقيهم من كل 
ينوع ولم شأ أمينة أن تقحم نفسها في «واقعة» السطح 
فنزلت إلى حجرة الفرن وانتظرت بين حين وآخخر أن 
تلحق بها زينب كالعادة. لم تكن تقرها على غضبتها 
لكرامتها فعَدَّتها تدليلا أثار استياءهاء» وجعلت تتساءل 
وكيف تذّعي لنفسها من الحقوق مالم تذّعه امرأة 
قط؟...). 

لا ريب أنّ ياسين قد أخطأ فدنّس البيت الطاهر 
ولكنّه أخطأ في حقٌ أبيه وحرمته لا في حقها هي . . . 
الست ملاكًا بالقياس إلى هله الفتاة؟!. . . ولكن لم 
طال بها الانتظار لم تعد تستطيع تجاهلها وأقنعت نفسها 
بوجوب الذهاب إليها مواسية فصعدت إلى شقتها 
ونادتباء ثمّ دخلت الحجرة فلم تعثر لما على أثرء 
ومضت من حجرة إلى حجرة وهي تنادي حي فتّشت 
البيت ركنا ركثاء لم ضربت كفا بكفٌ وهي تقول 
درباه. . . هل ارتضت زيلب أن تبجر بيتها؟! . . .». 


6 

م تنج أمينة سحابة النبار من قلق» فإنْ احتبال 
تعرّض الجنود لأحد من رجاها في ذهابه أو إيابه لم يكد 
يفارق رأسها. وكان فهمي أوّل العائدين فتخقفت 
لدى رؤيته من بعض آثار قلقها ولكها رأته معجهّمً 
فسألته : 

- ماذا بك يا بن؟ 

- أكره أن أرى هؤلاء المنود. . . 

فقالت المرأة بإشفاقٌ : 

- لا بد لهم الكراهية؛ إن كنت تبني لا تفعل. . . 


ولكنّه لم يفعل بغير استعطافها. لم يتجاسر على أن 
يتحدّاهم ولو بالنظر وهو يتلمس سبيله تحت رحمتهم. 
تحاشى أن ينحرف بصره إلى أحدهم, ومفى إلى البيت 
متسائلا في سخرية عا كانوا يفعلونه لو أمْهم علموا بأنّ 
راجع من مظاهرة اشتبكت مع جنودهم في شبه 
معركة. أو أنه وزع في مطلع اليوم عشرات المنشورات 
التي تحرّض على قتالهم. جلس يستعرض ما لاقاه في 
يومه مستحضرًا أقله كا وقع وأكثره كبا كان يتميّى أن 
يكون. هكذا كان رأيه أن يعمل ارا وأن يحلم 
مساء. تحدوه في الحالين أسمى العواطف وأفظعهاء 
حب قومه من ناحية والرغبة في التقتيل والإبادة من 
ناحية أخرى. أحلام يسكر بها وقتا يطول أو يقصر ثم 
يفيق منها على حسرة لاستحالتها وفتور لسخافة 
تصوراتهاء أحلام تنسج لحمتها وسداها من معارك 
يتقدّم صغوفها كجان داركء واستيلاء على سلاح 
للعدو ثم الهجوم عليهء هزيمة الإنجليز. خطبة خالدة 
في ميدان الأويراء اضطرار الإنجليز إلى إعلان 
استقلال مصر. عودة سعد من المنفى ظافراء لقاء بينه 
وبين الزعيم وكلمة الزعيم» مريم بين شهود الافتتاح 
التارين. أجل كانت أحلامه تتوؤج دائا بصورة مريم 
رغم انزوائها ‏ طوال تلك الأيام ‏ في ركن قصىّ من 
قلبه الذي شغلته الشواغل كلها ا ينزوي القمر وراء 
السحب إبّان العاصفة. وما يدري إلا وأمّه تقول له 
وهي تسد المنديل حول رأسها في ارتباك : 

- ذهبت زينب إلى بيت أبيها غضبانة. 

آه... كاد يسى ما ألم بأخحيه وأسرته في الصباح. 
الآن تاقد لديه ما حدسه حين علم بانختفاء اللجارية 
نور وتحائشى عيني أمّه حياء أن تقرأ ما يدور بخلده 
خصوصًا وأنه أيقن باظلاعها على جليّة الأمرء ولم 
يستبعد أن تفطن إلى إدراكه له أو في الأقلّ أن 
ترجحه. فلم يذْرٍ ما يقول لا سيّا أنه لم يعتد في 
محادثتها أن يبدي خلاف ما يبطن» ولم يكن أبغض 
لديه من أن يقوم المكر مقام الصراحة بينههاء فقنع بأن 
بتمتم قائلا : 

- ربّئا يصلح الخال. . . 


لم تنبس أمينة بكلمة كأن اختفاء زينب من التفاهة 
بحيث تكفي جملة إخباريّة وأخرى دعائيّة في معالحته. 
وما لبث فهمي أن دارى ابتسامة كادت تفضح تحنظه 
إذ أدرك أن أمّه تكابد مثل شعوره وأمّْها تعاني ارتباكًا 
لعجزها الفطريّ عن التمثيل» لم تكن تحسن الكذب. 
وحبّى إذا اضطرّت إليه أحيانا كشفتها طبيعة لا تستقرٌ 
على بساطتها الأقنعة. على أنْ ارتباكهما لم يطل فيا هي 
إلا دقائق حيّى رأيا ياسين مقبلا نحوهما. خيّل إليه) 
أنه يطالعها بوجه لا يقدّر المداعب التي تترصّد في 
البيت وإن لم يعلم بعد بمدى ما بلغته. ولم يدهش 
فهمي لذلك كثيرًا لا يعلمه من استهانته بالمتاعب التي 
تنوء بغيره من الداس» ولكنٌ الحقيقة أن ياسين غلبه 
شعور باهر بأنّه اجتاز مغامرة ظافرة أنسته إلى حين جل 
متاعبه . كان في طريقه إلى باب البيت حين اعترض 
سبيله جنديٌ كأفا انشقّت عنه الأرض فارتعدت 
مفاصله وتوقع شرًا لا قبل له به أو في الأقل إهانة 
جارحة على مرأى من أصحاب الحوانيت والمارة, 
ولكنه ' يتردد قْْ الدفاع عن نفسهء. فقال برقة وتودذد 
خاطبًا الحندئ كأنما يستأذنه في المرور: 

من فضلك يا سيدي . 

ولكنٌ الجنديّ طلب عود ثقاب وهو يبتسم ‏ أجل 
يبتسم ‏ فذهل ياسين لابتسامته حْتّى استعصى عليه أن 
يفهم مراده حيّى أعادى لم يكن يتصور أن جنديا 
إنجليزيًا يبتسم على هذا النحوء أو. إذا كان الجنود 
الإنجليز يبتسمون كسائر البشر ‏ أن يبتسم له أحدهم 
فيها يشبه الأدب» فاستخفّه سرورًا أربكه حيّى لبث 
جامدًا لحظات لا يحري جوابًا ولا يبدي حراكا, ثم 
تونب بكلّ ما فيه من قوّة لأداء هذه الخدمة البسيطة 
لذاك الجنديّ العظيم المبتسم, وليّا كان غير مدنحن 
فلا حمل ثقابًا فقد بادر إلى الحاج درويش بائع الفول 
وابتاع علبة ثقاب وهرع إلى الجنديّ ماذا له يده بها 
فتناولها الجنديّ وهو يقول: 

أشكرك . 

لم يكن أفاق من أثر الابتسامة السحريّة فجاء الشكر 
تدج ابره اللي يدل يد من أكون «مادافقيه مر 


بين القصرين 7ه 

الوسكي,. ملآه الامتنان والزهوء تورّد وجهه المكتنز 
وضحكت أساريره وكأنٌ عبارة «ثانك يو» نيشان سام 
تقلده على الملأ. إلا أثّها ضمنت له أن يذهب ويجيء 
أمام المعسكر آمئاء وها كاد الرجل يبدي أؤل حركة 
للذهاب. حبّى قال له متودّدًا من أعماق فؤاده: 

حظ سعيد يا سيّدي . 

ومفى إلى البيت كالترئح من الفرح. أي حظ 
سعيد ظفر به هو!... إنجليزيّ ‏ لا أسترالي ولا 
هنديّ - وابتسم له وشكره!... إنجليزيّ أي رجل 
بتمئل في خياله كأنموذج لكمال الجس البشري» رما 
أبغضه كما يبغضه المصريّون جميعًاء ولكنّه في قرارة 
نفسه يحترمه ويجلّه حيّى ليخيّل إليه كثيرا أنّهد من طينة 
غير طيئة البشري هذا الرجل ابتسم له وشكره! . . وقل 
أجابه إجابات صحيحة مقلَدًا ما وسعته مرونة شدقيه 
طريقة النطق الإنجليزيّة فنجح نجاحا باهرًا استحقق 
عليه الشكر... كيف يصِدّق ما ينسب إليهم من 
الأعبال الوحشيّة!! لماذا نفوا سعد زغلول إذا كانوا على 
هذا الظرف كلّه؟ ! غير أَنْ حماسه فتر بمجرّد أن وقع 
بصره على الست أمينة وفهمي واستطاع أن يقرأ 
نظرتهاء وسرعان ما اتصل ما كان انقطع من حين من 
حبل همومهء انتبه إلى أنه يواجه مرّة أخحرى المشكلة 
التي هرب منبا مع الصباح الباكر. تساءل وهو يشير 
بأصبعه إلى فوق: 

لماذا لا هلس معكما؟ ألا تزال غضبانة؟ 

فتبادلت أمينة مع فهمي نظرة لم تمتمت بارتباك : 

ذهبت إلى أبيها. 

فرفم .حاجبيه دهشة وانزعاجًا ثم سألها: 

لماذا تركتها تذلهب؟ 

فقالت أميئة وهي تنتغبل : 

تسلّلت دون أن يشعر مها أحد. 

شعر بأنّه يجب أن يقول قولًا يرضي كرامته أمام 
أخيه وأمّه فقال باستهانة : 

- إلى حيث. . 

وقرّر فهمي أن يقاوم رغبته في اللواذ بالصمت كي 
يوهم أخاه بأله لم يطلع على سرّه وبالتالي أن ينفي 


4 بين القصرين 
شبهة إذاعته هذا الس عن أمّه فسأله ببساطة : 

ما الذي دعا إلى هذا التكد؟! 

فحدجه ياسين بنظرة متفخصة ثم لوح بيده الخليظة 
وهو يم بوزه كأئما يقول له «ليس ثمّة ما يدعو إلى 
التكد» ثم قال: 

- بئات اليوم لم تعد بن طاقة على حسن المعاشرة. 

ثم ناظرًا إلى ست أمينة : 

أين هن سبّات الأمس؟ ! 

نكست أميئة رأسها حياء في الظاهرء وفي الحقٌّ 
لتداري ايتسامة لم تستطم مغالبتها حين| ربط ذهها بين 
الصورة التى يتّخذها ياسين الآنء صورة المتامل 
الواعظ لجيه علي والقيورة :الى ابيط ينا بسنا 
أمس فوق السطح. على أنْ انزعاج ياسين كان أعظم 
بكثير من القدر الذي سمح له الموقف بأن يتظاهر به. 
فإنْه على فداحة الخيبة التى مني بها في حياته الروجية لم 
يفكر لحظة في قطع هذه الحياة» وجد فيها ملاذا 
مستقرًا ورعاية إلى ما بشّرت به من أبوة وشيكة رحب 
ها أئما ترحيب» مي دائمًا أن تبقى وراء ظهره ليعود 
إليها من شبّى جولاته ىا يعود الرخالة في نباية العام 
إلى وطنهء ولم يغب عنه ما سيجره عليه ذهاب زوجته 
من نزاع جديد بينه وبين أبيه وبين السيّد عفت. إلى ما 
يلابس هذا كله من فضيحة ستفوح رائحتها حت تزكم 
الأنوف. . . بنت الكلب!. . . لَشِدَّ ما كان مصِمَمً 
على أن يستدرجها إلى الاعتراف بائّا أخطات خخطأ أكير 
من خطثه. بل لعلّه اقتنع بذلك لدرجة تقرب من 
اليقين» فأقسم ليحملئّها على الاعتذار وليأخذنْ نفسه 
بتاديبها بمختلف الوسائلء» ولكتّها ذهبت... قلبت 
خططه رأسا على عقب... وضعته في مأزق غير 
يسير. بلت الكلب!. .. وانترع من تيار أفكاره على 
صوت صراخ يمزْق الصمث المحيط بالبيث فالتفت 
صوب فهمي وأمّه فوجدهما يرهفان السمع باهتمام 
وقلقء وتواصل الصراخ فأدركوا بسهولة أنّه صادر عن 
امرأة» ولكن تساءلت أعينهم عن الناحية التي يترامى 
مُنها وعن سببه: أنعي ميت أم عراك أم استغاثة, 
وراحت أمينة تستعيذ بالله من الشرور جميعا حَبّى قال 


فهمي : 

حاإلة الزويو دريب العلة فى طرينق نهنا 

ومبض فجأة مقطبًا جبيله وهو يتساءل : 

ألا يكون الاتجليز قد هاحموا امرأة مارّة بالطريق؟ 

وهرع إلى المشربيّة والآخران في أثره. بيد أنْ 
الصراخ انقطع غير تارك وراءه دليلا على الناحية التي 
ترامى منهاء فرمى ثلاثتهم بأنظارهم خلال الخصاص 
يتشحّصون الطريق فاستقرّت على امرأة لفتت الألظار 
بوقفتها الغريبة وسط الطريق ويمن أحاط بها من المارة 
وأصحاب الحوانيت؛ على أثْهم عرفوها لأوؤل وهلة 
وهتفوا معا: 

أم حنفي . . . 

وتساءلت أمينة التي كانت أرسلتها لتعود بكيال من 
المدرسة ٠‏ 

ما لي لا أرى كبال معها؟! وماذا يوقفها هكذا 
كالجاد! كيال. . . رباه. .. أين كبال؟ 
ثم مدفوعة بشعور غريزي : 
فيوقنا .م أيق كيان اياقبو ل 

لم ينبس فهمي ولا ياسين بكلمة, استغرقهما فحص 
الطريق عامة والمعسكر الإنجليزيّ خاصة حيث رأوا 
أنظار المتجمعين ‏ وفي مقدّمتهم م حلفي - اننّجه . ل 
يكن ثمّة شك لديهما في أنْ أمّ حنفي هي التى صرحت 
حيّ جمعت الناس حوطاء بل شعرا بالبداهة أثها كانت 
نستغيث لأنّ ثمّة خطرًا تهدّد كيال» ثم تركرت مخاوفها 
في الإنجليز. ولكن أيّ خطر هو؟... وأين 
كال؟. . . ماذا حدث للغلام؟ إِنْ الأمّ لا تكفث عن 
الاستغاثة بدورها وهما لا يدريان كيف يسكنان 
خاطرهاء لعلّهما في حاجة إلى من يسككن خاطرهما. . . 
أين كال؟. . . إِنْ الجنود ما بين جالس وواقف وماض 
لطيّتهء كلّ مشغول بشأنه كأنْ شيئًا لم يقع وكأنّ أحدًا 


. عرفت الآن 


من الناس لم يتجمع. وهتف ياسين بغتة وهو يلكز 
ألا ترى هؤلاء الجنود الواقفين على هيئة دائرة 
تحت سبيل بين القصرين؟. . . إِنْ كمال يقف 


فلم تملك الأم أن صرحت قائلة : 

د كمال بين المنود. 
أغيثوني . 

أربعة جنود عبالقة وقفوا على هيئة دائرة متشابكي 
الأذرع» وقد مرّت عينا فهمي أكثر من مرّة دون أن 
تعثرا على ضالتهماء في هذه المرّة لمم كال واقمًا وسط 
الدائرة كما لاح من فرجة انشفّت عنما ساقا الجنديّ 
الذي يوليهم ظهره خيُل إليه ١ه‏ نهم سيتقاذفونه 
بأرجلهم كالكرة -حتى يقضوا عليه. أنه خوفه على 
أخيه نفسه فاستدار قائلا بندرات مضطربة: 

سأذهب إليه مهما تكن العواقب. . 

ولكنّ يد ياسين قبضت على منكبسه وهو يقول 
.. ثم خخاطب الأمْ بصوت هادئ 


ا ها هو يا ربي... رباه. . 


بصوت حازم «قف». 


بأسم قائلا : 
لا متخاي. . ٠‏ لو أنهم أرادوا أن يصيبوه بسوء ما 
ترددوا... انظري إليه ألا يبدى منبمكًا في حديث 


طويل؟ ثم ما هذا الثشيء الأحمر الذي بيده؟! أراهن 
على أثّْها قطعة من الشيكولاته!. . . هدّئي روعك. . 
نم يتسلّون به «ومتبداه شدّ ما أفزعنا على لا شىء. 

سكن روع ياسين» وما لبث أن تذكر مغامرته 
السعيدة مع الجندي فلم يستبعد أن يوجد له من 
زملائه نظائر في لطفه ورقته. ثم رأى أن يدعم قوله 
ويثبته في فؤاد الأمٌ الملتاع فأشار إلى أمْ حنفي التي لم 
تزل في موقفها قائلا: 

ألا تريان أن أمّ حنفي لم تكفٌ عن الصراخ إلا 
حين لم تجد داعيًا له. ها هم الناس ينفضّون من حوها 
تعلوهم الطمأنيئة . 

فغمغمت أميئة بصوث مرتعش : 

- لن يطمئن قلبي حتّى يعود إِلي. . 

وتركزت أعينهم في الغلام» أو في| يلوح منه بين 
آونة وأخرى غير أن الجنود استردٌوا أذرعهم المتشابكة 
وضمّوا سيقانهم المنفرجة كأنما اطمانوا إلى عدول كمال 
عن التفكير في الحرب., فبدا الغلام بكامل هيئتهء بدا 
دان يتكلم تن دارا بيه مو سد كه اسل 


بين القصرين ه96؟ه 


وإشارات يديه التي استعان بها على الإفصاح عن 
أفكاره فدلّ التفاهم بينه وبينهم على أثْهم يستطيعون 
إلى حد ما استعمال اللغة العربية» ولكن ماذا يقول هم 
أو ماذا يقولون له؟... هذا مالم يستطع أحد أن 
يخمَنهء بيد أتهم ثابوا إلى رشدهمء حتّى الأمّ نفسها 
استطاعت أخيرًا أن تشاهد المنظر العجيب الذي يمثل 
تحت ناظريبا بدهشة ممزوجة بقلق صامت دون عويل 
أو استغائة: على حين -جعل ياسين يضحك قائلا: 

الظاهر أنّْنا غالينا في التشاؤم حينا ظننًا أن احتلال 
هؤلاء الجنود لحينا سيكون مصدر متاعب لنا لا تنتهي . 

ومع أن فهمي بدا ممتنا لسلوك امنود مع كمال. إلا 
أنه لم يرتح إلى ملاحظة ياسين فقال دون أن تتحول 
عيئأه عن الغلام : 

- رئما اختلفت معاملتهم للرجال أو النساء عن 
معاملتهم للأطفال. لا تَغْلُ في تفاؤلك. 

وكاد باسين يندفع متحدّثًا عن مغامرته السعيدة, 
ولكنّه أدرك لسانه في اللحظة المناسبة فاأمسك تفاديًا من 
إثارة أخيهء ثم قال على سبيل الملاطفة والتودّد: 

- ريّنا يخلصنا منهم على خير. 

وتساءلت أآمينة في لهفة : 

- ألم يئن لهم أن يدعوه مشكورين؟ 

ولكن بدا على دائرة كمال أنْ ثمّة جديدًا ينتظرء 
فقد تراجع أحد الحنود الأريعة | إلى خيمة قريبة ثم عاد 
بعد قليل بكرسيّ خشبي فوضعه أمام كال وما لبث 
الغلام أن وثب إلى الكرسيّ فوقف منتصب القامة 
مشدود الذراعين إلى أسفل» كأنما ينتظمه طابور القسم 
المخصوص» وقد انحدر طربوشه إلى قذاله 
شعور منه في الغالب ‏ كاشفًا عن مقدّم رأسه الكبير 
البارز. ما خطيه؟ ماذا وراء هذه الوقفة؟ لم يطل بأحد 
التساؤل إذ سرعان ما علا صوته الرفيع وهو ينشد: 


با عزريز عينى ‏ بذّي أروح بلدي 
نا مر يكز . عدف السلطة خحدت ولدي 


غناها مقطعًا مقطعًا بصوته اللطيف والحنود 
يتطلّعون إليه فاغري الأفواه ضاحكي الأسارير تلاحق 
أكفهم ترديده بالتصفيق . وكان أحدهم قل ا بما 


5" بون القصرين 


أدركه من بعض معان الأغنية فراح يتف «(أروح 
بلدي... أروح بلدي». . . فتشجّع كال بما حظي 
من سرور سامعيه وأقبل .يجود من إنشاده ويحسن من 
ترئمه ويعلي من صوته. حيّى ختمت الأغنية بين 
التصفيق والاستحسان الذي شاركت فيه الأسرة من 
وراء الخصاص بقلوب ملؤها السرور والإشفاق. أجل 
شاركت الأسرة في الاستحسان بعد أن شاركت 
بقلومها أيضًا ‏ في الغناء تتبّعوه بإشفاق وقلق» دعوا 
له بالسلامة والاجادة. خافوا عليه الزلل أو النشاز كأنما 
يغ بالإنابة عنهم جميعًاء أو كأنما هم الذين يغنُون من 
حنجرتهء وكأنٌ كرامتهم ‏ أفرادًا ومجموعة. أمست 
متعلّقة بنجاح الغناء» نسيت أمينة في لح هذا الشعور 
تخاوفهاء حبّى فهمى لم يكن يفكر في أثناء ذلك إلا في 
الغناء وما يرجو له من نجاحء فلا انتهى بخير تنهدوا 
من الأعياق وودّوا أن يبادر كيال إلى العودة قبل أن 
يطرأ طارئ يفسد عليهم مسك هذا الختام . والظاهر 
أن الحفلة آذنت بالتهاء فقد قفز كبال إلى الأرض فسلّم 
على الجنود فرذًا فردًا ورفع يده محيّيًا ثم انطلق يعدو 
صوب البيت. فهرولت الأسرة من المشربيّة إلى الصالة 
لتكون في استقباله. أقبل عليها لاهئًا مورّد الوجه مبتلٌ 
الحبين تنطق عيئاه وأساريره وحركات أعضائه المرسلة 
بلا ائزان أو غاية بالفرح والفوز. أترع قلبه الصغير 
سعادة غامرة ما كان بوسعه إلا أن يعلن عنها بكلّ 
سبيل ودعو الآخرين إلى الاشتراك فيها كالفيضان 
الزاخر يضيق عنه النبر فيغمر الحقول والوديان. 
وكانت نظرة واحدة تلقى بروية كافية لأن تريه مغامرئه 
معكوسة على صفحات الوجوه. . . ولكنّ الفرح أعباه 
فهتفا بهم: 

عندي خبر لن تصذقوه ولن تتصوروه. . . 

فقهقه ياسين متسائلا في سخرية : 

- أي خبر يا عزيز عيني؟! 

كشفت هذه الحملة الغشاوة عن عينيه كأئّها نور 
شعشع فجأة في الظلام فرأى الوجوه على ضوئها 
مفصحة ناطقة. بيد أن علمه برؤيتهم لمغامرته عوّضه 
عنًا ضاع من فرصة إدهاشهم بحديثه العجيب فأغرق 


في الضحك وهو يضرب ركبتيه بكفيهء ثم قال وهو 
يغالب الضحك : 

أرأيتمون حنا... 1 

عند ذاك جاء صوت أُمٌْ حلفي وهي تقول بنبرات 

كان الأفضل أن يروا تعاستي!. . . عَلامْ هذا 
الفرح كله بعد أن سيّبت مفاصلي؟. . . حادثة أخرى 
كهذه والله يرحمني. . . 

لم تكن قد خلعت ملاءتها فبدث كزكيبة فحم 
منتفخة؛» يعلو وجهها الشحوب والإعياء وتلوح في 
عينيها نظرة استسلام غريبة» فسألتها أمينة : 
ماذا دعاك إلى الصراخ؟. . . 
لقد لطف الله بنا فلم نشهد شيئًا مفزعًا. . . 

فأسندت أمْ حنفي ظهرها إلى ضلفة الباب وأخذت 
تقول : 

حدث ما لن أنساه يا سبّى. . . كنا عائدين وإذا 
بشيطان من هؤلاء الحنود يقفز أمامنا ويشير إلى سيّدي 
كال ليذهب إليه ففزع سيدي وجرى إلى درب قرمز. 
ولكن جنديًا آخر اعترض سبيله فانحرف إلى بين 
القصرين وهو يصرخ فغاص قلبي من الخخنوف وجعلت 
أستفيث بأعلى صوتي وعيناي لا تفارقانه وهو يجري من 
جندي إلى جندي حبّى أحاطوا به. . . كدت أموت من 
شدّة الخوف وزاغ بصري فلم أعد أرى شيئاء وما 
أدري إلا والناس قد اجتمعوا حولي ولكبّي لم أكفث عن 
الصراخ حبّى قال لي عم حسنين الحلاق: «ربّنا يكفيه 
شر أولاد الحرام. وحدي الله. . إنهم بلاطفونه. . .» 
آه يا ستّى لقد حضرنا سيدنا الحسين ودفع عنا 
الشْر. . 

فقال كيال معترضا: 

- لم أصرخ أبذًا, . . 

فضربت أمَّ حنفي صدرها بكمّها قائلة : 

- لقد ثقب صراخك أذنّ حبيّى جتنتي. . . 

فقال بصوت منخفض كامعتذر: 

- ظننتهم يريدون قتلٍ» ولكنّ أحدهم جعل يصفر 
بي ويربّت كتفي ثم أعطاني (وهنا جسٌ جيبه) 


مادا حدث] . . . 


شيكولائة فلذهب عني الخوف. , 

زايل أمينة السرورء لعلّه كان سرورًا زائقًا 
متعججّلاء الحقيقة التى يجب آلا تغيب عنها هي أنّ 
الفزع ركب كمال دقائق» وأنّه يجب أن تدعو رتّبا 
طويلا كي ينجّيه من عواقبه» لم تكن ترى في الفزع 
يرد شعور عابرء كلا. . . إِنّه شعور شاد تكتنفه هالة 
غامضة تأوي إليها العفاريت كا تأوي الخفافيش إلى 
الظلام» فإذا أحاط بششخص - خصوصًا الصغار ‏ مسّه 
بضرٌ سيئ العاقبة» لذلك فهو يستوجب في نظرها 
مزيدًا من العناية والحيطة. تلاوة من القرآن كانت أم 
بخورًا أم .حجاباء قالت بحزن: 

أفزعوك! قاتلهم الله. . . 

وقرأ ياسين ما يدور في خخاطرها. . . فقال مداعبا: 

- الشيكولاتة رقيّة ناجعة للفزع. . . (ومخاطسا 
كبال). . . هل دار الحديث بالعري؟ 

رخب كال بالسؤال لأله فتتح له مرّة أخرى أبواب 
الخيال والمغامرة» منتشلا إيّاه من مضايقات الواقع. 
فقال وقد استعادت أساريره اليساطها: 

- كلموني بعري غريب!. . . ليتنك سمعته بنفسك! 

وراح يحاكي طريقتهم في الكلام حتى ضصحك 
الجميعء حيّى أمّه ابتسمت... فعاد ياسين يسأله 
وكان يغبطه: 

ماذا قالوا لك؟ 

كلامًا كثيرًا!, . . 
الانجليز؟ | 

فهمى سائخخحرًا: 

5 أجبتهم على هذا السؤال الفريد؟! 

فرمق أنحاه كالمترذد. . . 
قائلا : 

- طبعًا قال إِنّه يحبهم. 
ول 
على أنّْ كال استطرد يقول متحمّسا: 
- ولكئّى قلت لحم أيضًا أن يعيدوا سعد باشا. 
فلم يتهالك فهمي أن ضحك عاليًا. . . وسأله : 
حمًا!. . . وماذا قالوا لك؟ 


ما اسمك» أين بيتك » أنحت 


ولكنّ ياسين أجاب عنه 


ناذا كنت ريك أن 


بين القصرين /ااه 

فقال كيال مستردًا ارتياحه بضحك أخيه : 

- أمسك أحدهم بأذني وقال لي «سعد باشا 
لو ..4. 
فعاد ياسين يتساءل : 

- وماذا قالوا أيضًا؟ 

فقال كمال بيراءة : 

- سألوني. . . ألا يوجد بنات في بيتنا؟ 

فتبودلت نظرة جدّيّة بيهم لأول مرّة منذ قَدِم كيال» 
ثم سأله فهمي باهتمام : 

- وماذا قلت لهم؟ 

- قلت هم إِنْ أبلة عائشة وأبلة خديجة تزوجتا 
ولكتّهم لم يفهموا كلامي فقلت ليس في البيت إلا 
ليلة» فسألونى عن معنى ليئة فقلت!. . . 

رمى فهمي أخاه ياسين بنظرة كأنما يقول: «أرأيت 
كيف أن سوء ظيِي في محله!» ثم ساخرًا : 

- لم يعطوه الشيكولاتة لوجه الله , . , 

فابتسم ياسين ابتسامة باهتة وغمغم قائلا: 

- ليس ثمّة ما يدعو إلى القلق . . . 

وأبى أن يترك هذه السحابة تغشى يجلسهم فسأل 
كيال : 

- وكيف دعوك إلى الغناء؟ 

فقال كال ضاحكا: 

- في أثناء الحديث اتطلق أحدهم يعني بصوت 
منخفض. فاستأذنتهم في أن أسمعهم صوتي. ..! 

فقهقه ياسين قائلا : 

يا لك من فيّى جريء!... ألم يعاودك الخوف 
وأنت بين أرجلهم؟ 

فقال كيال في مباهاة : 

واأبذاب ازثم عات مب ها اعليم اعيب ل ار 
أجمل منهم من قبل. عيون زرق .. وشعر من 
ذهب... وبشرة ناصعة البياضص... كأئهم ابلة 
عائشة ! 

وجرى فجأة إلى حجرة المذاكرة ورفع رأسه إلى 
صورة لسعد زغلول ثبتت في الجدار إلى جانب صورة 
الخديو ومصطفى كامل ومحمد فريد... ثم عاد وهو 


5ه بين القصرين 


يقول: 

إنهم أحمل من سعد باشا كثيرًا. . . 

فهر فنهمي رأسه كالاسف وقال: 

يالك من خائن...! اشتروك بقطعة من 
الشيكولاتة. . . لست صغيرًا ليغفر لك هذا القول» 
من مدرستك من يستشهد كل يومء خحيبة الله 
عليك, . 

وكانت أمٌّ حنفى قد أحضرت الموقد والكنجة 
والفناجين وعلبة البنّ. . . تبيئ القهوة 
للجلسة التقليديّة, عاد كلّ شىء إلى أصله إلا ياسين 
تقذ دهارة الفكن ‏ زوع القافية نعل عر توفي 
كمال جانبا وأخخرج الشيكولاتة من جيسه وراح ينزع 
عنبا الغلاف المورّد اللامع, بدا أن تعنيف فهمي ضاع 
في المواء إذ لم يكن في قلبه وقتذاك إلا الرضى 
5 


و 
تعقدت مشكلة ياسين الزوجيّة فبلغت درجة من 
الخطورة لم يتوقعها أحدء وما يدري النكي أعيد إلا 
وتحمّد عفت قادم عليه في الدكان في اليوم التالي 
لالتجاء زينب إلى بيتهع ثم قال قبل أن يسترد يده التي 
شد عليها السيّد بالسلام : 
يا سيّد أحمد... جتتك برجاء. , 
تطلّق زينب اليوم قبل الغد إن أمكن. . . 
مت السيّدء أجل قد ساءه سلوك ياسين أكبر 
إساءة. ولكنّه لم يتصوّر أن يبعث رجلا فاضلا كالسيّد 
حمّد عفت إلى المطالبة بالطلاق» لم يتصوّر أن تدعو 
هذه «الحفوات؛ إلى الطلاق مطلقّاء بل لم يِمْرٍ له على 
بال أن تجيء المطالبة بالطلاق من ناحية الزوجة أبدّاء 
فخيّل إليه أنْ الدنيا انقلبت رأسًا على عقبء وأبى أن 
يصدّق أن مدّئه جادٌ في طلبه فقال بلهجته اللطيفة 
التى طالما استأسرت قلوب أصدقائه : 
9 ليت الاخوان كانوا معنا ليشهدوا عليك وأنت 
تقذفني بهذه اللهجة القاسية!... أصغ إلّ. . . باسم 
صداقتنا أمنعك من أن تجري للطلاق ذكرًا على 


لسانك. , 

ثم تفرس في وجهه ليسبر أثر كلامه فيه. ولكنّه 
وجده متجهمًا كالحا ينذر بالشرٌ والتصميم» فبدأ 
يستشعر الخطورة والتشاؤم... دعاه إلى الجلوس 
فجلس وما تزداد صورته إلا ظلامًا ٠‏ إنّه يعرفة حَقٌّ 
المعرفة. عنيد شديد المراس إذا ركبه الغضب كفر 
بالمودة والمجاملة فتمزقت على سئان حدّته أسباب 
القربى والعطف جميعاء قال السيد: 

وحّد الله. . . ولنتحدّث في هدوء. . 

فقال محمّد عفت وكاأنه يقبس لهجته من نار الخضب 
الذي توهج به محداه: 

- صدذائتنا في حرزء فلندعها جابًا... ابنك 
ياسين لا يعاشرء تحقّقت من هذا بعد أن عرفت كل 
شيء كم تصارت المسكيئة!. . . حضنت همومها 
طويلاء أخفت عبّي كل شيء. ثم بنْتها جملة حين 
تصدّع صدرها... يسهر طول الليل ويعود مع الفجر 
وهو يتلاطم مع الجدران سكراء أهانها ولفظهاء ثم 
ماذا كانت عقبى صيرها الطويل؟! أن تضبطه في بيتها 
مع خادمتها! (وبصق على الأرض)... جارية 
سود ء .و انق 1 للق ساربن كياد يورت 
السماوات» أنت أعرف الناس بمنزلتها عندي» 
كلا... وربٌ السياوات» لا كنت محمد عفت إذا 
سكت قن هاي 

قصّة معادة» ولكنٌ ثْمّة جديدًا صدمه حي زلزله 
هو قوله إِنَّْ ياسين «يعود مع الفجر وهو يتلاطم مع 
الجدران سكرًا»! . , . أعرف طريق الحالة أيضًا؟ !. , . 
متى؟.. . كيف! . . . آه ليس في الوقت متّسع للتفكير 
أو الانرعاج» ليخثّف انفعاله كله الساعة تتطلّب 
هدوءًا وضبطا للنفس» يجب أن يملك الموقف ليتفادى 
استفحال الشِرٌ. . . قال بنيرات أسيفة: 

- إن ما يحزنك يحزنبي أضعافاء ومن سوء الحخطّ أن 
سوءة من السوءات التي حدّثتني عنما لم تتصل لي بعلم 
أو تحر لي على بال اللّهِمٌ إلا الحادثة الأخيرة وقد أدٌبته 
عليها تأديبًا لا يستبيحه لنفسه أب غيري» ما عسبى أن 
أصنع؟. .. لقد أخحذته بالتأديب العنيف منذ كان 


صبيّاء ولكن وراء إرادتنا دنيا وشياطين تهزأ من 
تصميمنا وتفسد علينا نوايانا الطيبة. 

قال محمّد عفت وهو يتحاشى عيني السيّد بالنظر إلى 
المكتب: 

- لم أجئع لأوجّه إليك لومًا أو أحمّلك تقصيراء أنت 
. ولكن هذا لن يغيّر 
من الحقيقة المحزنة, وهي أنْ ياسين كان غير ما أردت 
له أن يكونء. وأنه بحالته الراهنة لا يصلح للحياة 
الروجية . 

فقال السيد في عتاب : 

دارويدك: نا اسيل مهمد ! 

فقال الرجل مستدركًا ولكن مصمّمً) على رأيه: 

على أيّ حال لن يصلح زوجنا لابنتي» سيجد من 
تقبله على علاته ولكن غيرهاء لم تخلق ابنتي لهذا. . . 
أنت أدرى الناس ممنزلتها عندي . . . 

ادق السك نر اسه هرج :رامن الرحا «وقال صرت 
منخفض . . . وكأنًا يداري ابتسامة: 

- ليس ياسين بين الأزواج بنادرة» فكم منهم من 
يسكر ويعربد ويعمل البدع! 

فقطب محمد عفْت لينفى عن نفسه شبهة الاستجابة 
لهذا الكلام الموحي بالدعابة. . . وقال بجفاء : 

إن كنت تشير إلى جماعتنا أو إِلّ أنا خاصة» فالحق 
اي اسكنو,واغربة» .واعقق» تولكق :ىبل اتخن 
حميقاء لا نوحل في القاذورات!... جسارية 
سوداء!... أهُذه التي قفى عل ابنتي بأن تتخذها 
ان دوي قاذود و كتورث المسارات دو عالن 
تكون له ولن يكون لها, . . 


أدرك السيد أحمل أنْ حمل عت را كابنته سواء 


كاب مثال يحتذى ولا تجارى. . 


بسواء ‏ مستعدٌ لأن يعفو عن أمور كثيرة؛ إلا أن يخلط 
ياسين بين كريمته وبين جاريتها السوداءء إنَه يعرفه 
تركيا في عناد البغل» ثُمُ ورد على ذهله قول صديقه 
إبراهيم الفار يوم كاشفه بنيّته في خطبة زينب لابنه 
ياسين, فقد قال له: «أصيلة بنت أصيل» محمد أخونا 
وحبيبناء ابنته ابنتناء ولكن هل فرت رويدًا في منزلة 
الفتاة من نفس أبيها. . . هل فككرت في أن محمّد عفّت 


بين القصرين 1ه 

لا يتسامح من ذرّة غبار إذا مسّت لها ظفرًا؟ !». . . 
لكنّه رغم هذا كله تعذّر عليه أن يقيس الأمور بغير 
مقياسه. وكان يفاخر دائيّاء بِأنْ محمد عفت على فظاعة 
غضبه إذا غضب, لم يحتذ عليه ولو مرّة واحدة طوال 
معاشرتهها المديدة! . . . قال متسائلا : 

- رويدكء ألا ترى أنْ مبادئنا واحدة وإن اخستلفت 
التفاصيل؟ جارية سوداء أو عالة. .. أليست كلتاهما 
امرأة؟ | 

فانتفيخت أوداج محمد عفت وضرب حافة المكتب 
:4 وانفجر قائلا: 

انث لا تعنى ما تقول! الخادمة خخادمة والسيدة 
سيّدة؛ لماذا لا تعشق الخادمات إذن؟! لم يشابه ياسين 
أباه» إني آسف لكون ابنتيى حبل» كم أكره أن يكون 
لي حفيد نجري في دمه القذارة!. . . 

وخزته الجملة الأخيرة فغضبء ولكنّه استطاع أن 
يغلق قلبه على غضبه بقوة حلمه الذي يحبو به أصدقاءه 
وأحبابه» حلم بين الأصدقاء لا يعادله في قوّته إلا 
غضبه بين آله. . . ثم قال بهدوء: 

- أقترح غليك أن تؤججل الحديث إلى وفت 
آخر. . 

فقال مممّد عنت عتدًا: 

- أرجو أن تحقق رجائي الساعة. . . ! 

آه... لقد بلغ به الامتعاض حدًا لم يكن الطلاق 
نفسه معه بالحلّ المستكره ولكنه كان يشفق على صداقة 
العمر من ناحية. وتعزٌ عليه الزيمة من ناحية أخرى. 
ألبس هو الرجل الذي يتشفع به الناس ليفضٌ 
الخصومات وليصل ما انقطم من المسوذات 
والزيجات؟!. . . فكيف تمل به الهزيمة وهو يدافع عن 
ابنه فيرضى بحكم الطلاق؟!... أين حلمه؟. . 
أين كياسته؟ . . 

دالقل فيرف :لياق لأرئق: اسداه المتداقة 
بيننا. . . فكيف أقبل أن أعرّضها للوهن؟ . . . 

فقال الرجل بإثكار: 

- صداتتنا في حرزا!... لسنا أطفالاء ولكن 
كرامتي لا يمكن أن الس 


9 ص ب 9 


بين القصرين 

قال السك جرفة: 

ماذا عسبى أن يقول الناس عن زيجة انقطعت ولما 
تتم عامها الأؤل؟ 

فقال محمد عفت بعجرفة: 

- لن يرجع عاقل العيب إلى ابنتي . . . 
قو وى فيرة اتضوق | جه : ولكنه تلقّاها بنفس 
الحلم. بدا وكأنّ اسئياءه لعجزه عن التوفيق قد غطى 
استياءه من بور الرجل الغاضب فلم يهتم بالرصاص 
المنطلق عليه اهتامه بتبرير إخفاقه... راح يعزي 
نفسه بأنّ الطلاق بيده هو وحدهء إذا شاء منحه وإذا 
شاء منعه. عمّد عفت يعلم ذلك حقٌ العلم. لذلك 
جاء يستوهبه إيّاه باسم الصداقة التي لا شفيع له 
غيرهاء فإذا قال لا فلا راد لكلمته. وسترجع الفتاة إلى 
ابنه طوعًا أو كرمًاء. .. ولكن تمسبى الصداقة القديمة 
في خبر كانء أمّا إذا قال نعم فسيقع الطلاق ولكن 
تصان الصداقة ويعترف له بالحميل. وليس من العسير 
أن يتذْرّع بكلّ أولئك في المستقبل لوصل ما انقطع. 
وإذن فالطلاق وإن يكن هزية إلا أنه هزيمة مؤقتة 
تتضمّن نسائًا ونبلا غير منكورين وقد تنقلب فورًا بعد 
حين. وما إن اطمأنٌ إلى سلامة موقفه ولو بعض 
الشيء حتّى شعر بالرغبة في معاتبته على ما فرط في 
حقه. . . فقال بلهجة ذات معنى : 

- لن يكون الطلاق إلا بموافقتي... اليس 
كذلك؟ . 
عليه: إكرامًا لك. إكرامًا للصداقة التي لم تَرْعَ لما حمًا 
في مخاطبتي. . . 

فتسّد محمّد عقت . . . إمّا ارتياحًا للنباية المنشودة أو 
احتجاجًا على عتاب صديقه أو للإثنين معاء ثم قال 
بلهجة قاطعة خلت من حدّة الغضب ولأوّل مرّة: 

- قلت ألف مرّة إن صداقتنا في حرز. . . ! إِنك لم 
تسئ إل قطء على العكس من ذلك فإنّك تكرمني 
بتحقيق رجائي وإن كرهته. . . 

فردّد السيّد قوله محزونًا : 

- نعم... وإ كرهته. . 

ثار حنقه حالما غاب الرجل عن ناظريه. انفجر 


.. بيد أثنى لن أنبذ رجاءك ما دمت مص'ا 


الغيظ المكبوت فالتهم نفسه ومحمّد عفْت وياسين. 
ياسين خاصّة. ثم تساءل: ثرى هل يمكن أن تبقى 
الصداقة في حرز حمًا فلا يصيبها رشاش الحوادث 
المتوقعة؟. . . 51. لم يكن ليضنٌ بنفيس في سبيل صون 
حياته عن مثل هذه الهرّة القاسية... لكنّه العناد 
التركيع. لكنه الشيطان» بل لكنّه ياسين» أجل ياسين 
دون غيره. . . قال له بغضب وازدراء: 

كرت صفو ودٌ لم تكن الأيام لتكذره ولو 
احتمعت له, . . 

ثم قال له بعد أن أعاد على مسمعيه حديث محمد 
حضفت . 

حيبت أملى فيك فحسبي الله ونعم الوكيل». 
ربّيتك وأدّبتك ورعيتك. . . ثم انجلى تعبي كله عن 
ماذا؟. . . سكير صعلوك تسؤل له نفسه الاعتداء على 
أحقر الخادمات في بيت الزوجيّة لا حول ولا قوّة إلا 
باللهء ما كنت أتصور أن يمخرج من حضانتي ابن على 
هذه الصورة فالأمر لله من قبل ومن بعد. ما عسبى أن 
أصنع بك؟... لو كنت قاصرًا لكسرت دماغك, 
ولكن لتكسّرئًها الأيّام. ها أنت تنال جزاءك الحقٌ 
فتسيرًا ملك الأسرة الكريمة وتبيعك بأيخس 
الأثيان! . . . 

لعلّه وجد نحوه بعض الرثاء» بَيْدَ أنْ سخطه غلب 
ثم استحال شعوره كله ازدراء. لم يعد يملا عينيه رغم 
فتوته وحماله وضخامته. يوحل في القذارة كيا قال محمد 
عفّت قاتله اللهء وعجز عن كبح جماح امرأق. ما 
أصغره» سرعان ما لحقت به المزيمة التي لم يُنْس هو 
نفسه من هوانها من جرّاء طيشه. ما أحقرهء ليسكر 
ويعربد وليعشق تحت شرط أن يظل السيّد المطاعء أمًا 
أن ينبزم على تلك الصورة المخزية فا أحقرهء لم يشابه 
أباه كا قال أيضًا عمّد عفْت قاتله الله. إن أفعل ما 
أشاء ولكئّى أظل السيّد أحمد وكفى. حكمة رائعة تلك 
التتى أهمتني أن أنشئ الأولاد على مثال فريد للاستقامة 
والطهارة» فإنْه لا يشقّ أن ينهبجوا نهجي ويحظوا ني 
نفس الوقت بالكرامة والاستقرار» ولكن واأسفاه ضاع 
جهدي هباء مع ابن هنية! . . . 


- وهل وافقت يا أبي؟... 

تردّد صوت ياسين كالحشرجة. . . فأجابه بخشونة 
قائلا : 

نعمء إبقاءً على صداقة قديمة ولأنّه أوفق حل في 
الوقت الحاضر على الأقلّ. 

جعلت يد ياسين تنقبض وتنبسط في حركة الية 
عصيية كأئما كانت تشفط الدم من وجهه حي انقلب 
شديد الشحوب» شعر بهوان لم يشعر بمثله إلا فيها كابد 
من سلوك أمّه حموه يطالب بالطلاق!... أو بمعنى 
آخر زينب تطالب بالطلاق أو على الأقلّ توافق 
عليه!. . . أيّبها الرجل وأيّتها المرأة؟! ليس عجيبًا أن 
ينيذ الانسان حذاء أمَا أن ينبذ حذاء صاحبه!! كيف 
رضي أبوه له بهذا الخزي الذي لم يسمم بمثله من 
قبل؟1!... حدج أباه بنظرة حادّة وإن عكست ما 
يعتلج في صدره من أنات الاستغاثة» ثم قال بلهجة 
حرص الحرص كله على أن ينقّيها من أي أثر 
للاحتجاج أو الاعتراض,» كأثما يريد بها أن يذكره بم 
عسبى أن يكون ألسب: 

- ثمة طريقة لمعالحة الزوج الناشز. . . 

شعر السيّد بشعور ابئه فأدركه التأثرء ولذّلك لم 
يبخل عليه ببعض ما يدور في نفسه. . . فقال له: 

أعلم ذلك..., ولكيّ اخترت أن نكون من 
الكرماء. محمّد عفّت عقل تركئ حجري ولكنّ قلبه 
من ذهبء. هذه اللقطروة ليست الأخيرة» ليست 
النباية» لم أغفل مصلحتك وإن كنت لا تستأهل 
خيرّاء دعني أتصرّف كما أشاء. . 

كا تشاء! . 
وتطلقني. .. تحييتي وتميتني» لست هناء خديجة عائشة 
فهمي ياسين. . . الكل واحد. الكل لا شيء». أنت 
كلّ شىء. . . كلا. . . لكل شيء حدّء لم أعد طفلاء 
رجلا مثلك سواء بسواءء أنا الذي أقرّر مصيري», 
أطلّق أو أودعها بيت الطاعة. تراب حذائي بمحمّد 


.. مَنْذا يردٌ لك مشيئة؟! تزوجنى 


عقت وزيب وصدافتكما. .. 


ما لك لا تتكلّم؟ . . . 


فقال دون تردذد: 


بين القصرين ١ه‏ 
امرك نا أو 
أي عيشة وأيّ بيت وأيّ أب. زجر وتأديب 
ونصائح. ازجر نفسك... أدب نفسك... انصح 
نفسك. أنسيت زبيدة؟... وجليلة؟ . . . والغناء 
والشراب؟ ثم تطالعنا بعيامة شيخ الإسلام وسيف أمير 
المؤمنين» لم أعد طفلا. اغتن بالقصر ودعني وشأني » 
تزوّج... أمرك يا فندم... طلّق... أمرك يا 
فندم . . . ملعون أبوك , 


١ 

فت حدّة المظاهرات شيئًا ما في حو الحسين بعد 
احتلال الجنود الإنجليز له فأمكن للسيّد أحمد أن 
يستائف ممارسة عادة قديمة انقطع عنبا مشطرًا إلى 
حين. أمكنه أن يصطحب أبناءه إلى مسججد الحسين 
لتادية صلاة الجمعة. . . 
عهد بعيد... كان يدعو ابنه إليها حالما يبلغ صباه 
ليوجّه قلبه إلى العبادة مبكرّاء مستوهبًا من ورائها 
المركة لنفسه ولأبئائه وللأسرة جميعًاء رتما كانت أمينة 
وحدها التي لا ترتاح إلى تحرّك القافلة في نهاية كلّ 
أسبوع حاملة رجاهاء ثلائة رجال كالجيال طولا 
وعرضًا إلى فتوتهم وإشراقهم كانت تتبعهم ناظريها 
من خصاص المشربيّة فيخيّل إليها أئْهم ملتقى الأنظار 
فتجزع وتدعو الله أن يقيهم شر العين» وما ملكت 
يومًا أن أفضت بمخاوفها إلى السيّد فبدا وكأله تائر 
لتحذيرها حيئاء بَيْد أنه لى يستسلم للخوف طويلاً وقال 
لها: «إِنَّ بركة الفريضة التي نذهب لتأديتها حقيقة بأن 

تحفظنا من كل شر . 
وكان فهمي يلي دعوة الجمعة ببشاشة قلب أولع 
بتأدية الفرائض منذ الصغرء مطيعًا في ذلك قبل 
إرادة أبيه ‏ عاطفة دينية صادقة» تمتاز إلى صدقها بقدر 
من الاستنارة لا بأس بهء استمده ما اطلع عليه من 
آراء محمّد عبده وتلاميذه. . . لذلك كان الوحيد في 
الأسرة الذي يقف من إيمابها بالتعاويذ والرقى 
والأحجبة وكرامات الأولياء موقف المتشككك؛ وإن أبت 
عليه دماثة خلقه أن يجهر بتشككه أو يعلن استهانته. 


عادة قديمة دأاب عليها من 


بل كان يتقبّل حجاب الشيخ متولّي عبد الصمد الذي 
يجيء به أبوه بين حين وآخر برضى ظاهريّ . أمّا ياسين 
فكان يلبّى دعرة أبيه لأنّه لم يكن من تلبيتها بذ لعله 
لو ترك لشأنه ما فكر يومًا في أن يدس جسمه الضخم 
في زحمة المصلّينء لا عن تزعزع في العقيدة» ولكن 
استهانة وتكاسلا... لذا كان ليوم الجمعة عنده هم 
يكابده مع مطلم الصباح» فإن حان وقت الذهاب إلى 
الجامع ارتدى بذلته في شيء من التذمّره ثم يسير وراء 
أبيه كالأسير؛ ولكن كلما اقترب من الجامع خطوة 
تخفف من تذمره رويدّاء حبّى يدخل الجامع منشرح 
الصدر فيؤدّي الصلاة ويدعو الله أن يغفر له ويعفو عن 
ذلوبهع دون أن يسأله التوبة كأنا يشفق في أعاقه أن 
يستجاب دعاؤه فينقلب زاهدًا في اللذات التي يحبّها 
حبّا لا يرى للحياة بدونه معن . كان يعلم علم اليقين 
أن التوبة واجبة؛ وأنْ مغفرة لن تكتب له بدونهاء 
ولكنّه كان يرجو أن تجيء في الوقت «المناسب» حتّى لا 
يخسر الدارَيْنَء ولذا كان على تكاسله وتذمره يحجمد في 
النهاية الظروف التي تدفعه إلى تأدية فريضة هامة 
كفريضة الجمعة يمكن ‏ عند الحساب ‏ أن تمحو بعضًا 
من سيّعاته وتخمّف من أوزاره نخصوصا وأنّه لا يكاد 
يؤدي غيرها فريضة . 

أمَا كيال فلم توجّه إليه الدعوة إلا حديئًا. مذ جاوز 
العاشرة» ممض إلى تلبيتها في زهو وخيلاء وفرح» شعر 
شعورًا غامضًا بأمْها تتضمّن اعترافا بشخصههء وأنمْها 
تمنحه مساواة من نوع ها مع فهمي وياسين وأبيه 
نفسهء ثم سرّه على وجه الخصوص أن يسير في ركاب 
أبيه آمنًا دون أن يتوقع من ناحيته شرّاء وأن يقف في 
الجامع إلى جانبه على قدم المساواة مؤتمين جميعًا بإمام 
واحد. بيد أنه كان يستغرق في صلاته اليومية ‏ في 
البيت ‏ استغراقًا لا يظفر بمثله في صلاة الجمعة بالنظر 
إلى ما يعتريه من ارتباك لقيامه وسط خلق لا يحيط بهم 
حصرء ولإشفاقه من أن تند عنه هفوة فتلتقطها إحدى 
حواسٌ أبيه؛ إلى أن شدّة شعوره بالحسين ‏ الذي يحبّه 
أكثر من نفسه ‏ وهو في مسجده كانت تحول بينه وبين 


التوجّه الخالص لله كما ينبغي للمصل . . . 


هكذا رآهم طريق النحّاسين مرّة أخرى وهم يحون 
الخطى إلى بيت القاضي» السيّد في المقدّمة ويامسين 
وفهمي وكال وراءه صفاء حبّى اتهذوا مجالسهم في 
الجامع وراحوا ينصتون إلى خطبة الجمعة بين رءوس 
مشرئبة إلى المنبر في صمت شامل» لم يكن السيد على 
شدّة إنصاته يكف عن الدعاء الباطبيّ: وتوجّه قلبه إلى 
ياسين خاصّة» كأنمًا رآه بعدما لحق به من عثار اللحظ 
أحقٌّ بالرحمةء فدعا الله طويلا أن يصلح من شأنه 
ويقوم ما اعوحٌ من أمره ويعوضه عا فقد خيرًا. . . 
على أن الخطبة جبهته بمعاصيهء أخخلت ما بينه وبينها 
فطالعها وجهًا لوجه في هالة مرعدة من صوت الواعظ 
الجهوريّ الرئان الناقد حثّى خخيّل إليه أنه يعنيه 
بالذات» وأنّه يش على أذنه صارخا فيها بأعلل صوئثه. 
وأنه لا يستبعد أن يخاطبه باسمه قائلا: ويا أحمد 
اافحري . تومن لقنس والشير ره إلا 
ربك» فألم به قلق وضيق كا ألما به يوم ناقشه الشيخ 
متول عبد الصمد الحساب», وهو ما يقع له كثيرًا عند 
ساع الخطبة فيسترسل في طلب الغفران والعفو 
والرحمة» ولكنه - كابنه ياسين- لم يكن يطلب التوبة 
وإن طلبها فبلسانه دون قلبه. يقول بلسانه «اللَّهم 
التوبة» على حين يقتصر قلبه على طلب الغفران والعفو 
والرحمة كاءهها آلتان موسيقيّتان تعزفان معًا في أوركسترا 
واحد فتصدر عنه) نغمتان مختلفتان» لأنه لم يتصور أن 
يرى الحياة بغير العين التي يراها بها ولا أن تبدو له بغير 
الوجه الذي تبدو بهء فإذا ألحّ عليه القلق والضيق 
المستوليان عليه مبض للدفاع عن نفسه... ولكنْه 
يلقى دفاعه في صورة دعاء واستغفار فيقول «اللّهمّ 
إن أعلم بقلبي وإيماني وحبي» اللّهمّ زدني استمساا 
بأدية فرائضك وقدرة على صنع الخير اللّهمّ إِنْ 
اللعحة تعفر االتها اليه :رتلف نتن العفمور 
الرحيم؛. . . ومبذا الدعاء تعاوده الطمأنينة رويدًا. 

لم تكن لياسين مثل هذه المقدرة على التوفيق أو أنه 
لم يشعر قط بحاجة إليهاء لم تكن موضع تفكيره يومّاء 
هيم بالحياة كى| يشتهي ويؤمن بالله ىا يؤمن بوجوده 
هوء ثم يستسلم للتيّار دون مقاومة أو ممانعة» قرعت 


أذنيه كلمات الواعظ فتحرّك صوته الباطنيّ سائلا الرحمة 
والمغفرة بطريقة آليّة وفي طمانينة شاملة دون أن 
يستشعر خطورة حقيقيّة: إِنْ الله أرحم من أن يحرق 
مسد مثله بهفوات عابرة لا تؤذي أحدًا من عباده. ثم 
هنالك التوبة!. .. ستأق «يوما» فتمحو ما قبلها. 
واسترق: نظرة إل آبية: وتساءل وغؤ يعفن :عل شقديه 
كأتما يكتم ضحكة نافرة مما عبى أن يدور بخاطره وهو 
ينصت ببذا الاهتام البادي إلى الخطبة؟ . . . أهو يعاني 
العذاب كل صلاة جمعة أم تراه ينافق ويجادع؟. . . 
كلا. . . لا هذا ولا ذاك. . . إِنّْه مثله ‏ ياسين ‏ يؤمن 
برحمة الله الواسعة. لو أنْ الأمر بالخطورة التي يصفه 
بها الواعظ لاختار أبوه إحدى السبيلين» استرق إليه 
نظرة أخرى فرآه كالجواد الكريم الجميل بين القاعدين 
اللتطلعين إلى المنبرء» شعر نحوه بإعجاب وحبٌ 
خالصين» لم يعد للحنق أثر في نفسه؛ ومع أنْ الغضب 
بلغ به مداه يوم الطلاق. حيّى بتُ همه إلى فهمي 
قائلا : «لقد خحرب أبوك بيتى وجعلني أضحوكة بين 
الناس» إلا أنه تنابى الآن حنقه كما ثناسى الطلاق 
واللتغريسة بوك[ شويع :3 :16 الرامظ نفنست لبن شين 
من أبيه. . . بل هو على وجه اليقين أمعن في الضلال؛ 
حدّثه عنه مرّة أحد الأصحاب في قهوة أحمد عبده 
بالله في السماء وبالغلان 
في الأرضء إنه من طراز حشّاس ترف عينه وهو في 
الحسين إذا تأوه غلام في القلعة)؛ بيد أنه لم يحقد عليه 
لذاك؛ وعلى العكس وجد فيه كما وجد في أبيه ما يجد 
الحندي في الخنادق المحفورة في الخطوط الأماميّة التي 
على العدرٌ أن يقتحمها قبل أن يصل إليه. 

ثمّ دعا الداعي إلى الصلاة فقام الرجال قومة 
واحدة. وقفوا صفوفا متراضّة ملأت صحن الجامع 
الكبيي فنان المتحاة احيياذا ولفون) دوكر كال 
احتشادها مشهد المحمل في النحّاسين واتصلت الأزياء 
في خطوط طويلة متوازية ونحدتمها البِدّل والحبب 
والجلاليب» ثم انقلب الجمع جسعًا واحدا تصدر عنه 
حركة واحدة مستكدرفا قيلة واحدة» وترذدت التلاوات 


فقال: «إِنّه يؤمن بشيئين. . . 


الهامسة في همهمة شاملة حبّى أذن بالسلام... عند 


بين القصرين 7ه 
ذاك انتثر سلك النظام: استردّت الحرّية أنفاسهاء 
عبض كل لوجهتهء منبم من قصد الضريح للزيارة 
ومنهم من ابه نحو الأبواب للخروج ومنهم مخ :تلق 
للحديث أو تريّث حتّى يخفت الزحام. . . فاختلطت 
تيّاراتهم أيما انتشار» أزفت الساعة السعيدة التي مني 
كبال مها. . . ساعة الزيارة ولثم الجدران وقراءة الفاتحة 
إصالة عن نفسه وإنابة عن أمّه كما وعدهاء بدأ يتحرّك 
.. وما يدري إلا وشابٌ أزهريّ 
يبرز من الزحمة فجأة فيعترض سبيلهم في حركة عنيفة 
لافتة للأنظارء ثم بسط ذراعيه لينحّي الئاس جانبا 
ومضى يتقهقر أمامهم وهو يتفخص ياسين بنظرات 
اقبة مريبة وقد عبس وجهه وتطايرت نار الغعضب من 
صفحته المكفهرّة. عجب السيّد له فجعل يردد بصره 
بينه وبين ياسين» على حين بدا ياسين أشدٌ عجبا فراح 


بدوره يردد بصره بيئه وبين أبيه متسائلاء ثم انتبه 
أناس إلى المشهد فركّزوا فيه أنظارهم مترقبين في دهشة 
واستطلاع وعند ذاك لم يتمالك السيّد أن خخاطبه متسائلا 
في استياء : 

ما لك يا أخي تنظر إلينا ممكذا؟ ! 

فأشار الأزهريّ إلى ياسين وصاح بصوت كالرعد: 

جاسوس ! 

نفذت الكلمة إلى صدر الأسرة كالرصاص فدار 
رأسها وحملقت أعينها وجمدت في أماكنهباء على حين 
جرت التهمة على الألسن فردّدتها في فزع وحئق وأخذ 
الناس يتجمعون حوهم وأذرعهم تشتبك في حذر 
لتحصرهم في دائرة ما لها من منفذ. وكان السيد أول 
من ثاب إلى وعيه. ومع أنه لم يفهم شيثًا مما يدور 
حوله. . . إلا أنه أدرك خطورة الصمت والانكماش 
فهتف بالشابٌ غاضبًا: 

ماذا تقول يا سيّدنا الشيخ؟... أيّ جاسوس 
تعبى؟ ! 

رقن تقاف 1 ناه انيدي بلا قناز مزه ارك إن 
ياسين وصاح : 

حذار أيّها الناس. هذا الشاتث الخائن .جاسوس 
من جواسيس الإنجليز اندسٌ بينكم ليتسقّط الأنباء ثم 


ينقلها إلى سادته المجرمين. 

ركب الغضب السيّد فتقدّم من الشابٌ خطوة 
وصاح به غير متمالك نفسه : 

أنت برف بما لا تعرف»ء فإمًا أن تكون مجرما أو 
مجنونّاء هذا الشابٌ ابن لا خخائن ولا جاسوس. كلنا 
وطنيون وهذا الى يعرفنا كا نعرف أنفسنا. 

فهر الشابٌ منكبيه استهانة وصاح بصوته الخطابي : 

جاسوس إنجليزيّ حقير» رأيته بعيني رأسي مرارا 
وهو يناجي الإنجليز عند بين القصرين. عندي شهود 
على ذلك. ولن يجرؤ على تكذيبي . . . إن أتحدّاه. . . 
لوقيل لقان ب 

وتجاوبت في أركان الجامع دمدمة غاضبة» تعالى 
المتاف هنا وهناك (ليسقط الجاسوس») وصاح غيرهم 
«فليؤدب الخائن». 

ولاحت في أعين القريبين د الوعيد تترصد بادرة 
أو إشارة كي تنقضٌ على الفريسة. لعلّه م يؤر 
إقدامها إلا منظر السيّد المؤثر الذي وقف لصق ابنه 
كائما يتلفى عنه ما يتهدّده من أَذْىء ودموع كيال الذي 
أغرق في الانتحاب» أمَا ياسين فقد وقف بين السيد 
وفهمي فاقد الوعي من الاضطراب والوجل. وجعل 
يقول بصوت متهدج ' يسمعه أجل : 

- لست جاسوسا. . . لست جاسوسا. . . الله على 
صدفق قولي شهيك. . . 

ولكنّ الغضب بلغ بالناس مداهء فتجمهروا حول 
الدائرة المحصورة وهم يتدافعون بالمناكب ويتوتهدون 
«الجاسوس» شرًاء على أنْ صوبًا من وسط الزحام 
ارتفع هاتفا: 

تمهّلوا يا سادة.. 
مدرسة النحاسين. . . 

فانطلقت أصوات كاغدير: 

مدرسة النحّاسين أو الحدادين فليؤدب الخائن. 

وكان رجل يشقّ طريقه بين الأجسام بصعوبة ولكن 
بعزم لا يقهرء فا بلغ الصف الأماميّ حبّى رفع يديه 
وهو يزعق: و«اسمعوا... اسمعواء. ولمًا هدأت 
الأصوات قليلا قال وهو يوميء إلى السيّد أحمد: 


هذا السيّد أحمد عبد الجواد من أهل النحاسين 
المعروفين... ولا يمكن أن يضِمٌ بيه جاسوساء 
فتريئوا حتّى تنجلي الحقيقة . 

ولكنّ الأزهريّ صرخ حائقًا : 

لا شأن لي بالسيّد أحمد أو السييد محمد. هذا 
الشابٌ جاسوس مهما يكن من أمر أبيه. رأيته يضاحك 
الجلادين الذين زحموا القبور بأبنائكم . 

وما عتم أن صاح أناس لا حصر هم : 

- ليضرب بالأحذية , . . 

وسرت في المتجمهرين حركة عنيفة» فأقبل 
متحمّسون من كل صوب ملوّحين بالأحذية والمراكيب 
حبّى شعر ياسين بالاميار واليأسء دارت عيناه فيا 
حوله فلم تقعا إلا على وجه متحرّش يفور بالغضب 
والبغضاء. والتصق السيد وفهمي بجانب ياسين 
بحركة غريزيّة كأنًا ليدفعا عنه الأذى أو ليقاساه يا 
وهما على حال من اليأس والقهر لم تكن دون ما يأخخذ 
بخناقه على حين انقلب انتحاب كيال صرانما كاد 
يفطي على أصوات الثاثرين. كان الأزهري أول 
المهاجمين فرمى بنفسه على ياسين قابضًا على بنيقة 
قميصه ثم جذبه بعنف لينتزعه من المأوى الذي لاذ به 
بين أبيه وأخيه حيّى لا تخطئه الأحذيةء ولكنْ ياسين 
قيض على معصميه مقاومًا ودخل السيّد بيههاء ورأى 
فنهمي أباه في الموقف المثير لأول مرة في حياته. . . 
فاستفزه غضب شديد أذهله عنًا يحدق بهم من خطر»ء 
دفع الأزهريّ في صدره دفعة قوية ردّته إلى الوراء 
فصاح به متوعّدًا : 

حذار أن تتقدّم خطوة واحدة! 

فصرخ الأزهريّ وقد حجن جنونه : 

ابوه يماي 

عند ذاك علا صوت قويٌ يقول بلهجة آمرة: 

- انتظر يا سيّدنا الشيخ . . . انتظروا جميعا. . . 

فاتمهت الأنظار إلى الصوت» فإذا بأفندي شابٌ 
يبرز من بين الجموع إلى الدائرة المحصورة يتبعه ثلاثة 
في مثل سئه وزيهء تقذموا في خطوات ثابتة توحي 
بالثقة والعزم حتّى وقفوا بين الشيخ وذويه. تهبامس 


كفيزون مساتان ومولسن . .. سولنسن 9ه تند أن 
التساؤل انقطع حيئا مد الأزهري يده إلى يد قائد 
الجماعة وشدّ عليها بحرارة» ثم سأل الأفندي الأزهري 
بشرات ححاسمة : 

ب أين هذا الحاسوس؟ 

فاشار الشيخ إلى ياسين بازدراء وتقززء فالتفت 
الشات إليه وثيّت عليه عينيه متفخصًا إياه بدقة 
وقسوة» وقبل أن ينبس بكلمة تقدّم فهمي خطوة إلى 
الأمام كآتما ليسترعي التباهه فلمحه الآخر... 
وسرعان ما انّسعت عينئاه دهشة وإنكارًا فغمغم قائلا: 

ودانقاك :... 

فابتسم ابتسامة شاحبة وقال بلهجة لا تخلو من 
_0 الجاسوس أنحي ! 

فالتفت الشابٌ إلى الأزهرئّ متسائلا : 

أأنت متاكد مما تقول؟ 

فبادره فهمي قائلا : 

رتما صدق في قوله. . . إِنّْه رآه يحادث الإنجليز 
ولكن أساء التفسير أتما إساءة. إن الإنجليز معسكرون 
أمام بيتنا وهم يتعرّضون لنا في الذهاب والاإياب 
فنتورّط أحيانًا في محادئتهم على كره.. هذا كل ما 
هئالك , 

وهم الأزهريّ بالكلام ولكنّ الشابٌ أسكته بإشارة 
من يده؛ ثم خاطب المع قائلا وهو يضع يده على 

هذا الشابٌ من الأصدقاء المجاهدين». كلانا 
يعمل في لحنة واحدة فكلامه عندي مصدّق. . . أخلوا 
سبيلهم . 

لم ينبس أحد بكلمة؛ انسحب الأزهري بلا ترذد 
ومضى الئاس يتفرّقون: صافح الشابٌ فهمي ثم ذهب 
يتبعه رفاقهء ريّت فهمي على رأس كمال حقٌ كف عن 
البكاء» ساد الصمت فأخل كل يضِمّد جراحه» انتبه 
السيّد إلى وجوه نفر من معارفه قد أحاطوا به وراحوا 
يواسونه ويعتذرون إليه عن الخطأ الكبير الذي وقع فيه 
الأزهريٌ ومن ضل به من الناس» ويؤكدون له أئهم م 


بين القصرين هه 
يألوا جهذا في الدفاع عنه فشكرهمء وإن كان لا 
يدري متى جاءوا ولا كيف دافعوا عنه.» وعدل عن 
الزيارة لما استحوذ عليه من انفعال فاتهه صوب الباب 
مطبق الفم متجهم الوجه وتبعه الأبناء في صمت 


"5 

في الطريق استرد أنفاسه. فداخخحله ارتياح لابتعاده 
عن الناس الذين شاركوا في «الحادث» ولو بمجرّد 
الرؤية. كره وقتذاك كل شيء وراءه وقذفه باللعنات. 
لم يكد يرى من الطريق الذي يسير فيه شيئاء فتبادل 
التحيّة مرّتين مع اثنين من معارفه على نحو مقتضب 
متكلّف لم يعهد فيه من قبل» تركز شعوره في ذاته - 
ذاته الحريحة ‏ وسرعان ها فار بالغضب. . . كان أحبٌ 
إليّ أن تنتهي الحياة من أن أقف ذلك الموقف المزري» 
كالأسير بين طغمة من اللثامء وهذا المجاور المقمّل 
مدّعي الوطنيّة الجوعان تبججم عل بكل وقاحةء لم يَرْعَ 
لي حرمة سن أو مهابة» لم أخلق لمذاء ليس «أناء 
الذي يبان بتلك الكيفية. وبين أبنائي... لا 
تعجب. .. أبناؤك هم أصل البلوى. . . هذ الثور 
ابن المره لن يعفيك من متاعبك أبدًا. فقس الفضائح 
في بيت وأوقع بيني وبين أعز الأصدقاء» ثم توج عامنا 
بالطلاق... لم يكفه هُذا كله كلا. ابن هنيّة لا بد 
أن يسامر الإنجليز جهارًا كي أدفع أنا الثمن للسفلة 
المتهجمين. اذهب بهم إليها كي يكمل متحف عشاقها 
بالإنجليز والأستراليين . 

- يبدو لي أنْني لن أخلص العمر من متاعبك؟ 

ندّت عنه هله الجملة بحدّةء بيد أنه قاوم رغبته في 
تأدييه لأنه رغم غضبه قدّر حاله الذي يرثى لهاء رآه 
ذاهلاً شاحبًا متوتمكًا فلم تطاوعه نفسه في الهجوم 
عليه حسّبه الآن ما حاق به. ليس وحده الذي 
يتحفه بالمتاعب» هنالك البطل» ولكن فلنؤججل همه 
حتّى نفيق من متاعب الثورء ثور في البيت» في 
الحانة. . . ثور أمام أمْ حنفي ونورء أما في المعركة فهو 
رطل خرع لا فائدة منه ولا عائدة» يا أولاد الكلب! 


5"ة بين القصرين 
الله يقسطع الأولاد والخلف والبيوت». آه... لماذا 
تسوقني قدماي إلى البيت؟!.. لم لا أتناول لقمني 
بعيدًا عن الحو المسموم؟! ستولول هي الأخرى إذا 
علمت بالخبر. لست في حاجة إلى مزيد من القرف. 
إلى الدمّان. .. سأجد حمًا صديمًا أقصٌ عليه رزيتي 
وأشكوا إليه هنّي . . . كلا. . . لدي متاعب أخرى لا 
تقبل التأجيل أكثر من هذا. البطل» مصيبة جديدة 
يجب أن نجد ا علاجًاء إلى الغداء المسموم. 
وَلولي... ولولي... ولولي... ملعون أبوك أنت 
الأخرى. 

لم يكد فهمي يغيّر ملابسه حبّى دُعي إلى مقابلة 
والده. فلم يملك ياسين على خموده وكربه إلا أن 
يغمغم قائلا: 

جاء دورك , , . 

فتساءل فهمي متجاهلا المعنى الكامن وراء ملاحظة 
أخحيه : 

- ماذا تعبي؟ 

فضحك ياسين ‏ أجل وسعه أخخيرًا أن يضحك - 
وقال: 

- انتهى دور الخونة وجاء دور المجاهدين. . . ! 

َشْدٌ ما تي أن تغيب النعوت التي نعته بها صديقه 
في الجامع وراء ضِبّة الثورة وذهول الانفعال» ولكنّها 
لم تغب» ها هو ياسين يردّدهاء ولا شك أن أباه يدعوه 
من أجل مناقشتها. تتبّد فهمي من الأعباق ثم ذهب. 
وجد السيّد متربّعًا على الكنبة يعبث بحبات سبحته 
وف عيليه نظرة تنم عن تفكير كثيب» فحيّاه بأدب جم 
ووقف على بعد مترين من الكنبة في خضوع وامتثال. 
ورد الرجل تميّته بحركة خفيفة من رأسه تدلٌ على 
الضيق أكثر مما تدلّ على التحيّة. وكأنما تقول له: «إني 
أردّ تحيّتك مرغئًا كا تقضي اللياقة ولكن أدبك الزائف 
هذا لم يعد ينطلي عل». ثم حصدجه بنظرة متجهمة 
ينبعث منها شعاع الارتباك كانه مصبادح كشّاف يفتش 
عن مختبئ بالظلام وقال بحزم : 

دعوتك لأعرف كل شيء. أريد أن أعرف كل 
شيء ماذا قصد في لجنة واحدة؟ صارحني بكل شيء 


دون كردة.: 

ومع أن فهمي اعتاد في الأسابيع الأخيرة أن يواجه 
أخطارًا شيٌّء حيّ الطلقات الناريّة ألف أزيزهاء إلا 
أنّه لاقى تحقيق أبيه بقلب ما قبل الغورة» ركبته الرهبة 
وشعر بأنه لا شىء» وتركز تفكيره في تحاشيى غضبه 
ونشدان النجاة فقال برقة وأدب : ْ 

الأمر بسيط جدًا يا بابا» لعل صديقي بالغ في 
قوله كي ينتشلنا من ورطتنا. 

فقال السيّد وقد نفد صيره: 

الأمر بسيط جدًا. . . عال... ولكن أي أمر 
هو؟.., لا خف عنّى أيّ شيء. 

وكان فهمي يقلب الأمر على مختلف وجوهه في 
سرعة خاطفة ليختار ما يصِحٌ قوله وتؤمن مغبته. . . 
قال : 

سّاها لجنة وهي لا تعدو أن تكون ماعة من 
الأصدقاء يتحدّئون كلما اجتمعوا في الشكون الوطنيّة . 

أهذا استحققت لقب المجاهد. , , ؟! 

نطق صوث الرجل بالاستئكار العنيف كأتما عر 
عليه أن يحاول ابنه اللعب به.. وارتسم الوعيد في 
تجعيدات عبوسته. فسارع فهمي ‏ دفاعا عن النفس - 
إلى الاعتراف بشيء ذي بال ليقنع أباه بأنه امتثل لأمره 
كالمتهم الذي يتطوّع بالاعتراف طمعًا في الرأفة. . 
قال فيها يشيه اللحياء : 

يحدث أحيانًا أن نقوم بتوزيع بعض النداءات 
الحائثة على الوطنيّة. . . 

فتساءل السيّد بانزعاج : 

- المنشورات! . . . هل تعني المنشورات؟ ! 

ولكنّْ فهمي هر رأسه سلبّاء خاف أن يعترف بهذا 
الاسم الذي يقرن في البلاغات الرسميّة بأقصى 
العقوبات» وقال بعد أن وجد صيغة مقبولة تخفف من 
خطورة اعترافه : 

- ليست إلا نداءات تحثٌ على حب الوطن. 

ترك الرجل السبحة تسقط من يذه إلى حجره. 
وراح يضرب كما على كف ويقول وهولا يتمالك نفسه 


- أنت من موزّعي الماشورات!. .. أنت!. . 

زاغ بصر السيّد من شذة الانزعاج والخضب: 
موزّع منشورات! . . . من الأصدقاء المجاهدين!. .. 
كلانا يعمل في لحنة واحدة!... هل بلغ الطوفان 
مرقده؟!. .. طالما راعه فهمي بأديه وبره وذكاثئه, لولا 
أنّْ الثناء ُْ نظره مفسدة وأنْ الفظاظة تهذيب وتقويم 
لأوسعه ثناء. كيف التجل هذا كله عن موزع 


منشورات... مجاهد... كلانا يعمل في لخنة 
واحدة؟! . . .. إنّهِ لا محتقر المجاهدين. هو أبعد ما 


يكون عن ذلك. طلا تابع أنباءهم بحماس ودعا لحم 
عقب كلّ صلاة بالتوفيق» طلما ملأته أخبار الإضراب 
والتخريب والمعارك أملا وإعجابًاء ولكنّ الأمر يختلف 
كل الاختلاف إذا صدر عمل من هذه الأعمال عن ابن 
من أبنائه. كأئهم جنس قام بذاته خارج نطاق 
التاريخ , هو وحده الذي يرسم لهم الحدود لا الثورة 
ولا الزمن ولا الناسء» الثورة وأعبالها فضائل لا شك 
فيها ما دامث بعيدة عن بيته. . . فإذا طرقت بابه. 
وإذا جمدّدت أمنه وسلامه وحياة أبنائه» تغيّر طعمها 
ولونها ومغزاهاء انقلبت هوسًا وجنونًا وعقوقا وقلة 
أدسء فلتشتعل الثورة في الخارج وليشارك فيها هو 
بقليه كله وليبذل ها ما في وسعه من مال... وقد 
فعل ولكنّ البيت له وحده دون شريك» ومن تحذثه 
نفسه ‏ فيه بالاشتراك في الثورة فهو ثائر عليه هو لا 
على الإنجليز» إنه يترحٌم ليل بهار على الشهداء 
ويعجب كلّ الإعجاب بالشجاعة التي يتذرّع بها آهم 
فيا يروي الرواة» ولكنّه لن يسمح لابن من أبئائه بأن 
ينضمٌ إلى الشهداء ولا تطيب نفسه ببذه الشجاعة التي 
يتذْرّع بها آلهم. فكيف سولت نفس فهمي له بالوقدام 
على هذه الخطوة الحنونية؟. . . كيف ارتضى - وهو خير 
أبنائه ‏ أن يعض نفسه إلى الهلاك المبين؟. . . انزعج 
الرجل انرعاجًا لم يشعر بمثله من قبل» فاق انزعاجه في 
مأزق الجامع نفسهى فلم يتهالك أن يسأله بصرامة 
ووعيد كأنّه أحد مفتّثي البوليس الإنجليزي : 

ألا تعلم ما ججزاء الذي يضبط وهو يوزع 


منشورات:: ...ا 

رغم خطورة الموقف وما يقتضيه هن تركيز فكره 
فيه» أيقظ السؤال ذكرى قريبة اهترت ها نفسهء. 
ذكرى هذا السؤال نفسه بنصّه ومعناه حينا طررحه عليه 
الرئيس الأعلى للجنة الطلبة التنفيذيّة ‏ بين جملة أسئلة 
أخرى ‏ وهو بصدد اختياره عضوا فيهاء ثم ذكر بالتالي 
كيف أجابه وقتذاك بعزم وحماس «كلْنا فداء للوطن» 
وقارن بين الظرفين اللذين ألقى فيهما السؤال الواحدع 
فاعتراه شعور بالسخرية» بَيْد أنه أجاب والده برقة 
وبصوت يوحي بالتهوين : 

إن أقوم بالتوزيع بين الأصدقاء من الزملاء فقط 
ولا شأن لي بالتوزيع العامٌ. .. فليس ثمّة مخاطرة أو 

فهتف السيّد بغلظة وكأنه يداري خوفه على ابنه 
بحذة الغضب: 

إِنْ الله لا يكتب السلامة لمن يعرّض نفسه 
للفاالكف: وق أيرنا سحاته بالا عرض امنا 

ود الرجل أن يستشهد بالآية الي تترجم هذا 
المعنىء ولكنّه لم يكن يحفظ من القرآن إلا السو 
القصيرة الى يتلوها في صلواته. فخاف أن يسهو عر 
لفظ أو يحرّفه فيحمّل نفسه وزرًا لا يغتفرء فاكتفى 
بترديد المعنى وكرّره حبّى بلغ مداه. ولكنّه ما يدري إلا 
وفهمي يقول بلهجته المهأبة : 

ولكنّ الله يحت المؤمنين على الجهاد كذلك يا 
اناي 
ساءل فهمي نفسه فيم| بعد متعجّبًا كيف واتته 
شجاعته على مجاببة السيّد بهذا القول الذي فضح ما 
داراه من استمساك برأيه!... لعلّه احتمى بالقرآن 
فوقف وراء معن من معانيه مطمئنًا إلى أن أباه 
سيحجم في تلك الحال عن مهاجمته. وقد بوغت السيّد 
مباغتة شديدة بجرأة اننه:وحتعة كا ولكنةه ' 
يستسلم للغضب لأنْ الغضب ريما أسكت فهمي 
ولكنّه لن يسكت ححجته. فتناسبى جرأته إلى حين ريثا 
يقرع حجّته بحجّة مثلها من القرآن نفسه حتى نتم 


بين القصرين 
المداية للابن الضالٌ. وله بعد ذلك أن يعود إلى 
محاسبته كيفم| شاءء وفتح الله عليه فقال: 

ذاك كان جهادًا في سبيل الله . . . 

اعتبر فهمي جواب آبيه قبولا للمناقشة والمحاجة. 
فتشججع مرة أخرى قائلا: 

جهادنا في سبيل الله كذلك. كل جهاد شريف 
نيو اسيل الا 

آمن السيّد بقوله في قلبهء ولكنّ هذا الإيمان نفسه 
وما خلفه من شعور بالضعف أمام محدّئه, هو ما جعله 
يرتدٌ إلى غضبه دون إبطاء. .. بَيْد أنه لم يكن غضبًا 
لكبريائه فحسبء ولكن أيضًا لإشفاقه من أن يتهادى 
الشاب في غيّه حتّى يودي بنفسه. فكف عن الجحذل 
وتساءل مستئكرا : 

أحسبتني قد دعوتك لتناقشبي ! 

انتبه فهمي إلى ما تنطوي عليه كليات أبيه من 
نذيرء فضاعت أحلامه وانعقد لسانه. . . أمَا السيّد 
أحمد فعاد يقول بحذة: 

لا جهاد في سبيل الله إلا ما أريد به وجه الله 
وحده - أي الجهاد الديني ‏ لا جدال في هذا!... 
والآن أريد أن أعرف ألا يزال أمري مطاهًا؟ 

فبادره الشاث قائلا : 

- بكل تأكيد يا بابا. . . 

- إذن اقطع كل صلة بينك وبين الثورة. .. ولو 
اقتصر دورك على توزيع المنشورات على خاصصة 
أصدقائك! 

إن قوّة في الوجود لا يمكن أن تحول بينه وبين واجبه 
الوطبيّ! لن يتراجع مطلمًا ولو خصطوة واحدة» انتهى 
زمان ذلك إلى غير رجعة, إِنَّ هله الحياة الحارّة الباهرة 
التي تنبعث من أعماق قلبه وتضىء جوانب نفسه لا 
يمكن أن تغيض وهيهات أن يغيضها هو بيده. كل هذا 
حقّ لا شك فيه؛ ولكن لماذا لا يلتمس وسيلة إلى 
إرضاء أبيه وتحامي غضبه؟!. . . إنّه لا يستطيم أن 
يتحدّاه ولا أن يجهر بمخالفة أمره. . . أجل استطاع أن 
يثور على الإنجليز وأن يتحدّى رصاصهم كل يوم 
تقريباء ولكنّ الإنجليز عدوٌ مخيف وبغيض معًا أمَا أبوه 


فرجل مخيف ومحبوب. وهو يعبده بقدر ما يخافه فلن 
بون عليه أن يصدمه بعصيانء وثمة إحساس آخخر لا 
سبيل إلى تجاهله هو أنْ وراء الثورة على الإنجليز مثاليّة 
نبيلة» أمّا وراء التمرّد على أبيه فليس إلا الخنزي 
والتعاسة» وماذا يدعو إلى هذا كلّه؟!... لماذا لا 
بعده بالطاعة ثم يفعل ما يشاء؟!. .. لم يكن الكذب 
في هذا البيت بالرذيلة المخزية؛ ولم يكن في وسع أحد 
مهم أن يتمتّع بالسلامة في ظلّ الأب دون حماية من 
الكذب» وهم يجاهرون به في| بينهم وبين أنفسهم. 
بل ويتفقون عليه في الموقف الحرج. وهل كان في نيّة 
الأمّ يوم تسلّلت في غيبة السيّد إلى زيارة الحسين أن 
تعترف بفعلتها؟ وهل كان في وسع ياسين أن يسكرء 
وهو أن يحب مريم. وكيال أن يتعفرت بين خان جعفر 
والخرنفش بلا حماية من الكذب؟1... ليس الكذب 
م يتورّع عنه أحد منهم ) ولو أنْهم التزموا الصدق مع 
أبيهم ما ذاقوا للحياة طعئّاء هذا كله قال مهدوء: 

- أمرك مطاع يا بابا. , . 

وأعقب هذا التصريح صمت تنفس فيه كلاهما من 
الراحة» فظن فهمي أن استجوابه قد انتهى بسلام» 
وظنّ السيّد أحمد أنّه انتشل ابنه من الماويةء وبينها كان 
فهمي ينتظر أن يؤذن له بالانصراف, قام الأب فجأة 
واتمه إلى صوان الملابس ففتحه ودس يده فيه والشابٌ 
يراقبه بعينين لا تدركان شيئًا ثمّ عاد إلى مجلسه حاملا 
القرآن» ونظر إلى فهمي مليًا ثم مد يده بالكتاب إليه 
وهو يقول : 

- أقسِم لي على هذا الكتاب. . 

وتراجع فهمي بحركة عكسيّة ندّت عنه قبل أن 
يتدبئر أمره. كأنما يفرّ من لسان لحب امتلٌ إليه فجأق. 
وتسمّر في موقفه وهو يحملق في وجه أبيه مرتبنًا 
مذعورًا يائسّاء فلبث السيّد مادا يده بالكتاب وهو 
ينظر إليه في غرابة وإنكار» ثم احمر وجهه كانه يلتهب 
وانبعث هن عينيه بريق مخيف» وتساءل في ذهول وكأنه 
لا يصدق عينيه : 

ألا تريد أن تقسم؟! 

ولكنّ لسان فهمي انعقد فلم ينبس بكلمة وم يبد 


حراكّاء فتساءل الرجل بصوت هادئ تخلّلته رعشة 
متهدّجة أنذرت بما يفور تحته من غضب مستعر كما 
ينذر البرق بقعقعة الرعد: 

أكنت تكذب علٍ...؟ 

م يطرأ على فهمي تغيّر إلا أنه غضٌ بصره فرارًا من 
عينيى أبيهء ووضع السيّد الكتاب على الكنبة ثم انفجر 
صائحًا بصوت مدوٌ خاله فهمي كفوفا بجوي على 
احديه : 

أنت تكذب عل يا بن الكلب! . . . أنا لا أسمح 
لخلوق بأن يضحك على ذقني, ماذا تظنٌ بي وماذا 
كلب خدعت بظاهرها طويلاء لن أنقلب امرأة على 
آخمر الزمن. سامع؟! لن أنقلب امرأة على آخخر 
الزمن. حيّرتموني يا أولاد الكلب وجعلتموني أضحوكة 
الناس» أنا أسلمك بنفسي إلى البوليس» فاهم؟! 
بنفسى يا بن الكلب, الكلمة هنا كلمتي أناء أنا أنا 
أنا. . ٠.‏ (ثم متنا لا الكتاب مرة أخرى) أقسِم... 
آمرك بأن تقسِم. . . 

بدا فهمي وكأنّه في غيبوية» كانت عيناه مثبتتين على 
بعض الصور الغريبة المنقوشة على السبادة الفارسيّة 
دون أن تريا شيئاء وكأنْ تلك النقوش قد انطبعت 
بإدامة النظر على صفحة عقله فاستحال شتينًا من 
الفوضى والخواء؛ وكلّم) مرّت ثانية أمعن في الصمت 
والياس» لم يبق له إلا أن يلوذ بهذه المقاومة السلبيّة 
اليائسة» ونبض السيّد والكتاب في يده فاقترب خخطوة 


أنت حشرة خبيثة مجرمة» بنت 


مله ثم زعق : 
أن تفعل ما تشاء؟!... لو أشاء أضربك حبّى أكسر 
رأسك. . 

لم يملك فهمي عند ذاك إِلّا أن يبكي» لا خوفا من 
التهديد فما كان يبالي في موقفه وتائّره بأيّ أذى يصيبه. 
ولكن تنفيسًا عن قهره وترويِجًا عن الصراع الناشب في 
صدرهء ثُمْ جعل يعض على شفتيه ليكتم البكاء؛ ثم 
اعتراه الخجل لما ركبه من ضعف بيد أنه وسعه أخيرًا 
أن يتكلم لشدة اكرة من ناحية ومذاراة لخجله من 


بين القصرين 4ه 
ناحية أخرى» فاسترسل قائلا في ضراعة ورجاء: 
سامحني يا باباء أمرك مطاع فوق العين والرأس 
ولكبّى لا أستطيع» إِنّنا نعمل يدا واحدة فلا أرضى ولا 
ترضى لي أن أنكص وأتخلف على إخواني» هيهات أن 
تطيب لي الحياة إن فعلت» ليس ثمة خطر وراء ما 
نعمل» غيرنا يقوم بأعمال أجل كالاشتراك في 
المظاهرات وقد استشهد منهم كثيرونء. لست خييرا 
منبم. إن الجنازات تشيّع بالعشرات معًا ولا هتاف 
فيها إلا للوطن. حبّى أهل الضحايا مبتفون ولا 
ييكون. فا حياقي؟... وما حياة أي إنسان؟. . . لا 
تغضب يا بابا وفكر فيها أقول. . . وأكرّر على مسمعك 
لالس 40 ةخبط بور لعولا السلين المسقير اد 
وغلبه الانفعال فلم يعد يستطيع مواجهة أبيه ففْرٌ 
من الحجرة هارباء كاد يصطدم وراء الباب بياسين 
وكيال اللذين وقفا ينصتان وقد ارتسم عللى وجهيهما 
الارتياع . 


57 

كان ياسين ماضيا إلى قهوة أحمد عبده حين) التقى 
في بيت القاضي بأحد أقرباء أمّه فأقبل الرجل نمحوه 
باهتيام ثم صافحه وهو يقول: 

كنت ذاهنا إل البيثك لقابلتكف):.:. 

حدس ياسين وراء كلامه أنباء عن أمّه التي أورثته 
الحموم: فأحسٌ ضيقًا وتساءل بفتور: 

خخير إن شاء الله . . , ؟ 

فقال الرجل باهتيام غير عادي : 

- والدتك مريضة؛ مريضة جدًا في الواقع. أصابها 
المرض منذ شهر أو أكثر ولكثّي لم أعلم به إلا في هذا 
الأسبوع . وقد ظنوه بادئ الأمر حالة عصبية فسكتوا 
عله حي استفحل ثم تبيّن بعد فحص الأطبّاء أنه 
ملاريا شديدة. . 

دهش ياسين للخ الذي لم يكن يتوقعه؛ كانه 
يتوقع حديثًا عن طلاق أو زواج أو شجار وما شاكل 
ذلك. أمّا المرض فلم يقع له في حسبان» تساءل وهو 
لا يكاد يتين مشاعره من شذة اعتلاجها: 


.4ه بين القصرين 

وكيف حاطا الآن,  ,‏ ؟ 

قال الرجل بصراحة لم مخف مغزاها على ياسين: 

حالها خطيرة!... امتدٌ العلاج دون أن يبشّر 
بأدن تقدّم: وبالأحرى ازدادت الحال سوءًا.» وقد 
أرسلتني إليك كي أصارحك بأثها تشعر بدنو أجلها. 
وأئْها ترجو أن تراك دون تأخير. . . 

ثم بلهجة ذات معئ : 

- يجب أن تذهب إليها بلا ترد هذه نصيحة 
ورجاء. والله غفور رحيم . 

لعل كلام الرجل لم يخل من مبالغة أراد بها دفعه 
إلى الذهاب ولكنه ليس اختلاقا كله فليلهعب ولو 
بدافع الواجب وحده. ها هو يخترق مرة جديدة منحبنى 
الطريق المفضي إلى المماليّة بين بيت المال وبحارة 
الوطاويط؛ إلى يمينه عطفة التيه حيث تلبد بائعة الدوم 
في ذكريات الظلام المرتعشة وإلى الأمام طريق الآلام» 
سيرى عمّا قليل دكّان الفاكهة فيغضٌ البصر ويتسّل 
كاللصٌ الحارب. كلما ظَنّ أنّه لن يعود إليه عادت به 
تعاستةع ما من قوة كانت تستطيع أن تعيده إليها. . 
إلا الموت؟. .. الموت!... ترى هل حُمّت النهاية 
حقًا؟!... قلبي يخفق. أليّ؟... حزنًا؟... لا 
أدري إلا أن خائف» إذا ذهبت فلن أعود إلى هذا 
الككان رةه اخسوف: ...سكف الفسيان شتالفت 
الذكريات. . . ثم تردٌ إلى البقيّة الباقية من أملاكي , 
ولك خائف... وحانق على هذه الأفكار الخبيثة, 
لهم احفظنا. . . 

حتّى إذا حظيت بعيشة أرغد وبال أصفى فلن ينجو 
قلبي من الآلام. حين الموت سأودّع أما بقلب 
ابن... أمّ وابن أليس كذلك؟. . . لست إلا معذّبًا 
لا وحشًا ولا حجرّاء بيد أن الموت زائر جديد عل م 
أشهد حضره من قبل؛. وددت لو كانت النباية بغيره. 
سنموت جميعًا. .. حمًا؟! يجب ألا أستسلم للخوف؛ 
إن أنباء الموت لا تنقطع عنًا ليل غبار في هذه الأيام» في 
شارع الدواوين والمدارس والأزهرء وهئالك في أسيوط 
كلّ يوم ضحاياء حت المسكين الفولي اللبان فقد ابنه 
أمس». ما عسى أن يصنع أهل الشهداء؟. . . أيقضون 


العمر بكاء؟... إنْهم يبكون ثم ينسون وهذا هو 
ات انوي عدن آل اماس لا ين 
المتاعب الآن. ورائي في البيت فهمي وعناده وأمامي 
أمّي فها أبغض الحياة! وإذا كان الأمر مكيدة ووجدتها 
في خير وعافية؟!. .. ستدفع الثمن غاليا. .. يقيئا 
لتدفعنٌ الثمن. . . لست لعبة أو أضحوكة؛ لن تمد 
«الابن» إلا حين الموت. ترى ماذا بقى لي من 
ثروة؟... وإذا دخلت البيث ألتقيى بذلك (الرجل) 
هنالك؟ . . . لا أدري كيف أقابله , , . ستلتقي عينانا 
في لحظة رهيبة. الويل له. أتجاهله أو أطرده هذا هو 
الل هنالك ألوان من العنف لا تخطر له ببال» ولكن 
ستجمعنا الحنازة حتمًا. . . وهذا مضحك. تصور أن 
يسير وراء النعش أقدم الأزواج وأحدثهم وبينها الابن 
دامع العينين. .. حتم وقتذاك أن تدمع عيناي . . . 
أليس كذلك؟ . . . لن يكون في وسعي أن أطرده من 
الجنازة فتلاحقبي الفضيحة حتّى اللحظة الأخيرة. . . 
م تدفن» أجل تدفن وينتهي كل شيء, ولكئي خائف 
ومتألم ومحزون. إِنّْ الله وملائكته يصلون. . . هذه هي 
الدكان ا وهذا هو... لن يعرفنيء 
هيهات. إِنّنا نتنكر بالعمر. يا عمّ... أمّي تقول 
للقاوم: 

فتحتث له الخادم الباب . نفس الخادم الى استقبلته 
منذ عام فأنكرته ‏ فتطلعت إليه كلمتسائلة لحظة, 
وسرعان ما غلبت نظرة التساؤل وراء لمعة كأنما تقول 
له: «آه... أنت الذي تنتظر؛ ثم أفسحت له وهي 
تومئ إلى حجرة على يمين الداحل قائلة : 

- تفضل يا سيّدي . . . لا يوجد أحد. . . 

جذبت العبارة الأخيرة النتباهه بقرّة كأنما جاءته 
جوابًا شافيًا لبعض حيرته. فأدرك أنْ أمّه أخلت له 
الطريق» انهه إلى الحجرة. تنحنح» ثم دخل» وقعت 
عيناه على عيني أمّه وهما ترفعان إليه من فراش على 
يسار الداخل. عيئين حجبت صفاءهما المعهود غشاوة 
باهتة فلاحت نظرتب] الواهنة كأئما تتطلّع إليه من 
بعيد» وبالرغم من ذبولهما وما أوحى به انطفاؤهما من 
عدم الاكتراث لشىء فقد ثبسا على وجهه ثبوت 


العرفان» والفرجت شفتاها عن ابتسامة خفيفة وشث 
بظفر وارتياح وامتنان» لم يكن يبدو منها إلا وجهها إذ 
الفملك مطاية علق الذفن . وجنه ادر كف فين «العطان 
فوق .نما أذرلة: الفنيق:. حنت بعك اكنتال واستطال تعن 
استدارة وشحب بعد تورّد وشفْ جلده الرقيق عن 
عظام الفكٌ والوجنتين البارزة فبدا صورة للرثاء 
والفناء. وقف ذاهلا منكرًا كأنّه لا يصدّق أن ثمّة قَرّة 
في الوجود تجرؤ على هذا العبث القابى. فقبض قلبه 
رقا درس امرك تلفت للك نه كان لد لد 
وافتقد أباه أنما افتقاد. ثمّ دفعه تأثّر لا يقاوم إلى 
الفراش حي انحنى فوقها مغمغً) في نبرات أسيفة : 

- لا باس عليك . . . كيف حالك؟ 

ملأه شعور صادق بالرحمة غابت في حرارته الامه 
المزمنة كما تغيب- في أحوال نادرة ‏ ظاهرة مرضية 
ميئوس منباء كالشلل. علد هجوم فزع هائل 
مفاجىع. .. كأنه يلقى أمْ طفولته النى أحبّها قبل أن 
تواريها عن قلبه الآلام. فتشبث - وعيناه مرسلتان إلى 
الوجه الفاني ‏ ملا الشعور المستجد الذي ردّه أعواما 
طويلة إلى الوراء ‏ إلى ما وراء الأآلم كما يتشبّث 
المريض المتهالك بصحوة طارئة يخاف عليها إحساسا 
باطنيًا بوشك الزوال» تشبّث به بشدّة خليقة برجل 
يقدّر القوى المضادة التي تتهدّده» وإن دل تشيئه نفسه 
على أن آلامه لم تزل تضطرم في الأعباق منذرة إيّاهِ بما 
يترضده من حزن إذا هو تهاون فتخلط بشعوره الصائي 
ما يفسده من مشاعر أخرى» وأخرجت المرأة من تحت 
الغطاء يدا ممصوصة معروقة اكتست بشرتها اللحافة 
بمريج من سواد باهث وزرقة كأنها يد غمئطة منذ ألاف 
السئين فتناويها بين يديه بتأثّر شديد؛ وعند ذاك سمع 
صوتها الضعيف المبحوح وهو يجيبه قائلا : 

- كما ترى» صرت ل 

شمشم : 

- ويّنا يدركك برحمته» ويردّك إلى خخير ثما كنت, 

فندّت عن رأسها الممعصوب بخار أبيض حركة 
دعائيّة كأنما تقول: «ربنا يسمع منك». وأشارت إليه 
أن يجلس فجلس عل الفراش ثم استرسلت - بقوة 


بين القصرين ١4ه‏ 

جديدة استمذتها من حضره ‏ تقول : 

- في أول الأمر كانت تلتابني رعشة غريبة فحسبتها 
طارًا عصبيّاء نصحوني بالطواف ببيوت الله وبالتبخر 
فزرت الحسين والسيّدة وتبخرت بأنواع شّى من 
البخور اندي والسودان والعريٌ» ولكن لم تكن الحال 
تزداد إلا سوءًا. . . أحيانًا كانت تملكنيى رجفة متواصلة 
لا تدعني حبّى أكون قد أشفيت على الملاك؛ وترٌ بي 
أوقات أجد جسمي باردًا كالثلج» وأوقات أخرى تمتد 
النار في جسدي حيّى أصرخ من شدّة الحرارة أنصيرًا 
صمم س... (أمسكت عن النطق بالفاعل منتبهة في 
اللحظة الأخيرة إلى الخطأ الذي كانت ستقع فيه). 
أخيرًا استحضرت الطبيب» ولكن لم يتقدّم بي العلاج 
خطوة واحدة نحو الصِحّة إن لم يكن تأخر خطوات» لم 
تعد ثمة فائدة ترجى . 

فقال ياسين وهو يضغط برقّة على راحتها: 

ا تيأمي من رحمة اللهء إِنّْ رحمته واسعة. 

فافترٌ ثغرها الممتقع عن ابتسامة ضعيفة وقالت: 

- يسرّني أن أسمع هذاء يسرّنيٍ أن أسمعه منك 
أنت قبل الناس جميعٌاء أنت عندي أغلى من الدنيا 
ومن عليهاء صدقت إِنَّ رحمة الله واسعةء طلما ساءني 
الحظء لا أنكر الهفوات والأخطاء. العصمة لله وحده. 

آنس - جزعًا ‏ من حديئها ميلا إلى ما يشبه 
الاعتراف؛ فانقبض صدره وجفل جفولا حادًا من أن 
تردد على مسمعيه أمورًا لا يطيقها ولو على سبيل الندم 
والتكفار: الترترتك اعميانه عق ارفك أن عبدذل عل 
بعد حال» قال بتوسل : 

لا تتعبي نفسك بالكلام . 

رفعت إليه عينيها باسمة وهي تقول : 

مجيئك رد إل الروح» دعني آقلٌ لك إن لم أقصد 
في حياي سوءًا بإنسان. كنت أنشد كسائر الخلق راحة 
البال فيعاندني الحظ العائرء لم أسئ إلى أحد ولكنّ 
كثيرين أساءوا إلي. 

شعر بأنْ رجاه أن تمفي الساعة بسلام 
سيخيب. . . وأنّْ عاطفته الصافية تعاني أزمة من 
التنغيص» فقال بلهجة التوسّل السالفة : 


+ بين القصرين 


دعي الناس بخيرهم وشرّهم, صحتك الآن أهم 
من أي شيء آخخر. . . 

فريّتت على يده باستعطاف كأتما تسأله أن يترفق 
جا ثم #مست: 

- فاتتبي أشياءء لم أودٌ إلى الله حقّه. وددت لو طال 
عمري حي أستدرك بعض ما فاتني» بيد أنْ قلبي كان 
دائًا مفعم) بالإيمان والله شهيد. 

فقال وكأنه يدفع عن نفسه وعنها معا: 

- القلب هو كل شيء. هو عند الله فوق الصوم 
والصلاة . 

فشدّت على يله بامتئان ثم غيرت مجرى الحديث 
قائلة بترحاب : 

- وعدت إل أخيراء لم أجرؤ على دعوتك حت 
انتهى بي المرض إلى ما ترى. داخلني شعور بأنني أودّع 
الحياة فلم أطق أن أفارقها قبل أن أملأً عينيّ منك. 
فأرسلت إليك وبي من الخوف من رفضك أكثر مما بي 
من نوف الموت نفسه. ولكّك رحمت أمّك وأقبلت 
توذ عن افللكه: العتكن ووعاء | عدر الفا أذ قال 

اشتدٌ التأثر ولكنّه ١‏ بر كيف يعر عن شعورهء 
تثاقلت الكللات الحئونة في فبه متعثرة فيها يشبه اللتياء 
أو الغرابة حالما أراد توجيهها إلى المرأة التي ألف مجافاتها 
ونبذهاء بيد أنه وجد في يده أداة تعبير طيّعة -حساسةع 
فضغط على راحتها مغمغما: 

ربّنا يكتب لك السلامة . 

وجعلت تدور حول المعنى الذي أفصحت عنه 
حملتها الأخيرة, مردّدة نفس الألفاظ تارة أو مستبدلة بها 
غيرها مما يدل على نفس معناها طورًا آخر» وراحث 
تفصل الحديث بازدراد ريقها بجهد ملحوظ أو 
بالصمت القصير ريثا تستردٌ أنفاسهاء مما دعاه مرّات 
إلى أن يرجوها بالكفث عن الحديث. ولكتّها كانت 
تبتسم لمقاطعته ثم تعود إلى مواصلة الحديث» حي 
توقفت وقد لاح في وجهها اهتهام طارئ كلما تذككرت 
شيئًا ذا بال. . . وقالت؛ 

- تزوجت؟ 

فرفع حاجبيه في شيء من الضيق وتورد وجهه. 


ولكنّبا أخطأت فهمه فبادرته كالمعتذرة : 

لا عتاب. . . خا نت اود أن ارق رويك 
وذرَيّتكء ولكن بحسبي أن تكون سعيدًا . 

فيا ملك أن قال باقتضاب : 

- لست متزوّجًاء طلقت منذ شهر تقريبًا. 

لأزل مرّة لاحت آي الانتباه في عينيهاء لو كان في 
الامكان أن يلتمعا لالتمعا. . . ولكن انبعث منبها شبه 
ضوء كالضوء الحالم الذي تنضح به ستارة كثيفة. 
وتم 

- طلّقت يا ببّ! ما أحزنني ! 

فابتدرها قائلا : 

- لا تحزني» لست حزينًا ولا آسفًا (ثمّ باس) 
أخذت الشرٌ وراحت. 

ولكتّبا تساءلت بنفس اللهجة : 

من الذى اختارها لك. . , هو أم هي ؟! 

فقال بلهجة نمت عن رغبته في قفل باب هذا 
الحديث: 

ب اختارها الله كل شيء قسمة ونصيب! 

أعلم هذاء ولكن من الذي اختارها لك؟ امرأة 
أبيك؟ 

كلا أبي الذي اختارهاء ولا غبار على اختياره 
فهي من أسرة كريمة. .. ولَكئّها القسمة والنصيب كما 

فقالت ببرود: 

- القسمة والنصيب واشختيار أبيك. . . هذه هي ! 

ثم بعد وقفة قصويرة : 

دل 9 

العم ب 

وهي تتنبل : 

الله ينكد عيشة أبيك! 

تعمّد ألا يعقّب عليهاء كا يمتنع عن حك قرحة 
تأكلة: لعلها تسكن . .. فشملهما صمت» وأغمضتث 
المرأة عينيها كأئما أنبكها التعب. بيد أمْها فتحتهها هنيهة 
فابتسمت إليه وهي تسأله بصوت رقيق لا أثر فيه 
لانفعال: 


- ثرى هل يمكن أن تنس الماضي؟ 

فض بصره منتفضًا وهو يشعر برغبة في اهرب لا 
تقاوم . م قال برجاء: 

- لا تعودي إلى ذكراه» فليذهب إلى غير رجعة. 

لعل قلبه لم يع ما يقول. ولكنّ لسانه قال ما ينبغي 
أن يقال. . . أو لعل ذلك القول كان تعبيرًا صادفًا عن 
شعوره لحظتذاك؛ تلك اللحظة التي استغرقه فيها 
بكليّته الموقف المحيط بهء ولعلٌ قوله: «فليذهب إلى 
غير رجعة) قد وقعم من مسمعه- ومن قلبه ‏ موقعا 
غريبًا خلّف وراءه قلقّاء ولكنّه أى أن يجعله موضوتًا 
لتامّلهء فرّ من ذلك فراراء وتشبّث بعاطفته الصافية 
الني عقد العزم على التشبّث بها من بادئ الأمرء أما 
أمّه فعادت تسأله : 

وهل تحب أمّك كما كنت تحبّها في الزمن السعيد؟ 

فقال وهو يربت على راحتها : 

أحبها وأدعو ها بالسلامة, 

مرعان ما ووجد العزاء عن قلقه وجهاده الباطن فيا 
انطبع على وجهها الذاوي من روح السلام والارتياح 
العميق. ثم شعر براحتها تضغط على يده كأنما تبنّه ما 
بكنه صدرها من امتنان. وتبادلا نظرة طويلة هادئة 
باسمة حالمة أشاعت في الحجرة جوًا من الطمانيئة 
والمودّة والحزن. ل يعد يبدو منها ما يدل على رغبتها في 
الحديث أو لعل الجهد حال بينها وبين هذه الرغبة» ثم 
تراخت جفونها رويدًا حيّى انطبقت» جعل ينظر إليها 
كالمتسائل ولكن لم تند عنه حركة» ثم انفرجت شفتاها 
قليلا وانبعث مها شيخير حفيف متقظم. اعتدل في 
جلسته وهو يتوسّم وجهها ثم أغمض عينيه قليلا ريثم 
يستحضر صورة الوجه الآخر الذي طالعته به منذ عام 
فانقبض صدره وعاوده شعور الخوف الذي طارده 
طوال الطريق» ترى هل يتاح له 
مرة أخرى؟ وبأىّ قلب يلقاه إن عاد؟! لا يدري, لا 
يحبٌ أن يتصوّر المضمر في علم الغيب» يودٌ أن يقف 
عقله عن الحركة وأن يتبع الحوادث لا أن يسبقهاء 
وأحاط به شعور الخوف والقلق. عجبا! لقد ركبته 
رغبة في الهرب وهو ينصت إلى حديثها حيّى خيّل إليه 


بين القصرين 4ه 


أنه ارتاح إلى نومها كل الارتياح ولكنه ما كاد ينفرد 
بنفسه حتى هاجمه الخثوف... خوف لم يدرك له سببًا 
فتمنى لو تصحو من سباتها وتعود إلى الحديث؛ حتّام 
ينتظر. . . هبها استغرقت في النوم حتّى الصباح!. . 
لن يسعه أن يبقى طويلا فريسة للخوف والقلق 
هكذاء يجب أن يضع حدًا لآلامه. . . غدًا أو بعد غد 
تكون عبنثة أو تعزية. .. تبنئة أو تعزية؟! أيهها أحبٌ 
إلى نفسه؟! يجب أن يقف عن الحركة. عبنئة كانت أم 
تعزية لا ينبغي أن أسبق الحوادث, غاية ما يمكن قوله 
لو قدّر عليئا أن نفترق الآن لافترقنا صديقين. تكون 
خير عهاية لأسوأ حياة؛ أمَا إذا مذ الله في عمرها. , . 

سرح طرفه وهو شارد فوقع على مرأة الصوان ‏ في 
الجهة المقابلة ‏ التي عكست صورة الفراش فرأى جسم 
أمه مطروحًا تحت البطانيّة ىا رأى نفسه يكاد يحجب 
نصفها الأعلى إلا يدها التى أخرجتها عند استقباله 
ا 2 
بعناية» عاد ينظر إلى المرآة فخطر له هذا الخاطر! رما 
عكست هله 0 غذًا فراشًا خاليًا عاريًا!. .. ليست 
حياتها - حياة أي إنسان . ل - بأرسخ دواما من 
هذه الصور الوهمية!... فاشتد به شعور المنوف 
وهمس لنفسه ديجب أن أضع حدًا لآلامي... يجب 
أن أذهب». بيد أنْ بصره تمرك تاركًا المرآة فالتقى 
بخوان وضعت عليه نارجيلة الت خرطومها حول 
لا يي وس او 
حل مكانهها شعور هائج بالتقرّز والغضب. 
ب 0 تخيّله 
متربعا على الكنبة القائمة بين الفراش والموان وقد 
الدلق على النارجيلة يشهق ويزفر متلذَّذًا وأمّه تروّح له 
على الجمرات... آه ثُرى أين هو الآن. في مكان 
بالبيت أم في الخارج؟ هل رآه من حيث لم يره؟ . . . لم 
يعد يحتمل البقاء مع التارجيلة أكثر ما بقي فألقى نظرة 
على وجه أمه التي وجدها مستغرقة في النوم ثم ذايل 
مجلسه بخفة وسار إلى الباب» وكا التقى بالخادم في 
الردهة الخارجية قال لما: 

ستّك نامت» سأعود غذًا صباحًا. 


والتفت إليها مرّة أخرى وهو يغادر الباب الخارجيٌ 
قائلا : 

غدًا صباحًا. 

كأنما ينبّه الرجل نفسه إلى موعد حضوره ليختفي 
من وجههء مفى إلى حانة كُستاكي رأسًا. شرب 
كعادته ولكثه لم يطب بالشراب نفسّاء أعياه أن يطرد 
عن قلبه الخوف والقلق» ومع أنْ أحلام الثروة وراحة 
البال لم تغب عن ذهنه إلا أئها لم تستطع أن تمحو عن 
تخيلته صورة المرض وخواطر الفناء. ولا عاد إلى 
البيت عند منتصف الليل وجد امرأة أبيه في انتظاره 
بالدور الأول فنظر إليها متعجبًا ثم تساءل نحافق 
القلب؛ 

أمى ؟ ! 

لحت أميئة رأسها وقالت بصوثت خافت: 

جاءنا رسول من قصر الشوق قبل مجيئك بساعة. 
العمر الطويل لك يا ابني. . . 


54 

تطورت العلاقة بين كال والجنود البريطانيين إلى 
صداقة متبادلة» وقد حاولت الأسرة أن تتذرّع بمأساة 
ياسين في جامع الحسين لتقنع الغلام بقطع علاقته مع 
أصدقائه ولكنّه أجابهم بأنّه وصغيره» أصغر من أن 
يتهم بالجاسوسيّة. ولكي يتفادى من منعهم إيَاه بالقوة 
كان يمضي إلى المعسكر رأسًا بعد عودته من المدرسة 
تاركًا حقيبة كتبه مع أمّ حنفي فلم تكن ثمّة وسيلة إلى 
منعه إلا باستعمال القوّة الأمر الذي لم يروا له موجبًا لا 
سيا وأله يمرح في المعسكر تحت أعينهم متقبّلا في كل 
موضع بالترحيب والتكريمء حتّى فهمي نفسه أغضى 
عنه ولى يكن يجد بأسًا في التسل بمشاهدته وهو يتنقّل 
بين الجنود «كقرد يلهو في غابة من الوحوش», 

- قولوا لسيدي الكبير. 

هكذا اقترحت أمّ حنفي وهي تشكو تمر الجنود 
عليها ‏ بسيب الصداقة اللعينة ‏ ومحاكاة بعضهم 
لشيتها بطريقة ويستحقون عليها قطع رقبتهم » ولكنّ 
أحذًا م يأخذ اقتراحها مأخذ الجدّ. لا رحمة بالغلام 


فحسبء ولكن رحمة بهم هم أنفسهم خشية أن بجر 
التحقيق إلى معرفة تستّرهم الطويل على هذه الصداقة» 
فتركوا الغلام وشأنه: ولعلّهم لم يخلوا من رجاء في أن 
يقوم الشعور الطيّب المتبادل بين الغلام واللجنود حائلا 
بيهم وبين ما يحتمل أن يتعرّضوا له من عبث وأذى في 
الذهاب والإاياب! أسعد ساعات يومه كانت تلك الي 
يدخل فيها المعسكرء لم يكن جميع الجنود «أصدقاءء 
بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة ولكن لم يعد أحد منهم 
يجهل شخصه. كان يصافح الأصدقاء ويشدٌ على 
أيديهم بحرارة على حين يكتفي برفع يلهء تحية 
للآخرين. ورتما صادف مجيئه قيام أحد الأصدقاء بنوبة 
الحراسة فيقبل الغلام عليه هاشًا باشَّا وهو يمد يده ف 
يروعه إلا أن يلقى منه جمودًا غريبًا مثيرًا كأئما يتجاهله 
أو كأنما تحوّل إلى صئم فلا يدرك أن ليس في الأمر 
تجاهل أو غضب إلا من إغراق الآخرين في الضحك. 
ولم يكن من النادر أن يباغت وهو بين الأصدقاء بصفير 
الإنذار. هنالك يبرعون إلى الخيام ثم يعودون بعد 
قليل وقد ارتدوا ملابسهم وخحوذاتهم وحملوا بنادقهم. 
ويتحرّك لوري من موقفه وراء سبيل بين القصرين إلى 
وسط الطريق فيمضون إليه ويقفزون إلى داخله حتى 
يكتظ بهمء بات يدرك من المنظر الذي أمامه أن 
مظاهرة قامت في جهة ما وأنّ الجنود ذاهبون لتفريقها 
وَأ قتالا سينشب بينهم وبين المتظاهرين. ولكن ١‏ 
يكن ببمّه في تلك الأوقات إلا أن يتفقّد الأصدقاء 
ببصره حيّى يعثر عليهم في زحمة اللوري وأن يملأ منهم 
عينيه كأتما يودّعهم. وأن يبسط كفيه واللوري يبتعد 
بهم صوب اللسحاسين داعي لهم بالسلامة ثم تاليا 
الفاتحة! . . . على أنه لم يكن يقضي في الملعسكر أكثر 
من نصف ساعة كل أصيل وهو أقصى ما وسعه أن 
يتغيبه عن البيت عقب عودته من المدرسة. نصف 
ساعة لم تكد تغفو فيها حاسّة من حواسّه دقيقة 
واحدة. يدور حول الخيام» يسير بين اللوريات 
مستطلعًا قطعها قطعة قطعة. يقف حيال أهرام البنادق 
طويلاً متفخصًا أجزاءها جزءًا جزءًا خاصّة فوهة 
الماسورة التى يكمن فيها الموت... يقف على يعد لا 


يسمح له بتجاوزه ونفسه ذاهبة حسرات على اللعب 
بها أو على الأقلّ لمسهاء ولمّا كانت زيارته توافق ميعاد 
الشاي فكان يمضي مع أصدقائه إلى المطبخ القائم عند 
مدخل درب قرمز ويأخذ مكانه في مماية طابور 
«الشاي» كا يدعونه ثم يعود وراءهم حاملا قدح شاي 
باللبن وقطعة من الشيكولاتة فيجلسون عبلى سور 
السبيل يحتسون شرابهم وينشد الخنود أغانٍ جماعيّة وهو 
ينصت لهم باهتيام منتظرًا دوره في الغناء» تركت حياة 
المعسكر في نفسه أثرًا عميقًا بت في خياله وأحلامه 
يقظة شاملة. أثرًّا نقش على صفحة قلبه إلى جانب 
الآثار التي نقشتها حكايات أمينة عن عالم الغيب 
والأساطيرء وقصص ياسين الذي جذب روحه إلى 
دنياها الساحرة. والأطياف والرؤى التي تتخايل له في 
أحلام اليقظة وراء أغصان الياسمين واللبلاب وأصص 
الزهور فوق السطح ‏ عن حياة النمل والعصافير 
والدجاجح» من ثم أنشأ عند سور السطح الملاصق 
لسطح بيت أمٌّ مريم معسكرًا كامل العدّة والعدد. أقام 
حيامه بالمناديل والأقلام. وأسلحته بعيدان الخشب. 
ولورياته من القباقيب وجنوده من نوى التمرء وعل 
كثب من المعسكر مثل المتظاهرين بالحصى. يبدأ 
التمثيل عادة بنشر النوى جماعات بعضها في الخيام 
وعلد هداخلها وبعضها حول البنادق غير أربع بينها 
حصاة (ِتثْله هو) ينتحون جانباء يأخذ في محاكاة الغناء 
الإنجليزي ثم يجيء دور الحصاة لتغني «زوروني كل 
سئة مرّة) أو ويا عزيز عيني»؛ يتتقل إلى الخصى فينضده 
صفوفا ويبتف «يحيا الوطن. . . تسقط الحباية. . . يحيا 
سعد». يعود إلى المعسكر مصِفُّرًا فتنتظم النوى صفونا 
كذلك وعلى رأس كلّ صف تقرة» ثم يدفع قبقابًا وهو 
ينفخ محاكيًا أزيز اللوري؛ ويضم النوى عبلى سطح 
القبقاب ثُمْ يدفعه مرّة أخخمرى صوب الحصى فتنشب 
المعركة وتسقط الضحايا من المانبين!... ولم يكن 
يسمح لعواطفه الشخصيّة بأن تؤثْر في سير المعركة. 
على الأقل في بدثها ووسطهاء كانت تتحكم فيه رغبة 
واحدة هي أن يجعلها معركة وصادقة مشؤقة» يتنازعها 
الدفع والجذب من الجانبين وتتعادل الإصابات فتظل 


بين القصرين هع]ه 


النتيجة مجهولة والاحتيال متأرجحًا بين الطرفين على أن 
المعركة لا تلبث طويلا حيّى تستوجب خهاية تنتمي 
إليهاء هنالك يجد نفسه في موقف حائر. أ جانب 
ينتصر؟... في جانب أصدقاؤه الأربعة وعلى رأسهم 
جوليون. وفي الجانب الآخر مصريون يخفق معهم 
قلب فهمى!... في اللحظة الأخيرة يقرّر النصر 
للمتظاهرين فينسحب اللوري بقلة من الجدود بينهم 
الأصدقاء الأربعة وإن كان قد ختم المعركة مرة بصلح 
شريف احتفل به المتحاربون من الطرفين بالغناء حول 
مائدة حفلت بأقداح الشاي ومختلف ألوان الحلوى. . . 
وكان جوليون أعرّ أصدقائه. امتاز إلى جماله بدماثة 
الخلق فضلا عن براعته النسبيّة في التكلم بالعربيّة. 
وهو الذي جعل دعوته إلى الشاي حقًا ثائيًا كما بدا 
شد الجنود تأئًا بغنائه حتّى كان يدعوه كل يوم تقريي 
إلى غناء ويا عزيز عيني» فيتابعه باهتام ثم يغمغم في 
تشؤق وسحنين : 

- أروح لدي أروح بلدي! 

وآنس كيال منه هذه الروح فازداد له آلفة واطمئنانًا 
حبّى قال له مرّة جادًا وكأنما يدلّه عن مخرج من كربه: 

أرجعوا سعد باشا وعودوا إلى بلادكم! . . . 

ولكنّ جوليون ل يلْقَ اقتراحه بالارتياح الذي كان 
ينتظر وعلى العكس طلب إليه ‏ كما فعل من قبل في 
تلوق فقتابةتك: الا يفره إل كر وفة ناقنا قاناا: 
نو!» وهكذا فشل ‏ على حذ تعبير 
ياسين ‏ أوّل مفاوض مصريّ!... ما يدري يومًا إلا 
وألحد والأصدقاءع يقدّم له صورة كاريكاتوريّة رسمهاء 
فنظر كمال إليها بدهشة وانزعاج وهو يقول لنفسه 
«صورق؟! ليست هذه صورتي!؛» ولكنّه شعر في قرارة 
نفسه بِأئبا صورته دون غيره ولو على وجه ماء ثم رفع 
عينيه للواقفين فألفاهم يضحكون فأدرك أثْها نوع من 
المزاح أن عليه أن يتقبّله بسرور فجاراهم في 
ضحكهم مداريًا بالضحك خجله؛ ولمًا اطلع عليها 
فهمى تفرّس هذا فيها بدهشة ثم قال: 
. لم تترك عيبا إلا أيرزته!... الجسم 
النحيف الصغيرء الرقبة الطويلة المزيلة» الأنف 


«(سعد بأشا. . . 


ربأه. . 


الكبيرء الرأس الضخم.ء العيئان الصغيرتان. . . 

ثم ضاحمًا: 

- الشىء الوحيد الذي يبدو أنْ وصديقك» يضمر 
نحوه إعجابًا هو بذلتك الأنيقة المهندمة ولا فضل لك 
في ذلك وإنما الفضل لنينة التي لا تترك شيئًا في البيت 
إلا هندمته ! 

ورمى إليه بطرف شامت ثم قال: 

- بان السرّ الذي حببك إليهم!. . . إثهم يتسلون 
بالضحك على شكلك وأناقتك المفرطة. يعني بالعربي 
لست إلا «قره جوز» في نظرهم. . . ماذا كسبت من 
وزاءرهياقلف؟ 1 

ولكنّ كلام فهمي لم يحدث أثرًا لآنّ الغلام كان 
يدرك مدى عداوته للإنجليز فظتها مناورة يراد بها 
التفرقة بينه وبينهم!. . . وجاء يومًا المعسكر كعادته 
فرأى جوليون عند أقصى جدار السبيل يتطلّع باهتهام 
إلى العطفة الى باع عادهاابيت الرحوم د 
رضوان فمضى نحوه ولكنه رآه يلوح بيده محدثا 
إشارات غامضة لم يفقه لها معنى بيد أنّه توقف عن 
التقدّم ملبيًا إحساسًا غريزيًا خفي عنه معناه, ثم أغراه 
حب الاستطلاع بأن يدور حول الخيام المنصوبة أمام 
واجهة السبيل متسللا إلى ما وراء جوليون وأن يمد 
بصره إلى الحدف الذي يتطلّع إليهء هئالك رأى كوّة في 
جناح بيت آل رضوان الذي يسدّ العطفة القصيرة 
يلوح منها وجه مريم واضحًا باسمًا مستجيبا! وقف 
يردد النظر بين الجنديّ وبين الفتاة في ذهول كأنما يأبى 
أن يصدق عينيه؛ كيف اقترفت مريم الظهور في 
الكوة؟!.. . كيف تصدّت لخوليون على هذا النحو 
الفاضح؟! هو يلوح بيديه وهي تبتسم!... أجل ها 
هي الابتسامة لا تزال مطبوعة على شفتيها!. . . وها 
هما عيناها يستغرقهم| النظر إليه حيّى أْها لم تفطن بعد 
إلى وجوده هو! وندّت عنه حركة لفتت إليه جوليون فيا 
كاد يطلع على موقفه حيّى أغرق في الضحك وهو 
يرطن على حين تراجعت مريم بسرعة خاطفة في ذعر 
بين. راح يتطلم إلى الجنديّ في ذهول وقد زاده فرار 
مريم ريبة على ريبة وإن بدا له الأمر كله غموضًا في 


سأله جوليون متودّدأ : 
- تعرفها؟... 


فأحنى رأسه بالإيجاب ولم ينبس. غاب جوليون 
دقائق ثم عاد حاملا لفافة كبيرة قدّمها إلى كبال قائلا 
وهو يشير إلى بيت مريم : 

- اذهب عبا إليها. . . 

ولكنّ كال تراجم جافلاً وهو يهزٌ رأسه يمنة ويسرة 
في عناد. لم تبرح تلك الحادثة مميّلته» ومع أنه شعر 
بخطورتها من بادئ الأمر إلا أنه لم يدرك مدى الخطورة 
على حقيقتها إلا حين قصّ القصّة في مجلس القهوة 
مساء. استوت أمينة في جلستها وهي تتباعد وقد ظل 
فنجان القهوة معلْمًا بين أصبعيها لا هي تقرّبه من فيها 
ولا هي تضعه على الصينية على حين غادر فهمي 
وياسين الكنبة المواجهة لمجلس الأمْ مهرولين إلى الكنبة 
النيي تجلس عليها هي وكال وجعلا يحدّقان إليه باهتمام 
ودهش وانزعاج فاق كل ما توقع . 

قالت أمينة وهي تزدرد ريقها: 

أرأيت هذا حقًا!. . . ألم تخدعك عيناك؟! 

وتأْف فهمي : 

- مريم؟! مريم؟! أمتأكد أنت مما تقول؟! 

وتساءل ياسين : 

- أكان يشير إليها وكانت تبتسم إليه؟! . . . أرأيتها 
تنج عنقا إن 

وأعادت أمينة الفنجان إلى الصيئيّة فأسندت رأسها 
إلى راحتها قائلة بلهجة تلم عن الوعيد: 

- كيال! الكذب في مثل هذا الأمر جريمة لا يغفرها 
الله. .. راجمع نفسك يا ابني. . . ألم تعد الحقٌ في 
شىء؟! 

5 كمال بأغلظ الأيمان فقال فهمي بيأس 
ومرارة: 

- نه لا يكذب» ليس في وسع عاقل أن يتهمه 
بالكذب فيا قال. ألا تدركون أنْ اختراع مثل هذه 
القصّة هو أبعد ما يكون عن تصوّر واحد في 


شكة ا 1 


فتساءلت الم بصوت حزين : 

- وكيف يسعبي أن أصذّقه! 

فقال فهمي وكأنه محدّث نفسه: 

أجل كيف يمكن تصديقه!. .. (ثم بصوت حاذ) 
ولكنه وقع. . . وقع . . . ! 

وقعت الكلمة الأخيرة من نفسه موقع الخنجرء 
كدّرها وكأنًا يكرّر الطعن متعنّدّاء حقًا شغلته عن 
مريم الشواغل فلم تعد ذكراها تلوح إلا في حاشية 
أحلام يقظتهء. ولكن الطعئة التي أصابيت سمعتها 
نفذت إليها خلال قلبه. إنّه ذاهل. . . ذاهل. . . 
ذاهل. لا يدري إن كان نسي أم لم ينسء يحبٌ أم 
يكره؛ يغضب للكرامة أم للغيرة. . 
في مهب زوبعة متناوحة. . . 

- كيف يسعني أن أصدّقه؟. . . طالما كانت ثقتي في 
مريم كثقتى في خحديجة أو عائشة» أمها من الفضليات, 
أبوها طَيّب الله ثراه كان من الأكرمين. . . 
العمر ونعُم الجيران. . . شْ 

قال ياسين ‏ الذي بدا طول الوقت مستغرفا 
بالتفكير- بلهجة لم تَخْلُ من سخرية: 
.. منذ القدم والله يخلق من 


. ورقة شجر جافة 


جيران 


علام تعجبون؟ . 
صلب الأبرار أشرارًا. 

فقالت أمينة محتجّة كأمًا تأى أن تصدّق أثها خدعت 
طوال ذلك الدهر: 

يشهد الله أن لم ألاحظ عليها ما يسوء قط. . . 

فقال ياسين بحذر: 

ولا أحد مئاء حيّى خحديجة العيابة الكبرى. بل 
خدع بها من هو أفطن منك ومني ! 

فهتف فهمي متألم : 

من أين لي أن أظَلم على الغيب؟! إِنّْه أمر يشقٌ 

وحنئق على ياسين لدرجة الغليان» ثم بدا له الخلق 
جميعًا بغضاء؛ الإنجليز والمصريون على السواء. . 
الرجال والنساء ‏ والنساء خاصّة ‏ إِنْه يختئق. . . هفت 
نفسه إلى الاختفاء ليتنشق فى وحدته نسمة راحة بيد 
أنه لم يبرح مكانه كأنما شدّ إليه بحبال غلاظ. . . 


بين القصرين 4ه 


انهه ياسين إلى كمال متسائلا : 

بق اراتك؟ 

- عندما التفت إِلّ جوليون. . . 

ثم فرت من النافذة؟ 

ب نعم ., 

هل رأت أنّْك رأيتها؟ 

التقت عينانا لحظة, . . 

ياسين ساخرًا: 

مسكيئة! . . . إنْها دون شلكٌ تتخيّل الآن مجلسنا 
هذا وحديثنا ذا الشجون! 

ع لعلف الو 

هتف فهمي وهو يضرب كما على كف. 

منت السيد خنة.رضوان .+ 

غمغمت أمينة متّدة وهى تبرٌ رأسها عجبا, . . 

فقال ياسين متفكرًا: 

- مغازلة إنجليزيّ ليست بالمسالة الهينة على فتاة 
هذه درجة من الفساد لا يمكن أن تظهر طفرة. . . 

فسأله فهمي : 

ب هاذا تعني ؟ 

أعنى أنه لا بد أن تسبقها درجات من الفساد! 

فقالت أمينة برجاء : 

أستحلفكم بالله أن تمسكوا عن هذا الحديث. . 

فواصل ياسين حديثهء كأنه لم يسمع رجاءهاء 
فائلا : 

- مريم بنت سيّدة لها في التبرّج فئون بشهادتكن 
أنت ونخديية وعائشة . . . ! 

فهتفت أميئة بصوت ملؤه العتاب والزجر: 

ياسين! . . . 

فقال ياسين كالمراجع : 

أريد أن أقول إِنّنا أسرة تعيش في ححَقٌ مغلق لا 
تكاد تعلم شيئًا عا يدور حوهاء قصارى جهدنا أن 
نتصوّر الئاس على مثالناء اختلطت بنا مريم أعوامًا 
طوالًا ولكننا لم نعرفها على حقيقتها حيّى كشفها لنا 
آخر من ينشد عنده كشف التقائق! . . . 

وربّت على رأس كيال ضاحكاء ولكنٌ أمينة عادت 


4 بين القصرين 
تقول بتوسل حار: 
أستحلفكم بالله أن تغثروا محرى الحديث. . . 
ابتسم ياسين ولم ينبس» فأطبق الصمت. لم يعد 
فهمي يتحمل البقاء بيهم فاستجاب إلى الصوت 
الباطيّ الذي يستصرغه ملهوفا على الفرار. . . بعيدًا 
عن الأنظار والأساع. هنالك يستطيع أن يخلو إلى 
نفسه. أن يعيد إليها الحديث من ألفه إلى يائه. كلمة 
كلمة عبارة عبارة, جملة حملة» ليفهمه ويتفهمه ثم 
ينظر أين يكون وضعه. , . 


56 

كان الليل قد جاوز منتصفه عندما غادر السيّد أحمد 

عبد الجواد بيت أمَّ مريم متلقعًا بظلمة العطفة 
المسدودة. بدا الحيع كله كما أمسى يبدو مع المزيع 
الأول من الليل نهل مسكر الاتجليز فيه غارقا في 
النوم متدثرًا بالللام» لا مقهى يسمر ولا بائع يسرح 
ولا دكان يسهر ولا مارّ يدبّء فلم يكن فيه أثر للحياة 
أو النور إلا ما انبعث من المعسكرء ومع أنْ أحدًا من 
الجنود لم يتعرّض له بسوء في الذهاب أو الإياب إلا أنه 
م يكن يخلو قط في قلق وتوبجّس كلما اقترب من 
المعسكر في طريقه إلى البيت خاصة وأنه يعود آخر 
الليل ‏ على حال من الإعياء والاسترخاء والذهول 
يشقٌّ معها نجرّد التفكير في السير الآمن المطمئنْ» 
انحدر إلى طريق النحّاسين ثم انعطف ينة متجهًا إلى 
البيت وهو يختلس النظر إلى الديدبان حيّى دخل أشدٌ 
مناطق الطريق خطورة. . . تلك التي ينتشر فيها النور 
المتبعث من قلب المعسكر. هئالك عاوده الاأحساس 
الذي يخامره كلما دخلها وهو أنه هدف يسير لأيّ 
صائدء فحت شخطاه ليخرج منبها إلى الظلام المفضي إلى 
مدخل بيته ولكنّه ما كاد يخطو خطوة حيّى صلفٌ أذنيه 
صوت أجش غليظ يزعق وراءه راطنًا فأدرك على جهله 
رطانته ‏ من عنف اللهجة واقتضاما - أنه رماه بأمر لا 
بقبل المناقشة فتوقف عن السير والتفت وراءه مرتاعًا 
فرأى جنديًا - غير الديدبان ‏ نجه نحوه بقوّة شساكي 
السلاح. ماذا جد حيّى دعا إلى هذه المعاملة؟. . . 


أيكون الرجل ثملا؟ أم لعلّه أذعن لنزوة اعتداء 
طارئة؟ أم هو يبتغي السلب والنبب؟ جعل يرقب 
اقترابه بقلب خافق وحلق جاف وقد طار الخمار من 
رأسه. وقف الحنديّ على بعد خطوة منه ثم وجه إليه 
بلهجة آمرة كلامًا سريعا قصيرًا ‏ لم يفهم منه بطبيعة 
الحال كلمة واحدة ‏ وهو يشير بيده الخالية صوب 
شارع بين القصرين فحملق السيْد في وجهه بيأس 
واستعطاف وهو يعاني مرارة العجز عن التفاهم معه 
كي يقئعه بيراءته ما يتّهمه به أو كي يعرف على الأقل 
مايريدء ثم نحطر له أنه قصد بإشارته إلى بين 
القصرين أن يأمره بالابتعاد ظنًا منه أنّه غريب فراح 
بشير إلى بيته بدوره ليفهمه أنه من سكانه وأنّه عائد 
إليه ولكنّ الجندي تجاهل حركته وهو يدمدم ثم أصرٌ 
على إشارته وهو بيهر رأسه في نفس الاتجاه كأنما ينه 
دن لاما ال د له 
وأداره بقوة فدفعه في ظهره فوجد السيد نفسه يتحرّك 
متّجهًا نحو بين القصرين والآخر وراءه فاستسلم ‏ 
ومفاصله تكاد تسيب إلى المقادير» جاوز في مسيره 
المجهول المعسكر ثم سبيل بين القصرين وهناك اختفى 
آخر أثر للضوء المنبعث من المعسكر فخاض أمواج 
الظلام الدامس والصمت الثقيل. لا منظر يرى إلا 
أشباح البيوت ولا صوت يسمع إلا وقع القدمسين 
الغليظتين اللتين تتبعانه في نظام ميكانيكيّ كأئها يعدّان 
الدقائق الباقية له في الحياة» ولعلّها ثوان. أجل كان 
يتوقع في أيّة لحظة أن ينقضٌ عليه بخبطة تمبوي به إلى 
الغباية فمضى يترقبها بعينين محملقتين في الظلام وفم 
مطبق من الجزع وحرقوة تتحرك حركة عصبيّة من أن 
لآن كلما ازدرد ريقه الجافٌ الملتهب حي بوغت بوميض 
يجذب بصره إلى أسفل فكاد يصرخ كالأطفال من اطلع 
وقد تباوى قلبه ولكنه تبيّنه دائرة من الضوء تذهب 
وتجيء فادرك أنّْبا شعاع من بطاريّة أضاءها سائقه 
ليتعرّف على طريقه خلال الظليات. استردٌ أنفاسه بعد 
أن تخفف من الذعر المباغت ولكنّه لم يستشعر نسمة 
راحة حي تلقفه خخحوفه الأوّل. خوف الموت الذي 
يساق إليه» فعاد يترقب حتفه بين لحظة وأخرى كأنه 


غريق توهّم في تخبّطه أنه يرى تمساحًحا يتونب لمهاجمته ثم 
تين له أنَّ ما رأى أعشاب طافية ولكن فرحته للنجاة 
من الخطر الوهمئ لم تكد تتنفس حيّى اختفت نحت 
ضغط الخطر الحقيقئ المحيط به؛ إلى أين يسوقه؟ لو 
يستطيع أن يراطته فيسأله! يبدو أنه سيواصل سوقه 
حبّى يدفم به إلى قرافة باب النصرء لا أثر لإنسان ولا 
لحيوان». أين الغفير؟ وحيد تحت رحمة من لا يرحم. 
متى كان مثل هذا العذاب... هل يذكر؟ 
الكابوس . . . أجل إِنّه الكابوس. كابده أكثر من مرة 
خلال نوم مريضء. إِنْ ظلمة الكابوس نفسها لا تخلو 
أحيانًا من بارقة أمل قد يشرق بنفس النائم إحساس 
حنون بن ما يعانيه حلم لا حقيقة وبأنه سينجو من 
شه الآن أو بعد حينء هيهات أن يجود الدهر بمثل 
ذلك الأمل. إنّه صاح لا نائم وهذا الجندي الشاكي 
السلاح حقيقة لا خيال وهذا الطريق الذي يشهد ذله 
وأسره شيء ملموس ميف لا وهمء عذابه حقيقة لا 
سبيل إلى الشكٌ فيهاء إنْ أقل حركة ممانعة تند عنه 
خليقة بآن تطيح رأسه. . . لا سبيل إلى الشك في هذا 
أيضا. قالت له أمّ مريم وهي توذعه: «إلى الغد) 
الغد؟! هل يطلع ذلك الغد؟! سل القدمين الثقيلتين 
اللنين ترجّان الآأرض وراء ظهرك. .. سل البندقية 
ذات السونكي الحادٌ المدبّب» قالت له أيضًا وهي 
تمازحه وتكاد رائحة الخمر المتطايرة من فيك أن 
كر الآن طارت الخمر وطار عقله: ولت ساعة 
الصبوةء منذ دقائق معدودة... كانت الصبوة كل 
شىء في الحياة. الآن العذاب هو كل شيء... وليس 
من نه ركاه لا تناكق معددودةة وماق 
معدودة؟!. . . عندما بلغ منعطف الخرئفش جذب 
عينيه شعاع يومض في الظلام فلحظ الطريق فرأى 
بطارية تتحرّك في يد جنديّ آخر يسوق بين يديه 
أشباحًا لم يتبين عددهم!. . . تساءل ترى هل صدرت 
إلى الجنود أوامر بالقبض على من يصادفون من الرجال 
ليلا؟!... وإلى أين يسوقوبهم؟... وأيّ عقاب 
سيقضون به عليهم؟ تساءل طويلا وهو من الدهش 
والانزعاج في نماية بيد أنْ رؤيته للضحايا الجدد 


بين القصرين 4ه 
أدخلت على قلبه شيئًا من العزاء والارتياج» لم يعد على 
الأقلّ وحيدًا كما كان يظَنْ. وجد في بلواه أندادًا 
يؤنسون وحشته ويشاركونه المصيرء كان يتقدم قافلتهم 
بمسافة قصيرة فراح ينصت إلى وقع أقدامهم مستانسًا 
إليها كما يستأنس الضالَ في مفازة إلى أصوات آدميّة 
ترامت إليه مع الريح» ولم تكن أمنية أعرٌ على نفسه 
آنذ من أن يلحقوا به لينضم إلى جماعتهم. سواء كانوا 
معارف أو غرباء. لتخفق قلوسجم معًا وهم يحون 
الخطى نحو المصير المجهول. هؤلاء الرجال أبرياء وهو 
بريء ففيم القبض عليهم؟ فيم القبض عليه هو مثلا؟ 
لا هو من الثؤار ولا من المشتغلين بالسياسة ولا حتى 
من الشبّان فهل يطلعون على الأفئدة ويحاسبون على 
المشاعر؟ . . . أو تراهم يعتقلون أفراد الشعب بعد أن 
فرغوا من اعتقال الزعماء! لو كان يعرف الانجليزية 
فيسأل آسره؟... أين فهمي ليحادثه نيابة عله؟ . . 
وخزه الألم والحنين» أين فهمي وياسين وكيال ونخديجة 
وعائشة وأمهم؟ هل يمكن أن تتصور أسرته ما آل إليه 
حاله من هوان وهي التي لم تره إلا جبّارًا جليلا؟ هل 
تتصوّر أنّْ جنديًا دفعه بعلف حي أوشك أن يطرحه 
أرضا وان يشوقه كنا تاق النائمة؟ تعد لذكر اله 
ألما وحنيئا فكادت تدمع عيناه. كان يمرٌ في طريقه 
بأشباح بيوث ودكاكين يعرف أصحاببهاء ومقاهٍ كان 
يومًا- خاصّة عهد الصبا والشباب ‏ من سعارهاء 
فأحزنه أن يمضي بها سررًا دون أن تنبض لنجدته أو 
حبّى ترئي حاله» شعر حمًا بأنّ أحزن صنوف الموان ما 
حاق به في حيّه» ثم رفم عينيه إلى الساء باعثًا بفكره 
إلى الله المطلع على قلبه. بعث إليه بفكره دون أن 
يجرى له ذكرًا على لسانه ولو همسا مستحييا من أن 
ينطق باسمه وجسمه لم يتطهّر من أنفاس الشراب 
وعرق الغرام؛ وما ليث أن تضاعف خوفه من أن 
ياعد دنسه بينه وبين النجاة» أو أن يلقى مصيرًا كفاءً 
لما سلف من استهتاره» فغشي صدره تطبر وكابة. 
وأشفى على اليأس. حينها شارف سوق الليمون ترامى 
إلى الصمت الذي لا يؤنسه إلا وقع أقدام أصوات 
مبهمة فأرهف محملقًا في الظلام - وهو يتقدّم بين 


.هه بين القصرين 
الخوف والرجاء ‏ فتناهت إلى أذنيه لخة لم يَذْرِ إن كان 
مصدرها إنسان أو حيوان» غير أنه تبن بعد قليل لغطا 
فلم يتمالك أن قال لنفسه في لحفة «أصوات آدميّة!» 
ومال مع الطريق فلاحت لعينيه أضواء متحركة حسبها 
بادئّ الأمر بطاريّات جديدة ولكنّها وضحت مشاعل 
رأى على نورها جانبا من بوابة الفتوح يقف تحته جنود 
بريطانيون. ثم تراءى له جنود من البوليس المصريّ رد 
منظرهم إلى صدره الدماء. سأعرف ما يراد بي» لم يبن 
إلا مسيرة خطواتء ماذا دعا إلى تجمهر الجتود 
الإنجليز والمصرئين عند البوابة؟ لماذا يسوقون الأهالي 
من شي أنحاء الحي؟ عنًا قليل أعرف كل شيء. كل 
شيء؟ فلأستعد بالله ولأسلّم إليه أمري. سأذكر هذه 
الساعة الرهيبة مدى العمر إن كان في العمر بقيّةع 
الرصاص . . . المشنقة... دنشواي... أأنضم إلى 
سجلّ الشهداء؟ أأصبح نبأ من أنباء الثورة يتناقله 
محمد عفْت وعلّ عبد الرحيم وإبراهيم الفار كما كنا 
نتناقل الأخبار في سهرات المساء؟ تصوّر السهرة 
ومكانك شاغر؟ رحمة الله عليك. . . كان وكان. . . 
َشْدٌ ما يبكونك» وسيتذكّرونك طويلاء ثم تنسبى» ما 
أشدّ اضطراب قلبي» سلّم أمرك للذي شخلقكء, اللّهمّ 
حوالينا ولا علينا. ما إن اقترب من موقف انود حيّى 
انمهت الأنظار إليه باردة قاسية متوعٌّدة فغاص قلبه في 
الأعياق لما وراءه في الأضلم ألما حاداء ثرى هل 
آن له أن يتوقف؟ تثاقلت قدماه وله التردّد 
والخيرة. . . 
افتل ب 
هتف بها شرطيّ وهو يشير إلى داخل البوابة فنظر 
السيد إليه نظرة ناطقة بالتساؤل والاستعطاف 
والاستغاثة, ثم مر بين الجنود لا يكاد يرى ما بين يديه 
من شدّة الفرع ويودٌ لو يغطي رأسه بذراعيه استجابة 
لغريزة الخوف التى تستصرخحه. هنالك نحت قبة البوابة 
رأى منظرًا عرفه بما يراد به بغير حاجة إلى سؤال» رأى 
فرة عميقة كالخندق تعترض الطريق» كما رأى 
جمهورًا من الأهالي يعملون بلا توقف وتحت إشراف 
الشرطة لسدٌّ الحفرة بأن يحملوا الأتربة في مقساطف 


ويفرغونها فيهاء الكل يعمل بيمّة وسرعة والأعين 
تسترق النظر في حوف إلى الجنود الانجليز الذين 
رابطوا عند مدخل البؤابة. اقترب منه شرطيّ ورمى 
إليه بمقطف وهو يقول بصوت غليظ يلم عن وعيد: 

افعل كا يفعل الأخرون... 

ثم همسا: 

أسرع حيّى لا يصيبك أذى. . . 

كانت هذه الحملة أوؤل تعبير «إنسانيٌ) يلقاه في 
رحلته المخيفة فسرت في صدره سرى النسمة في حلق 
المختئق, انحنى على المقطف فتناوله من عللاقته وهو 
يسأل الشرطئ همسًا: 

هل نظا رادا |13ق «العدان ٠‏ 

فأجابه بئنفس الصوت: 

إن شاء الله , 

تنبّد من الأعياق» راودته نفسه على البكاء» شعر 
أنه يولد من جديد.. رفع بيسراه الجبّة من طرفها 
ودسه في -حزام القفطان كيلا تعوقه عن العمل ومضى 
بالمقطف إلى طوار البؤابة حيث تراكمت الأتربة فوضعه 
بين قدميه وراح يملا كيه بالتراب ويفرغها في المقطف 
حبّى امتلأً ثمّ حمله بيده وذهب إلى الحفرة فأفرغه فيها 
وعاد إلى الطوار» واصل العمل بين جماعات مختلفة من 
الناس ضيمّت الأفنديّة والمعممين» الحرمين والشبّانء 
يعملون جميعًا ببمّة عالية مستمذّة من رغبتهم في 
الحياق» وإنّه ليملأ مقطفه إذ لكزه كوع فالتفت إلى 
مصدره فرأى صديقًا يدعى غنيم حميدو صاحب 
معصرة زيوت بالجماليّة من يلمون بمجالس لهوه بين 
حين وآخبر ففرح به فرحة عظمى كيا فرح به الآخر. 
وسرعان ما تهامسا: 

- أنت وقعت أيضًا! . . 

- قبلك. . وصلت قبيل منتصف الليل ورأيتك 
وأنت تتسلّم مقطفك فجعلت في ذهابي وإياي أتسع 
طريمًا يميل إليك رويدًا رويدًا حيّى جاورتك. 

أهلًا. . أهلاء اليس ثمّة أحد من أصدقائنا؟! 

- م أعثر على غيرك . 

- قال لي الشرطي إثْهم سيطلقون سراحنا حالما نتم 


العمل . 

- قيل لي ذلك أيضاء ربّنا يسمع منك. 

- سبوا ركبي الله يخرب بيوتهم . . 

- لم تعد لي ركب على ما أظنٌ! 

وتادلا ايتسامة مقتضبة. . 

ما أصل هذه الحفرة؟ 

- يقال إن فتؤات الحسيئيّة حفروها أوْل الليل 
ليمنعوا مسير اللوريّات ويقال أيضًا إِنّ لوريًا وقع فيها! 

إن صِمّ هذا فقل علينا السلام! 

وعندما تجاورا مرّة ثانية عند كوم الأتربة كانا قد ألما 
الموقف بعض الشيء فعاودتها الروح حقّى أنْمها لم يتمالكا 
أن ابتسما وهما يملآن مقطفيهما بالتراب كعال البشاء 

ب سحسيئا الله ونعم الوكيل على أولاد الكلب. . 

فهمس السيد باسما: 

]تحر انط اا ماما" 

- أين قبض عليك؟ 

أمام البيت , 

- طبعًا! 


وأنت؟ , 


بين القصرين اده 


أننك ستحمل التراب وتُسخّر في سدّ الحفرة؟ لا تريد 
الحفرة أن تمت لا فائدة ترجى من الشكوى. وللن 
تشكو؟ جسمك قري صلب العود يستطيع أن يتحمّل 
رغم سكرة الليلة وعبثها. كم الساعة الآن؟ ليس من 
الحيطة أن تنظر فيهاء لو لم يقم لي هذا لكنت الآن 
مستلقيًا على الفراش مئعٌمًا بلذيذ المنام.» كنت أستطيع 
أن أغسل رأسى ووجهي وأشرب شربة رويّة من القلة 
المعطرة 590 هنيئًا لنا هذه المشاركة في جحيم 
الثورة» لم لا؟ البلد ثائر.. كل يوم.. كل ساعة 
ضحايا وشهداء» بيد أنْ قراءة الصحف وتناقل الأخبار 
شىء أمّا حمل التراب تحت تهديد البنادق فشىء آخرء 
هنيكًا أتها النائمون في أسررة :اللي لفطلا 
دي لني كا اللي عا بقوّتك, 
نحن ضعفاء. . لست لهاء هل يتصور فهمي أي خطر 
يتهدّده؟ إِنه يستذكر دروسه الآن غير عام بما يحي 
بأبيهء قال لى: «لا» لأوّل مرّة في حياته. قالها بدموعه 
ولكن سيّان عندي. المعنى واحدء لم أقل لأمّهء لن 
أقول لهاء أأكشف لما عن عجزي؟ أأستعين بضعفها 
بعد أن أخفقت بقوّتي؟ كلا. . لبق جاهلة بكل شيء. 
يقول إِنّه لا يعرّض نفسه للخطرء حمًاء؟ الهم 


/ تسرك ىر ١‏ ل ط 
- كنت بالعًا منزولة» ولكنبي أفقت تام الإنجليز استجبء. لولا هذا ما رحمته أبذاء اللهمّ احفظه. 


أقوى من الكوكايين! 


اللْهمّ احفظنا جميعًا من شر هُذه الأيّام» كم الساعة 
الآن؟ إن طلع علينا الصباح أمثًا القتل» لن يقتلونا 


مضى الرجال يذهبون ويجيئون عجلين ما بين طوار أمام الخلق. الصباح؟ 


الأتربة والخفغرة عل ضوء المشاعل , أثاروا التراب حي 


انتشر في فراغ القبّة خالقًا جا خانقًا فعلاهم البهر 


وتصبْب منهم العرق من جبهاتهم واغبرت وجوههم 
وتتابع من انتشاق الغبار سعالهم فكائهم أشباح انلشقّت 
عنبم الحفرة. على أيّ حال لم يعد وحذه. هذا 
الصديق وهؤلاء الرجال من حيه. جنود البوليس 
المصريون معهم بقلوبهم»ء أي ذلك أثهم جردوا من 


سلاحهم.. لم يعد السيف ذو الغمد المعدنّ يتدلدل 


من أحزمتهم, اصير. . اصير لعل هذه العْمّة أن 
تتكشف » هل كنت تتصوّر أنْك ستعمل حتّى مطلع 
الصبح وربما حيّى الضحى», شد حيلك. ليس ثمّة 


بصقت على الأرض كي أتخلْص من الغبار اللازق 
بسقف حلقي فرماني أحد الأبالسة بنظرة وقف لها شعر 
رأمى !| 

سيق ع فى + القن للعتظه يتن لزانت لازا 
يكفى لسدٌ هذه الحفرة! . 

لعل زبيدة دعت عليك! 

- لعلها. . 

ألم يكن سدّ حفرتها أطيب من سد هذه الحفرة؟ . 

- بل أشق! . 

تبادلا ابتسامة سريعة ثم قال غنيم متنهدا: 

- انقصم ظهري يا هوه! . 


"هه بين القصرين 


مثلك. عزاوؤنا أنّنا نشارك المجاهدين بعض 
الامهم . 

- ما رأيك في أن أرمي بالمقطف في وجه الجنود 
وأهتف يأعل صوى «يحيا سعدع؟!. 

- اشتغلت المنزولة من جديد؟ 

يا للخسارة! . . كانت قطعة «قد فص العين» 
حرّكتها بالشاي مرّة ومرّتين وثلاناء ثم ذهبت إلى 
البطدكد اسع المع مدل عفدرة و ريد 
الحمزاوي. وعدت قبيل منتصف الليل وأنا أقول 
لنفسي «الوليّة الآن تنتظرك لا أفلح من خيّب لها رجاء» 
حين طلع ابن القرد وساقنى من قفاي . ٠‏ 

- ريّنا يعوّض عليك . 

مم 

جاء الجنود برجال آخخرين بعضهم من ناحية 
الحسيئية والبعض الآخر من ناحية النحاسين وسرعان 
ما انضمّوا إلى «العّال:». ألقى على المكان نظرة فوجده 
ازدحم بالجمهور أو كاد وقد انتشروا حول الحفرة في 
جميع الجهات؛ يذهبون إلى الطوار ويرجعون إليها في 
حركة لا تنقطع وأنوار المشاعل تضيء منهم وجوها لاهثة 
نال منها الإعياء والذلٌ والخوف كل منال. الكثرة بركة 
وأمان. لن يذبحوا هذا الجمع الغفير من الناس». لن 
يأخذوا البريء بالمذنب» ترى أين المأنبون؟ أين هؤلاء 
الفترّات؟ هل يعلمون الآن أنْ إخوانا لهم وقعوا في 
الحفرة الى حفروا؟! قاتلهم الله هل حسبوا أن حفر 
حفرة سيعيد سعدًا أو يخرج الإنجليز من مصر! 
لأنقطعنٌ عن السهر إن كتب الله لي عمرًا جديداء 
أنقطع عن السهر؟ لم يعد السهر بمأمون, كيف يكون 
طعم الحياة» لا طعم للحياة في ظل الثورة» الثورة. . 
أي جنديّ يقبض عليك. . تحمل التراب بكفيك, 
فهمي يقول لك لا!ء. متى تعود الدنيا إلى أصلها؟ 
صداع؟. . بل صداع وغثيانء دقائق من الراحة. . لا 
أطمع في مزيد! بهيجة في سابع نومة» أمينة تنتظر كما 
تنتظر :ولبة» غنيم ع هيهات أن يخطر لكم ما حاق 
بأبيكم. ربا إن التراب يملا أنفي وعيي. يا سيّدنا 
الحسين. امتلئيى.. امتلئي. . أما كفاك هذا التراب 


كلّه؟! يا بن بدت رسول اللهء غزوة الخندق. . هكذا 
دعاها سيّدنا الواعظ. كان عليه الصلاة والسلام يعمل 
مع العاملين ويرفع التراب بيديه. . كافرون وكافروت 
اذا ينتصر كافرو اليوم!. فساد الزمن. . فسادي أناء 
هل يعسكرون أمام البيت حيٌّ تنتهي الثورة؟ . 

- ألم تسمع الديكة؟ 

أرهف السيّد أذنيه ثم غمغم : 

الديكة تصيح ! الفجر؟ 

- العم . . ولكتّبا لن تمت قبل الصباح . 

- الصباح ! 

- لمهم أني محصورء محصور جدًا. 

انهه ذهن السيّد إلى أسفل فشعر بأنّه محصور 
أيضاء وبأن جانبًا من آلامه يعود بلا شك إلى ذلك, 
وسرعان ما اشتدٌ ضغط المثانة عليه كأنما هيّجها تفكيره 
فيهاء قال: 

وأنا كذلك , 

العم" 

ما باليد حيلة! 

- انظر هناك إلى ابن القرد الذي وقف يبول أمام 
دكان على الزجاج! . 


ا 
- إخراج شويّة بول أهمٌ الآن عندي من إخراج 
الإنجليز من مصر كلها. . 
- إخراج الإنجليز من مصر كلها؟! ليخرجوا ألا 
من النحاسين . 
انظر. . لا يزال الحنود يأتون بالئاس! 
رأى السيّد جماعة جديدة تشقٌّ طريقها صوب 


للفو 


- رباه. . 


11 
استيقظ السيد أحمد من نومه حوالى العصر وكان نبأ 
واقعته قد ذاع في الأهل والأصدقاء فوفدوا على البيت 
واجتمعوا به مهنئين بالسلامة فراح يقصٌ القصة 
ويعيدها بأسلوب لم يَخْلُ- رغم جذيّة الأمر- من 
فكاهة وتمويل حيٌّ أثار شيّى التعليقات. كانت أميئة 


أل من سمع القصّةء ألقاها عليها وهو مشْنّت النفس 
خائر القوى لا يكاد يصدّق حمًا أنّه نجا فتلقّت وحدها 
الجانب المفجع خالصاء وما كادت تغادره نائمًا حتّى 
استرسلت في البكاء وجعلت تدعو الله أن يرعى أسرتما 
نانف توركية. ولاعت الله طويلة ع كل النساعاء 
ولكنّه حينا وجد نفسه محوطا بأصدقائه خاصّة المقرّبِين 
منهم أمثال إبراهيم الفار وعلي عبد الرحيم وتحمد 
عمَّتء استردٌ الكثير من روحه المعنويّة فتغذّر عليه أن 
يغفل الجانب الفكاهي من الحادث حتّى غلب على ما 
عداه فانتهى الحديث إلى نوع من المزاح كأنما كان 
بقص عليهم مغامرة من مغامراته. وبينها حفل الدور 
الأعلى بالزائرين اجتمع شمل الأسرة بالدور التحتان 
فيها عدا الأمّ التي شغلت مع أمْ حنفي بتهيئة القهوة 
والأشربة» شهدت الصالة من جديد اجتماع ياسين 
وفهمي وكمال وخحديجة وعائشة في مجلس الام 
التقليديّ» وقد انضِم إليهم خليل شوكت وإبراهيم 
شوكت سحابة النهار ولكتهها صعدا إلى حجرة الأب 
عقب استيقاظه بقليل فخلا الحو للاخوة» وكان الحزن 
الذي غشيهم طوال النهار على ما أصاب والدهم قد 
زايلهم بعودة الطمأنينة إلى نفوسهم فنيضت قلوبهم 
بالعواطف الأخويّة وتوثّبوا للسمر والمرح كعهدهم في 
الأيّام الخوالي. على أن الطمأنينة لم تستقرٌ بنفوسهم 
حبّى رأوا والدهم بأعينهم» أقبلوا عليه واحدًا في إثر 
واحد فقبّلوا يده ودعوا له بطول العمر والسلامة ثُمّْ 
غادروا الحجرة في نظام وأدب عسكريّين. ومع أنْ 
السيّد اكتفى بمذّ يده لياسين وفهمي وكمال بالتتابع 
دون أن ينبس بكلمة إلا أنّه ابتسم إلى خديجة وعائشة 
وسألهما في رقّة عن الحال والصححةء رقّة لم تحظيا بها إلا 
بعد زواجهماء وكان كال يلاحظها بدهشة مقروئة 
سرور كأثما هو الذي يحظى بها. والحقٌ أن كيال كان 
أسعد الجتميع بزيارات شقيقتيه كلّما هلْت. . كان ينعم 
في أثنائها بسعادة عميقة لا يعكر عليه صفوها إلا 
التفكير في النباية المتوقعة. ودائمًا كان يجيء النذير بهذه 
النباية من أحد الرجلين ‏ إبراهيم أو خخليل ‏ إذا تمطى 
أو تثاءعءب م قال «آن لنا أن نذهب» أمر مطاع لاا يرد 


بين القصرين “اده 

لم تتكرّم إحدى شقيقتيه - ولو مرة واحدة- بأن تجيبه 
قائلة مثلا «اذهب أنت وسألحق بك غدًاء! بَيْد أنه 
يبمرور الزمن اعتاد الصلة العجيبة التي تربط بين 
شقيقتيه وزوجيههما وسلَّم بحكمها وقنع بالزيارة 
القصيرة تجيء بين الحين والحين فيسعد بها دون طمع في 
مزيد. وبالرغم من هذا فلم يكن يتالك أحيانًا إذا 
رآهما مقبلتين من أن يقول متمنيًا «لو تعودان إلى البيت 
فتقيمان فيه كما كنت|»! فتبادره أمّه قائلة «ريّنا يكفيهما 
شر تمنّياتك الطيّبة!». بيد أنْ أعجب ما صادفه في 
حياته) الزوجيّة كان ذلك التغبّر الذي طرأ على 
البطن , , 
كالمرض وطورًا غريية كالأساطيرء» وفدت على حافظته 
ألفاظًا جديدة كالحبّل والوحم وما اكتنف الأخير من 
فيء وتوعّك والتهام لحبّات الطين الحافة. . ثم ما شأن 
بطن عائشة؟.. متى يقف عن النموٌ الذي جعله 
كالقربة المنفوخة؟. وهذا بطن -خحديجة بدا فيا يبدو 
يخطو نفس الخطواتء, وإذا كانت عائشة ذات البشرة 
العاجيّة والشعر الذهبيّ قد وحمت على الطين فعلى أىّ 
شىء توحم سخديجة؟! غير أنْ نحديجة لم تحقّق محاوفه 
نتوخمت على المخلّل حي استثارت منه أسئلة لا حصر 
لها لم يظفر أحدها بجواب مقنعم!.. وتقول أمّه إن 
بطن عائشة ‏ وبطن خديجة بالتالي - سيتمخض عن 
طفل صغير سوف يكون قرّة عينه. . ولكن أين يقيم 
هذا الطفل» وكيف يعيش». وهل يسمع ويرىء وماذا 
يسمع وماذا يرى. وكيف وجدء ومن أين جاء؟! . . 
على أن هذه الأسئلة لم تهمل, ظفر عنها بأجوبة جديرة 
حمًا بأن تلحق بمعارفه عن الأولياء والعفاريت والرقى 
والتعاويذ وغير ذلك من الموادٌ التى تزخخر بها دائرة 
معارف أمّه. . للك سأل عائشة مستطلعًا باهتمام : 

متى يخرج الطفل؟ . 

فأجابته ضاحكة : 

افو 1 ببق الا قلبل: 

فتساءل ياسين : 

أظنّك في الشهر التاسم؟ . 

فأجابته ' 


وما صاحيةه من أعراض بذك تارة مرعبة 


4 6 بين القصرين 


- نعم ولو أنْ حماتي تصيٌ على أن في الثامن! . 
أصل حماتك تصرٌ دائمًا على أن يكون لما رأي 
خالف. هذا كل ما هنالك! . 
ولا كان الجميع على علم بما ينشب كثيرًا بين محديجة 
وحماتها من نزاع فقد تبادلوا النظرات ثم ضحكوا. 
وقالت عائشة: 
- أودٌ أن أقترح عليكم أن تنتقلوا إلى بيتنا فتبقوا 
معنا حّى يجلو الإنجليز عن شارعكم. 
فقالت خديجة بحياس : 
- أجلء لم لا؟. إن البيت كبير وستنزلون على 
الرحب والسعة. فيقيم بابا وئينة عند عائشة لأثها في 
الدور الأوسط. وتقيمون أنتم عندي . 
رخب كمال بالاقتراح فتساءل بلهجة تنم عن 
التحريض : 
داهن يقل كنانا؟ 
ولكنّ فهمي قال وهو يبز منكبيه : 
- إنّكا تعليان حقٌ العلم أن بابا لا يمكن أن يوافق . 
فقالت نحخديجة بأسف ' 
- ولكنّه يحب السهر فيكون عرضة لتحرّش الجنود. 
يا لهم من مجرمين! . 
ساقوه في الظلام وحملوه التراب!... آه. رأسي 
يدور كلما تصوّرت هذا. 
فقالت عائشة: 
- كنت أنتظر دوري لتقبيل يده وأنا أتشفخص جسمه 
جزءًا جزءًا لأطمئنٌْ عليه كان قلبي يدق. . . وعيناي 
تغالبان الدمع... لعنة الله على الكلاب أولاد 
الكلاب! 
فابتسم ياسين. . . وقال لعائشة محزّرًا وهو يلحظ 
كيال غامرًا بعينه : 
- لا تسبي الإنجليز هكذا فإِنْ لهم بيننا أصدقاء! 
فقال فهمي متهكم): 
- لعله مما يُسرٌ له بابا أن يعلم أنَّ الجنديّ الذي 
يقبض عليه ليلا ما هو إلا صديق من أصدقاء كيال. 
فابتسمت عائشة إلى كمال متسائلة : 


- ألا تزال تحبّهم بعد ما كان منهم؟ 

فغمغم كيال وقد تورّد وجهه حياء وارتباكا: 

- لو عرفوا أنه أبي ما تعرّضوا له بسوء! 

فيا تمالك ياسين إلا أن يضحك ضصحكة عالية حيٌٍّ 
أنّه غطى فمه بيده وهو ينظر في حذر إلى السقف كأنما 
حاف أن يترامى صوت ضحكته إلى الدور الأعلى. . . 
ثم قال ساخرا: 

- الأحرى بك أن تقول: إثْهم لو عرفوا أنك 
مصري ما صبّوا العذاب على مصر والمصرئين ولكتّهم 
لا يعرفون؟ 

فقالت نتخديجة بلهجة لاذعة: 

دع هذا الكلام لغيرك أنت. . . ! أتنكر أنك من 
أصدقائهم كذلك؟ ! 

ثم مخاطبة كيال بلهجة لاذعة : 

أتواتيك الشجاعة بعد ما عرف عن صداقتك لهم 
على أن تصلل الجمعة في سيّدنا الحسين؟ 

ففطن ياسين إلى مرمى هجومها وقال مظهرًا 
الأسف ؛ 

- يحقّ لك أن تتطاولي عل ما دمت قد تزوجت 
فاكتسبت بعض حقوق الأدميين. . . 

- ألم يكن لي هذا الحقّ من قبل؟! 

- الله يرحم أيّام زمان. . . ! ولكنّه الزواج يعيد إلى 
البائسات الروح!... اسجدي شكرًا للأولياء. . 
ولتعاويذ وأقراص َم حلفي . 

- بحن لك أن تتهيجم على الئاس باحق وبالباطل 
بعد أن ورثت المرحومة وصرت من عداد الملاك , 

فقالت عائشة بفرح صبيانَ كأنما لم تدر من الأمر 


شيًا : 
أخي في عداد اللاك!.. . ما أجمل أن أسمصع 
هلا انق غ يخعا'نا م ناسيك ؟! 


- دعينى أعدٌ لك أملاكه. اسمعي يا سئّى: دكان 
الحمزاوي وربع الغوريّة وبيت قصر الشوق. . . 
فقال ياسين وهو يهرٌ رأسه مغمضًا عيئيه : 


ب ومن شر حاسد إذا سعسد. . . 

فتابعت نحمديجة حديثها دون مبالاة بمقاطعته : 

وما خحفىي من الخحلّ والنقود المخباة أعظم . . 

فهتف ياسين في أسف صادق: 

اختفت كلها وحياتك. سرقت؛ سرقها ابن 
الكلب» جعلت أب يسأله عا إذا كانت تركت حليا أو 
نقودًا فقال اللصّ «ابحثوا بأنفسكم. علم الله أني كنت 
أنفق عليها في أثناء مرضها من جيبي الخاضص»... 
اسمعوا يا هوه. .. جيبه الخاص ابن الغسالة! . . . 

- يا ولداه!. .. مريضة طريحة الفراش نحت رحمة 
رجل طامع في مالها!... لا صديق ولا حبيب»: 
غادرت الدئيا من دون أن يحزن عليها أحد. 

فتساءل ياسين : 

من دون أن يحزن عليها أحد؟! 

فأشارت تحديجة من خلال باب موارب إلى ملابس 
ياسين المعلّقة بالمشجب وقبالت محتجة احتجاجًا 
ساخزرًا: 

وهذا البابيون الأسود؟!... أليس آية على 
الحزن؟! 

فقال ياسين جاذا : 

لقد حزنت عليها حمّاء ربّنا يرحمها ويغفر لهاء ألم 
نكن تصافينا في آخر لقاء؟ الله يرحمها ويغمر لما 
ولنا. . , 
فخفضت خديجة رأسها قليلا رافعة حاجبيها ثم 
نظرت إليه من أعلى كمن ينظر من فوق نظارته وهي 
تقول: 

إحم... إحم... اسمعوا سيّدنا الواعظ (ثمٌ 
وهي ترميه بنظرة شكٌ) ولكن لم يبد عليك فيها أظنّ 
حزن شديد؟! 

فرماها بنظرة مغيظة قائلا : 

ما قصّرت في واجبي نحوها والحمد لله؛ أقمت 
لها مأتمًا استمرٌ ثلاث ليال » وكل حمعة أزور القرافة 
محمّلا بالرياحين والفواكه. . . أم تريدينني ألطم وأعول 
وأحثو التراب على رأسي! إن للرجال حزنًا غير حزن 


بين القصرين هده 

النساء. 

فهرّت رأسها كأتما تقول «أفدتني أفادك الله» ثم 
قالت متمبدة: 

آه من حزن الرجال!. . . ولكن ختّرني وحياتقي 
عندك ألم يخفف الدكان والريع والبيت من لوعة 
الحزن؟! 

فقال متافْمًا : 

- صدق من قال: إِنْ قبح اللسان من قبح 
الوجه. . . 
- من قائل هذا؟. . 

أجابها باسم): 

حماتك! 

فضحكت عائشة.؛ وضحك فهمى وهو يسأل 
ألم تتحسّن العلاقات بينكما؟ 

فأجابته عائشة بالنيابة عنها قائلة : 

سوف يتحسّن ما بين الإنجليز والمصريين قبل أن 
يتحسّن ما بينها. . . 

فقالت خديجة بحنق لأول مرة: 

امرأة قويّة» ربّنا عليهاء ولله أنا بريئة 
ومظلومة. . . 
فقال ياسين متهكمًا : 

- نصدّقك يا أختي بلا قسمء هذا شيء نشهد به 
أمام الله في يوم العذاب! 

فعاد فهمي يسأل عائشة : 

وأنت كيف حالك معها؟ 

فمّالت عائشة وهي تلمحظ خديجة بإشفاق : 

- على ما يرام. , . 

فهتفت خمد نجة : 

- آه من أحتك عائشة . . . تعرف كيف تسوس 
وتطاطرء الرأس . . . اتفوخص . . . 

فقال ياسين متصنّعًا اللحدّ: 

على أيّ حال فلحماتك ال رحمة ولك صادق 
التهنثة ! 


5 بين القصرين 

التهنئة الحقّة لك أنت قريئًا إن شاء الله حين تزف 
إلى عروسك الثانية! . . . أليس كذلك؟ 

فا تمالك إلا أن ضحك ثم قال: 

مركن يتمع علدا 

فتساءلت عائشة باهتتام : 

50000 

ففكر قليلا. . . ثم قال في شيء من الْحدٌ: 

- المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين» ولكن من يعلم 
بما يأتي به الغد؟! رما ثانبة وثالثة ورابعة. . 

فهتفت نخدئحة : 

هذا ما أتوقعه. الله يرحم جدّك! 

فضحكوا جميعا حبّى كال» ثم عادث عائشة تقول 
بصوت أسيف : 

- مسكينة زيلس!. . . كانت فتاة لطيفة وطيبة. , . 

كانت. . . ! وكانت حمقاء أيضاء أبوها. مثل 
أبي ‏ لا يطاق. لو رضيت بمعاشرتي كا أحبٌ ما فرطت 
فيها أبدًا. . . 

لا تعترف مذاء حافظ على كرامتك» لا تشمت 

قال باستهانة : 

- نالت الحزاء الذي تستحقه. فلينقعها أبوها 
شرن فادها 

فغمغمت عائشة : 

- ولكتّها حبل يا ولداه!... أترضى لوليدك بآن 
ينمو بعيدًا عن رعايتك حي تستردّه غلامًا؟!. . . 

آى أصابت مقتلاء ينمو في حضائة أمّه كها نما أبوه 
من قبل» ربما كابد تعاسة كتعاسته أو أشدٌ. 
معه كراهية لأمّه أو لأبيه» تعاسة على أّ حال. قال 
عابسا: 

- ليكن حظّه كحظ أبيه ما باليد حيلة! 

وساد الصمت قليلا حي سأل كيال خحديجة : 

- وأنت يا أبلة متى يخرج الطفل. ..؟ 

فأجابته ضاحكة وهي تتحسّس بطهها: 

- إنه لا يزال في سنة أولى . 

فعاد يقول طا بيراءة وهو يتفرس في ووجهها: 


نحفت جدًّا يا أبلة وصار وجهك قبيحًا. . . ! 

ضحكوا جميعًا وهم يغطون أفواههم بأيديهم. 
ضحكوا حيّى شعر كيال بالحياء والارتباك. أما شحديجة 
التي لم يكن الاستياء من كال ما تستطيعه فقد مالت 
إلى أن تجاري التبّار فقالت ضاحكة : 

- أعترف لكم بأني خسرت في أيام الوحم كل 
اللحم الذي تعبت أمّ حلفي أعوامًا في جمعه ولمّه 
نحفت وبرز أنفي وغارت عيناي وخيّل إل أنْ 
«الرجل» يقلّب عينيه مفدّهًا عبنّا عن العروس التي 


ثم ضحكوا ثانية حين قال ياسين: 

الح أنْ زوجك مظلوم لأنْه على غباوته البادية 
وسيم الطلعة فسبحان من جمم الشاميّ على 
لمرو د 

تجاهاته خديجة وخاطبت فهمي قائلة وهي تومئ إلى 
عائشة : ْ ْ 

كلاهما زوجي وزوجها- في الغباء سواء! لا 
يكادان يبرحان البيت ليل هارء لا همٌ ولا عملء أمّا 
زوجها فوقته كله ضائم بين التدخين وعزف العود كآنه 
شخاذ من الشحاذين الذين يمون على البيوت في 
الأعياد» وأمّا زوجي فلا تراه إلا مستلقيًا يدن ويثرثر 
حبّى يدوخ دماغي . . 

فقالت عائشة كالمعتذرة : 

الأعيان لا يعملون! 

فقالت نحدنجة هازكة : 

- العفوا . . . يحق لك أن تدافعي عن هذه اللحياة» 
الحنّ أنْ الله لم يجمع بين متشابيين كا جمع بينكماء 
كلاكيا في الكسل والدعة والامول شخص واحدء 
والنبيّ يا سي فهمي بمرٌ اليوم كله وهو يدن ويعزف 
وهي تزؤق نفسها وتذهب وتجيء أمام المرآة. , 

تساءل ياسين : 

- لم لا ما دامت ترى منظرًا حسنًا. . . ؟! 

وقبل أن تفتتح خديجة فاها سألها مستعجلا: 

ريني يا أخختاه ماذا تصئعين لو جاء وليدك شبيهًا 
بك؟ 


كانت شبعت من مهاجمته فأجابته جاذة : 

سيجيء بإذن الله شبيهًا بأبيه أو جذه أو جدّته أو 
خالته. أمًا. . . (ثمّ ضاحكة) أما إذا أى إلا أن ببيء 
شبيهًا بأمّه فالنفي يكون أحق به من سعد باشا! 

ولكنّ كيال قال بلهجة خبير عليم : 

الإنجليز لا همهم الجمال يا أبلاء إنْهم يعجبون 
كثيرًا برأسي وأنفي . . . 

فضربت لححديجة صدرها بيدها هائفة : 

- يذّعون صداقتك وهم يعبثون بك!... ربنا 
يسلّط عليهم زبلن من جديد. 

ورمت عائشة فهمي بنظرة رفيقة وهي تقول : 

كم يسر دعاؤك بعض الناس. . . 

- كيف أسرٌ ولهم في بيتنا أصدقاء مغفلون؟ 

يا نخسارة تربيتك له., . , 

من الئاس من لا تنفع فيه التربية . 

فتساءل كيال محتجا ؛ 

- ألم أَرْج جوليون أن يعيد سعد باشا؟ 

فقالت نحديجة ضاحكة : 

- في المرة القائية تعلقة بي انتاف الذى يعجب به. 

شعر فهمي أكثر من مرّة بأنّ من حوله يسعون كلما 
بدت فرصة إلى استدراجه إلى الحديث والتسلية» بيد 
أن ذلك لم يجد شينًا في التخفيف من الإحساس 
بالغربة الذي غشيه طوال الوقت» هو إحساس كثيرا ما 
يفصله عن آله وهو بينهم فيشعر بالغربة أو الوحدة 
رغم زحمة المجلس» ينفرد بقلبه وحزنه وحماسه بين 
أناس لاهين ضاحكين: حيّى نفى سعد يتخذون منه 
دعابة إذا لزم الأمر. . . إختلس منهم النظرات تباعًا 
فوجدهم راضين» عائشة. . . هالئة وإن تكن تعبت 
قلييلاً بسبب الحمل ولكتهبا سعيدة بكل شيء حق 
بتعبهاء نخديجة. . . متوثّبة ضاحكة. ياسين. . . صححة 
وعافية وغبطة. مَنْ من هؤلاء يكترث لحوادث هذه 
الاجم 1 طن سيم يده بتي امعد م لحن وعد 
الإنجليز أم مكثوا! إِنّه غريب» أو غريب على الأقل 
بين هؤلاء. ومع أنْ هذا الإحساس كان يلقى منه عادة 


بين القصرين لاهه 

نفسًا مسماحة فإنّه ل يَلْنَ هذه المرّة إلا حنمًا وامتعاضاء 
رتما كان ذلك لما عاناه في الآيام الأخيرة . كثيرًا ما توقع 
أن يسمم عن زواج مريمء كان ذلك ممه وكربه بيد 
أنّه سلّم به سلفًا تسليم اليأس. وكاد يألفه بكرور 
الأيامء إلا أن حبّه نفسه تراجع عن بؤرة شعوره الذي 
شغلته الشواغل الكرى. حيّ وقعت واقعة جوليون 
فزلزل زلزالا. تغازل إنجليزيًا لا مطمع لحا في الزواج 
منه فأيّ معي تتضمّنه هذه المغازلة؟ هل تصدر إلا عن 
متهتّكة؟ مريم متهتّكة؟ وفيمٌ كانت أحلامه الماضية؟ 
ولم يكن يخلو بكيال حتّى يدعوه إلى إعادة القصّة من 
جديد عسَّمًا عليه أن يصف التفاصيل بدقة. كيف 
لاحظ ما يدور. وأين كان موقف الجندئء وأين كان 
موقفه هوء وهل هو متاكد من أن بريم ننسها الي 
كانت في الكوة؟ وأئّها كانت تنظر حقا إلى الجندئ؟ 
وهل رآها تبتسم إليه؛ وهل وهل وهلء ثم يسأله وهو 
يعض غلن أسفانة كانا مير الكنقناء: الذىيحدية: 
وهل تراجعت في خوف حين وقعت عيناها عليك؟ ثم 
يمضي متخيّلا المواقف والمناظرء موققًا موقفاء ومنظرًا 
منظرًاء ويتخيّل الابتسامة طويلا حب كأنه يرى 
الشفتين المفترتين كما رآهما يوم زفاف عائشة وصاحبته) 
تتبع العروس في فناء بيت آل شوكت . 

- يبدو أن نيئة لن تجالسنا اليوم . 

قالته عائشة بصوث يدل عل الأسف. 

الزوار يملأون البيت. 

ياسين ضاحكا: 

أخخاف أن يشتبه انود في كثرة القادمين فيظتوا أن 
اجتماعًا سياسيًا ينعقد في بيتنا. 

حديجة فى مباهاة: 

د إن أمندقاء بانا حون فين الشدس.» :.. 

فقالت عائشة : 

ا انق الت انان فين فك السية: قتدل رامن 
القادمين , 

فأمّنت خديجة على قوها قائلة : 

- كان صديقًا حميًا لبابا من قبل أن نرى نور 


4 بين القصرين 


الدنيا. 

فقال ياسين وهو بز رأسه : 

اتهمني بابا ظلمًا بأنني قطعت ما بينهها. 

ألا يفرّق الطلاق بين أعرّ الأصدقاء؟! 

ياسين باسما : 

إلا أصدقاء أبيك! 

عائشة بفخار: 

من ذا تطاوعه نفسه على مخاصمة بابا؟ والله ما في 
الدنيا كلها نظير له. . . 
م اوه الناجدا: 

- كلا تصوّرت ما وقع له أمس شاب شعر 
5500 

أحيًا ضاقت خديجة بوجوم فهمي فعزمت على أن 
تعالحه بطريقة مباشرة بعد أن أخفقت - فيها رأت ‏ 
الطرق غير المباشرة» فالتفتت إليه متسائلة : 

- أرأيت يا أخي كيف أن ريّئا أكرمك يوم لم يأذن 
بتحفيق رغبتك نحو. . . مريم؟! 

نظر فهمي إليها بين الدهشة والحياء» سرعان ما 
تركّزت فيه الأبصار حيّى كال تطلّع إليه باهتمام: وساد 
صمت نم عمقه عن شعور مكبوت طال في الصدر 
تجاهله أو إخفاؤه حي أفصحت عنه خديجة بجرأة 
فتطلّعوا إلى الشابٌ في صمت المنتظر للجواب كأنما هو 
نفسه الذي طرح السؤّال. غير أن ياسين رأى أن ينبي 
الصمت قبل أن يستفحل فيبعث عل الألمى فقال 
متظاهرًا بالسرور: 

أصل أحيك ول والله يحب أولياءه. . 

وكان فهمى يكابد حرجا وحياء فقال باقتضاب: 

هذه مسألة قديمة عشاها النسيان. . . 

فقالت عائشة بلهجة المعتذر: 

لم يكن مى فهمي وحلده الذي خدع بهاء كنا 
خدعنا ما. . . 

فقالت خديجة مدافعة عن نفسها- بأقصى ما في 
وسعها ‏ تهمة الغفلة: 

على أيّ حال أنا لم أقتنم لحظة واحدة فيها مفضى, 
حجّى مع اعتقادي ببراءتهاء بأثها جديرة به. . . 


فعاد فهمى يقول متظاهرًا بالااستهانة : 

- هذه مسألة قديمة عفاها النسيان. إنجليزي. . . 
مصريّ. . . سيّان. دعونا من هذا كله. . . 

وجد ياسين نفسه تعاود التفكير في «مسالة, 
مريم... همريم؟!... لم يكن ينظر إليها فيما مضى - 
إِنْ مرّت في محال بصره ‏ إلا عابرّاء ثمّ زاده زهدًا فيها 
تعلق فهمي بهاء حيّى ذاعت فضيحتها في الأسرة. . 
هناك ثار اهتيامه. تساءل طويك 2 فتاة هي ؟ ود لو 
ملأ عينيه منباء تمي لو كان سبر الفتاة التي استرعت 
تشوّق «إنجليزي». . . إنجليزي جاء الح مقاتل 'لا 
مغازلاء لم يبد سخطه عليها إلا محاراة للحديث كلما 
تناولما أما في الباطن فقد أطربه غاية الطرب وجود 
«مفضوحة» جريئة مثلها على كثب منه فلا يفصله عنها 
إلا جدارء شاع في صدره العريض المكتنز ذاك الطرب 
البهيمئ الذي يدعوه إلى الصيد وإن وقف- احتراما 
لحزن فهمي الذي يبه عند حدٌّ الشعور واللذّة 
السلبية المجردة؛ لم يعد في اللتىّ من يستثير اهتمامه 
-0 

آن أوان الذهاب , 

قالت خديجة ذلك وهي تغبض على حين ترامى 
إليهم صوت إبراهيم وخليل وهما يتحذّثان قادمين من 
الردهة الخارجية . قام الجميع , من يتمطلى ومن يحبك 
ملابسه. إلا كيال فقد لزم مجلسه وهو يتطلّع إلى باب 
الصالة بحزن وقلب افق . . . 


/ 

جلس السيّد أحمد إلى مكتبه. مكنا على دفاتره؛ 
يزاول عمله اليوميّ الذي يتناسبى به - ولو إلى حين ‏ 
همومه الشخصيّة والهموم العامة التي تتطاير مها الأنباء 
الدامية. غدا يحبٌ الدكان حيّه مجالس الأنس والطرب 
أنه على الحالين يظفر بما ينتزعه من جحيم الفكرء إلا 
أن جو الدكان حافل بالمساومة والبيع والشراء والربح 
وغير ذلك من شئون الحياة العاديّة» حياة كل يوم. فلا 
تخلو من أن تبعث في نفسه شيئًا من الثقة الموحية 
بإمكان عودة كل شيء إلى أصلهء إلى حالته الأولى من 


الاستقرار والسلام. السلام؟ أين ذهب ومتى يأذن 
العودة؟!. . . حيّى في هذا الدكان تمري أحاديث 
الدماء همسا مفجعًاء لم يعد الزبائن يقنعون بالمساومة 
والشراء فها تألو السنتهم أن تردّد الأنباء وتندبف 
الأحداث». فوق زكائب الأررٌ والبنّ سمع عن معركة 
بولاق ومذابح أسيوط والجنازات التي تشيع فيها 
النعوش بالعشرات والشاب الذي انتزع من العدو 
لد فعا بو شاش أراد أن يدخل به الأزهر لولا أن سبقته 
المنيّة فانغرست في جسمه عشرات المقذوفات» هذه 
الأنباء وغيرها مما يصطبغ بلونها القاني تقرع أذنيه بين 
حين وآخر في المكان الذي يلوذ به ناشدًا النسيان. ما 
أتعس الحياة في ظلّ الموت, هلا عجّلت الثورة بتحقيق 
غايتها من قبل أن بمتدٌ أذاها إليه أو إلى أحد من 
ذويه!. . . إِنّهِ لا يبخل مال ولا يضِنٌ بعاطفة أمّا بذل 
الحياة فأمر آخخرء أيّ عذاب صبه الله على العباد 
فهانت النفوس وجرت الدماء! لم تعد الثورة «فرجة» 
حماسيّة, إْها بمدّد أمنه في الذهاب والاياب. وتتوغد 
ابله «العاصي» . فر حماسه لما هي دون غايتها. مجلم 
بالاستقلال وبعودة سعد ولكن دون ثورة أو دماء, أو 
ذعرء ببتف مع الهاتفين ويتحمس مع المتحمسين 
ولكنّ عقله يقاوم التيّار متعلقًا بالجياة فمكث وحده في 
المجرى كاصل شجرة اقتلعت العواصف أغصانبهاء لن 
يوهن شيء وإن جل من حبّه للحياة؛ فلتَيْقَ له إلى 
آخر العمر. وليؤمِن فهمي إيمانه لتبقى له حياته إلى 
آخر العمر كذلك, فهمي العاقٌ الذي رمى بنفسه إلى 
التيار بلا حزام نجاة. . 

- هل السيّد أحمد موجود؟ 

سمع السيد صوت السائل وهو يشر >0 
شخص داخل الدكان كأنه مقذوف آدمئ فرفع رأسه 
عن مكتبه فرأى ى الشيخ متولي عبد الصمد يتوسط 
المكان رامشًا بعينيه الملتهبتين مدقّقًا النظر ‏ عبمًا ‏ 
صوب المكتب فهش قلبه وابتسمت أساريره ثم هتف 
بالقادم : 

- تفضل يا شيخ متولي. حلت البركة. . 

فلاح الاطمثنان في وجه الشيخ وتقدّم يهترٌ أعلاه ما 


بين القصرين مه 

بين الوراء والأمام كأنه راكب جملاء فيال السيّد فوق 
مكتبه ومدٌ يده حيّ التقت بيد الرجل وشدٌ عليها 
متمت]| «الكرسئ على بمينك. تفضل بالجلوس» فأسند 
الشيخ متونّ عصاه إلى المكتب وجلس على الكرميّ ثم 
اعتمد بيديه على ركبتيه وهو يقول: 

الله يحفظك ويصونك. . 

فقال السيّد من قلبه: 

ما أطيب دعاءك وما أحوجنى إليه! 

لم م ملتفتا صوب ححميل الليزاوق الذي كان يزن 
أود لربون: 

- لا تنس أن عبييء لفة سيّدنا الت 

فجاء صوت جميل الحمزاوي قائلا : 

من ذا الذي ينسى سيدنا الشيخ ! 

فبسط الشيخ راحتيه ورفم رأسه وهو يحرّك شفتيه 
المامره موسا سر ثم 
عاد إلى وضعه الأول نفصمت لحظة : ثم قال بلهجة 
الافتتاح : 

- أبدأ بالصلاة على نور المدى. 

فقال السيد بحرارة: 

- عليه أزكى الصلاة والسلام. . 

- وأثني بالترخم على أبيك طيب الذكر. 

د رتعنه الله زخة واسعة. 

10 ثم أسأل الله أن يقرٌ عينيك بأسرتك وذريتك 


ا #اعيا لاس #8 


ودريه 0" وذرية ذرية ذدريتلك . 


5 

متدبلا : 

وأدعوه أن يعيد إلينا أفندينا عباس ومحمد فريد 
وسعد زغلول. . 


- اللّهمّ استجب . 

- وأن يخرب بيت الإنجليز بما أثموا ويما 
ياثمون. . . 
- سبحان المنتقم التبار, 

عنذ ذاك تنحنح الشيخ ومسح على وجهه بكفه ثم 
قال: 


أمَا بعد فقد رأيتك في منامي تلوح بيديك فيا 


عكه بين القصرين 


فتحت عي حبّى صح عزمي على زيارتك , 

فابتسم السيّد ابتسامة لا تخلر من حزن وقال: 

- لا أعجب لذلك فإني في مسيس الجاجة إلى 
بركتك». زادك الله بركة على بركة. . 

فيال وجه الشيخ نحو السيد في عطف وتساءل: 

أحى ما بلغنى عن حادث بوابة الفتوم؟ 

فأجاب السيد مبتسم): 

- نعم. . . من أبلغك يا ترى؟ 

- كنت مارًا بمعصرة حميدو غنيم فاستوقفني وقال لي 
«ألم يبلغك ما فعل الإنجليز بحبيبك السيّد أحمد وبي؟؛ 
فاستوضحته منزعجًا فقصٌّ عل العجب العجاب. . . 

قصّ عليه السيّد الحادث بتفاصيله» لم يكن يمل 
ترديده» لاه قصه في الأيّام القلائل الأخيرة عشرات 
المزات . 

وأصغى الشيخ وهو يتلو همسا آية الكرسيّ: أفرعت 
يا ببي؟ كيف كان فزعك. . . خبرني. . . . لا حول 
ولا قرّة إلا بالله. . . ولكن هل قنعت بالسلامة؟ . . . 
أنسيت أنْ الفزع لا يمضي إلى حال سبيله؟. . . صليت 
طويلا وسألت الله النجاة! هذا جميل ولكن يلزمك 
حجاب . . 

كيف لا!... يزيدنا بركة يا شيخ متول. . . 
والأولاد وأمهم. م يدركهم الفزع؟ 

- طبعًا. . . قلوب ضعيفة لا عهد ا بالقسوة 
والإرماب,؛ الحجاب... الحجاب... وذ 
الشفاء , . . 

أنت الخير والبركة يا شيخ متولي. . فقد نجاني الله 
من شر كبير» ولكن ثمّة شي لا يزال يتهدّدني ويقضٌ 

مال وجه الشيخ نحو السيّد في عطف مرّة أخرى 
وتساءل * 

ماذا بك يا بي عفا الله عنك؟ 


ماه وفيه 


فرنا السيد إليه بطرف واجم وغمغم في ضجر: 

- ابني فهمي , . . 

فرفع الشيخ حاجبيه الأشيبين متسائلا أو منزعجًا ثم 
قال برجاء : 


محفوظ بإذن الرحمن. . . 

فهر السيّد رأسه بأسّى وقال: 

عقن لأوّل مرّة والأمر لله. . . 

فبسط الشيخ متولي ذراعيه أمامه كأئها يثقي بأ 
البلاء وهتف ؛ 

معاذ الله فهمي ابني. وأنا أعلم علم اليقين أنه 
طبع على اليرٌ. 

فقال السيّد أحمد متسححطا: 

يأى حضرته إلا أن يفعل كا يفعل الشبّان في هذه 
الأيّام الدامية. . 

فقال الشيخ في دهش واستدكار: 

أنت أب حازم ما في ذلك شكء ما كنت أتصور 
أنْ ابا من أبنائك يجرؤ على أن يرد لك أمرًا. . . 

حر هذا القول في قلبه حي أدماه وضاق به صدره. 
ثم وجد من نفسه نزوعًا إلى التهوين من عصيان ابنه 
ليدفع عن شخصه تبمة الضعف أمام الشيخ وأمام 
نفسه معا فقال: 

- لم يجرؤ على هذا صراحة طبعًا ولكيّى دعوته إلى 
أن يحلف على المصحف بألا يشترك في أ عمل من 
أعمال الثورة فبكى: بكى من دون أن يجسر على قول 
لاء ما عسبى أن أصنع؟ لا أستطيع أن أحبسه في البيت 
ولا يسعني أن أراقبه في المدرسة. وأحاف أن يكون نيار 
هله الأيام أقوى من أن يقاومه شاب مثله. ماذا 
أصنع؟ . . . أأهدّده بالضرب؟ . . . أضربه؟. . . لكن 
ما عسى أن يجدي التهديد مع شسخص لا يبالي تعريض 
نفسه للموت! 

فمسح الشيخ على وجهه وتساءل بقلق : 

- وهل ألقى بنفسه في المظاهرات؟ 

فقال السيد وهو يبز منكبيه العريضين : 

- كلا ولكنه يوزّع المنشورات» لا ضيّقت عليه 
زعم أنه يكتفي بالتوزيع على خاصة أصدقائه. 

ب ها له خلة الأعال! , . . نه الوديع ابن الوديع 
وهذه الأعمال رجال من صنف آخرء ألم يعرف أن 
الإنجليز وحوش لا تتطرّق الرحمة إلى قلومهم 
الغليظة؟... وإنهم يتغذون صباح مساء بدماء 


عونق الساكن جع كلجه اس عظة وين لد 
النور من الظلام: قل له إنك أبوه وَإِنك تمحبّه وتخاف 
عليهء أما أنا فساأعمل من ناحيتي على إعداد حجاب 
من نوع خاصٌ وأدعو له في صلاتي وخاصة صلاة 
الفجرء والله المستعان من قبل ومن بعد.. ., 

قال السيد بحزن: 

إِنّ أنباء القتلى تتواتر كل ساعة معلنة آي التحذير 
من يعتير فيا الذي أصاب عقله؟ لقد ضاع ابن الفولي 
اللبّان في غمضة عين فشهد ماأتمه معي وعزّْى والده 
المسكين. كان الشابٌ يوزّع سلاطين اللبن الزبادي 
فصادف في طريقه مظاهرة فأغراه القضاء بالاشتراك 
فيها بلا وعي» وما هي إلا ساعة أو نحوها حي خرٌ 
صريعًا في ساحة الأزهرء لا حول ولا قوة إلا بالله. . . 
ِنَا لله وإنا إليه راجعون. لما تأر عن ميعاد عودته 
قلق أبوه فمضى إلى زبائنه يسأل عنه. قال له بعضهم 
نه جاءهم بالزبادي وذهب وقال آخرون إنَه لم يمر 
عليهم كعادته. حبّى بلغ حمروشًا بائع الكنافة فوجد 
عنده الصيئيّة وما تبقّى من السلاطين التي لم توزّْع 
وأخخيره الرجل بأنه تركها عنده واشترك في مظاهرة 
المساءء فجن جنون المسكين وقصد من توه قسم 
الجماليّة فوجهوه إلى قصر العيني وهئاك عثر على ابنه في 
المشرحة. لقد علم بالقصة بحذافيرها ا قصها علينا 
الفولي ونحن في بيته نعزيه. علم كيف فقد الشاب 
وكأن لم يوجد ولمس حزن أبيه المبرّح وسمع صوات 
أهلهع عاله لكان تلم يمه سد رج 
الإنجليزء لو كان حجرًا لعقل ولكثه شير أبنائي فلله 
امول 

فقال الشيخ متولٌ بصوت أسيف: 

أعرف ذلك الشابٌ المسكين, إِنَّه أكبر أبناء الفولي 
أليس كذلك؟... كان جدّه مكاريًا وكنت أكتري 
حماره للذهاب إلى سيّدي أبي السعود. إِنْ للفولي أربعة 
أولاد ولكن الفقيد كان أحبّهم إلى قلبه. 

هنا اشترك جميل الحمزاوي لأوّل مرّة في الحديث 
قائل : 

- أيامنا هذه مجنونة وقد تلفت عقول الناس حتّى 


بين القصرين أده 


صغارهاء بالأمس قال ابنى فؤاد لأمّه إِنْه ودّ لو يشترك 
في مظاهرة ! 

فقال السيد بقلق : 

- يعملها الصغار ويقع فيها الكبار!. . . ابنك فؤاد 
صديق ابني كال وكلاهها في مدرسة واحدةء ألا تحدثه 
نفسه.. . ألا تحدّثهما نفسهما مرّة بأن يسيرا في 
مظاهرة|., 
عجيبة! . , 

فقال الحمزاوي وقد ندم على ما فرط منه : 

د لعف إل هذا الحدّ يا سبي السيّد على أن أذبته 
بلا رحمة على تمنّياته الساذجة» إِنْ سي كمال لا يخرج 
إلا مصحوبًا بام حنفي حفظه الله ورعاه. . . 

ساد الصمت فلم يعد يسمع في الدكان إلا 
حشخشة الورقة التي يلف فيها الحمزاوي هدية الشيخ 
متولي عبد الصمدء ثم تنبّد الشيخ وقال: 

- فهمي ولد عاقل» لا ينبغي أن يمكن الإنجليز من 
نفسه العزيزة» الإنجليزا... حسبي الله. .. ألم 
تسمع بما فعلوا في العريزية والبدرشين؟ . . . 

كان السيد على حال من القلق لم يجد معها رغبة 
صادقة في التساؤل. إلا أنه لم يتوقع جديدًا فوق ما 
يقرع سمعه هذه الأيّام: فاكتفى بأن يرفع حاجبيه 
متظاهرًا بالاهتام فأنشأاً الشيخ يقول: 

كنت أوّل أمس في زيارة الحسيب السيب شذاد 
بك عبد الحميد بسرايه العامرة بالعباسية. دعاني إلى 
الغداء والعشاء فأتحفته بأحجية له ولآل بيته. وهناك 


حذئنى بحديث العزيزية والبدرشين. . . 

سكت الشيخ قليلا فتساءل السيّد أحمد: 

تاجر الأقطان المعروف؟ 

شدّاد بك عبد الحميد أكبر تاجر قطن» لعلك 
عرفت ابئه عبد الحميد بك شدّاد فقد كان يومًا على 
صلة وئيقة بالسيّد محمد عفت؟, , . 

فقال السيّد ببطء ليملى لنفسه في التذكير: 

أذكر الي رايتة. هرّة فى خلس السيّد محمد عفت 
قبل نشوب الحرب», ثم سمعت عن إبعاده عن القطر 
عقب عزل أفنديناء أما من جديد عنه.  .‏ ؟ 


55 بين القصرين 


فقال الشيخ متولى بلهجة سريعة عابرة كأئما يضم 
كلامه بين قوسين ليعود إلى حديثه الأؤل: 

لا يزال مبعدًا عن البلادى وهو يقيم في بلاد 
فرئسا ومعه زوجه وأولاده: لَشْدّ ما يخاف شدّاد بك أن 
يموت قبل أن يرى ابنه في هذه الذنيا . , . 

وسكت مرّة أخرى.» ثم مفضى بز رأسه يمنة ويسرة 
ويقول بصوت منغوم كأمًا ينشد مطلع توشيح نبوي : 

- بعد انتصاف الليل بساعتين أو ثلاث والناس نيام 
حاصر البلدثين بضسع مئات من الحنود الريطانيين 
مل جحجين بالسلاح. . . 

انتبه السيد انتباهة قاسية... حاصروا البلدتين 
والناس نيام؟. . . أليس أولئك المحاصرون من جنس 
هؤلاء الذين يعسكرون أمام البيت؟... بدعءوا 
بالاعتداء عل فأيّ خطوة تالية يضمرون؟!. . 

ضرب الشبخ على ركبتيه كأنما إنشاده ينوّع من 
الإيقاع ثم استطرد قائلا : 

- واقتحموا على العمدتين دارمها فأمروهما بتسليم 
السلاح ثم مرقوا إلى الحريم فتهبوا الحلى وأهانوا النساء 
وجروهن من شعورهنٌ إلى الخارج وهنْ يولولن 
ويستغئن وما من مغيث. عطفك الهم على 
المستضعفين من عبادك, . , 

دار العمذتين!... العمدة شخصية حكوميّة أليس 
كذلك اع ليق عيدة ولا لذارى: يدان عمد .ها 
اننا الا ترحن كنيائز الفنامن وهنا عمق أن ستتهينا 
بأمثالنا. ‏ تصور أمينة مجرورة من شعرهاء أيقضى 
عل بأن أتَيئّى الجنون!. . . الجنون؟ . . . 

واصل الشيخ حديئه وهو هر رأسه قائلا: 

- وأجبروا العمدتين على أن يِدلُوهما على بيبوت 
مشابخ البلدتين وأعياهها ثم اقتحموا البيوت محطمين 
الأبواب. لبوا كل ثمين. اعتدوا على النساء اعتداء 
إجراميًا بعد أن قتلوا اللاي حاولن الدفاع عن 
أنفسهن , وضربوا الرجال ضربًا مبرّحاء ثم غادروههما 
بعد أن لم يبقوا فيها على ثمين لم يسلب أو عرض لم 
يذهب كل ثمين إلى الجحيم... «أو عرض لم 


يثلم»... أين رحمة الله؟... أين انتقامه؟.. 
الطوفان. . . نوم. . . مصطفى كامل. تصور. . . ! 
كيف يمكن أن تبقى معه بعد ذلك تحت سقف واحد! 
أي ذنلب جنث! . . . وهو بأئ وحه؟|... 

ضرب الشيخ بيده ثلانًا على ركبتيه ثمّ عاد إلى 
الحديث وقد تمدّج صوته فصار بالنواح أشبه. قال: 

- وأضرموا النار في البلدتين مستعينين بما على 
أسقف الدور من حطب وقش ويبما صبوا عليها من 
بترول» استيقظت القرى في فزع رهيب وفرٌ أهلوها 
عن بيوتهم كالمجانين. وعلا الصراخ والأنين. وامتذت 
ألسئة اللهب في كل مكان حيّى استحالت البلدتان 
شعلة من النيران. . . 

هتف السيد بلا وعي : 

يا ربٌ السياوات والأرض! 

فمضى الشيخ قائلا : 

وضرب الجنود نطاقا حول البلدتين المشتعلتين من 
بعيد يترئصون بالأهالي البؤساء الذين انطلقوا هائمين 
على وجوههم تتبعهم الأغنام والكلاب والقطط يرومون 
سبيلا للنجاة من النارء فا إن بلغوا مواقف اللدنود حي 
امال هؤلاء على الذكور ضربًا وركلاء ثم حجزوا 
النساء ليسلبوا حليهنٌ ومبتكوا أعراضهنّ. فإذا قاومت 
إحداهنٌ قتلت. وإذا نذت عن زوج أو أب أو أخ 
حركة دفاع رمي بالرصاص. . . 

ثم التغت الشيخ متولي إلى السيّد الذاهل وضرب 
كفا على كف وهو يتف : 

- وساقوا بقية الضحايا إلى معسكر قريب وهنالك 
أجبروهم على التوقيع على مكتوب يتضمّن اعترافهم 
بجرائم لم يرتكبوها وإقرارًا بأنْ ما أنزله الإنجليز بهم 
جزاء حقٌّ على ما فعلواء هُذا ما حصل يا سيّد أحمد 
للعزيزية والبدرشين» هذا مئل من أمثلة التدكيل التي 
نسامها بلا رحمة ولا شفقة. اللّهِمّ فاشهد. . . 

وساد صمت كتيب أليم خخلا فيه كل إلى أفكاره 
وتخيلاته حبّى قطعه جميل الحمزاوي وهو يبتف متأوّها: 

- ربنا موجود. . . 

فهتف السيّد مؤمنًا على قوله : 


نعم! (ومشيًا إلى الجهات الأربع) في كل 
مكان. . . 

وخاطب الشبخ مت ولي السيّد قائلا : 

- قل لفهمي إِنْ الشيخ متولي ينصحه بالابتعاد عن 
موارد التهلكة. قل له بل إلى الله ربك فهو القادر 
وحده على إهلاك الإنجليز كا أهلك من قبلهم من 
شقُوا عصا طاعته. , 

ثم مال الشيخ نحو عصاه ليتناوها فأشار السيّد إلى 
جميل الحمزاوي فجاءه باللهديّة ووضعها في يله ثم 
باعلاء عن اللبوس» عياف التييع. الرجلان: ونصي 
وهو يقول : 

- «غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعسد 


غلبهم سيغلبون». . . صدق الله العظيم . . . 


58 

عند الغلس» ونور الصباح يولد رويدًا من ظلمة 

الفجرء طرقت خادم من السكريّة بيث السيّد فأخبرت 
أميئة بأنْ عائشة قد جاءها المخاضص. كانت أميئة في 
حجرة الفرن فعهدت بالعمل إلى أمٌّ حنفي وهرعت 
إلى باب السلّم. بدا على أمّ حنفي الاستياء رتما لآل 
مرة في تاريخ خدمتها الطويل بهذا البيت» أما كان 
يحل لما أن تشهد ولادة عائشة؟ لما كل الحٌ. . , 
كأمينة سواء بسواءء فتحت عائشة عينيها في حجرها, 
كل ابن في هذا البيت له أمّان: أميلة وأمّ حنفي, 
كيف حال بينبا وبين ابنتها في هذه الساعة 
الرهيبة!... هل تذكرين ولادتك؟... ورسع 
الطمبكشيّة. كان المعلّم في الخارج كعادته وكانت 
وحيدة بعد منتصف الليل. وجدت في أمْ حسئية 
صديقة وقابلة معا!... تسرى أين أمّ حسنية 
الآن؟... ألا زالت على قيد الحياة؟ ثم جاء حنفي 
بعد تأوّهات الآلمء ذهب بين تأوهات الآلم أيضاء وهو 
في المهد. لو عاش لكان ابن عشرين الآن؟. . . 
سيّدتي الصغيرة تتام وأنا هنا أهيوء الطعام . امتلا 
قلب أميئة بفرح موصول بإشفاق» هو الإحساس 
الذي نخحفق به قلبها أول مرّة يوم استقبلت التجربة 


بين القصرين 5ه 
بنفسها. ها هي عائشة تتأهّب لاستقبال أوّل مولود 
تستهل به أمومتهاء كما استهلت هي أمومتها بخديجة. 
هكذا تمتدٌ الحياة التى انبثقت منها إلى غير نهاية. 
ومضت إلى الأب فزفت إليه البشرى بنبرات رقيقة 
مهذّبة. مبالغة هذه المرّة في حيائها وتهذيبها أن 
يستشف وراء صوتها رغبتها الحارّة في الانطلاق إلى 
ابنتها غير أنْ السيّد تلقّى الخبر في هدوء ثمّ أمرها 
بالذهاب دون إبطاء! . . . راحث ترتدي ملابسها علل 
عجل وقد شعرت بأنّ المزايا التتى تكسبها امرأة ضعيفة 
مثلها بإنجاب الأطفال خليقة بصنع المعجزات أحياناء 
وعلم الأخوة بالخبى عند استيقاظهم عقب ذهاب الأمّ 
بقليل. علت وجوههم ابتسامة وتبادلوا نظرة متسائلة . 
عائشة أم! أليس ذلك غريًا؟ ما وجه الغراية فيه. 
كانت لينة أصغر منها يوم ولدت تخديجة. هل ذهبت 
نينة لتخرج الطفل بيديبا؟ ابتسامتان. هذا نذير لي» 
عم قليل تلد بنت الكلب أيضًضا... من تعني؟! 
زينب. آه لو سمعك بابا. عائشة أمّ. وأنا أب» وأنا 
خال وعمم. ستكون أنت أيضا خال وعم يا مي كيال» 
يجب أن أتخلف اليوم عن المدرسة لأذهب إلى أبلا 
عائشة. حميل جذاء استأذن بابا إن استطعت على 
المائدة!... أوووه. نحن في حاجة إلى مزيد من 
المواليد لنسدٌ العجز الذي أوقعه الإنجليز بنا. . . لو 
تلفت عن المدرسة ما حدث شبيء غير عادي» ثلاثة 
أرباع التلاميذ مضربون أكثر من شهرء قل هذا لبابا 
وسيقتلع حتا بحجتك فيضربك بطبق الفول في 
وجهك. أوووه. مولود جديد. بعد ساعة أو ساعتين 
يصير بابا جدًا ونيئة جدّة ونحن أسوالًا. شيء خطير, 
كم مولودًا يا ترى يرى نور الدنيا في هذه 
اللحظة؟ . . . وكم إنسانًا يغيب عنه هذا النور في هذه 
اللحظة؟. . . يجب أن نبلغ جدّي. أستطيع أن أذهب 
إلى الخرنفش لاإبلاغها إذا تخلفت عن المدرسة! قلنا 
لك لا شأن لنا بمدرستك. قل لبابا وسيرحخب 
بفكرتك. أوووه. لعل عائشة تتام الآن. مسكينة 
المحبوبة» إِنْ الطلق لا يلين للشعر الذهبي والأعين 
الزرق ربنا يقومها بالسلامة» عند ذاك نشرب المغات 


15 بين القصرين 
ونشعل الشموعء ذكر أم أنثى؟. . . مها تفضّل؟ . . 
الذكر طبعاء ربما بدأت بأنثى كأمها. لم لا تبدأ بذكر 
كأبيها؟ هاها, عندما يحين ميعاد انصراف المدرسة 
يكون الطفل قد حرج فلن أتمكن من مشاهدة 
خروجه. أتريد أن تراه وهو يخرج؟ طبعًا. أجل هذه 
الرغبة حيّى يكون المولود ابنك أنت!. . . كان كمال 
أشدٌ الجميع تأثْرًا بالخبرء شُغل به عقلًا وقلبًا وخيالاء 
لولا شعوره برقابة ضابط المدرسة عليه وأنه يحصى 
حركاته وسكناته ليبلّغها أوّل فأول إلى أبيه لما كان في 
وسعه أن يقاوم الإغراء الذي يناديه للذهاب إلى 
السكرية . ومكث في المدرسة جسدًا بلا روح؛ هامت 
روحه في السكريّة تتساءل عن القادم اللحديد الذي 
ترب مقدمه أشهرًا وهو يمت النفس بالاطلاع على سه 
المكنون. شهد مرّة ولادة قطة وهو دون السادسة إذ 
استرعت انتباهه بموائها الحاذ فهرع إليها تحت عرش 
اللبلاب فوق السطح فوجدها تتلؤى ألما وقد جحظت 
عيناهاء ثم رأى جسمها يتصدّع عن فلذة ملتهبة 
فتراجع متقرْرًا وهو يصرخ بأعلى صوته. طافت هذه 
الذكرى بمخيلته ولت عليه حي عاوده تقرّزه القديم 
وانتشرت حوله مضجرة مقلقة كالضباب غير أنه ل 
يستسلم للخوف. أب أن يتصور أنْ ثمّةَ علاقة بين 
القطة وعائشة إلا ما يكون بين الحيوان والإنسان وهو 
في إيمانه ‏ أبعد مما بين الأرض والسماءء ولكن ماذا 
يحدث في السكريّة إذن؟. . . ماذا طرأ على عائشة من 
غرائب الأمور؟... ثمة أسئلة حيارى لا تنعم 
بجواب... ما كاد يغادر المدرسة عصرًا حي اندفع 
يقطع الطريق عدوا إلى السكريّة. 

دحل فناء بيت آل شوكت وهو يلهث. ومفى إلى 
باب الحريم فلاحت منه التفائة إلى المنظرة فيا يدري 
إلا وعيناه تلتقيان بعيني والده الذي جلس شابكًا 
راحتيه على مقبض عصاه القائمة بين رجليه. تسمر في 
مكانه جامدًا محملمًا كأنئما نوم تنويا مغناطيسيّاء لم 
يطرف ول يمد حراكاء ركبه شعور بالذنب لا يدريه 
فلبث يترقب انقضاض العقاب عليه وبرودة الخوف 
تسري في أطرافه حيّى اشتبك السيّد أحمد في حديث 


مع شخص يجلس إلى جانبه فالتفت نحوه فاستردٌ كيال 
عينيه وهو يزدرد ريقه. عند ذلك لمح في داخخل المنظرة 
إبراهيم شوكت وياسين وفهمي قبل أن يفرٌ إلى 
الداحل. رقي في السلم وثبّا حتّى انتهى إلى دور 
عائشة فدفع بابا مواربًا ودخل فالتقى بخليل شوكت 
زوج أخته واقفا في الصالة» ورأى باب حجرة النوم 
مغلقًا وقد ترامى من ورائه إلى سمعه أصوات تتمحادث 
ميز منها أمّه وحرم المرحوم شوكت وصونًا ثالنا لا 
يعرفهء» سلّم على زوج أخته ثم سأله وهو يتطلّع إليه 
بطرف بأسم : 

ابلا عائشة ولدت؟ 

فرفع الرجل سبّابته إلى شفتيه محذّرًا وهو يقول: 

00001 

أدرك كمال أنه لم يرحب بالسؤال. بل أنه لم يرحب 
بمقدّمه كسالف عادته فخجل وعانى قلقًا لم يدر له 
سبباء وأراد أن يتقدّم من الباب المغلق ولكنّ صوت 
خليل أوقفه وهو يبتف باقتضاب ينم عن الضجر: 

ا 

فتحؤل نحوه متسائلا ولكنّ الرجل قال له في عجلة 
ولهوجة : 

انزلا قاطن والعسى: حك :.. 

انكسرت نفس الغلام فتقهقر متثاقلا بائخًا وقد عر 
عليه أن يجزى على عذاب انتظاره طوال اليوم هذا 
الجزاء البخسء ولمَا بلغ عتبة الصالة صكٌ أذنيه 
صوت غريب آت من الحجرة المغلقة» بدأ رفيعًا حادًا 
عالياء ثم غلظ وترهّل حبّى بمّء وانتهى بحشرجة 
طويلة قاسية؛ ثم غاب لحظة مقدارها تردّد النشس 
المقطوع» ثم بعث آهة عميقة شاكية» بدا له غريبًا 
أؤل الأمر كأنه لم يعرف صاحبه. ولكنّ نيرة من نبراته 
المعذبة تميزت وسط اللحدّة والغلظة والحشرجة فوشت 
مبوية مصدره؛ صوت عائشة بلا ريب» أو هو عائشة 
مذابة منصهرة. لم تأكقد من ظنه عند تردّد الآهة 
العميقة الشاكية» فارتعشت جوارحه. وخيّل إليه أنه 
يراها تتلوى على حال من الألم دعت إلى مخيلته بصورة 
القطة القديمهة» وعطف رأسه صوب خليل فألفاه 


يقبض راحته ويبسطها وهو يتمتم «يا لطيف يا رب»؛ 
فخيّل إليه مرّة أخرى أنّْ جسم عائشة ينقبض وينبسط 
مثل راحة الرجل» لم يعد يملك من نفسه شيئًا فركض 
إلى الخارج مفح) في البكاء. وعندما انثهى إلى باب 
الحريم استرعى سمعه وقع أقدام هابطة وراءه فرفع 
رأسه فرأى الخارية سويدان نازلة على عجل فمرت به 
دون أن تنتبه إليه حيّى وقفت على عتبة باب الحريم ثم 
نادت سيّدها إبراهيع فجاء الرجل مسرعًا فقالت له 
«الحمد لله يا سيدي»: لم تزد على ذلك شيئًا ولم تنتظر 
حبّى تسمع ما يقول ولكتبا دارت على عقبيها وهرعت 
إلى السلّم فرقيت فيه دون تردّد» رجع إبراهيم إلى 
المنظرة متهلّل الوجه فلبث كيال وحده لا يدري ما 
يفعل ولكن لم تمض دقيقة حبّى عاد إبراهيم يتبعه 
السيّد أحمد فياسين ثم فهمي فتنحّى الغلام جائبًا حت 
مرّوا ثم صعد في أعقاءهم خافق القلب» وقابل خليل 
الآتين أمام مدحل الشقّة فسمع أباه وهو يقول له: 

الحمد لله على السلامة, . 

فغمخم خليل في وجوم : 

الحمد لله على كافة الأحوال!. . . 

فسأله السيد باهتام : 

مالك . . ؟ 

فقال بصوت منخفض : 

- إن ذاهب لاستدعاء الطبيب. . . 

فتساءل السيّد قلمًا: 

- المولود. . ,؟ 

فأجابه وهو يبز رأسه سلبًا: 

عائشة!... ليست على مايرام» سأجي ء 
بالمليسه ا 

وذهب لما وراءه وجومًا وقلنًا واضحين» ثم 
دعاهم إبراهيم شوكت إلى حجرة الاستقبال فمضوا 
إليها صامتين. وجاءت حرم المرحوم شوكت بعد قليل 
فسلّمت وهي تبتسم لتدخل الطمانيئة إلى قلويهم ثم 
جلست وهي تقول: 

قاست المسكيئة طويلا حي أنبكت قراهاء ولكنّبا 
حال عارضة وننتزول وقيكاء إل وائقة ما اقول ولكن 


بين القصرين ه5ه 


ابني بدا اليوم خْوَّافًا على غير عادته, على أنه لا ضرر 
ألبتة من مجيء الطبيب (ثم مناجية نفسها بصوت 
خفيض) الطبيب ربنا وربنا هو الطبيب. . . 

لم يعد السيد يطيق ما يلتزم به عادة من وقار وبرود 
أمام آبنائه فسألا في قلق غير نحاف: 

ماذا بها؟. . . آلا أستطيع أن أراها؟ . . 

فابتسمت المرأة وقالت: 

ستراها عا قريب وهى بخير وعافية» الحقٌ على 
ابي المجنون هو الذي أزعجكم بغير موجبا. . 

كان وراء الصدر العريض القويّ والوقار ال حازم 
المهيب قلب يتعذّب أشدٌ العذاب» كان وراء العيئين 
الواجمتين الرزينتين دمع متجمكد. . . 
الصغيرة؟ الطبيب؟! لاذا تحول العجوز يينى وبينبا؟! 
ابتسامة رقيقة أو كلمة حنونة مث أناء مني أن خخاصة ؛ 


ماذا دهم 


عودة ان اقتصومن الامها رج رد جرال 
تق قُْ بيتي مرارة الألم قط العريزة الحميلة الصغيرة 
رحمتك اللَّهِمٌء فسد طعم الحياة؛ إِنّه ليفسد لأهون 
َذّى يتهدّدهم. فهمي. . . أراه واجمًا متالمًا... هل 
أدرك معنى الأل؟ . . 
العجوز مطمئنّة ووائقة مما تقول ابنها أزعجنا بغير 
موجب » الهم استجب؛ أنت أعلم بحالي بأن تنجيها 
كا نجيتنى من الإنجليزء قلبي لا يطيق هذا العذاب, 
عند الله الرحمة؛ وهو قادر على حفظ أبنائي من كل 
دو لا طعم للحياة بغير ذلك. لا طعم للسرور 
والطرب واللهو إذا انغرست في جنبي شوكة حادّة 
قلبيى يدعو هم بالسلامة» لأنّه قلب أبء ولأنه لا 
تطيب المسرّات إلا لخلَء هل ألقى سيّار الليل بقلب 
سعيد؟. .. أحبٌ إذا ضحكت أن تنطلق الضحكة 
من أعماق قلبي صافية» القلب القلق كالوتر المختل. 
حسبي فهمي., إِنّه يلح عل كوجم الأسنان, ما أبغخض 
الألمء دنيا بلا ألى لا شيء على الله بكثير, دنيا بلا ألم 
ولو تكون قصيرة؛ دنيا تقر فيها عينيى بهم جميعا. 
هنالك أضحك واعْئّى والحو, يا أرحم الراحمين, 
عائشة يا أرحم الراحمين! 

بعد غيبة ثلث ساعة عاد خليل مصحويًا بالطبيب 


. من أين له أن يعرف قلب الأم! 


ككهة بين القصرين 


فدخلا الحجرة من فورهما ثم أغلق الباب وراءهماء 
وعلم السيْد بمقدمه) فقام وامجه إلى باب حجرة 
الاستقبال ووقف على العتبة قليلا وهو يمد البصر إلى 
الباب المغلق ثم عاد إلى مجلسه فجلس . قالت حرم 
المرحوم شوكث: 

لَتَعْلْمَنّ صدق رأبي حالما يتكلم الطبيب. . . 

فغمغم السيّد وهو يرفع رأسه إلى أعلى : 

عنده العفو., . . 

عمًا قليل يعرف الحقيقة فيمرق من ضباب الشكُ 
مها تكن العواقب. إِنَْ قلبه يخفق خفقانًا سريعًا 
متواصللا. فليصير, لم يبق إلا القليل. إن إيمانه بالله 
قو عميق لا يتزعزع فليسلّم إليه أمرهء سيخرج 
الطبيب طال مكثه أم قصر وعند ذاك يسأله عمّا وراءف 
الطبيب؟... لم يفكر في ذلك من قبل» طبيب عئد 
نفساء؟!... مع الرحم وجهًا لوجه. أليس كذلك؟ 
ولكنّه طبيب!... ما الحيلة؟! المهمْ أن نرتيا باذ 
بيدها فللسأله السلامة» وجد السيّد إلى قلقه محياء 
وامتعاضًا. واستمرٌ الفحص زهاء ثلث ساعة ثمّ فتح 
الباب فنيض السيّد ومضى من توه إلى الصالة» وتبعه 
الأبناء حتّى تجمعوا حول الطبيب. كان الطبيب من 
معارف السيّد فصافحه باسما ثم قال: 

- بخير وعافية, . , 

ثم في شيء من الل : 

جاءوا بي للوالدة لكف وجدت أن التى في حاجة 
إلى العناية حقًا هي المولودة. . 

تنفس السيّد بارتياح لأوّل هرّة منذ حوالي الساعة 
فتساءل ووجهه يشرق بابتسامة لطيفة : 

أأطمئِنّ إذن على عهدتك؟ 

فقال الطبيب وهو يتظاهر بالدهش : 

- نعم. ولكن ألا همك حفيدتك؟! 

فقال السيد باسما: 

لا عهد لي بعد بواجبات الحدٌ. . . 

وتساءل خليل : 

- أليس ثمّة أمل في ححياتها؟ 

فقال الرجل وهو يزوى مأ بين -حاحبيه: 


الأعمار بيد اللهء ولكبيّى وجدت قلبها ضعيفاء من 
المحتمل أن تموت الليلة: وإذا مرّت الليلة بسلام 
جازت الخطر الماثل ولكّي لا أظنّ أنْها تعمّر طويلاء في 
تقديري أنه لا يمكن أن يمت بها العمر إلى ما بعد 
العشرينء» ولكن من يعلم؟ الأعمار بيد الله وحده. . 

ولمّا ذهب الطبيب إلى طيّته التفت خليل نحو أمْه 
وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة تنم عن أسف وقال: 

كان في ني أن أسمّيها نعيمة باسمك. . . 

فقالت المرأة وهي تلوح بيدها مؤلبة : 

- الطبيب نفسه قال: إنْ الأعبار بيد الله أفتكون 
أن أضنك إعانا من منها تعومة حب أن نسميها 
نعيمة إكرامًا لي» وسيكون عمرها بإذن الله مديذا 
كعمر جدّتها! 

كان السبّد يحادث نفسه: دعا الأحمق الطبيب 
ليطلع على زوجه بغير موجب, بغير موجب!. . . يا له 
من أحمق. ولم يستطع أن يكتم غيظه فقال وهو يداريه 
بلهجة رقيقة : 

دسل انقرف فقن لفان حمق الزوتة نه آنا كان 
يجمل بك أن تفكر قليلا قبل أن تبادر إلى إحضار رجل 
غريب ليرى زوجك بملء عينيه؟! 

لم يجب خليل» ولكلّه نظر فيمن حوله وقال بجدٌ: 

لا يجوز أن تعلم عائشة بما قال الطبيب. . . 


19 

ماذا في الطريق؟ . . . 
تساءل السيّد أحمد وهو ينبضص في عجلة من وراء 
مكتبه. فذهب صوب باب الدكان يتبعه جميل 
الحمزاوي وبعض الزبائن. لم يكن طريق النحاسين 
طريقًا هادثًا. كان أبعد ما يكون عن الحهدوء.» صوته 
الجهير لا يخفت من الفجر إلى ما قبيل الفجرء حناجر 
عالية هثّافة بئداءات الباعة ومساومات الشارين 
ودعوات المجذوبين ودعابات السابلة» يتحادثون 
وكائهم يخطبونء حيّى أخصٌ الشئون تترامى إلى 
جوانبه وتطير حبّى مأذنه» إلى ضوضاء شاملة تصدر 
عن صليل سوارس حيئًا وطقطقة الكارو حيئا آخر» لم 


يكن طريقًا هادًا بحال ولكن تعالت ضحّجة فجائية 
وفدت من بعيد في بادئ الأمر كهدير الأمواج ثم 
غلظت واشتدّت حيّى صارت بعزيف الريح أشبه وقد 
لقت الح كله قريبه وبعيدهء بدت غريبة شاذة حي 
في هذا الطريق الصاحب» ظنها السيد أحمد مظاهرة 
ثائرة كما ينبغي لرجل عاش في تلك الأيَام» ولكن 
جلجلت في طيّاتها زغاريد مبشّرة بالأفراح» فمفى 
الرجل متسائلا إلى الباب ولم يكد يبلغه حي اصطدم 
شيخ الحارة الذي أقبل مندفعا وهو يبتف بوجه ظفر 
مله البثن: 

أبلغك الشر؟ 

فقال السيّد وعيناه تلمعان تفاؤلا من قبل أن يسمع 
يا 
_ كلا. . . ماذا وراءك؟ 

قال الرجل بحياس : 

سعد باشا أفرح عنه. . . 

فيا تمالك السيّد أن تساءل صائحًا: 

حة] | 

فقال شيخ الحارة بيقين: 

- أذاع اللنبي الساعة بيانًا ببذه البشرى. . . 

في اللحظة التالية كانا يتعائقان, واشتدٌ التائر 
بالسيد أحمد فاغرورقت عيناه ثم قال وهو يضحك 
مداراة لتأئره ؛ 

كان العهد به دائمًا أن يذيع الإنذارات لا 
البشريات فاذا غبّره ابن الطرمة؟! 

فقال شيخ الحارة: 

سبحان الذى لا يتغير. . . 

وصافح السيّد ثم غادر الدكان وهو يصيح «الله 
أكبر الله أكبرء النصر للمؤمنين!». 

وقف السيّد على عتبة الدكّان مقلبًا عينيه في أنحاء 
الطريق بقلب ارتدٌ إلى براءة الطفولة وببجتهاء طالع 
أثر الخبر السعيد في كل مكان... في الدكاكين التي 
سدّت مداخلها بأصحابها وزبائنها وهم يتبادلون 
التهاني؛ في النوافذ التي تزامت فيها الأحداث 
وانطلقت الزغاريد من وراء خصاصهاء في المظاهرات 


بين القصرين لاده 

التي تالفت ارتجالا ما بين النحّاسين والصاغة وبيت 
القاضى هاتفة قلوبها لسعد. وسعد وسعد ثُمّ سعد, في 
المآذن التي اعتلى المؤذنون شرفاتها يشكرون ويدعون 
وبتفونء ف العربات الكارو التي تجمعت بالعشرات 
حاملة المثات من النسرة المتلفعات بالملاءات اللف 
وهنّ يرقصن ويردّدن الأغاني الوطنئيّة. لم يعد يرى إلا 
آدميين أو بالأحرى هائفين؛: اختفت الأرض وتوارت 
الجدران وتعالى المتاف لسعد في كلّ مكان كأنتما الحو قد 
انقلب اسطوانة هائلة تدور بلا توقف مردّدة اسمه. 
وجرى نبأ فوق الرءوس الحاشدة أن الإنجليز يجمعون 
معسكراتهم القائمة عند مفترق الطرق تأهبًا للرحيل 
إلى العباسيّة فاستمرٌ الحماس وحمست النشوات. لم ير 
السيّد أحمد منظرًا كهذا من قبل فراح يقلّب عينين 
متألقتين وفؤاده يخفق وبا وباطنه يردّد مع النسوة 
الراقصات «يا حسين . . . حملة وانشالت!» حي أدن 
حميل الحمزاوي رأسه من أذنه قائلا: 

الدكاكين توزّع الشربات وترفم الأعلام. . . 

فقال له حياس : 

اصنع ى) يصنعون وأكثر أرني عمتك . . . ! 

م سود ضياع 

مدغلق: قور" سفن تاسمل 

فنظر إليه جميل الحمزاوي كالتردّد ثم قال محذُرًا : 

هذا موضع ترى فيه الصورة من الخارج ألا 
يحسن بنا أن نتريّث حيّى تستتبٌ الأمور؟ 

فقال السيد باستهانة : 

مضى عهد الخوف والدماء إلى غير رجعة, ألا 
ترى أن المظاهرات كمرّ تحت أعين الإنجليز دون أن 
يتعرّضوا طا بسوء؟ علق الصورة وتوكّل على الله. 

غار عهد الخوف والدماء؛ اليس كذلك؟ سعد حر 
طليق ولعله في طريقه الآن إلى أورباء لم يعد بيئنا وبين 
الاستقلال إلا خطوة أو كلمة. مظاهرات الزغاريد 
بدلا من مظاهرات الرصاصء الأحياء منّا قوم 
سعداء. اخخترقوا الديران وخرجوا سالمين؛ رحمة الله على 
الشهداء. فهمي؟! نجا من خطر لم يقدّره. والحمد لله 


5 


والشكر للهء أجل نجا فهمي» ماذا تنتظر؟. . . صل 


كم بين القصرين 


إلى الله ربك . 

لا اجتمعت الأسرة مساء وشت الحئاجر المبحوحة 
بيوم مليء بالحتاف. كان مساء سعيدّاء تمت عن 
سعادته الأعين والثغور والحركة والكلام حيّى أميئة نبل 
قلبها من نخب السعادة المبذول مشاركة للأبناء 
واستبشارًا بعودة السلام وفرحا بالافراج عن سعد: 

- من المشربيّة رأيت مالم ثرٌ عين من قبل» هل 
قامت القيامة ونصب الميزان؟! وأولئك النسوة هل 
جين ؟ ! لا يزال صدى ترديدهنٌ يرن في أذني ويا 
حسين. . . حملة والشالت» . 

قال ياسين ضاحكا وهو يعبث بشعر كيال: 

عق رايا الجبو اد اهو يدت 
الضنيف التقي كس القلة بوراءة | 

نظر إليه كمال من دون أن ينبس على حين عادت 
أميئة تتساءل : 

- أرضى الله عنا أخيرًا. . . ؟ 

فأجابها ياسين قائلا: 

- بلا ريب (ثم مخاطبًا فهمي) ماذا تظنٌ؟ 

قال فهمي الذي بدا في فرح الأطفال : 

- لولم يسلّم الإنجليز بمطالبنا لما أفرجوا عن سعدء 
سوف يسافر إلى أوربا ثم يعود بالاستقلال» هذا ما 
يؤكده الجميع ؛ ومهما يكن من أمر سيبقى يوم إبريل 
سنة 1418 رمرًا لانتصار الثورة. 

فعاد ياسين يقول: 

يا له من يوم! اشترك الموظفون في المظاهرات 
علانية» ما كنت أظنّ أنْ بي هذه القدرة العظيمة على 
السير المتواصل والتاف العالي. . . ! 

فضحك فهمي قائلا : 

د ووذنقه لو رايتكوانت: تيتفت متحمساء تاسسية 
يتظاهر ويتحمس وببتف! . . . يا له من منظر فريد! 

يوم عجيب في الأيّام حقّاء اكتسحه سيله الزاخر 
فحمله بين أمواجه العاتية كوريقة لا وزن لما حي طار 
به كل مطار. لا يكاد يصدّق أنه ثاب إلى رشده ونه 
آوى إلى برج المراقبة المحادئ يشاهد من منظاره 
الحوادث في هدوء وعدم اكتراث!. . . جعل ستحضر 


الحال التي تلبّسته في المظاهرات على ضوء ملاحظة 
فهمى حتّى قال بغرابة: 

8 الوالخك.-منا .يسن الفسه وهو بيق الشامن نشيانا 
غريبًا فكائه يبعث شخصًا جديدًا. . . 

سأله فهمي باهتمام : 

أكنت تشعر بحياس صادق؟ 

- هتفت لسعد حتّى بح صوتي واغرورقت عيناي 
مرة أو مرّتين . 

- كيف اشتركت في المظاهرة؟ 

- بلغنا نبا الإفراج عن سعد ونحن في المدرسة 
ففرحت فرحًا عظيًا حقّاء أكنت تتوقّم غير هذا؟. . . 
وإذا بالمدرسين يقترحون الانضام إلى المظاهرة الكبيرة 
في الخارج فلم أجد من نفسي ميلا إلى مجاراتهم 
وفكرت في التسلل إلى البيت» غير أني اضطررت إلى 
السير معهم حتّى تسنح لي فرصة للزيغان. ماذا حصل 
بعد ذلك! وجدت نفسي في بحر متلاطم من الئاس 
وجو مكهرب من اماس فيا ملكت أن ذهلت عن 
نفسى واندمجت في التيّار كاشدٌ ما يكون المرء - صدّقنى 
في هُذا حماسًا وأملا. . . ! ْ 

فهر فهمي رأسه وهو يغمغم: 

داللى ع شري : 

00 عاليا ثم قال: 

- أحسبتني فاقد الوطنيّة؟! المسألة أني لا أحبٌ 
الزياط والعنشف, ولا أجد حرجًا في التوفيق بين حبٌ 
الوطرة نو الينلعة ...... 

عاذ شق التوفيق نيع 6 

فقال مبتسيًا ولكن دون تردّد : 

- قدّمت -حبٌ السلامة! نفسي أوّلا. . . ألا يستطيع 
الوطن أن يسعد إلا بالتهام حياتي؟! يفتح الله أنا لا 
أفرّط في حياتقي ولكنٌ ساحب الوطن ما دمث «وحيّان. 

قالت أمينة : ْ 

- هذا عين العقل (ثمٌ متطلعة إلى فهمي) هل عند 
سيّدي رأي آخر. . .؟ 

قال فهمي بهذوء: 

كلا طبعاء إِنه عين العقل كما قلت. . . 


ولم يَرَ كال أن يبقى بمعزل عن الحديث لا سيا أنه 
كان مقتنعًا بأنّه لعب في يومه دورًا خطيرًا حمًا فقال: 

وأضربنا نحن كذلك ولكنّ الناظر قال لنا: إنْنا ما 
زلنا صغازاء وإننا إذا خرجنا من المدرسة داستنا 
الأقدام. ثم سمح لنا بالتظاهر في فناء المدرسة 
فتجمّعنا فيه وهتفنا (هنا هتف عاليًا: يحيا سعد) طويلا 
جدّاء ثم لم نعد إلى الفصول لأنْ المدرّسين كانوا قد 
غغادروا المدرسة منضممين إلى المتظاهرين في 
الخارج . . . ! 

رماه ياسين بنظرة ساخرة وقال: 

- ولكنٌ أصدقاءك ذهيوا. . . ! 

في داهية. . . ! 

ندّت عنه هذه العبارة بلا تفكير وهي أبعد ما تكون 
عن حقيقة شعوره, لأنْ الحال تقتضيها من ناحية, 
ولأنّه أراد أن يداري بها هزيمته أمام سخرية ياسين من 
ناحية أخرى» أمّا قلبه فكان يكابد دهشة وغمراء لم 
يدس كيف وقف لدى عودته من المدرسة في المكان 
المهجور الذي كان يحتله المعسكر يقلّب عينيه في أرجائه 
في صمت أليم وعيئاه مغرورقتان. سوف يمضى وقت 
طويل قبل أن يسى مجلس الشاي على طوار سبيل بين 
القصرين والإعجاب الذي كان يحظى به غناؤه, 
والمودّة التي كان يلقاها من الجنود خاصة جوليون» 
والصداقة التي ربطته بالسادة المتفوّقين الذين يعلون في 
اعتقاده على سائر البشر! قالت أميئة : 

م قيدة ,زاكلا ريد غيل الحل» اللانيا كلها عيدت 
باسمهء ولا أفنديئا في زمانه. . . رجل مؤمن بلا ريب 
لأن الله لا ينصر إلا المؤمسين. نصره على الإنجليز 
الذين غلبوا زبلن نفسه. أي فوز وراء هذا؟!... 
لقد ولد الرجل في ليلة القدر. 

سانا فهمي باسما: 

ف ةن 

د أحئه ما دمث تحيه , . , 

بسط فهمي راحتيه ورفع حاجبيه مستئكرًا ثم قال : 

لا يعنى هذا شيئًا. . . ! 

فتعبّدت فيها يشبه الارتباك ثم قالت : 


بن القصرين فده 


- كنت كلما بلغني نبأ أسيف تقطع قلبي حزئًا وقلت 
لنفسي ديا ترى أكان يقع هذا لولم يقم سعد قومته؟!) 
على أن رجلا يجمع الكل على حبّه لا بد أن الله بمب 
كذللث.:. 

لم متدهدة بصوت مسموع : 

- أسفيى على المالكين. كم أما تبكي الآن 
بحرارة؟. .. كم أما لم تزدها فرحة اليوم إلا حسرة 
على حسرة. 

قال لها فهمي وهو يغمز ياسين بطرفه : 

الأم الوطئيّة حقًا تزغرد لاستشهاد أبنها. . . 

فوضعت أصبعيها في أذنيها وهتفت: 

عاللي إل يدك غدل با له دي 
الضغيا :ام تظرد الاستشهاد انتينا!: آين؟1 .عل 
هذه الأرض؟ ولا تحت الأرض في عالم الشياطين! . . . 

قهقه فهمي عاليًا ومضى يفكر مليّاء ثم قال وعيناه 
تلمعان باسمتين : 

- نيئة. . . ! سأبوح لك سر خطير آن له أن يذاع. 
لقد اشتركت في المظاهرات وقابلت الموت وجها 
لوجه. . . ! 

سهمت إليه غير مصدذّقة ثم قالت وعلى شفتيها 
أبتسامة باهتة : 

عاأنك ]عد ماله عالق من لس ونه 
وقلبك من قلبي. لست كالآخرين. .. 

فقال بيقين وهو يبتسم إليها : 

- أقسم لك على ذلك بالله العظيم . . . 

اختفت الابتسامة وانّسعت العيئان في ذهول» ثم 
ردت بصرها بيئه وبين ياسين الذي حذجه يدوره 
بنظرة متسائلة. ثم غمغمت وهي تزدرد ريقها: 

رباه!. . . كيف أصذق أذي!| 

ثم بعد أن هزرّْت رأسها في حيرة أليمة: 

ف انلكا د 

كان يتوقع انزعاجها ولكن ليس - بالنظر لجيء 
اعترافه بعد زوال الخطر ‏ إلى الحد الذي بدا عليهاء 
فبادرها قائلا : 

ذاك تاريخ مفى وانتهى. لا داعي الآن 


بين القصرين 
للانرعاج. . . 

فقالت بإصرار ونرفزة : 

صه... أنت لا تحثت... أمك» ساتمهحك 
الله , . 

فضحك فهمي في شيء من الارتباك. قال كمال 
لأمه وهو يبتسم بمكر: 

- أتذكرين يوم دكّان البسبوسة وضرب النار؟ رأيته 
وأنا عائد في الطريق المقفر فنّه عل بألا أخبر أحدًا بان 
رأيته. . . 
ثم نظر إلى فهمي وسأله باهتام وتشوق: 

قصّ علينا يا بى فهمي ما لقيت في المظاهرات. 
كيف كانت تقع المعارك؟ وكيف يصرخ القتى؟ ألم 
تطلق النار قط؟ . . . 

فتدخل ياسين في الحديث قائلا للأمٌ : 

- ذاك تاريخ مفى وانتهى» اشكري الله على 
نجاتهء هذا أولى بك من الانزعاج. . . 

سألته بجفاء : 

أكنت تعلى ذلك ؟ 

فبادرها قائلا : 

- لا وحياة تربة أنّي (ثمّ مستدركا) وديني وأيماني 
0 
ثم نمض من مجلسه. منتقلا إلى جوارها فوضع يله 
على منكبيها وقال برقّة: 

- أتطمئين حين كان ينبغي الانرعاج وتلزعجين 
حين ينبغي الاطمئئنان! وحدي الله؛ زال الخطر وعاد 
السلام. ها هو فهمي بين يديك... (وضاحكا) 
ابتداء من الغد سنقطع القاهرة طول وعرضّاء ليك 
ونمارّاء بلا خوف أو قلق. . . 

وقال فهمي جادًا: 

- نيئة» رجائي إليك ألا تكدّري صفونا بحزن لا 
موجب له, , . 

تسّدت , , , فتحت فاها لتتكلّم ولكئها رت 
شفتيها دون أن تنبس» ابتسمث ابتسامة شاحبة لتعلن 
استجابتها لرجائه؛ ثم نكست وجهها لتخفي عينيها 
المغرورقتين. . . 


١/٠ 

سات فهمي تلك الليلة وهو عاقد العزم على 
استرضاء أبيه مها كلّفه الأمره وفي صباح اليوم التالي 
صمم على تنفيل عزمه دون تردّدء ومع أنه لم يضمر 
لأبيه - طول فترة العصيان ‏ أي إحساس بالغضب أو 
التحدّي فإنْ ضميره كابد شعورًا بالذنب ناء به قلبه 
الحسّاس المشرب بالطاعة والولاء. حمًا لم يتحداه 
بلسانه ولكنّه خالف إرادته بالفعل. بل خالفها مرارًا 
وتكرارّاء فضك عن امتناعه عن القسم يوم دعاه إليه 
في حجرته وإعلانه بالبكاء تمسّكه برأيه رغم إرادة 
الرجل»: كل رافك الحلدي هل مين ركةن ع قفا غاقا 
شريرًا لا يرضاه لنفسه ولا يحتمله. ولم يكن سعى إلى 
استرضائه من قبل خشية أن ينكأ الجرح دون أن يسعه 
أن يلأم لأنه قدّر أن يدعوه السيّد إلى القسم تكفيرًا 
عنًا بدر منه فيضطرٌ مرّة أنخرى إلى الامتناع مؤكدًا 
عصيانه من حيث أراد أن يعتذر عنه. الحال اليوم 
غيرها بالأمسء انتشى قلبه بالسرور والظفرء الوطن 
كله ثمل بخمر السعادة والفوزء فلا يطيق أن يقوم بيئه 
وبين أبيه حجاب من سوء الظنٌ ولو لحظة واحدةع 
الاسترضاء. فالعفو الذي ييفو إليه. ثم السعادة اللحقة 
التي لا تشوبها شائبة» دخل حجرة أبيه قبيل ميعاد 
الفطور بربع ساعة فوجده يطوي سجادة الصلاة 
مغمغًا بالدعاء. لمحه الرجل بلا ريب ولكنّه تجاهله 
فمضفى إلى الكنبة دون أن يلتفت صوبه وجلس. عند 
ذاك تراءى فهمي بموقفه عند الباب ملفوفا بالارتباك 
والحياء فحدجه بنظرة جافة مستدكرة كأنما تتساءل امن 
هذا الواقف وماذا جاء به!؟) فتغلّب فهمي على 
ارتباكه وتقدّم من مجلس أبيه في خطى خفيفة حي 
انحنى على يده فتناوها فلثمها باحترام لا حدّ له 
وصمت مليًّا ثم قال بصوت لا يكاد يسمع : 

- صباح الخير يا بابا. 

واصل التحديق فيه صامتا كأنه لم يسمع تحيّته حي 
غض الشابٌ بصره ارتباكا وغمغم في نبرات عت عن 
اليأس : 


- إفي أسفف. . 


صمت وإصرار على الصمت. . , 

دا فيه ا لم أذق طعم السكينة منذ. . . 

وجد أن الكلام كاد يستدرجه إلى ذكر ما ود من 
كلّ قلبه أن يتحاشاه فامسك. وما يدري إِلّا والسيّد 
يسأله ببجفاء وتبرم : 

- وماذا تريد؟ . . . 

رحب بإقلاعه عن الصمت أيما ترحيب فتبّد 
بارتياح كأنه لم يستشعر جفاءه وقال برجاء : 

ه أزيك ان تكون: تراضيًا فى .. 

قال السيّد بضجر: ْ 

0 

فقال فهمي وهو يشعر بقبضة اليأس تتراخى قليلا 
عن عنقه : 

عندما أنال رضاك, . , 

تساءل السيّد متحوّلا فجأة إلى التهكم : 

- رضاي!... لم لا؟. . . هل فعلت لا سمح الله 
ها يستوجب السخط؟ ! 

رحب بالتهكم أضعاف ترحيبه بالإقلاع عن 
الصمت. التهكّم عند أبيه أوّل خطوة نحو الصفح. 
غضبه الحقيقئن صفع أو لكم أو ركل أو سبٌ أو كل 
أولشك جميعًاء التهكم أوّل بشير بالتحوّل. انتهر 
الفرصة وتكلم. تكلم كا ينبغي لرجل قد يعمل في 
المحاماة غدًا أو بعد غد, هذه فرصتك! وتكلّم. 
الاستجابة لنداء الوطن لا تعد عصيانًا لارادة 
حضرتك. لم أفعل شيئًا يحسب بين الأعمال الوطنية 
حشّاء توزيع منشورات على الأصدقاء. . . وما توزيم 
المنشورات على الأصدقاء؟ أين أنا ممّن بذلوا الحياة 
رخيصة؟ فهمت من كلام حضرتك أنّك تحاف على 
حياق لا لأنّك تستنكر حمًا الوأجبات الوطنيّة» فقمت 
بشىء من الواجب وأنا مطمئنٌ إلى أني ‏ في الواقع - لا 
أخالف لك إرادة. . . إلخ. . . إلخ. . 

- علم الله أنه لم يخطر ببالي قط أن أعصي لك أمرًا . 

قال السيّد بحذة: 

كلام فارغ, تتظاهر بالطاعة الآن لأنه لم يعد ثمّة 
داع إلى العصيان» لم لم تطلب رضاي قيل اليوم . . . ؟ 


بين القصرين الاه 

قال فهمي بحزن: 

- كانت الدنيا في دم وكرب وكنت من الحزن في 
شغل شاغل . . . 

- شغلك عن طلب رضاي؟ ! 

قال بحرارة: 

- شغلني عن نفسي لا عن طلب رضاك. . . 

- لن أستطيع أن أعيش بغير رضاك, . . 

قطب السيّدء لا غضبًا ىا تظاهرء ولكن ليخفي 
الأثر اللطيف الذي بعثه كلام الشابٌ في نفسه. مكذا 
يكون الكلام وإلَا فلاء يجيد صناعة الكلام حمّاء هذه 
هي البلاغة أليس كذلك؟ سأعيد أقواله على مسامع 
الأصدقاء الليلة لأمتحن أثره في نفوسهم. ترى ما 
عسبى أن يقولوا؟ الولد سر أبيه. .. هذا ما ينبغي أن 
يقال» قديًا قيل لي إنْبي لو أتممت مراحل التعليم 
لكنت أبلغ المحامين, إني أبلغ الناس بغير التعليم 
والمحاماة. الحديث اليومي كالقانون سواء بسواء في 
الكشف عن موهبة البلاغةء كم من محام أو من 
موظف كبير ينكمش في المجلس أمامي كالعصفور! ولا 
فهمي نفسه بمستطيع أن يسدّ مكاني يوما ماء سيقولون 
لي وهم يضحكون حقًا الولد سرٌ أبيه, امتناعه عن 
القسم لا يزال يحرٌ في نفسي». لكن أليس من دواعي 
الفخر لي أنه اشترك في الثورة ولو من بعيد؟ ليته 
اشترك في الأعيال الكبيرة ما دام الله قد كتب له العمر 
حّ اليوم: سأقول من الآن فصاعدًا إِنْه خاض غيار 
الثورة» أنظئون أنه اكتفى بتوزيع المنشورات كا كان 
يؤكد لي؟ لقد رمى ابن الكلب بنفسه في التار 
الدامي, يا سيد أحمد ينبغي أن نشهد لابنك بالوطنية 
والشجاعة. . . لم نشأ أن نقول لك هذا في إبّان المخطر 
أمًا وقد استقرٌ السلام فلا حرج من قوله... أتدكر 
أنت شعورك الوطني؟... ألم يثن عليك جامعر 
التبرّعات من مندوبي الوفد... والله لو كنت شاي 
لفعلت ما لم يفعله ابنك ولكنّه عصاني! عصى لسانك 
وأطاع قلبك! الآن ما عسى أن أفعل؟ يريد قلبي أن 
يهبه العفو ولْكَئى أخاف أن يستهين بمخالفتي ! 


؟ل/اه بين القصرين 


- وأنا لن أستطيع أن أنسى أنّك خالفت إرادتي» 
أحسبت أنْ الخطبة الفارغة التي صبّحتني بها على غيار 
الريق يمكن أن تؤثر في؟! 

همّ فهمي بالكلام ولكنّ أمّه دخلت في تلك 
اللحظة وهي تقول: 

- الفطور جاهز يا سيدي . 

وقد دهشت لوجود فهمي على غير انتظار فرددت 
عينيها بينبياء وتلكات قليلا لعلها تسمع شيئًا مما يدور 
ولكتبا رأت في الصمت - الذي خافت أن يكون مجيئها 
باعثه ‏ ما دعاها إلى مغادرة الحجرة على عجل. بض 
السيّد للانتقال إلى حجرة المائدة فتنحّى فهمي جانيًا 
وقد علاه حزن شديد لم يَخْفَ أثره عن عيني الرجل 
فتردد لحظات ثم قال أخيرًا بصوت سلمي : 

- أريد مستقبلا ألا تصء على حماقتك وأنت 
تخاطبنى . . 

وان قي الشابٌ متنا باسم الأساريرء ثم سمعه 
يقول متهم وههما يقطعان الصالة : 

- أظنك حاسب نفسك على رأس الذين أفرجوا 
عن سعد! 

غادر فهمي البيت قرير العين فمغى من توه إلى 
الأزهر حيث اجتمع بزملائه أعضاء لحنة الطلبة العليا 
للنظر في تنظيم المظاهرات السلمية الكبيرى الي 
سمحت السلطة بقيامها للؤعراب عن ابتهاج الشعب 
والتى تقرّر أن يشترك فيها ممثّلو الأمّة بكافة طبقائهاء 
دام الاجتماع وقنًا غير قصير» ثم تفرّق المجتمعون كل 
إلى وجهته فركب الشابٌ إلى ميدان المحظة بعد أن 
عرف الدور الذي عهد به إليه وهو الإشراف على 
تجمّعات طلبة المدارس الثانويّة. لئن كان يعد ما يعهد 
عادة إليه ‏ بالقياس إلى غيره» من الأدوار الثانويّة إلا 
أنه كان يقوم به بدقة وعناية وغبطة كأنما هو أسعد ما 
يحظى به في حياته غير أنه لم يكن يخلو في جهاده من 
تعاسة خفيفة لم يعلم بها أحد سواه. منشؤها ما اقتنع 
به من أنه دون الكثيرين من أقرائه جرأة وإقدامًا, . , 
أجل ل ينكص عن مظاهرة من المظاهرات التي دعت 
إليها اللجنة ولكنّه كان يفقد جئانه عند ظهور 


اللوريات المحملة بالحدود وخاصة عند إطلاق 
الرصاص وتساقط الضحايا. . . فمرّة لاذ بمقهُى وهو 
يرتعدء ومرّة أخرى جرى على وجهه شوطا بعيدًا حي 
وجد نفسه في قرافة المجاورين» أين هو من حامل 
اللواء في مظاهرة بولاق» أو مذبحة بولاق كا غدت 
تسمّى» الذي استشهد ويداه قابضتان على اللواء 
وقدماه ثابتتان في الطليعة ووحلجرته عبتف بالئبات؟! 
أين هو من أقران ذلك الشهيد الذين تبادروا إلى اللواء 
ليرفعوه فسقطوا فوقه وقد تقلدت صدورهم نياشين 
الرصاص؟! أين هو من ذلك الشهيد الذي انتزع 
المدفع الرشاش من أيدي الجنود في الأزهر؟! أين هو 
من هؤلاء جميعًا وغيرهم ممن تطير الأنباء بآي بطولتهم 
واستشهادهم؟! كانت أعمال البطولة تتراءى لعينيه 
رائعة باهرة تخطف الأبصارء وطالما أنصت إلى نداء 
باطيّ يبيب به إلى الإقدام والتأمّى بالأبطال» ولكن 
كانت تخذله أعصابه في اللحظة الحاسمة فا إن تنحسر 
موجة المعركة حبّى يجد نفسه في المؤخرة إن لم يكن 
ختبئًا أو هارباء ثم يعود إلى التصميم على مضاعفة 
البذل والكفاح والتماسك بضمير معذب وقلب حائر 
ورغبة في الكيال لا تحدّء متعرّيًا أحيانًا بقوله وما أنا إلا 
محارب أعزل. ولئن فاتني الرائع من أعمال البطولة 
فحسبي أنْني لم أتردّد مرّة واحدة عن الإلقاء بنفسي في 
أتون المعركة». في طريقه إلى ميدان المحطة جعل 
يراقب الطرق والمركبات» كان الجميع يتوجهون ‏ فيما 
بدا وجهتهء طلبة وعمّالا وموظلفين وأهلين راكبين 
وراجلين» تظلهم جميعًا طمانينة خليقة بقوم ذاهبين إلى 
شاف ديه فم ع وان لبه لاي لسر 
بشعورهم, لا كعهده القديم حين كان يلتمس طريقه 
إلى موعد المظاهرة بنفس ثائرة وقلب تثقل ضرباته كلما 
تخايل لعينيه شبح الملاك. ذاك عهد مضىء» اليوم 
يمضي مطمئن الجانب باسم الثغر... انتهى المجهاد؟ 
خرج منه سليًا لا عليه ولا له. ولا له؟! ليته عان 
شيئًا نما تعرّض له الآلاف كالسّجن أو الضرب أو 
إصابة غير مميتة! أليس هن المحزن أن تكون السلامة 
المطلقة جزاء من أوتي قلبًا كقلبه وحماسا كحاسه! 


كطالب مجتهد لم يتح له أن يظفر بأيّة شهادة. . . أتذكر 
سرورك بالنجاة؟ أكنت تفضّل أن تكون من الشهداء؟ 
كلاء أكنت تتميٌ لو كنت من المصابين غير الحهالكين؟ 
نعم» كان ذلك في وسعك فلم نكصت؟ لم تكن 
تضمن أن تقع الإصابة غير مميتة أو أن يكون السجن 
عابرا أنت لا تكره النجاة الراهنة ولكنّك تتم لو 
كان أصابك شىء دون أن يغثر من هله النباية 
الجميلة. ينبغي إذا جاهدت مرة أخرى أن أظلع على 
الغيب؟ أمضى إلى المظاهرة السلميّة بقلب مسطمئن 
وضمير قلق - بلغ الميدان زهاء الواحدة بعد الظهرء 
قبل الميعاد المحدّد لقيام المظاهرة بساعتين فاتّخذ مكانه 
في الموضع الذي حدّد له! باب المحطة. لم يكن 
بالميدان إلا المشرفون وجماعات متفرّقة من شي 
الطوائفنة» وكان الكو محتدلا إلا أن شمس أشريل 
صيّت على من تعرّض لأشعّتها لفل » وم يطل الانتظار 
فأحذت الجموع تتوافد على الميدان من مختلف الطرق 
المفضية إليهء ومضت كل جماعة صوب عملهاء بذّلك 
شرع فهمي في عمله بلذة وفخار» بالرغم من بساطة 
العمل الذي لم يَعْدُ أن يكون ترتيبًا للمدارس كل وراء 
علمها: 101 لني" نشي ع1 روتف اكيب اله كيان 
يشرف على طلبة كثيرين من يكبرونه سئًا حقّى بدت 
التسعة عشر عامًا التى يجرّها وراءه ذيلا قصيرًا في زحمة 
التلاميذ الذين ناهر كثير مهم الثانية والعشرين 
والرابعة والعشرين وفتلت شواربهم. ولاحظ أعينًا 
ترمقه باهتام وشفاهها تتهامس عليه كيا| سمع اسمه ‏ 
مقرونًا بصفته الشعبيّة ‏ يجري على بعض الألسن 
«نهمي أحمد عبد الحخواد مندوب اللجئة العليا» فحرّك 
أوتار قلبه حيّى أطبق شفتيه دون أن تند عنما بسمة 
حياء أو ارتباك من «مهابته». أجل ينبغي أن يحافظ 
على منظر مندوب اللجنة العلياء» على الحدٌ والصرامة 
الخليقتين بالرعيل الأول من شباب المجاهدين كي 
ينفسح المجال لأخيلة المتطلعين لخدس ما يخفي وراءه 
من أعمال البطولة والكفاح. فلتتحقق تلك الأعال 
الخارقة ‏ التي عجر عن تحقيقها في الواقع في أخيلتهم. 
لن تفتر له رغبة في المزيد منها وإن وخر قلبه إحساسه 


بين القصرين ابام 


الحادٌ بالحقيقة العارية. موزع منشورات وجندي من 
جلود المؤخخرة! هذا هو بلا زيادة. اليوم يوكل به قيادة 
المدارس الثانويّة فيواجه زعامة كبيرة. ترى هل يقدر 
الآخرون عمله أكثر مما يقدّره هو؟! لَشِدٌ ما يحبونه 
بالاحترام والمحيّة» لم يعقد اجتماع إلا وكان له فيه رأي 
مسموعء والخطابة؟ ليس من الضروري أن تكون 
خطييًا.. . أليس كذلك؟ ليس مالا أن تكون عظيًا 
وأنت غير خطيب ولكن أيّ خسارة ستمتى بها يوم تمثل 
اللجنة العليا بين يدي الرعيم فيستبق اللنطباء وتلود 
أنت بالصمت» كلا تن ألوذ بالصمت » سوف آتكلّم» 
سأطلق لقلبي العنان أجاد أم لم يجد. متى تقفب بين 
يدي سعد؟ متى تراه لأوّل مرّة فتملا منه عينيك؟ إن 
قلبيى يخفق وعيناي تحنان للدموع. سيكون يومًا 
عظيًا» ستخرج مصر كلها لاستقبالهء لن يكون يومنا 
هذا إلى ذلك إلا كالقطرة إلى البحرء ربّاه! امتاأ 
الميدان. امتلأت الشوارع المفضية إليه. عباس ثوبار 
الفجالة» لم تسبق كهذه مظاهرة» مائة ألف» طرابيشس 
عمائمء طلبة. .. عيّال... موظفون... الشيوخ 
والقساوسة» القضاة... من كان يتصور هذاء لا 
يبالون الشمس. . . هذه مصرء لم لم أذْع بابا؟ صدق 
ياسين.. . الواحد منا يسبى بين الناس نفسه. يعلو 
على نفسه» أين همومي الشخصيّة؟ . . . لا شيء. لَشْدٌ 
ما يخفق قلبي» سأتحدث عن هذا طويك 2 
بعدها. ثرى هل ترتعد نينة مرّة أخرى؟ منظر جليل 
تخشع له القلوب وتطمئنٌ » أريد أن ألمس أثره في وجوه 
الشياطين! ها هي تكناتهم تشرف على الميدان» الراية 
اللعينة ترفرفهء هناك رءوس في النوافك... فيم 
تتهامس؟! الديدبان تمثال لا يرى شيئاء لم تقض, 
رشاشاتكم على الثورة» افقهوا هذاء سترون عمّا قريب 
سعد في هذا الميدان عائدًا مظقرًا تنفونه بالسلاح 
ونعيده بغير سلاح؛ سوف ترون قبل الخلاء. حك 
الموكب العظيم فتدفقت موجاته تباتًا مردّدة الهتافات 
الوطنيّة بدت مصر مظاهرة والحدة.» بسل رجاد 
واحدّاء بل هتافًا واحدّاء تتابعت طوابير الطوائف 
طويلاء طويلا جذاء حيّى خيّل إليه أنْ الطلاشم 


4لاه بين القصرين 

ستشارف عابدين قبل أن يتزحزح هو وجماعته أمام باب 
المحطة, أوّْل مظاهرة ثسير دون أن تقطع المداضع 
الرشّاشة الطريق عليهاء لا رصاص من ناحية ولا زَلَط 
من الناحية الأخرى. وافترْ ثغره عن ابتسامة؛ رأى 
الجماعة التى تعسكر أمامه مباشرة تتحرّك فدار على 
عقبيه كي يواجه مظاهرته «الخاصة» ورفع يديه فسرت 
في الصفوف حركة تاهب وتوتّبء ثم هتف باعل 
صوته وهو يسير مقهقرا. واصل مهمة القيادة والهتاف 
حبّى مدخل شارع نوبار ثم تخل عن الثانية لغيره من 
أحاطوا به مترضّدين دورهم بأفواه قلقة متحرّكة كأئما 
قد جاءها المخاض والطلق فلا تستريح حتّى تقذف 
ببتافاتهاء دار على عقبيه مرّة أخرى سائرا بوجهه, 
يشرئبٌ بعنقه تارة ليشاهد ما تقدّم من جسم المظاهرة 
التي لم يعد يرى ها أوَلَا ويتلفُت يمنة ويسرة تارة أخرى 
ليرى من اكتظت بهم الأرصفة والنوافذ والشرفات 
والأسطح من جموع المشاهدين الذين جعلوا يرددون 
المتافات. امتلأت نفسه بمنظر الألوف الحاشدة قوة إلى 
قوة وطمأنيلة على طمأئيلة» كأئها دروع منصوبة 
حواليه. قوة متاسكة لا ينفذ منها الرصاص. إِنْ قوّات 
البوليس تتعهّد النظام بعد أن أعياها الطعان والهجوم, 
إن منظر هؤلاء الرجال الذاهبين الجائين على صهوات 
جيادهم كأنهم حرّاس تابعون للمظاهرة قائمون على 
خدمتهاء لأبلغ دليل على انتصار الثورة» الحكمدار؟! 
المعرفة» وهذا وكيل الحكمدار يخبٌ وراءه ملقيًا على 
الأفق نظرة جامدة مترفعة كأئما تحنج احتجاجًا صامنًا 
على السلام الذي احتضن المظاهرة». ما اسمه؟ هل 
يمكن أن ينسى الاسم الذي ملا الأساع في الأيام 
السود الدامية؟! أوّله جيم أليس كذلك؟ جا. . . 
جو... جي... يأبى أن يستجيب إلى الذاكرة. 
جوليون!! أوه كيف تسلل هذا الاسم البغيض إلى 
وعيه؟! هوى عليه كالتراب فأطفاً حماسه؛ كيف لنا أن 
نلبّي نداء الحماس والظفر ما دام القلب ميئًا! قلب 
ميت؟! لم يكن ميتا منذ دقيقة» لا تستسلم للحزن, لا 
تدع قلبك يبتعد عن المظاهرة. ألم تعاهد نفسك على 


هي؟! ذلك التاريخ القديم؟! نحن نعيش للمستقبل 
جين .. هذا هو اسم وكيل الحكمدار لعنة الله عليه 
عد إلى الحتاف كي تنفض عن نفسك هذا الغبار 
الطارئ. مضت «مظاهرته» تقترب رويدًا من حديقة 
الأزبكيّة التي لاحت أشجارها الباسقة فوق الأعلام 
المنتشرة بطول الطريق على حين بدا هيدان الأويرا من 
بعيد رءوسا متلاصقة كأئها تنبت من جسد واحد مله 
الأرض طولا وعرضًا. كان يبتف بقوّة وحماس 
والجمهور يردّد هتافه بصوت ملا الحو كهزيم الرعد. 
ولا شارفوا سور الحديقة دوت على حين بغتة - 
فكع احعاكة 3غ[ خا خدينة وتلق كفن خوالية مقيائك 
في انزعاج. صوت معهود كثيرًا ما صلكٌ أذنيه في الشهر 
المنتصرم وكثيرًا ما ترد صداه في ذاكرته في هدأة الليل 
بيد أنه لم يستطع أن يألفه فيا يكاد يدوّي حي يخطف 
دمه ويوقف قلبه على الخفقان. . . 

- رصاص؟!. . . 

غير معقول» َم يصركحوا بالمظاهرة؟ . . . 

د امنقط ونين عداباف الخلر» 

دولكن لذ أرق «حنوذا : ..:؟] 

- حديقة الأزبكيّة معسكر هائل مكتظ بهم. . . 

لعلها فرقعة عجلة سيارة. . 

- لعلها. . . 

أرهف أذنيه لما يدور حوله من دون أن يثوب إلى 
السكينة. وما هي إلا لحظات حب دوّت فرقعة 
ثانية... آه... لم يعد ثمّة شك رصاصة 
كسابقتهاء أين ترى استقرّت؟ أليس يوم سلام؟! شعر 
بحركة اضطراب تسري بين المتظاهرين وافدة من 
الأمام كالموجة الثقيلة التي تدفعها إلى الشاطوع باخرة 
تمخر وسط الغهرء ثم تراجع الألوف وانتشروا باعئين 
في كل ناحية دفعات جامحة جنونيّة من الاضطراب 
والارتباك والارتطام. تعلوها صيحات مفزعة من 
الغضب والخقوف. وسرعان ما انتثرت الصفوف 
المنناسقة وائهدٌ البئيان المشيّد. تلاحقت جملة من 


الطلقات الحادة فتعالى صراخ الغضب وأنين الألمى ماج 
بحر الخلق وهاج وتدافعت موجاته إلى جميع المنافل لا 
تبقي على شيء في طريقها ولا تذر. اهرب. ما من 
الغحرب بدّء إن لم يقتلك الرصاص قتلتك الأذرع 
والأقدام. هم بال هرب أو بالتراجع أو حيّى التحول عن 
موقفه ولكنّه لم يفعل شيئّاء ما وقوفك وقد تشئَّت 
المجمع؟! في خلاء أنثاء اهصرب. . 
ذراعيه وساقيه حركة بطيئة وانية متراخخية. ما أشد 
الفموضاء. ولكن بم علا صراخها؟ هل تذكر؟ ما 
أسرع ما تفلت منك الذكريات. ماذا تريد؟ أن 
من؟ ما؟ في 
باطنك يتكلم هل تسمع؟ هل ترى؟ ولكن أين؟ لا 
شيء. لا شىء. ظلام في ظلام. حركة لطيفة تطرد 
بانتظام كدقات الساعة ينساب معها القلب. . . 
تصاحبها وشوشة. باب الحديقة. أليس كذلك؟ 
يتحرك حركة تموجيّة سائلة. يذوب رويدّاء الشجرة 
السامقة ترقص قُِ هوادة. السماء , . . السهاء؟ منبسطة 
عالية» لا شيء إلا السماء هادئة باسمة يقطر منها 
السلام . 


. صذدرت عن 


8 

سمع السيّد أحمد عبد الجواد وقع أقدام على مدخل 
الدكان فرفم رأسه عن مكتبه فرأاى ثلائة شبان 
يتقدّمون نحوه تعلوهم سيماء الحدٌ والرزانة حي وقفوا 
لصى مكتبه وهم يقولون: 

السلام عليكم ورحمة الله. . . 

فمبضص السيّد قائلا بأديه المعهود: 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته (ثم مشيرًا إلى 
الكرابى) تفضلوا. . . 

ولكتّهم لم يلبّوا الإشارة شاكرين وقال أوسطهم : 

حضرتك السيّد أحمد عبد الحواد؟ 

فقال السيّد باسمًا وإن لاح في عينيه التساؤل: 

- نعم يا سيدي . . , 

ماذا يريدون يا ثرى؟ الشراء مستبعد... ما 


للشراء والمشية العسكريّة التى جاءوا عليها! ما للشراء 


بين القصرين هلاه 


واللهجة الجدّيّة التي يتكلمون بها! ثم الساعة جاوزت 
السابعة مساء. ألا يرون الحمزاوي وهو يرفع الركائب 
إلى الرفوف إيذانًا بإغلاق الدكان؟ أيكونون من 
جامعيّ التبرّعات» لكن سعد قد أفرج عنه وانتهت 
الثورة» وأنا لم أعد صالخًا الآن إلا للسهرة! يا هؤلاء 
اعلموا أني لم أغسل رأمي ووجهي بالكولونيا وأمشّط 
شعسري وشاربي وأحبك جبتي وقفطاني كي ألقى 
وجوهكم! ماذا تريدون؟ غير أنه خيّل إليه وهو يرنو 
إلى محدّئه أنْ وجهه ليس غريبًا عليه رآه من قبل؟ 
أبن؟ عتى؟ تذكّرء من المؤكد أنه لا يراه لأوّل مرق 
أه. . . قال باسم) وقد شاع الارتياح في وجهه: 

الس حضرتك الشاب النبيل الذي تقدم لإنقاذنا 
في الوقت المناسب يوم حمل الناس علينا في مسجد 
الحسين رضى الله عنه؟ 

فقال الشاتٌ بصوت خفيض : 

- بلى يا سيدي . . . 

صدق ظبى يسول البلهاء إِنْ الخمر تضعف 
الذاكرة؟ لكن ما بالهم ينظرون إل هكذا؟ انظرء 
انظر؟ هذه النظرات لا تنبئ عن شخيرء اللهمٌّ اجعله 
خيراء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قلبي ينقبض 
لأمر ماء جاءوا لأمر يتعلّق ب. . 

- فهمي؟! جثتم تريدونه . . . لعلّكم!؟ 

نكس الشابٌ عينيه ثم قال بصوت متهدّج : 

- مهمّتنا شاقة يا سيّدي ولكتّها فرض واجبء ريّنا 
نملك الهدر ا 

مال السيّد فجأة إلى الأمام معتمدًا على حافة 
المكتب وهتف: 

- الصبر؟ علام؟. . . فهمي؟!. . 

قال الشات بحزن بالغ : 

يؤسفنا أن ننعي إليك أخانا المجاهد فهمى 
أحد. . . ْ 

صاح بلهجة منكرة وإن لاحت في عينيه نظرة 
قاطعة بالتصديق واليأس: 

افيض 23 

- استشهد في مظاهرة اليوم. . . 


5 بين القصرين 

وقال الذي إلى يمينه : 

- انتقل إلى جوار الله وطئيًا نبيلا وشهيدًا كريًا, . . 

تلقّى كلراتهم بأذن أصمّها الشقاء على حين ختم 
الصمت شفتيه واسترسلت عيناه في نظرة شاردة غائبة . 
مضت هنيهة يم الصمت فيها عليهم أجمعين حقى 
جميل الحمزاوي تسمّر تحت الرفوف ذاهلا يمد إلى 
الرجل بصرًا ملؤه الجرع. أخيرًا عاد الشاث يغمغم: 

لَشْدٌ ما أحزئنا فقده ولكن ليس لنا إلا أن نتلقّى 
قضاء الله بصي المؤشين. وإنك لن المؤمنين يا 
مد 
إن يعزّونك» لا يعلم هذا الشابٌ أنّك أوّل من 
يحسن إلقاء التعازي في مثل هذا الموقف!... ماذا 
تعنى هي للقلب المصاب؟ لا شيء! من أين للكلام أن 
يطفوع النار؟. . . مهلا. . . ألم تخطر الرزيّة بقلبك قبل 
أن يتكلم قائلهم؟ بلى... تخايل لعي شبح الموت. 
الآن والموت حقيقة تلقى إلى سمعك تأبى أن تصدّق» 
أو تخونك شجاعتك فلا تريد أن تصدّق» كيف أصدّق 
أن فهمي مات حمّاء كيف تصِدذق أن فهمي الذي 
كان يطلب رضاك من ساعات فتثاقلت عله. فهمي 
الذي تركنا هذا الصباح متلئًا صححة وعافية وأملا 
وسروراء مات... ماث! لن أراه بعد اليوم لا في 
البيت ولا في أي مكان من ظهر الأرض؟ كيف يكون 
البيت من غيره؟ كيف أكون أنا بعدله؟ أين تذهب 
الآمال المعقودة عليه؟ لم يعد ثمّة أمل إلا في 
الصير. . . الصبر؟ آه. . . هل تشعر بوخيز الألم الحاد؟ 
هذا هو الألل حمًا... كنت تخدع أحيانًا فتزعم أنّك 
متألم. كلا. لم تتام قبل اليوم. هذا هر الألم حمًا. . . 

- سيّديء شد حيلك وسلّم أمرك إلى الله. . . 

رفع السيّد رأسه إلى الشاب. ثم قال بصوت 
مريض : 

- ظنلت عهد القتل قد انتهى . . . 

فقال الشابٌ بندرات غاضية : 

كانت مظاهرة اليوم سلميّة» وقد أذنت بها 
السلطات فاشترك فيها صفوة الرجال من شتّى 
الهيئات. وسارت أوّل الأمر في أمان حيّى بلغ منتصفها 


حديقة الأزبكية, وما ندري إلا والرصاص يغبال علينا 
من وراء السور بلا سبب» لم يتعرض أحد للجنود لا 
بخير ولا بشرٌ حي الهتاف بالإنجليزية امتنعنا عنه 
تفاديًا من الاستفزاز, ولكتّهم مشهم جنون القتل فجأة 
فعمدوا إلى بنادقهم وأطلقوا النار. وقد انعقد الإجماع 
على توجيه احتجاج شديد إلى دار الحاية» بل قيل: إن 
أللنبي سوف يعلن أسفه عا بدر من الجئود. . . 

قال السيّد بنفس اللهجة المريضة : 

- ولكنّه لن يرد حياة إلى ميت. . 

واأسقاه! , . . 

قال السيد بتفجع : 

لم يشترك في المظاهرات الخطرة» هذه أول مظاهرة 
ينم إليها! . . . 

تبادل الشبّان نظرة ذات معنى فلم ينبس أحدهم 
بكلمة. . . وكأما ضاق السيّد بالحصار المضروب حوله 
فقال وهو يزفر: 

الأمر لصاحب الأمرء أين أجده الآن؟ 

قال الشات: 

- في قصر العيني «ثمّ وهو بشير إلى السيّد متمهلا 
لا رآه يتعجل الذهاب» ستشيع جنازته مع ثلاثة عشر 
شهيدًا من إخواننا في تمام الساعة الثالثة من مساء 
الغدل, , 

ند اليل بجر ” 

ألا يترك لي تشييع جنازته من بيته! . . . 

فقال الشات بقوة: 

بل تشيع جنازته مع إخوانه في احتفال شعبي . . . 

ثم برجاء ؛ 

القصر محاصر الآن بقوات من البوليس» ولا بأس 
من الانتظار ما دمنا نحرص على تمكين أهاليى الشهداء 
من توديعهم قبل تشييع الحنازة» لا يليق أن يشيع 
فهمى في جنازة عادية كمن قضوا في بيوتهم... 

لم مذ له يده مودّعًا وهو يقول: 

- اصير وما صيرك إلا بالله. . . 

وصافحه الآخران مكرّرين له العزاء. ثم ذهبوا 
جميعا... أسئد رأسه إلى راحته وهو يغمض عينيه 


فجاءه صوت جميل الحمزاوي وهو يعزيه بنبرات باكية, 
ولكنه بدا ضيّق الصدر بالتعزية» ولم يعد يحتمل البقاء 
فزايل موضعه يسير بخطى بسطيئة ثقيلة حَبّى غادر 
الدكان. ينبغي أن يخرج من حيرته. فإنه لا يدري 
حتّى كيف يحزنء. يود لو يخلو إلى نفسه ولكن أين؟ 
سيئقلب البيت جحيًا بعد دقيقة أو دقيقتين. وسيلحق 
به الأصدقاء فلا يدعون له فرصة للتفكير. .. متى 
كائن القنطارة ال فى انيه عق يقوذ اله أنانيقيت 
فيها عن الدئنيا جميعًا؟ يبدو هذا بعيدًا... ولكنّه آت 
لا ريب فيهء وهذا قصارى ما يجد من عراء في 
راهنه. . . أجل سيأقي وقت يخلو فيه إلى نفسه ويفرغ 
إلى حزنه بكل كيانهء هنالك ينعم النظر في موقفه على 
ضوء الماضي والحاضر والمستقبل» أطوار حياته كلها من 
طفولته وصباه إلى ريق شبابه. ما أثار من آمال وما 
خلّف من ذكريات مطلمًا لدموعه العنان حيّ يستنفدها 
عو اخرهاء: بعفا أن أمافة: سيف من الت قات يريرك 
عليها فلا داعي للجزع, انظر إلى ذكرى الملاحاة التي 
نشبت بينها عقب صلاة الجمعة أو ذكرى ما دار بينهها 
هذا الصباح من استعطاف وعتاب» كم يستغرقان من 
وقته تأمّلا وتذكرًا وشجنًا؟ كم يستهلكان من قلبه؟ كم 
يجان دموعه؟ كيف يجزع؟ الايام تدّخر له كل هذه 


بين القصرين /ا/اه 
السعادة؟ رفم رأسه المثقل بالفكر فلاحت لعينيه 
المظلمتين مشربيّات البيث فذكر أميئة لأوؤل مرّة حي 
أوشكت أن تخونه قدماه. .. ما عسبى أن يقول لما؟ 
كيف تتلقّى الخبر؟ الضعيفة الرقيقة التي تبكي لمصرع 
عصفور! أتذكر كيف هملت دموعها لمقتل ابن الفولي 
اللبان؟! ماذا تصلع لمقتل فهمي؟... مقتل 
فهمي!. . . أهذه هي ايتك حمّا يا بني؟. .. يا بي 
الغزيز التعيين | أميقة..... ابننا قعل » الهم 


' قتل. .. يا له. . . أتأمر بمنع الصوات كا أمرت بمنع 


الزغاريد من قبل؟... أم تصوت بنفسك أم تدعو 
النائحات؟!.. . لعلها تتوسط الآن مجلس القهوة بين 
ياسين وكبال متسائلة عنًا أخر فهمي» سوف يتأخر 
طويلاً. لن تريه أبدًا. . . ولا جنْته. ولا نعشه. يا 
للقسوة. سأراه أنا في القصر أمًا أنت فلن تريه. لن 
أسمح بهذا... قسوة أم رحمة؟ ما الفائدة؟... وجد 
نفسه أمام البيت فامتدّت يده إلى المطرقة ثم تذكر أن 
المفتاح في جيبه فأخرجه وفتح الباب ثم دخل... 
ترامى عند ذاك إلى سمعه صوت كيال وهو يغنىي 
بعذوبة : 


زورون كلّ سئة مرّة 2 حرام المحجر بالمرّة 










هم د ير 3 و 
و 9 
فيس لبص_33- رن 


> 

أغلق السيّد أحمد عبد الجواد باب البيت وراءه. 
ومغى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهث في 
خحطوات متراخية؛. وطرف عصاه ينغرز في الأرض 
التربة كلما توكّأ عليها في مشيته المتثائبة. تشوّق وحوانبه 
تحمى بمثل الوهج إلى الماء البارد الذي سيغسل به 
وجهه ورأسه وعنقه كي يلطف - ولو إلى حين - من 
حرارة يوليه والنار المستعرة في جوفه ورأسه. فهش 
لفكرة الماء البارد حيّى انبسطت أساريره. ولا جاز 
باب السلّم لاح له الضوء الواني المابط من أعلى 
يتحرّك على الجدران واشيًا بحركة اليد القابضة على 
المصباح. فرقي على السلّم يدا على الدرابزين ويد 
على عصاه التي بعث طرفها دقات متتابعة اكتسبت من 
قديم إيقاعًا خاصًا غدا ينم عنه كما تنم عنه ساته . 
وعند رأس السلّم بدت أميئة والمصباح في يدهاء حقٌ 
إذا انتهى إليها توقف وصدره يعلو وينخفض ريئ) 
يستردٌ أنفاسهء ثم حيّاها تميّته الليليّة المألوفة قائلا : 

عاد او 

فغمغمت أميئنة وهي تَتَقدّْمه بالمصباح : 

مساء الخير يا سيدى ! . . 

في الحجرة هرع إلى الكنبة فتهالك عليهاء ثم 
تخلص من عصاه وخلع طربوشه. وطرح قذاله على 
المسئد مادًا ساقّيه إلى الأمام حبّى انتحسر جناحا الجحبة 
عن قفطانله. وكشف القفطان عن رجلىي سرواله 


المنداخلتين في جوربه؛ وأغمض عينيه وهو يجفف 
بمنديله جبهته وخحدّيه وعنقه؛ على حين كانت أميلة 
تضع المصباح على الخوان» ثم وقفت تترقب قيامه 
لتساعده في نزع ثيابهء وهي تنظر إليه باهتمام مشوب 
بقلق: وتودٌ لو تواتيها شجاعتها فتسأله أن يعفي نفسه 
من الدأب على السهر الذي لم تعد تنبض به صحته 
بالاستخفاف المعهود قديًا. ولكتها لم تدر كيف تفصح 
عن أفكارها الأسيفة! توالت دقائق قبل أن يفتح 
عنيةن ثم نزع الساعة الذهبيّة من قفطانه والخاتم 
المابّ فأودعهما داخل الطربوش» ثم بض ليخلع 
الحبّة والقفطان بمعاونة أميئة» هناك بدا جسمه كالعهد 
به : طولاء وعرضاء وامتلاء. . لولاا شعيرات اغتصبها 
الكسسو دمر فوديه. وعنلما أدخل رأسه في طاقة 
الجلباب الأبيض غلبه الابتسام فجأة. إذ ذكر كيف 
تقيّا السيّد عل عبد الرحيم الليلة في مجلس الأنس» 
وكيف اعتذر عن ضعفه ببرد أصاب معدته. وكيف 
تعمّدوا أن يعيّروه به زاعمين أنّه لم يعد يحتمل 
الشراب» وأنه ليس كل الرجال من يستطيعون معاشرة 
الخمر إلى نماية العمر ألخ ألخ. وذكر كيف غضب 
السيّد عل وجدٌّ في دفع الريبة عنه. يا عجبًا. . ألهذا 
الحلٌ يعير بعض الئاس أهميّة لهذه الأمور التوافه؟! 
ولكن إذا لم يكن ذلك كذلك فَلِمّ فاخر هو في صخب 
الحديث الضاحك بأنّه يستطيع أن يشرب حانة دون أن 
تضطرب له معدة؟! 


جلس عل الكنبة مرّة أخرى ومدّ ساقيه للمرأة الي 
راحت تخلع الحمذاء والجورب. وغابت عن الحجرة 
قليلاء وعادت بالطست والإبريق وجعلت تصبّ له 
الماء فيغسل رأسه ووجهه وعنقه ويتمضمض.ء وأخيرًا 
تريّع في جلسته مستعرضًا نسمة المواء التي مفو في 
لطف ما بين المشربية والنافذة المطلة على الفناء . 

- يا له من صيف فظيع صيف هذا العام! 

فقالت أمينة وهي تسحب الشلتة من تحت السريرء 
وتتربع بدورها عليها على كثب من قدميه : 

- ربّنا يلطف بنا (ثمٌ وهي تتنبّد) الدنيا كلها كوم 
وحجرة الفرن كوم! السطح هو المتنفس الوحييد في 
الصيف بعد مغيب الشمس. 

بدت في جلستها غيرها بالأمس. نحفث واستطال 
ورجههاء أو لعله تراءى أطول مما هو لما محل بالخدّين 
من رقة؛ وقد انتشر المشيب فيما انحسر عنه منديل 
رأسها من خصلات. فأضفى عليها روح كبر أكثر نما 
تستحقٌ. . وغلظت الشامة في وجنتها قليلا» على حين 
نمت عيئاها ‏ إلى نظرة الخضوع القديمة - عن شرود 
مرج بالحرن. كما اشندّت حيرتها لا طرأ عليها من 
تغير. ولئن كانت قد رحبت به بادئ الأمر على سبيل 
التعرّي إلا ئها أحذت تتساءل في قلق: أليست هي في 
حاجة إلى صحتها مادام في العمر بقيّة؟ بلى! 
والآخرون في حاجة إلى صحّتها أيضًاء ولكن كيف 
يعاد الشيء إلى أصله؟! ثم نا تقدّمت سنين, لعلّها ل 
تكن بالكثرة الى تبرّر هذا التغيّر ولكنها مما يترك أثرًا 
ولا شكٌ. 

هكذا كانت تقف في المشربيّة الليالي المتعاقبة تراقب 
الطريق من وراء الخصاص. فترى طريقًا لا يتغين 
والتغيّر يدب إليها غير متوانٍ. وعلا صوت النادل في 
القهوة فتطاير إلى الحجرة الصامتة كالصدى» فابتسمت 
وهي تسترق النظر إلى السيد. 

ما أحبٌ هذا الطريق الذي يسهر الليالي سامرًا إلى 
قلبها. إِنه الصديق الغافل عن القلب الذي يحبّه من 
وراء ختصاصء معالمه ملء نفسهاء سعاره أصوات حيّة 
تعيش في مسامعهاء هذا السادل الذي لا يستكن له 


لسانء وذو الصوت المبحوح الذي يعقّب على حوادث 
اليوم بلا تعب أو ضجرء وذو الصوت العصبيّ الذي 
يتصيد بخته في «الكومي» و«الولدي. ووالد هنيية 
الطفلة المصابة بالسعال الديكيّ الذي يسأل عنها 
فيجيب ليلة بعد أخرى «عند الله الشفاءىى آه. . كأن 
المشربيّة ركن من القهوة هي جليسته. كانت ذكريات 
الطريق ترتسم على مخيلتها وراء عينين لا تفارقان 
الرأس اللمتوسّد لمسند الكنبةء فلا انقطع التيّار تركر 
انتباهها في الرجل فتبينت في صفحتي وجهه حمرة 
شديدة اعتادت أن تطالعها في أعقاب الليالي الأخيرة, 
ولم تكن ترتاح إليها فتساءلت في إشفاق: 

- سيّدي بخير. . ؟ 

فاعتدل رأسهى وهو يتمم : 

| - بخيرء والحمد لله (مستدركا) ما أفظع الوا ! 

الزبيب خير مشكر في الصيف.. هكذا قالوا له 
وأعادواء ولكنّه لا يطيقه. فإمًا الويسكي وإلا فلا. 
عليه إذن أن يعاني خحمار سكرة صيف ‏ وصيف شديد - 
كل ليلة. شد ما ضحك هذه الليلة. . . ضحك حي 
كلت عروق عنقه. ولكن فيم كان الضحك؟! لا يكاد 
يذكر شِيئًاء وليس هناك شىء يروى أو يعاد. ولكنّ 
+ التعايس كان بعر كورياء كتلالة يفيف ذا أنه 
لسة كانت مُحدث اشتعالاء فا هو إلا أن قال السيّد 
إبراهيم الفار: «أبحر الإسكندريّة من سعد اليوم إلى 
باريس» وكان يقصد أن يقول: «أبحر سعل من 
الإسكندريّة اليوم إلى باريس» حتى الفجروا 
ضاحكين. فعدّت «لادرة» من نوادر الثمر اللسانية. 
وابتدروه قائلين: «وسيمكث في المفاوضة ريثا يسترد 
صحّته» ثم يبحر إلى الدعوة تلبية للندن التي تلقاها 
من أو «وسينال رامزاي مكدونالد من الاستقلال على 
الموافقة» ووسعره جعافاة مص إل الاستفلال»: 
وجعلوا يتحدّئون عن المفاوضة المنتظرة ويعلقون عليها 
ما يحلو لهم من المداعبات. . 

حمًا. . إِنّْ دئيا الأصدقاء على رحابتها تتلخّص في 
ثلاثة: محمد عمّت, وعلّ عبد الرحيم» وإبراهيم 
الفار. . فهل يستطيع أن يتصور للدنيا وجودًا من دون 


وجودهم؟! إِنْ إشراق وجوههم بالبشّْر الصادق حين 
رؤيته. سعادة لا تدانيها سعادة. التقّت عيناه الخالمتان 
بعيي أميئة المستطلعتين» فقال وكأنه يذكرها بأمر هام : 

غذا. , 

فقالت» وقد شاعت في وجهها ابتسامة : 

- كيف أنسبى ! 

فقال ببيء من الفخار لم يحاول مداراته : 

- قيل لي إن نتيجة البكالوريا كانت سيّئة هذا 
العام . . 

فقالت وهي تشاركه فخاره بمعاودة الابتسام : 

- ربئا ينجح مقاصده. ويد في عمرنا حتّى نشهد 
نجاحه في الدبلوم . . 

فتساءل : 

- هل ذهبت اليوم إلى السكرية؟ 

- نعمء ودعوتهم جميعا. وسوف يحضرون إلا 
السب الكبيرة التى اعتذرت بتعبهاء فقالت: إِنَّ ابنيها 
سيلوبان عنها في مبنئة كمال . 

فقال السيد. وهو يومئ بذقنه صوب جبته : 

جاءني اليوم الشيخ متولي عبد الصمد بأحجبة 
لأولاد نحديجة وعائشة. ودعا لي قائلًا: «إن شاء الله 
أعمل لك أحجبة لأولاد أحفادك». 
ثم وهو بيهر رأسه باسم): 

لا شيء على الله ببعيد ها هو الشيخ متولي نفسه 
كالحديد رغم الثيانين! . . 

- ربّنا يمتّعك بالصحّة والعافية! 

فتفكر مليّاء وهو يعد على أصابعه. ثم قال؛ 

لود ]قد العمر بأبي ‏ رحمه الله - ما زاد على عمر 
الشيخ كثيرًا. . 

وحم الله الراحلين. . 

وخيّم الصمت ريثا ذهب الأثر الذي تركه ذكر 
«الراحلين؛. ثم قال الرجل بلهجة مَن تذكر أمرًا 
هامًا: 

- زيئب -حطبت! 

انسعت عيئا أميئة» وهي ترفع رأسها قائلة : 

1 


قصر الشوى مه 


- نعم أخبرني محمّد عفّت بذلك الليلة!. . 

- من ؟ 

- موظف يدعى محمد حسن. رئيس إدارة 
المحفوظات بالمعارف . 

فتساءلت بوسجوم : 

- يبدو أنه متقدّم في السنّ؟ 

فقال كالمعترض : 

كلاء في الحلقة الرابعة» حمسة وثلاثين.. سنّة 
وثلاثين. . أربعين عامًا على الأكثر! 

م بلهجة عبكمية. 

جرّبث حظها مع الشباب فأخفقت, أعني 
الشباب الذين لا يرفعون رأسّاء فلتجرّب حظها مع 
الرجال العقلاء ! 

فقالت أمينة بأسف: 

- كان ياسين أوْلى بهاء على الأقل من أجل خاطر 
ابعهيا. . 

كان هذا رأي السيّدء وعنه دافع طويلا لدى عمد 
عفتء بيد أنه لم يعلن موافقته على رأيها مداراة لخيبة 
مسعاه» فقال متسحخطا: 

لم يعد للرجل به من ثقة؛ واحقٌ أنه غير جدير 
بالثقة. لذلك لم أل عليه لم أقبل أن أستغل صداقتنا 
في حمله على ما لا شير فيه. . 

فغمغمت أميئة في شىء من الإشفاق : 

هفوة شباب لا يضيق عنبها العفو| 

هان عل السيّد أن يعترف بجانب من مسعاه 
الخائب. فقال: 

- م أقضر في حمّه ولكئي لم أصادف ترحيبّاء وقال 
لي محمد عفت برجاء: «إِنْ السبب الأوّل في اعتذاري 
هو إشفاقي من تعريض صلاقتنا إلى الشقاق4. وقال 
53 أيضًا: دلا أستطيع أن أرفض لك رجاء. ولكنّ 
صداقتنا أعرٌ لديّ من رجائك:.. فأمسكت عن 
الكلام . . 

قال محممّد عفّت هذا حمّاء ولكته لم يصرّح به إلا 
مدافعة لالحاحه. والحقٌّ أن السيّد كان شديد الرغبة في 
وصل ما انقطع من مصاهرة محمّد عفت لمكانته من 


14 قصر الشوق 


نفسه ومكانة أسرته من المجتمع: وم يكن يطمع في أن 
يجد لياسين زوجة خيرًا من زينب» ولكنّه لم يسعه إلا 
التسليم بالهزيمة» خاضة بعد أن صارحه الرجل بما 
بعلم عن حياة ياسين الخاصّة. حيّى قال له: ولا تقل 
لي إِنْنا نحن أنفسنا لا نختلف عن ياسين. فالحق أثْنا 
نختلف بعض الثيء, والقٌ أني لا أرتضي لزينب ما 
ارتضيت لأمها!؛. 

تساءلت أمينة : 

هل علم ياسين بما كان؟ 

- سيعلم غدًا أو بعد غد. هل ترينه يكترث 
لذلك؟ إِنَّه أبعد ما يكون عن تقدير الزيجة المشرافة. , 

نهرّت أميئة رأسها أسفًاء ثم تساءلت: 

- ورضوان؟ 

فقال السيّد مقطنًا: 

- سيبقى عند جدّهء أو يلحق بأمّه إن لم يصبر على 
فراقهاء الله يجحير من حيره. . ! 

ميك انون ع امد ان تعن ايو و اننا 
أتطيق زينب فراقه. ‏ ؟ 

فقال السيد فيم| يشبه الازدراء : 

- للضرورة أحكام ثم سانا م جل 
السين 9. ...آلا تلكرية ؟ 

فتفكرت أمينة قليلا كم قالت: 

له افر لين بعيمة بت علد در 
قليلًا من عبد المنعم ابن خديهة. فيكون في الخامسة يا 
سيّدي. سوف يستردّه أبوه بعد عامين, أليس كذلك 
يا سبدي؟ 

قال السيد. وهو يتثاءب : 

- يا ترى من يعيش (ثم مستطرذا) وكان متزوجاء 
أعني الزوج المحديد! 

- وله أولاد؟ 

مكاة ١‏ ضحي من عه اولان 

لعل هذا ما حسّنه في عيئي السيّد عممّد عفّت. , 

فقال السيد بامتعاض ؛ 

- ولا تنسئ مقامه, , 


لو أنْ الأمر أمر مقام ما عدل بابنك أحدّاء على 
الأقل من أجلك أنت. . 

فشعر باستياء حتى لعن في سره ‏ على حيّه ‏ محمد 
عمْتء ولكنّه عاد يجرٌ خطا تحت النقطة الي يتعزّى 
ما فقال: 

- لا نَسَئْ أنه لولا حرصه على أن يضع صداقتنا في 
حرز حريز ما ترذد عن قبول رجائي . . 

فقالت أميئة معربة عن نفس الاحساس : 

- طبعاء طبعًا يا سيّدي. إِنْها صداقة العمر. 
وليست لوا ولعبًا. 

عاوده التثاؤب مرّة أخرى. فتمتم قائلا: 

- نحذي المصباح خارجًا. . 

قامت أمينة لتنفيذ أمره فأغمض عييه قليلاء ثم 
بض دفعة واحدة كأئما ليقاوم الكسل واتجه ثحو 
الفراش فاستلقى عليه. . . إِنَّه الآن شير حالا!! ما 
أهنأ الرقاد بعد التعب!! أجل. لا يخلو رأسه من نبضص 
قارع . ولكنّ رأسه لا يكاد يخلو من شىء ماء فليحمد 
الله على أيّ حال! الصفاء الكامل ماض مفىء ثم 
ثىء نفتقده كلما خلونا إلى أنفسنا لك ود 
لوح لنا من الماضي بذكرى شاحبة كهذا الضوء 
الخافت الذي تشف عنه شراعة الباس. فليحمد الله 
على أي حال!! ولينعم بحياة يغبطه عليها الغابطون!! 
الأجدى أن يقطع برأي فيا إذا كان سيقبل الدعوة أم 
لاء أو فليدع ما للغد للغدء إلا ياسين. . فإنّه مسألة 
الأمسن واليوم والغدء ليس صغيرًا من بلغ الثامنة 
والعشرين» وليس المشكل أن يبحث له عن زوجة 
أخرى. ولكنٌ الله لا يغيّر ما بقوم حيّى يشيّروا ما 
بأنفسهم. متى تسطع هداية الله فتملاً الأرض حي 
يبهر نورها الأعين؟ هنالك ببتف من الأعماق أن الحمد 
للهء ولكن ماذا قال عمد عفّت؟ إن ياسين يصول 
ويجول في الأزبكيّة حيّى مراديبها. . . كانث الأزيكية 
مغنى أخر حين)ا كان هو يصول فيها ويجول. وهرّه 
الحلين مرات إلى معاودة بعض مشارسها إحياء 
للذكريات. فليحمد الله على أنّه علم بسر ياسين قبل 
أن يُقدم. وإلا لضحك الشيطان من أعباق قلبه 


الأستراليون أوْل الأمسرء وأخيرًا هذا البغل 
الأسترالم. . . 


ب 

تتابعت دقّات العجين من حجرة الفرن في هدأة 
السحر مع صياح الديكة». كانت أمّ حنفي مكبّة على 
جرة العجين بحسمها اللحيمء يلوح وجهها ريان على 
ضوء المصباح المنبعث من فوق سطح الفرن؛ لم يثل 
الكبر من شعرها ولا شحمها ولكن شابت ملائحها 
جهامة واخحشوشنت قسمتهاء وإلى يمينها قعدت أمينة 
على كرسون المطبخ تفرش ألواح العجين بالردّة استعدادًا 
لاستقبال الأقراص» تواصل العمل في صمت - حي 
توقفت أمّ حنفي عن العجين. فاستخرجت يدها من 
الحرّة ومسحت على جبينها المبتل بالعرق ببطن مرفقهاء 
ثم لوّحت بقبضتها المغطاة بالعجين كقفاز ملاكمة 
أبيضء وقالت: 

- أمامك يا سئّي يوم شاقٌ ولكله لذيذ, كثّر الله من 
أيَام السرور. . . 

فغمغمت أميئة دون أن ترفع رأسها عن عملها: 

علينا أن نقدّم مائدة شهية. . 

فابتسمت أمْ حنفي. وهي تومئ بلقنها إلى سيّدتها. 
قائلة : 

- البركة في المعلّمة. , . 

ثم غرست يديها في الجرة مرّة أخرى» وعادت إلى 
ملاكمة العجين , 

وددت لو قنعنا بتوزيع الزيد على فقراء الحسين . 

فقالت أم حنفي بلهجة معاتبة : 

- لن يكون بيننا غريب. 

فتمتمت أميئنة مورت 1 اقل هق اضيق: 

- ولكتّبا وليمة وضجّة على أيّ حال. فؤاد ابن 
جميل الحمزاوي نال البكالوريا أيضاء ولا مُن رأى ولا 
من سمع!! 

ولكنّ أمّ حنفى أصرت على المعاتبة. قائلة : 

ما هي إلا فرصة نجتمع فيها يمن نحبٌ, 


فصر الشوق 6م6 


كيف تكون مسرّة دون تأنيب أو توس خخيفة. 
قديمًا استخرت السنين فاأجابت بأنْ تاريخ ابتدائية هذا 
سيوافق تاريخ ليسانس ذاكء حفل لم يج ونذر لم 
انوي الي لوي ان 
شباب العمر اليافع الذي خرمت من احتضان ينعه. 
من قسمة التراب كان. يا انصداع القلب الذي 
يسمونه الحسرة , 

- ستفرح ست عائشة بالبقلاوة» وتذكر أيّامِ زمان يا 
ستفرح عائشة وأمّ عائشة ستفرح أيضاء غبار وليل 
وشبع وجوع ويقظة ونوم. وكأن شيئًا لم يكن. سلىي 
الزعيم الذي زعم بأنك لن تعيشي بعده يومًا واحدّاء 
عشت لتحلفي بتربته» إذا زلزل القلب فليس معناه أن 
تزلزل الدنياء كانه نسي مسي حيّى تزار المقابر» كنت 
ملء العين والنفس يا ب ثم لا يذكرونك إلا في 
لمواسمء أين أنتم يا هؤلاء؟ كل مشفول بشواغله, 
إلا أنت يا خديجة قلب أمُك وروحها حتّى وضيتك 
يومًا بالصبر, لم تكن كذّلك عائشة. مهلا! لا ينبغي 
أن أكون ظالمة» -حزنت حزها كما ينبغي» كيال لا لوم 
عليه: رفقًا بالقلوب الغضّة» بات الأوّل والأخر, 
شاب شعرك وصرت كالخيالء هكذا تقول م حنفي . 
لا كانت الصحة ولا كان الشبابس. تقاربين الخمسين 
وهو لم يتم العشرين» حَبّل ووحم وولادة ورضاعة 
وحبٌ وآمال. ثم لا شىء... ترى هل خلا من 
الأفكان رانى متدى ا توفي كانه لبس وق الرسال 
كحزن النساءء» هكذا قولك يا أمّي جعل الله الحئة 
مثواك, يحرّ في نفسي يا أمّي أنّه عاد إلى سيرته. كأنّ 
فهمي لم يمت. وكأنْ ذكراه قد تبخُرت» بل يلومني كلما 
لج بي الحرن. أليس هو أباه كما أنا أمّه؟ . . . يا أميئة 
ذا ع ا لا تفتحي صدرك لمذه الأفكار. . . لق 
صح أن نحكم على القلوب بقلب الأمٌ لبدت القلوب 
أحجارًا. . . إنه رجل وليس حزن الرجال كحزن 
الساء... لو استسلم الرجال للأحزان لناءت بها 
كواهلهم المثقلة بالأعباء. عليك إذا أنست منه حزنًا أن 
.. إنه ركنك يا ابنتي المسكينة؛. غاب 


يوف , 8د ير 


ارق مط 0 ) 


5 قصر الشوق 


ذلك الصوت الحنون وصادف فقده قلوبا مترعة بالحزن 
فلم يكد يبكيه أحد. وشهد شاهد حكمتها ليلة عاد في 
أخريات الليل ثملاء ثم ارتمى على الكنبة مجهشًا في 
البكاء؛ وتمنيت ليلتئذ له السلامة ولو بالنسيان 
الأبديّ, أنت نفسك ألا تنسين أحيانا؟ ثمّة ما هو 
أفظم من ذلك, هو متّعك بالحياة وحرصك عليها. 
هذه هي الدنيا. هكذا يقولون! فترذدين ما يقولون 
وتؤمئين به. كيف جاز لك - يومًا ‏ بعد هذا أن تحنقي 
على ياسين برءه ومواصلته مألوف الحياة! مهلاء الإيمان 
والصبر. . . سلّمي إلى الله فكلّ ما جاءك من عنده. 
«أمّ فهمي» إلى الأبد, سوف أظل ما حيبت أمَّكَ يا 

تتابعت دقات العجن, ففتح السيّد عينيه على نور 
الصباح الباكرء وراح يتمطى ويتئاءب بصوت مرتفع 
ممطوط. تصاعد كالتذمّر أو الاحتجاج» ثم جلس في 
الفراش مستندًا براحتيه على ساقيه الممدودتين. فبدا 
ظهره مقوّسًا وقد نضح أعلى الجلباب الأبيض بالعرق. 
وجعل يحرك رأسه يملة وبسرة كأنا لينفض عنه وطأة 
الوحم. ثم انزلق إلى أرض اللمجرة» ومضى متهاديا 
إلى الام إلى الدش البارد. . . الدواء الوحيد الذي 
يغيّر عليه بدنه فيعيد إلى رأسه اتّزانه وإلى نفسه 
اعتذالحها. تجرد من ثيابه» ولمّا تعزرض لرشاش الماء 
وردت ذهله ذكرى الدعوة التي وججهت إليه أمس. 
فخفق فؤاده الذي تلقى الذكرى والإحساس المنعش 
بالماء البارد معاء عل عبد الرحيم قال: «نظرة إلى 
الوراء؛ إلى حبيبات رمان» لا يمكن أن تمضى الحياة 
هكذا إلى الأبد. إني أعرّف الناس بك». أيُقليم على 
هذه الخطوة الأخيرة؟ حمس سئوات مضت وهو يأى 
أن يخطوها. أكان تاب إلى الله توبة مؤمن مصاب؟ أم 
أضمر التوبة واف أن يجهر بها؟ أم أطلقها نيّة صادقة 
دون تورّط في التوبة؟... لا يذكرء ولا يريد أن 
يذكرء ليس صغيرًا من يدنو من الخامسة والخمسين. 
ولكن ما لفكره قد تقلقل وتزلزل؟1 كحاله يوم دُعي 
إلى السماع فلبّى» هل يلبّى النداء إلى حبيبات زمان 
بالمثل؟ متى يبعث الحزن ميئًا؟. هل أمرنا الله أن بلك 


أنفسنا وراء من نحتّهم إذا ذهبوا!؟ في عام الحداد 
والتقضّف كاد الحزن يقتله قتلاء عام طويل لم يذق فيه 
شراباء ولم يسمع نغماء ولم تند عن فيه ملحة حي 
شابت شعيرائه. . . أجل لم يتسلل الشيب إلى شعره 
إلا في ذلك العامء رغم أنه عاد إلى الشراب والسماع 
رحمة بالأصدقاء المقرّبين الذين انقطعوا عن اللذات 
إكرامًا لحرنه. كذب وصدقء عاد إلى الشراب لنفاد 
صيره ورحمة بالأصدقاء الثلاثة» لم يكونوا كالآخرين. 
وما على الأخرين من ملام حزنوا لحزنك» ثم جعلوا 
يراوحون بين مجلسك الحاف وجالسهم النديّة فأئ 
تثزيب عليهم!؟ بيد أنْ الثلاثة المحبّين أبوا أن يثالوا 
من الحياة نصيبًا أوفى مما ارتضيت لنفسك» وعدت 
رويدًا إلى أشياءء إلا المرأة رأيتها كبيرة فلم يلحَوا 
عليك أول الأمرء لشدٌ ما تأبّيت وحزنت» ل يؤثْر فيك 
رسول زبيدة» رددت م مريم بوقار حزين حازم وأنت 
تكابد آلاما لا قِبّل لك بهاء ظئنت أن لن تعود أبدّاء 
وخاطبت نفسك المرّة تلو المرّة. . . «أأعود إلى أحضان 
الغواني وفهمى في قبضة التراب!؟» آه. . . ما أحوجنا 
في ضعفنا وتعاستنا إلى الرحمة!! فليداوم على الحزن من 
يضمن ألا يموت غدّاء من قائل هذه الحكمة؟ واحد 
من اثنين: عل عبد الرحيم أو إبراهيم الفار. محمد 
عفت بك لا يجود بالجكم. رفض رجائي. وزوج 
البنت من رجل غريب. ثم ضحك عل بالقبل. لا 
يدكر غضبه ويشفق من أن يطالعبي به كيا وقع قديماء 
لله هو أي وفاء وأيّ ود أتذكر كيف امتزج دمعه 
بدمعك في القرافة؟ ولكنّه القائل فيها بعد «أنخاف 
عليك الخبر إن لم تفعل... تعال إلى العوامة). ولا 
آنس تردّدًا قال: «لتكن زيارة بريئة... لن يجرّدك 
أحد من ملابسك ويرميك على امرأة». لم أحزن قليلا 
علم الله بموته مات جزء جسيم منى. مات أمي 
الأول في الدنياء منذا يلومني على الصير والعزاء؟ قلبي 
جربح وإن ضحك! ترىء كيف هنٌ؟ ماذا فعل مهن 
الزمان في خمسة أعوام؟ خمسة أعوام طوال؟ 
00 
كان شخير ياسين أول ما تلقّى كبال من عالم 


اليقظة؛ فلم يتهالك أن يناديه وهو إلى معاكسته أرغب 
منه إلى إيقاظه في ميعاده. ولاحقه بصوته غير متوان 
حيّ رد عليه الآخر بصوت كالنزع تشكيًا وتذْمَرَاء ثم 
تقلّب بجسمه الضخم فطقطق الفراش فيها يشبه الأنين 
والتوجع م فتح عينين حمراوين وتاوه. 
لم يكن ثمّة ‏ في رأيه ‏ ما يدعو إلى هذه العجلة 
ما دام أحد منه]| لن يذهب إلى الام قبل عودة الأب 
منه» لم يعد من اليسير استعيال حمام الدور الأول منذ 
قفبى التنظيم الجديد للبيت - منذ خمسة أعوام - بنقل 
الحجرات إلى الدور الأعلى فيها عدا حجرة الاستقبال 
والصالة المنّصلة بها التي فرشت بأثاث بسيط باعتبارها 
مد حك شاء ومع أنْ ياسين وكيال لم يرخبا ‏ قط 
بالإقامة مع الأب في دور واحدء إلا أتّبها لم يجدا بدا 
من احترام الرغبة في مقاطعة الدور الأوّل الذي لم تعد 
تدخله قدم إلا حين يلم بالبيت زائر. أغمض ياسين 
عينيهء ولكنّه لم يدمء لا لأن معاودة النوم كانت عبثا 
فحسبء ولكن لأنَّ صورة انبعثت في خياله فاشعلت 
إصنياسة , . 
عينان سوداوان. مريم!| فاستجاب لداعي 
الأحلام. . . واستسلم لتخدير ألذّ من تخدير المثام . 
قبل أشهر معدودات. لم تكن بالنسبة إليه موجودة 
قطى وكائها لم تكن. حبّى سمع أمّ حنفي تتحدّث - 
ذات مساء ‏ إلى امرأة أبيه» فتقول: «أما سمعت باكر 
يا ستي؟. . , سب مريم طلقت من زوجها وعادت إلى 
أمها» هنالك عاوده ذكر مريمء وفهمي, والجددي 
الإنجليزيٌ» صديق كيال وإن غاب عنه اسمه. ثم 
ذكر بالتالي اهتامه القديم بشخصيتها الذي جاش بها 
صدره عقب ذيوع الفضيحة. ما يدري إلا وقد 
أضاءت فجأة في نفسه لوحة معترة,» كما تضىء 
الإعلانات الكهربائيّة في الليل سُظر عليها 


. وسجه هستذير». تتوسشط صفحته العاجية 


ل(إمريم... حارتك . . ., الجدار لص الجدار. . . 
ل ذات تاريخ وأي تاريخ . . . أبس ولكنه 


ما لبث أن جفل من نفسه, لأنْ افترائها بذكرى فهمي 
ا وآلمه وأهاب به أن يغلق هذا الياب وأن تحكم 
إغلاقه . وأن يندم إن كان ثمَة ندم على فكرة خفية 


قصر الشوق /اممه 


عابرة. صادفها بعد ذلك في الموسكي مع أمّهاء 
فالتقت الأعين على سهوة. ولكن سرعان ما لاح فيها 
العرفان» وثمّت بسمات لا تكاد ترى بالعين المجرّدة عن 
عرفانهاء فتحرّك قلبه. تحرك للعرفان - فحسب - أول 
الأمرء ثم للطيف الأآثر الذي شلقة وجه عاجيٌ 
مكحول العينين» وجسم نابض بالفتوة والحيويّة؛ ذكُره 
بزينب في إبّانها. . . فمفى إلى طيّته متفكرًا هائجًا. 
غير أنه بعد خطواتء, أو حال هبوطه إلى قهوة أحمد 
عبده؛ هفْت عليه ذكرى محزنة بعئت في قلبه الشجن, 
بعث فهمي في خياله بشيّى ذكرياته: صورثه وأماراته 
وأسلوبه في الحديث والحركة ففتر وجده وباخ وغشيه 
حزن غليظ. يجب أن ينتهي كل شيء... 1؟... 
عاد يتساءل بعد ساعة, أو بعد أيَامء فكان 
الجواب: فهمي . . . أية علاقة بين الاثنين؟. ود يوما 
أن يخطبهاء ولم لم يفعل؟... أبوك لم يوافق. 
فقط؟... هذا في الأقل أصل المسآلة. ثم؟ جاءت 
فضيحة الإنجليزي؛ فمحت ما بقى من أثر 
باهتث. . . أثر باهت؟... أجل لأنْه على الأرجح كان 
نسي. إذن نسي أولا. ونبذ أخييرًا؟ نعمء فأية علاقة 
هنالك؟... لا علاقة؟ ولكن!!... أعني شعور 
الأخوّة. هل يمكن أن يرقى شك إلى شعورك؟... 
كلا وألف مرّة كلا. الفتاة تستحقٌ. . . ؟... نعمى 
وجها وجسيًا؟. . . وجها وجسمًا فا انتظارك؟ . . . 
في النافذة كان يلمحها حيئا بعد حين. ثم فوق 
السطح . . . فوق السطح مرّاتء ومرّات. .. 

ل طلقت؟... لسوء في خلق زوجهاء فيكون 
الطلاق من حسن حظها. أو لسوء في خلقها فيكون 
الطلاق من حسن حظك أنت. 

- قم وإلا غلبك النوم . 
فتثاءب وهو يتخلل شعره الملهوج بأصابعه الغلاظ. ثم 
قال : 

يا بتك بعطلتك المدرسيّة الطويلة! 

ألم أستيقظ قبلك؟ 

- ولكن بوسعك أن تواصل النوم إذا شئت. . 

لا إشاء كع قوف د 


8 قصر الشوق 


ضحك ياسين ضحكة لا معنى لما ثم تساءل : 
ما اسم الحندي الإنجليزي صديقك القديم؟ 


أجل جوليون. 0 
عاغنا الذي دعاك إلى السؤال عنه؟ 


ا 


لا شىء!! 

لاش انف لسانناء» أليس ياسين خيرًا من 
جوليون؟ في الأقل جوليون عابر وياسين مقيم؛ في 
وجهها شىء يبتسم إليك دوامّاء ألم تلاحظ مثابرتك 
على الظهور فوق السطح؟ بلى وذكر جوليون» ليست 
من يفوتمنٌ معنى, ردّت تحيّتك... أوّل مرّة أدارت 
رأسها باسمة؛ في المرّة الشانية ضحكتء ما أحمل 
ضحكتها! في الثالثة أشارت إلى أسطح البيوت محدّرة, 
سأعود بعد الغروب. هكذا قلت في جرأةق أم يرسل 
جوليون إشارته من الطريق العام؟ 

- شد ما أحببت الإنجليز في صغري!... انظر 
كيف أمقتهم الآن مقما, , . 

سعد بظلك سافر ينشد صداقتهم! 

هتف كال بحذة : 

- والله لأبغضتهم ولو وحدي. . . 

وتبادلا نظرة أبى صامتة. تناهى إليهما وقع قبقاب 
السيّد وهو راجع إلى حجرته مبسملا محوقلاء فانزلق 
ياسين إلى الأرض وغادر الحجرة وهو يتثاءب. 

تقلّب كال على جنبه ثم استلقى على ظهره 
مسترحيًا وثنى ساعذيه شابكا راحتيه تحت رأسه 
ومضى ينظر فيهما أمامه بعينين لا ثريان شيئًا. . . لتسعد 
بك رأس الب لم تخلق بشرتك الملائكيّة لتصلى حير 
القاهرة؛ فلتطب بموطئ قدميك الرمال. وليهنأ 
بمشهدك الماء والهواء.ء سوف تشيدين بالمصيف. 
وعيناك تنطقان بالمسرّة والحنين: فأتطلّع إليهها بقلب 
مشوق وعين تسائل الغيب ‏ فى حسرة ‏ عن المكان 
الذى: اندهواك فامتغن فخ حدارة رقنالة و ,:.. ولك 
متى تعودين ومتى يلسكب في أذيّ تغريدك المسحور؟ 
كيف المصيف؟ ليتني أدري . . . قيل إِنه حرّيّة كالهواء. 


ولقاء بين أحضان الماع وأهواء بعدد حئمات 


الرمال... وخلق كثيرون محظون بمحياك... أما 
أنا. . . أنا الذي خفقات قلبه تكن لشكاتها الحدران 
فأتلظى في سعير الانتظار. هيهات! أن تسبى وجهك 
المنطلق بالبشر وأنت تغمغمين: «سنسافر غدًا. . . ما 
أحمل رأس اليرّا» ولا اكتتابي وأنا أتلقى نذير الفراق 
من ثغر يومض بسنا السرور كمن يتلقى السمم 
مدسوسًا في طاقة من الزهر الفواح. ولا غيرقي من 
الجماد الذي قدر على إسعادك حين عجزت وحظي 
بمودّتك حين حرمت. ألم تلحظي حين الوداع اكتثابي؟ 
كلا لم تلحظي شيئّاء لا لأني كنت واحدًا بين كثيرين 
ولكزه لأللف با ةل لظي كأنا كنك شيا 
لا يسترعي انتباهك... أو كأنما أنت محلوق بديع 
غريب استوى فوق الحياة يطالعنا من عل بعينين 
هائمتين في ملكوت لا ندريه. .. هكذا وقفنا وجها 
لوجه. . . أنت شعلة من سعادة سادرة» وأنا رماد من 
وجوم وكابة. . . تحظين بحريّة «طلقة أو تذعئين لسنن 
فوق مداركناء وأنا أدور في فلكك مجذوبًا بقوة 
هائلة... كأنك الشمسء وكأئي الأرضء» هل 
وجدت عند الشاطئع حزية لم تنعمي بها في مغاني 
العباسيّة؟ كلا وحقٌّ قدرك علديى... لسث 
كالأخريات... في حديقة القصر والطريق» آثار 
عاطرات لقدميك... وفي قلب كل صديق ذكريات 
والح "ا ننيلة مويله ددسي تقلر ويم رق عا ان 
مئال كأنّ الشرق قد استوهبها الشرب في ليلة 
القدر... أي جديد من الجنود ترى تهبين إذا امتد 
الشاطئء وترامى الأفق واكتظ الساحل بالمعجبين؟ أي 
جديد يا أمل وحسري؟! القاهرة في غيبتك خواء 
تنضح كآبة ووحشة. كأتها عكارة الحياة والأحياء. . 

ثمّة مناظر ومعالم. ولكتّها لا تخاطب وجدًا ولا تمرك 
قلباء كأنها عاديات الدنيا وذكرياتها في قبر فرعوي لم 
بيفض... ما من مكان بها يعدني بعزاء أو تسلية أو 
مسرّة. إخالنى حيئًا مختنقًا وحيئًا سجيئًا وحيئًا مفقودًا 
فالا غير مفتقك. يا عجبًا أكان وجودك ينيل أملا 
أفقدنيه البعاد؟ كلا يا قضائي وقدّريء ولكنّك 
كالأمنية: الاستظلال بجناحها بَرّد وسلام وإن 


اعتصمت بالمحال» هل يعي المشتاق المتطلع إلى ظلمة 
السماء معرفته أنْ البدر يسطع فوق المكان الآخر من 
الأرض؟ . . . كلا وإن لم يدر للبدر امتلاكًا. إتما أطمع 
إلى ل في صميمها ونشوتها ولو بفادح الألم.» بل أنت 
حالة في ما فق الفؤاد والفضل لمذا المخلوق 
السحريٌ: الذاكرة. عن إعجازها غفلت حي 
عرفتك» اليوم أو غدًا أو بعد دهر في العباسيّة أو رأاس 
البرٌ أو في أقصى الأرض لن تبرح مميّلتي عيناك 
السوداوان الساجيتان. وحاجباك المقرونان» وأنفك 
السويّ اللطيف. ووجهك الدرّيّ الخمريّ. وجيدك 
الطويل. وقامتك الهيفاء» وما شئت من سحر يكتنفك 
مزريًا بكل وصف مسكرًا كعرف الفل والياسمين. 
لأملكنّْ هذه الصورة ما ملكت الحياةء وبعل الحياة 
لتفوضن عوائق وموانع فيكون المصير إلّ. .. إل 
وحدى بما أحببت هذا الحبت كله . . . إلا فختريني 
عن معنى لهذه الحياة ينشد أو عن طعم للخلود يرام . 
لا ترعم أنك سيرت جوهر الحياة إلا أن تحب السمع 
والبصر والذوق والحدٌ واللهو والمودّة والظفر مسرّات 
#بوي عند من فعم الحبٌ قلبهء من أول نظرة» يا 
قلبي . ما ارتئدذت عما عيناي حي آمنت بأنها زيارة 
مقيم لا زيارة عابرء» لحظة خاطفة حاسمة. ولكن في 
مثلها تلق الأرواح في الأرحام وتزلزّل الأرض. . . 
رباه لم أعد أنا... قلبي تلاطسه جدران الأضلع, 
أسرار السحر تنفث معانيهاء العقل يتهادى حيّى يمس 
الجنون. اللذَّة تسطع حيّى تعانق الألم؛ أوتار الوجود 
والنفس تجود بالنغم المكنون. دمي يصرخ مستغيئًا لا 
بدري مم يستغيث, الأعمى يبصر والكسيح يسير 
والمبت يحياء حلفتك بكل عزيز ألا تذهبي اند أنث 
يا إلمي في السماء وهي في الأرض» آمنت بأنْ ما مفى 
من حياي كان تمهيدًا لبشارة الحبّء لم أمت صغيرًا وم 
الحق بمدرسة غير فؤاد الأول ولم أصادق أوْل ما 
صادقت من تلاميذها حسين ولم... ود كل 
أولئك كي أدْعى يوا إلى قصر آل شدّاد يا للذكرى! 
يكاد القلب من وقعها يقتلم» كنت وحسين وإسماعيل 
وحسن منبمكين في شيّى الأحاديث حين ورد مسامعنا 


قصر الشوق همه 


ضنوت ررحيو عا النفث:وآننا فق الذعول فى 
غاية... من تكون القادمة؟... كيف لفتاة أن 
تقتحم على غرباء مجلسهم؟... ثم سرعان ما 
انقطعت عن التساؤل. . . وتئاسيت التقاليد جميعا. . . 
وجدتني حيال مخلوق لا يمكن أن يكون من هذه 
الأرض جاء. بدت وكانمها صديقة للجميع إلاي. 
فقال حسين يعارف بيئنا: «صديقي كمال... أختي 
عايدة) ليلتئذ عرفت لم خلقت. . . اس 1 
دفعتني المقادير إلى العباسية. وحسينء وقصر آل 
شدّادء متى كان ذلك؟ كان الزمان لسيًا منسيًا 
واأسفاه! إلا اليوم,» كان يوم الأحد... عطلة 
مدرستها الفرنسيّة الذي صادف عطلة رسميّة لعلها 
مولد النبيّ» وعلى اليقين كانت مولدي أناء ما قيمة 
التاريخ؟ سحر التقويم أنه يوهمنا بأنّ الذكرى تبعث 
حيّة وتعود ولو أنْ شيئًا لا يعود. لن تفتأ تجدّ في 
البحث عن التاريخ. ولن تفتا تردد: مطلع السنة 
الثانية بالمدرسة . . . أكتوبر لوقمار. .. 
سعد للصعيد وقبل نفيه للمرة الثانية... مستخيرا 
الذاكرة والشواهد والأحداث وليس إلا أنّك تتشيّثْ 
تشبث اليائس باستعادة سعادة مفقودة وعهد مفى إلى 
الأبد. لو مددت يدك عند التعارف كبا كدت 
لصافحتك فعرفت مسّهاء وهو ما تتخيّله حينا بعد 
حين بشعور ملؤه الشكٌ والحيام, كأنما هي مخلوق غير 
جسان لا مس له. . . وهكذا ضاعت فرصة كالحلم 
كا ضاع الزمان. ثم أقبلت على صديقيها تحادئهما 
ويحادثانها - بغير كلفة - وأنت قابع في مقعدك نحت 
الكشك تكابد حيرة المتشبّع بتقاليد حي الحسين» حت 
عدت تتساءل: ترى» أهي تقاليد خاصّة بالقصور. أم 
تفنحة فق باريين الى :فقا العبرد :بين اححضيانها؟ :... 
ثم تستغرق في رححامة الصوت وتستطعم نبراته وتنتئي 
بتغريده وتمتلّ بكل حرف يندّ عنهء ولعلك ‏ يا 
مسكين - لم تدرك وقتها أننك تولد من جديدء وأنك 
كالوليد سوف تستقبل دنياك الجديدة بالارتياع 
والدموع . وقالت ذات الصوت الرخحيم : وستذهب 
هذا المساء لمشاهدة الغندورة». فساها إسماعيل باسما: 


حين زيارة 


قصر الشوق 


وأتحين مثئيرة المهدية؟». . فترذدت كما ينبغي لآنسة 
نصف باريسيّةء ثم أجابت: «ماما تحبهاو. ثم اشترك 
حسين وإسماعيل وحسن في حديث عن مشيرة وسيّد 
درويش وصالح وعبد اللطيف البنّاء ثم ما أدري إلا 
والصوت الرخيم يسأل: «وأنت يا كبال. آلا تحب 
منيرة؟)» أتذكّر ذلك النداء الذي نزل على غير انتظار؟ 
أعني أتذكّر النغمة الطبيعيّة التي تَجسّمها؟ لم يكن 
قولاء ولكن نغًا وسحرًا استقرٌ في الأعاق كي يغْرّد 
دومًا بصوت غير مسموع ينصبٌ فؤادك إليه في سعادة 
سماويّة لا يدريها أحد سواك. كم روعك وأنت تتلقّاه 
كأنّ هاتفًا من السهاء اصطفاك فردّد اسمك؛. سّقيت 
المجد كله والسعادة كلها والامتئان كله في نبهلة واحدة 
وددت بعدها لو تهتف مستنجذًا: «زملون. . . 
دثْروني؛» ثم أجبت وإن كنت لا أذكر بماذا أجبت, 
لبن دقائق ثم ودَعَئّنا ومضتء في عينيها السوداوين 
نظرة أنيقة» تنم إلى جمالما الفاتن عن صراحة عيّبة 
وجرأة مصدرها الثقة ‏ لا الاستهتار أو القحة ‏ وترُم 
مروّع. كأنّ) تجذبك وتدفعك معًا... جالها فتئة لا 
أدرك له كنبا ولا أدري له شبهاء وكان يخيّل إلى كثيرًا 
له لين إلا اظلا تمسر اعظم يكين ال شتخصها: .... 
من أجل أي هذين أحيّها؟. .. كلاهما لغزء ولخر 
ثالث هو حبّي. يتراجع ذلك اليوم كلّ يوم يومًا إلا أن 
ذكرياته ناشبة في قلبي أبدًا. لبناتها مكان وزمان وأسماء 
وصحاب وأحاديث يتقلب القلب في جنباتها نشوان 
حّى مخال أنها الحياة حميعاء فيتساءل فيها يشبه الشْلكٌ : 
هل كانت ثمّة وراء ذلك حياة؟. . . هل حمقًا مضى 
زمن قبلها حلا من الحبٌ قلبي وأقفرت من تلك 
الصورة الالهيّة نفسى؟. ربما أسكرتك السعادة حي 
تحزن على ما ضاع من ماض جديب ورثتما لسعك الألم 
حيّى تذوب حيرات على السلام الذي ولَىء وبين هذا 
وذاك لا يجد قلبك إلى الاستقرار سبيلاء فيمضى 
ملقوثا الكنفاء فى لق العقاقى الروس ةا رطفا م 
الطبيعة آنَاء ومن العلم آنا ومن الفنّ حينّاء وفي 
العبادة أحيانًا كثيرة. . . قلب استيقظ فانطلقت من 
صميمه شهوة مولعة بالمسات الإلهيّة... أيهَا الناس 


حبّوا أو موتوا... لسان حالك وأنت تسير مرهوا 
فخورا يما تحمل بين جنبيك من نور الحبٌ 
وأسراره... يزدهيك علو فوق الحياة والأحياء. 
ويصل أسبابك بالسموات جسر مفروش بورود 
السعادة. وأنت أنت الذي تخلو حيئًا آخر إلى نفسك 
فتطغى عليك حساسيّة أليمة مريضة بإحصاء النقائص 
وتقْصيها بلا رحمة في كائنك الصغير ودنياك المتواضعة 
وهناتك الأآدمية... رباهء كيف تخلق نفسك من 
جديد؟ هذا الحبّ طاغية يتيه فوق كافة القبم وفي 
ركابه بالق معبودك, لا تكمله الفضائل ولا تنقصه 
المثالب» النقيصة تلوح في تاجه الدرّيّ حسئًا يشغلك 
إعجاباء هل أزرى بها في نظرك أن تخرج على التقاليد 
المرعيّة؟ كلاء بل إِنَّ خروجها بالتقاليد المرعيّة أزرى. 
يطيب لك أحيانا أن تسأل نفسك: ماذا تروم من 
حبّها؟ أجب بكلّ بساطة: أن أحبّهاء أيجوز أن تنبثق 
في النفس هذه الحياة كلها ثم يتساءل عن غاية 
وراءها؟ لا شيء وراءها. العادة هي التي ربطت بين 
لفظي الحبٌ والزواج» ليست فوارق السنٌّ والطبقة 
هي وحدها التى تجعل من الرواج غاية مستحيلة في 
مثل حالي» ولكنّه الزواج نفسه. بما يستنزل الحبٌ من 
سيائه إلى أرض العقود والعرق... ويسألك الذي 
يأبى إِلّا أن يحاسبك, بم جادت عليك لقاء التهالك في 
حبّها؟. أجبه بلا تردّد: ابتسامة فاتئةء وديا كيال؛ 
الغالية» وزيارتها للحديقة في الأوقات السعيدة 
النادرة» وترائيها مع الصباح النديّء وسيّارة المدرسة 
تحضي بباء ومعابثتها الخيال في سبحات اليقظة وتمبويم 
الأحلام. ثم تسألك النفس الام المجنونة: أمن 
المحال أن يكون المعيود مشغولا بأمر عابده؟ . . 
أجنها غير مستسلم لإغراء الآمال الكواذب: حسن أن 
يذكر عند العودة اسمنا. . .؛, 

- بسرعة إلى الحا » هل تأخرت؟! 

مالت عينا كال وقد لاح فيهما رسجع المفاجأة - إلى 
ياسين الذي عاد إلى الحجرة وهو ينشف رأسه 
بالفوطة. ثم وثب إلى الأرض فبدا فرعه الطويل 
نحيفاء وألقى نظرة طويلة على المرآة كأنما يتشخص 


رأسه الضخم وجبينه البارز وأنفه الذي تراءى لكيره 
وقوّته كأنه منحوت من الجرانيت» ثم تناول فوطته من 
على شباك السرير ومضى إلى الام . 

وكان السيّد أحمد قد فرغ من الصلاة. فعلا صوته 
الغليظ بالدعاء المعتاد للأولاد ولتفسه. سائلا الله 
الهداية والستر في الدارين. .. وني أثناء ذلك كانت 
أمينة تعد المائدة. ثم عت إلى حجرة السيد. فدعته ‏ 
بصوتها الوديع ‏ إلى تناول الفطور. واتجهت إلى حجرة 
ياسين وكال فكررت الدعوة. 

اتخل الثلاثئة أماكبهم حول الصينيّة» وبسمل الأب 
وهو يتناول رغيفًا معلئًا بدء الأكل. فتبعه ياسين ثم 
كبال» على حين وقفت الم وقفتها التقليدية إلى جانب 
ميقة :لقال انا نظي الاسرين يلال كلل الات 
والخشوع. ولكن حلا قلباهما - أو كادا من الخنوف 
الذي كان يركبهما ‏ قديمًا ‏ في حضرة الأب. ياسين: 
لأنّ بلوغه الثامنة والعشرين منحه امتيازًا من امتيازات 
الرجولة. وضمانًا ضدٌّ الإهانات الجارحة والاعتداءات 
التعيسة» وكبال: لأنْ بلوغه السابعة عشرة. وتقدّمه في 
الدراسة وهباه نوتمًا من الضمان أيضًا إلا يكن بقوة 
ضان ياسين, فإنّه لم يخل من العضو والتسامح على 
الأقلّ في الحفوات التافهة, إلى أنه آنس من أبيه في 
السئنوات الأخيرة أسلوبًا من المعاملة تخفف من البطش 
والإرهاب بدرجة محسوسة, وم يكن من النادر أن 
يدور حديث مقتضب بين الآكلين بعد أن كان 
الصمت يتحكّم في مجلسهم تمكمًا غيفاء إلا أن يسال 
الأب أحدهم فيجيب بعجلة ولحوجة ولو يفم تمدلى 
بالطعام. أجل لم يعد غريبًا أن يخاطب ياسين أباه. 
فيقول مثلا: «زرت أمس رضوان في بيت جدّهء وهو 
يقرئكم السلام ويقبل يدكم؛». فلا يعد السيّد الخطاب 
جرأة غير محمودة. ولكنّه يقول له ببساطة : «ربنا يحفظه 
وورعانو. ب عولذ مهن غتد: ذلك أن تتساءل: كال 
بأدبء عدًا بذلك تطوُرًا خطيرًا في علاقته التاريحيّة 
بأبيه: «متى يستحقٌ رضوان شرعًا لأبيه يا بابا؟؛. 
فيجيبه السيّد: «عندما يبلغ السابعة)». بدلا من أن 
يصيح به: ارس يا ابن الكلب». طاب لكيال يوم 


قصر الشوق ١ذه‏ 


أن يتعرّف على تاريخ آخر شتمة تلقاها من أبيه؛ حتّى 
تذكر أنه كان ذلك قبل عامين على وجه التقريب». أو 
بعد حبّه ‏ الذي غدا يؤرّخ به بعام. إذ شعر وقتذاك 
ا 0 
سليم وإسماعيل لطيف تتطلب زيادة كبيرة في مصروفه 
كي يتأ له مجاراتهم في هرهم البريىء فشكا أمره إلى 
أمّه راجيًا إيّاها أن تخاطب أباه في شأن الزيادة المأمولة. 
ومع أن مخاطبة الأب في مثل هذا الأمر ‏ لم تكن 
يسيرة على الأمْ. إل أئبا هانت بعض الشىء بتغير 
معاملته لما عقب وفاة فهمى. فحدّثته منوهة بعلاقة 
جديدة مش_فة لابنها بأصدقاء من «الأكابره وعند ذاك 
دعا السيّد كيال» وصب عليه غضبه. حتّى صاح به : 
«هل ظننتبي تحت أمرك أو أمر أصحابك!. . . ملعون 
أبوك وأبوهم؛, فغادره كبال خائب الرجاء وقد ظَنّ أن 
الأمر انتهى عند ذاك. . . ولكنّه ما يدري إلا والرجل 
بسأله عن هويّة أصدقائه على مائدة إفطار اليوم التالي 
وما إن سمع اسم -حسين عبد الحميد شدّاد. حتى 
سأله باهتام : من العباسيّة صاحبك؟». فأجاب كيال 
بالإيجاب, وقلبه يخفق. فقال السيّد: «كنت أعرف 
جدّه شدّاد بك وأعرف أيضًا أنْ أباه عبد الحميد بك 
كان مبعدًا في الخارج لسابق علاقته بالخديو عباس . . . 
أليس كذلك؟4. فأجاب كمال بالإيجاب مرّة أخرى, 
وهو يغالب وجده الذي أهاجه المحديث عن والد 
معبودته وذكر لتوّه ما علم عن الأعوام التي قضتهها 
الأسرة في باريس» حيث ترعرعت معبودته في نور 
مديئة النور» فها تمالك أن شعر نحو أبيه بإجلال وإكبار 
جديدين ومودّة مضاعفة. وعد معرفته لحذ معبودته 
رقية سحرية تنسبه - ولو من بعيد - إلى منزل الوحي 
ومبعث السنا. ثم ما لبثت أمّه أن زفت إليه بشرى 
موافقة والده على مضاعفة مصر وفه. 

منذ ذلك اليوم ل يتعرّض لشتمة جديدة. إِما لأنه لم 
يرتكب ما يستوجبهاء وإمًا لأن أباه رأى أن يعفيه من 
الشتم إطلانًا. . . وقف كمال إلى جانب أمه في 
المشربيّة يشاهدان السيد أحمد في الطريق» وهو يردّد ‏ 
في وقار ولطف - تحيّات عمّ حسنين الحلاق والحاج 


قصر الشوق 


درويش بائع الفول والفولّ اللبان وبيومي الشربتي. 
وأبو سريع صاحب المقلى. ثم رجع إلى الحجرة حيث 
وجد ياسين واقفًا أمام المرآة يتأئق في عناية وصبر. 
جلس على كنبة سين السريرين؛ وراح يتأمل جسم 
أخيه الطويل البدين ووجهه المورّد المكتنز بنظرة باسمة 
غامضة. كان يكنّ له حا أخويًا صادقاء بيد أنّه لم 
يكن يستطيع . كلما أنعم فيه الفكر أو النظر ‏ أن يقاوم 
شعورًا خفيا بأنه حيال «حيوان أليف جميل»: على رغم 
أنه أؤل من هر أوتار أذنيه بأنغام الشعر ونفشات 
القصصء. ربما تساءل» تساؤل من يرى في الحبٌ 
جوهر الحياة والروح. أمن الممكن أن يتصور ياسين 
عاشمًا؟ فيتمثّل الحواب ضصحكة باطنيّة أو منطلقةع 
أجل ما للحبٌ وهذه الكرش المترعة! ما للحبٌ وهذا 
الجسم اللحيم! ما للحبٌ وهذه النظرة الشهوانية 
الساخرة! ثم لا يتمالك أن يجد نحوه إحساسًا بالازدراء 
الملظف بالعطف والودٌء وإن لم يخل أحيانًا ‏ خاضة في 
الأوقات التي تعتري حبّه فيها نوبة من نوبات الألم 
والطبوط ‏ من عاطفة إعءجاب بل حسدء كذلك بدا 
ياسين لعينيه أبعد ما يكون عن عرش الثقافة. الذي 
بوأه إيَاه قديما حينما كان يظنّه عاليًا ساحرًا مالكًا لفنون 
الشعر والقصصء تكشّف له قارئًا سطحيًا يقنع من 
وقت مجلس القهوة ببضع ساعة يتنقل فيها بلا جهد أو 
عناء بين الحياسة وقصّة من القصص قبل انطلاقه إلى 
قهوة أحمد عبده: حياة عاطلة من بباء الحبٌ وأشواق 
المعرفة الحقيقيّة وإن كنٌّ لصاحبها حبًا أخويًا لا تشوبه 
شائبة. .. لم يكن كذلك فهمي., كان مَثْله الأعلى في 
الحبّ والعقلء ولكنّه بدا أخخيرًا كالمتخلف بعض 
الشىء عا يطمح إليه. أجل ساوره شك يقارب اليقين 
في أن فتاة كمريم يمكن أن تبعث في النفس حبًا حقيقيًا 
كالحب الذي يضيء به نفسه. كبا ارتاب في أن تضاهي 
الثقافة القانونيّة الى نزع إليها أنخوه الراحل المعرفة 
الإنسانيّة الي يتشوّقها بكل قوّة نفسه. كان يتأمّل من 
حوله بعين تنفتح على التأمّل والنقد.» وذهب في ذلك 
كل مذهب. إلا أنه وقف عند عتبة أبيه لا يجحرؤ على 
أن يرفع قدمّاء لاح الرجل لعينيه شيئًا هائلا يتريّع على 


عرشه فوق النقد!! 

ان اليوم عريس! اليوم عيد من أعيادك 
الظافرة» أليس كذلك؟ لولا نحافتك ما وجدث ما 
أؤاخحذك عليه . . . 

قال كيال مبتسما؛: 

ان راض عنها ., 

ألقى ياسين على صورته نظرة أخيرة» ثم وضع 
الطربوش على رأسه وأماله يمنة بعناية حي أوشك أن 
يمس حاجبهء ثم قال وهو يتجشا : 

- أنت حمار كبير يحمل البكالورياء تمتع بالسطعام 
والراحة فهذه هي العطلة. كيف تسول لك نفسك أن 
تقرأ في العطلة أضعاف ما تقرأ في عامك الدراسي؟! 
اللّهمٌ إني بريء من النحافة وأصحابها! 

نم وهو يغادر الغرفة والمنقّة العاجيّة في يده؛ 

لا تسن إن تختار لي قصة جيدة, مثل «باردليان»ء 
و«فوستا», هه؟... مفضى زمن كنت تستجديئي فصلا 
من روايةء هاك زمنًا أغير أشحذك فيه القصص! 

ارتاح إلى الوحدة التي يخلو فيها إلى نفسه. فتبضس 
وهو يغمغم : من أين له بالبدانة والقلب لا ينام؟!. لم 
تكن تحلو له الصلاة إلا خاليّاء صلاة بالجهاد أشبه 
ويشترك فيها القلب والعقل والروح. جهاد من لا 
يضنْ بجهد للفوز بالضمير الطاهر النقيّ ولو لاحق 
نفسه بالحساب تلو الحساب على الحفوة والخاطرة. . 
أمًا الدعاء في أعماب الصلاة. فلهاء لما وحدها. . . 


نت 
عبد المنعم : الفئاء أوسع من السطح, ولا بد أن 
نزيح الغطاء عن البئر لنرى ما فيها. . . 
نعيمة : ستغضب ماما وخالتي وجدتي... 
عثيان : لن يرانا أحد. . . 
أحمد : البئر فظيعة» ويموت من ينظر فيها. 
عبد المنعم : نرفع الغطاء ثم ننظر من بعيد. .. (ثم 
بصوت مرتفع) . . , هيا بنا ننزل. 
أمّ حنفي : (معترضة باب السطح) لم ببق ف بل 


ل تي ص اح لصاوي الب 


وقلتم ننزل الفناء فنزلنا إلى الفناءء نطلع السطح مرّة 
ثانية فطلعنا السطح مرّة ثانية» ماذا تريدون من 
الفناء؟ . . . الحو حارٌ تحتء أما هنا فالنسمة جارية. 
وعا قليل تغيب الشمس . 

تعيمة : سيرفعون غطاء البئر لينظروا فيها. . . 

م حنفي : سأنادي بنة) شو قة :وسية)«غائقة , 

عبد الملعم : نعيمة كذابة» لن نرفع الغطاء. ولن 
نقترت مله سئلعب في الفناء قليلا ثم نعود ابقى هنا 
حتى نعود. 

أمّ حنفي : أبقى هنا؟! رجلي على رجلكم. الله 
هسديكم. . . ليس في البيت كله مكان أجمل من 
السطحء انظروا إلى هذا البستان! 

محمد : نامي لأركبك. . , 

أمّ حنفي : كفاية ركوب» اختر لنفسك لعبة أخرى. 
اشى الله. .. انظروا إلى الياسمين واللبلاب» انظروا 
إلى الحيام . . . 

عئيان : أنت قبيحة كالحاموسة. ورائحتك نتلة. . 

أمّ حنفي : الله يسامحك. عرقي سال من الجري 
وراءكم . 

عثمان : خلينا نر البثر ولو شويّة صغيرة. 

أمّ حنفي : البثر ملأى بالعفاريت» ولذلك سددناها. 
عبد المنعم : كذّابة» لم تقل ماما ولا خخالجي هذا. . . 
أم حنفي | الحقيقة عندي أناء أنا وسبّى الكبيرة» كنا 
نراهم رؤية العين» فانتظرنا حيّى دخلواء وألقينا على 
فوهة البئر الغطاء الخشبي وأثقلناه بالحجارة. لا 
تذكروا البئرء وقولوا معي: «باسم الله الرحمن 
الرحيم». . . 

محمد ؛ نامي لأركبك . 

أمّ حنفى : انظروا إلى اللبلاب والياسمين! ليت 
عندكم مثلهماء ليس في سطحكم إلا الدجاج 
والخروفان اللذان تسمئوبما للعيد, 

أحجد ' ماء. . , ماء. , , ماء, . , 

عبد المنعم ؛ هاتي سلما لنطلع عليها! 

م حنئفي : يا ساتر يا ربّء الولد لخاله. العبوا في 
الأرض لا في السماء . 


فصر الشوق ذه 
رضوان : في شرفة بيتنا وفي السلاملك أصص ورد 
أحمر وأبيض وقرنفل . . . 
عثمان : عندنا خخروفان ودجاج . . . 
أحمد : ماء. . . ماء. , . ماء. 
عبد المنعم : أنا في الكتاب. من منكم في الكتّاب؟ 
رضوان : أنا حافظ والحمد. 
عبد المنعم : الحمدء كبة لمبه! 
رضوان : إخصء. أنت كافر. 
عبد المنعم : هذا ما يتغئى به العريف في الطريق. . . 
نعيمة : قلنا ألف مرّة لا تردد كلامه, , 
عبد المنعم : (لرضوان) لاذا لا تعيش مع باباك خالي 
ياسين؟ 
رضوان : أنا عند ماما. 
أحمد : أين ماما؟ 
رضوان : عند جذدذي الأخر! 
عثان : أين جدك الآخر؟ 
رضوان : في الحالية! . . . في بيث كبير وسلاملك. 
عبد المنعم : لاذا أُمَكِ في بيت. وأبوك في بيت؟ 
رضوان : ماما عند جذّي هناك» وبابا علد جدّي 


هنا. , 

عثمان : لم لا يوجدان في بيت واحد مثل بابا 
وماما. ..؟ 

رضوان : القسمة والنصيب. هذا ما تقوله جدتي 
الأخرى! 


أمّ حنفي : قرّرتموه حيّى أقرّء لا حول ولا قوة إلا 
بالله! أرحموه والعبوا. . . 

أحمد : نامي لأركبك. . . 

رضوان : انظروا إلى العصفورة فوق عود اللبلاب. . 
عبد المنعم : هاتوا سلَّاء وأنا أقبض عليها. . . 

أحمد : لا ترفع صوتك. ئها تنظر إلينا وتسمع كل 
كلمة نقوطا. , . 

نعيمة : ما أجملها. عرفتها! هي العصفورة التي رأيتها 
أمس فوق حبل الغسيل عندنا. . , 

أحمد : الأخرى في السكريّة. فكيف عرفت الطريق 
إلى بيت جذي. . .؟ 


عبد المنعم : يا حمار» العصفورة تطير من السكريّة إلى 
هنا وتعود قبل المساء , 
عثان : أهلها هناك وأقاريها هنا. . . 
محئّد : نامي لأركبكء. أو أبكي حبّى تسمعني 
ماما. . . 
نعيمة ٠‏ ملعب الحجلة؟ 
عبد المنعم : بل نتسابق. . . 
أمّ حنفي : من غير شجار بين السابق والمسبوق. 
عبد المنعم : اسكتي يا جاموسة. . . 
عفان : نلعوع ع... نلع مع . 
أحمد : ماء... ماء. .. ماء. 
حيّد : سأدخل السباق راكباء» نامي لأركيك , . . 
عبد الملعم : وأحد. ا ثألانة . . 

احتفى السيّد أحمد عبد الحواد بالمدعوين فأخلى 
نفسه لحم النصف الأول من النبار كلّهء ثم توسط 
مائدة الوليمة التى ضمّت: إبراهيم شوكت» وخليل 
شوكت» وياسين وكبال. ثم دعا بالرجلين إلى حجرة 
نومه فى جلسة عائليّة» فمضوا يتسامرون في جو من 
لمودة والمؤانسة وإن ل يِخْلّ من تحفظ من ناحية السيّد 
وتأدّب من ناحية صهريهء مصدره ما يلتزمه الرجل في 
المعاملة مع آل بيته حبّى الوارد من الخارج مهم على 
رغم المقاربة في السنْ بينه وبين إبراهيم شوكت زوج 
لخد حة , 

ودعي الأطفال إلى حجرة الل ليقبّلوا يده ويتلقوا 
هذاياه النفيسة من الشيكولاطة والملبن: فتقدموا إليه 
رتيب أسنائهم : نعيمة بنت عائشة أُوْلَاء فرضوان بن 
ياسين. فعبد المنعم بن خديجة. فعثيان بن عائشة, 
فأحمد بن خخدئجة. ثم محمد بن عائشة. راعى السيد 
المساواة المطلقة في توزيع عطفه وابتساماته على أحفاده. 
منتهزًا فرصة خلو الحجرة من مراقبين ‏ عدا إبراهيم 
وخليل ‏ ليتخفف بعض الشىء من تحفظه المأثورء فهر 
الأيدى الصغيرة بترحاب. وقسرص الخدود المورّدة 
بحنئان» ولثم الجباه وهو يداعب هذا ويمازح ذاك, 
وظل مراعيًا المساواة حريضًا عليها حيّى مع رضوان 
أحظى الصغار بمحيته. 


كان من عادته إذا خلا إلى أحد من أحفاده أن 
يتفخصه بشغف. مدفوعًا بعواطف أصيلة كالأبوة 
وأخرى دخخيلة كحبٌ الاستطلاع. وكان يجد لذّة كبيرة 
في تنيع ملامح الأجداد والآباء والأمّهات في السلالات 
الجديدة الصاخبة التي لم تكد تلقّن احترامه فضلا عن 
محافته,» وقد أسره جمال نعيمة ذات الشعر الذهبيّ 
والعيدين الزرقاوين التي فاقت أمّها نفسها حسئا 
ورواءٌء فأتحفت الأسرة بقسيات غنيّة من الحسن 
بعضها مشتقّ من أمُها والبعض الآخر متوارث عن آل 
شوكت» وعلى هذا المهج من الجهال سار شقيقاها 
عثيان ومحمّد مع ميل واضح إلى ملامح الأب خليل 
شوكت - خاطة في عينيه الواسعتين البارزتين ذواتي 
النظرة الحادئة الخاملة» وعلى خلاف هذا تبدّى عبد 
المنعم وأحمد ابنا حديجة. فبشرتها وإن تكن شوكتيّة, 
إِلّا أن عينيهما هما عينا الأمّ أو الجدّة الصغيرتان 
الجميلتان. أما الأنف فينذر بمشاببة أنف الأم أو الحذ 
على الأصمّ . أمَا رضوان فيا كان له إِلّا أن يكون حميلا 
حظي بعينيى أبيه أو عيي هنيّة السوداوين المكحولتين 
وبشرة آل عفَّت العاجيّة» وأنف ياسين المستقيم. أجل 
ترقرقت الملاحة في وجهه آسرة. مفضى زمن طويل مذ 
كان يتعلّق به أطفاله بلا خوف من ناحيتهم ولا تكلّف 
من ناحيته كا يفعل الأطفال اليوم يا ها من أيَام! ويا 
لها من ذكريات! ياسين ونحديجة وفهمي ثم عائشة 
وكيال» ما منهم إِلَّا وقد دغدغه تحت إبطه وأركبه 
منكبيه: ترى هل يتذكرون؟ لقد كاد هو يسبى» على 
أنّ نعيمة تبدو رغم ابتسامتها الوضيئة متحلية بالحياء 
والأدبء أمَا أحمد فلم يكف عن المطالبة بالمزيد من 
الشيكولاطة والملبن» على حين وقف عثان ينتظر نتيجة 
المطالبة بفارغ الصبرء وأمًا محمد فهرول إلى الساعة 
الذهبيّة والخاتم المامىّ في جوف الطربوش وكبشههم) فيا 
استخلصههم| خليل شوكت من يده إلا بالقوّة. ومرّت 
لحظات توزّع السيّد الارتباك والحيرة» فلم يدر ماذا 
يفعل وهو محاط. بل مهدّد من كل جانب بالأحفاد 
الأعرّاء. . . وقبيل العصر غادر السيّد البيت إلى 
الدكان. وبذهابه تمتعت الصالة ‏ حيث اجتمع بقية 


أفراد الأسرة ‏ بكامل حرّيتها. ورثت صالة الدور 
الأعلى أخختها بالدور المهجورء ففرشت بحصيرها 
وكنباتباء وعُلّق بسقفها الفانوس الكبير» فغدت ملسا 
ومقهى لمن تبقّى من الأسرة في البيت القديم. وقد 
حافظت طوال اليوم - رغم امتلائها على هدوئهاء 
حتّى إذا لم يعد يبقى من السيّد إلا ما سطع في الجرّ من 
عرف الكولونيا التى تَطيُب بهاء استردّت أتفاسهاء 
فتعالت بها الأصوات والضحكات,. ودبت فيها 
الحركة. واتّمْل المجلس هيئته كالعهد القديم. فتربّعت 
أمينة على كنبة أمام أدوات القهوة. وعلى الأخصرى 
المواجهة لها جلست نخديجة وعائشة» وعلى ثالثة جانبيّة 
قعد ياسين وكمال» وما لبث أن انضمٌ إليهم إبراهيم 
شوكت» وخليل شوكت - بعد ذهاب السيد - فجلس 
إبراهيم إلى يمين حماته» وخليل إلى يسارها. 

لم يكد إبراهيم يستقرٌ على مجلسه. حتى خاطب 
أمينة قائلا بلهجة متودّدة : 

- بارك الله في اليد التى قدّمت لنا أشهى الطعام 
وألذه (ثمّ وهو يردّد عينيه البارزتين الخاملتين في 
الجلوس كأئما يلقي محاضرة) الطواجن... 
الطواجن! . . . معجزة هذا البيت» ليس الطاجن بما 
حويه فن المأكول:.وإن لل وطاب - ولكن يتسبيكه قبل 
كلّ شيء. التسبيك هو كل شيء. هو الصنعة» وهو 
المعجمزة: دلوني على طواجن كالتي التهمناها 
البوة .داه 

كانت خخحديجة تتابع كلامه باهتهامء وهي بين التأييد 
له اعترافًا بمهارة أمّها والاحتتجاج عليه لتجاهله إيّاهاء 
فلا أمسك كي بييّئ للمنصتين فرصة للإقرار برأيه» لم 
تتيالك من أن تقول ؛ 

هذا حكم مسلّم به وليس في حاجة إلى شهادة 
تاد يان اق دراج أذ نكر افاي ان 
ملأت بطنك في بيتك مرارًا من طواجن لا تقل صنعة 
عن طواجن اليوم ! 

ارتسمث ابتسامة . ذات معنى - على وجوه عائشة 
وياسين وكال؛ وبدا على الأمُّ أنها تغالب حياءهاء 
لتقول كلمة تجمع بين الشكر لابراهيم وإرضاء 


قمر الشوق هذه 


خديجة, ولكنّ خليل شوكت بادر قائلا : 

- صدقت نخديجة هانم, إن لطواجهها فضلا علينا 
جميعاء لا يمكن أن تسى ذلك يا أخي... 

فردد إبراهيم نظره بين زوجه وحماته؛ وهو يبتسم 
كالمعتذر. لم قال : 

معاذ الله أن أنكر هذا الفضل, ولكثى بصدد 
التحدّث عن المعلّمة الكبيرة (ثمّ وهو يضحك) وعلى 
أيّ حال فأنا أنوه بفضل والدتك لا والدتي أنا! 

وانتظر حيّى خفت أصوات الضحك التي أثارها 
قوله الأخيرء ثمّ واصل تقريظه مُتلفًا نحو الأمّ وهو 
يقول : 

د قرول راجو إن 1 متي لان ل 
الطواجن؟! الحقّ أن الصنوف الأخرى لم تكن دون 
الطواحق: ذه وفكافة: عدوا فقا السطاطسن 
المحشوء الملوخيّة؛ الأرزٌ المفلفل بالكبد والقوانص» 
المحاشي المتنوعةء والله أكبر على الدجاج ولحمه 
المكتئز. . . ريني أي غذاء تطعميئه يا حماتي؟ 

أجابته خديجة في تبكم : 

من الطواجن تطعمه! 

- سأكفّر طويلُا عن إقراري بالفضل لأهله. ولكنّ 
الله غفور رحيمء مهما يكن من أمر فلندع الله أن يكثر 
من أيام الأفراح. .. مبارك عليك البكالوريا يا سى 
كيال» وعقبى للدبلوم إن شاء الله. . . 

قالت أميئة بامتنان. وكانت مورّدة الوجه من الحياء 
والسرور: 

- ربنا يفرحك بعبد المنعم وأحمد. ويفرّح مي خليل 
بنعيمة وعثان ومحمد. (ثمَ ملتفتة إلى ياسين) ويفرح 
ياسين برضوان . . . 

كان كيال يسترق النظر إلى إبراهيم حيئًا وإلى خليل 
آخرء وعلى شفتيه ابتسامة ثابتة يداري بها عادة ملله 
من الحديث. الذي تنعدم متعته وتقضي اللياقة 
بالاشتراك فيه ولو بحسن الإنصات, إِنْ الرجل يحدّث 
عن الطعام وكأنه , يزل على المائدة سكران بشهوة 
الأكل. الطعام... الطعام... الطعام... لم 
استحىٌ هذا التقديس كلّه؟ هذان الرجلان العجيبان 


1 قصر الشوق 


لا يبدو أنبما يتغيّران مع الزمن. كأئهما بمنأى عن تيّاره. 
إبراهيم اليوم هو إبراهيم الأمس. لم يكد يطرأ عليه 
من إشرافه على الخمسين إلا أثر غير ملحوظ تحت 
العينين أو فيها حول طرق الفم. ونظرة رزيئة ثقيلة م 
تكسبه وقارًا بقدر ما أكسبته مزيدًا من الخمول» ولكنّ 
شعرة واحدة ‏ سواء في رأسه أم في شاربه المفتول ‏ لم 
تشبء وبدانته لم تزل مدمجة قوية لم يعتورها ترهل, 
إلى أن التشابه الذي جمع بين الشقيقين إلا في أغراض 
لا يعتدٌ ببا: كالاختلاف بين شعر خليل السيط المرسل 
رك اح الح ا ل 
والنظرة الخاملة كان مما يبعث على الضبحك والازدراء 
وا وكانا يرتديان بذلتين من الحرير الأبيض وقد نزع 
كل منها جاكتته فلاح قميصه الحريري والأزرار 
الذهبية تلمع في عرا أكيامه. مظهر ينم على وجاهة 
هي كل ما هنالك. في بحر السنوات السبع التي 
وصلت بين الأسرتين» كان يخلو إلى هذا أو ذاك منهبا 
كثيرًا أو قليلاء ولكنّ حديئًا واحدًا ذا طعم لم يجر 
بيهم!... فيم الانتقاد؟ ولولا ذاك ما كان هذا 
الانسجام الموفق بينهما وبين شقيقتيه؟! إِنَّ الازدراء - 
من حسن الحظ - لا يناقض العطف والإيثار بالخير 
والمودّة. أوه. . . يبدو أن حديث الطواجن ل ينته بعد 
ها هو مي خليل شوكت يتهيّأ ليلقى كلمته : 

- لم يَعَدُ أخي إبراهيم الحقٌ فيما قال يد لا 
عدمناهاء ومائدة جديرة بأن ينادي با المنادون . . . 

كانت أمينة في أعماقها تحبٌ الثناءء وكثيًا ما تعاني 
مرارة الحرمان منه. لشعورها بالجهد الدائب الذي 
تبذله عن حبٌ وطواعية في خدمة البيت وآله. وكثرًا 
ما نهمت إلى ساع كلمة طيبة من السيّد. ولكنّ السيّد 
لم يكن من عادته أن يجود بالثناء عليها وإذا جاد ففي 
اقتضساب وفي أحوال نادرة لا تكاد تذكرء لذلك 
وجدت نفسها بين إبراهيم وخليل في موقف مُجب غير 
مالوف ملأها سرورًا حقّاء ولكنّه هيج لحدٌ الارتباك 
حياءها. ققَالت تداري مشاعرها: 

- لا تبالغ يا سي خليل» أنت لك أمّ من يألف 
طعامها يزهد في أيّ طعام سواه! . . 


وبينا عاد خليل إلى توكيد الثناءء انمهت عينا 
إبراهيم بحركة عكسية إلى خديجة. فالتقى بعينيها وهما 
تحدجان إليه كأنما توقعت نظرته فاستعدّت هاء فابتسم 
كالظافرء وقال مخاطب حماته : 

- لا يقرّك بعض الناس على هذا السرأي يا 
ان 
أدرك ياسين مرمى هذه الملاحظة» فضحك ضحكة 
عاليةع وسرعان ما ضح المجلس بالضحك. حيّى أمينة 
ابتسمت ابتسامة عريضة واهترٌ نصفها الأعلى بضحكة 
مكتومة فدارت استسلامها بخفض رأسها كأئمًا تنظر في 
حجرها. بقيت نخديجة وحدها جامدة الوجه وانتظرت 
حي هدأت العاصفة, ثم قالت بتحدٌّ: 

- لم يكن خلافنا حول الطعام وطهيه؛ ولكن حول 
حقي في الاستقلال بشئون بيتي» ولا ع من هذا. . . 

تجدّدت في النفوس ذكرى المعركة القديمة التي 
استعرت في العام الأول من زواج خخديجة بينها وبين 
حماتها حول «المطبيخ؛. وهل يظل واحدًا للبيت كله 
تحت إشراف الأم. أو تستقل خديجة بطبيخها كا 
أرادت. كان خلافًا خطيرًا هدّد وحدة الأسرة الشوكبيّة 
وترامت أنباؤه إلى بين القصرين» حيّى علم به الجميع 
ما عدا السيد الذي لم يجرؤ أحد على إبلاغه إيّاد, لا 
هو ولا سائر الخلافات التي نشبت تباعًا بعد ذلك بين 
الحاة وكنتها. وأدركت نخديجة مذ فكرت في الكفاح 
أن عليها أن تعتمد على نفسها وحدهاء فزوجها على 
حذدّ تعبيرها «رجل نائم» لا هو لها ولا عليها. كلم 
حرضته على استخلاص حقها قال لما كالمداعب: (يا 
ت... دعينا من وجع الدماغ». ولكنّه إذا كان لم 
يؤيّدها فإنْه كذلك لم يشكمها. فانيرت إلى الميدان 
وحيدة ورفعت رأسها حيال العجوز المبجّلة بجرأة لم 
تكن متوقعة وبعناد لم يخذلها حي في ذلك الموقف 
الدقيق. عجبت العجوز لحرأة البنت التي تلقّتها على 
يدها من عالم الغيب. وسرعان ما احتدم الخصام وجنٌّ 
الغضب. وراحت تذكرها بأنّه لولا فضلها عليها ما 
صحّ ولو في الأحلام أن تظفر مثلها بزوج من آل 
شوكت. ولكنٌ خديجة رغم ثورتها كظمت غيظها 


يميا , 


فوقفت عند التصميم على نيل ما تراه حقًا لما دون 
اللجوء إلى حذة لسانها المأثورة» لسابق منزلة العجوز 
من ناحية؛ وخوفها من أن تشكوها إلى أبيها من ناحية 
أخرى» ثم هداها مكرها إلى أن تحرض عائشة على 
العصيانء ولكنّبا وجدت من الفتاة الكسول إعراضا 
وجبئاء لا حا في الحاة ولكن إيثارًا للراحة والدعة 
اللتين تمتّعت بها - بغير حساب - في ظل الحضانة 
الإجباريّة التي فرضتها حماتها على الجميع» فصبّت 
غضبها عليها ورمتها بالضعف والتنبلة» ثم ركبها 
العناد فواصلت «الجهاد» بلا توان أو تردّد حبّى ضاق 
صدر العجوز فسلّمت كارهة بحقٌ كِنْتها «الفجريّة) 
بالاستقلال بمطبخها وهي تقول لابنها الأكبر: «أنت 
وشانك. إِنك رجل ضعيف لا قبل لك بتأديب 
زوجكء. وجراؤك الحن أن تحرم من طعامي إلى 
الأبد!». ظفرت نخديجة ببغيتها فاستردّت أدوات 
جهازها النحاسيّة. وهيَّا لا إبراهيم المطبخ كما 
رسمت» ولكنّها خسرت حماتها وفتكت بأسباب المودة 
التي ربطت بينهها مذ درجت في المهد؛ ولم تحتمل أمينة 
فكرة الخصام فصيرت حيّى هدأت النفوس ثم سعت 
سعيها عند السيّدة المبجلة مستعينة بإبراهيم وخليل 
حتّى تم صلح, ولكن أي صلح كان؟... كان 
صلحًا لا يكاد يستقرٌ حبّى يصطدم بنقار» ثم يعقبه 
صلح . فئقار من جديدء. وهكذا. . . وكل واحدة منهما 
تلقي التبعة على الأخرى. وأمينة بينبها حائرة. 
وإبراهيم واقف موقف المحايد أو المتفرّجء كأنْ الأمر 
لا يعنيهء فإذا رأى أن يتدخل تدخل وانيًا وقلع بترديد 
النصيحة في هدوء بل برود غير مبال, بتوبيخ أمّه أو 
عتاب زوجهء, ولولا إخلاص أمينة ودمائة خخلقها 
لسارت العجوز بشكواها إلى السيّد أحمدء ولكتها 
عدلت عن ذلك كارهة ومضت تنفس عن صدرها في 
أحاديئها الطويلة مم كل من يلقاها من الأهل 
والجيران» معلئة على رؤوس الأشهاد بأنّ اختيارها 
خديجة زوجة لابنها كان أكبر غلطة ارتكبتها في حياتها 
أن عليها أن تتحمل الجزاء. 

قال إبراهيم معمّبًا على كلام خديجة» وهو يبتسم. 


قصر الشوق /!اؤوه 


كأنما ليخقف بابتسامته من وقع تعقيبه : 

- ولكنّك لم تكتفب بالمطالبة بحفّك. بل طعنت 
بلسانك ما حلا لك الطعن» هذا إذا لم تكن خانتي 
الذاكرة . , 

ورفعت نحديجة رأسها المعصوب بنديل بي في تحدّ 
وقالت وهي ترمق زوجها بنظرة تهكم وغيظ : 

ولم تخونك الذاكرة؟! هل من أفكار أو مشاغل 
ترهقها حيّ تخونك! ليت للناس حميعا ذاكرة هادئة 
مطمئنّة خالية البال كذاكرتك! لم تخنك ذاكرتك يا مي 
إبراهيمء ولكتها خمانتني أنا! والحقٌ أني لم أتعرض 
لقدرة نينتك. ولم يكن لي بها شأن ولا حاجة إليها. 
فإنى أعرف بحمد الله كافة واجباتي وأعرف كيف أؤْدْيها 
على خير وجهء ولكني كرهت أن أقبع في بيتي وأن 
يجيئبي الطعام من الخارج كنزلاء الفنادق؛ وفضلا عن 
هذا كله فإ ١‏ أطق - كيا يحلو ولبعض الناس» .. أن 
أمضي نباري نائمة أو لاهية وغيري يقوم بمهام بيتي. 

أدركت عائشة من توها المقصود من «بعضص 
الناس»» فضحكت ولما تكمل خديجة كلامهاء م 
قالت بلهجة لطيفة كأنًا دافعها الاشفاق: 

افعلٍ ما يحلو لك ودعي الناس ‏ أو بعض 
الناس ‏ وشأعهمء لا شيء الآن يدعو إلى كدرك, فأنت 
سيّدة مستقلّة ‏ عقبى لمصر- وتعملين من طلوع 
الفجر إلى نزول الليل: في المطبخ» والحام» وفوق 
السطح ع وتعنين فى وقت واحد بالأئاث والدجاج 
والأولاد, والجاربة سويدان لا تجرؤ على الاقتراب من 
شنّتك أو حمل ابن من أبتائك» ربّاه. . . لم هذا العناء 
وقليل منه يغنى؟ ! 

أجابت خديجة بحركة من ذقهاء وهي تغالب 
ابتسامة دلت على أنْها وجدت في كلام عائشة ما 
استانست إليه. وعند ذاك قال ياسين: 

بعض الناس يُخلقون للسيادة» وبعفسهم يخلقون 
للعبودية . . 

فقال خليل شوكت» وهو يبتسم كاشفًا عن ثنيتيه 
المتراكبتين : 

خديجة هانم مثال صالح لست البيتء. غير أنها 


لوه فصر الشوق 


تتجاهل حقها من الراحة. 

فقال إبراهيم شوكت مِؤْمُئًا على قوله : 

هذا رأبي بالهامء صارحتها به مرارّاء ثم آثرث 
السكوت تفاديا من وجم الدماغ. . . 

نظر كمال إلى أمّهء وكانت قلا فنجان خليل للمرة 
الثانية واستحضر صورة أبيه مقرونة بذكريات جبروته. 
فعلت شفتيه ابتسامةء ثم مد بصره إلى إبراهيم 
مدهوشًا وهو يقول: 

كأئّك تخافها! 

فقال الرجل وهو بيهر رأسه الكبير: 

أنا أتفادى من التكد ما وجدت سبيلًا إلى 
السلامة واختك تتفادى من السلامة ما وجدت سبيلا 
إلى النكد! 

هتفت لجدعية : 

- اسمعوا الحكم (ثمْ وهي تشير إليه كالمتحذية) 
أنت تتفادى من اليقظة ما وجدت سبيلا إلى النوم! 

فقالت ا أمهاء وهي تحدجها بنظرة تحذير: 

خيد نجة ! 

فربّت إبراهيم على مكب حماتهء قائلا: 

عندنا من هذا كثير!. . . ولكن اشهدي بنفسك! 

وكان ياسين يردّد بصره بين نحمدنجة القوية الممتلئة 
وعائشة النحيفة الرقيقة بحركة متعمّدة للفت الأنظار. 
ثم قال كالمستنكر: 

وستقيرنا عن تعب جوعة المصل من الفغدر إل 
الليل» فأبن أثر ذلك التعب؟!. .. كأئها هي اللاهية 
وكأنّ عائشة هي العاملة!. . . 

فقالت خديجة. وهي تبسط راحة يمناها في وجهه 
مفرّجة بين أصابعها الخمس : 

ومن شر حاسد إذا حسد! 

ولكنٌ عائشة لم ترتح لمجرى الحديث الأخير. 
فلاحت في عينيها الزرقاوين الصافيتين نظرة اعتراض» 
واندفعت للذود عن نحافتها متجاهلة الغاية الواضحة 
من ملاحظة ياسين. وهي تعاني شينًا من الغيرة 
فقالت؛ 

- لم تعد السمانة موضة العصر (ثْمْ مستدركة عندما 


شعرت باتجاه رأس خديجة نحوها). أو على الأقلّ 
فالنحافة موضة كذلك عند كثيرات. . . ! 

النحافة موضة العاجزات عن السيانة , 

حفق قلي كمال عندما تناهت كلمة «النحافة» إلى 
سمعه. فوب من باطبه إلى مخيلته صورة القامة 
الفارعة والقدٌ الممشوق. فرقص قلبه بطرب روحان 
وانبثقت منه النشوات» ثم احتضنته فرحة صافية نسي 
في حلمها المهادئ العميق نفسه ومكانه وزمانه. فلم 
يدر كم فيها لبث حيّى انتبه على ظل سحابة من الأسى 
تجيء كثيرًا ذيلا لحلمه. لا كا يجيء الغريب الدسعيل 
أو العنصر المتنافر. ولكتّها تتسرّب إلى الحلم الباهر 
كأئبا خيط من نسجه أو نغمة من هارمونيته. تنفس 
تنفْسًا عميقاء ثم جال ببصره الحالم في الوجوه التي 
يحبها من قديم, والتي يبدو أنها تتباهى على نحو أو 
آخر بحسنهاء خاصّة الوجه الأشقر الذي هام زمنًا 
باحتساء الماء من موضع شفتيه. .. استرجم هذه 
الذكرى في حياء ‏ وما يشبه التأفف ‏ فشعر بأنْ أي 
نموذج من الجال خلا النموذج المعبود خليق بأن يثير 
تعصبه وإن حظي بعطفه وحبه. 

- لن أرضى عن النحافة ولو في الرجال (واصلت 
حديجة حديثها). انظروا إلى كال ما أجدره بأن يعني 
بزيادة وزنهء لا تظنٌ يا بي أن طلب العلم هو كل 

أصغى كيال إليها باسّ) في استهانة وهو يتفشخص 
جسمها الذي تراكم لحمه وشحمه؛ ووجهها الذي 
توارت بالاكتناز عيوبه» معجبًا بروح السعادة والفوز 
التي تكتنفهاء غير أنه لم يجد في نفسه الرغبة في مناقشة 
رأيباء أمّا ياسين» فقال بتحدٌ وسخرية معًا: 

إِذا فأنت راضية عنِّى. لا تكابري في هُذا! 

كان ثانيًا ساقه اليمنى تحته طارحًا الأخرى على 
الأرض» وقد فتسم ‏ من الحر ‏ طوق جلبابه.» فبدت 
من فتمحة فائلته الواسعة خصلات من شعر صدره 
الأسود الأثيثء فألقت عليه نظرة نافذة» ثم قالت: 

- لكنك زدتها حيّتين» ثم إِنْ شحمك وصل إلى 


المح وهذا شيء آخر. 

نفع ياسين كاليائس» ثم التفت إلى إبراهيم شوكت 
متسائلا في إشفاق وعطف : 

- ختري عا تصنع بين زوجك ‏ وهذه حالها - وبين 
والدتك؟ 

أشعل إبراهيم تنتتجارة + واأخخلك تسسا ثم نفخه وهو 
يمظط بوزه مشاركًا أخاه خليل ‏ الذي لم يكن ينزع 
غليونه من فيه إلا حين يتكلّم ‏ في تعفير جو الصالة, 
ثم قال في عدم اكتراث : 

- أذنا من طين وأذنًا من عجين, هذا ما تعلمته من 
التجربة! 

فقالت خديجة. مخاطبة باسين بصوث مرتفع وشى 
بغيظها : 

لا دخل للتجربة في ذلك» التجربة بريئة وحياتك 
عندي . المسألة أن ربّنا أعطاه طبعًا مثل دندورمة عم 
بدر التركي. ولو تحرّكت مئذنة الحسين ما اهترّت له 


شعرة. 0 
رفعت أمينة رأسها. فرمقت نخديجة بنظرة عتاب 


وتحذير حيّى ابتسمت الابنة وخفضت عينيها فيها يشبه 
الحياء. وإذا بخليل شوكت يقول في فخار لطيف: 

هذا طبع آل شوكت. وهو طبع سلطانقَ. أليس 
كذلك؟ ! 

فقالت خديجة ‏ بلهجة ذات مغزى ‏ وهى تضحك 

- من سوء حظّي يا مي خليل أن والدتك لم تتطبع 
ببذا الطبع السلطائيً! 

فبادرتها أمينة قائلة وقد نفد صيرها: 

حماتك لا نظير لها في النساء؛ سيّدة جليلة بكلّ 
معنى الكلمة!| 

فيال رأس إبراهيم يسرة؛ وهو يحدج زوجه بنظرة 
من عَلُ التمعت بها عيئاه البارزتان» ثم قال وهو يتتبّد 
في ظفر: 

- وشهد شاهد من أهلهاء الله يكرمك يا حمات. . . 
زف بظائذا ايع را هوه الل ست كتوق وس 
تستوجب الرعاية والحلم» وزوجي لا تعرف عن الحلم 


قصر الشوق 49ه 


فائيرت نعديية للدفاع عن نفسها قائلة : 

- آنا لا أغضب بلا سببء وِلم يكن الغضب من 
طبعي في يوم من الأيّامء وهاك أهلٍ فسلهم عرّا تشاء! 

ساد الصمت. كان أهلها لا يدرون ما يقولونء 
حبّى نذت عن كيال ضحكة. فلفتت إليه الأنظارء فلم 
يتالك أن يقول: 

- أبلة خديجة أغضب حليمة عرفتها! 

فتشججع ياسين قائلا : 

- أو هي أحلم غضوب ؛ والله أعلم . . . 

انتنظرت خحديجة حبّى هدأات ثائرة الضحك التي 
أعقبت ذلك. ثم أومأت إلى كال وهي تبر رأسها في 
حسرةء قائلة : 

- خحائني الذي حملته عل حجري أكثر بما حملت 
أحمد وعبد المنعم . 

فقال كال كالمعتذر: 

لا أظنني أفشيت سرًا. . . 

وسرعان ما اتخذت أميئة موقمًا جديدًا للدفاع عن 
خديجة التي بدت في مركز لا تحسد عليهء فقالت 
باسمة : 
مغل :دق له الكراك: .. 

وجاراها إبراهيم شوكت في لباقة قائلا: 

صدقتء إِنْ لزوجي مزايا لا يُستهان مهاء لعنة 
الله على الغضب الذي يصيب أول ما يصيب صاحه. 
لا ثبىء في الدنيا يستحقٌ في نظري الغضب! 

فقالت خدنجة ضاحكة : 

يا بختك!. . . لذلك تمفي الأيام - عيني عليك 
باردة ‏ وأنت من التغيّر في حصن! 

بدا على أمينة الاستياء ‏ لأول مرّة - بصورة جدية, 
فقالت في عتاب : 

- ربنا يصون له شبابه؛ هو وأمثاله! 

تساءل إبراهيم مضاحكاء وهو لا يخفي سروره 
بدعاء حماته : 

- شسابة؟ ] 

فقال خليل شوكت يجيبه:ء وإِنْ وجّه الخقطاب 


لأميئة : 


٠‏ قصر الشوق 


- إن التاسعة والأربعين في آل شوكت تُعدٌ من 
مراحل الشباب! 

فعادت أميئلة تقول في إشفاق: 

يا ب لا تتكلم هكذا ودعونا من هذه السيرة. . 

ابتسمت خدنجة لما بدا من أمّها من إشفاق كانت 
هي على علم وإيمان بأسبابه وبواعثه. ذلك أنْ الإشادة 
بالصحّة جهرًا في البيثت القديم ‏ صراحة ‏ مكروهة, 
لتجاهلها «العين» وشرّهاء. وهي نفسها ‏ خديجة ‏ لم 
تكن لتعالن بقوة صححة زوجها لو لم تكن قضت 
السنوات الست الأخيرة من حياتها بين آل شوكت» 
حيث لا تحظى عقائد كثيرة ‏ كالحسد مثلا ‏ بإيهان 
عميق» وحيث يخوضون في أمور شق بلا خحوف ‏ 
كسيّر الحنّ والموت والمرض - يحول الاشفاق والحذر 
دون الخوض فيها في البيت القديم. إلى هُذا كله 
كانت العلاقة بين الزوجين أوثق مما تبدو في الظاهر, 
فلم يكن ثمّة ما يتهدّدها من قول أو فعل» كانا 
زوجين موفقين. يشعر كلاهما في أعماقه بأنّه لا غنى له 
عن الآخر رغم شق المآخذ. وقد كان مرض إبراهيم 
يومًا فرصة غريبة جَلْتْ مكئون ما يعمر صدر نخديجة 
من محبة ووفاء. أجل! لم يكن النقار ليسكت بيبههاء 
على الأقل من ناحيتها هي. فلم تكن أمّه هدفها 
اسوحيد. ورغم سياسة الرجل وبروده لم يَعيها أن 
تكتشف فيه موضعًا كل يوم لانتقاد. مثل: كثرة نومهى 
قبوعه في البيت بلا عمل. تكيره على مجرد فكرة أن 
يكون له عمل في الحياة» ثرثرته التي لا تنتهي: تجاهله 
لا ينشب بينها وبين أمّه من نزاع وملاحاأة. .. حتّى 
مرت أيَام وأيَام ‏ على حدٌّ تعبير عائشة ‏ لم يكن لها من 
حديث إلا شكه ولسعه ‏ ولكن رغم هذا كله أو 
بفضل هذاء من يدري؟! فالنقار نفسه يقوم أحيانًا 
بوظيفة الشطة في تبيبج شهوة الطعام. ظلت عواطفهما 
قويّة ثابتة لا تتأئر بما يكدّر الظاهرء كأئها التيّارات 
المائيّة العميقة التي لا يتحوّل مجراها بفورات السطح 
وتشنجاته؛ إلى ذلك لم يسع الرجل إلا أن يقدّر 
نشاطها حقٌ قدره؛ بعد أن لمس آثاره في رونق مسكنه 
ولذة تطفية واناقة ننلسةه وسعدفة انيه انان 


يقول طا مداعبًا: «الحقٌ أنك لقيّة يا غجريّة!» رغم 
رأي أمه في هذا النشاط الذي لم تترذد عن الجهر به في 
أوقات اللخصام. وما أكثرهاء فتقول للنديجة ساخخرة: 
وهذه فضيلة الخدم لا الهوائم)»: فتبادرها خديجة قائلة : 
«أنتم أناس لا عمل لكم إلا الأكل والشرب؛ سيّد 
البيت الحقيقين من يخدمه». فتقول العجوز مواصلة 
تبكمها: «لقُنوك هذا الكلام في بيتك كي يخفوا عنك 
أنّك لم تكوني تصلحين في نظرهم إلا للخدمة!). 
فتصيح خديجة : «أنا أعلم بسبب حنقك عل أعلم به 
منذ لم أجعل لك وزنًا في بيتي», فتصرخ العجوز: ديا 
رب اشهد. السيّد أحمد عبد الجواد رجل طيّبء ولكنّه 
أنجب شيطانة؛ أنا أستحقٌ ضرب الشبشب جزاء 
اخثياري لك». فتمغي نخديجة وهي تغمغم. حثّى لا 
تتبين المرأة كلامها: «ألت تستحقين ضرب 
الشبشب. . . لا أجادلك فى هذا؛. 

نظر ياسين إلى عائشة, وقال وهو يبتسم في نحبث: 

ما أسعدك بنفسك يا عائشة: علاقتك حسنة مع 
جميع الأحزاب! 

فأدركت خديجة ما وراء كلامه من التعريض بها» 
وقالت له وهي تبن كتفيها متظاهرة بالاستهانة : 

- وقاع يسعى بوقيعة بين أحتين! 

أنا؟!. . . حسبي الله فهو المظلع على حسن 
بي | 

وهي تبزٌ رأسها كالآسفة : 

- لم تكن يوما ذا نيّة -حسنة! 

وقال خليل شوكت, معلقًا على كلام ياسين: 

- نحن نعيش في سلامء وشعارنا: «عش ودع 
غيرك يعيش»! 

فضحكت حدبجة حيٍّ بدت أسنانها اللامعة 
الدقيقة» وقالت بلهجة لم تل من تبكم : 

بيت سي خليل بيت أفراح» لا يزال هو يلعب 
بأوتار العود. والمهائم تسمع أو تستعرض نفسها في 
المرآة أو تحادث هذه أو تلك من صويحباتها من النافذة 
أو المشربية» ونعيمة وعثيان ومحمد يلعبون بالمقاعد 
والوسائد. حيّى إن عبد المنعم وأحمد إذا ضاقا برقابتي 
فرّا إلى شقة خالتها فانضنًا إلى فرقة التخريب. . . ! 


تساءلت عائشة باسمة : 
أهذا كلّ ما ترين في بيتنا السعيد؟ 
قالت نخخدئجة بنفس اللهجة : 
- أو تغئين ونعيمة ترقص. . . ! 
عائشة بمباهاة : 
حسبي أن جميع الجارات يحببنني» وأنْ حماتقي تحبّني 
قدللة: 
- لا أتصور أن أفتح صدري لإحدى أولئك النسوة 
الزثارات» أمًا حماتك فتحبّ من يتملقها ويسجد 
ها., , . 
يجب أن نحبٌ الناس» وما أسعد أن يمينا الناس 
كذلك: حمًا من القلب للقلب رسولء إِتْبنَ جميعًا 
يخشينك وكثيرًا ما قلن لى: «أختك لا ترخب بنا ولا 
تتعب من تنقّصِنا!»... (ثمّ تخاطبةٌ أمّها وهي 
تضحك).... لا تزال تسمّي الناس بأساء هزلية» 
ثم تتندّر بها في البيت. فيحفظها عبد المنعم وأحمد. 
ويرذداما في الحارة بين الغلمان فتذيع !| 
ارق الشوكلك القساسف اميق كرالك افكت 
حديجة في شيء من الارتباك, كأئما طافت بها ذكريات 
بعض مواقف محرجة» على حين راح خليل يقول في 
ابتهاج غير خاف: 
- بالجملة نحن تخت صغيرء فيه العواد والمطربة 
والراقصة! حقًا لا يزال ينقصنا جماعة المنشدين 
والمرئدين» ولكيّ أتوسّم في أولادي خخيراء والمسألة 
مسألة وقت! 
فقال إبراهيم شوكت. موجهًا الخطاب إلى أميئة : 
أشهد أن بدت بنتك نعيمة راقصة بارعة! 
ضحكت أمينة حتّى تورّد وجهها الشاحب. ثم 
قالت: 
- رأيتها وهي ترقص, ما الطفها! 
قالت خديجة بحاس نطق بحنانا العائلٌ المأثور: 
ما أحملها! كأئها صورة من صور الإعلانات . 
فقال ياسين : 
ما أحملها عروسًا لرضوان! 
فقالت عائشة ضاحكة : 


ولكتّها بكريّة الأسرة!... آه... لم يمكنني أن 


قصر الشوق 5.١‏ 


أغالط في عمرها كيا يجدر بالآمّهات! 
فتساءل ياسين بعدم اكتراث : 
دلماذا مشترط: الناين ات تكون 'العروسن الويف سنا 
من العريس؟ 
فلم يجبه أحدى حيّى قالت أميئة : 
الحموظل لم نانفلا اميم العومين: اتانيه ! 
فعادت تحديحجة تقول. 
ما أجملها يا ري! لم أرَ لمالا مثيلا. . . 
فتساءلت عائشة ضاحكة : 
- وأمها؟ ! . . . ألم تري أمّها؟ 
فقطبت خديجة لتضفي على كلامها صفة الجذّيّة 


وهي تقول : 
هي أجمل منك يا عائشة؛ لن تستطيعي المكابرة 
في هذا! 


ثم ما لبنت أن عاودتها سخريتها فقالت: 

وان الها مكنا ما 

«هؤلاء الناس يتحذثون عن الجمال] ماذا عرفوا من 
كنه الجمال؟ تعجبهم ألوان: بياض العاج. وسبائك 
الذهب. سلوني أنا عنهء ولن أحذئكم عن السمرة 
الصافية والأعين السود السواجي والقامة اشيفاء 
والأناقة الباريسيّة. كلا! كل أولفك جميل, ولكنّه 
خطوط وشكول وألوان تخضم في النباية للحواس 
والقياس. الجهال هرّة في القلب جارحة وحياة في 
النفس عامرة وَمهّيّمان تسبح الروح على أثيره حتّى تعائق 
السماوات. . . حذّثوني عن هذا إن استطعتم. ..4. 

- لم يلحمس نساء السكريّة ود خديحة هانم؟. . 
رئما كان لها مزايا ‏ كما يشهد بذلك زوجها ‏ ولكنّ 
الناس عائّة يستهوبها الوجه الصبيح واللسان 
اللو 

قال ياسين ذلك كي ينتكش خديجة من جديد؛ بعد 
أن رأى الحديث يتحول عنها في سلام»: فرمته بنظرة 
كأنما تقول له: «تأى أن أرحمك». 

م قالت وهي تتند بصوت مسموع : 

حسبي الله ونعم الوكيل» لم أكن أعلم أنْ لي هنا 
حماة أخرى . 


ثم إذا بها تعود من جديد إلى ذلك الموضوع» ولكن 
بلهجة جدَّيّة تاركة ياسين وشأنه على غير ما توقع, 
فتقول: 

- ليس عندي متسع من الوقت كي أضيعه في 
الزيارات. البيت والأولاد يلتهمون وقتي كله خاضة 
وأنْ زوجي لا مهتم لا بالبيت ولا بالأولاد! 

قال إبراهيم شوكت. مدافعا عن نفسه: 

- انق الله ولا تغالي شأنك في كل شبيء, الأمر وما 
فيه أنّه ينبغي لمن كان له زوجة كزوجتي أن يقف 
موقف الدفاع من حين لآخرء الدفاع عن قطع الأثاث 
الي تكاد تنبري من كثرة النفض والمسح , والدفاع عن 
الأولاد الذين تَحمّلهم فوق ما يطيقون... آخر العهد 
بذاك؛ ما علمتم من دفعها عبد المنعم إلى الكتّاب ول 
يبلغ الخامسة من عمره! 

قالت خمديجة بفخار: 

- سو انبعت رأيكم لاستبقيته في البيت حتّى يبلغ 
سنّ الرشد! كأنّ بينكم وبين العلم عداوة» كلا يا 
حبيبي: سينشأ أولادي على ما نشأ عليه أخواهم . إن 
أذاكر عبد المنعم في دروسه بنفسى !] 

ياسين مستنكرا : 

أنت تداكريئه؟ ! 

لم لا؟! كما كانت نيئة تذاكر كيالء أجالسه كل 
مساء فيسمعني ما يحفظونه في الكتّاب . 

ثم وغي تصدحلة: 

- وبذلك أيضًا أستذكر مبادئ القراءة والكتابة التى 
أخاف أن أنساها بمرور الزمن. . . ْ 

تورّد وجه أمينة حياء وسرورّاء فرنت إلى كيال كأئما 
تستجديه إشارة إلى ذكر الليالي الخوالي فابتسم إليها 
ابتسامة ذكور «لتنشئ خخديجة ابنيها على ما نشا عليه 
أخوالهماء ليكن مهما من يتأثر كمال الذي يشِقٌّ السبيل 
إلى المدرسة العلياء ليكن منهم| من يتشبّه ب. . 
ما أضعف الصدور المتصدّعة عن تحمل الخفقات 
الوالهة» لو امتذٌ به العمر لكان اليوم قاضيًا أو في 
الطريق إليهاء كم حدّئك عن آماله أو آمالك! أين 
مضى كل ذلك؟ ليه عاش ولو فردًا من غهار 


0000 


الناس .4 . . . 

قال إبراهيم شوكت» مخاطبا كيال : 

لسنا كا تتهمنا أختك. لقد دخخلت امتحان 
الابتدائيّة سنة ١890‏ ودخله خليل سنة ١١19غ.‏ 
كانت الابتدائيّة على أيَامنا شيئا عظيرًا على خلاف 
الحاصل الآن حيث لا يكاد يقنع بها أحدء لم نواصل 
التعليم. لأنّه لم يكن في نيتنا أن نتوظف. أو بمعنى آشر 
لم نكن في حاجة إلى الوظيفة!. . . 

2 كال إعجابا ساخيرًا بقوله ودخلت امتحان 
الابتدائية). ولكنه قال يحاملا : 

هذا أمر طبيعيّ . . . 

كيف يكون للعلم قيمة ذاتية عنسد ثورين 
سعيدين؟ كلاكا تجربة ثميئة علّمتني أنه من الجائز 
أن أحبٌ ‏ أي حبٌ كان من أحتقر. . . أو أن أتَيُ 
الخير ‏ كل الخير- لشخص تثير مبادئه في الحياة نفوري 
وتقرّزي. لا أملك إلا أن أكره الحيوانيّة من صميم 
قلبي . صار ذلك حقيقة وحمًا مذ همّت على القلب 
لبعة الساذةا 

هتف ياسين في حماس هزلى : 

- لتحيى الابتدائيّة القديمة! 

نحن حزب الأغلبيّة على أ حال! 

تضايق ياسين من إقحام خليل نفسه ‏ وأخاه ضمنًا 
على حزب الابتدائيّة التي لم ينالاهاء ولكنّه لم يجد بدا 
من التسليم. على حين راحت خديجة تقول؛ 

- سيواصل عبد المنعم وأحمد التعليم حبّى ينالا 
الدبلوم العالي» سيكونان عهذًا جديدًا في آل شوكت. 
اسمعوا وقع هذين الاسمين جِيّدًا: عبد المنعم إبراهيم 
شوكت. أحمد إبراهيم شوكت... ألا يرن الاسم 
رئين «سعد زغلولع؟! 

فصاح إبراهيم ضاحكا ؛ 

- من أين لك هذا الطموح كلّه؟ 

- لم لا؟... ألم يكن سعد باشا مجاورًا بالأزهر؟ ! 
من الحراية إلى رياسة الوزراء؛ وكلمة منه تقيم الدنيا 
وتقعدهاء ليس شىىء على الله بكثير! | 

ادن ناسين سيت 

هلا قنعت بأن يكونا مثل عدلي أو ثروت؟ 


فصاحت “المستعيذة بالله : 

الخونة؟! لن يكونا من الذين يهتف الناس 
بسقوطهم ليل نبار! 

أخرج إبراهيم من جيب بنطلونه منديلاء ومسح به 
وجهه الذي زادت حمرته عممًا بحرارة الجمو ونضح عرقًا 
بما يشرب من ماء مثلوج وقهوة سائحنة. ثم قال وهو 
آخذ فى تجفيفه : 

لو أن لشدّة الأنّهات فضلا في خلق العظيا 
فأبشري هن الآن بما ينتظر ابنيك من محد كبير! 

- تريدني على أن أتركها وشأنبا؟ 

قالت عائشة درقة : 

لا أذكر أنَّ نينة انتهرت أحدًا منا فضلًا عن 
ضربه, ألا تذكرين؟ 

فقالت نمديحجة كالاسفة: 

- لم تلجأ نينة إلى الشْدّة» لأنْ بابا كان هناك! كان 
ذكره كافيًا لإلزام كل حدّه. أمَا عندي. أو عندك 
فالحال من بعضه. فالأب غير موجود إلا بالاسم 
(اضطرّت أن تضحك) ما عسبى أن أفعل والسال 
كذلك؟ إذا كان الأب أمَاء فعلى الأمٌ أن تكون 
أبا. , . ! 

ياسين مبتهجا : 

- يقيني أَنْكِ نجحت في أبوتك! أنت أب . . . هذا 
ها شعرت به طويلًا. ولكن كانت تنقصبي معرفته! 

نتظاهرت بالرضى قائلة : 

د افك ابيا فيه موده 

ونخديجة وعائشة. صورتان متعارضتان , . . تأمل 
جيّداء أيّهها نظن الأجدر بأن تكون معبودئك على 
مثالها؟. . . أستغفر الله! معبودي على غير مثال. لا 
أتصوّرها ربّة بيت. ما أبعد هذا عن التصور! معبودته 
في ثياب البيت تهنه طفلا أو ترعى مطبخًا؟! يا للفزع 
ويا للتقرّزء بل لاهية أو سادرة أو رافلة في حلة باهرة 
في حديقة أو سيّارة أو ملهى, ملاك في زيارة طارئة 
سعيدة للدنياء جنس مفرد غير سائر الأجناس لا يعرفه 
إلا قلبي. لا يجمعها وهؤلاء النسوة إِلّا تسمية العاجز 
عن معرفة الاسم الحقيقي. لا يجمع جماللها وجمال 


قصر الشوق 4١‏ 


عائشة وسائر ألوان الجهال إلا تسمية العاجز عن معرفة 
الاسم الحقيقيّ. هاك حياتي أكرّسها لمعرفتك» هل ثمّة 
وراء ذلك ظماأ لعرفان؟». 

يا ترى ما أخخبار مريهم؟ 

تساءلت عائشة حال خطرتث صديقتها القديمة 
بالهاء فأحدث الاسم آثارًا متبابدة في كثير من 
الجالسين» تغيّر وجه أمينة حتّى نمت أساريره عن 
الامتعاض الشديد, تجاهل ياسين السؤال كأنه لم 
يسمعه متشاغكا بتشفخص أظافرهء وردت رأس كال 
حملة من ذكريات هرّت نفسه هراء أمّا خديجة قأجابتها 
بلهجة باردة : 

عأ أخبار جديدة تتوقعين؟ طلّقت وعادت إلى 
بيتها! 

انتبهت عائشة ‏ بعد فوات الفرصة . إلى أنها 
انزلقت سهوًا إلى ورطةء وأثّها أساءتث إلى أمّها بهفوة 
لسان. ذلك أنَّ أمّها آمنت مئذ عهد بعيد بِأنُْ مريم 
وأمّ مريم لم تَصّدقا في حزنهها على فهمي. إن لم تكونا 
شمتتا بهم من أجل ذلك؛» لما سبق من معارضة السيّد 
في خطبة مريم للفقيد. وكانت نخديهة البادئة يترديد 
ذلك الظنّء فتابعتها الأمّ عليه بلا تردّد أو تفكير 
وسرعان ما تغيّرت عواطفهها نحو جارتهها القديمة حق 
أوحى ذلك بالتنكر فالقطيعة . 

قالت عائشة بارتباك. محاولة الاعتذار عا بدر منبا: 

لا أدري ماذا دعاني للسؤال عنبا؟ 

فقالت أمينة بانفعال ظاهر: 

- ما ينبغي لك أن تفكري فيها. 

كانت عائشة قد أعلنت شككها ‏ عند ذلك التاريخ ‏ 
في واقعيّة التهمة الي ألصقت بصديقتهاء معتلة بأنٌ 
الخطبة وما دار حوها بقي عطي الكتمانء فلم يتناه نبؤه 
إلى بيت مريم في حينه» نما ينفي على الفتاة وآها 
دواعي الشهاتة , . . ولكنّ أمها ' تردزانا غتيبةه أن 
مسألة خطيرة كهذه المسألة نما يتعذّر منع تسرب تخيرها 
إلى أصحاب الشأن فيهاء فلم تلبث عائشة وراء رأبها 
طويلا خشية أن تُنّهِم بمحاباة مريم أو بفتور حماسها 
لذكرى شقيقهاء لكها بإزاء اتفعال أمّهاء وجدت 


نفسها مساقة إلى تلطيف وقع هفوتهاء فقالت: 

- لا يدري بالحقيقة يا نيئة إلا الله . . . لعلها بريئة 
تما رميئناها به. 

فاشتدٌ امتعاض أميئة على حلاف ما توقعت عائشة. 
حتى لاحت في وجهها بوادر غضب بدت غريبة عنها لا 
غرف عنها من حلم وهدوءء وقالت يصوت متهدّج : 

لا تحدثينى عن مريم يا عائشة . 

وصاحت تخديجة مشاركة أمّها في عواطفها: 

- قطعث مريم وسيرتها! 

فابتسمت عائشة في ارتباك دون أن تلبس. وقد 
لبث ياسين متشاغلا بأظافره حيّ انتهى ذاك الحديث 
الخامي» وأوشك مرّة أن يشترك فيه متشْجججعًا بقول 
عائشة ولا يدرى بالحقيقة يا نيئة إلّا الله. . .1» ولكنٌّ 
اندفاع أمينة إلى الردّ عليها بذاك الصوت المتهدّج غير 
المعهود أسكته. أجل أسكته والطلق لسانه باطنيًا 
بالشكر على نعمة السكوت. وكان كيال يتابع الحديث 
باهتام وإن لم يبد أثره على وجهه. وقد أكسبه حمل 
لنت نهدا :طررلا حال :ظروق شاسة ع هواتية ب 
قدرة على التمثيل تحكم بها في كتهان عواطفه ومطالعة 
الناس ‏ إن دعت الضرورة ‏ بمظهر على نقيض غره: 
فذكر ما سمع قديًا من «شيباتة؛ آل مريم. ومع أنّه م 
بأخذ التهمة مأخذ الحدٌ إلا أنه تذكّر عهد الرسالة 
السرية التي ذهب بها إلى مريم والردٌ الذي عاد به إلى 
فهمي, ذلك سر قديم صانه ولم يزل مستمسكًا بصونه 
رعاية لعهد أخيه واحترامًا لرغبته» وقد لل له أن 
عم نيك ليس الرجلنة ري حوا 1 
أخيراء حين انبئقت معانيها في نفسه خلقًا جديدًا, . . 
كان على حدّ تعبيره ‏ حجرًا حمل نقوشًا مبهمة حي 
جاء الحبٌ فحل رموزهاء ول يفته أن يلاحظ غضب 
أمُهء وهو ظاهرة جديدة في حياتها لم تكن تعرفها قبل 
العهد المشئوم؛ لم تعد كما عهد. أجل لم تتغيّر تغيرا 
خطيرًا أو دائا ولكئها غدت عرضة بين الحين والحين 
لنوبات لم تكن تطرأ عليها وم تكن إذا طرأت تستسلم 
هاء ما عسى أن يقول في ذلك؟ إِنْ قلب الأمّ الخريح 
الذي لا يعرف عنه إلا شذرات وقع عليها ضمن 


مطالعاته, شد ما يتألم لحاء ثم ما وراء عائشة وتحديجة؟ 
هل يمكن أن تُرمى عائشة ببرود نحو ذكرى فهمي؟ لا 
يتصور هذا ولا يطيقه. إنها امرأة سليمة الطويّة وفي 
قلبها متسع للصداقة والمودةء تميل فيما يبدو ولها 
عذرها ‏ إلى تبرئة مريمء ولعلّها تحن إلى عهدها ببذا 
القلب المفتوح للناس حميعاء أمَا نديجة فقد ازدردتها 
الحياة الزوجيّة» لم تعد إِلَّا أمّا وربّة بيت؛ لا حاجة بها 
إلى مريم أو غيرهاء لم يبقّ لها من ماضيها إلا عواطفها 
الثابتة نحو أسرتهاء نحو أمّها خاصّة: فهي تدور حيث 
تذور» ما أعجب هذا كلها 

- وأنت يا مي ياسين إلامّ تبقى أعزب؟ 

وجّه إبراهيم هذا السؤال إلى ياسين. مدفوتًا برغبة 
صادقة في تنقية الحو ما شابة. فأجابه ياسين مازحًا: 

غادوق الكبنات :ومضئ: الأمرا 

شان 2 كوقى زلميكة يدل دلت على أنه ل 
يفطن إلى ما في قول ياسين من مزاح : 

- لقد تزؤجت وأنا في مثل سنك تقريباء ألبيت ىق 
الثامئة والعشرين؟ 

فتضايقت نخديجة من ذكر سنْ ياسين الذي كشف 
بطريقة غير مباشرة عن ستهاء فخاطبت ياسين قائلة 
بلهجة حاذة : 


عزوبيتك؟ 
فقال ياسين راميًا - قبل كل شيء - إلى التودّد إلى 
أميئة : 


- مرّت بنا أعوام أَنّست الإنسان رغائبه! 

ارتدٌ رأس خديجة إلى الوراء. كأنما دفعته قبضة يد, 
لم رمته بنظرة كأنا تقول «غلبتني يا شيطان». ثم 
قالت وهي تتنيك : 

- آه منك! قل إِنْ الزواج لم يعد يروقك وهو 
الأصدق! 

فقالت أميئة ممتئة لتودّده : 

- ياأسين رجل طيب, والرجل الطيّب لا يمتنم عن 
الزواج إلا مضطرّاء الحقّ آن لك أن تفكر في استكيال 
دينك , , 


يا طالما فكر في استكيال دينه, لا ليجرّب حظّه من 
جديد فحسب ولكن رغبة في رذ الإهانة التى لحقت به 
يوم اضطرٌ ‏ بدافع من أبيه - إلى تطليق زينب إنفاذا 
«لشيئة» أبيها محمّد عفْت!! ثم كان مصرع فهمي 
فصرفه عن التفكير في الزواج حتّى كاد يالف هذه 
الحياة الطليقة ويعتادها. غير أنه قال لأمينة» وكان 
يؤمن بما يقول: 

- لا بد مما ليس منه بذ وكل شيء رهن بوقته. . . 

قطع عليهم أفكارهم دغثة ضحجّة وصياح وضوضاء 
جاءت من ناحية السلّم. مختلطة بوقع أقدام متدافعة. 
فاتنمهت الأبصار متسائلة نحو باب السلّمء وما هي إِلَا 
لحظة حبّى ظهرت أمّ حلفي على عتبة الباب عايسة 
لاهئة. وهي تصيح : 

الأولاد يا سيّى» مبى عبد المنعم وسبي رضوان 
متشابكان» رموني بالحصى وأنا أخلص بيهما. . . 

قام ياسين وخديجة, فهرعا إلى الباب» ثم نفذا إلى 
السلّى ومضت دقيقة أو دقيقتان عادا بعدهاء ياسين 
قابضًا على يد رضوانء وخديجة دافعة أمامها عبد 
المنعم وهي تلكمه برحمة في ظهره. ثم تتابعت البفية 
مهللة. فجَرّتٌ نعيمة إلى أبيها خليل» وعثمان إلى 
عائشة, ومحمّد إلى جدّته أمينة. وأحمد إلى أبيه 
إبراهيم, ثم جعلت خديجة تنتهر عبد المنعم وتنذره 
بأنه لن يرى بيت جده مرّة أخرى». حبّى صاح بصوت 
بالك وهو يشير منّهمًا إلى رضوان الذي جلس بين أبيه 
وكيال : 

- قال إثْهم أغنى منا. . . 

فصاح رضوان محتجا : 

هو الذي قال لي إثّم أغنى منّاء وقال أيضًا: 
إثهم يملكون بوابة المتوي بكنوزها! 

فطيّب ياسين خاطرهء وهو يقول ضاحكا: 

اعذره يا بىّ. نه مرّاع مثل أمّه. . . ! 

فقالت نحديجة لرضوان. وهي لا تتالك نفسها من 
الضحك : 

داتتشاتدران :عل يزان المتول 5 .فندك. يا سعد 


قصر الشوق ه6٠‏ 


باب النصر وهي قريبة من بيت جذك. فخذها ولا 
تتشاجر! 

فقال رضوان. وهو بهرٌ رأسه بإباء : 

- فيها أموات لا كلوزء فلياخذها هوا 

عند ذاك علا صوت عائشة». وهي تقول برجاء 
وإغراء : 

صِلُّوا على النبىّ؛ أمامكم فرصة نادرة كي 
تسمعوا نعيمة وهي تعْبى ما رأيكم في هذا 
الاقتراح؟ . . . 

فجاءها الاستحسان والتشجيع من أركان الصالة 
جميعا. حتّى رفع خليل نعيمة بين يديه ووضعها علل 
حجره. وهو يقول ها «أسمعي هذا الجمهور صوتك , 
ا 1 كن 
الجا 6 ولكق تعيمة غلت غليها التجل + قدفت 
وجهها في حجر أبيها حيّى لم يعد يبدو منه إلا هالة من 
نضار الذهب. وحانت من عائشة التفاتة» فرأت محمد 
وهو يحاول عبئًا أن ينزع الشامة من نحدّ جدّته. وقامت 
إليه وعادت به إلى مجلسها رغم ممانعته, ثُمم واصلت 
تشجيع لعيمة على الغناء, وال انها ساون على 
همست الصغيرة في أذن أبيها بأئها لن تغني إلا إذا 
توارت عن الأنظار وراء ظهره.» فسمح لما بما أرادتى 
فزحفت على أربع حتّى لبدت بين ظهره ومسئند 
الكنبة... وعند ذاك شمل الصالة سكون باسِم 
مترقب» وامتدّت فترة السكوت فأوشك خليل أن يفقد 
صبره ) ولكنٌّ صرنًا رفيعًا لطيفا بدأ يتكلم فيا يشبه 
الهمسء ثم أخذ يتشبجّع رويذا رويدّا» حيّى سرت في 
نيراته الحرارة فعلا مغنيًا: 
داه من هنا وتعال 
يا اللي أناوانت نحبٌ بعضنا 

وراحت الأيدي الصغيرة تصِمْق على إيقاعه. 


عندتناأا 


500 

آنَ لك أن تخبرني عن المدرسة التى تسوي 
الالتحاق مها, . . 

كان السيّد أحمد عبد الجواد متربَعًا على الكنبة 


5 قصر الشوق 


بحجرة نومهء على حين جلس كبال على طرفها المواجه 
للباب شابكًا ذراعيه على حجره يكتنفه الأدب 
والطاعة. ود السيّد لو يجيبه الفتى قائلا: «الرأي رأيك 
يا أبي». بيد أنه كان مسلًا بأنْ اختيار المدرسة ليس 
من الأمور التي يدّعي لنفسه فيها حمًا مطلقّاء وأن 
موافقة الابن عامل جوهريّ في الاختيار. إلى أنْ مدى 
علمه بالموضوع كلّه كان محدودًا جذدَّاء وقد استمدٌ 
أكثره مما يثار أحيانًا في بعض مجالسه بين أصحابه من 
الموظفين والمحامين المذين أجمعوا على الإقرار بحن 
الآبن في اختيار نوع دراسته تفاديًا من الإخفاق 
والفشل. لهذا كله لم يستنكف أن يجعل الأمر شورى 
مسلا أمره إلى الله, , . 

- نويت يا بابا بإذن الله وبعد موافقة حضرتك 
طعا الالتفاق عدرسة المعلميق: العليا! 

نذت عن رأس السيّد حركة موحية بالانزعساج, 
وانسعت عيناه الزرقاوان الواسعتان؛. وهو يحصدج ابنه 
بغرابة» ثم قال بنبرات ناطقة بالاستنكار: 

- المعلّمين العليا!... همدرسة المجائيّة! اليس 
كذلك؟ 

فقال كيال بعد تردد: 

رما لا أدري كا عن هذا الموضوع . 2 

فلوّح السيّد بيده مستهزئًاء كأثما أراد أن يقول له: 
«ينبغي أن تتجمّل بالصبر قبل أن تقطع برأي فيها ليس 
لك به علم»ء ثم قال بازدراء : 

- هي كما قلت لك. ولذلك يندر أن تهذب أحدًا 
من أولاد الناس الطيّبينء ثم إن مهنة المعلّم. .. 
أندري شيئًا عن مهنة المعلّم أم أن عِلْمك بها لا يعدو 
علمك بمدرستها؟ هي مهنة تعيسة لا تحوز احترام أحد 
من الناس» إني عليم بما يقال عن هذه الشئونء» أما 
أنت فغر صغير لا تدري من أمور الدنيا شيئاء هي 
مهنة يختلط فيها الأفندي بالمجاورء خالية من كل 
معاني العظمة والجلال» ولقد عرفت أناسًا من الأعيان 
والموظفين المحترمين يأبون ‏ الإباء كله أن يزوجوا 
بناتهم من معلّم مهما تكن مكانته. . . 

ثم بعد أن تجشأ ونفخ طويلا : 


- فؤاد بن جميل الحمزاوي؛ وهو من كنت تخلع 
عليه البالي من بِذَّلِكَ سيلتحق بمدرسة الحقوق. ولد 
ذكيّ متفوّق ولكنّه ليس أذكى منك, وقد وعدت أباه 
بالمعاونة في تسديد مصروفاته حي تتحقّق له المجانيّة 
فكيف أنفق على أولاد الناس في المدارس المحترمة 
واببي يتعلّم بالمجان في المدارس الحقيرة؟!. . 

كان هذا التقرير الخطير عن «المعلم ورسالته» 
مفاجأة مزعجة لكبال. ل هذا التحامل كلّه؟ لا يمكن 
أن يرجع ذلك إلى علم المعلّم الذي هو تلقين العلمى 
فهل يرجع إلى مجانية المدرسة التي تخرجه؟ لم يكن 
بتصور أن يكون للهنى أو للفقر دحل في تقدير العلم 
أو أن يكون للعلم قيمة خارجة عن ذاته. كان يؤمن 
بذلك إهِانًا عميقًا لا يمكن أن يتزعزع. كما يؤمن 
بكفالة الآراء السامية التى يطلع عليها في مؤلفات 
رجال يحبهم ويعتز بهم. مثل : المنفلوطي » والمويلحي 
وغيرهما. كان يعيش بكل قلبه في عالم «المثال» كما 
ينعكس على صفحات الكتبء فلم يتردّد فيا بينه 
وبين نفسه عن تخطئة رأي أبيه رغم جلاله ومكانته من 
نفسهء معتذرًا عن ذلك بجناية المجتمم المتأخر علي 
وأثر «الجهلاء» من أصحابه فيه. وهو ما أسفف له كل 
الأسفء بيد أنه لم يسعه إلا أن يقول ملتزمًا غاية ما 
يستطيع من الأدب والرقّة وكان في الواقم يردّد نضا 
من مطالعاته : 

العلم فوق الحاه والمال يا بابا. . . 

ردّد السيّد رأسه بين كمال وبين صوان الملابس. 

كأما يُشهد شخصًا غير منظور على خرق الرأي الذي 
سمع. م قال باستياء : 

حمًا؟! عشت حيّى أسمع هذا الكلام الفارغ. 
كأنَّ ثمّة فرقًا بين الجخاه والعلم! لا علم حقيقئَ بلا 
جاه ومال. ثم ما لك تتكلّم عن العلم كأنّه علم 
واحد! ألم أقل لك إِنْك غرّ صغير؟ هنالك علوم لا 
علم واحد. للصعاليك علومهم؛ وللباشسوات 
علومهم. افهم يا جاهل قبل أن تندم! 

كان على يقين من احترام أبيه للدين ولأهله بالتالي» 
فقال بمكر: 


- إن الأزهريّين يتعلّمون كذلك بالمجّان ويشتغلون 
بالتدريس. ولكنّ أحذا لا يستسطيسع أن يحتقر 

فأومأ له بذقنه باحتقار» وهو يقول: 

الدين شىء. ورجال الدين شىء آخر! 

فاك سك اقرز لانن قر معي باعل فاه 
الرجل الذي لم يتعوّد إِلّا طاعته : 

- ولكنّك يا بابا تحترم علماء الدين وتحبّهم ! 

فقال السيّد بلهجة لم تخل من حدّة : 

لا تخلط بين الأمورء أنا أحترم الشيخ متولي عبد 
الصمد وأحيّه كذلك. ولكن أن أراك موملمًا عصرمًا 
أحَبّ إل من أن أراك مثله.؛ ولو سرت بالبركة بين 
الناس ودفعت عنهم السوء بالأحجبة والتعاويل. . . 
لكل زمان رجالء ولكنّك لا تريد أن تفهم! , 

تفخخص الرجلٌ الشابٌ ليسبر أثر كلامه فيه فغض 
كال بصره؛ وعض على شفته السفل» وجعل يرمش» 
ويحرّك زاوية فيه اليسرى في عصبيّة. يا عجبًا! أهذا 
الحاضر يصرٌ الناس على ما فيه ضرر عقّق هم؟ 
وأوشك أن ينفجر غاضبًاء ولكنّه تذكر أنه إنما يعالج 
أمرًا خارجًا عن نطاق سلطته المطلقق فكظم غيظه, 
وساءله : 

- ولكن ما الذي جعلك تتحمّس لدرسة المعلمين 
وحدها كائها استأئرت بالعلم كله؟! ما الذي لا 
يروقك في مدرسة الحقوق مثلا؟ أليست هي المدرسة 
التي تخرّج الكبراء والوزراء؟ أليست هي المدرسة التي 
تثقّف بعلومها سعد باشا وأضرابه من الرجال؟ 

ثم بصوت منخفض.» وقد عكست عيناه نظرة 
وا حمة : 

وهى المدرسة التى وقع اختيار المرحوم فهمي 
عليها بعد رويّة وتفكير» ولو لم يعاجله الأجل لكان 
اليوم من رجال النيابة أو القضاء. اليس كذلك؟ 

قال كيال بتأئر : 

جميع قولك حقٌ يا باباء ولكنّني لا أحبٌ دراسة 
القانون! 

ضرب الرجل كفًا بكفٌء وهو يقول: 


لا يحبا وما دخعل الحبٌ في العلم والمدارس؟! 
قل لى ماذا تحب في مدرسة المعلّمين؟ أريد أن أعرف 
أمارات الحسن التي فتنتك فيهاء أم أنت ممن يحبّون 
الرمامة؟ تكلم ها أنا مصغ إليك. . . 

ندّت عنه حركةء كأنه يستجمع قواه لإيضاح ما 
غمض على أبيه من الرأي» ولكنه كان مسليًا بصعوية 
مهمّتهء ومقتنعًا في الوقت نفسه بها ستجرٌ عليه مزيدًا 
من السخريات التي ذاق أمثلة منها فيما سلف من 
النقاش. وفضلًَا عن هذا كلهء فلم يكن يستبين هدمًا 
واضحًا محدّدًا حبّى يستطيع بدوره أن يوضحه لأبيه 
فا عسبى أن يقول؟ في وسعه إذا تأمّل قليلا أن يعرف 
نالا بيولكيو قليمى القناكون مشهه زلا الاكتمينان درل 
الجغرافيا ولا التاريخ ولا اللغة الإنجليزيّة وإن كان 
يقدّر أهمّيّة الملّتين الأخيرتين لما يتطلع إليى هذا ما لا 
يريدء فا الذي يريد؟ إن في نفسه أشواقا تحتاج إلى 
عناية وتأمّل حي تتضح أهدافهاء ولعلّه غير متوكد من 
أنه سيظفر بها في مدرسة المعلّمين, وإن رجح عنده أن 
تكون ‏ هذه المدرسة ‏ أقصر سبيل إليها. أشواق تبزها 
مطالعات شىّ لا تكاد نجمعها صفة واحدة: مقالاات 
أدبيّة» واجتاعيّة. ودينيّة)» وملحمة عنترء وألف ليلة 
وليلة» والحماسة. والمنفلوطي» ومبادئ الفلسفة. إلى 
أئْها رئما لم تكن مقطوعة الصلة بالأحلام النيى كاشفه بها 
ياسين قدياء بل والأساطير التى سكبتها في روحه أمّه 
من قبل ذلك. . . كان يحلو له أن يطلق على هذا العالم 
الغامض اسم «الفكره. وعلى نفسه اسم «المفكر). 
فيؤمن بأنْ حياة الفكر أسمى غايية للإنسان تتعالى 
بطبعها النورانَ على المادّة واللحاه والألقاب وسائر ألوان 
العظمة الزائفة. . . هي كذلك!! وضحت معلمها أم 
لم تنّضحء فاز بها في مدرسة المعلّمين أم لم تكن هذه 
المدرسة إلا وسيلة إليهاء لا يملك عقله أن يتحول عن 
هذه الغاية أبدّاء ولكن من الحقّ كذلك أن يقرٌ بأن 
ثمَة صلة قويّة تربطها بقلبه أو بالحريّ بحبه! كيف 
كان ذلك؟ ليس بين «معبودته» وبين القانون أو 
الاتتصاد من سبب» ولكن ثمّة أسباب وإن دقت 
وخفيت بينبا وبين الدين والروح والخلق والفلسفة وما 


4 قصر الشوق 


شاكل ذلك من المعارف التي يستهويه الغبل من 
منابعهاء على نحو يشبه ما بينها ويبن الغناء والموسيقى 
من أسرار يتشوف إليها في هزة الطرب وأريحيّة النشوة, 
نه يجد هذا كله في نفسه ويؤمن به كل الإيمان» ولكن 
ما عسى أن يقول لأبيه؟ لجا مرة أخرى إلى المكرء وهو 
يقول: 

إن مدرسة المعلّمين تدرّس علومًا جليلة» كتاريخ 
الإنسان الحافل بالعظات. وكاللغة الإنجليزية! 

كان السيّد يتفخخصه وهو يتكلّم. وإذا بمشاعر 
الاستياء والحنق ترايله فجأة. تأمّل - وكأنه يراه لأوّل 
مرّة - نحافته وضخامة رأسه وكير أنفه وطول عئقه, 
فوجد في منظره غرابة تضاهي ما في آرائه من شذوذ, 
وأوشكت روحه الساخرة أن تضحك في باطنهء ولكنّ 
عطفه وحبّه أبيا عليه ذلك. غير أنّه تساءل فيها بينه 
وبين نفسه! النحافة ظاهرة مؤقّتة الأنف عندي 
مصدرهء ولكن من أين له هذا الرأس العجيب؟ 
اليس من المحتمل أن يعرض له شخص - مثلٍ - تمن 
ينقبون عن العيوب صيدًا لمزاحهم؟ ضايقته هذه 
الفكرة مضايقة ضاعفت من عطفه عليه فعندما تكلم 
جاء صوته أهدأ نيرة وأدن إلى الحلم والنصحء قال: 

العلم في ذاته لا شيء. والعبرة بالنتيجة» القانون 
يفضي بك إلى وظيفة القضاءء أما التاريخ والعظات 
فمؤدّاها أن تكون معلا بائسّاء عند هذه النتيجة قف 
طويلا وتأمّل (ثُمّ ونبرات صوته تعلو قليلًا في شيء من 
الحذة) لا حول ولا قؤة إلا بالله. عظات وتاريخ 
وسخام» هلا حذثتي بكلام معقول؟! 

توزّد وجه كال حياء وألمًا وهو يستمع إلى رأي أبيه 
في المعارف والقيم السامية التي يقدّسهاء وكيف 
استنزلها إلى مستوى السخام وقرها به؛ غير أنه لم يعدم 
عزاء فيا ورد ذهنه ‏ في لحظته تلك جليل دون 
شكُ؛ إلا أنه ضحيّة زمان ومكان ورفاق. ترى هل 
يمجدي معه النقاش؟ هل يجرب حظه مرّة أخرى 
مستعيئًا بمكر جديد؟ 

- الواقع يا بابا أن هده العلوم تحوز أكبر التقدير في 
الأمم الراقية؟ إِنْ الأوروبيّين يقدّسونهاء ويقيمون 


التماثيل للنابغين فيها! 

حوّل السبّد وجهه عنه. ولسان حاله يقول: «اللّهمَ 
طؤّلك يا روح؛» بيد أنه لم يكن غاضبًا حمّاء ولعلّه 
رأى الأمر كله مفاجأة مضحكة لم تخطر له ببال؛ ثم 
أعاد إليه وجهه. وهو يقول: 

بصفتي والدك أريد أن أطمئنْ على مستقبلك. 
أريد لك وظيفة محترمةء هل يختلف اثنان في هذا؟ 
الذي بِهمّني حمًا أن أراك موظّفًا مهابًا لا مدرّسًا بائسًا 
وإن أقاموا له تمثالا كإبراهيم باشا أبي أصبع! يا 
سبحان الله! عشنا وشفنا وسمعنا العجب! ما لنا نحن 
وأوروبا؟! أنت تعيش في هذا البلد. فهل هو يقيم 
التماثيل للمعلّمين؟. . . دلّني على تمثال واحد لمعلم؟! 
(ثم بلهجة استنكارية) خثرني يا بنيّ: أتريد وظيفة أم 
عثالا؟ ! 

وليًا لم يجد إلا الصمت والارتباك» قال فيا يشبه 
الحزن: 

- في رأسك أفكار لا أدري كيف اندسّت إليه. إني 
أدعوك إلى أن تكون واحدًا من الرجال العظباء الذين 
ييزون الدنيا بجلالهم ومراكزهمء فهل عندك مثال 
تتطلّم إليه لا أدريه؟ صارحني بما في نفسك حي يرتاح 
بالي وأدرك غرضكء الحقٌ أن في حيرة من أمرك!! 

فليتقدّم خطوة جديدة يفصح بها عن بعض ما في 
نفسه وأمره للهء قال: 

- هل من العيب يا بابا أن أتطلّع إلى أن أكون 
كالمنفلوطى يومًا ما؟ 

قال السيّد بدهشة : 

- الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي !؟ رحمة الله عليه 
رأيته أكثر من مرّة في سيّدنا الحسين. .. لكنّه لم يكن 
معلًا فيا أعلم. كان أعظم من هذا بكثيرء كان من 
جلساء سعد وكتابه» ثم إِنه كان من الأزهر لا من 
العلسزن: ولا كان لاذه تف ومظيد: كان هنة قه 
الله. .. هكذا يقولون عنه!! نحن نبحث في مستقبلك 
والمدرسة التي ينبغي أن تدخلها ولندع ما لله لله؛ فإن 
كنتٌ أنت الآخر هبة من الله أيضًاء فستكون في عظمة 
المنفلوطي وأنت وكيل نيابة أو قاض ١‏ ا 


كيال» وهو يناضل في استيانة : 

لست أتطلّع إلى شخص النفلوطي فحسب ولكن 
إلى ثقافته أيضاء ولا أجد مدرسة هي أقرب إلى تحقيق 
غرضي» أو في الأقل إلى تمهيد السبيل إليه من مدرسة 
المعلمين: لذلك آثرتباء ليس بي من رغبة خاصّة في 
أن أكون معلاء بل لعلى لم أقبل هذا إلا لأنّه السبيل 
المتاح إلى ثقافة الفكر. . . 

الفكر؟ !. . . وردّد مقطع أغنية الحامولى «الفكر تاه 
اسعفيني يا دموع العين» الذي طالما أحبّه واستعاده 
فيا مضى من زمانه, أهذا هو الفكر الذي يسعى وراءه 
ابنه؟ سأله بدهشة : 

ما هي ثقافة الفكر؟ 

لت به الحيرة» فازدرد ريقه. وقال يصوت 
منخفض : 

لعل لا أعرفهاء (ثُمٌ يبتسم متودّدًا) لو كنت 
أعرفها لما كان بي حاجة إلى طلب تعلّمها! 

فسأله مستئكرًا: 

إذا كنت لا تعرفها فبأّ حقّ اخترتها؟.. 
هه ؟... هل مبيم بالضعة لوجه الله ؟ 

تغلب على ارتباكه بجهد شديد, وقال مدفوعًا 
باستاتته في الدفاع عن سعادته : 

- إِنْبا أكير من أن حاط مهاء إِثْها تبحث فيها تبحث 
عن أصل الحياة ومآها! 

تأمّله مليًا في ذهول قبل أن يقول: 

أمن أجل هذا تريد أن تضحًي بمستقبلك؟ أصل 
الحياة ومآها؟! أصل الحياة آدم» ومصيرنا إلى الخئة أو 
النار» أم جد جديد في ذلك؟ 

كلا أعلم هذاء أريد أن أقول... 

فعاجله قاثلا : 

هل جدنت؟ . . . أسألك عن مستقبلك» فتجيبني 
بأننك تريد أن تعرف أصل الحياة ومالها؟!... وماذا 
تعمل بعد ذلك؟. . . تفتح دكانًا لاستطلاع الغيب؟! 

حاف كيال إن هو استسلم للارتباك والصمت أن 
يُغلب على أمره أو يضطرٌ إلى التسليم بوجهة نظر أبيه» 


قصر الشوق 5:94 


- اعذرني يا بابا إذا لم أكن أحسنت التعبير عن 
رأبي » أريد أن أواصل دراسيي الأدبيّة التى بدأتها بعد 
الكفاءة. أن أدرس التاريخ واللغات والأخلاق 
والشعرء أمَا المستقبل فأمره بيد الله ! 

فهتف السيّد متهكمًا حانقاء وكأنما يتم سرد ما 
سكت كال عله : 

- وادرس أيضًا فنّ الحواة والقره جوز وفتح المندل 
لنت ون الفنت ل الال اللي قل اللي اكسورعنا 
تدّخر لي هذه المفاجأة؟ . . . لا حول ولا قوّة إلا بالل ! 

اقتنع السيّد أحمد بن الحال أخطر مما قذّرء فحار في 
أمره» وجعل يسائل نفسه: أأخطا فيها أباح لابنه من 
حرَّيّة القول والرأي؟ كلبا مدّ له في حبل الصبر 
والتسامح لح الآخر في العناد وتمادى في الصدل. .. 
وما لبث أن قام في نفسه صراع بين نزعته الاستبدادية 
وبين تسليمه بحقٌّ «اختيار المدرسة».» حرصًا عل 
مستقبل كال من ناحية وكراهية للانهزام من ناحية 
أخرى» ولكنّه انتهى على غير عادته ‏ أو بالأحرى على 
غير عادته في الزمن القديم ‏ بتغليب الحكمة. فعاد إلى 
النقاش وهو يقول : 

لا تكن غرّاء ثمّة ثىء في عقلك لا أدريه أسأل 
اا 
حياتك التى لن تكون لك حياة غيرهاء فكر في الأمر 
طويلُاء الحقوق خير مدرسة لكء إن أفهم الدنيا خير 
منك. ولي أصدقاء من كافة الطبقات ولا حلاف بينهم 
في ذلك. أنت طفل أحمق. ألا تدري ما هي الثيابة 
زما هو الثقيناء؟ هده وطائف :ع الأرضن. ها وق 
وسعك أن تتبوًأ واحدة منهاء كيف تُعرض عنها بكل 
ساظة وار ان: تون ععلً؟! 

شد ما يتأم - لا غضبًا لكرامة المعلّم فحسب - 
ولكن غضيًا لكرامة العلم أوَلّا وأخيرّاء العلم الحقيقئ 
في نظره! لم يكن حسن الظنْ بالوظائف التي جمز 
الأرض هراء فطالما وجد الكتّاب المسيطرين على روحه 
يطلقون عليها العظمة الزائفة والمجد الزائل وغير ذلك 
من نعوت الاستهانة والاستخفاف. فآمن ‏ تبعا 
لأقوالهم ‏ بالا عظمة حقيقيّة إلا في حياة العلم 


٠‏ قصر الشوق 


والحقيقة؛ واقترنت من ثم كل مظاهر السلطان والحاه 
في ذهنه بالزيف والتفاهة» غير أنه تحاشى الإفصاح عن 
إيمانه هذا أن يستفحل غضب أبيه» وقال برقة وتودّد: 

على أ حال مدرسة المعلّمِين مدرسة عليا! 

تفكر السيّد ملياء ثم قال متبرمًا يائسًا: 

إذا لم تكن بك رغبة في الحقوق. وبعض الئاس 
يعشقون التعاسة. فاختر مدرسة محترمة: الخربية. 
البوليس... وشيء سخير من لا شيء! 

فقال كيال منزعجا: 

أدخل الحربيّة أو البوليس وقد نلت البكالوريا؟ 

ما حيلتي إذا لم يكن لك في الطبٌ نصيب؟! 

عند ذاك شعر بضوء آت من ناحية المرآة أقلق عينه 
اليسرىء. فمدٌ بصره صوب الصوانء» فرأى أشغعة 
شمس العصر الائلة المتسربة إلى الحجرة من النافذة 
المطلة على الفناء. وقد زحفت من الجدار المواجه 
للفراش حيّى غيّبت جانب المرآة» مؤذنة باقتراب موعد 
الصرافه إلى الدكّان؛ فتزحزح قليلا مبتعدًا عن الضوء 
المنعكس. ثم نفخ نفخة وشت بضيقه وأنذرت - أو 
بشّرت ‏ في الوقت نفسه بوشك انتهاء الحديث. 
وتساءل واجما: 

ألا توجد مدرسة أخحرى غير هذه المدارس 
المغضوب عليها؟ 

فقال كيال وهو يعض بصره حرجا لعجزه عن 
إرضاء أبيه : 

- لم يبقّ إِلّا مدرسة التجارة ولا أرب لي فيها! 

ومع أنَّ مبادرته إلى الرفض أحنقته. إلا أنه لم يجد 
فين نميه اليكو اللوية اللديدة إل الفعرو» لطن آنا 
إنا تحرّج «تجارًاف ولم يكن يرضى لابنه أن يكون 
تاجرًا. لم يغب عن علمه أوّل الأمر أنَّ متجرًا كمتجره 
وإن هيأ له حياة صالحة ‏ فإنه أعرّ من أن ممبوع هذه 
الحياة لمن يخلفه فيها من أبنائه إذا روعي ما سيفرّق من 
دخله على بقيّة المستحقين. فلن يعمل على إعداد أحد 
بيه لحكل على خجل أن دلبلكف ل يكن الست 
الجوهري لفتوره» كان في الحنّ يكبر الوظيفة والموظفين 
ويدرك خخحطرهم ومنزلتهم في الحياة العامّة كها لمس ذلك 


نفس سواء في أصدقائه من الموظفين أو في بعض 
اتتصالاته الحكرميّة المتعلّقة بعمله. فأراد أبناءه على أن 
يكونوا موطّفين وأعدّهم لذاك, كذلك لم يكن يخفى 
عليه أن التجارة لا تحظى بربع ما تحظى به الوظيفة من 
التقدير في نظر الناس وإن أتخخلفت أضعافها من المال. 
وهو نفسه شارك الناس شعورهم وإن لم يعترف بذلك 
بلسانهء بل كان يعترٌ بإكبار الموظفين له فيعدٌ نفسه من 
الناحية «العقليّة» موظّفًا أو ندا للموظفين؛ ولكن من 
غيره يسعه أن يكون تاجرًا وندًا للموظفين معًا؟ ومن 
أين لأبنائه بشخصيّة مئل شخصيّته؟! آه يا لها من 
خيبة أمل] كم تم قديما أن يرى ابنًا من أبنائه طبيباء 
وكم ناط بفهمي أمنيته حبّى قيل له إن البكالوريا 
الآداب لا تؤذي إلى مدرسة الطب فرضى بالحقوق 
واستبشر بما بعدها خيراء ثم علّق أمله بكبال فاختار 
قسم الآداب فعاد الرجل يحلم بما بعد الحقوق» ولكنه 
لم يتصور قط أن تنجلي المعركة بين آماله وبين الأقدار 
بوفاة «نابغة» الأسرة» وبإصرار كمال على أن يكون 
معلا! أي خبيبة أمل! وبدا السيّد حزيئًا حمّاء وهو 
يقول: 

لقد أخلصت لك النصيحة وأنت حرٌ فيها تختار 
لنفسك. ولكن ينبغي أن تذكر دائمًا أنني لم أوافقك 
على رأيك, فككر في الأمر طويلا؛ لا تتعيجل. فما يزال 
أمامك فسحة من الوقت وإلا ندمت على سوء اشتتيارك 
مدى الحياة» أعوذ بالله من الحمق والجهل والسخف!! 

وطرح الرجل رجله على الأرض آتيّا حركة دلت 
على شروعه في القيام لياخذ أهبته لمغادرة البيث» 
فنبض كيال في أدب وحياء؛ وانصرف. 

عاد إلى الصالة فوجد أمّه وياسين جالسين 
يتحادثان. وكان مُوزّع النفس كاسف البال لمعارضته 
لأبيه ولإصراره على معارضته رغم ما أبدى الرجل من 
حلم ولين؛ ثم لما بدا عليه أخيرًا من ضيق وحزن. 
فقصٌ على ياسين خلاصة ما دار في الحجرة من 
نقاش. وأنصت إليه الشابٌ وعلى جبهته علامة 
احتجاج وعلى شفتيه ابتسامة سائخمرة: وسرعان ما 
صارحه بأنه من رأي السيّد وأنّه يعجب هله للقيم 


الجليلة في هذه الحياة. وتطلعه لأخرى وهميّة أو 
سخيفة . تريد أن تجود بحياتك للعلم؟ ما معنى هدا؟! 
نه سلوك رائع ىا يبدو في فصل من فصول المنفلوطي 
أو في نظرة من نظراته» أمّا في الحياة فه| هو إلا عبث لا 
يقدّم ولا يؤخرء وأنت تعيش في الحياة لا في كتب 
المنفلوطي . . . أليس كذّلك؟ الكتب تقرّر أمورًا غريبة 
قارف مثال ذلكء أنّك تقرأ فيها أحيانًا وكاد المعلم 
أن يكون رسولا»» ولكن هل صادفت مرّة معلمًا يكاد 
00 تعال معي إلى مدرسة النحّاسين أو 
تذكّر من تشاء من معلّميك. ودلّني على واحد منهم 
يستحقّ أن يكون آدميًا لا رسولًا! وما هذا العلم الذي 
تريد؟ أخلاق وتاريخ وشعر؟ كل أولئك جميل 
للتسلية» حاذر من أن تفلت من يديك فرصة الحياة 
الرفيعة» كم أتحسّر أحيانًا على معاكسة الظروف التي 
حالت بيني وبين مواصلة الدراسة! 

تساءل عندما خلا إلى أمّه على أثر ذهاب الأب 
وياسين. ترى ما رأيها؟... لم تكن تمن يؤخذ رأعءيم 
في مثل هذا الأمرء بيد أثْها تابعت أكثر حديثه مع 
ياسين, إلى أئّبا كانت على علم برغبة السيد في إلحاقه 
بمدرسة الحقوق» الأمر الذي باتت تتطيّر منه فلم ترتح 
إليه» على أنْ كيال كان يعرف كيف يظفر بموافقتها من 
أقصر سبيل» قال طا: 

إن العلم الذي أرغب في دراسته وثيق الصلة 
بالدين؛ ومن فروعه: الحكمة والأخلاق» وتأمل 
صفات الله وكنه آياته ومخلوقاته! فتطلّق وجه أمينةء 


وقالت بحياس : 
أجل العلوم ! 


وفككرت قليلًا وهو ينظر إليها من طرف خفي 
باسياء ثم عادت تقول بنفس الحياس : 

منذا الذي يحتقر المعلّم يا بني؟ ألم يقولوا في 
الأمثال «من علمنئي حرفا صرت له عبدًا»؟ 

فقال مردّدًا حبّة أبيه الذي هاجم بها اختياره. 


وكأنمًا يستوهبها رأيًّا يؤكّد به موقفه: 


قصر الشوق ١١‏ 


- ولكتهم يقولون إن المعلم لا حظ له في المناصب 
الرفيعة ! 

فلوحت بيدها باستهانة قائلة : 

- المعلّم موفور الرزق. أليس كذلك؟ حسبك 
هذاء إن أسأل الله' لك الصححة وطول العمر وصالح 
العلم. كان جدّك يقول: «إِنْ العلم أعرّ من المال»! 

أليس عجيئًا أن يكون رأي أمّه خيرًا من رأي أبيه؟ 
ولكنّه ليس برأي» إِنَّه شعور سليم» لم تفسده مارسة 
الحياة الواقعيّة التي أفسدت رأي أبيه. ولعل جهلها 
بشكون العالم هو الذي صان شعورها عن الفساد؛. ترى 
ما قيمة شعور ‏ وإن سما إذا كان مصدره الجهل؟ 
وألا يكون لهذا الجهل نفسه أثره في تكوين آرائه؟. . 
ثار على هذا المنطق» وقال يحاوره: إنه عرف الدنيا 
خيرها وشرّها في الكتب وآثر الخير عن إيمان وتفكير, 
وقد يلتقي الشعور الفطريّ الساذج بالرأي الحكيم 
دون أن تمبوي سذاجة الفطرة من أصالة الحكمة. 
أجل! إِنْه لا يشك لحظة في صدق رأيه وجلاله» ولكن 
هل يدري ماذا يريد؟ ليست مهنة المعلّم بالتي تجذبه 
إِنّه يحلم أن يؤلّف كتابًاء هذه هي الحقيقة, أي 
كتاب؟ لن يكون شعرّاء إذا كانت كرّاسة أسراره 
تحري شعرّاء فمرجع ذلك إلى أنْ عايدة تحيل الشثر 
شعرًا لا إلى شاعرية أصيلة فيهء فالكتاب سيكون 
نثرّاء وسيكون ملّدًا ضح في حجم القرآن الكريم 
وشكله؛ وستحدق بصفصاته هوامش الشرح والتفسير 
كذلك؛ ولكن عم يكتب؟ ألم يح القرآن كل شيء؟ لا 
ينبغي أن ييأس» ليجدنْ موضوعه يومًا ماء حسبه الآن 
أنه عرف حجم الكتاب وشكله وهوامشه. اليس 
عانم لاضن اين وظلفة ونتعزت الأرقوة' 
كل المتعلمين يعرفون سقراط» ولكن من منهم يعرف 
القضاة الذين حاكموه؟! 


مياه التو 
لا نجيب! هذا ما قدّرته وما أنا به عليم. قوع 
البداية دائعًا. . . منذ قديم وإلى الأبدء ها هي توليك 


قصر الشوق 


ظهرهاء ابتعدت عن الحائط نحو حبل الغسبل» حبك 
المشابك, ألم تحبكيها من قبل؟ . . . بلى ولكنّك تدارين 
موقفك, إن أفهم كل الفهم. عشرة أعوام في المجون 
ليست بالخيرة القليلة متع عينيك بمنظرها قبل أن 
يستقرٌ الظلام الزاحف فلا تبدو إلا شبحاء سمنثُ 
واكتنزث» زادت حسنًا عا كانت أيّام صباها. كالغزال 
كانت ولكتها لم تكن تملك هله الأرداف العبلة, 
رويدًا... لم يزل ها من رشاقة البكارة نصيب محترم, 
ما عمرك يا شاطرة؟ زعم أهلك قديمًا ألك في سن 
خديجة. رأي نخخديجة أنك تكيريهها بسئوات وسنوات. 
امرأة أبي تؤكد هذه الأيّام أنّك في الثلاثين مستشهدة 
بذكريات قديمة من نوع: أيَام كنت حبلى في خديجة 
كانت صبيّة في الخامسة ألخ, ما قيمة العمر؟ هل أنت 
ستعاشرها حتى الكبر؟! في الأيام القصيرة تستوي 
الشابئة والنصف. حميلة وجذابة ومشبعة دسمة. آى 
نظرت صوب الطريق ولحظتك. أرأيت مقلتها وهي 
تلحظك كالدجاجة؟ لن أبرح موقفي يا مليحة» فتى 
تعرفين الشبىء الكثير عن حماله وقوته وماله. أليس هو 
عران رك الإنجليزي القديم. . .؟ 

- هل التحيّة عندكم لا تستحقٌ ردًا ولو بمثلها؟ 

ولك قذاها مرّة أخرى. مهلا. . . آل تبتسم؟ بل 
ومن سوى جمالها فجعله فتنة. لقد ابتسمت» مههدت 
لهذه الخطوة الأخيرة فأحسنت التمهيدء لا شك أنبا 
تعلم بكل حركاتي ومناوراتي السابقة أنْ 0000 وَآنْ 
لك... من حسن حي أنك لست من المصابات 
بداء الحشمة. ذاك الإنجليريّ. .. جوليون» الحواد 
الكريم القائم أمامك موطأ المتن؛ ألا تسمعين 
جمحمته؟ 

- أليس للجار عندكم إكرام؟. . . إني أشحذك تمحيّة 
هي من :صميم احقوقي ! 

جاءه صوت رقيق خافت - بدا لتحؤل الوجه عنه 
كأنه آت من بعيد ‏ وهو يقول: 

0 08 

أجيب الطارق. رفعت سقاطة الباب. لن تظفر 
بالملاغاة حيّى تلعق الزجر. اثبت, الشبات. . 


الثبات. . . كما يبتف به المجاورون . 

إذا كان صدر مثئى ما أغضبك فلن أغتفره لنفسى 
ما حييثت؟ ْ 

هي في عتاب : 

- إِنّ سطح بيت أمْ علّء الداية» في مستوى 
سطحنا وسطحكم.ء ما عسى أن يظنّ الناظر إذا رأى 
موقفك مني وأنا أنشر الغسيل؟ . . . 

لم في تساؤل هازئ: 

- أم تريد أن تجعل مئي أحدوثة؟! 

بعد الشر عنك؟ هل راعيت هذا الحذر في موقفك 
مع جوليون في الزمن القديم؟ لكن مهلا. إن جمال 
عينيك وعجيزتك يغفر ما تقدّم وما تآخر من ذنبك! 

- لا أبقاني الله في الحياة لحظة واحدة إن كنت 
قصبلاتك يشنوء. لقد تتواريت» تحثك: .سُقيقة” الياسمين 
حتّى غابت الشمسء ولم أقترب من السور حيّى ثبت 
علدي خلو سطح أمْ عل الداية. . 
م وهو يتنهد بصوت مسموع : 

- وعذري بعد ذلك أني واليت صعود السطح أبذأ 
كي أظفر بهذه الخلوة... فلا وجدتما الساعة 
استخمني السرور, وعلى أيّ حال ريّئا يستر. . . 

- عجيبة!. . . لم هذا التعب كله؟ 

سؤال لا يبعث عليه الجهل. يسالنَ عا يعرفنَ 
ارتضت أن تحاورك فاهنا بحوارها. . . 

- قلت لنفسي: أن تميّيها وتردٌ تحيّتك ألذّ من 
الصحة والعافية! 

التفتت إليه برأس دلت حركته في شبه الظلام على 
تكتم الضحك, وقالت: 

- لسانك أطول من جسمك» ترى ماذا وراء 
كلامك؟ 

- وراعه؟ ! , هلا اقتريت من السور؟ عنديى حديث 
طويل. منل أيَام وأنا أغادر البيت إلى الطريق». لاحت 
متي التفاتة إلى الأرض فرأيت ظل يد تتحرّك. فنظرت 
إلى فوق فرأيتك مطلة من السورء رأيت منظرًا جميلا 
لفك اند سف 

دارت على عقبيها ولكتّها لم تقترب خخطوة» ثم قالت 


للدم هن لاما / 
- كيف تنظر إلى فوق!؟... ولو كنت جارًا حمًا 
كما تقول ما سمحت لنفسك بأن ترح جارتك, 
ولكئك سيوع النيّة فيا بدا منك باعترافك فيما يبدو 
منك الساعة! 
نوق اله رجت تزلاقة د الس الشنيق خون سوبد اللية» 
سوء نيّة من النوع الذي تحبيئه» آه من النسوان. بعد 
ساعة ستطالبين به كحقٌ من حقوقك. بعد ساعتين 
سأهرب وتَجدّين ني أثري. على أيّ حال ليلتنا فل. . . 
- ربّنا يعلم بحسن نيّتيء نظرت إلى فوق لأني لا 
أستطيع أن أمنع النظر عن مكان تكونين فيهء ألم 
تدركي هذا؟ ألم تشعري به؟ جارك القديم يتكلم وإن 
تأخر به الزمن . 
هارئة : 
تكلّم. أطلق الحرّيّة للسانك الطويل» ارفع 
صوتك. ماذا تفعل لو اقتحمت عليك السطح امرأة 
أبيك فرآتك ورأتني؟ 
لا تزوغي يا بنت اللبؤة» سيكون من المعجزات أن 
أطوي عقلك. أتخافين امرأة أبي حقًا؟ 1.. . . إِنَّ ليلة 
في حضبا تساوي العمر كله! 
سأسمم وقع الأقدام قبل مجيئهاء خلينا فيها نحن 
ما هذا الذي نحن فيه؟ 
- إِنْه يمل عن الوصف! 
لا أجد شيئًا مما تقول» لعل هذا ما أنت وحدك 
فيه ! 
والعلفع | 4ه لاقن ماسفك سما أسر ليت أن 
يتكلم قلب فلا يجد من يستجيب له. إن أذكر أيَام 
زياراتك لبيتنا. تلك الأيّام التي كنا فيها وكأئنا أسرة 
واحدة» وأنحسّر. . . 
غمغمت وهي تبزٌ رأسها: 
تلك الأيّام ! 
لم عدت إلى الماضي؟ أخطات خطأ كبيراء احذر أن 
يفسد عليك الألم جهدك كلهء ركز إرادتك كي تسسى 
كل شيء إِلّا الخاضر. . . 


قصر الشوق 1١1١1١‏ 


- ثم رأيتك أخييرًا فرأيت شابْة جميلة كالزهرة. 
تتطلع في ظلام الليل فتنوّرهء فكأنما أراك لأوّل عرّة 
ساءلت نفسي أتكون هذه جارتنا مريم التي كانت 
تلعب مع خديجة وعائشة؟ كلا... هُذْه فتاة اكتمل 
لها الحسن ونضج. وشعرت بأنْ الدنيا تتغيّر من 
حول. . 

قالت. وقد عاود صوعها عبته ؛ 

في تلك الأيّام لم تكن عيناك تستبيحان التطلّع إلى 
أحد!! كنت جارًا يمعنى الكلمةء ولكن ماذا بقى من 
تلك الأيّام؟ تغيّر كل شيءء عدنا كالأغراب» وكائنا ل 
نتبادل كلمة» ولم ننشأ معا نشأة الآسرة الواحدة. هذا 
ما أراده أهلك . 

دعينا من هذاء لا تحمّليني هما إلى هم. 

- اليوم تتطلّع بعينيك... في النافذةء وفي 
الطريق. وها أنت تقطع عل السطح! 

ماذا يمنعك من الذهاب إن كنث حقًا تريدينه؟ 
كذبك ألذّ من الشهد يا نور الظلام. . . 

- هذا قليل من كثير إن أتطلّع إليك أيضًا من 
حيث لا تدرين» وأراك في الخيال أكثر مما تتصورين, 
اقول للش الأنةناناتقن: تشعه اقول :10 التدت 
وإما الموت ! 

هسيس ضحكة مكتومة اهترٌ لها قلبه» ثم تساءلت: 

من أين لك هذا الكلام؟ 

أشار إلى صدرهء وهو يقول: 

من لبي 

مسحت بقدمها على أرض السطح محدثة بالشبشب 
حفيًا ينذر بالتحرّك ولكتّها لم تزايل موضعهاء وقالت: 

ما دام الأمر قد بلغ القلب» فينبغي أن أذهب! 
بحاس علا به صوته أوَلَا حيّى انتبه إلى نفسه 
فخفضه : 

بل يجب أن تأتي. أن تأت إِّء الآن وإلى 
الأبد. . (ثم بمكر) إلى قلبى . . . هو لك وما يملك! 

وبلهجة وعظية عابثة : 

لا تفط في نفسك على هذا النحوء حرام علّ أن 
امفرفاك تلياف ونا للفه. ... 


5 قصر الشوق 


إلى أيّ مدى ذهب بك الفهم؟ إني أخاطب فيك 
اللبؤة التى أحبّهاء لست بلهاء وحقٌّ ذكرى جوليون. 
تعالي يا بنت القديمة. أخاف أن أضيء في الظلام من 
شدّة النار التي تستعر في جسدي . . . 

هو وما يملك لك عن طيب خاطر: سعادته في أن 
تقبليه وتملكيه وأن تكوني له وحده! 

قالت ضاحكة : 

- أرأيت يا ماكر؟... تريد أن تأنحذ لا أن 
تعطي . . 

من أين لك مبذا اللسان؟ ولا زثوبة في زمانهاء 
لفون النانا ميق رلك 4 

- أريد أن تكوني لي كما أكون لك... أين الظلم 

في هذا؟ 

صمت,. ونظر متبادل بين الشبحين» حت قالت: 

- لعلّهم يتساءلون الآن عا أخرك! 

فقال مستعطفا بمكر: 

- ليس ثمّة في الدنيا من يهم بأمري ! 

عند ذاك غيّرت لهجتها متسائلة بجذ: 

كيف ابنك؟ . . , لا يزال عند جدّه؟ 

ماذا وراء هذا السؤال الغريب؟ 

ا دي 

ها عمره الآن؟ 

د خمس سلوات . . . 

وما أخبار والدته؟ 

- ِنْبا تزوجت أو ستتزوج في القريب العاجل. . . 

- خسارة!. . . ل ل تردّها ولو إكرامًا لرضوان؟ 

يا بنت اللبؤة!. . . أفصحي عما ترومين. . . 

أهذه رغيتك حمقًا؟ 

وهيى تضحك ضححة حافتة : 

يا ببخت من وفق رأسين في الحلال! 

وفي الخرام؟! 

- لكتني لا أنظر إلى الوراء. . 

ساد صمت بدا غريبًا مليئًا بالفكر. . . حيّى قالت 
صوث جمع بين التحذير واللين: 

- إِيَاك وأن تقطع عل السطح مرّة أخرى. 


فقال بجرأة : 

- أمرك مطاعء ليس السطح بالمكان المأمون, ألم 
تعلمي بأنْ لي بيتا في قصر الشوق؟! 

هتفت مستنكرة : 

بيتنك!. أهلا يا مي بيته! 

فسكت قليلاء كأثما يحاذر» ثم تساءل: 

حمنيى فيم أفكر؟ 

- لا شأن لي مبذا. . . 

صمتء ظلام. خلوةء ما أفظع تأثير الظلام في 
أعصاب . . . 

إني أفكر في سورّي سطحينا المتلاصقين. بم 
يوحي منظرهما إليك؟ 

- لا شيء... 

لا أحب سماع هذا الكلام. . . 

- تلاصقه) يذكّر أيضًا بأنه ليس ثمّة ما يفصل 

هيهأ 

ندّت عنها كاستدراج مليء بالوعيدء فقال ضاحكا: 

كأنهيا يقولان لى: اعبر! 

تراجعت خطوتين حتّى التصق ظهرها بملاءة 
منشورة ثم همست في تحذير جذّي : 

- لا أسمح بهذا! 

هذا. . . ما هذا؟ 

هذا الكلام . 

والفعل؟ 

- سأتركك غاضبة ! 

كلا وحياتك الغالية. . . أتعنين ما تقولين؟ أأنا 
أغبى مما أظنٌ؟ أم أنت أمكر مما أتصرّر؟ لم تكلّمتُ 
عن رضوان وأمّه؟ هل تلوح بالزواج؟ ما أشدٌ رغبتك 
إليها؟ رغبة جئونية. . 

قالت مريم بغتة : 

آه. . . ما الذي يدعوني إلى البقاء؟ 

ودارت حول نفسهاء ثم تطامن رأسها لتمرٌ من 
تحت الغسيل» فأرسل صوته وراءها قائلاآ في جزع : 


تذهبين دون نحية! 

اش رأبٌ رأسها فوق حبل الغسيل» ثم قالت: 

- البيوت من أبوامهاء هذه ميتي . . 

واتجهت مسرعة نحو باب السطح فمرقت منه. 

عاد ياسين إلى الصالة فاعتذر لأمينة عن طول غيبته 
بحرارة الحو في الداخل» لم ذهب إلى حجرته ليرتدي 
بذلته. كان كمال يتبعه عينيه في دهشة وتفكير. ونظر 
إلى أمّه فألفاها هادئة مطمئئة وكانت فرغت من اسحتساء 
قهوتها وقراءة الفنجان. فتساءل ترى ماذا يحدث ها لو 
علمت با دار فوق السطح؟... هو نفسه لم يزايله 
القلق منذ اطلع مصادفة على منظر المتناجيين حين 
مضى وراء أخيه مستطلعًا غيبته» فعل ياسين ذلك, 
هل هانت عليه ذكرى فهمي؟ لا يستطيع أن يتصور 
هذاء كان ياسين يحب فهمي حبًا صادقًاء وقد حزن 
عليه حزنًا شديدّاء لا يجوز أن يرتاب في إخلاصه. إلى 
أنْ هذه «الحوادث» كثيرًا ما تقع. ثم نه ' يدر يم 
يربطون دائًا بين فهمي ومريم؟! لقد علم المرحوم 
بواقعة جوليون في حينهاء ثم مر زمن طويل بدا عليه 
أنه نسيها نسيًا تامًا وشّغل عنها بما هو أجل وأخطرء 
وما كانت تستحقٌّ غير ذلك وما كانت يومًا كفئًا له. 
نه مما يدعو إلى النظر حمًا أن يتساءل: هل يمكن أن 
يسسى الحبٌ؟ الحبٌ لا يُسىء هذا ما يؤمن به» ولكن 
من أدراه أن فهمي أحبٌ مريم بالمعبى الذى يقهمه ‏ 
أو يشعر به هو من الحبٌّ؟ لعلّها كانت رغبة قويّة. 
كهذه الرغبة الى تستحوذ الساعة على ياسين؛ بل 
كتلك الرغبة القديمة إلى مريم نفسها التي ناوشته هو 
على عهد البلوغ وعابثت أحلامهء أجل وقع هذا 
أيضًاء وعانى منبها ألمين: ألم الرغبة وألم الندم. وكانا ف 
القوؤة متعادلين فلم ينقذه من شرهما إِلَّا زواج مريم 
واختفاؤها. يبمّه أن يعلم الآن هل تام باسين وهل 
وتحزه الندم؟ وإلى أيّ مدى؟ لا يتصوّر أن يكون الأمر 
جرى سهلا مهما يكن ظنّه بحيوانيّة ياسين وفتور حماسه 
للمُثل العلياء وعلى رغم نظرته المتساممة للأمر كله 
شعر بامتعاض وقلق كما ينبغي لإنسان لا يعدل بمثاليته 
شيثًا في الوجود. 


قصر الشوق >١٠‏ 


رجع ياسين من الحجرة وقد ارتدى ملابسه وألحذ 
زيئته. فحياهما واتصرف, ويعد قليل سمعا نقر 
اسيعذان على باب الصالة فدعا كيال القادم - وهو على 
يقين من هويته - فدخحل شاب يائله في السن» قصير 
القامة» وسيم الطلعة. مرتديًا جلبابا وجاكتة؛ فقصد 
أمينة وقبّل يدهاء ثمْ صافح كيال وجلس إلى 
جانبه. . . كان في سلوكه ‏ رغم ما أخذ به نفسه من 
التأدذب ‏ ألفة كأتما كان واحدًا من أهل الييت» وأكثر 
من هذا فقد أقبلت أمينة تحادئه وهي تدعوه بكل 
بساطة «يا فؤاد»» وتسأله عن صححة أبيه جميل 
الحمزاوي ووالدتئهء فيجيبها مستشعرًا السرور. 
والامتنان في حسن استقبالماء وترك كيال صديقه مع 
والدته» ومفى إلى حجرته ليرتدي جاكتته. ثم يعود 
إليه فينطلقا معا. 


ا 

سارا جتبًا إلى جنب صوب درب قرمزء متجنيينٍ 
طريق النحاسين» ليتفاديا من المرور بالدكان حيث 
يوجد والداهما. . . كال بقامته الطويلة النسحيلة. وفوؤّاد 
بقامته القصيرة. تكاد صورتاهما تلفتان الأنظار 
تناقضها. تساءل فؤاد بصوت هادى: 

أين تذهب هذا المساء؟ 

فأجابه كمال بصوته الانفعالي: 

قهورة أحمد عبده. . 

كان كبال ‏ عادة ‏ يقزرء وفؤاد يواقق رغم ما عرف 
عن الأخير من رجاحة العقل» ورغم نزوات كال التي 
كانت تبدو مضحكة في عين رفيقهء مثل دعواته 
المتكرّرة له للذهاب إلى جبل المقطم والقلعة والخيمية 
لتسريح النظر ‏ على حدٌّ تعبيره ‏ في مخلفات التاريخ 
وعجائب الحاضرء ولكنّ الحقّ أنْ العلاقة بين 
الصديقين لم تمل من تأئّر بفارق طبقتيهماء وكون الأول 
ابن صاحب الدكّان والآخر ابن وكيله؛ وعمق هذا 
التآئّر أن فؤاد اعتاد في صباه أن يؤدّي ما يكلف به من 
شراء بعض حوائج لبيت السيّد أحمد. وأن يكون 
صنيعة لكرم أمينة التي لم تكن تضِنّ عليه بأحسن ما 


عندها من مأكل ‏ وكثيرًا ما يصادف غشيئه أوقات 
الغداء ‏ وأصلح ما يمكن استغناء عئه من ملابس 
كيال» فربط بينها منذ البدء شعور باستعلاء من ناحية 
وبالتبعيّة من ناحية أخرى... وهو وإن مضى يزول 
بحلول شعور الصداقة محله. إلا أن أثره النفسيّ لم 
يقتلم من الأعاق. وقد قضت ظروف بألا يجد كيال 
من رفيق تقريبا طوال العطلة الصيفيّة إلا فؤاد 
الحمزاوي» ذلك أن رفاق صباه من أهل الي لم 
يواصلوا التعليم إلى الهباية: منهم من توظف 
بالابتدائية أو الكفاءة؛ ومنهم من اضطر إلى مزاولة 
عمل من الأعمال البسيطة مثل صبيٌ قهوة بين 
القصرين وصبيم الكواء البلديّ بخان جعفر. كان 
كلاهما من أقرانه في الكتاب, وما زال ثلاثتهم يتبادلون 
تحيّة الزمالة القديمة كلما اتفق لمم اللقاء. تحيّة مشربة 
بالاحترام من ناحيتها لما يضفيه طلب العلم عليه من 
امتياز مشبعة من ناحيته بالمودّة الصادرة عن نفس 
مطبوعة على التواضع والبساطة. أمّا أصدقاؤه الخد 
الذين اكتسب صداتتهم في العباسيّة: -حسن سليم. 
وإسماعيل لطيفء وحسين شذاد فكانوا يقضون 
العطلة في الإسكندريّة ورأس البنّ. فلم يبقّ له من 
رفيق إلا فؤاد . 

بلغا مدخحل قهوة أحمد عبده بعد مسيرة دقائق, 
فهبطا إلى مستقرّها الغريب في جوف الأرض تحت حي 
خان الخليلٍ؛ واتبها إلى مقصورة نحمالية. وفيا هما 
يجلسان متقابلين حول امائدة تمتم نؤاد في شبيء من 
الحياء : 

- ظئنتك ستذهب هذا المساء إلى السيئا! 

وشى قوله برغبته في الذهاب إلى السينماء ولعلها 
راودته قبل أن يذهب إلى مقابلة كيال في بيته ولكثه لم 
يفصح عنباء لا لأنّه لا يستطيع أن يثني كيال عن رأي 
فحسب, وإِنما لأنّ كال هو الذي يقوم بنفقات السينها 
إذا ذهبا إليها معا. فلم تواته شجاعته على التلميح إلى 
رغبته حتى استقر بها المجلس بالقهوة حيث يمكن أن 
يؤخحذ قوله مأنحد الملاحظة البريئة العابرة . 

- سنذهب يوم الخميس القادم إلى الكلوب المصري 


لشاهدة شارلى شابلن؛. فلئنلعب الآن عشرة 
دوميلو. . . 
خلعا طربوشيهه| ووضعاهما على مقعد ثالثك. ثم 
نادى كيال النادل. طلب شايا أخضر ودوميئو. بدا 
المقهى المدفون كجوف حيوان من الحيوانات المنقرضة» 
لمر تحت ركام التاريخ إلا رأسه الكبير» فقد تشبّث 
بسطح الأرض فاغرًا فاه عن أنياس بارزة على هيئة 
مدحل ذي سلّم طويل» وثمّة في الداخل صحن واسع 
مريّع الشكل مبلْط بالبلاط المعصرانَ تتوسشطه فسقيّة 
رضت على حافتها أصص القرئفل. وأحدقت مما من 
الجهسات الأربع أرائك فرشت بالحصير المزركش 
والوسائد. أمّا جدرانه فقد انتظمتها مقاصير صغرة 
الحجم متجاورة. كأنْ الواحد منبا كهف منحوت في 
الحائط. لا نافذة مبا ولا باب لماء واقتصر أثائها على 
مائدة خحشبيّة وأربعة مقاعد ومصباح صغير يشتعل ليل 
نبار في كوّة بأعلى الجدار المواجه للمدحل. وكأن 
القهوة اكتسبت من موقعها الغريب بعض صفاته, 
فهي تبوّم في هدوء غير مألوف لسائر المقاهي. وضوء 
غير باهرء وجرٌ رطيب. وقد انطوت كل جماعة على 
نفسها في مقصورتها أو فوق أريكتهاء تدخن النارجيلة 
وتحسو الشاي وتبيم في دردشة لا نهاية هاء تكاد 
تشملها نغمة صبا وانية متّصلة إلا أن تقطعها في 
فثرات متباعدة سعلة أو ضحكة أو قرقرة مدخن منهم . 

كانت قهوة أحمد عبده في نظر كمال مجتى للمتامل 
وتحفه للحالم. أما فؤاد ‏ وإن لم تغب عنه طرافتها أول 
عهده بها فلم يعد يجد فيها إلا جلسًا كثيبًا تغشاه 
الرطوبة والشواء الفاسد. ولكنّه لم يكن يملك إِلَّا أن 
بلبّي كلما دُعي إليها! 

- أتذكر يوم أن رآنا أخوك سي ياسين ونحن في 
مجلسنا هذ!؟ 

قال كال باسما: 

- نعم سبي ياسين متسامح ولطيف ول يشعرني أبذًا 
بأنّه أخي الأكبرء بيد أن رجوته يومذاك ألا يشير إلى 
عابنا ى النيك لا عتونا مق" أن« فإن أحذا عندنا لا 
يجرؤ عل مكاشفته بمثل هذا الأمرء ولكن إشفاقًا من 


إزعاج والدتي» تصور أنْها ترتعب إذا علمت بترذدنا 
على هذه القهوة أو غيرهاء وتظنٌ أنْ أغلبيّة رواد 
المقاهي من الحشّاشين وسيّئي السمعة! 

- وسي ياسين, ألم تعلم بأنه من رواد المقاهي؟ 

إذا قلت لما هذا قالت لي: إِنّْ ياسين «كبير» ولا 
خحوف عليه؛ أمّا أنا فصغير! الظاهر أني سأظل معدودًا 
في الصغار في بيتنا حتى يدركني المشيب! 

جاء النادل بالدوميئو. ولحي من الشاي على 
صيئيّة فاقعة الاصفرارء فتركها جميعا على المائدة 
وذهب. تناول كال قدحه من فوره وراح يحتسيه من 
قبل أن خف حرارته. ينفخ السائل ثم يتمززهء وينفخ 
مرّة أخرى ويمصمص شفتيه كلما لسعته الحرارة» ولكنّ 
ذلك لا يردعه فيعاود المحاولة في عناد وجزع كأنّه 
محكوم عليه بالفراغ منه في دقيقة أو دقيقتين» على حين 
جعل فؤاد يراقبه صامثًا أو يمدّ بصره إلى لا شيء وهو 
مستند إلى ظهر مقعده في رزانة أكبر من سنْه. تلوح في 
عينيه الواسعتين الجميلتين نظرة عميقة هادئة؛ ولم يمذ 
يده إلى قدحه حتّى كان كمال قد فرغ من مغالبة 
قدحه. وعند ذاك أقبل يتحئى الشاي في أن مستطعا 
مذاقه مستلذًا نكهتهء وهو يغمغم بعد كل حسوة 
«الله . . . ما أطيبه[و. والآخر ينه على الفراغ منه 
بصير نافد كي يأخذا في اللعب» وهو يقول مندلرًا: 

لأهزمتك اليوم. لن يحالفك الحظ أبد الدهر. . . 

فيبتسم فؤاد مغمغما: 

مدر كو 

وكا بلعلاته :م 

كان كيال يولي المباراة اهتمامًا عصبيّاء كأنّه يخوض 
معركة تتوقف على نتائجها حياته أو كرامته» بينا مضى 
فؤاد في نَظُم قطعه بهدوء ومهارة فلم تفارق الابتسامة 
شفتيه. أقبل الحظ أم أدبرء هش كال أم عبس» وقد 
خرج كيال - كعادته ‏ عن طوره. فهتف به: «لعب 
سخيف, وحظ سعيد». فلم يزد الآخر عن أن ضحك 
ضحكة مهذّبة لا تثير حنقًا ولا توحي بتحدٌ. طالما قال 
كال لنفسه وهو يتميّز غيظًا «لن يبرح حظه راكب 
حظي»: ول يكن يلقى اللعب بالتسامح الخليق باللهو 


قصر الشوق ٠1١‏ 


والتسلية. بل الحق لم يكن ثمّة فارق - في اهتيامه 
وحماسه ‏ بين جدّه ولهحوه. على أنْ تفوّق فؤاد في 
المدرسة لم يكن دون تفؤقه في الدومينوء كان أول فرقته 
بينا كان هو في الخمسة الأوائل» فهل ثمّة دور للحظ 
في ذلك أيضًا؟ كيف يعلل تفوّق الشاب الذي ينطوي 
له في الأعياق على شعور بالاستعلاء ظن أنه ينبغي أن 
متدٌ إلى المواهب العقليّة على السواء؟ لم يُعدم رأيًا مِبوّن 
به من تفّق صاحبهء فهو يقول إن يكرّس وقته كله 
للمذاكرة وإنه لو كان عقله بالتفوّق الذي يزعمون 
لأغنى عنه بعض هذا الوقتء. ويقول أيضًا: إنه 
يتجتّب الألعاب الرياضيّة وقد برّز هو في أكثر من نوع 
منباء ويقول أخيرًا: إِنّْ فؤاد يقتصر في مطالعاته على 
الكتب المدرسيّة» وإذا تراءى له أن يقرأ كتابا غير 
مدرسي في العطلة لاحظ في اختياره أن يكون مفيدًا 
ره اللاحقة» أمَا هو فلا تحذ مطالعته حدود ولا 
توجّهها منفعة, ف) وجه الغرابة في ذلك في أن يسبقه 
الشابٌ في الترتيب؟ غير أنْ سخطه هذا لم يعرّض 
صداقتها للوهن, كان يحبه ويجد في رفقته مؤانسة 
ومسرّة إلى أنه لم يضنّ ‏ على الأقل فيها بينه وبين نفسه 
بالإقرار بفضائله ومزاياه. 

تواصل اللعب وانتهت العشرة ‏ على غير ما أنذر به 
مطلعها ‏ بانتصار كمال! فتطلّق وجهه. وضحك 
ضحكة عالية) ثم سأل غريمه: «عشرة أخرى؟» لكنّ 
فؤاد قال باسًا: «حسبنا اليوم ما كان» لعله كان مل 
اللعبء أو لعلّه أشفق من أن تجيء نتيجة العشرة 
المقترحة ميّبة لآمال كيال فينقلب سروره غمّاء فهر كال 
رأسه كالمتعجب وقال : 

إِنْك كالسمك من ذوي الدم البارد! 

لم بلهجة المنتقد. وهو يدلك أرنبة أنفه العظيم 
بإمهامه وسمابته : 

- إن أعجب لكء إذا عُلبت لم تأبه للأحذ بثارك, 
وتحبٌ سعد ولكّك تنكص عن الاشتراك في مظاهرة 
أريدٌ مها تحيّته يوم ولي الوزارةء وتتبارك بسيدنا الحسين 
ولكن لم تبتر لك شعرة يوم ثبت لنا من تاريخه أن 
جئانه غير ثاو في ضريحه القريب! إن أعجب لك. . . 


4 قصر الشوق 


شد ما يحلقه البرود» إن ما يسمّونه «العقل؛ لا 
يطيقه. وكأنه يحب الجنون ويبيم بهء إِلَّهِ يذكر يوم قيل 
لما في المدرسة: «إِنْ ضريح الحسين رمز له ولا شيء 
غير ذلك». عادا يومذاك معًا وفؤاد يردّد ما قاله مدرّس 
التاريخ الؤسلامي» وكان كال يتساءل منزعجًا: كيف 
أو صاحيه تلك القوة التي تحمل بها الخبر كانه شأن 
لا يعنيه؟! أمّا هو فلم يستسلم لتفكير» لم يستطع أن 
يفكر ألبتّة» وكيف لثائر أن يفكر؟ سار كالمترئح من 
هول الطعنة التي نفذت إلى صميم قلبه» كان يبكي 
خيالا نضب وحلً تبدّدء لم يعد الحسين بجارهم» بل 
لم يكن بجارهم يومًا من الأيّام» أين ذهبت القبلات 
النني طبعت على باب الضريح في صدق وحرارة؟ أين 
يذهب الاعتزاز بالقرب والإدلال بالخوار؟ لا شىء من 
هذا كله. لم يبقَ إلا رمز في الجامع ووحشة وخيبة في 
القلبء وبكى ليلتذاك حتّى بلل وسادته.ء تلك كانت 
الصدمة التي لم تمرّك في صديقه العاقل إلا لسانه حين 
عن عليها مردّدًا أقوال مدرّس التاريخ» ألا ما أبشع 
العقل! 

هل علم والدك برغبتك في دخول مدرسة 
المعلّمين؟ 

قال كال بحذة جاءت معثرة عن ضيقه ببرود 
صاحبه وألمه المتخلّف عن مناقشة أبيه معا: 

داع اي 

- وماذا قال لك؟ 

فقال يروّح عن صدره بمهاجمة محدّئه عن طريق غير 
مياشر: 

واأسفاه!. . . إِنْ والدي كأكثر الناس من مبيمون 
بالمظاهر الزائفة» الوظيفة. . . النيابة. . . القضاء. . . 
هذا كل ما يهمّهء لم أدرٍ كيف أقنعه بجلال الفكر 
والقيم السامية الحقيقة بالنشدان في هذه الحياة! غير أنه 
ترك لى حرّيّة التصرّف. . . 

جعلت أصابع فؤاد تعبث بقطعة من الدومينو» وهو 
يقول في حذر وإشفاق: 

- قبم جليلة بلا شلكُ. ولكن أين البيئة التي ترفعها 
إلى المنزلة اللائقة مها؟ 


- لا يمكن أن أنبذ عقيدة سامية لا لشيء إلا أنَّ مَن 
حولي لا يؤمنون بها. . . 

فعاد يقول في هدوء مسكن : 

- روح جديرة بالإعجاب!... ولكن ألا يحسن 
بك أن تقدّر مستقبلك في ضوء الواقم؟ 

فتساءل كيال بازدراء : 

- ترى لو كان زعيمنا قد أحل ذه النصيحة؛ أكان 
يفكر جديا في أن يذهب إلى دار الحماية للمطالبة 
باللاستقلال؟ 

ابتسم فؤاد ابتسامة كأنها تقول «رغم ما في حبّتك 
من وجاهة فهي لا تصلح قاعدة عامّة في الحياةو. ثم 
قال : 

- ادخل الحقوق حبّى تضمن عملا محترمًاء ولك 
بعد ذلك أن تواصل ثقافتك كيا تشاء! 

- لم يجعل الله لامرئ من قلبين في جوفه. ثم دعني 
أحتجّ على ربطك العمل المحترم بالحقوق! كأنٌ 
التدريس ليس عملا محترمًا! ! 

فبادر فؤاد يقول بتوكيد يدفع به عن نفسه الشبهة : 

لم أقصد هذا مطلمًاء ومنذا الذي يقول إن حفظ 
العلم ونشره ليس عملا محترمًا؟ . . . لعلى كنت أردّد 
رأي الئاس وأنا لا أدرىي. والناس كما أشرت إل شيء 
من هذا تبهرهم أضواء القوّة والنفوذ! 

فهر كيال منكبيه استهانةء وقال بإصرار: 

- إن حياة تكرّس للفكر لهي أجل حياة. . 

هر فؤاد رأسه كالموافق دون أن ينبس» وظلٌ لائذًا 
بالصسمت حتى سأله كيال: 

- ما الذي دعاك إلى الختيار الحقوق؟ 

ففكُر قليلا ثمّ أجابه : 

- لم أكن مثلك واقعًا في غرام الفكري فكان عل أن 
أختار دراسة عالية على ضوء المستقبل وحدهء فاخترت 
الحقوق. . 

أليس هذا هو صوت العقل؟ بل إِنّه هوء شد ما 
يثير حنقه» تمرّدهء أليس من الظلم أن يمضي العطلة 
الطويلة وهو حبيس هذا الحيّ ولا رفيق له إِلّا هذا 
«العاقل»؟ ثمة حياة أخرى تعارض حياة الى العتيق 


معارضة الضدّ للضِدّء وثمّة رفاق آخرون يخالفون فؤاد 
تخالفة النقيض للنقيض, إلى تلك الحياة وإلى أولئك 
الرفاق تبفو نفسه. إلى العباسيّة؛ إلى الطراز الطريف 
من الشباب». وقبل كل شيء إلى الأناقة الرفيعة والنغمة 
الباريسيّة والحلم البديع. . . ل «مشووة ادو راان 
نفسه تنازعه إلى البيت» إلى حجرته كي يخلو إلى نفسه 
فيدعو كرّاسته. يراجع تاريخًا أو يستعيد ذكرى أو 
يسبل نفثة. ألم يئن له أن يقوض هذا المجلس 
ويذلهب؟ 

قابلت أناسًا فسالونق عنك. . . ! 

تساءل كال» وهو ينزع نفسه بمشقّة من تيار 
الوجد: 

من؟ 

فؤاد ضاحكا: 

- قمر ونرجس ! 

قمر ونرجس ابئتا أبو سريع صاحب المقلى» قبو 
قرمزء الأزقة المظلمة بعد الغروب» العبث المشوب 
بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذجء المراهقة 
المحمومة». آلا يذكر هذا كله؟ ما لشفية تتقلضات 
تقرّرًا؟ ذلك التاريخ قديم نسبيّاء قبل حلول الروح 
القدس. لا يذكره إِلَا ويثور قلبه سسخطًا وألمًا وجلا 
كا ينبغي لقلب أترع بشراب الحب الطهور. 

كيف قابلتهم)|؟ 

في زحمة مولد الحسين» فسرت إلى جانبههما دون 
تردّد أو ارتباكء كأنْنا أسرة واحدة جاءت لتطوف 
بالمولد | 

يا لك من جرىيء! 

أحياناء سلّمت فسلمتاء وتحادئنا مليّاء ثم سألتئي 
قمر عنك! 

تورد وجهه قليلاء وهو يسأل: 

0 

اتفقنا مبدئمًا على أن أشبرك. ثم نتقابل جميعا! 

هر كال رأسه في نفورء ثم قال باقتضاب : 

فقال فؤاد في دهش : 


قصر الشوق 519 


كلا؟ ظننتك ترحب بلقاء تحت القبو أو في فناء 
البيت المهجور. نضح جساهماء وعما قليل تصيران 
امرأتين بكلّ معنى الكلمة» وعلى فكرة كانت قمر 
مرتدية الملاءة اللفت ولكنّبا كانت سافرة فقلت لما 
ضاحكًا: لو لبست البرقع ما تجرّات على محادثتك! 

قال كيال بإصرار: 

كلا. , . 

ا 

لم أعد أطيق القذارة! 

لا أستطيع أن ألقى الله في صلاتي وثيابي الداخخلية 
ملوثة ! 

فقال فؤاد بسذاجة : 

- تطهر واغتسل قبل الصلاة ! 

فقال كيال؛ وهو يهرّ رأسه للاستعارة الضائعة : 

إِنَّ الماء لا يطهّر من الدنس. . . 

ذلك الصراع القديم. كان يمضي في لقاء قمر 
مضطربًا بالشهوة والقلق ويعود بضمير معذّب وقلب 
باك ثم عقب الصلاة يستغفر استغفارًا حارًا طويلا. 
لكنه يمفي مرّة أخرى مغلوبًا عل أمره ثم يعود 
بالعذاب ليستغفر من جديد... يالما من أيا 
نضحت بالشهوة والمرارة والعذاب» ثم انيثق النور. 
هناك وسعه أن يحبٌ وأن يصل معًاء كيف لا؟! 
والحبٌ من منبع الدين يقطر صافيًا! قال فؤاد في شيء 
من الحسرة: 

- انقطعت علاقتي بنرجس منذ ميت من اللعب في 
الحارة! 

فسأله كيال باهتتام : 

- ألم تكن - وأنت المؤمن - تتعذّب بتلك العلاقة؟ 

فقال فؤاد,» وهو يغض البصر حياء : 

هئالك أمور ما منها بذ. . . 

ثم متسائلآ وكأنّه يدارى حياءه : 

أترفض. حمًا انتهاز هذه الفرصة؟ 

بكلٌ تأكيد!! 

لوجه الدين وحده؟ 


٠‏ قصر الشوق 


أليس هذا كافيًا؟ 

ابتسم فؤاد ابتسامة عريضة» وقال: 

- كم تحمّل نفسك ما لا محتمل. . . 

فقال كال بإصرار: 

- إني لكذلك وما ينبغي لي أن أكون غير ذلك. . . 

وتبادلا نظرة طويلةء أفصحت في عيني كيال عن 
الؤصرار والتحدّي. فانعكست في عيني فؤاد مهادنة 
وأبتسامة كاشعة الشمس الجهنمية التي تنعكس على 
سطح الماء لألاء ضاحكاء ثم واصل كمال حديثه : 

- إفي أرى الشهوة غريزة حقيرة. وأمقت فكرة 
الاستسلام لحاء لعلّها لم تخلق فينا إلا كي تلهمنا 
الشعور بالمقاومة والتسامي حبّى تعلو عن جدارة إلى 
مرتية الإنسائيّة الحقّة إمّا أن أكون إنسانًا وإمًا أن 
أكون حيوانا, . , 

فتريّث فؤاد فليلاء ثمّ قال مهدوء : 

- أظنْ أنها ليست شرًا خالصًاء فهي الدافع إلى 
الزواج» فالذرٌيّة! ! 

خحفق قلب كال حفقة عنيفة لم تر لفؤاد في خاطرء 
أهذا هو الزواج في النهاية؟ لكنه لم يكن يجهل هذه 
النقيقة في جملتها وإن كان في حيرة لا يدري كيف 
يوفق الناس بين الحب والرواج» إثها مشكلة لم يرتطم 
بها في حبّهء لأنْ الزواج بدا دائًا - ولأكثر من سبب ‏ 
فوق مرتقى أمانيه ولكنّ ذلك لم يمع من قيامه مشكلة 
تتظلية: الكل ها كان تصيون أن .مكونالصبال ضعي 
بينه وبين معبودته إلا عن طريق العطف الروحيّ من 
ناحيتها والتطلع البمان من ناحيتهء طريق بالعبادة 
أشبهء بل هو لعبادة نفسهاء فأيّ شأن للزواج في 
هذا؟ 

الذين عون سنا ل يدر حون 

تساءل فؤاد بدهش : 

ماذا قلت؟ , . . 

فطن حبّى قبل تساؤل فؤاد إلى أنْ لسانه خحان 
إرادته. فبدا عليه الارتباك لحظة حرجة» وراح يتذكر 
آخر أقوال فؤاد قبل ندود هله الحملة الغريبة عنه حي 
اهتدى بشىء من الجهد ‏ على حدائة العهد بساعها ‏ 


إلى كلياته عن الزواج والذرّيّة. فصمّم على مداراة 
هفوته وعلى تصحيح معناها ما أمكن. فقال: 

الذين محبون ما فوق اللحياة لا يتزوجونء هذا ما 

ابتسم فؤاد ابتسامة خفيفة أو لعلّه كان يقاوم 
ضحكة. غير أنْ عينيه العميقتين لم تنا عنًا وراءهماء 
واكتفى بأن قال: 

هذه أمور خطيرة» والحديث عنها الآن سابق 
لأوانه» فلندعها مرهونة بأوقاتها. . . 

فرفع كيال منكبيه استهانة وثقة. وقال: 

- فلندعها ولننتظر. . . 

فؤاد في واد وهو في وادء على ذلك فهها صديقان, 
لا يسعه أن ينكر أنْ الخلاف في نفسه يجذبه إليه على ما 
في ذلك من جهد تعانيه أعصابه المرّة بعد المرّة» ألم يثنْ 
له أن يعود إلى البيت؟ الوحدة ومناجةة النفشس 
تتجاذبانه. الكرّاسة النائمة في درج مكتبه تبيّج جيشان 
صدره» لا بذ للمكدود في مكابدة الواقع من انتجاع 
بعض الراحة في الانطواء. . . 

آنْ أن تعود. , . 


ا 
كان الحنطور يتابع سيره على شاطئ النيل حقق 
وقف أمام عوّامة في جماية المثلث الأؤل من طريق 
أمبابة» وما ليث أن غادره السيّد أحمد عبد الجواد ثم 
تبعه على الآثر السيّد عل عبد الرحيم . 
كان الليل قد جثم في محثمه وغشيت الظلمة كل 
شىء إلا أضواء متباعدة تطلّ من نوافذ العوّامات 
والذهبيّات التى يننظمها الشاطئان من جسر الزمالك 
فهابطاء وأنوار خحافتة لاحت عند موقع القرية في نهاية 
الطريق كالسحابة الناضحة بوهج الشمس في سماء 
ملبدة بالغيوم الدكن . 
كان السيّد أحمد يجيء للعوامة للمرّة الأولى على 
رغم اكتراء محمّد عمّت لها منذ أربع سنوات ‏ ذلك أنّ 
صاحبها خصصها لمجالس الغرام وقد حرمها السيد 
أحمد على نفسه منذ مصرع فهمي - فتقدّمه عل عبد 


الرحيم ليدله على المعبر» حي إذا قارب السلّم؛ قال 
محذزا: 

0 السلع ضيّق ودرجاته مرتفعة ولا درابزين له 
ضع يدك على كتفي وانزل على مهل. . . 

هبطا بحذر شديدء. وخرير الماء المتلاطم على 
الشاطئ ومقدّم العوامة يداعب أذامههاء وقد فغمثت 
أنفيهم! رائحة نباتية مازجها عرف الطمي الذي جاد به 
الفيضان في ذلك الوقت من أوّل سبتمير. قال عللّ عبد 
الرحيم وهو يتحسس زرٌ الجرس على جدار المدخل : 

- هذه ليلة تاريخيّة في حياتنك وحياتناء ينبغي أن 
نطلق عليها اسمًا مناسبًا احتفالا بباء ليلة رجوع 
الشيخ؟. . . ما رأيك؟ . . 

قال السيّد أحمدى وهو يِسْدٌ قبضته على منكبه : 

لكي لست شيخًاء الشيخ الحقيقئن كان 
0 

عل عبد الرحيم وهو يضحك: 

- سترى الآن وجوها لم ترها منل خمس سئوات. . 

قال السيّد كالمتردّد : 

لاي هذا الى مدهل سارك أو اعرد عن 
خطبي (ثمٌّ بعد لحظة سكوت) قد. . . فلع 

عتغرن كنا يستف الا يغرب اللتعم إذا لوي 
المطبخ ! 

الكلب الحقيقيَ كان أبوك يا بن الكلب. . . 

رن الجرس» - الباب بعد نصف دقيقة عن وجه 
نوبي عجوزء تلحى جانبًا وهو يرفع يديه إلى رأسه نحية 
للقادمين» فدخل الرجلان ومالا إلى باب على يسار 
الداخل فجازاه إلى دهليز قصير مضاء بمصباح كهربائي 
بتدل من السقف. وقد حل جداراه المتقابلان بمرآتين 
قام تحت كل منهما مقعد جلدي كبير وخوان. وكان في 
نباية الدهليز المواجه لمدخله باب آخر موارب وشى 
بأصوات السيّار التى اهترز لها صدر أحمد عبد الحواد. 
فدفعه عل عبد الرحيم ودخل» فتبعه السيّد, ولكنه ما 
كاد يعبر عتبته حتّى وجد نفسه حيال الحاضرين وهم 
وقوفاء وقد أقبلوا نحوه مرحّبين مهلّلين يكاد يطفر 
البشر من وجوههم. وكان ممّد عفت أسرعهم إليه 


قصر الشوق >7١‏ 


فعانقه. وهو يقول: 

- طلع البدر عليئنا. . . 

ثم عانقه إبراهيم الفار. قائلا: 

- أتاني زماني بما أرتضي . . . 

وتنخى الرجال جانباء فرأى جليلة. وزبيدة» 
وامرأة ثالئة وقفت متأخرة عنبها خطوتين ما لبث أن 
تذكّر فيها زنُوبة العرّادة. آه. . . الماضي كله قد جمع 
في إطار واحدء وتطلّقت أساريره وإن بدا عليه شىء 
ذو رشا كي عدرة السك انه ار : 
ثم فتحت ذراعيها وعائقته. وهي تقول بنبرات غنائية : 

كنت فين يا حلو غايب. . 

ولا أطلقته رأى زبيدة على بعد ذراع كالمترذدة وإن 
أضاء وجهها نور الترحيب والسرورء فمد نحوها 
ذراعه فسِدّت عليهاء وعند ذاك زوّت ما بين حاجيها 
المزجوجين في عتاب. قائلة بلهجة لم تل من تبكم : 

ب من بعد تلتاشر سسئلة. . 

فيا تمالك أن ضحك من أعباق صدرهء وآخيرًا رأى 
زنوبة بموقفها لم تبرحه. وقد ارتسمت على ثغرها 
ابتسامة حياء كأئّها لم تجد من ماضيها ما يعطيها حمًا في 
رفع الكلفة بيهاء فمذ لها يده مصافحاء وهو يقول 
مشبجعًا ويجاملا : 

خا أها :بأميزة العواد الف 

ورجعوا إلى مجالسهم. فشبك محمّد عفت ذراعه 
بذراع أحمد ومضى به إلى مجلسهء فأجلسه إلى جانبه ؛ 
وهو يتساءل ضاحكا : 

- وقعت أم الهوى رماك؟ 

فعمغم السيند أحمد: 

رماني الموى فوقعت. . 

أنخذ المكان يستبين لعينيه اللتين غابتا عنه أوؤل الأمر 
في حرارة اللقاء ومزاح المرخبين» فوجد نفسه في حجرة 
منوسّطة الحجمء طليت جدرانها وسقفها بلون 
زمرّدئ؛ تطلّ على النيل بسافذتين وعلى الطريق 
بنافذتين» وقد أغلق خصاص نوافذها وفتح زجاجهاء 
يتدلى من سقفها مصباح كهربائئ ذو غطاء مخحروطي 
من البلور يركز نوره على سطح خوان توسّط الحجرة 


١‏ قصر الشوق 


حاملا الأقداح وقوارير الويسكي, وقد فُرشت الأرض 
ببساط متجانس اللون مع الجدران والسقفء وقامت 
في كل جانب من الحجرة كنبة كبيرة شُطرت بنمرقة 
وعُشَّيت بغطاء مزركشء أمّا الزوايا فقد احتُلت 
بشلأت ووسائد. جلست جليلة وزبيدة وزنُوبة على 
الكنبة المجاورة للنيل» واقتعد الرجال الثلائة الكنبة 
المواجهة لماء بيئا انتشرت على الشلت آلات الطرب 
كالعود والدفٌ والدربكة والصنج. أجال بصره في 
المكان مليّاء ثم تند بارتياح» وقال بتلذّذ: 

- الله... اللهء كل شيء جميل. لم لا تفتحون 
النافذتين المطلتين على النيل؟ 

فأجابه محمد عفت : 

- يُفتحان عندما ينقطع مرور السفن الشراعيّة 
وإذا بليتم فاستتروا. . . 

فبادره السيد أحمد باسم): 

- وإذا استترتم فابتلوا! 

فهتفت جليلة كالمتحدية : 

- أرنا شطارة زمان! 

لم يقصد بقوله إلا المزاح. والحنٌ أنَّ إقدامه على 
هذه الخطوة الثورية ‏ مجيئه إلى العوّامة ‏ بعد طول 
الإحجام أورئه قلقًا وترددّاء لكنّ ثمّة شبيء آخر. تغيير 
تق الع ما عله أنه تيه تمه وات فليسدد 
نضرة:وليمغن النظر» اا يرى؟ .هاك :جليلة وزبيدة: 
كلتاهما كالمحمل ‏ كما كان يقول قديًا ‏ أو لعلّهما 
ازدادتا ششحم ولحاء ولكن ثمّة شيء يكتنفهاء لعله إلى 
متناول الشعور أقرب منه إلى متناول الحسّء إلا أنه 
وجه من وجوه الكبر بلا مراء؛ لعل أصحابه لم يفطنوا 
إليه لأنهم لم ينقطعوا عن المرأتين مثلما انقطع. ترى 
ألم يطرأ عليه هو أيضًا مثل الذي طرأ عليها؟ انقبض 
قلبه وفتر حماسه. الصديق العائد بعد غيبة طويلة هو 
أفصح مرآة للإنسان. لكن كيف السبيل إلى هذا 
التغيير حتى يقبض عليه؟ ليست هنالك شعرة بيضاء 
واحدة في رأسيهما.. . ولكن ما للشيب ورءعوس 
الغواني؟. وليس ثمّة تجعّدات كذلك. هل عُلَبِتَ على 
81 كلدم بلك انر عاق عيضن ركنا لكين 


روحًا خابيًا رغم ما يكتنفه من لألاء بِرَاقٌ يستخفي 
حيئًا وراء الابتسام واللعب ثم يبين على حقيقته فيا 
بين ذلك فتقرأ فيه نعي الشباب, إِنّه الرئاء الصامت. 
أليست زبيدة في الخمسين من عمرها؟ وجليلة جاوزتما 
بأعوام. إتها لدته ولن تكابر في هذا مهما أنكره لسانباء 
ثمّة تغيير في قلبه أيضًا ينذر بالنفور والتقألص, لم يكن 
كلك حون جان». ماد قوق لاهلا رجام صدورة ١‏ ابد 
لها من وجودء ليكن. حاشا أن يستسلم للهريمة. . . 
اشرب. واطرب. واضحك. لن يدفعك أحد على 
رغمك إلى ما لا ترد .. ' 

قالت جليلة : 

- لم أكن أصدّق أن عي ستقعان عليك في هذه 
الدنيا! 

وجد إغراء شديذًا في أن يسأها: 

- كيف تريئني؟ 

فتدخلت زبيدة بينبها قائلة : 

- كالعهد بك. جمل ولا كل الجمال» شعرة بيضاء 
تلمع تحت طربوشك ولا شيء خلاف ذلك! 

فقالت لها جليلة محتحة : 

- دعيني أجب أناء لأنْ سؤاله كان لي (ثم مخاطبة 
السيّد) أراك كما كنت, لا غرابة في ذلك. ما «نحن» 
إلا أبناء الأمس القريب! 

فطن السيّد إلى ها رمت إليهء فقال متكلْفا الجدٌ 
والصدق: 

أمَا أنتها فقد ازددتما حسنًا ورواء» لم أكن أنتظر 
هذا كله. 

زبيدة» وهي تتفشخصه باهتيام : 

- ما الذي غيّبك عنا ذلك العمر كله؟ (ثم 
ضاحكة) كان بوسعك. لو كان فيك خيرء. أن تلقانا 
لقاء بريئاء ألا يكون لقاء بيننا إِلّا إذا كان الفراش 
نحتما ؟ 

قال السيد إبرأهيم الفار» وهو يرعش ذراعه في 
امهواء ليحسر كم القفطان عنه : 

- لا علم له ولنا بأنْ ثمّة لقاء بريئًا يمكن أن يجمع 
بيننا وبينكرٌ ! 


زبيدة متأففة : 

أعوذ بالله منكم يا رجالء لا تودون المرأة إلا 
مطية ! 

فقهقهت جليلة قائلة : 

د يا ست أنك ادي ربنا على ذلكء أكنث 
تكتنزين هذا الشحم كله لولم تضمري في نفسك أن 
تكوني مطيّة أو حشية؟ 

فقالت طا زبيدة معاتبة: 

- خلى بيني وبين الْمنْهُم كي أحقق معه. . . 

قال السيّد أحمد باسما: 

كنت محكوما عل بخمس سئوات بريئة بدون 

فعادت زبيدة تباحمه قائلة في تبكم : 

يا ولداه! حرّمت على نفسك اللذات كلهاء كلها 
يا ولداه. حتى لم يبنّ لك منبا إلا الطعام والخمر 
والطرب والمزاح والسهر حبّى مطلع الفجر كل ليلة! 

فقَال السيد كالمعتذر: 

هذه أشياء لا بد منا للقلب الحزين» أما 
الأخرى . . . ! 

زبيدة وهي تلوّح له بيدها كأما تقول له «آه منك 
١ه‏ : 

علمت الآن أنّك تعدّنا شدًا من كافة الذنوب 
واللتظانا بن 

مميّد عنّت هاتفًا مقاطعًاء كأنما تذكّر أمرًا هامًا كاد 
يفلت منه: 

هل جثنا من أقصى الأرض كي نتكلّم» على حين 
تطلّ علينا الأقداح ولا تجد من يعنى بها! املا الأقداح 
يا عليّ. اربطي الأوتار يا زنُوبة؟ الع ملابسك يا 
حضرة المحترم» أنت حاسب نفسك في مدرسة؟ انزع 
الحبّة والطربوش» لا نظن أنك أعفيت من التحقيق. 
ولكن يجب أوَلَّا أن تسكر المحكمة وأن تسكر النيابة ثم 


نعود إلى التحقيق» جليلة أصئت على تأجيل السكر 


حي عضر سلطان الفرفشة أو ىا قالت» هله الولية 


تعرّك إعزاز الشيطان للضال المزمن» بارك الله لك فيها 


وبارك لها فيك. . . 


قصر الشوق 5 


مض السيّد أحمد ليخلع الجحبّة؛ قام عل عبد 
الرحيم ليتول ‏ كعادته ‏ مهمّة الساقي؛ صدرت عن 
أوتار العود *مسات غير مؤتلفة للاختبار» دندنت زبيدة 
في غمغمةء سوّت جليلة بأناملهسا خصلات شعرها 
وطوق الفستان فيها بين ثدييهاء تابعت أعين بتشوق 
يدي عل عبد الرحيم وهو يملاً الأقداح. تربع السيد 
أحمد في مجلسه وهو يجيل بصره في المكان والناس حت 
التقت عيناه اتّفاقًا بعيي زنوبة فابتسمت الأعين تميّة 
قدّم عل عبد الرحيم الدفعة الأولى من الكثوس. قال 
مممّد عفّْت : صحتكم ونحيتك. قالت جليلة: نخب 
العودة يا سي أحمد. قالت زبيدة: ننخب الهداية بعد 
الضلال؛ قال أحمد: تخب الأحباب الذين فرّق الحزن 
بي وبيهم. .. شربوا عندما رفع السيد أحمد كأسه 
إلى شفتيه» رأى من فوق سفح الكأس وجه زثوبة 
مرفوعًا كذلك إلى كأسه فهرّته نضارته؛ قال محمد 
عفت لعل عبد الرحيم : أملا الثاني وقال له إبراهيم 
الفار: والثالث في أثره حيّى نثبت الأساس» قال عل 
عبد الرحيم وهو يشمر: نخادم القوم سيدهم. وجد 
أحمد عبد الجواد نفسه يتابع أنامل زنُوبة وهي تربط 
الأوتار» فتساءل عن عمرها ثم قذّره بين الخامسة 
والعشرين وبين الثلاثين»: ساءل نفسه مرّة أخرى عنما 
جاء مبا. . , العود؟! . . . أم أن خالتها زبيدة تبيئ لها 
سبيل الرزق؟ قال السيّد إبراهيم الفار: إِنْ النظر إلى 
ماء النيل يدوّخه. فهتفت به جليلة: يا ابن الدامحة! 
سال علٌ عبد الرحيم : إذا رميت امرأة في حجم جليلة 
أو زبيدة إلى الماء فهل تغرق أم تطفو؟ فأجابه السيّد 
أحمد بأنئّبا تطفو إلا إذا كان مها ثقب. ساءل السيّد 
أحمد نفسه عًا يحدث لو نزعت به نفسه إلى زنُوبة, 
فأجابت نفسه بِأنْ ذلك يكون فضيحة لو أراده الآن. 
أمَا بعد حمس كئوس فلن يخلو من حرج. وأما بعد 
زجاجة فيكون واجبًا. . . اقترح محمد عفّت أن يشربوا 
كاسًا في صحّة سعد زغلول ومصطفى النحاس اللذين 
سيسافران في مماية الشهر من باريس إلى لندن 
للمفاوضة» اقترح إبراهيم الفار أن يشربوا كأسا آخر 
في صحّة مكدونالد صديق المصريّين» تساءل عل عبد 


قصر الشوق 


الرحيم عا عناه مكدونالد بقوله : «إنّه يستطيع أن يحل 
القضيّة المصريّة قبل أن يفرغ من فنجان القهوة الذي 
كان بين يديه». فأجابه أحمد عبد الحواد بأنْ ذلك يعني 
أن الإنجليزيّ يشرب فنجان القهوة ‏ في المتوسّط - في 
نصف قرن» تذكّر السيّد أحمد كيف ثار على الثورة 
عقب مصرع فهمي وكيف ثاب رويدًا إلى مشاعره 
الوطئيّة الأولى لما أسبغه الئاس عليه من تقدير وإكبار 
بصفته والد لشهيد نبيل, ثم كيف انقلبت مأساة 
فهمي مم الزمن مفخرة يباهي ببا وهو لا يدري ! 

رفعت جليلة كأسها صوب السيد أحمد وهي تقول: 

صحّتك يا جمل. طلما كنت أسائل نفسبى هل 
نكن عن لكين انك ولكبى علم ا عذركك 
ودعوت الله أن يلهمك الصير والعزاءء لا تعجب فأنا 
أختك وأنت أخي . . 

فسألا محمد عت بخيث : 

إذا كنت أخته وكان أخاك كا تدعين» فهل يفعل 
الأخوان ما فعلت) في زمانى)؟ 

فأطلقت ضحكة أعادت إلى الأذهان ذكريات عام 
وما قله؛ وقالت: 

- سل أخوالك يا روح أمك. . . 

قالت زبيدة وهي تلحظ أحمد عبد الجواد بمكر: 

بدا لي رأي آخر في تفسير غيبته الطويلة. . . 

سأها أكثر من صوت عا بدا لحا. على حين تمتم 
السيّد أحمد بصوت المستعيذ: 

ميقا عاتن ار د 

بدا لي أنّه ربما كان حصل عنده ضعف مما يدرك 
الكهرل أمثاله. فاعتل بالحزن واختفى. . . 

قالت جليلة معترضة وهي تمر رأسها على أسلوب 
العوالم : 

- إِنْه آخر من يدركه الكير! 

فسأل السيّد مممّد عفْت السيّد أحمد: 

أي الرأيين أصمم؟ 

فقال السيد أحمد بلهجة ذات معنى : 

الرأي الأول يعثر عن الخوف والآخر يعبر عن 
الرجاء؟ 


قالت جليلة بظفر وارتياح : 

لست من يخيب عندهم الرجاء . 

هم بأن يقول «عند الامتحان يُكرم المرء أو يبان 
ولكنّه اف أن يُدعى للامتحان أو أن يُفهم قوله على 
أنه تقديم في الامتحان, على حين كان كلا أنعم النظر 
كن منه شعور بالنفور وبالزهد لم مُجِرٍ له في خاطر قبل 
الممجيء . أجل ثمّة تغيّر لا ينكر. مفى الأمس. وليس 
اليوم كالأمس» لا زبيدة بزبيدة ولا جليلة بجليلة 
وليس ثمة ما يستحق المغامرةء. ليقشع بالأححوة التي 
نوهت بها جليلة» وليمدها حيّى تظلل زبيدة نفسها. 
قال برقة : 

من أين للكبر أن يدرك أدميًا وهو بيذكن ] 

نساءلت زبيدة وهي تقلب عينيها في الرجال 
الغلاثة : 

أييكم الأكبر؟ 

فقال السيّد أحمد بيراءة: 

ب أنأ ولدت في أعقاب ثورة عرابي. . . ! 

فقال محمد عفت محتجا: 

قل كلامًا غير هذاء لقد بلغني أنك كنت من 
جنود عرابي...! 

فقال السيّد أحمد ' 

كنت جنديًا من بطودهمء كما يقال الآن: تلميذ 
من منازطهم . . . 

فتساءل عل عبد الرحيم كالداهش : 

- وماذا صنعت المرحومة والدتك وأنت داخل 
خخارج إلى المعركة؟ ! 

صاحت زبيدة بعد أن أفرغت الكأس في فيها: 

لا تبربوا بالهزارء إني أسألكم عن أعماركم . . . 

قال إبراهيم الفار بتحدٌ: 

ثلاثتنا بين الفمسين والخمسة والخمسين, فهل 
تكاقنايا عير" 

هرت زبيدة كتفيها استهانة» وقالت: 

أنا ولدت , , 

ثم ضاقت عيناها المكحولتان وهما ترفعان إلى 
المصباح في حال تذكرء غير أن السيّد أحمد عاجلها 


متممًا ما توقفت عن إتمامه : 

- عقب ثورة سعد باشا؟! 

ضحكوا طويلا حب ألعبت لهم الوسطىء» ولكنْ 
جليلة لم ترخب بالحديث فيا بداء فصاحت بهم : 

دعونا من هذه السيرة المقطرنة! ما لنا نحن 
والأعيار! ليسأل عنها صاحب الأمر في سباواتهء أما 
نحن فالمرأة منا شابّة ما وجدت من يرغب فيهاء 
والرجل منكم شاب ما وجد من ترغب فيه. . . 

هتف عل عبد الرحيم بغتة : 

- هذئوني !| 

وسكل عرّا يهنا عليه» فواصل الهتاف قائلا: 

اس 

قال أحمد عبد الحواد: هم ينبغي أن يلحقوا به قبل 
أن يضلٌ وحده في عالم السكر. حيّتهم جليلة على أن 
يتركوه وحده جزاء تعجله. آوى عل عبد الرحيم في 
ركن وفي يده كأس مترعة وهو يقول لهم: ابحثوا عن 
ساق غيري. قامت زبيدة إلى حيث تركت ملابسها 
الخارجيّة وفحصت في حقيبتها عن حُقٌ الكوكايين حت 
اطمأنت إلى أنه في مكانه. اغتنم إبراهيم الفار فرصة 
خلوٌ مكان زبيدة فجلس فيه ثم أسند رأسه إلى كتف 
جليلة وهو يتمد بصوت مسموع. نبض محمد عفت 
إلى النافذتين المطلتين على النيل وأزاح المخصاص عنهما 
جائبًا فلاح سطح الماء ظلات متحركة عدا خطوط من 
الضياء الحادئْ رسمتها على الأمواج الآشعة المرسّلة من 
مصابيح الذهبيّات الساهرة: لعبت زنوبة بأوتار العود 
محدثة نغمة راقصة فاتجهت عيئا السيّد إليها مليّا ثم قام 
ليملا كأسه لنفسه. عادت زبيدة فجلسثت بين مد 
عفت وأحمد عبد الجواد وهي تضرب الأخير على 
سلسلة ظهرهع علا صوت جليلة وهي تعن : 

«يوم ما عضتني العضة. . .». 

هتف إبراهيم الفار بدوره: هنكثوني... اشترك 
محمد عفت وزبيدة في غناء جليلة عند جملة: «وجابولي 
طاسة الخضّة».؛ اشتركت زنوبة في الأغنية» فعاود 
السيّد أحمد النظر إليها وما يدري إلا وهو ينضمٌ إلى 
المغئين. جاء صوت عل عبد الرحيم من ركن الحجرة 


قصر الشوق 72> 


مؤيّدًا. هتف إبراهيم الفار ورأسه لا يزال مسندًا إلى 
كتف جليلة: مغنون ستة وسمّيع واحد هو أنا. قال 
السيّد أحمد لنفسه دون أن يتوقف عن الغناء: سوف 
تلبي وهي من الرضى والسرور في نماية» ثم ساءل 
نفسه أيضا: ألليلة عابرة أم معاشرة طويلة؟ قام 
إبراهيم الفار فجأة واندفع يرقص. جعل اجلدميع 
يصمّقون على الواحدة ثم غنّوا معًا: 

وخدنى في جيك بقه, . . بين احزام والمنطقة» , 

ساءل السيّد أحمد نفسه: ترى أتقبل زبيدة أن 
يكون اللقاء في بيتها؟... انتهت الأغنية والرقتص 
فاستبقوا إلى التراشق بالدعابات دون توقف. جعل 
أحمد عبد الحواد كلما أطلق دعابة يسترق النظر إلى وجه 
زلوبة ليرى أثرها فيهء اشتدٌ احرج والمرج. ومضى 
الوقت منسرقا. , , 

- آن لى أن أذهب. . . 

قال عل عبد الرحيم ذلك. وهو ينبض متَّجِهًا إلى 
ملابسه . فصاح به محمد عفت ساخطا : 

قلت لك أن أحضرها معك حيّى لا نقطع 
السهرة] 

تساءلت زبيدة وهي ترفم سحاصيها : 

- من هي المحروسة؟ 

فثال إبراهيم الفار: 

رفيقة جديدة: معلّمة قدّ الدنيا وصاحبة بيت 
بوجه اليركة, . . 

فسأله السيّد أحمد باهتام : 

000 

أجاب عل عبد الرحيم. وهو يحبك الحبة ضاحهًا : 

- صاحبتك القديمة سئيّة القللي. . . 

فانّسعت عينا السيّد الزرقاوانء وتجلت فيهها نظرة 
حالمة. ثم قال باسما: 

اذكري عندها وأقرئها السلام. . . 

قال عل عبد الرحيم؛ وهو يفتل شاربه ويتاهب 
للذهاب: 

- سألت عنك واقترحث عل أن أدعوك إلى قضاء 
سهرة في بيتها بعد مواعيد العمل» فقلت لما إِنْ بكره 


5 قصر الشوق 


اسم النبِيّ حارسه قد بلغ السنّ التي تعدّ في أسرتهم 
موجبة للدخول في وجه البركة وغيرها من وجوه 
الفسق, فلا يأمن أبوه إن جاء أن يلتقى به في إحدى 
جولاته . . . ! 

وضحك الرجل ملء شدقيهء ثم سلّم وغادر 
الحجرة إلى الدهليز» فتبعه على الأثر محمد عفت وأحمد 
عبد الجواد ليوصلاه إلى الباب الخارجيّ واستمروا 
يتحادئثون ويتضاحكون حبّى غادر السيد عل العوامة, 
وعند ذاك غمز مممّد عفت دراع أحمد عبد الجواد. 
وهو يتساءل : 

- زبيدة أم جليلة؟ 

فقال السيد أحمد ببساطة ؛ 

لا هذه ولا تلك!] 

1؟ كفى الله الشرً! ! 

فقال بلهجة القانع : 

خطوة خطوة. سوف أكتفي ما بقى من هذه 
الليلة بالشراب وسماع العود. . . ! 

ألم عليه أن يقَدّم رجله خطوة أخرىء ولكنه 
اعتذر فلم يثقل عليه؛ عادا إلى الحجرة المبعثرة الفاقدة 
الوعي فاستردًا مجلسيها. قام إبراهيم الفار مقام 
الساقي . افتضحت أمارات السكر في وهج العيون 
وسلس الحديث وتحرّر الأعضاء. نوا جميعًا وراء 
زبيدة : 

والبحر بيضحك ليةه, . .؛. 

لوحظ أنّْ صوت السيّد أحمد عبد الخواد علا حي 
كاد يغطى على صوت زبيدة» روت جليلة تناتيش من 
مغامراتها. مذ وقع بصري عليك شعرت بِأنْ الليلة لن 
تمرّ بلا مغامرةء ما أملح الصغيرة» الصغيرة؟ هي 
كذلك ما دمت تكبرها بربع قرن. تحسّر إبراهيم الفار 
على العصر الذهبيَ للنحخاس على أُيّام الحربء فقال 
لهم بلسان ثقيل «كنتم تقبّلون يدي من أجل رطل 
نحاس» فقال له السيّد أحمد: «إن كان لك عند 
الكلب حاجة قل له يا سبّدى). اشتكت زبيدة شذة 
السكر فقامت تتمشّى ذهابًا وجيئة» وعند ذاك جعلوا 
يصفّقون على إيقاع مشيتها المترنّحة ومبتفون بها؛ 


«تاتا حطي العتبة. . . تاتا حطي العتبة». 

الخمر تشلّ العضو الذي يفرز الحزن. غمغمت 
جليلة قائلة: وحسبناه»» ونبضت ففغادرت الحجرة إلى 
ردهة تفضي إلى مخدعين متقابلين» فالت إلى المخدع 
المجاور للنيل ودخلت». وما لبث أن ترامت إليهم 
طقطقة الفراش وهو يتلقَى جسمها العظيم» راق زبيدة 
تصرّف جليلة فاتبعت أثرها إلى المخدع الآخر باعشة 
وراءها طقطقة أعنف. قال إبراهيم الفار: «إِنَّ لسان 
السرير قد نطق». تناهى إليهم من المخدع الأول 
صوث وان يترلم حاكيا بححخة منيرة : ويا حبيبي تعالى؛. 
فقام عمّد عفتث وهو ميب مترئما كذلك : «اديي 
جي». نظر إبراهيم الفار إلى أحمد عبد الجواد 
متسائلك فقال له السيّد: «إذا لم تستح فاصلم ما 
شئت»2 فقام وهو يقول: «لا حياء في العوامة!». . 
خلا الج ها هي الساعة التي رصدتها طويلا. نحت 
الصغيرة العود جانبًا وترئعت وهي تسبل حاشية 
الفستان على ساقيها المتشابكتين. ساد صمت وتبودل 
نظر ثم مذت بصرها إلى لا شىء» تكهرب الصمت 
فلم يعد تمُحتمل» نبضت فجأة فسأها: إلى أين؟ 
فغمغمت وهى تمرق من الباب : «المامة. قأم بدوه 
إلى مجلسها فجلس وتناول العود وراح يعبث بأوتاره 
وطتى يالل زالس كثة بعججرة قالقة 1 اتسيف 
لقلبك أن يدق هكذا كأنما الجددي الإنجليزي 07 
أمامه في الظلام» ليلة أمّ مريم هل تذكر؟ لا تعد إلى 
ذكراها فهي ألم. عادت من الجتام... ما 
أنضرها! . . . 

- أتضرب العود؟ 

أجاب باسمًا : 

- حسبك الدف فإِنك من رجاله! 

وهو يتنهد : 

- تلك أيام خلت» ما الطفهاء كنت طفلة! ما لك 
لا تجلسين؟ 

تكاد تلمسك. ما أحلى أوّل الصيد! 

خخذي العود وأسمعين . . 


- شيعنا غناء وعزفًا وضحكاء عرفت الليلة أكثر من 
ذي قبل لماذا يفتقدونك في كل سهرة! 

فابتسم ابتسامة وشت بسرورهء ثم قال بمكر: 

- ولكنك لم تشبعي شربًا؟ 

فأجابت بالإيجاب وهي تضحك,ء فوثب كالجواد إلى 
المائدة. ثم عاد بزجاجة مملوءة حي النصف, وكأسين» 
وجلس وهو يقول: «لنشرب معاء». الشرهة اللذيذة 
تنفث عيناها شيطئة وسحرّاء سلها عن الحجرة 
الثالثة. .. سَلُ نفسك: ليلة أم معاشرة... وعن 
العواقب لا تسل أحمد عبد الحواد بجلالة قدره يفتح 
ذراعيه لزنوبة العوّادة. . . بصحاف الفاكهة كانت 
و لكن لتحل بك السعادة جزاء 
نضارتك» أمّا الكبر فلم يكن أبدًا من شيمي . . . رأى 
كفْها القابضة على الكأس قريبة من ركبته» فمدٌ راحته 
ورت عليها بلطف. ولكنها سحبتها في صمت إلى 
حجرها دون أن تلتفت إليهى فساءل نفسه ترى هل 
يحلو التدلّل في هذا الوقت المتأئخر خاصّة إذا كان 
الداعي مثله وكانث المدعؤة مثلها؟ غير أنه لم يمد عن 
سنن الملايئة والملاطفة» فسألا بلهجة ذات معنى : 

- أليس ثمة حجرة ثالئة في العوامة؟ 

قالت تيب على ظاهر السؤال متجاهلة مغزاه وهي 
تشير صوب باب الدهليز: 

في الناحية الأخرى. . 

تساءل وهو يفتل شاربه مبتسما: 

- أليست تسم كلينا؟ 

فقالت بصوت لا أثر للدلال فيه. وإن لم يجاوز 
حدود الأدب : 

- تسعك وحدك إن طاب لك النوم! 

فسألا كالداهش : 


وأنت؟ 

فقالت بنفس اللهجة: 

مستريحة كا أنا. . 

تزحزم قليلًا مقتربًا منهاء ولكتّها قامت فوضعت 
كأسها على المائدة» ثُمّ مضت إلى الكنبة المقابلة له. 
فجلست رأسمة على وجهها صورة الحدٌ والاحتجاج 


قصر الشوق »١19/‏ 


الصامت حبّى عجب الرجل لشأنها فباخ حماسه ووجد 
وخزة في كبريائه» ثم جعل ينظر إليها وعلى شفتيه 
ابتسامة متكلفة حيّ سأها: 

ماذا أغضيك؟ 

فلازمت الصمت مليّاء ثم شبكت ذراعيها على 
003 

- ني أتساءل عمًا أغضبك؟ 

قالت باقتضاب: 

ازا قل ب 

بم 0 عن استهانته 
وعدم تصديقه. وقام بدوره فملاً الكاسين ثم قدم لها 
كأسهاء وهو يقول: 

- روفي مزاجك . . 

فتناولت الكأس ناث أعادتها إلى المائدة» وهي 
تغمغم «أشكرك» فتراجع إلى مجلسه وقعد. ثم رفع 
كأسه إلى شفتيه وتجزعها ذفعة واحدة وفيقة :فا كا 

أكان في وسعك أن تتوقع هذه المفاجأة؟ لو 5 
أن أرجم في الزمن ربع ساعة إلى الوراء» زثوبة. 
زنوبة. .. ولا شىء غير زنوبة فهل تصدّق ذلك؟ لا 
تتشتت حيال الصدمة2 من يدري لعلّه دلال موضة 
6 يا حمصان .١4٠٠‏ ماذا تغير في؟.. الا 
ا اليس ذلك هو اسمها؟ 
لكل رجل حتمًا من امرأة تعرض عنهء وما دامت زبيدة 
وجليلة وأمّ مريم يسعين إليك فمَن غير زنُوبة - هذه 
الخنفساء ‏ تعرض عنك؟! تحمل حتّى تحتمل» ليس 
الأمر على أيّ حال بكارئة» آهء انظر انظرء ساقها 
مليحة مدملجة. أساسها متين. لم تظنْ أئها أعرضت 
عنك حمًا؟ . . 

فتن اسار 

قالت بصوت يجمع بين الأدب والحزم : 

ديفتلها رزو قال الشرات .. 

فسدّد نحوها بصره. ثم تساءل بلهجة ذات معنى : 

- ومتى يروق لك . . .؟ 

فقطبت معلنة عن مدى فهمها لإشارته وم 


4 قصر الشوق 


تساءل السيّد. وكان يشعر في تلك اللحظة أنه 
يدهون, 

- ألم يصادف توددي القبول؟ 

فطامنت من رأسها لتخفي وجهها عن عيئيه. 
وقالت برجاء حازم : 

- هلا كففت عن هُذا؟ 

فلكه غضب فجائئ فجاء كردٌ فعل لإحساسه 
بالتدهور, فتساءل داهشا: 

- إل تجيئين إلى هنا؟ 

قالت باحتجاج, وهي تشير إلى العود المستلقي على 
الكنبة غسر بعيد عنه : 

د الع قن أجل دا د 

- فقط؟. . . لا تناقض بين هذا وبين ما أدعوك 
إليه. . . ! 

تساءلت باستياء : 

بالقوة؟ 

فقال وهو يعاني سكرات الخيبة والحلق : 

كلاء ولكبّى لا أجد سبيًا للرفض! 

فقالت ببرود: 

- لعل عندي اها نا بر 

ضحك ضحكة عالية فاضية» ثم غلبه الحنق. 
فقال هازثًا : 

لعلّك تخافين على بكارتك! 

رنت إليه بنظرة طويلة قاسية:, ثم قالت بحنق 
وتشفف : 

أنا لا أرضى إلا يمن أحيّه. . 

هم بأن يضحك مرّة أخرى., ولكنّه أمسك بعد أن 
ضاق صدره مبذه الضحكات الأليّة المحزنة؛ وملٌ يده 
إلى القارورة فصب منها في كأسه بلا تدئر حيّى امتلأت 
إلى النصف. ولكنّه تركها على المائدة» وراح ينظر إلى 
المرأة في حيرة لا يدري كيف يخرج من المأزق الذي 
دفع نفسه إليه. .. الأفعى بنت الأفعى لا ترضى إلا 
بمن تبه هل يعني هذا إِلَّا أثها تحبٌ كل ليلة رجلا! 
هيهات أن تمحى من صفحتك فضيحة الليلة! السادة 
هناك في الداخملء وأنت هنا تحت رحمة عوادة 


متدلّلة. . . اسلخها بلسانك. . . اركلها بقدمك. , . 
ادفعها أمامك إلى الحجرة قهرًا. الأجدر أن تشيح عتها 
بوجهك وتغادر المكان فورّاء في أعيننا لعنة تذْلٌ 
الأعناق. ما ألطف جيدهاء لا تمار في حلاوتهاء» طاش 
الرأي ووجب الالميحي 

لم أكن أتوقم هذا الحفاء. . 

وقطب مصمًّ وقد تُجهُم وجهه. فض رافعا كتفيه 
في استهانة.» وهو يقول: 

ظننتك مثل خخالتك لطافة وذوقًا فخاب ظبِي» ولن 
الوم إلة نفدي ... 

سمع وسوسة شفتيها وهي تمتص ريقها مضصة 
الاحتجاج والانتقاد. ولكنّه مضى إلى ملابسه فأحذ 
يلبسها على عجل حيّى انتهى منها في أقل من نصف 
المدّة التى تتطلبها عادة أناقته. كان مصمّمًا غاضبًاء 
ولكنّ اليأس لم يبلغ به مايتهء ظل جزء من نفسه 
متمرّدًا يأبى أن يصدّق ما وقع أو يعزّ عليه أن يسلم 
به فتناول عصاه وهو يترقب بين لمظة وأخرى أن 
يحدث شيء فيكذب ظنّه ويصدّق أمانّ كبريائه 
الجريح» كأن تضحك فجأة حاسرة عن وجهها قناع 
الجد الزائف. أو أن تبرع إليه مستنكرة غضبه. أو أن 
تثب أمامه لتحول بيئه وبين الذهاب» أجل كثيرًا ما 
تكون مصّة الريق التي ندّت عنها مناورة يعقبها 
الاستسلام» غير أن شيئًا من ذلك لم يحدث . 

ولبئت وهي بمجلسها تنظر إلى لا شيء»؛ متجاهلة 
ياه كأثها لا تراه. فغادر الحجرة إلى الدهليز ومنه إلى 
الباب الخارجيئ ثم إلى الطريق وهو يتسد في حرن 
وأسف وغيظ. قطع الطريق المظلم يا على الأقدام 
حبّى بلغ جسر الزمالك وجو الخريف الرطيب يتسلّل 
في لطف إلى داخل ملابسه. ومن هناك استقل 
تاكبيىء فطوى به الأرض طيًا وهو ذاهل من السكر 
والفكرن تسن القنة نإل بعتا جعرلم ال فيان الأوميرا 
والسيارة تدور به في طريقها إلى العتبة الخضراء. في 
أثناء دورانها حانت منه التفاتة فلمح على ضوء 
المصابيح سور حديقة الأزبكية فعلق به بصره حتى 


. 


بشكة تنفذ إلى أعماق قلبه. ووجد في باطنه صونًا 
كالأنين يبتف في عالمه الصامت داعيًا بالرحمة للفقيد 
العريزء فلم يجرؤ على ترديد الدعاء بلسانه أن يذكر 
اسم الله بلسان مشبع بالخمرء وعندما رفع جفنيه. 


ذرفت عيئاه دمعتين غزيرتين. .. 


000" 
لم يدر ماذا ركبه!! شيطان رجيم أم داء وبيل؟ نام 
وهو يأمل أن يكون انتهى من سخف الليلة الماضية. 
بسخف السكر دعاه» وللسكر سخف لا ريب فيه 
بفسد لذاته ويقلب مسراته» وعندما ألقى عليه الصباح 
ووه اوبجكيه من ا قلق جتنلهي روزاقنان. لان برشن 
على جسده العاري تشتّت فكره وخحفق قلبه؛ تخايل 
لعينيه وجهها وطنت في أذنيه وسوسة شفتيها ورجم 
قلبه صدى الألمىء ثم تجترٌ أفكارك الظامئة كفتى مراهق 
والطريق من حولك يحييك تحيّة الإجلال. يحون فيك 
الوقار والورع وحسن الجوارء ولو علموا أك ترد 
اهم في آليّة وفكرك عنهم غائب مهموم ني حلم 
جارية عالمة. . . عوّادة. . . امرأة تعرض جسدها كل 
ليلة في سوق المضاجم. . . لو علموا ذلك, لأولوك 
بدل التحيّة ابتسامة هزء ورثاء. فلتقل الأفعى انعم) 
وعند ذلك أعرض عنا بكل ازدراء وارتياح» ماذا 
دهاني وماذا أرومء هل أدركك الكبر؟ أتذكر ما ابتل 
جليلة وزبيدة من عاديات الزمن؟ تلك آثار بغيضة 
يجدها القلب ولا يدركها الحسّ. لكن مهلاء حذار أن 
تسلّم للوهم فيسلّمك الوهم لقمة سائغة للانميار. . . 
ما هي إلا شعرة بيضاءء لغير ذلك من البواعث 
أعرضت عنك العوّادة الحقيرة. . . الفظها كما تلفظ 
ذبابة اندسّت في فيك وأنت تتثاءب» واأسفاه!! أنت 
تعلم أنّك لن تلفظهاء لعلّها الرغبة في الانتقام ولا 
شىء سوى ذُلك. رد اعتبار ليس إلا. ينبغي أن تقول 
الجارية «نعمن. ولك أن تبجرها بعد ذلك قرير 
العين. لا شىء فيها يستحقٌّ النضال. أتذكر ساقيها 
وجيدها وشهوة عيئيها؟ لو داويت كيريائك بلعقة من 
الصير لفزت - من ليلتك - بالمتعة والبهجة, ماذا وراء 


قصر الشوق ال 


هذا القلق كلّه؟! إن اتالم. أجل! إن أتألمء إن 
مكروب بما نزل بي من مهانةء أتوعّدها بالازدراء ثم 
تخطر منبا على القلب خطرة فتستعر عروقي . .. استبق 
الحياء ولا تجعل من نفسك أضحوكة:» إني أستحلفك 
بالأولاد من بقي منهم ومن ذهب . . . هنيّة كانت المرأة 
الوحيدة التي هجرتك فجريت وراءهاء ماذا لقيت 
منها؟ ألا تذكر!! فتوّة الزفة يرقص ويسكر وبصول 
ويجول. ثم يعمل عصاه في المصابيح وطاقات الورد 
والمزامير والمدعوّين؛ حتّى يغسطي الصلوات على 
الزغاريد. .. ذاك رجل؟! كن فتوّة العرّامة واقتل 
أعداءك بالتجاهل والإعراض. ما أضعف أعداءك وما 
أقراهم. ساق مسترخحية لا تكاد تقوى عل المني غير 
أنها عهدٌ الجبال الرواسي» ما أفظع سبتمير إذا ارتفعت 
حرارته المشبعة بالرطوية» ما ألطف أماسيّه خاضة ما 
يكون منها في العوامة. إِنْ بعد العسر يسرًا. . . 

فكر في أمرك وانظر في أي انجاه تسيرء المكتوب 
لازم تشوفه العين: الإقدام مُرْ والتكوص مرعب. كم 
كنت تراها وهي في ميعة الصبا فلم توقظ فيك نائما 
ومررت بها كأئّها شىء لم يكن» ماذا جدّ حب زهدت 
فيمن أحببت وأحببت من كنت تزهد. ليست أجمل من 
زبيدة ولا جليلة ولو كان ببا حمال ينافس جمال حالتها 
ما اصطحبتهاء على ذلك فانت تريدها وتريدها بكلّ 
قرّةِ نفسك.. . آه!! ما جدوى المكابرة؟! لا أرضى 
إلا بمن أحبّه!! أَحَبّكِ برص يا بنت اللبؤة. . . تألم 
حي تختسق, ما أذلٌ الإنسان مثل نفسهء هل تذهب 
إلى العوّامة؟ ليست حير مكان لإذاعة الفضائح. 
البيت؟ هناك زبيدة!! أهلا أهلا!! أعدت أخيرًا إلى 
عرينك؟ بم تجيبها؟ لم أعد لذاك» ولكيّي أريد بنت 
أخحتك! يا له من سخف!| دع المهذر. هل فقدت 
صوابك!؟ استعن بالغار أو بمحمّد عفت. السيّد أحمد 
عبد الحواد يبحث لنفسه عن شفيع إلى.. 
زنّوبة!... أليس من الأفضل أن تفصد نفسك حي 
يتفصّد الدم الخبيث الذي يسيمك الذل! 

كان الليل قد غثشى الغوريّة وأغلقت أبواب 
حوانيتهاء» حين أقبل 5 عبد الحواد من دكانه عقب 


قصر الشوق 


إغلاقها. يسير في خحطوات وثيدة وعيئاه تتفخخصان 
الطريق والنوافذء لاح وراء نافذق زبيدة ضوءء ولكنه 
: يدر ماذا كان يدور وراءهماء أوغل في الطريق وقتا 
ثم عاد من حيث أنى» فوصل مسيره إلى بيت مخصد 
عفت بالجاليّة حيث يلتقى الأصدقاء الأربعة قبل 
انطلاقهم إلى السهرة معًا. قال السيّد مخاطبا محمد 
عنضبسا : 

ما ألطف ليالي العوّامة, لا يزال قلبي بحن إليها! 

فقال محمّد عفْتِ ضاحكا في ظفر؛ 

- هي رهن إشارتك في أي وقت تشاء . . . 

وعقّب عل عبد الرحيم على ذلك بقوله : 

موف إل زعاة بااعكرورك: » 

فبادر السيّد قائلا في جدٌ: 

كلا, . . 

جليلة؟ 

- العوامة ولا شبىء عداها. . . 

فسأله محمّد عفْت بمكر: 

- أتريدها سهرة قاصرة عليناء أم ندمو إليها 
صديقات الزمان الأؤل؟ 

فضحك السيّد ضحكة أعلن بها هزيمته. ثم قال: 

- بل تدعوهنٌ يا بن الماكرة» وليكن ذلك مساء 
الغد. لأن الوقت تأخر بنا الليلة» ولكيّى لن أجاوز 
الاستمتاع بالمجالسة والمؤانسة. . . ْ 

قال إبراهيم الفار «إحم»., وقال عل عبد الرحيم : 
دعل روحي أنا الحاني», وقال عمّد عت ساخخرًا: 
«سمه كا تشاء؛ تعدّدت الأسماء والفعل واحد». 

ثمّ كان اليوم التالي كأنما اكتشف قهوة سي عل 
لأول مرّة. انجذب إليها قبيل الأصيلء وجلس على 
الأريكة تحت الكوة» فأقبل عليه صاحب القهوة 
مرحبّاء فقال له السيّد وكأئه يبرّر مجيئه إلى القهوة لأوّل 
مرة : 

كنت راجعا من بعض الأعيال» فنازعتنى النفس 
إل تساك شالك القت ْ 

زيارة لا يبدو أثها من السهل أن تتكرّر. . . رويدًا 
رويدا!! ستفضح نفسك أمام الناس. ما جدوى هذا 


كلّه؟! هل يسرك حقًا أن تراك من وراء الخصاص 
لتهرأ من تدهورك؟ إِنْك لا تدري ماذا تصنع بنفسك. 
أتعبت عينيك في متحجريهها ودوخحت دماغك. لن تبدو 
لك والأدهى من هذا أن تتشرج عليك ساخرة من 
وراء خصاص. ماذا جاء بك؟ تريد أن تملأ عينيك 
منبا. اعترف»ء تريد أن تقيس أبعاد جسمها اللدن. . . 
أن ترى ابتسامتها وإغضاءتها... أن تتابع أناملها 
المخضبة. فيم هذا كله؟ لم يسلف لك شبيء كهذا مع 
من فُقنها حسنًا ورواء وشهرة» أقضي عليك أن تتعزّب 
وتبون في سبيل الشيء الحقيرا. لن تبدو. . . تطلع 
كيفيا شئثت... الفت إليك الأنظار. . . السيّد أحمد 
عبد الجواد في قهوة سي عل يسترق النظر من الكوة. 
لشِدّ ما تدهورت!! من أدراك أنْها لم تفش سرّك؟. 
لعل التخت يدري؛ ولعلٌ زبيدة نفسها تدري» ولعل 
الجميع يدرون!! مدّ يده المحلاة بالخاتم الماسيّ إل 
فصددته ثم توسل إل فأصررت على صذه. . . هذا 
هو السيد أحد عبد الجواد الذي تشيدون به!... 
شد ما تدهورت!! أقصى التدهور ما تلحدر إليه» بل 
ما تصرٌ على الانحدار إليه وأنت أعلم الناس بما 
ينطوي عليه فعلك المشين من مذلة وهوان. إذا عرف 
الس أصحابك وزبيدة وجليلة» فاذا أنت صانم؟! 
حقًا أنت ماهر في مداراة الحرج بالنكتة» ولكن سوف 
تنحس موجات الضحك والقهقهة عن الحقيقة 
المزة... هذا مؤلم وآلم منه أنّك تريدها. لا تكذب 
على نفسك. فأنت تريدها حي المياث. ماذا 
أرى؟... تساءل وهو ينظر إلى عربة كارو جاءت 
فوقفت أمام بيت العالمة» ثم ما لبث أن قُتح الباب 
فذتر حت عر شة الدذثكافة: ساحبة :وراءها عند 
القانونجيّ » ثم تبعتها بقيّة الجوقة» فادرك أنهم ذاهبون 
إلى فرح من الأفراح. وشعر الرجل شعورًا عنيفا 
بخفقان قلبه وهو يتطلّع إلى الباب في ترقب مشوق 
محرن. اشرأبٌ بعنقه في غير ما حيطة متجاهلا ما حوله 
من الناسء. ثم رنّت ضحكة وراء الباب. ثم برز 
العود في جراب بمب يسبق صاحبته التي خرجت في 
نشاط ثوريّ ضاحكة ثم وضعت العود على مقدّم 


العربة» وصعدت إليها بمعونة عيوشة» وجلست في 
الوسط حيّى لم يعد يُرى منما إلا منكبًا يبدو خلال 
زاوية انفرجت ما بين عيّوشة وعبده الضرير. أصرٌ 
السيّد على أسنانه حنيئًا وحنقًا معا. أتبع العربة عينيه 
وهي تتبايل ذات اليمين وذات الشمال موغلة في 
الطريق. غلّفة في صدره إحساسًا عميقًا بالكآبة 
والحوان» وتساءل: هل يقوم فيتبعها؟ غير أنه لم يحرّك 
ساكنًا ول يزد على أن قال لنفسه: «كان المجيء إلى هنا 
حماقة جنونية» . 

ذهب في المساء الموعود إلى العوامة بإمبابة» لم يكن 
استقرٌ على رأي فيا ينبغي أن يفعل على كثرة ما أدار 
الأمر في ذهنه. ثم أخيراء رهن حل مشاكله بيد 
الظروف والفرص... حسبه أنه ضمن رؤيتها 
ومجالستها والانفراد بها في آخصر الليل» سوف يس 
اللبض من جديد وربًا أعاد الكرّة مستعيئًا هذه المرّة 
بكافة ضروب الإغراء» دخل العوامة كالوجل» وعلى 
حال لو رآها على غيره وحدس بواعثها لأغرقه ضِحكًا 
وسخرية. هنالك وجد الإخوان وجليلة وزبيدة ولكنه 
لم يعثر للعوادة على أثر!! وقد استُقبل استقبالا حارّاء 
وما كاد يخلم جبّنه وطربوشه ويتخد مجلسه حتق 
انفجرت القهقهات من حوله فاندمج في جوها بقوة 
مرونته. حدّث ونكت ومازح وداعب مغالبًا قلقه 
بحاورًا همّه, غير أن محاوفه كمنت تحت تيّار المرح دون 
أن تتبدّد كيا يكمن الأ إلى حين تحت تأثير المخدّرء 
وما برح يأمل أن ينفتح باب فتأتي منه أو أن يشير إليها 
بكلمة تفسّر غياها أو تّعِدُ بقرب حضورهاء وكلما 
مضى الوقت متثاقلًا متثائبًا شحب أمله وفتر حماسه 
وغيم المأمول من صفوه. 

ترى أبّبها كان الطارئ: حضورها أول أمس» أم 
تخلفها اليوم؟ لن أسال أحدّاء الظواهر تنمّ على أن 
مرك لا يزال مصوناء لو علمت به زبيدة ها توزعت 
أن تجعل منه فضيحة وجرسة. ضحك كثيرا وشرب 
أكثرء سال زبيدة أن تغئيه وأاضحك من الفم وأبكي 
من صميم قلبي»» أرقف يرزة أن علو سين :عفت 
ليكاشفه بما يريد» أوشك مرة أن يجس نبض زبيدة 


قصر الشوق "1١‏ 


نفسها بيد أنه ضبط نفسه فخرج من أزمته مصون 
السب والكرامة . 

ولا قام عل عبد الرحيم عند منتصف الليل 
ليذهب إلى رفيقته بوجه البركة» قام معه على غير توقع 
من أحد ليعود إلى بيته» وعبئًا حاولوا أن يثنوه عن 
عسزمه أو أن يستنظروه ساعةء قذهب علنا وراءة 
دهشة» وخيبة للذين حدسوا وراء مجيئه المرسوم ظنونًا 
م تقع. 

ثم كان يوم الجمعة فخرج إلى جامع الحسين قبيل 
الصلاة بقليل؛ وإنّه ليسير في شارع خان جعفرء إذ 
رآها عابرة من حارة الوطاويط في طريق الجامع! . . , 
آه. .. لم يخفق قلبه مثل تلك الخفقة من قبل» وأعقبها 
على الأثر جمود شمل حركته النفسيّة كلهاء حبّى خيّل 
إليه - فيها يشبه الغيبوبة» وخلافًا للواقع ‏ أنه توقف 
عن السيرء وأنّ العالى من حوله صمّت صمت القبور, 
كمشل السيّارات التي تشوقف عرّكاتها عن الدفع 
فيخرس أزيزها ولكثّها تسير بقوّة القصور الذاتقّ في 
سكون شامل» ولا أفاق إلى نفسه وجدها تتقدمه 
بمسافة غير قصيرة. فتبعها على الأثر دون تدبر أو 
رويّة؛ فمرٌ بالجامع دون أن يعرّج إليه, ثم مال وراءها 
عن بُعْد إلى السكّة الجديدة. ماذا يبغي؟. إنه لا 
يدري!! كان يطيع رد الفعل طاعة عمياء» لم يكن 
سبق له أن تعقّب امرأة في الطريق ولا في أيَام شبابه 
الأول فأشخل ينتابه احرج والحذر. ثم دهمته فكرة 
سائخرة مفزعة معًا: أن يبتك سر المطاردة النفية. 
ياسين أو كيال! على أنّه حرص على ألا تقصر المسافة 
بينه وبينبا عا كانت عليه مذ بدأت المطاردة» وراحت 
عيناه ترتويات من هيئة جسمها اللطيف بهم وظمأ وهو 
يستقبل موجات متتابعة من الأشواق والآلام. حي 
رآها تعدل عن الطريق إلى دكان صائغ من معارفه 
يدعى يعقوب» تباطات قدماه كي يتيح لنفسه فرصة 
للتدبر وتضاعف شعوره بالحرج والحذر: آلا يعود من 
حيث أنى؟ أم يمرّ بالدكان دون أن يلتفت نحوها؟ أم 
ينظر إلى الداخل وينتظر ما يحدث؟ 


كان يقترب من الدكّان رويداء حبّى إذا لم بق بينه 


5 قصر الشوق 


وبينها إِلّا أقدام خطرت له خخاطرة جريئة» فاندفع إلى 
تنفيذها بلا تردّد متجاهلا خطورتباء وهي أن ينتقل إلى 
الطوار ثم يسير متمهّلًا أمام الدكّان على أمل أن يراه 
صاحبه فيدعوه كعادته إلى الجلوس فيلبّيى دعوته!. 
مضى متمهّلا فوق الطوار حقّى بلغ الدكّان؛ فنظر إلى 
الداخل كانئما ينظر عفواء فالتقت عيئاه بعيني 
يعقوب... وإذا بالخواجا هتف به: 

أهلا بالسيّد أحمدء تفضل. . 

ابتسم السيّد متودّدًا ثم عرّج إلى الداخل فتصافحا 
بحرارة ودعاه الخواجا إلى كوب خروب». فقبل الدعوة 
قبول الكرام» وجلس على طرف كنبة جلدية من قبل 
الخوان المنصوب عليه الميزان. لم يبد عليه أنه فطن إلى 
وجود ثالث في الدكّان حيّى جلس فتراءت أمام عينيه 
زئوبة وهي واقفة حيال الخنواجا تقلّب بين يدبها قرطا 
فتظاهر بالدهش» والتقت عيناهما وهو على تلك 
الحال... ابتسمت فابتسم» ثم بسط راحته على 
صدره محيياء وهو يقول: 

- صباح الخير. . . كيف حالك؟ 

فقالت وهي تعاود النظر إلى القرط : 

- بدخير ربنا يكرمك. . . 

كان الخواجا يعقوب يعرض استبدال القرط بأسورة 
مع دفع فرق اختلفا عليهء فانتهز السيّد فرصة انشغالها 
ليملا عينيه من صفحة خدّهاء ول يغب عليه ما في 
المساومة والاستبدال من فرص تتيح له التدخحل 
بالحسنى. لعل وعسى. . . غير أثْها قطعت عليه سبيله 
وإن لم تدر بما أضمرء فرذت القرط إلى صاحبه وهي 
تعلنه بأئّبا عدلت هائيًا عن المبادلة» وطلبت إليه 
إصلاح الأسورة. ثم حيتهء وحيت السيد بإحناءة من 
رأسها وغادرت الدكان! حدث هذا كله بسرعة لم يكن 
ثمة داع إليها فيا بدا لهء فأخذ وانزعج واستحوذ 
عليه الفتور والضيق. ولبث مع الخواجا يعقوب 
يتبادلان حديث المجاملات المألوف حبّى شرب كوب 
الخرّوب» ثم استأذن في الانصراف وذهب. 

ذكر ‏ في جل شديد ‏ صلاة الجمعة التي أوشكت 
أن تفوته» ولكنه تردّد في المضيّ إلى المجامع. لم ثواته 


الشجاعة على الانتقال المباشر من تعقّب امرأة وقت 
الصلاة إلى الجامع» ألم ينقض نزقه وضوءه؟ بل ألم 
يجعله غير أهل للوقوف بين يدي «الرحمن؟ عدل عن 
الصلاة حرونًا متألًا فسار في الطرقات ساعة على غير 
هدى. ثم عاد إلى البيت معاودًا التفكير في ذنبه» على 
أن رأسه ‏ حيّى في تلك اللحظات الحسّاسة المليئة 
بالندم ‏ لم يغلق بابه دون زنوبة! قال مخاطبًا محمد 
عفت» وكان قد سبق إلى بيته مساء ليخلو إليه قبل 
توافد الأصدقاء : 

أريد منك سخدمة. أن تدعو مساء الغد زبيدة إلى 
العوّامة ! 

ضحك محمّد عفّتء وقال له: 

- إن كنت تريدها فلم هذا اللف والدوران! لو 
طلبتها أُوْل ليلة لفتحت لك ذراعيها على الرحب 
لمعه دب 
فقال أحمد عبد الحواد في شيء من الخرج : 

- أريد أن تدعوها وحدها. , . ! 

ع توضدها؟ | ها للك من وجل آنا لذ تفكن إلا فى 
نفسك. والفار وأنا؟! بل لنجعلها ليلة من ليالي 
العمرء ولندع زبيدة وجليلة وزنوبة أيضا! . . . 

تساءل أحمد عبد الخحواد فيها يشبه الاستئكار: 

ا 

لم لا؟! إِنّبا احتياطيّ لا بأس بهء يُرجع إليه عند 
الضرورة. . 

ما آلمني!. كيف تنعت بنت القديمة و1؟! 

- أنت لم تدرك بعد غايي. الحقٌ أني لا انوي 
المجيىء غدًا! 

قال محمد عفْت في استغراب : 

د قلع أذ أدعى :ع3 تقول | للف ل 
غدذًا! ما هذه الألغاز!]! . ْ 

ضحك أحمد ضحكة عالية يداري بها ارتباكه؛ ثم 
م يجد بدا من أن يقول كاليائس: 

لا تكن بغلاء سألتك أن تدعو زبيدة وحدهاء 
كي تبقى زنوبة في البيت وحدها! 

- زنُوبة يا بن أمّ أحمد!؟ 


ثم وهو يسترسل في الضحك : 

ل كلّ هذا التعب؟ لم لم تطلبها أُوَل ليلة في 
العوّامة؟! ولو أشرت إليها بأصبعك لطارت إليك, 
ولزقت فيك بالغراء! 

ابتسم ابتسامة فارغة. رغم شعوره الأليم 
بالاأمتعاض. ثم قال ' 

د لنتيفاة اموك ديفن هل اها | وسي: 

قال محمّد عفّت وهو يفتل شاربه : 

ضعُف الطالب والمطلوب! 

فقال أحمد عبد الحواد جادًا جدًا' 

ناكم ها سا سنا 

طرق الباب في ظلام دامس وفي خلاء من المارة. 
وكالت الساعة تدور في التاسعة. فتح الباب بعد حين 
دون أن يبدو الفاتح. ثم جاءه صوت ارتح له فؤاده 
ارتجاجًا يتساءل قائلا : «ومن؟ فقال مبدوء «أنأ»» وهو 
يدل بغير استكذان» ثم رد الباب وراءه فوجد نفسه 
قبالتها وهي واقفة على آخحر درجة من السلم مادّة 
ذراعها بالمصباح. حدجته بنظرة داهشة» ثم 
غمغمت: 

نا ألك | 

فوقف صامثًا مليّاء وعلى فيه ابتسامة خفيفة تدم عن 
الإشفاق والقلق. ولمًا لم يأنس منها اعتراضا أو غضبا 
تشجع قائلا : 

أهذا هو استقبالك لصديق قديم؟! 

فوته كشحهاء ومضت ترقى في الدرج. وهي 
تقول : 

تبعها صامتاء وقد استنتح من فتحها الباب بنفسها 
أئها بمفردها في البيت, وأنْ مكان الحارية جلجل التي 
مانت هنل عامين لا يزال شاغرًا. . . تبعها حتّى دخلا 
إلى الدهليزء فعلّقت المصباح ممسمار في الجدار على 
كثب من الباب» ثم دخلت وحدها حجرة الاستقبال» 
فأوقدت المصباح الكبير المدلى من السقف - زادته هذه 
الحركة اطمئنانًا إلى استنتاجه ‏ ثم خرجت فأومات له 
بالدخول وذهبت. . . 


قصر الشوق 7 


مفى إلى الحجرة ثم جلس في ا موضع الذى كان 
يجلس فيه في العهد القديم على الكنبة الوسطى » فنزع 
طزبوشه وحمل ل التعرقة: الي تغط الكتبنة»: بوم 
ساقه وهو يلقي نظرة فاحصة على ما حوله. . . إنْه 
يذكر المكان كما لو كان لم يغادره إلا أمس القريب. 
هذه الكنبات الثلاث. وهُذه المقاعد.» وهذا البساط 
الفارسي» هذه الأخونة الثلاثة المطعّمة بالصدف» كل 
شيء كان بصفة عامّة ى) كان!! هل يذكر متى جلس 
آخر مرّة في هذا المكان؟ إِنْ ذكرياته عن بهو الطرب 
وحجرة النوم أوضح وأثبت. بيد أنه لا يمكن أن يسسى 
أول لقاء تم بينه وبين زبيدة في هذه الحجرة., في هذا 
الموضع بالذات!! وجملة ما دار فيه» لم يكن أحد 
بومذاك مثله خملو بال وثقة بالنفس؟ ترى متى تعود؟ 
ماذا أحدثت زيارته في نفسها؟ إلى أيّ درجة سيرتفع 
غرورها؟ وهل أدركت أنه جاء من أجلها هي لا من 
أجل خالتها؟ إن أشخفق هذه المرّة فقل عليه السلام! 

سمع وقع شبشب خفيفاء ثم بدت زنوبة عند 
الباب في فستان أبيض منمنم بورد أحمرء ملتفعة 
بوشاح مرضّع بالترترء أمّا رأسها فحاسرء وأمًا شعرها 
ظهرها... استقبلها واقمًا باسًا متفائلا بالزينة التي 
تبدّت فيهاء فحيته بابتسامة. وأشارت إليه أن يجلس» 
ثم جلست على الكنبة التي تتوسّط الجدار الذي إلى 
يكينه ‏ وهي تقول بصوت لم يخل من دهش : 

أهلا وسهلاء أىّ مفاجأة! 

فابتسم 5 متسائلا : 

- من أىّ نوع يا ترى هذه المفاجأة؟ 

قالت وهي ترفع حاجبيها في حركة غامضة لم تلم 
عا إذا كانت ستتكلم جادّة أم سائخخرة : 

سارّة طبعًا! 

ما دمنا قد أطعنا أقدامنا حيّى جاءت بنا إلى هنا 
فعلينا أن نتحمّل الدلال بكافة أنواعه: ثقيله وخفيفه. 

تفص جسمها ووجهها ‏ في هدوء . كأنما ينشّب 
فيهها عنًا لوعه وعبث بوقاره فساد الصمت حت 
رفعت إليه وجهها دون أن تنبس» ولكن في حركة عت 


4 قصر الشوق 


عن تساؤل مُشرب بأدبء كأتما تقول له: ونحن في 
الخدمة). 

فتساءل السيد فى مكر: 

هل يطول انتظارنا للسلطانة؟ ألم تفرغ بعد من 
ارتداء ملايسها؟ 

فحدجته بنظرة غريبة وهي تضيق عيئيهاء ثم 
قالت: 

د الجلطالة لسك فى ليق 

فتساءل متظاهرًا بالدهشة : 

- أين هي يا ترى؟ 

فقالت وهي تبر رأسهاء راسمة على شفتيها ابتسامة 
غامضة : 

- علمي علمك. . . 

فكر في إجابتها قليلاء ثم قال: 

ظننتها تطلعك على خط سيرها؟ 

فلوحت بيدها كالمستئكرة؛ وقالت: 

- إنك حَسّن الظنْ بنا (ثم ضاحكة) السلطة 
العسكرية زمابما انتهى! وإن شئت فأنت أحق مق 
بالاطلاع على خط سيرها! 

أنا؟! 

- لم لاء ألستّ صديقها القديم؟ 

قال» وهو يحدجها بنلظرة باسمة عميقة ناطقة : 

- الصديق القديم والغريب سواءء ترى هل يطلع 
أصدقاؤك القدماء على خط سيرك؟ 

رفعت منكبها الأيمن وهي تمط بوزهاء قائلة : 

- ليس لى أصدقاء, لا قدماء ولا حديثون. . . 

فراح يعبث بفردة شاربه وهو يقول: 

هذا كلام لمن لا عقل له أمّا من له ولو شيىء من 
العقل فلا يتصوّر كيف يمكن أن تكوني بين قوم 
يبصرون ولا يستبقوا إلى صداقتك, . , 

إن هي إلا تصوّرات الكرماء أمثالك! ولكتها لا 
تعدو التصوّرات الخياليّة: الدليل على هذا أنك صديق 
قديم لهذا البيت» فهل راق لك يومًا أن تمبني قسطا 
من صداقتك؟ 

قطب في ارتباك, ثم قال بعد تردّد: 


كنت وقتذاك. أعني أنه كانت ثمّة ظروف. . . 

ففرقعت بأصابعهاء وقالت ساخرة: 

- لعلّها نفس الظروف التي حالت بيني يا عيني - 
وبين الآأخرين! 

ألقى بظهره إلى مسئد الكنبة في حركة سريعة كُثيلية 
ثم مد نظره إليها من فوق أنفه العظيم: وهو بز رأسه 
كالمستعيذ بالله منهاء ثم قال: 

- أنت عقدة؛ وها أنا أعترف بأنني لا قِبّل لي بك! 

فدارت ابتسامة بعثها الثناءء ثم تظاهرت 
بالدهشة. وهي تقول: 

- لا أفهم مما تعبى شيئاء الظاهر أنّك في واد وأني 
في واد المهمٌ أنك قلت إنك جئت لمقابلة خالي» فهل 
من رسالة أبلغها إيّاها عند عودتها؟ , 

ضحك السيّد ضحكة قصيرة» ثم قال: 

- قولي لها إِنْ أحمد عبد اللحواد جاء ليشكوني إليك. 
فلم يجدك! 

- تشكوني أنا! ماذا صنعت؟ 

- قولي ها إني جئت أشكو إليها ما لقيت منك من 
قسوة ليست من شيم الحسان! 

يا له من قول خليق برجل يجعل من كل شيء 
ماذة لمزاحه ودعابته! 

فاعتدل في جلسته» وقال جادًا: 

- معاذ الله أن أجعل ملك مادّة للمزاح أو 
الدعابة؟! إِنَّْ شكواي صادقةء. ويخيّل إل أنك واقفة 
على سرّهاء ولكنّه دلال الحسان». وللحسان الحقّ كل 
الحنٌّ في التدللء. ولكن عليهنٌ مراعاة الرحمة أيضًا. 

فمصمصت بشفتيها قائلة: 

عجب]. .. 

لا عجب ألبتة!! أتذكرين ما كان بالأمس في 
دكان يعقوب الصائغ؟ هل يستحقٌّ ذلك اللقاء الجا 
مَن كان يعتز بمئل مودتي لكم وقدم عهدي بكم" 
وددت لو استعنت بي مثا فيما كان بيك وبين 
الصائغ. ووددت لو أتحت لي الفرصة كي أضع خري 
في خدمتك. أو أن تتواضعي درجة أخرى فتسمحي 
لي بأن أخبض بالأمر كلّه كا لو كانت الأسورة أسورتي 


أو كانت صاحبتها صاحبتي! . . . 

ابتسمت». وهي ترفع حاجبيها في شىء من 
الارتباك» ثم قالت باقتضاب: 

ل 

تنفس الرجل تنفّسًا عميقًا ملأ به صدره العريض » 
ثم قال يحياس : 

مشلى لا يقنم بالشكر. ماذا يفيد الجائع إن 
أعرضت عنه. وأنت تقولين له: «على الله؟ 641 التائع 
يريد الطعام» الطعام الشهي اللذيذ. 

شبكت ذراعيها على صدرها وهي تتظاهر 
بالدهش. ثم قالت ساخحرة: 

أنت جائع يا مي السيّد؟! عندنا ملوخيّة وأرانب 
تستاهل فمك. . , 

وهو يضحك عاليا: 

عالء اتَفْقناء ملوخيّة وأرانب» تضاف إليها 
زجاجة ويسكي., ثم نحلي بشىء من العود والرقص» 
ونتمدّد ساعة معا حتّى نبضم. . . 

فلوحت له بيدها كأما تبتف به «إلى الوراء)». 
وقالت: 

الله الله سكتنا له دخل بحماره. . . بغعدك! 

ب اصايج يجا املس حي مجارت كلم 
مزموم. وجعل يرفعها ويخفضها بتؤدة» وهو يقول 
بلهجة وعظية : 

يا بنت الحلال لا تضبّعى الوقت الغالي في 
الكلام . . 

وهي تهزٌ رأسها في زهو ودلال: 

- بل قل لا تضيّعي الوقت الغالي مع الكهول. . . ! 

مسح السيّد صدره العريض بكفه في حركة توحي 
بالتحدّي الباسمء ولكتها هرت منكبيها ضاحكة. 
وهي تقول: 

5 

- ولو؟ يا لك من طفلة. حرام عل النوم إن لم 
أعلّمك ما ينبغي أن تعلميه. هاتي الملويّة والآرانب 
والويسكي والعود وزثار الرقضص, هيًا. . . هيا. . 

ثنت سبّابة يسراها وألصقتها بحاجبها الأيسرء ثم 


قصر الشوق 65> 


أرعشت حاجبها الأيمن وهي تتساءل: 

ألا تخاف أن تكبسنا السلطانة على غفلة؟ 

لا تخافي. لن تعود السلطانة الليلة. . , 

فحدحته بنظرة حاذة مريبة» وتساءلت: 

من أدراك بذلك؟ 

انتبه إلى عثرة لسانىى فأوشك لحظة أن يغلبه 
الارتباك. ولكنّه تخلّص منه قائلا في لباقة : 

السلطانة لا تبقى في الخارج حبّى هذه الساعة إلا 
لضرورة تستدعي يقاءها حتى الصباح! 

جعلت تحدّق في وجهه طويلا دون أن تنبسء» ثم 
هزّت رأسها في سخرية ظاهرة» ثم قالت بصوث ملٍء 
بالثقة : 

- يا لمكر الكهول! يضعف فيهم كلّ شيء إلا 
مكرهم! هل حسبتني غفلانة؟ كلا وحياتك. إن أعلم 

عاد إلى العيث بفردة شاربه في شيء من الضيق؛ 
ثم سألما : 

هذا داس © 

كل شيء! 

وتريّثت قليلا لتزيد من ارتباكه» ثم استطردث: 

- أتذكر يوم جلست على قهوة سي عل لتسترق 
النظر من نافذة القهوة؟ يومها عيناك -حفرت جدار بيتنا 
من شدّة النظرا ولمًا ركبت العربة الكارو مع أفراد 
التخت ساءلت نفسي: ترى هل يتبعنا مهلا وراءنا كي 
يفعل الصبية؟ ولكنّك عقلت وانتظرت فرصة أحسن! 

فهقه الرجل حي اشتدّت حمرة وجهه. لم قال 
ولكئّك نسيت عقلك أمس . عندما رأبتني أمام 
خان جعفر فتبعتني حَبّى دحلت ورائي دكان 
يعقوب . , 

عرفت هذا أيضًا يا بنت أحت زبيدة؟ 

- نعم يا زين العشّاقء بيد أني لم أكن أتصور أنْك 
ستدخل ورائي الدكانء ولكيّي ما لبثت أن وجدتك 
جالسًا فوق الكنبة ولا عفريت النسوان نفسه.ولم) 


5 قصر الشوق 


قسمء ولكنّ الموقف أملى عل الأدب. . 

تساءل ضاحكاء وهو يضرب كما بكفت: 

ألم أقل إنك عقدة؟ 

فواصلت الحديث وهي في نشوة من الفوز 
والسرور: 

وما أدري ليلة إلا والسلطانة تقول لي: استعدذي, 
إنْئا ذاهبتان إلى عوّامة عمّد عفتء. فمضيت لأستعدٌى 
ولكئى سمعتها تقول يعد ذلك: إن السيّد أحمد هو 
الذي اقترح الدعوة! لعب في عبّي الفارء وقلت 
لنفسي : السيّد أحمد لا يقترح شيئًا لوجه الله وفهمت 
الفولة» فلم أذهب معتلة بصداع! 

- يا لي من مسكين! وقعت في مخالب من لا يرحم , 
هل عندك مزيد؟ . . . 

عاو للج عل الحبو ارم الواقع. . . . 

ما أحلى هذا الكلام! قلد الوعَاظء يا أفسق خلق 
الله ! 1 

وهو يضحك عاليا: 

د الله فنا لكان 

ثمّ متسائلا في سرور غير لحافب : 

فهمت الفولة هذه المرّةِ أيضاء ولكئك بقيت» 
فلم تغادري البيت أو تخفي نفسك. . . 

ونبض قبل أن يتم جملته فانجه نحوهاء وجلس إلى 
جانبهاء ثم تناول طرف الوشاح المرضّع بالترتر فقبله, 
وهو يقول : ' 

اللّهمّ إن أشهد بأنْ هذه المخلوقة الحميلة أل من 
أنغام عودهاء لسانها سوطء. وحبها نارء وعاشقها 
شهيد. وسوف يكون هذه الليلة شأن في التاريخ 

أبعدته عنها بكفها قائلة ؛ 

لا تأحذني في دوكة, هوه!؛ عد إلى مجلسك, . . 

ها لر وتصل :نوا قرع رع 1لا مريب 

جذبت وشاحها فسجأة من يذه وعبضت مبتعلة 
قليلا. ثمّ وقفت على بعد ذراع منه تمعن فيه نظرًا 
صامثًاء وكأنما تراجع نفسها في أمور ذات شأن» ثم 
قالت: 


- لم تسألني عا جعلني اتخلف عن الذهاب إلى 
العؤامة ‏ يوم دعانا محمد عفت ‏ بناء على 
اقتراحك, . , 

- كى تزيدي النار اشتعالًا! ! 

فيكت ثلاث ضحكات متقطعة. م 0-7 
17 ثم قالت : 

فكرة لا بأس بها ولكتها قديمة. أليس كذلك يا 
زين الفسّاق؟... ستظل الحقيقة سرًا حيّى أرى أن 
أفشيه عندما يحلو لي. . . 

- أقدّم حياق ثمنًا له. . , 

ابتسمت ابتسامة صافية لأؤل مزرة. ولاحت في 
عينيها نظرة رقيقة جاءت في أعقاب سخرياتما. كما 
يجىء الهدوء في أعقاب زوبعة» وبشّر حاها بسياسة 
ع ومعنى جديد» فاقتربت منه خطوة ومدذت يديبا 
إلى شاربه برشاقة وراحت تجدله بعناية» ثم قالت 
بنبرات لم يسمعها من قبل : 

إذا قدّمت حياتك ثمنًا لهذاء فاذا يبقى لي أنا؟ 

وجد راحة عميقة لم يجد مثلها منذ تلك الليلة 
الخاسرة في العوّامة. وكأتًا كان يفوز بامرأة لأول مرّة 
في حياته. تناول يديها من فوق شاربه وأودعها بين 
راحتيه الكبيرتين, ثم قال بحنان وامتنان : 

أنا نشوان يا ست الكل نشوان لحدٌ يعجزني عن 
الورصف. دمت لى إلى الأبد. إلى الأبد.ء لا عاش من 
رد لك رجاء أو طلبّاء أتمي نعمتك عل وهيّثي 
مجلسناء الليلة ليست كالليالي الأخريات. وهي 
نستحق أن نحتفل بها حيّ مطلع الفجر. . , 

قالت وهي تلعب بأناملها بين راحتيه : 

0 الليلة كالليالى الأخريات حقّاء ولكن 
ينبعي أن نقنع منها بالقليل. . . 

القليل! هل ثمّة صدّ بعد هذا اللطف كله؟ لم يعد 

مضى يربّت كفيهاء ثم بسط راحتيهاء ونظر بافتتان 
في لون الحناء الورديّ الذي يصبغههاء وما يدري إلا 
رهي تسأله بصوت ضاحك: 

هل ثقرأ الكفٌ يا سيدنا الشيخ ؟ 


ابتسمء وقال مداعبا: 

- أنا من المشهود لهم في قراءته. أتحيّين أن أقرأ لك 
كفك؟ 

أحنت رأسها بالإيجاب. فراح يتأمل راحتها اليمى 
متظاهرًا بالتفكيرء ثم قال باهتمام : 

عاق ظويقك وسل سيكو لقان فل سائلك. ..» 

تساءلت ضاحكة : 

في الحلال يا ترى؟ 

ارتفع حاجباه وهو يمعن النظر في كفهاء ثم قال 
دون أن يبدو على وجهه أثر ولو خفيف للمزاح : 

- بل في الخرام ! 

أعوذ بالله! ما عمره؟ 

نظر إليها من تحت حاجبيهء ثم قال: 

- غير واضح ولكن إذا قسته بمقياس مقدرته فهو في 
عنفوان الشياب! . . . 

فتساءلت بمكر؛ 

- أهو كريم يا ترى؟ 

آهء لم يكن الكرم ما يزكيك عندهنٌ قديمًا. 

- لم يعرف البخل قلبه. . . 

فكرت قليلًا ثم عادت تتساءل: 

- هل يرضيه أن أبقى كالتابعة في هذا البيت؟ 

العجل وقع هاتوا السكاكين. . . 

- بل سيجعلك سيّدة قد الدنيا! . . . 

- أين يا ترى سأقيم في كنفه؟ 

زبيدة نفسها لم تكلفك شيئًا من هذاء سيقولون 
فيك ويعيدول. .. 

- شقّة؟!. . . 

عجب للهجتها المستنكرةع فسألا داهشا: 

ألا يععجبك هذا؟ 

قالت وهي تشير إلى راحتها: 

- ألا ترى ماء يجري؟... انظر جِيْدًا. . . 

ماء يجري ! , . . ودين السكنى في حمام؟ 

- ألا ترى الئيل . . . عوامة أو ذهبية. . . ؟! 

أربعة جنيهات أو حمسة شهريًا دفعة واحدة. غير 


قصر الشوق > 


النفقات الأخرى» آه!ء لا تعشقوا أولاد السفلة!. . . 
لماذا تختارين مكانًا بعيدًا عن العمران؟ . . 
اقتربت منه حتّى مسّت ركبتاها ركبتيه» وقالت: 

د الست هون دين فنك ها فاه بول رن 
السلطانة حظًا ما دمت تبني كما تقول وفي وسعك أن 
تسهر فيها أنت وأصحابكء إنّْبا حلمي فحقّقه 
ليما 

أحاط وسطها بذراعيه؛. ولبث صامنًا ليستشعر في 
هدوء مسها ولينهاء ثم قال: 

لك ما تشائين يا أمل. . . 

فكان الشكر أن الصقت راحتيها ببخدذيه ثم 
قالت : 

- لا تظنّ أنْك تعطي دون أن تأخذ, اذكر دائمًا أنه 
من أجلك ساغادر هذا البيت الذى عشت عمرى فيه 
إلى غير رجعة. واذكر أننى إذ أطالبك بأن تجعلبي سيّدة 
فيا ذلك إلا لأنّه لا يليق يمن كانت صاحبة لك أن 
تكون أقلّ من سيّدة. . . ! 

شد ذراعيه حول وسطها حبّى التصق صدرها 
بوجهه. ثم قال: 

- إن أدرك كل شيء يا نظري؛. سيكون لك ما 
تحين وأكثرء أحبٌ أن أراك كا تحيّين أن تري نفسك» 
والا فطق تنالتها :ارين ان اينذا تعينان مره 
الليلة. , , 
يقت انلع ثم ابتسمت إليه ايتسامية 
اعتذار» وقالت برقة: 

- عندما نجتمع في عوامتنا على النيل. . . 

قال لما محذّرًا: 

لا تشيري جنوني» هل تستطيعين أن تقاومي 
صولتي؟ 

فتراجعت وهي تقول بلهجة تجمع بين التوسل 
والاوصرار: 

- ليس في البيت الذي عملت فيه وصيفةء انتظر 
عن عي لسن جدود سيكت وسكي و عند 
ذاك أكون لك إلى الأبد. ليس قبل ذلك وحياتك 


قصر الشوق 


عات 

وخير إن شاء الله . , . 

هذا ما ردّده أحمد عبد الحواد في نفسه وهو يطالع 
ياسين مقبلا نحوه في الدكان. . . . كانت زيارة غريبة 
وغير متوقعةء أعادث إلى ذاكرته زيارته القديمة لدكانى 
يوم جاءه ليشاوره فيما ترامى إليه من اعتزام المرحومة 
أمه الزواج للمرّة الرابعة؛ والحقٌ أنه أيقن أنه لم يجئه 
لتبادل التحية والسلام ولا للحديث في شأن عاديّ مما 
يمكن أن يحدثه في البيت» أجل إِنْ ياسين لا يجيء إلى 
مقابلته في الدكان إلا لشأن خطير. صافحه. ثم دعاه 
إلى الجلوس2 وهو يقول: 

خخير إن شاء الله . . . 

جلس ياسين على كرسي قريب من مجلس أبيه وراء 
مكتبهء موليًا بقية الدكان ظهره حيث وقف جميل 
الحمزاوي أمام الميزان يزن بضاعة لبعض الزبائن. 
ونظر إلى أبيه في شيء من ارتباك وكد حدسه, فأغلق 
الرجل دفترًا كان سك فيه أرقامًا واعتدل في جلسته 
متأهبًا لما يجيء. وقد بدت إلى يميله الحزينة نصف 
مفتوحة» وفوق رأسه صورة سعد زغلول في بدلة 
الرياسة معلّقة في الجدار تحت إطار البسملة القديم. 
ولم يكن قصد الدكان اعتباطا ولكن عن تديّر وتفكير 
باعتباره آمن مكان لقابلة أبيه بما جاء من أجلهء إذ أن 
وجود جميل الحمزاوي به ومن يتفق وجودهم من 
الربائن خليق بأن ميّمء له درعًا واقيًا من الغضب إذا 
جاءت دواعيهء وكان يجسب ألف حساب لغضب أبيه 
رغم الحصانة الى اكتسبها بتقدّم العمر والمعاملة الطيية 
التي يحظى بها بوجه عام. . . 

قال ياسين بأدب بالغ : 

- اسمح لي بقليل من وقتك الغالي. لولا الضرورة 
ما تجرأت على إزعاجك, ولكيّي لا يمكن أن أخطو 
خطوة دون استنارة برأيك» واعتياد على رضاك, , , 

ابتسم باطن السيّد أحمد هازنًا من هذا الأدب 
الجم. وجعل يتأمل فتاه الضخم الجميل الأنيق في 
حذرء ملقيا عليه نظرة إحماليّة شملت شاربه المجدول 
على طريقته ‏ هو وبذلته الكحلية وقميصه ذا البنيقة 


المنشيّة والبابيون الأزرق والمنشّة العاجيّة والمذاء 
الأسود اللامع. ولم يكن ياسين قد مس مظهره ‏ تأذبا 
في محضر أبيه - إلا في نقطتين. فأخفى طرف منديله 
الحريري الذي يطل من جيب جاكتته الأعلى. وعدّل 
طربوشه الذي يعوجه عادة إلى اليمين. يقول: إنّه لا 
يمكن أن يخطو نخطوة دون استئارة برأيه!! مرحى . . . 
هل استئار به وهو يسكر؟ وهو يسبح على وجهه في 
وجه البركة الذي حزرمه عليه؟ هل استنار به ليلة وب 
على الحارية فوق السطح؟ مرحى!! مرحى!! ماذا 
وراء هذه اللخطبة المسرية؟ 

طبعًاء هذا أقل ما يُنتظر من رجل عاقل مثلك. 
خير إن شاء الله ؟ 

التفت ياسين التفاتة سريعة لحظ مها جميل 
الحمزاوي ومن معهء ثم قرب الكرسيّ من المكتب, 
واستجمع شجاعته» قائلا: 

- اعتزمت - بعد موافقتك ورضاك - أن أكمل 

مفاجأة حقيقيّة!. غير أثْها مفاجأة سارّة على غير ما 
توقم» ولكن مهلا!! لن تكون سارّة حمًا إلا بشروط, 
فليتتظر حيّى يسمع الأهم من الحديث!! أليس ثمّة ما 
يدعو إلى القلق؟ بلى! تلك المقدّمة البالغة في الأدب 
والتودّدء إيثاره الدكّان مكانًا للحديث لدواع لا يمكن 
أن تخفى عن فطنة الفطنء» أمّا الزواج في ذاته فطالم 
ناه له. تمناه حين ألم على محمد عفّْت ليردٌ إليه 
زوجته. وتمئاه حين دعا الله في أعقاب صلواته أن 
مبديه إلى الرشاد وبنت الحلال. بل لعلّه لولا إشفاقه 
من أن يحرجه مع أصدقائه ى) أحرجه من قبل مع 
محمد عفت لا تردّد من تزويجه مرّة أخرى. فلينتظر! 
وعسى ألا يتحمّق شيء من مخاوفه. . 

- اعتزام جميل أوافق عليه كل الموافقة» فهل وقم 
اختيارك على أسرة معيّنة؟ 

خفض ياسين عينيه لحظةء ثم رفعهم| قائلا : 

- وجدت بغيتي» بيث كريم خبرناه بطول الحوار, 
وكان ربه من معارفك المحمودين . . . 


رفع السيد حاجبية متسائك دول أن ينيسن ٠‏ فقال 


ياسين : 
َِ المرحوم اليل مك رضوان! 
1 


ندّت عن السيّد أحمد قبل أن يتمالك نفسهء ندذّت 
عنه في تأفف واحتجاج حتّى شعر بأنه ينبغي أن يررّر 
تأفّفه واحتجاجه بسبب وجيه يداري به حقيقة 
مشاعره. ولم يعوزه ذلك. فقال: 

- أليست كريته مطلقة؟! فهل ضاقت الدنيا حيٌّ 
تتزوج من ثيب؟!... 

لم يفاجا ياسين ببذا الاعتراضء كان يتوقعه منذ 
اللحظة التي عزم فيها على الزواج من مريمء غير أنه 
كان قري الأمل في التغلب على معارضة أبيه التي لم 
يتصوّر أن تكون إلا صدى لتفضيل البكر على الب 
أو تَجِنْئًا لامرأة عسيّة بأن تذكره بماساة ابنه الراحل» 
وكان يؤمن بحكمة أبيه ويرجو أن تستهين في النهاية 
ببذين المأخذين الواهيين» بل كان يعتمد كل الاعتماد 
على موافقته في التغلب على المعارضة الحقيقيّة التي 
يتوقعها عند امرأة أبيه. . . تلك المعارضة التي وقف 
أمام التفكير فيها حائرًا حَبّى خطر له أن يغادر البيت 
مغادرة الحارب كي يتزوّج كما يحلو له مواجها الجميع 
بالأمر الواقعم» ولولا أنْ إغضاب أبيه كان فوق طاقته 
لفعل. إلا أنه عرّ عليه أن يتجاهل عواطف أمّه الثانية 
- بل أمّه الأولى - قبل أن يبذل قصاراه لاستمالتها 
واقتناعها برأيه. قال: 

- لم تضق بي الدنياء ولكتها القسمة والنصيب. . . 
أنا لا أبحث عن المال أو الجاه, وحسبي الأصل 
الطيّب والخلق القويم. . . 

إن كان ثمّة عزاء وسط هذه الأمور المعقّدة المؤسفة» 
فهو صدق رأيه الذي لا يكذب أبدًا. هذا هو ياسين 
بلا زيادة ولا نقصان. إنسان ‏ أو حيوان ‏ تسير 
المتاعب بين يديه ومن سخلفه. ولو جاء بنئيأ سعيد أو 
زف إليه بشرى سازة لما كان ياسين ولخاب تقديره 
ورأيه فيه» لعلّه مما لا يعيبه ألا يبحث في الزوجة عن 
المال أو الحاه أمّا الخلق فمسألة أخرى» ولكنٌ البغل 


قصر الشوق 5174 


معذور ويبدو ‏ وهذا طبيعيّ - أنه لا يدري شيئًا عن 
سيرة م الفتاة النى يرومها زوجة؛ تلك سيرة يعرفها هو 
وحده معرفة الفاعل» ولعل آخرين سبقوه إليها أو 
لحقوا بهء فيا العمل؟ أجل قد تكون الفتاة مهدّبة 
ولكن من المؤكد أثْها لم تظفر بأحسن أمْ ولا بأحسن 
بيئة؛ ومن المؤسف أنه لا يستطيع أن يجهر برأيه ‏ ذاك 
ما دام لا يسعه أن يقرن القول بالدليل؛ خاصّة وأنْه 
رأي خليق بأن يقابل - من يسمعه لأول مرة ‏ بالاونكار 
والانزعاج. والأدهى من ذلك أنه يخاف أن يلمح إليه 
فيدفم ياسين إلى البحث والاستقصاء فيعثر آخر الآمر 
على أثر بصماته هو أبيه ‏ فتكون الفضيحة التي ليس 
وراءها فضيحة. 

المسألة إذن دقيقة حرجة, ثم إِنْ ثمّة شوكة حادة 
تكمن في تضاعيفها ‏ هي تاريخ قديم يقصل 
بفهمي . ألا يذكر ياسين ذلك؟ كيف هان عليه أن 
يرغب في فتاة تطلّم إليها قديمًا أخوه الراحل؟ أليس 
هذا سلوكًا بغيضًا؟ بل إِنّه لكذلك وإن كان لا يشلك 
في إخلاص الشابٌ لأخيه الراحل؛ إِنْ منطق الحياة 
القابي يقيم عذرًا لأمثاله, إِنْ الرغبة طاغية أعمى لا 
يرحم وهو أنخير الناس بذلك! 

قطب الرجل ليشعره بتضايقه. ثم قال: 

- إن قلبي لم يرتح لاختيارك؛ لا أدري لماذاء كان 
المرحوم السيّد محمّد رضوان رجلا طيْبًا حقا. ولكنّ 
الشلل حال بينه وبين رعاية بيته من زمن بعيد سابق 
لوفاته: ل أقصد ببذه الملاحظة إساءة الظنّ بأحدء 
كلا!! ولكنه كلام يقال. ربا ردّده بعض الئاس. هه؟ 
الأهمّ عندي أن الفتاة مطلقة, لماذا طلّقت؟ هذا سؤال 
من أسثئلة كثيرة ينبغي أن تعلم جوابهاء لا يصح أن 
تأمن مطلقة حبّى تستقصي كل شيء عنباء لعل هذا ما 
أردت قوله. والدنيا ملأى ببنات الناس الطيبين . 

قال ياسين متشجّعًا بأسلوب أبيهء الذي اقتصر على 
النقاش والنصح : 

- بحثت بنفسي وبسواسطة آخرين؛ فتبيّن لي أن 
الح كان على الزوج» إذ كان متزوجًا وأخفى عنهم 


45 قصر الشوق 


ذلك, فضلًا عن عجزه عن الإنفاق على بيتين في وقت 
واحد وسوء تخلقه! 

سوء خلقه! إِنّْه يتكلم بلا حياء ‏ عن سوء 
الخلق. البغل بمدّك ممادّة بكر لمزاح سهرة كاملة! قال: 

- إذن فرغت من البحث والتقضّى ! 

قال ياسين بحياء؛ وهو يتهرّب من عبني أبيه 
|الحاذتين : 

تلك خطوة بديهية. . , 

فسأله الرجل وهو يخفض عينيه : 

ألم تدرك أنْ تلك الفتاة ترتبط بذكريات أليمة لنا؟ 

اعتراه الارتباك حي اختطف لونه. وهو يقول؛ 

- لم يكن من الممكن أن يغيب عي هذاء ولكنه 
رهم لا أصل له فإني أعرف عن يقين أن المرحوم لم 
متم بالأمر كله إلا أيَامًا معدودات ثم نسيه نسيانًا 
تام وأكاد أجزم بأنّه ارتاح فيها بعد إلى فشل مسعاه 
إذ اقتنع بأنْ الفتاة لم تكن طلبته كا توهم. . . 

ترى: أيقول ياسين الى أم يدافعم عن موقفه؟ 
كان نجي المرحوم ولعله الشخص الوحيد الذي 
يستطيع أن يزعم أنه مظلع على ما لا علم للآخرين به 
من سخاصّة شئونه. فليته كان صادقًا! أجل ليته كان 
صادقًا إذن لأعفاه من عذاب يؤرّقه كلما ذكر أنه وتف 
يوما عثرة في سبيل سعادة الفقيد أو كلما خخطر بباله أنه 
ربما مات تعيس القلب أو ناقيًا عليه استبداده وتعنتهى 
تلك الآلام الى مشت قلبه. هل يريد ياسين أن يعفيه 
منها؟ 

سأل ياسين بلهفة لم يفطن الشابٌ إلى عمقها: 

- أأنت حفًا على يقين مما تقول؟ هل صارحك به؟ 

ولثاني مرة في حياته رأى ياسين أباه على حال من 
الاتكسار لم يشهد مثلها إلا يوم مصرع فهمي) وهو 
يقول له: 

كاشِفْني الحقيقة عارية عن كلّ تخفيف, الحقيقة 
الكاملة» هذا مني فوق ما تتصورء (وكاد يعترف له 
بأله. ولكئه أمسك الاعتراف وهو على طرف 
لسانه) . . . الحتقيقة الكاملة يا ياسين! 


فقال ياسين دون تردّد: 


- إن على يقين مما أقول! خبرته بنفسى وسمعته 
بأذنَء لا شك في ذلك مطلقًا! . . . 

في ظروف أخخرى لم يكن هذا القول ‏ ولا أبلغ منه 
- كافيًا لإقناعه بصدق ياسينء لكنّه كان في الحنّ 
متعطشًا إلى تصديقه. فصدقه وآمن به. وامتلاً قلبه 
نحوه بامتنان عميق وسلام شامل. لم تعد مسألة 
الزواج - في تلك اللحظة على الأقلّ ‏ مما يكربه. ولاذ 
بالصمت مليًا هانثًا بالسلام الذي غمر قلبه. ورويدًا 
رويدًا!! مغى يستردٌ شعوره بالموقف ويرى ياسين بعد 
أن غيّبه عن عينيه الانفعال. فعاد يفكر في مريم وأمّ 
مريم وزواج ياسين وواجبه وما يستطيع قوله وما لا 
يستطيع قوله. قال: 

- مهيا يكن من أمر فإنٍ أودٌ أن تولي المسألة تفكيًا 
أعمق. وحذرًا أشدّء لا تتعجّل. مد لنفسك فسحة 
التدبر والمراجعة» إنها مسألة مستقبل وكرامة وسعادة. 
وإني على استعداد لأن أخختار لك بنفسي مرّة أخرى إذا 
وعدتني وعد رجل صادق ألا تجعلني أندم على تدخل 
لا فيه صلاحك. هه؟ ما رأيك؟ 

صمت ياسين متفكُرًاء مستاء من تحوّل الحديث إلى 
مجحرى ضيّق محفوف بالحرج. حقًا أن الرجل يتحدّث 
بحلم عجيب, ولكنه لم يخف قلقه وعدم ارتياحه. فإذا 
أصرٌ على رأيه بعد ذلك فقد يجرّهما النقاش إلى شقاق 
غير مستحبٌ, ولكن هل ينكص تفاديًا من هذه 
الغاقبة؟ كلا! لم يعد طفلُا! سيترئج يمن يشاء كما 
يشاء؛ ولكن فليعنه الله على الاحتفاظ بودّة أبيه! قال: 

ل ازيف أن عمتجاف با جديا ل للقن 
باباء غاية ما أتمبئى أن أحظى بموافقتك ورضاك. . . 

لوّح السيّد يده في نفاد صبرء وقال بلهجة لم تل 
من -ححدة : 

- تأي أن تفتح عينيك على مافي رأبي من 
حكمة ., . , | 
فقال ياسين برجاء حارٌ: 

- لا تغضب يا باباء أستحلفك بالله ألا تخضبء 
إن رضاك بركة» ولا أطيق أن تضِنّ عل بباء دعني 
أجرّب حظّي وادمٌ لي بالتوفيق. . . 


اقتنع أحمد عبد الحواد بن عليه أن يسلّم بالآمر 
الواقع, فسلّم به في حزن ويأس. . . أجل! ربما كانت 
مريم - رغم استهتار أمّها ‏ فتاة شريفة وزوجة صاحة. 
ولكن لا شكٌ كذلك في أن ياسين لم يوفق إلى اختيار 
أصلح الزوجات ولا أفضل البيوت . 

الأمر للهء مضى الزمن الذي كان يملى فيه إرادته 
إملاء فلا يجد رادًا هاء وياسين اليوم رجل مسئول ولن 
يجني من مماولة فرض رأيه عليه إلا العصيان. .. 
فليسلّم بالأمر الواقع» وليسأل الله السلامة. . 

عاود النصح والتبصير فلجأ ياسين كرّة أنخرى إلى 
الاعتذار والتوذد حيّى لم بعد ثمَة زيادة لمستزيد. .. 
غادر الدكّان وهو يقنع نفسه بأنه نال موافقة أبيه 
ورضاه. على أنه كان يعلم أن الأزمة الخطيرة حقًا هي 
التي تنتظره في البيت» وكان يعلم أنفياء الة سي لك 
البيت حتيّاء لأنّْ مجرّد التفكير في إمكان ضِمٌ مريم إلى 
الأسرة ضفرب من الحنون» فرجا أن يتركه بسلام غير 
مخلّف وراءه عداوة أو حقدّاء إذ لم يكن من اليسير 
عليه أن يستهين بامرأة أبيه أو يتنكر لعهدها وفضلها 
عليه لم يكن يتصوّر أن تدفعه الآيام إلى وقوف هذا 
الموقف الغريب من البيت وآلِهِ. ولكن تعقّدت الأمور 
وضاقت السبل حيّى ل بِقّ من منفذ إلا الزواج. 
والعجب أنه لم تغب عن فطنته السياسة النسائية التي 
رُسمت للإيقاع به» سياسة قديمة تتلخص في كلمتين: 
التودّد والتمنّع. ولكنٌ الرغبة في الفتاة كانت قد 
تسربت إلى دمه ولم يعد بد من إروائها بأيّ سبيل ولو 
كان الزواجء وأعجب من ذاك أنه كان يعلم من تاريخ 
مريم ما يعلمه أفراد أسرته جميعًا ‏ عدا والذه بطبيعة 
الحال - ولكنّ رغبته طغت فلم يصدّه ذلك عن فكرته 
أو يزهده فيهاء وقال لنفسه: لم أكرب قلبي على ماض, 
فات لست مسئولا عنه؛ ستبدأ معا حياة جديدة» ومن 
هنا تبدأ مسئوليّتي» وإنّ ثقتى بنشي لا حدٌ لماء وإذا 
حدث ان حيّيتْ ظتي نبذّمها كما يُتبذ الحذاء البالي. . . 
والح أنّه لم يستلهم فيها عزم فكره ولكنّه استخدمه في 
تبرير رغبته الجامحة التى لا تزدجر: فاقبل على الزواج 
هذه المرّة كبديل من محادنة امتنعت عليه؛ غير أن ذلك 


قصر الشوق 4١‏ 


لا يعني أنّه أضمر نحوه سوءًا أو أنه انخذه ذريعة مؤقتة 
لقضاء لبانة» فالحنٌ أيضًا أن نفسه ‏ رغم تقلباتها التي 
لا تشكٌ عنها ‏ كانت تبفو إلى حياة الزوجيّة والبيت 
المستقرٌ. . 

مرّ هذا كله بخاطره وهو متَّحْذْ مكانه ‏ إلى جنب 
كيال - بمجلس القهوة. ذلك المجلس الذي يبدو أنه 
يشهد آخر أيامه فيه. ومضى يجيل طرفه بين كنباته 
وحصره الملونة والفانوس الكبير المدلَى من سقفه في كثير 
من الأمبى. وكانت أمينة متربّعة كعادتها على الكنبة 
القائمة بين بابي -حجرة نوم السيد وحجرة المائدة» 
عاكفة على المجمرة رغم دفء الحو لتصنع قهوتهاء وقد 
تلفعت بخبار أبيض فوق جلباب بنفسجيّ نم عن 
ضمورهاء؛ واكتنفها هدوء يشاب عند الصمت بأمارات 
الحزن؛ كينا الشاطرء إذا استكنْ شف عا في باطنه . 
شد ما شعر بالأسف والخرج وهو يأخدذ أهبته للإفصاح 
عًا في ضميره. ولكن لم يكن من الإفصاح بدّء فقال 
بعد أن فرغ من احتساء قهوته دون أن يذوق لا طعما: 

ةا بانية للد سال ازيك أن اكسر: 
وتبادل مع كيال نظرة دلت على أن الأخير على عِلْمِ 
سابق بموضوع الحديث. وأنّه يترقب عواقبه باهتام لا 
يقل عن اهتام ياسين نفسه. قالت أميئة : 

حير يا بي . - . 

قال ياسين باقتضاب : 

قرّرت أن اتزوجدة: 

فتجل في عينيها العسليّتين الصغيرتين اهتيهام باسمء 
لم فالنا: 

خير ما قرّرت يا بيىّ» لا ينبغى أن يطول انتظارك 
أكثر ما طال . 00 

نم لاحت في عينيها نظرة متسائلة, ولكئّبا بدل أن 
تفصيح عن تساؤهاء قالت وكأنما تستدرجه إلى 
سر : 

حاطب والدك أو دعني أخخاطبهء ولن يعجزه أن 
جد لك زوجة جديدة خييرًا من الأولى. . . 

قال ياسين في رزانة بدت لها أكثر ما يسنتدعي الأمر: 


الاعتراف كأنْ ثمّة 


>4" قصر الشوق 


- خاطبت أبي بالفعل» وليس هناك حاجة إلى 
تكليفه عناء جديدًا لأنى اخترت بنسبى» وقد وافق 
أبي» فأرجو أن أحوز موافقتك 00 

تورّد وجهها حياء وسرورًا بما أولاها من أهمية, 
فقالت: 

- ربّنا يوفقك إلى ما فيه الخير» عجل حيّى تعمّر لنا 
الدور المهجورء ولكن من بنت الحلال التي قرّرت أن 
تتخذها زوجة؟ 

تبادل مع كال نظرة أخرى». ثم قال في عناء : 

- جيران تعرفينهم! . . . 

ارتسم بين حاجبيها تقطيب التذكّر وهي مد نظرها 
إلى لا شيء. محرّكة سبّابتها كأنما تحصي من في مميّلتها 
من الخيران؛ ثم قالت: 

- إِنْك تحيّرني يا ياسين» هلا تكلّمت وأرحتني ! 

فال وهو يبتسم ابتسامة شاحبة : 

جيراننا الأقربون! 

ا 

نذّت عنها في إنكار وانزعاج وهي تحملق في وجهه. 
فخفض رأسه وأطبق شفتيه متجهم الوجه. فعادت 
تقول بصوت متهدج. وهي تشير بإبهامها إلى الوراء : 

- أولئك؟! مستحيل., هل تعنى ما تقول يا 
ياسين؟ ! 

فأجاب بالصمت المتجهم حتّى زعقت: 

- خبر أسود... أولئك الذين شمتوا بنا في أجل 
مصاب؟ ! 

فلم يتمالك أن هتف بها: 

- أستحلفك بالله آلا تردّدي هذا القول, إِنَّه وهم 
باطل. ولو اقتنم به قلبيى حظة واحدة. . 

- طبعا تدافع عنهم. ولكنّه دفاع لا ينطلي على 
أجلي لا تتعب نفسك في إقناعي بالمحال» يا ربي!! 
أي ضرورة تدعو إلى هذه الفضيحة؟! كلهم نقائص 
وعيوب. فهل من فضيلة واحلة تيرّر هذا الاختيار 
الجائر؟ قلت إِنْك نلت موافقة أبيك» الرجل لا يعلم 
عن هذه الأمور شيئاء قل إِنّك شخدعته, , 

قال ياسين بتوسل : 


- هدّئي روعك؛. ليس أكره عندي من إغضابك., 
هذئي روعك ولنتكلّم في هدوء. . 

- كيف أسمع لك وأنا أتلقى منك هذه اللطمة 
القاسية؟! قل إن الأمر لا يعدو أن يكون مزاح 
سخيفًاء مريم؟! الفتاة المستهترة التي تعرف من أمرها 
ما نعرف ججميعا؟... هل نسيت تاريخها 
الفاضح؟... هل نسيت حقًا؟ أتريد أن تييء مبذه 
الفتاة إلى بيتنا؟ ! 

قال وهو يزفر كأنما يطرد من صدره الكرب 
والاضطراب : 

لم أقل هذا قطء. هذا أمر لا أهميّة له. المهم 
عندي عم أن تنظري إلى المسألة كلها نظرة جديدة 
خالية من التحامل. . . 
- أ تحامل يا هذا؟! هل ادّعيت عليها بالباطل؟ 
تقول إن أباك وافق. فهل أسبرته عن عبثها الفاضح 
مع الحنود الوتجليز؟ ماذا جرى لأولاد الناس الطيبين 
يا ربى؟ ! 

- هدّئيى روعك؛» دعينا نتحدّث في هدوءء ماذا 
يجدي هذا الحياج؟! 

صاحت بحذة لم تكن من طباعها في الزمن الأول: 

- إن روعي لا يمكن أن يبدأ ما دام الأمر يتعلن 
بالكرامة , 

م0 

- وأنت تسيء إلى ذكرى أخخيك الغالي . 

يأسين وهو يزدرد ريقه : 

أخحي؟ رحمه الله وأسكنه فسيح جئاته. إِنَْ هذا 
الأمر لا يمس ذكراه في أي شىء. صدّقيني فإنٍ أدرى 
بما أقول. لا تُقلِقي مرقده! ْ 

- لست أنا التي أقلق مرقده. إنّما يقلق مرقده حمًا 
أخوه الذي يتطلع إلى هذه الفتاق. أنت تعلم هذا يا 
ياسين! !ا ولا تستطيع أن تذكره. . , 

ثم في انفعال شديد: 

- لعلّك كنت تتطلّع إليها حَبّى في ذلك الزمن 
البعيد | 


- نينة! ! 


شىء بعد هذا الغدر؟! هل ضاقت الدنيا وأقفرت حي 
تمد من فتياتها زوجة إل النداة التي أدمت قلب 
أخيك؟ ألا تذكر ما أصابه من حزن وهو يستمع معنا 
إلى قصة الجندئ الإنجليزئ؟! . . . 

بسط ياسين ذراعيه في توسّل» قائلا: 

- فلنؤجل هذا الحديث إلى وقت آخرء سأثبت لك 
فيا بعد أن المرحوم لبّى نداء ربّه وليس في قلبه أي أثر 
هذه الفتاة أمّا الآن فلم يعد الجوٌ صالخًا للكلام. . . 

صاحت به غاضبة : 

- هيهات أن يصلم عندي جو هذا الكلام» إِنْك 
لآ ترعى ذكرى فهمي. . . ! 

- ليتك تتصوّرين ما تُحدثه فّ كلامك من حزن! 

صاحت» وقد بلغ بها الغضب منتهاه: 

- أيّ حزن؟! إنك لم تحزن على أخيك! من الغرباء 
من حزن عليه أكثر منك! 

0 

وهم كمال بالتدخل في الحديث. ولكثها أسكتته 
بإشارة من يدها وهتفت: 

- لا تَدْعني نينة» لقد كنت لك أنّا حمّاء ولكتّك لم 
تكن لي ابنا ولم تكن لابنى أخا! 

م يعد يحتمل البقاء؛ فنبض عحزونًا مكتثياء وغادر 
الصالة إلى حجرته» وما لبث كال أن لحق به ولم يكن 
دونه حزنًا وكآبة فقال له؛ 

ألم أحذّرك؟. . . 

فقال ياسين مقطا : 

- لن أبقى في هذا البيت دقيقة واحدة بعد 
الآن. . .! 

فقال كال بجرع : 

- يجب أن تعذرهاء أنت تعلم أن والدتي لم تعد كما 
كانت إِنْ أبي نفسه يغضي عن بعض هفواتها أحياناء 
ما هي إلا غضبة لا تلبث أن تسكت فلا تحاسبها على 
كلامها. هذا رجائي إليك. . . 

قال ياسين. وهو يتنهد : 

- لن أحاسبها يا كالء. لن أبيع جميل الأعوام 


بإساءة ساعة, إنْها معذورة كيا قلتء. ولكن كيف 
أطالعها بوجهي صباح مساءء وهذا ظئّبا بي؟ 

ثم بعد لحظات صمت مشحونة بالكابة : 

- لا تصدّق أن مريم أدمت قلب المرحوم. لقد 
استأذن المرحوم يومًا في أن يخطبها فرفض أبوكء 
وتناسى المرحوم الأمر حبّى نسيه فانتهى كل شيءء فيا 
ذلب الفتاة في ذلك. وما ذنبي أنا إذا أردت أن 
أتزوجها بعد ست سئوات من ذلك التاريخ؟! 

قال كيال برجاء : 

- لم تعد الح فيها قلت.» وسوف تقتنع نينة به 
عاجلاء فأرجو أن يكون كلامك عن عدم البقاء في 
البيت مجرد هفوة لسانية . . . 

فقال ياسين وهو يبز رأسه في حزن : 

- أنا أوّل من يعر عليه هجر هذا البيت» ولكئي 
ساتركه عاجلاً أو آجلا ما دام انتقال مريم إليه 
مستحيلاء فلا تنظر إلى مسألة ذهابي إلا من هذه 
الزاوية» سأنتقل إلى بيتي بقصر الشوق» ومن حسن 
الحظ أن شمّة أمّي لا تزال خخالية» وسأقابل والدي في 
الدكان وأوضح له أسباب ذهابي متحاشيًا كل ما يعكر 
صفوه. لست غاضيًاء ساترك البيت آسفًا عليه كلّ 
الأسف. آسفًا على فراق أهله وأوّهم نيئة؛ لا تحزن 
ستعود المياه إلى مجارها في وقت قريب» ليس في هذه 
الأسرة قلب أسود؛ وقلب والدتك أنتصعها بياضًا, . . 

ومضى إلى صوان ملابسه ففتحهء وجعل ينظر إلى 
ملابسه ولوازمه» وتردّد قليلا قبل أن ينفُدْ ما عقد 
العزم عليهء فالتفت إلى كيال» وهو يقول: 

- سأتزوّج من هذه الفتاة يا قضت بذلك المقاديرء 
ولكئّى ‏ علم الله مقتنع كل الاقتناع بأني لم أسئ إلى 
ذكرى فهمي؛ أنت أعلم يا كيال بما كان من حبّي له. 
كيف لا؟ إذا كان هناك من سيساء ببذا الزواج؛ فهو 
الأديهيب ! 

211 

قادت خادم صغيرة ياسين إلى حجرة الاستقبال ثم 
انصرفت. كان يقوم بزيارة بيت المرحوم السيّد محمد 
رضوان لأول هرّة في حياته» وكانت الحجرة ‏ على 


14 قصر الشوق 


طراز الحجرات بيت أبيه ‏ واسعة الأركان. مرتفعة 
السقف. فيها مشربيّة تشرف على شارع بين القصرين 
ونافذتان تطلان على العطفة الحانبيّة التي يفتح عليها 
مدخل البيت» وقد فرشت أرضها ببسط صغيرة 
واصطفت في جوانبها الكنبات والمقاعد» وأسدلت على 
الباب والمنافذ ستائر من محمل رماديّ باهت من 
الْقِدّم. وعلى الجدار المواجه للباب عُلّقت البسملة في 
إطار أسود كبيرء بينا توسّطت الجدار الأيمن . فوق 
الكنبة الرئيسيّة ‏ صورة للمرحوم السيّد محمد رضوان 
تمثله في أوسط العمر. . . 

اختار ياسين أول كنبة صادفته إلى يمين المدحل. 
فجلس وهو يتفخص المكان بعناية حت ثبتث عيناه على 
وجه السيّد محمّد رضوان الذي بدا وكأنه يبادله النظر 
بعيني همريم! ابتسم ابتسامة راضية وراح ينش لا شيء 
بمنشّته العاجيّة. . . . ثُمَةَ مشكلة قل واجهته مذ فكر 
في المجيء لخطبة مريم. هي خلو البيت من جدس 
الرجال وعدم توفيقه إلى إنابة أحد من جنس النساء 
عنه. فكانت النتيجة أن جاء وحده كأله مقطوع من 
شجرة ‏ على حدٌّ تعبيره ‏ الأمر الذي أخجله بعض 
الشىء كرجل ورث عن وسطه الاعتزاز بالأهل 
والأسرةء غير أنه كان مطمئنًا من ناحية أخترى إلى أنْ 
مريم لا بد وأن تكون قد مهّدت له السبيل عند أمّهاء 
نشنينف أن مجرّد إعلان زيارته سيشي بما جاء من أجله. 
ومن ثم يبتئ له جوًا طيبًا لإنجاز مهمّته. 

عادت الخادم إلى الظهور حاملة صيئيّة القهوة. 
فوضعتها على المنضدة أمامه. وتراجعت وهي قفبره بان 
ستها الكبيرة في الطريق إليه. . . وستها الصغيرة ترى 
هل علمت بحضوره؟ وما صدى ذلك في نفسها 
الرقيقة؟ سوف محملها بحسنها إلى قصر الشوق. 
ولتفعل بنا القّوة ما تشاء! من كان يظنّ لأمينة هذه 
القدرة على الغضب؟ كانت في وداعة الملاك. قائّل الله 
الحزن!! كذلك غضب أبوه وهو يعترف له في الدكان 
أنه هجر البيت ولكن غضب رحيم كشف عن تأثره 
وحزنه. ترى: هل تُطلعه أمينة على تاريخ مريم؟ 
عُضْب الدكلى شيء تحيف» ولكنّ كمال وعد بأن 


يحملها على السكوت... في قصر الشوق صادفتك 
أوَل مفاجأة سعيدة في هذا الحو العاصف!! هو موت 
الفكهانٌَ وحلول ساعاقّ محله. إلى القبر. ..! سمع 
تحلحة عند الباب» فاته بصره إليه وهو ينبضء وما 
لبث أن رأى ست ببيجة وهي تدخل بجنبهاء إذ أنْ 
مصراع الباب المفتوح لم يكن ليتسع لها إذا دخلت 
بعرضهال ولح عن غير فصد الخطوط التي تحدٌ تفاصيل 
جسمها الجسيم» فلم يتهالك من العجب عندما مرّت 
أمام عينيه عجيزتها الى كادت قمتها تبلغ منتصف 
ظهرها ويفيض أسفلها على فخذيهاء فكأنها كرة 
منطاد!! وأقبلت نحوه في خطوات متمهلة ناءعت 
بقناطير اللحم والشحمء ثم مدّت له يذا بضة بيضاء 
برزت من كم فستانها الأبيض الفضفاضص. وهي 
تقول: 

وا ها وميا شتفم ورر وكا 

فصافحها ياسين بأدب. ولبث واقفا حيّى جلست 
على الكنبة المجاورة فجلس . . . كان يراها عن كثب 
لأوّل مرّة إذ أن علاقتها القديمة بأسرته واكتسابها مع 
الأيام منزلة أشبه بمنزلة الأمّ في السنّْ والاحترام حملاه 
على تجنب تفخصها ‏ كا يفعل مع غيرها من النساء - 
كلما لمحها عن بُعْد في الطريق» لذلك خمّل إليه أنه عثر 
على كشف جديد. وكانت ترتدي فستانًا قد غطى على 
جسمها من العنق إلى ما فوق القدمين» وحتّى القدمان 
وارتهها في جورب أبيض رغم دفء الجوٌ بينا امتدّ كما 
الفيشان 2ل تر اعنهاة وسباعة ما عد الممتعن: برلنيت 
رأسها وعنقها بخار أبيض طرح ذيله العريض على 
أعلى الصدر والظهر فبدت في احتشام يناسب المقام 
ويوافق العمر الذي قارب الخمسين ‏ فيها علم - وإن 
تبدّت في صحّة ريّانة تنطق بصفاء المزاج وشباب 
القلب. ولاحظ فيا لاحظ أنْها تطالعه بوجه طبيعيّ لم 
يمه زخحرف أو زواق رغم ما غرف عنها من حبٌ 
التررّج وإتقان التزيّن» الأمر الذي نصّبها من قديم 
مرجمًا لكل ما يتعلّق بالذوق النسائئ من ملبس 
وزواق في الح كله. وذكر بِبْذه المناسبة كيف كانت 
أمينة تدافع عن هذه المرأة كلما عن لأحد أن ينتقد 


إفراطها في التبرّج» ثم كيف انقلبت تحمل عليها لآتفه 
الأسباب في السنوات الأخيرة رامية إِيّاها بقلة الحياء 
وتجاهل ما يستوجبه عمرها من احتشام . 

خطوة عزيزة يا ياسين أفندي . . . 

الله يكرمك!! 

كاد يختم جملته بقوله «يا تيزة» ولكنّ إحساسًا 
غريزيًا حوّفه في اللحظة الأخيرة من النطق بهاء خاصة 
وأنه لاحظ أنْها م تَذْعَه «بيا ابني» كما كان المنتظرء 
وعادت المرأة تسأل: 

كيف حالكم؟ والدك وم فهمي وخديجة وعائشة 
وكيال؟ 

أجاب» وهو يشعر بحياء لسؤلها عن الذين 
تاصبوها العداء بلا سبب وجيه: 

كلهم بخيرء سألت عنك العافية. . . 

لا شلك أنها تفكر الآن في الحفاء الذي قوبلت به في 
بيت أبيه عقب وفاة فهمى فاضطرها إلى الانقطاع عن 
أسرته بعد معاشرة دامت العمر كلّه. يا له من جفاء! ! 
بل يا لها من عداوة صامتة!! لم يكن إلا أن أعلنت 
امرأة أبيه يومًا أن «شعورهاء يحدّثها بأنْ مريم وأمّها م 
تصدقا في حزهها على فهمي! لم كفى الله الشر؟ . 
قالت إنّه من غير المعقول أن يكون رَفْض السيّد لخطبة 
مريم لم يبلغه) في حينه عن طريق أو آخخر أو حتى 
استنتاجاء ومن غير المعقول أن تعلما به ولا تضطغناه 
عليهم! ورذدت كثيرا مها سمعت أن مريم تندب 
فهمي في الأتم فتقول: «أسفي على شبابك الذي م 
تتمتّع به» فترجمتها إلى «أسفي على شبابك الذي وقف 
أهلك في سبيله فلم تتمتّع به!». وزادت على ذلك ما 
شاء لها حزما وقهرهاء ولم تنفع معها حيلة في نحوها 
عن «شعورهانء وسرعان ما تغير سلوكها لحو مريم 
وأمّها حي كانت القطيعة!... قال وهو لم يزل نحت 
تأثير الحياء والحرج : 

- لعن الله الشيطان! 

فقالت مبيجة مؤمّنة على قوله: 

ألف لعنة!... طلما ساءلت نفسي عما جنيت 
حبّى ألاقى ما لاقيت من الست أمّ فهمي» ولكتّي 


قصر الشوق ه54 


أعود فأدعو لما بالصير. . . المسكيئة! 

جزاك الله كل خير على نبل خلقك وطيبة قلبك. 
حمًا إِنّا مسكينة وفي حاجة إلى الصبرا ! 

- ولكن ما ذنبى أنا؟ ! 

لا ذنب لك إنّه الشيطان لعنة الله عليه. . . 

هرّت المرأة رأسها هرّة الضحية اليريئة» وصمتت 
قليلآً, حيّى حانت مغا التفاتة إلى فنجال القهرة الذي 
بدا كالمسئّ على صينئية القهوة, فقالت وهي تومى 
إليه : ْ ْ 

- ألم تشرب قهوتك بعد؟ 

فرفع ياسين الفنجال إلى فيهء وحسا الحسوة 
الأخيرة» ثم أعاده إلى الصيئيّة. وتنحنح قليلاء ثم 
أنشاأ يقول: 

شد ما ساءني ما انتهت إليه صداقة الأسرتين. 
ولكن ما باليد حيلة» على أي حال ينبغي أن نتناسى 
ذلك تاركين أآمره للزمن» والواقع أنْني لم أكن أحبّ أن 
أثير أسيف الذكريات» فما هذا جئت؛ إنما جئت 
لغرض آخر هو أبعد ما يكون عن الذكريات 
الأسيفة . . , 
هرّت المرأة رأسها هرّة كأنما تطرد الذكريات 
الأسيفةء ثم ابتسمت ابتسامة استعداد لسماع جديدى 
كانت تهرٌ رأسها وابتسامتها كالالة الموسيقيّة المصاحية 
للمغْبّى إذا غيّرت عزفها تمهيدًا لدخول المغئي في طبقة 
جديدة من النغم. قال ياسين مستمدًا من ابتسامتها 
طلاقة : 

أنا نفسي لا تخلو حياتي من ذكريات أسيفة تتصل 
بحياتي الماضية... أعني تجربتي الأولى في الزواج 
الذي لم يوفقني الله فيه إلى بنت الحلال! ولكبّْي لا أريد 
أن أرجم إلى ذلك» الواقع أنّْني جثت بعد أن عزمت - 
متوكلًا على الله على فتح صفحة جديدة مستبشرً 
الخير كله فيا اعتزمت. . 

القت عيناهما على الأثر فطالع فيهها الترحيب 
الجميل... ترى: هل كان موققًا في الإشارة إلى 
زواجه الأوّل؟ ترى ألم يترام إلى سمع هذه المرأة شبيء 
عن الأسباب الحقيقيّة لفشل ذلك الزواج؟ لا تشغل 


5 قصر الشوق 


بالك إِنْ ملامحها الجميلة توحي بالتسامح إلى غير 
حدّء ملامحها الجميلة!! اليس كذلك؟ بللىء لولا فارق 
السنّ لكانت أجمل من مريمء كانت بلا مراء أجمل من 
مريم في شبابها الذاهب. . . كلا! إِنْها أجمل من مريم 
رغم فارق السنّ!. . . إنْبا لكذلك! . . . 

أظئكِ فطنت إلى مقصدي, أعني إلى أنني جئت 
طالبا يد كريمتك مريم هانم. . . 

أضاء الوجه الرقراق ابتسامة بثْت فيه حيويّة 
جديدةء وقالت* 

لا يسعني إِلَّا أن أقول أهلا وسهلاء نِعُم الأسرة 
ونِعُم الرجل» أمس أوقعنا سوء الحظ فيمن لا خلاق 
له اليوم يسعى إلى مريم رجل جدير حمًا بإسعادهاء 
وستكون بفضل الله جديرة بإسعاده؛ ونحن ‏ مهيا فرّق 
بيئنا سوء التفاهم ‏ أسرة واحدة من قديم الزمن. . . 

اغتبط ياسين حيّى راحت أصابعه تسوّي البابيون 
بلمسات سريعة غير مقصودة. ثم قال وقد تورد وجهه 
الأسمر الجميل : 

- أشكرك من صميم قلبي». جزرى الله عفي لسانك 
الحلو» نحص أسرة واحدة كيا قلت رغم أيّ شي 
ومريم هانم فتاة يزدان بها حيّنا كله أصلًا وخلقّاء 
أرجو أن يعوّضها الله من صبرها خيرًا وأن يعوّضبي بها 
من صاري خميرا. 

غمغمت «آمين» وهي تنبض. ثم أقبلت بيجسمها 
المفتخر نحو المنضدة. فتناولت صينية القهوة وهى 
تنادي ياسميئة» ثم استدارت حاملة إياها فاطانيا 
الخادم الى جاءت على عجل. ولفتت عنقها فجأة 
لتقول له «آنستنا» فباغتته وهو يحملق في ردفيها 
الثقيلتين! ! وشعر لتوّه بأنه وضبط في حالة تلبّس» فبادر 
بخفض عينيه ليوسمها بأنه كان ينظر إلى الأرض» 
ولكن بعد فوات الأوان!... وارتبك وجعل يسأل 
نفسه عا عسى أن نظن به. ثم اختلس منها نظرة بعد 
أن عادت إلى مجلسها فلمح على شفتيها ابتسامة خفيفة 
كأنما تقول له «رأيتك». لعن عينيه اللتين لا تعرفان 
الحياء. وتساءل عم يمكن أن يكون قد دار في 
رأسها. . . أجل إتْها تحاول أن تبدو كأئها لم ترّ شيئاء 


ولكنّ هيئتها ‏ بعد ابتسامتها ‏ تقول له أيضا 
«رأيتك!». لينس الهفوة فهذا حير حلّء ولكن هل 
تصير مريم مثل أمّها يومًا ما؟ متى يجيء هذا اليوم؟! 
للأمٌ مزايا لا يبود مها الزمان إلا في النادرء يا لما من 
اقرأة 11 إن تك ؤسيلة لتقيس الكاره وتسلاية: محاءة 
الشك هي أن مزق الصمتء قال: 

- إذا حاز طلبي القبول. فستجديني رهن إشارتك 
لناقشة التفاصيل الحامّة , . . 

ضحكت ضحكة قصيرة. فبدا وجهها في إشراقتها 
لطيفًا شابّاء وقالت: 

كيف لا محوز القبول يا ياسين أفئدي؟! أصل 
وجوار على رأي المثل. . . 

قال. وقل تورد وجهه: 

- إِنْك تأسرينني بلطفك! 

ما عدوت اللْقّء والله شهيد! 

هل كت موافقة البيت؟ 

تلت في عينيه نظرة جدّ لحظة, ثم ضحك ضحكة 
فاترة من أنفه. وقال: 

- دعيئنا من البيت وسيرته! 

- لم كفى الله الشي؟ 

القن المفه سا دما يراء | 

- ألم تشاور السيّد أحمد؟ 

- أي موافق. . . 

فضربت يذًا على يدء وقالت: 

- فهمتء أمّ فهمي؟! أليس كذلك؟! إنّها أل من 
تبادر إلى ذهني وأنت تفاتحني بالموضوع. طبعًا م 
توافق. هه؟ سبحان الذي لا يتغيّرء امرأة أبيك امرأة 
غريبة! 

هر كتفيه استهانة: وهو يقول: 

- لا يقدّم هذا ولا يؤخخر. . . 

قالت متشكية : 

- طالما ساءلت نفسي عمّا جنئيت؟ أي إساءة أسأت 
بها إليها! 

لا أحبٌ أن أقدّم على حديثنا حديئًا آخر لا يمني 


منه الإنسان إِلّا وجم الدماغ. ليكن ظتّها ما يكون. 
لمهم أن ماض إلى هدفيء ولا يعنيني إِلّا موافقتك 
الك ب 

- إذا لم يتسع لك بيتك فبيتنا تحت أمرك. . . 

شكرًا... لدي بيتىق بقصر الشوق بعيدًا عن 
اكه كلسي اتانييك انلقن عادر من ترب 

ضربت صدرها بيذها هائفة : 

طردتك! ., . . 

قال ضاححًا: 

كلا لم يبلغ الأمر إلى هذا الحدّء المسألة وما فيها 
أن اختياري آلمها لأسباب قديمة لما صلة بالمرحوم أحي 
(هنا نظر إليها نظرة ذات معنى)ء ومع أنني لم أجد في 
معارضتها وجه حقٌ مقنع: نإنني رأيت من اللياقة أن 
أعدٌ للزوجيّة بيتا جديدًا. . . 

سألته. وهي ترفع حاجبيها وتبز رأسها فيما يشبه 
القلت: 

- ل لم تننظر في بيتك حبّى يحين ميعاد الزواج؟ 

فضحك ضحكة تسليم» وقال: 

آثرت الابتعاد خوفا من تفاقم الخلاف! 

فقالت كالمتهكمة: 

ريّنا يصلح الخال. . . 

وقامت مرّة أخرى قبل أن تتم جملتهاء فاتجهت إلى 
النافذة المطلّة على العطفة الجانبيّة وفتحتها لتفتح لنور 
الأصيل بعد أن بات باب المشربية غير كافب للإضاءة 
الغرفة» ووجد نفسه على رغمه وحذره يسترق النظر إلى 
كنزها النفيس وهو يطالعه كالقبة. رأها وهى تعتمد 
على الكنبة بركبتها ثم تميل على حافة النافذة لتشبك 
مصراعيها فرأى منظرًا عجبًا ترك في نفسه أثرًا داميا. 
تساءل وهو يشعر بجفاف حلقه: لم لم تدم الخادم 
لتفتح النافذة؟ كيف ارتضت أن تعرض أمام ناظريه - 
اللذين باغتتهها منذ قليل في حالة «تلبّس»- هذا المنظر 
الذي لا يخفى عنها مغزاه؟ لم وكيف وكيف ولم؟ كان 
فيما يتصل بالنساء مرهف الحسٌ سبئ الظنء فلاح له 
شىء كالشلكٌ يتردّد على عتبة إدراكه لا يريد أن يدخل 
ولا يريد أن يختفي. ولكنّه بادر فأغمض عينيه متأثرًا 


قصر الشوق /ا4 


بخطورة الموقف. إمّا أن يكون مجنونًا وإِمّا أن تكون ‏ 
هي - المجئونة . أو فلا هذا ولا ذاك؟ مَن له بمن ينتشله 
من حيرته! استقام .جسمها المائل» فوقفت, ثم تحولت 
عن النافذة متجهة إلى مجلسها. فبادر إلى رفع عينيه 
صوب البسملة ‏ قبل تحوا ‏ متظاهرًا بالاستغراق في 
تفخصهاء وم يلفت رأسه نحوها حتى صدرت عن 
الكنبة طقطقة تنبي: بجلوسهاء وعند ذاك التقت 
عيناهماء فرأى في عيئيها نظرة باسمة ماكرة أشعرته بأنْه 
لم تخفت عنها حافية» وكأتها تقول له بأفصح لسان 
«رأيتك1!». لبث حيئا مضطرب النفس والخاطر؛ وم 
يكن على بين من شيء فنخاف أن يكون ظلمها أو أن 
يكون عرّض نفسه أمامها للاتهام. وبدا له أنه 
سيحاسّب على كل حركة تبدر منه. وأنْ أيّ هفوة قل 

ما زال الحوٌ مائلا إلى الحرارة والرطوبة. . . 

جاء صوتها هادنًا طبيعيّاء ودل ‏ إلى ذلك على 
رغيتها في إزاحة الصمث. فقال بارتياح : 

أجل إِنّه كذلك. . . 

عاودته الطمأنيئة. غير أنه ما لبث أن تخايل لعينيه 
المنظر الذي رآه عند النافدة» وجد نفسه على رغمه 
يجترّه ويتيه في جاذبيّته» ويتمئى لو كان عثر على مثله في 
إحدى مغامراته. لو كان لمريم مثل هذا العسم! ألا في 
مثله فليتنافس المتنافسون. ولعلّها ظنْته - لصمته ‏ لا 
يزال 00 بما أثارته من حديث خخلافه مع امرأة 
أبيه» فقالت فيا يشبه الدعابة : 

لا تشغل بالك لا شىء في هذه الدنيا يستحقٌ 
شغلة البال! ْ 

ثم لوحت بيديها ورأسها ‏ واهترٌ جسمها فيا بين 
ذلك اهتزازة خاصّة - كأنما لتحنه على الاستهانة 
بالهموم. فابتسم مطاوعًا وهو يغمغم: ونطقت 
بالحقّع. غير أنّْه كان يبذل قصاراه ليملك نفسه. أجل 
فقد حدث أمر جلل. لم يكن في ظاهره إِلَّا تلك 
الحركة الشاملة التى أرادت بها الإفصاح عن الاستهانة 
وحثه عليهاء إلا ألْها كانت حركة بالغة الخطورة من 
حيث دلالتها على الخلاعة والدلال والاستهتار» وقد 


8 قصر الشوق 


ندّت عنها في لحظة نسيان فخرجت بها عم) التزمته 
طوال الجلسة من تأذب واحتشام وكشفت عن خبيئة 
طبيعتها وهي لا تدري» أو وهي تدري؟ لاا يستطيع 
أن يقطع ذا أو بذاك ولكنه لم يعد به شك في أنه 
خوال :لزاه كضيرة هذا باذ تكون اه عر ذات 
التاريخ القديم! أى أن يتراجع عن رأيه مهما يكن من 
أمرء فهذه الحركة الراقصة المغناج لا يمكن أن تصدر 
عن سيّدة مصون! ولم يكن إزعاجه إلا للعظة عابرة: 
فسرعان ما حل محله إحساس بسرور شهوان ماكر, 
وراح يتذكر أين ومتى رأى هذه الحركة من قبل» على 
زنُوبة؟ جليلة ليلة اقتحمت على أبيه المنظرة ببيت آل 
شوكت؟ أه. . . هذه هي!. ويل إليه نْبا رغم ستها 
أشهى من مريم وألذ. وغلبته فطرته فحدثته نفسه بأن 
يحسٌ النبض وآلا يقف إن أمكن عند حدً! وشعر 
برغبة ف الضحك من غرابة أفكاره وبأله سيسلك 
طريقًا وعرًا لم يطرق من قبلء» ولكنّه لم يعتد يومًا أن 
بيزجر النفس عن هوى... أين يتأتى به هذا 
المسلك؟ هل يمكن أن يعدل عن مريم إلى أمّها! حلا 
نه لا يضمر ذلك قظء ولكن تصوّروا كلبًا قد عثر على 
عظمة وهو في طريقه إلى المطبخ فهل يتعفف؟... بيد 
ها محرّد أفكار وتخبّلات وفروض! فلأنتظرا!... 
وتبادلا ابتسامة في الصمت الذي عاد فسحب ذيله 
بينبياء أمَا ابتسامتها فكانت فيا بدا نحية مضيف 
لضيف. وأمًا ابتسامته فقد الفغمت» على فم حائر 
مبمسات الاعتداء المختلق , 

- نورت بيتنا يا ياسين أفندي . . 

- يا سي بيتك لا ينقصه النئورء أنت تنورين البلد 
وما فيها. . . 

ضحكت ضحكة مالت برأسها إلى الوراء. وهي 
0 

الله يكرمك يا ياسين أفندي! . . . 

كان ينبغي أن يعود إلى الحديث عن طلبه أو أن 
يستأذن في الانصراف على أن يسمي موعذا آخر 
لواصلة الحديث» ولكنّه لم يعد إلى الحديث ولم يستأذن 


في الانصراف. . . بل راح يحدجها بنظرات ريبة تطول 


حينا وتقصر حيئًا دون انقطاع وفيٍ صمت مريب. 
النظرات معان لا تخفى على ذي عينين!! لا بذ من 
إيصال أفكاره إليها بالنظرات وحدها حتى يرى رد 
الفعل. . . اعرف لقدمك قبل الخطو موضعها وليسقط 
ألنبىي. خذي هذه النظرة النارية وخبّريني إن كنت 
صادقة عن أيّ مجنون يسعه أن يتجاهل سوء مقصدها 
أو يدّعى براءتها؟ انظر ها هي ترفع عينيها وتخفضهما 
كالشاردة وعلى حال بينة من الفهم المريب. تستطيع 
الآن أن تقول إن الفيضان وصل إلى أسوان وإِنّْه لا 
مناص من فتح الخرّانء وأنت تخطب إليها ابنتها؟! 
مجنون من لا يؤمن بالجنون بعد اليومء أنت الآن 
أشهى شيء إلى نفسبى» وليكن بعد ذلك الطوفان. . . 
منظرك لا يوحي بالياس أبذًا! 

هل تقيم في قصر الشوق بمفردك؟ 

5ٍْئطظ2 

قلبيى عندك, . . 

حملة قد تصدر عن شيطان» وقد تصدر عن ملاك, 
ترى هل تتنضّت مريم الآن وراء الباب؟ 

أنت جرّبت الوحدة بنفسك في بيتك هذاء إنها 
لورلا عه ده 

ععدااية سير 

وفجأة امتدت يدها إلى خمارها فنزعته من حول 
رأسها وعنقها وهي تقول كا معتذرة «لا تؤاخخذني الدنيا 
حارّة). فبدا رأسها في منديل برتقاليَّ وأسفر عنقها 
الوضيء. رنا إلى عنقها مليًا في قلق متزايدء ثم لظ 
الباب كالمتسائل عمّن عسى أن يكون رابضًا وراءه. . 
أغيثوا الذي جاء يخطب البنت فوقع في الأمّ. وقال ردًا 


على اعتذارها: 
خذي راحتك. أنت 5 بيتك ولا غريب قُِ 
النيقا.. 


- ليت أن مريم كانت في البيت لأزفّ إليها الخبرا 
خفق قلبه خفقة حادّة كإشارة الهجوم؛ وتساءل: 
وأين هي ؟ 

عند جماعة من معارفنا في الدرب الأحمر. 

وداعًا يا عقلي! خاطب بنتك يريدك وأنت تريدينه. 


لرتحم اطق سرون :انظ بالتسااءه. لاامكن أن 
يكون في رأس هذه المرأة عقل. جارة العمر ولا تعرفها 
إلّا اليوم!. . . مجنونة. . . مراهقة في الخمسين! . . . 

- متى تعود مريم هالم؟ 

عقيل المساه: .: 

قال عخبث : 

أشعر بن زياري قد طالت. . . 

- لم تطل زيارتك, أنت في بيتك , . . 

فياش يكيف أنطنا: 

- ترى هل أطمع في أن ترذي لى الزيارة؟ 

فابتسمت ابتسامة عريضة, كأنما تقول له «إني أدرك 
ما وراء هذه الدعوة». ثم أطرقت في حياء وإن لم يغب 
عنه ما في حركتها من تمثيلء ولكنه لم يبالحاء وراح 
يصف لما موقع بيته من الحارة وموضع شقته من 
ليك وفى مطرفة امن باضهة: 'ترى آل تشعو بان 
تسيء إلى ابنتها أبلغ إساءة. وأئْها تعتدي عليها أنكر 
اعتداء؟ | 

- متى تتكرمين بالزيارة؟ 

غمغمت وهى ترفع وجهها: 

- لا أدري ماذا أقول! 

فقال بتوكيد وثقة : 

أقول أنا بالئيابة عنك, مساء الغد» ستجدينني في 
التظارك ! 

ثمّة أمور يجب أن نعمل -حساءها! 

وقام من فوره وهم بأن يتقدّم نحوهاء فأشارت إليه 
وهي تلتفت نحو الباب محذّرة» ثم قالت وكأنما لا 
فيك إلا التفادى من صولته : 

غدًا مساء. , . ! 


775 أده 
وعرف بيت قصر الشوق ببيجة زائرة صواظبة. 
كانت إذا نشر الظلام ستاره. تتلقع بلاءتهاء وتمفي 
إلى الحماليّة» فإلى بيت هنئيّة . . . وهنالك تجد ياسين في 
انتظارها بالحسجرة الوحيدة المفروشة في الشقّة. لم بجر 


قصر الشوق 5149 


ريم ذكر بينب) إلا حين قالت له مرّة : 

لم أستطع أن أخفي عن مريم نبا زيارتك, لأنّ 
خادمتنا تعرفك» ولكثّي قلت لا: إِنك فاتحتنى برغبتك 
في خطبتها بعد تذليل العقبات التي تعترض سبيلك في 
خيط الأسرة ! 

ووجد نفسه مذهولا عن مناقشتهاء فأبدى موافقته 
واستحسانه. واستقبلا معًا حياة حافلة بالمتم» وجد 
ياسين ذات «الكئز» ملبية بين يديه» فانطلق انطلاق 
الجواد الجامح. وم تكن الحجرة التي أنّنت على عجل 
واقتصاد بالمكان الصالح لمطارحة الغرام, ولكنّه لم يأل 
عن تهيئة البو لخلاب بتوفير الطعام والشراب حتّى 
يطيب له الوصال فيواصل صولاته بذلك النهم 
الغريزيّ الذي لا يعرف حدًا أو اعتدالا. وما لبث أن 
أدركه الملال قبل أن يتم الأسبوع الأول دورته. هي 
نفس الحلقة النى تدور فيها شهوته حيّى غدا الدواء 
نوتما من الداء بيد أنّه لم يؤخذ على غرّةء كلا! ول 
يضمر نحو تلك العلاقة الغريبة من بادئ الأمر أي نية 
حسنة ولا قدّر لها أي دوام» بل لعلّه لم يبلغ من وراء 
المغازلة في حجرة الاستقبال إلا ضجعة عابرة؛ غير أنه 
وكحة عن الراةكعلقائيه بوخرضا عليه واملا فى أذ يكو 
قنع بها راضيًا وعدل عن مشروع الزواج» فلم ير بدا 
من يجاراتها كيلا يفسد على نفسه لذّتها مؤمنًا بن الزمن 
وحده كفيل بإرجاع كل شىء إلى أصله! وما أسرع أن 
رجع كل شيء إلى أصله بالنسبة إليه هوء بل ريما 
أسرع ما قدّرء وكان جاراها وهو يظنٌ أنْ جدّة محاسنها 
خليقة بأن تحتفظ برونقها أسابيع أو شهراء ألا يا رتم 
كذب الظنّ!. . . أما عن مظهرها الشهئّ فبحسبه أن 
جعله يرتكب أكبر حماقة في حياته العامرة بالحماقات, 
ولكنّ الكهولة تكمن وراء ذلك كها تكمن الحمّى وراء 
تورّد الخدّين الكاذب. وإنْ القناطير المقنطرة من اللحم 
البشري المتحبكة تحت طيّات الثياب ‏ على حدّ قوله - 
غيرها إذا تجزدت. للعيان؛ وليس كاللحم البشريّ 
سكل لآثار العمى التزيفة. بح قال لنفسه والآن 
أدرك لاذا تعبد النساء الملابس!» لم يكن عجيبًا بعد 
ذلك أن يقول عنها وقد ضاق باندلاقها عليه أنها 


">8٠‏ قصر الشوق 


«مرضص». وأن يجمع العزم على قطع علاقته بها. 
وعادت مريم ‏ بعد حمود النزوة الجئونية - إلى سابق 
مكائتها من نفسه, كلاء لم تكن بارحتهاء ولكنّ النزوة 
الطارئة غشيتها ىا تغشى السحابة العجلى وجه القمرء 
عجبًا! لم تعد رغبته في مريم مجرّد استجابة لولعه الخالد 
بجنسها وإن غلب ذلك عليهاء ولكتّبا أرضت من 
ناحية أخرى حنينه إلى تكوين الأسرة التي كان يعتدها 
مصيرًا محتومًا ومرغوبًا فيه أيضًا!. واستوصى بالصير ‏ 
كارهًا ‏ على أن تثوب مبيجة إلى رشدهاء أن تقول له 
يومًا «حسبنا لعا وهلمٌ إلى عروسك؛ ولكنّه لم يجد 
لأمله صدى في نفسهاء كانت تواظب على الزيارة ليلة 
بعد أخرى» وما تزداد إِلّا إغرافًا وتبالكاء وشعر بأئها 
تل مع الزمن إيانًا بحقّها عليه كأنه بات محور حياتها 
وقللك يتنا 

أجل! لم تكن تنظر إلى الأمر بعين الاستهانة أو 
اللهوء وإلى هذا تكشّفت نفسها له عن خفة وطيش 
ونزق أقنعته جميعًا بأنّ سلوكها الشاذ معه في أول مقابلة 
م يكن أمرًا مستغرباء فاستهان بها وازدراها وتضحخمت 
عيويها في عينيه الزاريتين حَبّى ضاق بها كل الضيق 
وصمّم على التخلّص منها في أوَّل فرصة تسنح. وإن 
حرص على تَجنْب الفظاظة أن تبعثر العراقيل في طريق 
مريم. قال ها مرة: 

ألا تتساءل هريم عن سر اختفائي؟ 

فقالت وهي تطمئئه بحركة من رأسها: 

إِنْها على بيّنة من معارضة أسرتك . 

فقال بعد تردد: 

أصارحك بأنّنا كنا نتحادث أحيانًا فوق السطح, 
وأني ردّدت ها مرّات بأنّي مصِمّم على الزواج منها مه| 
يكن من معارضة المعارضين . 

فحدجته بنظرة نافذة» وهى تتساءل: 

ماذا تريد؟ ْ 

قال متظاهرًا باليراءة : 

أريد أن أقول إِنْبا سمعت 8 ذلك التوكيد. 
وإنْبا علمت بعد ذلك بزيارتي لك. فينبغي أن تقتنع 
بسبب وجيه لاختفائي !. . . 


فقالت بغير مبالاة أدهشته : 

د لن يضيرها ألا تقتنع» فليس كل كلام يمفضٍ إلى 
خطبة ولا كل خطبة بمفضية إلى زواج» إثها تعلم علم 
اليقين . . 

ات منخفض : 

- ولن يضيرها أن تفقدك, إنها شابة في عر جماهاء 
ولن تُعدم خخاطبًا اليوم أو غدًا!. . . 

كائها تعتذر عن أنائيتهاء أو تلمح إلى أمّها هي _ لا 
ابنتها ‏ التى يضيرها فقدهء فلم يزده قوها إلا ضيمًا 
ومللاء إلى أنه أخذ يتوجس خيفة من معاشرة امرأة 
تكبره بعشرين عامّاء متأثرًا بما يتردّد بين العامّة من أنّ 
غحادنة الكهلات تذبل الشيّان. حيّى شحنت ساعات 
اللقاء ‏ من ناحيته ‏ بالتوثر والحذر فمقتها مقنًا. . . 
وإنه لعلى ذاك إذ صادف مريم يومًا في السكة 
الجديدة» فتقدّم منها دون ترّد» وسلّم عليهاء وسار 
إلى جانبها كأنّه من ذوي قرباهاء كانت قلقة عابسة, 
فأخيرها بأنه كان يقنع والده بالموافقة -حيّى ظفر بهاء 
وأنه يعد مسكنه بقصر الشوق ليكون صالحًا لمياء 
واعتذر عن طول غيبته بكثرة مشاغله. ثم قال لها: 
«وأخيري والدتك بأنْني سأاجيء غذا لمقابلتها للائفاق 
على عقد القران!» ومضى سعيدًا بانتهاز الفرصة الى 
سنحت عل غير ميعاد؛ غير عانئْ ‏ في غمرة العاف . 
بما سيكون موقف ببيجة منه. وني مساء ذلك اليوم 
جاءت ببيجة في ميعادها إلى قصر الشوقء ولكنها 
جاءت هذه المرّة كسيرة النفس» بادرته هاتفة قبل أن 
ترفعم برقعها: 

- بعتنى غيلة وغدرا. . . 

ثم انحطت على الفراش. وهي تنزع برقعها ني 
نرفزةء وتقول: 

- لم يطف بخاطري أنّك تضمر لي هذا الغدر كل 
ولكنّك جبان غادر كسائر الرجال. . . 

قال ياسين برقة المعتذر؛ 

- ليس الأمر كما تتصورين, الحقّ أني قابلتها 
فصاحت بوجه مكفهر؛ 


كذّاب! كذّاب! وحق من هو قادر على أن بريني 
فيك ما أشتهيى. هل تظئني أصدّقك ما حييت بعد ما 
كان (ثمٌّ وهي تحاكيه محاكاة كاريكاتورية) الحقٌ أني 
قابلتها صدفة! أيّ صدفة يا عمر؟! وهبها صدفة 
حمّاء فَلِعَ كلّمتها في الطريق أمام الرائح والغادي؟ 
أليس هذا فعل الغادر السيئ النيّة؟ (ثم وهي تعود إلى 
المحاكاة الكاريكاتوريّة) الحقٌ أنى قابلتها صدفة. . . ! 

فقال في شيء من الارتباك : 

وجدتنى معها فجأة ‏ وجهًا لوجه ‏ فامتدذت يدي 
بالسلام عليها! ما كان بوسعي تجاهلها بعد ما كان من 
تحادثنا فوق السطح . 

فصاحت به بوجه مصفرٌ من الغضب: 

فامتدّت يدي بالسلام عليها! اليد لا تمتدّ إِلّا إذا 
مدّها صاحبهاء قطعت اليد وصاحبهاء قل إِنْك 
مددت يدك إليها لتتخلص مثى. . . 

- لم يكن من السلام بِذدَّء أنا إنسان وفي وجهي دم! 

دم؟! أين هو ذاك؟ دم يلطشك يا غادر يا ابن 
الغادر, . . 

م بعد أن ازدردت ريقها: 

ووعدك إيَاها بالمجيء للاتفاق على عقد القران» 
هل أفلت منك أيضًا كا أفلتت يدك؟... تكلم يا 

قال مبدوء عجيب: 

إن كل الح يعلم الآن بأني هجرت بيت أبي 
لأتروّج من ابنتنك» فلم يكن من المستطاع تجاهل ذلك 
وأنا أحدّثها. . . 

فصاحت بحذة: 

كان بوسعك أن تنتحل من الأعذار ما تشاء لو 
كانت بك رغبة إلى ذلك» لست من يعيبهم الكذب. 
ولكنّك أردت التخلّص مبِّيء هذه هي الحقيقة. . . 

قال وهو يتحاشى نظرتها : 

- ربدا يعلم بحسن نيت ! 

فحدجته بنظرة طويلة؛ ثُمّ سألته في تحدٌ: 

- أتعني أنّك تورّطت في وعدك ها على غير رغبة 
منك؟ 


قصر الشوق ١ه>‏ 


أدرك خطورة التسبليم بذلك. فغضٌ بصره ولاذ 
بالصمت؛» فقالت وهي تزفر من الغيظ : 

أرأيت أنّك كذّاب كما قلت لك؟ 

ثم صارنخحة : 

- أرأيت؟ ! أرأيت يا غادر يا ابن الغادر؟! 

قال بعد تردد: 

- إن سرًا لا يمكن أن يخفى إلى الأبد. تصوّري 
ماذا يقول الناس لو كشفوا سر علاقتناء بل تصوّري 
ماذا تقول مريم! 

فصرفت بأسنانا من الحنق» وقالت: 

يا لك من خنزير! لم ل تذكر هذه الاعتبارات يوم 
وقفت أمامي سائل اللعاب كالكلب؟ آه يا جنس 
الرجال. جهئّم الحمراء عقوبة تافهة لكم! 

أبعي حفيفاء وكان أوشك أن يضحك لولا فرملة 
الجبن» ثم قال بتودّد ورقة : 

- لقد قضينا وقنًا طيبًا سوف أذكره دائمًا بكل خيرء 
حسبك غضبًا واستياء» ما مريم إلا ابنتك. وإنّك أوَل 
من يروم سعادتها. . . 

وهي تبر رأسها بتهكم : 

أأنث الذي ستسعدها؟! أسمعي يا حيطان». 
المسكيئة لا تدري أي إبليس ستتزوج؛ أنت دائر ابن 
دائرة» وربنا يكفيئا شر ما وقعت فيه. . 

قال مبدوئه الذي التزمه من أول الأمر: 

عند ربّئا الصلاح, إفي أرغب رغبة صادقة في 
بيت مستقرٌء وزوجة بدت حلال!! 

قالت هازئة : 

- أقطع ذراعي إن صدقت». سوف نرى, لا نظن 
بأمومتى الظئون» إِنّْ سعادة ابنتي مقدّمة عندي على كل 
اعتبارء ولولا أنّك خدعتني وغدرت بي ما كان مني 
أن أهديك إليها على الحذاء! 

ساءل ياسين نفسه: ترى هل مرّت الأزمة بسلام؟ 
واننظر أن تلبس برقعها وتودعه. ولكتّها لم تحرّك 
ساكئاء ومضى الوقت - وهي بمجلسها من الفراش» 
وهو بمجلسه على الكرسيّ قبالتها ‏ لا يدري كيف, ولا 
مى تتقوؤض هذه الجلسة الغريبة المتوثرة» واسترق 


65 قصر الشوق 


النظر إليهاء فوجدها ترنو إلى الأرض كالسارحة على 
حال من التسليم نزعت به إلى العطف عليهاء هل 
تعود مرّة أخرى إلى المهاترة؟ غير مستبعد!! ولكتها - 
فيها يبدو تفكر في موقفها الدقيق بينه وبين ابنتها 
وتنحني أمام مقتضياته. وما يدري إل وهي تنتزع 
الملاءة عن نصفها الأعلى وتغمغم «الجرٌ حاز ثم 
تزحزحث حتى نهاية الفراش فاستندت إلى شباكه, 
ومدّت ساقيها غير عابئة بالحذاء الذي انغرز كعباه في 
طيات اللحاف. ثم واصلت شرودهاء ترى: ألا يزال 
لديها ما تقول؟ سأها بلهجة بالغ في رقتها : 

- هل تسمحين لي بأن أزوركم غذًا. . .؟ 

تجاهلت سؤاله دقيقة أو نحوهاء ثم حدجته بنظرة 
كاللعنة» وقالت: 

على الرحب والسعة يا بن القدعة! 

ابتسم قانعا وهو يشعر بنظراتها تلهب وجهه. 
وعادت هي تقول بعد هليهة : 

لا تظنني بلهاء. كنت موطنة النفس على توقع 
هذه النباية عاجلًا أو آجلاء ولولا أنّك تعبّلتها 
بطريقة... (ثمْ بتسليم وازدراء معام... ما 

لم يصدّقهاء ولكنه نظاهر بتصديقهاء ومضى يقول: 
إنه كان واثمًا من ذلك. وإنّه يرجو أن تعفو عنه 
وتشمله برضاهاء ولكتها لم تعن بالإصغاء إليه. 
وتزحزحت - مرة أخرى - إلى حافة الفراش» فطرحت 
ساقيها على الأرضء. وقامت فأخذت تحبك ملاءتهاء 
وهي تقول : «أستودعك اللهه. . . فقام صامئا وتقدّمها 
إلى الباب وفتحه, ثم تقذمها مرّة أخرى إلى الخارج. 
وما يدري إِلَّا وصفعة تبوي على قفاه. على حين مرقت 
المرأة من جانبه إلى السلّم وتركته وراءها كالذاهل وكمّه 
منطرحة على موضع الصفعة. التفتت نحوه ويدها على 
الدرابزينء وقالتث: 

- تعيش وتأحذ غيرهاء آذيتني أكثر من هذاء ألا 
يحقّ لي أن أشفي غليلٍ ولو بصفعة ياابن 
الكلب. . .؟! 


1ت 

يا سيّد أحمد لا تؤاخذني إذا صارحتك بأنك تبذّر 
نقودك هذه الأيام بلا حساب . . 

قال حميل الحمزاوي ذلك بلهجة جمعت بين أدب 
المستخدم وإدلال الصديق. وكان الرجل لا يزال قوي 
البنية جيّد الصحّة على بلوغه السابعة والخمسين من 
عمرهء أمّا رأسه فقد رصّعه المشيبء ولم تؤثْر السنون 
في نشاطه شيئًا فلم يزل يومه ينقضي على حركة دائبة في 
خدمة الدكان وعملائه كعهده منل التحق به على أيام 
منشئه الأوّل. وقد اكتسب مع طول العهد حقوقًا ثابتة 
واحترامًا جديرًا بنشاطه وأمانته» فنزل من نفس أحمد 
عبد الجواد منزلة الصديق, ولم يكن عطف الرجل عليه 
الذي تمثل أخيرًا في معاونته على إحاق ابنه فؤاد بمدرسة 
الحقوق إِلَّا مضاعمًا لإخلاصه وموجبًا عليه مصارحته 
عندما تجهب المصارحة لدفع ضر أو تحقيق منفعة. على 
أن أحمد قال بلهجة مطمئئّة, ولعلّه كان يشير إلى 
الرواح الذي لم تزل تثمل السوق بسكرثه : 

الحال معدن. واللحمك لله , , , 

فقال جميل الحمزاوي باسما: 

- ربّنا يزيد ويبارك. غير أني لا أزال أكرّر القول 
عليك بأنك لو كنت اتمحذت من التجّار حلقهم كما 
| نخلذت حرفتهمء. لكنت الآن من كبار الأغنياء. . . 

ابتسم أحمد ابتسامة الرضى والقناعة وهو يبز منكبيه 
استهانة. ربح كثيرًا وأنفق كثيرًاء فكيف يأسف على ما 
جنى من لذّات العيش؟ لم يفقد يومًا حاسّة التوازن بين 
دخله ومنصرفه؛ ول يِخْلٌ رصيده من السترء وقد 
تزؤجت عائشة وتزؤجت نخحديجة.» وطرق كال باب 
المرحلة النبائيّة من حياته الدراسيّة. فياذا عليه لو نَع 
بعد ذلك بطيّبات الحياة؟ على أنْ الحمزاوي لم يعد 
الحقّ في ملاحظته على تبذيره. فالحقٌ أنه يبدو هذه 
الأيام - أبعد ما يكون عن الاعتدال والقصد. تشعبت 
وجوه نفقاته : فالهدايا تستلرف مالا لا يُستهان به 
والعوامة تستحلب دسمهء ومحظيته تستاديه القرابين» 
وفي الحملة فإِنْ زنوبة تدفعه إلى الإسراف دفعاء وهو 
من ناحيته يدفع بلا مقاومة تذكرء لم يكن كذلك في 


الأيام الخالية» حقًا كان ينفق عن سعة!! ولكنّ امرأة 
لم تستطع أن تخرجه عن حد الاعتدال أو تضطره إلى 
ركوب الإسراف. كان بالآأمس مستشعرًا قوّته. وم 
يكن يبالي كثيرًا أن تجاب كل مطالبه الحبيبة» ولم يكن 
يبالي إن تدللت عليه أن يتدلل عليها تاها بفتوته 
وفحولته . اليوم أذلٌ حرصه على حبيبته عنقه فهان عليه 
الغالي» وكأنه لم يعد يروم من مطلب في هذه الحياة 
وراء استبقاء مودّتها واستالة قلبهاء ويا لحا من مودّة 
متعززة» ويا له من قلب عصيئ!! ولم يكن في واقع 
حاله ليغيب عن فطنته. شعر به شعور الألم والحزن. 
وذكر به أيّام عزّته في لهفة وأسبى وإن لم يقر بأئها ذهبت 
وتوت» ولكنه لم يحرّك [صبعًا للمقاومة الحديّة ولم يكن 
ذلك في طوقه! وقال مخاطبًا جميل الحمزاوي فيها يشبه 
السخرية : 

لعلّه من الظلم أن تعدّني تاجرًا!... (لمُ في 
تسليم). . . الله هو الغني... 

وجاء نفر من الناس فشغل مبم الحمزاوي» وما كاد 
أحمد يخلو إلى نفسه حيّى رأى قادمًا يزحم الباب على 
سعته ويتّجه إليه متيخترًا. كانت مفاجأة وذكر لثوه أنه 
م تقع عيناه على القادم منذ أربع سنوات أو يزيد. ثم 
هبض مرحنا مدفوعًا بأدبه وحده. وهو يقول: 

_ أهلا وسهلكء بجارتنا المكرّمة. . 

فمدّت له أمّ مريم يدها ملفوفة في طرف ملاءتها 
قائلة : 

أهلا بك يا سيّد أحمد. . . 

ودعاها إلى الجلوس فجلست على الكرسيّ الذي 
جلست عليه يومًا يُعتبر الآن من التاريخ. ثم قعد وهو 
يتساءل. .. لم يكن رآها منذ جاءت لقابلته في هذا 
الدكان بعد مرور عام على وفاة فهمي محاولة استدراجه 
إلى بيتها مرّة أخرى. عجب يومئذٍ لحرأتها - ولم يكن 
أفاق من الحرن ‏ فقابلها بجفاء وشيعها ببرود. ترى ما 
الذي جاء بها اليوم؟! وألقى عليها نظرة شاملة 
فوجدها كالعهد بها: جسامة وأناقة» يفوح من أعطافها 
الطيب» وتتألّق عيناها فوق البرقع. غير أن تبرّجها لم 
يد في إخفاء دبيب الزمن. فلاحت أمارات الكبر نحت 


قصر الشوق 16 


عينيهاء وذكر بها جليلة وزبيدة» شك ما يستبسل 
أولنك النسوة في معركة الحياة والشباب» أمَا أمينة 
فسرعان ما تماوت فريسة للحزن والذبول!... 
وقرّبت مهيجة الكرسي من المكتب» ثم قالت بصوت 
حافت : 

لا تؤاخمذني يا سبي السيّد على هذه الزيارة, 
فللضرورة أحكام. . . 

فقال أحمد ‏ من فوره ‏ وقد كان يبدو رزيئًا جادًا: 

اناك محالت : إن رسا ركاف اتشريفته انا 
وتكريم. . 


فقالت باسمة. وقد نمت نبرات صوتما على 


الآمتنان: 
تك والحمد لله على أنىي وجدتك بخير 
وعافية!! 


فشكرها بدورء ودعا ها بالصحة والعافية» فعادت 
تشكر له شكيره ودعاءه وتدعو له من -جديد. ثم 
سكتت الحظات» وقالت باهتيام : 

جنتك لأمر هامٌ؛ قيل لي: إنّه بلغ إليك في 
حينهء وإنّْه نال موافقتك. وأعنيى طلب ياسين أفندي 
ليد ابنتي مريمء فهل صحيح ما قيل لي؟ هذا ما جئت 
من أجل التحقق مله , . 

حفض أحمد عبد الحواد عينيه أن تقرأ فيهما الحنق 
الذي اشتعلت به جوانحه وهو يتابع كلامهاء ولم مخدع 
بتظاهرها بالاهتام بموافقته» فلتحاول نخداع غيره ثمن 
يمهلون خباياه. أمّا هو فيعلم علم اليقين أن مرافقته 
وعدمها عندها سواءء بل ألم تدرك ما وراء تخلفه عن 
زيارتها مع ابنه؟. . . ولكنّها جماءت لتحمله على 
الإقرار بالموافقة» ورتما لفرض آخحر لا يلبث أن 
يستبينهء رفع إليها عينين هادئتين» وقال: 

حدّئني ياسين عن رغبته فدعوت له بالتوفيق» 
كانت مريم ولم تزل ابنتنا. . . 

وال مدازلك ل ف فهر لل وا عادخل 
المصاهرة ستشرّفنا بين الناس. , . 

لكر حير لال زم 

فقالت بحماس : 


14 قصر الشوق 


- ويسرّني أن أصارحك بأنْني أجلت إعلان موافقتي 
حيٌّ أتاكد من موافقتك أنت! 

قارحة!. لعلّها أعلنت موافقتها حي قبل أن ترى 
ياسين! 

- أكرر الشكر. يا ست أمَ مريم... 

لذلك كان أول ما قلت لياسين أفندي, دعنى 
أتامد ألا من موافقة والدك. فإِنْ كل شىء مون إلا 
سحخطه ! 

الله. .. الله!. لم تكد تسرق البغل حيّى نشطت 
لرمي الأحابيل حول صاحبه. . . 

- ليس بمستغرب أن يصدر عنك ذلك القول 
النبيل! 

فواصلت حديثها في حماس مظفرء قائلة : 

- إِنْك يا مي السيّد رَجُلناء وخير من يفخر به حيّنا 
كله ! ْ 

مكر النساءء ودلال النساء؛ ما أضيقه بها مغاء 
هل خطر لا ببال أنه يتمرّغ في التراب مناشدة لعطف 
عوادة زهد فيها السكارى؟! 

قال في تواضع : 

- أستغفر الله . . . 

فقالت بلهجة حزيئة علا بها صوتها فليلا؛ حي 
خاف أن يبلغ الموجودين بالناحية الأخرى من الدكّانء 
فحرّك رأسه نحوهم حذّرًا: 

- لشذ ما حزئت عندما أنبأني بأنّه هجر بيت 
والدة, , 

فبادرها قائلا وقد تجهم وجهه: 

- الحق أنْ سلوكه أغضبنى. فعجبت كيف تأقٌّ له 
أن يرتكب تلك الحماقة» كان ينبغي أن يستشيرني 
ولا ولكنّه حمل متاعه إلى قصر الشوق. ثم جاء 
يعتذر إِليّ!! عبث صبيانٌ يا ست أمْ مريم. وقد 
وبخته ولم أكترث لخلافه المزعوم مع أميئة. ذلك تعلّل 
سخيف حاول به أن يررّر حماقة أسيخف منه!! 

- هذا ما قلته له وحياتك؛» ولكنّ الشيطان شاطر, 
وقلت له أيضًا: إِنْ ست أمينة معذورة, ريّنا يصبرها 
على ما ابتلاها به. . . وعلى أيّ حال فمثئلك يرجى منه 


الصفح يا مي السيّد. . . 

فأشار بيده إشارة قصيرة, كأنما تقول «دعينا من 
هذا» فقالت متوددة : 

- لكتني لا أقنم إلا بالصفح والرضى. . . 

أفء ليته يستطيع أن يصارحها بمدى اشمئزازه 
مهم جميعاء هي وابلتها والبغل الكبير. . . 

ياسين ابي على كل حالء وفقه الله إلى 
الحداية. . . 

أمالت رأسها إلى الوراء قليلاء وأبقته على وضعه 
مليًا ريما تستمتع بلذة النجاح والارتياح» ثم عادت 
تقول في نيرات لطيفة: 

- ربئا يجبر خاطرك يا سيّد أحمدء ساءلت نفسى وأنا 
0 
جارته القديمة بما تعود أن يعاملها به في الأيام الخالية؟ 
الحمد لله فأنت دائا عند حسن الظنّ بك. مد الله في 
عمرك ومتعك بالصححة والعافية! ! 

نظن أنها ضحكت على ذقنه يحقٌ ها هذاء ها أنت 
إلا اب شائب مات شخير أبئائه» وناب الابن الثاني 
وركب الثالث رأسه؛. كل هذاعل رغمي يا 
قاوضة ان 
- إفي عاجز عن شكرك. . . 

وهي تخفض رأسها : 

مهيا قلت فيك فهو دون ما تستحقٌ. طاما أقررت 

آهء ذلك الماضي! أوصدي ذلك الباب وحياة البغل 
الذي جئت تسجلين حى ملكيته! وبسط راحته على 
صدره أية على الشكر. فراحت تقول بلهجة حالة : 

- كيف لاء ألم أعرّك إعزارًا لم يحظ به إنسان قبلك 
ولا بعدك؟ 

هذا هو المطلوب, كيف لم يفطن إليه من أوْل 
لحظة!؟ لم تجيئي من أجل ياسين ولا من أجل مريمء 
ولكن من أجلي أناء بل من أجل نفسك! أنت أنت لم 
يغّر الزمن منك شيثاء إلا شبابك. ولكن رويدك!! 
هل تستطيعين أن تردّي الأمس الذي ولّى؟ مر بقوها 
دون تعليق مكتفيا بابتسامة شكرء. فابتسمت ابتسامة 


عريضة كشفت عن أسنانها من ثقوب البرقع» وقالت 
فيها يشبه العتاب : 

يبدو أنّك لا تذكر شيئًا. . . 

أراد أن يعتذر عن فتوره دون أن يمس إحساسها 
فقال : 

- لم يبق في الرأس عقل أتذكر به. . 

فهتفت بإشفاق : 

لشدٌ ما أغرقت في الحزنء الحياة لا تحتمل هذا 
ولا تسيغه. وأنت . ولا تؤاخذني على ما سأقول - رجل 
للف الحياة المليحة» فالحزن إذا أثّْر في الإنسان العاديّ 
قيراظًا يؤثّر فيك أربعة وعشرين قيراطا. . . 

موعظة يراد مها منفعة الواعظ. ليت أنّْ ياسين كان 
يعتصم بمثل شبعي » لماذا أتقرّز منك؟ أنت دون شك 
أطوع من زنُوبة وأقلّ نفقة ما لا يقاس. ولكن يبدو أن 
قلبى أصبح مولعًا بالمتاعب. قال بدهاء ومسكنة معا: 

من أين للقلب المحزون أن يضحك؟ 

اندفعت تقول بحاس وكائها شامت برق أمل : 

اضحك يضحك قلبك» لا تنتظر حتّى يضحك 
هو. هيهات أن يضحك وحده بعد ما عانى من طول 
الوجوم » عد إلى حياتك القديمة تعد إليك بهجتها 
الغافية» ابحث عن مسرّات زمائك الأول وأحبابه, 
من أدراك أن ليس ثمة قلوب تمفو إليك وتقيم على 
عهدك رغم إعراضك الطويل عنها؟ 

طرب الفؤاد على رغمه وتاه هذا ما ينبغي أن يقال 
حقًا لأحمد عبد الجواد. وما كان يسكب في أذنيه على 
قرع الكئوس في ليالي الطرب» أين العوّادة لتسمع هذا 
المديح علّها تخقف من غملوائها؟! لكن يردّده من أنت 
عنه راغب! قال بصوت لا أثر فيه للطرب: 

ولى ذلك الزمان, . . 

مال نصفها الأعلى إلى الوراء استتكارّاء وقالت: 

- لم تزل شابًا وربٌ الحسين!. . . (نْم وهي تبتسم 
في حياء)جمل له طلعة البدر! لم يولٌ زمانك ولن يولي 
أبدّاء لا تكبّر نفسك قبل الأوان. أو دع الحكم على 
ذلك للآخرين فلعلّهم يرونك بغير العين التي ترى بها 
نفسك . . 


قصر الشوق ههه 


قال بأدب, ولكن بلهجة تعبّر بلطف عن رغبته في 
إنباء الحديث: 

- اطمئئى يا ست أمّ مريم إلى أنْني لا أقتل نفسي 
حزناء فإنني أتسل عن الهم بشتّى ضروب التسلية. . . 

تساءلت وقد فتر حماسها قليلا : 

أيكفى هذا للترفيه عن رجل مثلك؟ 

فمال فا 

لا تتطلم النفس إلى شيء وراءه. . 

بدا أنه تَنَعْصَ صفوهاء وإن تظاهرت بالارئياح 
وهي تقول : 

أحمد الله على أنّْنىي وجدتك على ما أحبٌ لك من 
راحة البال وصفائه , , 

م يعد ثمة قول يقال؛ فنبضت وهي تمد له يدها 
ملفوفة في طرف الملاءة» فتصافحاء ثم قالت وهي مهم 
بالذهاب : 

وذهبت وهي تحؤل عنه عيئين لم يجب التصئم في 
إخفاء ما غشيه| من حيبة. . 

- 85س 

طوت سوارس شارع الكسينية ثم أذ جواداها 
المهزولان يبان فوق أسفلت العباسيّة والسائق يلهبهما 
بسوطه الطويل. كان كمال جالسًا في مقدّمة العربة على 
طرف المقعد الطويل فيها يل السائق» فامكنه أن يرى 
لتقي رابه من قر سيةب شارع العامة ذا 
أمام عينيه» في انساع لا عهد للحي القديم به وطول 
لا يلوح له منتهىء أرضه مستوية ملساءء وبيوته على 
الجانبين ضخمة ذوات أفئية رحيبة بعضها يزدان 
ببحدائق غناء . 

كان يضمر للعبّاسيّة إعجابًا كبيرًا ويكنٌ لها حبا 
وإجلالا يبلغان حدّ التنديسء أما الاعجاب فمرده إلى 
نظاقتها وهندستها والهدوء المريح المخيم عل ربوعهاء 
وكلّ أولئك سيات لا يعرفها حيّه العتيق الزيّاط. وأمّا 
الحبٌ والإجلال فمرجعههما إلى أئها وطن قلبه ومنزل 
وحي حبه ومئوى قصر معبودته . 

منذ أعوام أربعة وهو يتردّد عليها بقلب مرهف 


5 قصر الشوق 


وحواس مشحوذة حتّى حفظها عن ظهر قلب. فحيثا 
مذّ بصره ارتدٌ إليه بصورة مألوفة كأئها وجه صديق 
فديم. وجميع معالمها ومناظرها ودرومبا وعدد من أهلها 
قد اقترن في ذهنه بأفكار وعواطف وأخيلة أمست - في 
جملتها ‏ جوهر حيانه ومعقد أحلامه. فحيث) ولى وجهه 
فئمة منادٍ يدعو القلب للسجود. 

وأخرج من جيبه خطابًا تلقاه من البريد أوّل أمس. 
وكان مرسله حسين سداد ينبئه فيه بعودته ‏ وصديقيه 
حسن سليم وإساعيل لطيف - من المصيف. ويدعوه 
إلى مقابلتهم جميعا في بينه الذي تسير به مسوارس 
إليه. . . نظر إلى الخطاب بعين حالمة شاكرة وامقة 
ساجدة عابدة متعيّدة: لا لأنْ مرسله شقيق معبودته 
فحسب, ولكن لظنه أن الخطاب كان مودهًا في مكان 
ما بالبيت قبل أن يكتب حسين عليه رسالتهء ونه 
والحال كذّلك غير مستبعد أن تكون عينها الحميلة قد 
وقعت عليه في ذهاببا أو مجيئها أو أن تكون أناملها قد 
اج لمعيه الاك ازعو مق ارول سفية نا 
أنه كان مودعًا في نفس المكان الذي يحل فيه جسمها 
وتعمره روحها كي يستحيل الخطاب إلى رمز قدسي 
تهفو إليه روحه ويشتاق إليه قلبه. ومشضى يقرأ الخطاب 
للمرة العاشرة حتّى وقف عند هذه اللحملة «عدنا إلى 
القاهرة مساء أول أكتوبر» أي أمْبا شئفت العاصمة منذ 
أربعة أيام وهو لا يدري؛ كيف لم يدر؟! كيف لم 
يفطن إلى وجودها سواء بالغريزة أو بالشعور أو 
بالبصيرة؟! كيف جاز للوحشة التي غشيته طوال 
الصيف أن عمد ظلها الثقيل على هذه الأيّام الأربعة 
المباركة؟! هل رانت الكآبة المتواصلة على حساسيّته 
بطبقة من البلادة والحمود؟ على أيّ حال فالساعة يرفٌ 
قلبه وتحلق روحه في أجواء من السمر والسعادة!! 
الساعة يشرف على الدنيا من ذروة رفيعة تبدو منها 
معالمها في هالة من الشفافيّة والنورانيّة كأثها أطياف في 
دنيا الملائكية!! الساعة يضطرم وجدانه بنشاط الحيوية 
ونشوة الحبور وسكرة الطرب!! الساعة ‏ أو حيّى في 
هذه الساعة ‏ يطوف به طائف الآلم الذي يلازم مسرة 
الح عنده ملازمة الصدى للصوت. قديًا كانت 


تحمله سوارس فى هذا الطريق نفسه وقلبه من الحبت 
خال لم يِمسّء ماذا كان جد من مشاعر وآمال وخوف 
ورجاء؟ لا يذكر حياة ما قبل الحب إلا ذكرى مرّدة. 
ينكرها ما عرف للحبٌٍ قدرهء ويحنّ إليها كلّ) نبا به 
ألم ولكها لشدّة إحساسه بخاطره كادت تلحق 
بالأساطيرء لذلك بات يؤرّخ بالحبٌ حياته. فيقول: 
كان ذلك قبل الحبّ «ق. ح,». وحدث ذلك بعد 
الحثت إسا. ح), 

وقفت العربة عند الوايليّةء فأعاد الخطاب إلى 
جيبهء وغادرها متجها إلى شارع السرايات وعيناه 
تتطلعان إلى أل قصر على اليمين فيما يلي صحراء 
العباسية. بدا القصر بدوريه من الخارج بناء ضحم 
عالياء يتصل مقدّمه بشارع السرايات وينتهي مؤخره 
بحديقة رحيبة تراءت رءوس أشجارها العالية من وراء 
سور رمادئّ متوسط الارتفاع حيط بالقصر والحديقة 
ما ويرسم مستطيلا هائلًا بمتذًا في الصحراء التي 
تكتنفه من اللدنوب والشرق. كان منظره مطبوعًا على 
صفحة نفسه. يستأسره جلاله وتفتنه آي فخامته 
وبرى في عظمته تحيّة مرجّاة عن جدارة بصاحبه 
وتلوح لعينيه نوافذ مغلقة وأخرى مرنخاة الستائر, 
فيلمح في تحفظها وانطوائها ما يرمز إلى عرّة محبوبه 
وعصمته وامتناعه وغموضه. وهي معان تؤكدها 
الحديقة المترامية والصحراء الغارقة في الأفق. وتعرض 
هنا أو هناك نخلة سامقة أو لبلاب متسلّق جدارًا أو 
جدائل ياسمين مسترسلة فوق سور فتناوش قلبه 
بذكريات انعقدت فوق هاماتها كالثار تسارّه بحديث 
الوجد والألم والعبادة وقد غدت طلا للحبيب ونفحة 
من روحه وانعكاسًا لملامحمه؛ ناشرة بجملتها ‏ وبا 
عرف من أنّْ باريس كانت لأهل القصر منفى ‏ جرًا 
من الخال والحلم تواءم مع حبه في سموه وقداسته 
وبذخه وتطلّعه إلى المجهول. 

رأى وهو يقترب من مدخل القصر البواب والطاهي 
وسائق السيارة جالسين فوق أريكة على كثب من 
الباب كعادتهم في العصارى. فلا بلغ مجلسهم وقف 
البوؤاب» وقال له وحسين بك ينتظرك في الكشك» 


فدخل مستقبلا مزجا من عرف الفل والقرنفل والورد 
ال تُضْدت أصصها على جالبي السلّم المفضي إلى 
الفراندا الكبيرة التي تطالع القادم على بعد يسير من 
الباب. ثم مال يمنة إلى مر جانبيّ يفصل القصر عن 
السور ويسير بينها حتّى مشارف الحديقة فيما يلي 
الفرائدا الخلفية للقصر. 

ليس من اهيّن على قلبه الخفاق أن يمثى في هذا 
المحراب الكبيرء ولا أن يطأ أديما وطئته ناف نز 
قبل» إِنّه يكاد من إجلال يتوقف, أو يمد يده إلى جدار 
البيت تبرّكاء كما كان يدها إلى ضريح الحسين من قبل 
أن يعلم أنّه لم يكن إلا رمزّاء ترى: في أي مكان من 
القصر يمرح محبوبه الساعة؟ وما عسبى أن يفعل إذا 
طالعته بلفتتها الفاتنة؟ ليته نجدها في الكشك كي 
تجرى عين عن طول التصبّر والتشوق والتسهد! ! 

ألقى على الحديقة نظرة شاملة حبّى سورها الخلفي 
الذي ترامت وراءه الصحراء» وكانت الشمس الائلة 
فوق القصر صوب الشارع تجلو مها أعالي الأشجار 
والنخيل وسقائف الياسمين المبطئة للسور من كافة 
نواحيه» ودوائر الأزهار والورود ومربعاتها وأهلّتها 
تكتنفها ممرّات الفسيفساء ثم سار في تمشى وسيط 
يفضي إلى كشك قائم وسط الحديقة» وقد تراءى فيه 
عن بعد حسين شداد» وضيفاه: حسن سليم 
وإسماعيل لطيف جلوسا على كراسي خيزران حول 
مائدة مستديرة خشبيّة انتثرت عليها أكواب حول دورق 
ماء. سمع هتاف ترحيب صدر عن حسين فاذنه 
بانتباههم إلى مقدمه. وما لبثوا أن قاموا للقائه فعانقهم 
واحدًا واحدًا بعد فراق دام الصيف كله, حمدًا لله على 
الناكسةع انث ارسيتسنا عي فد ناا مرق 
وجوهكم فلا خلاف الآن بينكما وبين إساعيل» بل 
أنت بيننا كأوروبيّ بين ملوّنِينَ, عا قليل يعود كل شيء 
إلى أصله. كنا نتساءل لم لا تلوؤننا شمس القاهرة؟ 
منذا يجرؤ على التعرّض لشمس القاهرة إلا من رام 
ضربة شمس! ولكن ماسر هذه السمرة 
المكتسّبة؟... أذكر أنْنا تلقّينا تفسيرًا لهذا في بعض 
دروسناء أجل لعلّه في الكيمياء» لقد درسنا الشمس 


قصر الشوق ل/اه> 


خلال علوم شب كالجغسرافيا الفلكيّسة والكيمياء 
والطبيعة. ففي أي من أولئك نجد تفسيرًا لسمرة 
المصيف! هذا سؤال متأخشر عن أوانه لأثْنا التهينا من 
الدراسة الثانويّة! إلينا إذن بأخبار القاهرة.» بل عليك 
أنت أن نحدذئنا عن رأس البرّ وعل حسن وإسماعيل 
أن يحدّثانا بعدك عن الإسكندريّة. انتظروا فلكل وقت 
حديثه , , 

لم يكن الكشك إلا مظلة خشبيّة مستديرة تقوم على 
عمود ضخم وأرضه رمليّة تحدق بها أصص الورد, 
ويقتصر أثائه على المائدة الخشبيّة والكراسى الخيزران» 
وقد جلسوا وراء المائدة على هيئة يك قاقر ولق 
وجوههم شطر الحديقة. بدوا سعداء باللقاء وكان 
الصيف يفرّق بينهم فيم] عدا حسن سليم وإساعيل 
لطيف اللذين يصيّفان عادة في الإسكندرية. ومضوا 
يتضاحكون لأقلّ سببء وأحيانًا لمجرّد تبالّد النظر كأنها 
يجترّون ذكريات مزاح ماضية. وكان الأصدقاء الثلاثة 
يرتدون قمصانًا حريريّة وبنطلونات رماديّة. كمال 
وحده بدا في بدلة رصاصية حفيفة» إذ كان يعتبر رحلة 
الككايتة انع نقافة وسئة عل خخلانه حته الذى مزل 
فيه مكتفيًا بلبس الجاكتة فوق الجلباب. كل شيء من 
حوله كان يخاطب قلبه فيهره من الأعياق. هذا 
الكشك الذي تلقّى فيه رسالة الحبّء وهذه الحديقة 
التي خصّت وحدها بسرهء وهؤلاء الأصدقاء الذين 
يحبهم للصداقة ويحبّهم مرّة أخمرى لاقترانهم بسيرة 
حبّهء كلّ شيء يخاطب حبّه وقلبه؛ يتساءل متى نجيء؟ 
وهل يمكن أن تمض الحلسة دون أن تقع عليها عيناه 
المشوّقتان؟ وعلى سبيل التعويض راح يطيل النظر إلى 
حسين شدّاد ما وسعه ذلكء وم يكن ينظر إليه بعين 
الصديق فحسيبء لأنْ أخوته لمعبودته أضفت عليه 
سحرًا من السحر وسرًا من السرّء فبات يكن له - إلى 
الحبّ - إكبارًا وتقديسًا ودهشًا. وكان حسين يشبه 
شقيقته إلى حذ كبير بعينيه السوداوين وقامته الطويلة 
الرشيقة وشعره السبط العميق السواد ولفتائه وسكناته 
الجامعة بين السموٌ واللطافة» فلم يكن ثمة فارق 
جوهري بينها إِلَّا في أنفه الأقنى الممتىّ وبشرته التي 


قصر الشوق 


غشيتها سمرة المصطاف. ولمًا كان كيال وحسين 
وإسماعيل من الناجحين في امتحان البكالوريا ذلك 
العام مع ملاحظة أنْ الأؤلين كانا في السابعة عشرة 
والأخير فى الحادية والعشرين - فقد تحدّئوا عن 
الاأمتحان وما تفرّع عنه من شثون المستقبل. وكان 
البادئ بالمحديث إسماعيل لطيف. وكان إذا تحدّث 
تطاول بعنقه كأنما ليداري قصر قامته وضآلة حجمه ‏ 
على الأقل بالقياس إلى أصدقائه الثلاثة غير أنّه كان 
مدمج الخلق مفتول العضلات. وفي نظرة عينيه 
الضيقتين الحادة الساخرة وأنفه المدئب الحاذ وحاجبيه 
الكثيفين وفمه العريض القويّ ما يكفي لتحذير من 
تحلثه نفسه بالتهجم عليه. قال: 

نتيجتنا هذا العام مائة في المائة, لم يحصل شيء 
كهذا من قبل على الأقل ‏ فيما يحِصّني أنا. كان 
ينبغي أن أكون في السنة النهائيّة من التعليم العالي 
كحسن الذي دخل معي مدرسة فؤاد الأول في يوم 
واحد وسنْ واحدةء وقد سألني أبي سائرًا لما رأى 
رقمي في الحريدة بين الناجحين «ترى هل بمدٌ الله في 
عمري حي أراك من حملة الدبلوم!؟». 

قال حسين شذاد: 

- لست متاخ رًا إلى الحدٌ الذي يبرّر يأس 
والدك , . . 

قال إسياعيل ساخخرًا: 

صدقت فقضاء عامين في كل فصل ليس بالشيء 
00 ئ 
ثم موجها الخطاب إلى حسن سليم : 

- أمًا أنت فلعلك مشغول منذ الآن يما بعد 
اللسناسىة 

كان حسن سليم بالسئة النهائيّة بمدرسة الحقوق» 
فأدرك أنْ إسماعيل لطيف يدعوه إلى إعلان رأيه فيم) 
ينويه عقب الفراغ من الدراسةء غير أنَّ حسين شدّاد 
سبقه إلى الردّ على إساعيل قائلًا : 

لا داعي لأن يشغل نفسه» سوف يحصل -حقًا على 
وظيفة في النيابة أو في السلك السيامي! 

خرج حسن سليم عن هدوئه المتّسم بالكبرياء 


ولاح في وجهه الحسن الدقيق القسمات التحفز 
للنضال؛ فتساءل متحديًا : 

- من أين لي بما يجعلني أطمئنٌ إلى رأيك؟! 

وكان يعت باجتهاده وذكائه ويريد الجميع أن يقرّوا 
له بهماء ولم يكن أحد بماري في ذلك ولكن لم يكن 
أحد كذلك يسى أنه نجل سليم بك صبري المستشار 
بمحكمة الاستئناف. وأنْ تمنّعه مبذه الأبوّة ميزة يفوق 
أثرها كل ما للذكاء والاجتهاد من أثرء بيد أن حسين 
شذاد تحاشى ما ببيجدء فقال: 

- في تفوقك الضان الذي تسأل عنه. . 

وم يتركه إساعيل لطيف كي يستمتع بإطراء حسين 
له فقال: 

وهناك والدك. وهو فيا أعتقد أهم من التفوق 
كن 

ولكنّ حسن قابل اهجوم باستاتة غير متوقّعة. إمّا 
لأنه مل مناجزة إسماعيل الذي لم يكد يفترق عنه يومًا 
طيلة اصطيافهم)ا بالإسكندريّة. وإمّا لأنه بات يرى في 
صاحبه مشاكسًا ومحترفاء لا يصلح أن يأخحذ أقواله دائيا 
ماخذ الجحدّ. على أنْ رابطة الأصدقاء لم تكن تخلو من 
نقار جد يبلغ أحيانًا حدّ الشغب دون أن يوهن من 
قوتها. تساءل حسن سليم وهو يرمق إسماعيل متهكًا : 

وأنث كيف انتهى سعي الساعين لك؟ 

ضحك إسسماعيل ضحكة عالية» كشف عن أسنانه 
الحاذة المصفرة من أثر التدخين الذي كان من أوائل 
رواده من تلاميذ الثانويّ» وقال: 

- نتيجة لا تسرّء لم تقبلني الطب ولا الهندسة لنقص 
المجموع. فلم يبقّ أمامي إِلّا التجارة والزراعة, 
فاخترت أولاهما. . . 

لاحظ كال في تأثّر كيف تجاهل صاحبه مدرسة 
المعلمين, كان ليست فى التمبان» نين اله ود فى 
إيثاره لما مع قدرته على دخول الحقوق التي لا نزاع 
في مكانتهاء وجد في ذلك مثاليّة تعرّى بها على حزنه 
ووحشته. ضحك حسين شداد ضحكته اللطيفة التي 
تجلو جمال ثغره وعينيهء وقال: 

- آه لو اخترت الزراعة! تصوّروا إساعيل في حقل 


قال إسسباعيل بقناعة : 

- لا عل من هذا لو كان الحقل في عاد الدين. . . 

عند ذاك نظر كمال إلى حسين شدّاد متسائلا : 

عافاك؟ 

مدّ حسين بصره إلى بعيد متفكّرًا قبل أن يجيب» 
فأتاح لكبال فرصة كي يتوسّمهء شد ما تفتله فكرة أنه 
شقيقهاء أي أنْ بينه| ما قام يومًا بينه وبين تخديجة 
وعائشة من مخالطة وألفة.» تصور يعر عليه أن يعتنقه, 
لكنّه يجالسها ويحادثها وينفرد مها ويلمسهاء يلمسها؟! 
ويؤاكلها! ترى كيف تتناول طعامها؟ هل تتمطق؟ هل 
تأكل الملوخيّة والمدمّس مثلًا؟ ما أبعد هذا عن التصوّر 
أيضًا! المهمٌ أنه شقيقهاء وأنّه ‏ كال يلمس يده التي 
تلمس يدهاء لو أتيح له أن يشم أنفاسه التي تمائل ولا 
شك أنفاسها؟! أجاب حسين شدّاد: 

مدرسة الحقوق بصفة مؤقّتة. . . 

ألا يحتمل أن يتخذ من فؤاد جميل الحمزاوي 
صديقًا؟ لم لا؟ لا شك أن الحقوق مدرسة جليلة 
الشأن حمًّا ما دام حسين سيلتحق بهاء من المجازفة أن 
تحاول إقناع الناس بقيمة مثال معنوئ . . . 

قال إسماعيل لطيف ساخخرا : 

لم أكن أعلم أن من الطلاب من يلتحق بمدرسة 
ما بصفة مؤقّتة! حدّئنا عن هذا من فضلك. . . 

قال حسين شدّاد جادًا: 

جميع المدارس عندي سواءء ليس في هذه المدرسة 
أو تلك ما يجذبني إليهاء حمًا أريد أن أتعلمء ولكئي 
لا أريد أن أعمل» ولن أجد في مدرسة من مدارسنا ما 
أبتغيه من علم لا يراد به عمل» ولكثّي لم أظفر في بيتنا 
بشخص يوافقئي على رأبي» ولا أرى مناصا من أن 
أجاريهم إلى حدٌ ماء وساءلتهم أيّ مدرسة تختارون؟ 
فأجاب أبي: وهل يوجد غير الحقوق؟ فقلت إذن لتكن 
الحقوق! 

إسماعيل لطيف محاكيًا لمجته وحركاته : 

بصفة مؤقتة . . 

ضحكٌ عام ثمّ استطرد حسين شدّاد قائلا: 


فصر الشوق 4" 


أجل بصفة مؤقتة أنّها المشاكس». فمن غير 
المستبعد إذا سارت الأمور على ما أشتهي أن أقطع 
دراستي المحلّيّة كي أسافر ولو بحبّة دراسة القانون في 
معاهدهاء وهناك أتهل من منابع الثقافات بغير قيد, 
وهنالك أفكر وأرى وأسمع . . . 

إسياعيل لطيف مصكا على محاكاة لمجته وحركاته, 
وكأتما يتم ما ظنّ أن الأخر سكت عنه: 

- وأذوق والمس وأشم . . . ! 

واصل حسين شدّاد حديثئه بعد فاصل ضحك 
قائلا : 

عفن نأن مقصديى غير ما تحلم به] 

صدّفه كيال بكلّ قليه بلا حاجة إلى دليل لا لأنه 
يكرمه عن شبهة الكذب فحسبء ولكن لأنّه يؤمن 
أن الحياة التي يتطلّم إلى الاستمتاع بها في فرنسا خليقة 
ووحدهاء باستهواء النفوس» هيهات أن يدرك إسباعيل 
هذه الحقيقة على بساطتهاء لا هو ولا أضرابه ممن لا 
يؤنون إلا بالأرقام والمظاهر. طللما أثار حسين 
أحلامه, هذا حلم منها يمتاز بالرحابة والجمال» حلم 
عامر بثبار الروح والفكر والسمع والبصر!! كم طاف 
بي ف نومي أو في يقظتي» ثم بعد شدّة التطلع وطول 
السعي انتهى المطاف ب وبه إلى مدرسة المعلمين!! 
وسأل ححسين : 

أتعني حقًا ما قلت من أنّْك لا تريد أن تعمل؟! 

فقال حسين شدّاد وفي عينيه السوداوين الجميلتين 
نظرة حالمة : 

- لن أكون مضاربًا في البورصة كأبي؟؛ لأني لا أطيق 
حياة: العمل المتواصلٌ جوهرها والمال غايتهاء ولن 
أكون موظفًاء لأنّ الوظيفة عبوديّة في سبيل الرزق» 
ورزقي موفور. أريد أن أحيا في الدنيا سائخاء أقرأ 
وأرى وأسمع وأفكرء وأنتقل من جبل إلى سهل ومن 
سهل إلى جبل . - . 

قال حسن سليم معترضاء وكان يرمقه طيلة 
الحديث بنظرة استخفاف داراها بتحفظه 
الأرستقراطئ : 

- ليست الوظيفة وسيلة إلى الرزق دائياء إن مثلا 


في غنى عن السعي إلى الرزق» ولكن يمني بلا شك 
أن أشغل وظيفة سامية, فإنّه يجب على الإنسان أن 
يعمل وإِنْ العمل السامي هدف يُراد لذاته. 

وقال إسماعيل لطيف» مصدّقًا على قول حسن: 

هذا حقٌء الأعبال القضائيّة والدبلوماسيّة وظائف 
يتمناها أغنى الأغنياء (ثمّ ملتفئًا إلى حسين شدّاد) 1 لا 
تختار لنفسك وظيفة من هذه الوظائف وهي في حدود 
طاقتك , . , ؟ 

وقال كال مخاطبًا حسين أيضا: 

- السلك السيامئ حقيق بأن يبع لك العمل 
السامي والسياحي هك 

ولكنٌ حسن سليم قال بلهجة ذات معبى : 

- إنه باب ضصيّق ! 

فقال حسين شذاد: 

- للسلك السياميّ مزايا رائعة بلا ريبء إِلّا أنه في 
الغالب وظيفة شرفيّة فلا يتعارض كثيرًا مع رغبي عن 
عبودية العمل» وهو سياحة وفراغ يتيحان لي ما أحبٌ 
من الحياة الروحيّة والماليّة. ولكثني لا أظئني بالغى 
لا لأنه باب ضيّق كا قال حسن» ولكن لأني أشك في 
أني سأواصل التعليم النظامئَ حيّى هايته. . . 

إسماعيل لطيف. وهو يضحك متخابنًا : 

- يغلب على ظُئِي أنك تريد فرنسا لأمور لا شأن لها 
بالثقافة» وحسنًا تفعل. . . 

ضحك حسين شدَّاد وهو بهرٌ رأسه سلبّاء ثم قال: 

كلا أنت تفكر بأهوائك, إِنّْ لرغبتي عن التعليم 
المدرسي أسبابًا أخرى. أوها: أنْبى غير مكترث لدراسة 
القانون, ثانيًا: أنه لا توجد مدرسة يمكن أن تمدّني بم 
أريد الإللام به من شق المعارف والفنون, كالمسرح 
والتصوير والموسيقى والفلسفة. ما من مدرسة إل 
وستشحن رأسك بالتراب كي تعثر فيه إن عثرت - 
على ذرّات من التبر» في باريس يتاح لك أن تشهد 
محاضرات في شي الفنون والمعارف دون تقيّد بنظام أو 
امتحان. إلى ما يتهيأ لك من الحياة السامية 
الحميلة . . 

كم مستطردًا بصوت خافت, وكأنّه يخاطب نفسه؛ 


- ورما تزوجت هناك كي أقضي العمر سائحًا في 
عالي الواقع والخيال! 

لم يبد على وجه حسن سليم أنه يولي الحديث 
اهتمامًا جدَّياء أمَا إسماعيل لطيف فرفع حاجبيه 
الكثيفين» تاركًا عينيه ُفصحان عا يضطرب في صدره 
من مكر وسخرية. كال وحده الذي بدا متائرًا 
متحمسًاء إنه يستشرف نفس الآمال مع شيء من 
تعديل لا يمس الجوهر. لا عهمه السياحة ولا الزواج في 
فرنساء ولكن من له مبذه المعارف التي لا تتقيّد بنظام 
أو امتحان؟ إِنْها أجدى بلا جدال من التراب الذي 
سيشحن به رأسه في المعلّمين كي يفوز في الغبساية 
بذرات من التبر» باريس؟ ! غدت حلا جميلا منذ عَلِمَ 
نبا احتضنت عهدًا غضًا من عمر معبودته. لا تزال 
تدعو حسين بسحرهاء وتفتن خياله هو بشيّى وعودها. 
كيف الشفاء من لوعة الآمال؟ قال بعد تردّد وإشفاق: 

- ييل إل أن أقرب المدارس في مصر إلى تحقيق 
ولو جزء يسير من رغبتك هي المعلّمين العليا! 

حول إسماعيل لطيف نحوه فيما يشبه القلق. 
وسأله : 

- ماذا اخترت أنت؟ لا تقل مدرسة العلّمين! 
ربا نسيت أن بك لوثة قريبة الشبه بلوثة حسين! 

ابتسم كال ابتسامة عريضة كشفتث عن مرونة 
منخريه العظيمين» وقال: 

- التحقت بالمعلّمين للسبب الذي ذكرت! . . . 

فنظر حسين شذاد إليه باهتام. ثم قال باسمًا: 

- لا شك أنْ ميولك الثقافيّة أتعبتك كثيرًا قبل أن 
يقع اختيارك. . . 

فقال له إسماعيل لطيف بلهجة نمت عن الاتهام : 

- إنلك: مشكول الارضة كبيزة عق :توكين ميولة خلا 
بل الحقٌ أنك تتكلم كثيرًا وتقرأ قليلُاء أمّا المسكسين 
فيأخذ الأمر مأخخذ الحدٌ ويقرأ لحدٌ العمى, انظر إلى 
تأثيرك السيئئ فيه كيف دفم به إلى المعلّمين نهاية 
الأمرا . , . 

استطرد حسين حديئه متجاهلا مقاطعة إسماعيل : 

- هل ثبت لديك أنْ في المعلّمين ما تودٌ؟! 


قال كيال بحياس» وقد انشرخ صدره بأوّل صوت 
يتساءل عن مدرسته بلا احتقار أو استنكار: 

- حسبي أن تتاح لي دراسة الإنجليزيّة لأتخْل منها 
وسيلة ناجعة للاطلاع غير المحدودء وإلى هذا فهناك 
فرصة طيبة - فيها أظنّ ‏ لدراسة التاريخ والتربية وعلم 
النفس. , . 

فكر حسين شدّاد قليلا, م قال : 

- عرفت كثيرًا من المعلّمين الاي خلديم عن 
كثب في درومبي الخصوصية؛ لم يكونوا مثالا طيبًا 
للرجل المنقّف, ولكن لعل النظام الدراسيٌ العتيق هو 
المسثول عن ذلك, . , 

فقال كيال بحماس لم يفتر: 

حسبي الوسيلة. الثقافة الحمّة تتوقّف على 
الانسان لا المدرسة! 

وتساءل حسن سليم : 

ْ أتنوي أن تصير معل؟ 

ومع أن حسن طرح سؤاله بأدب» فَإِنْ كيال لم 
يطمئنٌ إليه كل الاطمئئان, إذ أن التزامه الأدب كان 
طبعًا مأثورًا عنه فلا يزايله إلا عند الضرورة القصوى 
أو حيث يشرع غيره في العراك؛ وذلك نتيجة طبيعيّة 
لرزانته من ناحية. ولتربيته الأرستقراطيّة النبيلة من 
ناحية أخرى» فلم يكن من اليسير على كمال أن يعرف 
إن كان سؤال صاحبه يخلو حقًا من الاستنكار أو 
الازدراء» لذلك حرّك منكبيه استهانة» وقال: 

مدر من ذللف: مااحعث: مصعم سل تعلم ما 
أروم من العلم ! 

وكان إسماعيل لطيف يتفخص كمال من طرف 
خحفي . . . رأسه وأئقهى وعلقه الطويل وقامته النحيلة» 
وكأا كان يتخيّل أثر هذه الصورة في التلاميذ عامّة وفي 
أشقيائهم خاصة. ف ملك أن غمغم: 

- تلك لعمري كارثة! 

ما حسين شداد فعاد يقول في لطف وشى بميله 
إلى كمال : 

- الوظيفة ثىء ثانويٌ عند ذوي الأهداف البعيدة. 
عل أله يعت افاشى اد اسمن لاون مدر 1 


قصر الشوق 51١‏ 


ترجو ف المدرسة:.. 
انلقطع حديث المدرسة عتد ذاكء» فساد الصمث؛»؛ 
وحاول كيال أن يلقى بروحه في أحضان الحديقة. غير 
طني ترك اسم عر ره كان عليه اد بكهار 
حت تبتردء وسلحت منه نظرة» فرأى دورق الماء 
المكلوج على المائدة. فخطرت له نخخاطرة قديمة طالما منته 
بالسعادة في مثل ظرفه هذاء أن يملا كوبًا ويشربه لعلّه 
يلمس بشفتيه موضعًا منه يكرن قد اتَفق أن لمسته 
شفتاها وهي تشرب مرة. فقام إلى المائدة» وما من 
الدورق كوبا وشربه» ثم عاد إلى مجلسه مركرًا انتباهه 
في نفسه وهو يترقبء كأنما كان ينتظر - فيا لو -حالفه 
الحظ فأصاب الهدف - أن يتغيّر شأنهء أن تنبثق من 
روحه قوّة سحريّة لا عهد له بهاء أن ينتشى بنشرة إهيّة 
يرقى بها في معارج السهاوات السعيدة. ولكته 
أجل!! ولكنّه قنع في النهابة بلدّة المغامرة وببجة 
الأمل» ثم راح يتساءل في قلق : متى تجيء؟... هل 
يمكن أن تلحق هذه الفترة الواعدة بأشهر الفراق 
الشلاثة الماضية؟. .. وعادت عغيناه إلى الدورق. 
نطافت به ذكرى حديث قديم دار بينه وبين إسماعيل 
لطيف عن هذا الدورق أو بالحرئ عن الماء المثلوج 
الذي لا يقدّم شىء خلافه في سراي شدّادا وكان 
[سماعيل قد أشار ‏ وهو بصدد الديث عن ذلك - إلى 
النظام الاقتصاديّ الدقيق الذي تخضم له السراي من 
السطح إلى البدروم.» وتساءل: أليس ذلك نوعًا من 
البخل؟» غير أن كال أبى أن توصم أسرة معبودته بم 
يشينء فدفع عنها التهمة مستشهدًا ببذخها وخصدمها 
وحشمها والسيارتين اللتين تملكهما: المئيرفاء والفيات 
التي يكاد يختصٌ بها .حسين؛ فكيف ثُنّهُم بعد ذلك 
بالبخل؟! هنالك قال إسماعيل - ولم يكن يعوزه طول 
اللسان ‏ إن البخل أنواع. وإنه ليا كان شِدّاد بيك 
مليونيرًا بكل معنى الكلمةء فإنّه رأى لزامًا عليه أن 
يحيط نفسه بمظاهر الحا ولكنه اكتفى بما يعدّ في 
(بيئته» من الضروريّاتء أما القاعدة المتبعة التي لا 
يحيد عنها فرد من الأسرة. فهي ألا يتساميح في إنفاق 


مليم واحد في غير موضعه وبلا موجب. . . الشدم 


5 قصر الشوق 


يتناولون أدنى الأجور ويأكلون أقلّ الطعام. وإن كسر 
أحدهم طبقًا خصم ثمنه من مرتّبه. حناة شيداد 
نفسه فتى الأسرة الوحيد لا يعطى مصروفًا أسوة بأمثاله 
من الأبناء أن يتعود بعثرة النقود بلا ضرورة» أجل ربما 
ابتاع له أبوه كل عيد عددًا من الأسهم أو السندات» 
ولكنّه لا يعطيه قرشًا في يده... أمًا زوار النجل 
العزيزء فلا يقدّم لهم إلا الماء المثلوج!... أليس هذا 
بخلاء وإن يكن بخْلَا أرستقراطيًا؟! ذكر كيال ذلك 
الحديث وهو ينظر إلى الدورق»؛ وتساءل كها تساءل 
قديما في ارتياع: أمن الممكن أن ترتقي إلى أسرة 
معبودته هئة من الهئات؟ أبى قلبه أن يصدّق هذا إباء 
من ينرّه الكمال عن المآخذ وإن هانت بيد أنّه يل إليه 
أن ثمّة شعورًا بما يشبه الارتياح يعابئه هامسًا في أذنه 
ولا تفزع... أليس هذا النقص إن صم نما ينزها ولو 
درجة إليك»: أو يرفعك ولو درجة إليها؟ !)2 ومع أنه 
وقف من أقوال إسماعيل موقف التحقّظ والارتياب, 
فإنّه وجد نفسه يعيد النظر وهو لا يدري في «رذيلة؛ 
البخل» فيقسّمها إلى نوع دنيء وآخر ليس إلا سياسة 
حكيمة تمد الحياة الاقتصاديّة بأسس بارعة من النظام 
والدقة. فمن الإسراف كل الإسراف تسميته بخلا أو 
اعتباره رذيلة» كيف لاء وهو لا يتعارض مع تشييد 
القصور واقتناء السيّارات واتّخاذ كافة مظاهر البذخ 
والبلهنية؟ كيف لا. وهو يصدر عن نفوس سامية 
مطهرة من النبائث والضعة؟ ! 

استيقظ من أفكاره على يد إسماعيل لطيف وهي 
تقبض على ذراعه وتبزه. ثم سمعه وهو يقول مخاطبا 
حسن سليم : 

حذار» ها هو مندوب الوفد يرد عليك! 

أدرك من فوره أئْهم طرقوا حديث السياسة وهو 
عنهم ساو حديث السياسة... ما أشقّه وما ألذّى 
دعاه إسماعيل «مندوب الوفد؛ فلعله يتهكم. فليتهكم 
ما شاء له أن يتهكم, الوفد عقيدة تلقّاها عن فهمي 
واقترنت في قلبه باستشهاده وتضحيته. نظر إلى حسن 


سليم ) وقال باسما : ١‏ 
- يها الصديق الذي لا تبهره إلا العظمة. ماذا 


م يبدُ على حسن سليم أنه اكترث لحديث العظمة. 
ولم يكن كيال يتوقع غير ذلك» فطالما صاوله حيّى وقف 
على رأيه العنيد المتعجرف - ولعلّه رأي أبيه المستشار 
أيضا ‏ في سعد زغلول الذي يكاد هو من حبٌ 
و[خلاص أن يقدّسه. لم يكن سعد زغلول إلا مهرّجًا 
شعبيًا في نظر حسن سليم, وكان يردّد هذا الوصف في 
تقزر وازدراء مثيرين حارقًا المعتاد من أدبه ودمائته» ثم 
يمفى في السخرية من سياسته ومأثوراته البلاغية. 
منوها في الوقت نفسه بعظمة عدلي وثروت ومحمد 
حمود وغيرهم من الأحرار الدستورئين الذين لم يكونوا 
في نظر كمال إلا «خونة» أو إنجليز مطربشين! أجاب 
حسن سليم بهدوء : ٍ 

- كنا نتحدّث عن المفاوضات التي لم تستمرٌ إلا 
ثلاثة يام ثم قُطعت! 

قال كال ساس 

- يا له من موقف وطيّ جدير بسعد حقّاء طالب 
بحقوقنا الوطنيّة مترفْعًا عن المساومة» ثم قطع المفاوضة 
حين وجب قطعهاء وقال قولته الخالدة: «لقد دعونا 
إلى هنا لكي ننتحرء ولكنّئا رفضنا الانتحار» وهذا كل 
مأ جحرىة. 

قال إسماعيل لطيف؛, وكان يجد في السياسة مادّة 
للعبث : 

- لو قبل أن ينتحر لتوج حياته بأجلٌ خدمة يمكن أن 
يؤدْمها إلى بلاده! 

انتظر حسن سليم حتى فرع إسماعيل وحسين من 
الضحك. ثم قال: 

ماذا أفدنا من هذه المأثورة؟ ليست الوطنيّة عند 
سعد إلا نوهًا من البلاغة التي تستهوي العامّة. «لقد 
دعونا إلى هنا لكي ننتحر ألخ ألخ و (إيعجبني الصدق 
في القول ألخ ألخ»!. . . كلام في كلام. هنالك رجال 
لا يتكلمون ولكمهم يعملون في صمت. وقد حمّقوا 
للوطن الفائدة الوحيدة التى جناها في تاريخحه 
الحديث. . , ْ 
احتدم الغيظ في قلب كيال. ولولا ما يكنه الحسن 
من احترام لشخصيته وسنه لانفجر؛ وعجب كيف 


يتابع «شابٌ» مثله أباه ‏ وهو من جيل قديم على أي 
حال - في انحرافه السيامي! 

أنت تقلل من شأن الكلام كأئه لا شيىء, الح 
أنْ أخطر ما تمخّض عنه تاريخ البشريّة من جلائل 
الأمور يمكن إرجاعه في النهاية إلى كليات»؛ الكلمة 
العظيمة تتضمن الأمل والقوة والحقيقة» نحن نسبر في 
الحياة على ضوء كلمات؛ عل أنْ سعد ليس صائع 
كليات فحسبء. إن سجلّه حافل بالأعمال والمواقف!! 

تخلّل حسين شدّاد شعره الفاحم بأنامله الطويلة 
الرشيقة وهو يقول: 

أوافق على ها قلت عن قيمة الكلمة بصرف النظر 
عن سعد. . . ! 
كيال : 

إنْ الأمم تحيا وتتقدّم بالعقول والحكمة السياسية 
والسواعد, لا بالمخقطب والتهريج الشعبيّ 


نظر إسماعيل لطيف إلى حسين شدّاد. وهو يتساءل 
سائخحرًا : 


- ألا ترى أنْ من يُتعب نفسه في الكلام عن 
إصلاح هذا البلد كالنافخ في قربة مثقوبة؟ 

التفت كمال إلى إسماعيل ليخاطب من وراء حسن 
بما تردّد عن محاطبته وجهًا لوجه؛ قال منفْسًا عن 
غيظه : 

أنت لا تهمّك السياسة في شبيء؛ لكنّ مزاحك 
يفصح أحيانًا عن موقف «قلة» من المحسوبين على 
اعرد “الاق انالا م لنياجتر».سراهم باللصيل من 
وض الوطن». يأس الاحتقار والتعالي لا يأس 
الطموح والتطرّف» ولولا أنْ السياسة مطيّة لأطماعهم 
لاعتزلوها كا تفعل أنت! 

ضحك حسين شدّاد ضحكته اللطيفة. ومذ يله 
إلى ذراع كبال» فشدّ عليها قائلا: 

د أنت. ادل عتيدء يعجبنبى حماسك وإن لم 
أشاركك الإيمان به. على أنْني كما تعلم محايد. لا من 
الوفديين ولا من الدستوريين» لا استهانة كإسماعيل 
لطيف . ولكن لاعتقادي بأنّ السياسة تفسد الفكر 


قصر الشوق "551 


والقلب. ينبغي أن تعلو عليها حيّى تتراءى لك الحياة 
ميدانًا لانهائيًا للحكمة والجمال والتسامحء لا معترّك 
صراع وكيد. . . 

ارتاح إلى صوت حسين فسكنت فورته. كان 
يطرب لموافقته إذا وافقه على رأي. ويتّسم صدره 
لعارضته إذا عارضه فيه؛ ومع أنّه كان يشعر بن تبريره 
للحياد ما هو إلا اعتذار عن ضعف وطنيّته. فإنّْه ل 
يحنق عليه لذلك ول ير فيه نقيصة ولكن وَسِعْها عفوه 
وحلمه وتسامحهء قال يجاريه: 

الحياة هي هذا كله. هي الصراع والكيد 
والحكمة والجمال» فأيّ وجه تتجاهله من وجوهها تفقد 
به فرصة لاستكال فهمك ها وقدرتك على التأثير فيها 
بما يوججّهها نحو الأحسنء لا تحتقر السياسة أبذّاء 
فالسياسة هي نصف الحياق. أو هي الحياة كلها إذا 
عددت الحكمة والجال ثما فوق الحياة. . 

حدسين شذاذ كالمعتدر: 

- فيا يتعلّق بالسياسة» أصارحك بأنْني لا أثق في 
جميع أولئك الرجال. . . 

سأله كيال كالمتودد : 

ماذا نزع ثقتك من سعد؟ 

- بل دعني أسألك عا يجعلني أضع ثقتي فيه!. . . 
سعد وعدلى وعدلي زسعنة ها انسحف 6د كلس عل 
أنه إذا كان سعد وعدلي سيّين عندي في الناحية 
السياسيّة فإنني لا أراهما كذلك كرجلين» إذ لا يمكن 
أن أتجاهل ما بمتاز به عدلي من كريم الأصل وعظيم 
الحاه والثقافة» أمّا سعد وإيّاك أن تغضب - فا هو 
إلا أزهري ققوم د 

آم شد ما يحرّ في نفسه أن يندّ عن حسين أحيانًا ما 
يشى بتعاليه عن الشعب فيشعر وهو من الحزن في خباية 
كانه يتعالى عنه هو أو وهو الأدهى والأمرّ ‏ كأنه 
ينطق بلسان الأسرة جميعًاء أجل» إِنَّه إذا حادثه أشعره 
كأنما يتكلم عن شعب غريب «عنهيا» معًاء ولكن أكان 
ذلك عن خطا في التصوير أم عن يجاملة؟ ومن عجب 
أن موقف حسين هذا لم يغضبه من ناحية دلالته العامّة 
بقدر ما أحزنه من ناحية دلالته الخاصة به. فلم يسثثر 


عداوته الطبقيّة ولا إحساسه الوطنيّ. . . اعبزمت هذه 
المشاعر حيال بشاشة وضيئة تلم عن الصراحة وحسن 
الطويّة» وتراجعت أمام حب لا ثنال منه الآراء 
والأحداث: على الْضِد من هذا كان شعوره حيال 
موقف حسين شذاد منه. فكان ‏ رغم صداقتهما - 
ببح غضبه لوطنه. وم يشفع له عنده تأذبه في المخطاب 
وتحنظه في إظهار مشاعرهء بل لعلّه آنس فيه) 
وحكمة؛ تضاعفا من مسئكوليّته وتؤئد تعصّبه 
الأرستقراطيّ الموجه ضدّ الشعب, قال مخاطبًا حسين : 
أفي ع أنا أن أذكّرك بأن العظمة شىيء غير 
العيامة والطربوش أو الفقر والغنى؟ يبدو لي أن 
السياسة تضطرّنا أحيانًا إلى مناقشة البديبيّات! . . . 


قال إسماعيل لطيف: 
إن ما يعجبني في الوفديّين ‏ أمثال كيال - هو شدَّة 
تعضبهم ! 


ثم وهو يجيل بصره في التالسين : 

أمَا ما يسوءي منهم. فهو شدّة تعضبهم أيضا! 

قالحسون شداذ ضاعكاء 

أنت سعيد الحظء لأنك مهما أبديت في السياسة 
من رأي. فلن يعترض سبيلك معقّب. . . ! 

هنا سأل حسن سليم حسين شدّاد قائلا : 

- تزعم أنك ترب بنفسك عن السياسة؛ فهل تصرٌ 
على ذلك حيّى إذا تعلق الأمر بالخديو السابق؟ 

انمهت الأعين نحو حسين في تحدٌ باسم لما هو 
معروف عن تشيّع والده شدّاد بك للخديو السابق. 
الأمر الذي أبعد من أجله أعوامًا قضاها في باريس, 
ولكنّ حسين قال في غير مبالاة : 

- لا تعنيني هذه الأمور في كثير أو قليل» كان 
والدي ولا يزال من رجال الخديو» ولكننيى لست مطالبًا 
باعتداق آرائه , , , 

سأله إساعيل لطيف. وفي عينيه الضيقتين بريق 
ضاحك : 

- أكان والدك من الذين يبتفون «الله حي.. . 
عباس جي »؟ 

فقال حسين شدّاد ضاحمًا: 


لم أسمع عن هُذا الذكر إلا منكم. والح الذي 
لا ريب فيهء أنه لى يعد بين أبي وبين الخديو إلا 
المتداقة والرفاك توفضلة عن ذللقه فين العةاعدرب. 
كا تعلمون ‏ يدعو اليوم إلى عودة الخديو. . . 

قال حسن سليم : 

أمسبى الرجل وعهده في ذمّة التاريخ» الحاضر 
يمكن تلخيصه في كلمتين؛ وهماء أنْ سعد يأب أن يقوم 
في مصر من يتكلّم باسمها غيره ولو كان خير الرجال 
وأحكمهم | 

م يكد يتلقّى الضربة كبال حيّى جاوبه قائلا: 

الحاضر في كلمة واحدة». أن ليس في مصر من 
يتكلّم باسمها إلا سعد, وأنّ التفاف الأمّة حوله جدير 
في النباية بأن يبلغ بها ما نرجو من الآمال. . . 

وشبك ذراعيه على صدرهء ومد ساقيه حتى مس 
طرف حذائه رجل المائدة» وهم بالاسترسال في حديثه 
لولا أن جاءهم من الوراء صوت غير بعيد يتساءل «ألا 
تريدين يا بدور أن تبي أصدقاءك القدماء؟» فانعقد 
لسانه» ووثب قلبه وثبة عنيفة رجّت صدره رجا أفزعه 
أؤل الأمر وآلمه.» وفي أسرع من لمعان البرق استغرقته 
سكرة طاغية من السعادة كاد يغمض لطا عينيه من شدّة 
التأثر» ثمّ وجد أنّْ كلّ خاطرة تنبض بها نفسه قد 
انمهت صوب السماءء قام مع الأصدقاء كا قامواء 
واستدار معهم إلى الوراء؛ فرأى على بعد خطوة من 
الكشك عايدة واقفة ممسكة بيد بدور شقيقتها الصغرى 
ذات الأعوام الثلاثئة» و*ما يتطلعان إليهم بأعين هادئة 
باسمة... ها هي ذي بعد انتظار ثلاثة أشهر أو 
يزيد» ها هو «الأصل» الذي تملأ «صورته؛ روحه 
وجوارحه ويقظته. ونومه. ها هي قائمة أمام عيئيه 
شاهدًا على أنْ الألم الذي لا حدّ له والسرور الذي لا 
وصف له واليقظة المحرقة للنفس والحلم المدوّم في 
السماء. إن 1 أولئك رما رجعث في آخخر الأمر إلى 
آدميّ لطيف تترك قدماه انطباعاته! على أرض الحديقة! 
ورنا إليها فجذب مغناطيسها شعوره كلّه حبّى سلبه 
الإحساس بالزمان والمكان والأناميّ والنفس» فعاد 
وكائه روح مجرّدة تسبح في فراغ نحو معبودها. . . عل 


أن إدراكه لها هي نفسها لم يكن حسّيًا بقدر ما كان 
روحيّاء تمثل في نشوة ساحرة وغبطة شادية وسبحة 
غالية ع نينا وعنتة هتف الرقية أو متلاشيك: كان قوة 
انفعاله الروحيّ استائرت بكل حيويته فغودرت حواسه 
وقواه العاقلة والمدركة والملاحظة في سبات أشرف به 
على نوع من الفناء» لذلك كانت دائمًا أطوع لذاكرته 
منها إلى حواسّه. لا يكاد يرى منها وهو في محضرها 
شيئاء ولكتها تتراءى فيا بعد في ذاكرته بقامتها الحيفاء 
ووجهها البدري الذخمري وشعر عميق السواد 
مقصوص «ألا جرسون» ذي قَصَّة مسترسلة على اللحبين 
كأسنان المشط وعينين ساجيتين تلوح فيهما نظرة لها 
هدوء الفجر ولطفه وعظمته. كان يرى هذه الصورة 
بذاكرته لا بحواسّه كالنغمة الساحرة نفنى في سياعها 
فلا نذكر منها شيئًا حيّى تفاجئنا مفاجأة سعيدة في 
اللحظات الأولى من الاستيقاظ أو في ساعة السجام. 
فتتردّد في أعماق الشعور في لحن متكامل. وتساءلت 
أحلامه وأمانيّه: ترى هل تغيّر من طريقتها المألوفة 
فتمدٌ يدها للمصافحة فيلمسها ولو مرّة في الحياة؟ لكنّها 
حيّنهم بابتسامة وتحنية من رأسهاء وهي تتساءل بذلك 
الصوت الذي يزري بأحبٌ الألحان إليه : 

كيف حالكم جميعا؟ 

فاستبقت الأصوات إليها بالتحية والشكر والتهنئة 
على سلامة العودة» عند ذاك عبثت أناملها الرشيقة 
برأس بدور وهي تقول لا: 

- صافحي أصدقاءك! 

فثلت بدور شفتيها داخل فيها وعضت عليه) وهي 
تردّد عيئيها بينهم في حياء حتّى استقرّتا على كال. 
فابتسمت وابتسم! قال حسين شدّاد, وكان على علم 
بما بين الطفلة وكمال من موذة: 

- إنها تبتسم لمن تحبه ! 

أتحيّين هذا حمًا؟ (ثمْ وهي تدفعها نحوه) إذن 
بلى فلية ى. 

ملّ لها كال يديه متورّد الوجه من السرورء فأقبلت 
نحوهء فرفعها بين يديه حي أقرّها في حضنه» وراح 
يقبّل خحديها في حنان وتأئر شديدين, كان بهذا الحبّ 


قصر الشوف ه" 


سعيدًا فخوراء ليست التي بين يديه إلا فلذة من جسد 
الأسرة. فهو يضم الكل إذ يضم الجزء إلى صدره. 
هل أمكن انّصال العبد بممعبوده إلا عن وساطة كهذه 
اللوساطة؟.. . والسحر كل السحر في هذا الشيه 
الغريب بين الطفلة وشقيقتهاء كأنّ المطمئتة إلى صدره 
عايدة نفسها في طور من أطوار حياتها الماضية. كانت 
بومًا مثل بدور سنا وحجمًا وجودًا فتامل! . . . فليهناه 
هذا الحبٌ الطاهر... ليسعد بعناق جسم تعانقه 
هيى... وبتقبيل وجنة تقبلها هي. . . وليحلم حتى 
يشرد منه العقل والقلب. إنّْه يدري ّ يحب بدور 1 
يحب حسين ولم يحب القصر وحديقته وخدمه. إِنَّه 
يحبّها جميعا إكرامًا لعايدة. أما الذي لا يدريه فهو حب 
عايدة نفسها!... ردذدت عايدة عينيها بين حسن 
سليم وإسماعيل لطيف» ثم سألتهما: 

كيف وجدئما الإسكندرية؟ 

فقال حسن : 

رائعة!. . . 

على حين تساءل إسماعيل : 

ماذا يجذبكم إلى رأس البرٌ دواما؟ 

فقالت بصوت رخخيم مشرّبة نبراته بعذوبة 
موسيقية : 

- صيّفنا مرّات في الاسكندريّة ولكنّ الاصطياف 
لا يطيب لنا إِلّا في رأس الب هنالك الهدوء والبساطة 
وألفة لا تجدها إلا في بيتك ! 

فقال إسماعيل ضاحكًا: 

من سوء الحطا أنْ الهدوء لا يطيب لنا. . . 

ما أسعده بهذا المنظر... هذا الحديث. 
الصوت؛ تأمل أليست هذه هي السعادة؟! فراشة 
كنسمة الفجر تقطر ألوانا مبيجة وترشف رحيق 
الأزاهر... هذا أناء لو يدوم هذا الموقف إلى 
الأبد! . . . 

قالت عايلة : 

- كانت رحلة ممتعة. ألم يحذئكم حسين عنها؟ 

قال حسين بلهجة انتقادية : 

- بل كانوا يتتاقشون في السياسة! 


.. هذا 


5 قصر الشوق 


فالتفتت ناحية كيال قائلة : 

هنا شخص لا يحلو له إلا حديثها. . . 

من عينيها نظرة تلقى إليك كالرحمةء صفاؤها يجلو 
روحًا ملائكياء بعنت كما يبعث عبّاد الشمس في 
ضوئها المشرقء لو يدوم هذا الموقف إلى الأبد! . . . 

- لم أكن المسئول عن إثارة المناقشة اليوم. . . 

فقالت باسمة: 

- لكنّك اغتنمت الفرصة. . . 
ابتسم في تسليم» وعند ذاك حولت عينيها إلى بدور 
هائفة : 

- أتنوين أن تنامي بين ذراعيه!... كفاك 
سلاما, , , 

غلب الحياء بدور» فدفنت رأسها في صدره. 
فجعل يرت على ظهرها في حنان؛ غير أنْ عايدة 
توغدتها قائلة : 

- إذن سأتركك وأرجع وحدى . . . 

فرفعت بدور رأسها ومدّت لها يدها وهي تغمغم 
«لا». فقبلها كال وأنزها إلى الأرض». فجرت إلى 
عايدة وقبضت على يدهاء ألقت عايدة عليهم نظرة 
شاملة ثم لوحت بيدها تحيّة وذهبت من حيث أتت. 
عادوا إلى مقاعدهم فواصلوا الحديث كيفما اتفق. 
هكن|ا كانت تقع زيارات عايدة في كشك الحديقة. 
مفاجأة سعيدة قصيرة ولكنه بدا قانعٌاء وشعر بأنّ 
تصبره طيلة أشهر الصيف لم يذهب هدرّاء لم لا ينتحر 
الناس ضنًا بالسعادة كا ينتحرون فرارًا من الشقاء؟ 
ليس من الضروري أن تسبح كما يود حسين أن يسيح 
كي تلقى متع الحواسٌ والعقل والروح. فمن الجحائز أن 
تفوز بكل أولشك في لحظة حاطفة دون أن تبرح 
مكانك! من أين لبشر أن يؤق القدرة على إحداث هذا 
كلّه؟ ! أين فورة السياسة وحرارة الجدل واحتدام 
الخصام وتصادم الطبقات؟. . . ذابت كلها وتوارت 
تحت نظرة من عينيك يا معبودتي» ما الفاصل بين 
الحلم والحقيقة وني أيّهما تراني أهيم الساعة؟ 

- موسم الكرة سيبدأ عما قريب. . . 

- كان الموسم الماضي موسم الأهللّ دون شريك! 


.هزم المختلّط بالرغم من أن فريقه يضم أبطالا 
أفذاذًا. . . 

انبرى كمال للدفاع عن المختلط ‏ كا دافم عن سعد 
- صادًا عنه هجيات حسن سليم . كان أربعتهم من 
لاعبي الكرة على تفاوت في الحذق والحياسء فكان 
إسماعيل أمهرهم إلى حدٌ أنه برز بيهم كالمحترف بين 
الهواق. على حين كان حسين شدّاد أضعفهم, أمًا كيال 
وحسن فكانا بين ذلك. وقد اشتدّت المناظرة بين كيال 
وحسن. ذاك يرجع هزيمة المختلط إلى سوء الحظ وهذا 
يردّها إلى تفوّق لاعبي الأهلّ اللجدد... واستمرٌ 
الجدل دون أن ينزل أحدهها عن رأيه. تساءل كيال: ل 
يجد نفسه دائًا في الحانب المضادٌ للجانب الذي يقف 
فيه حسن سليم؟ الوفد الأحرارء المختلّط الأهلي. 
حجازي مختار» وني السيدما يفضل شارلي شابلن 
فيفضل الآخر ماكس لندر! 

غادر المجلس قبيل المغيب» وفيما هو يسير في الممر 
الجانبي المفضي إلى الباب الخارجي إذ سمع صونًا 
هتف : 

ها هو ذا. . . 

رفع رأسه مسحورًا فرأى عايدة في إحدى نوافل 
الدور الأؤل. مجلسة بدور على حافة النافذة بين يديها 
وهي تشير طا إليه؛ وقف تحت النافذة مباشرة مرفوع 
الرأس» يتطلّع بوجه باسم إلى الطفلة التى لوّحت له 
بيذها الصغيرة» ويلمح بين لحظة وأخرى إلى الوجه 
الذي استقرت في هيئته ورموزه آماله في اللحياة وما بعد 
الحياة» وقلبه يتلاطم بين الضلوع سكراء لوحت له 
بدور بيدها مرة أخرى» فسألتها عايدة : 

- تذهبين إليه؟ 

حنت الصغيرة رأسها بالإايجاب,» فضحكت عايدة 
من هذه الرغبة التي لن تتحقق» على حين مضى هو 
يتوسمها متشبجّعًا بضحكاتها ‏ غارقًا بروحه في حور 
عينيها وملتقى حاجبيها مسترجعًا صدى ضحكتها 
المترعة ونبرات صوتبها الداق حي اضطربت أنفاسه من 
وجد وهيامء ولا كان الموقف يلي عليه أن يتكلم 
فقد سأل معبودته وهو يشير إلى محبوبته الصغيرة : 


هل ذَكَرْنني في المصيف؟ 

قالت عايدة وهي تتراجع برأسها قليلا: 

سلها هي . لا شأن لي بما بينك وبينها! 

ثم مستدركة قبل أن ينبس هو بكلمة : 

- هل ذُكُرْتها أنت؟ 

آه. موقفك فوق السطح بين مريم وفهميء قال 
بحرارة : 

- لم تغب عن ذاكرتي يومًا واحذا. . . 

نادى عند ذاك صوت من داخل القصر فاعتدلت 
عايدة في وقفتها ورفعت بدور بين يديهباء ثم قالت 
معلقة على كلامه وهي تهم بالذهاب : 

- يا له من حب عجيب! 


وغانرت عن النافذة . : 


18ت 

لم يبق من رواد مجلس القهوة إلا أمينة وكمال. 
وحبّى كال كان يبررحه عند الأصيل إلى الخارج فتليث 
لم بمفردها أو تدعو أمّ حنفي إلى مؤانستها حتّى يمين 
وقت النوم . وكان ياسين قد خلّف وراءه فراغًاء ومع 
أنَّ أميئة حرصت دائيًا على ألا تعود إلى ذكراه فإِنَّ كيال 
شعر لغيابه بوحشة غاضت أبهج ما كان يجد في مجلس 
القهوة من متعة. وكانت القهوة ‏ قديا ‏ شراب 
المجلس الذي جتمع حوله الأبناء للسمر. فانقلب 
اليوم ‏ عند الأمّ ‏ كل شيء فيهء فأسرفت في حسوها 
إسرافا وهى لا تدري حت صار صنع القهوة وحسوها 
سلوة وحلتهاء فرثما احتستث خمسة أو سنّة ‏ وأحيانًا 
عشرة ‏ فناجيل تباعاء وكان كمال يتابع إفراطها بقلق 
ويحذّرها من عواقبه» فتردٌ عليه بابتسامة كأنما تقول له 
دوماذا أفعل إذا لم أشرب؟» ثم تقول له بلهجة الواثق 
المطمئن دلا ضرر من القهوة». . . . جلسا متقابلين, 
هي على الكنبة الفاصلة بين حجرت النوم والمائدة. 
وهو على الكنبة المتوسطة حجري نومه ومكتبه. وكانت 
عاكفة على المجمرة التي دفنت الكنجة حبّى نصفها في 
حمراتهاء وكان صامنًا شارد النظرة» وفجأة سألته : 

- فيم تفكر يا ترى؟ دائا ثرى وكائك مشغول 


قصر الشوق م 


الفكر بأمر ذي بال. 

آنس من صوتها ما يشبه العتاب. فقال: 

العقل يجد دائا ما يشغله! 

فرفعت إليه عينيها الصغيرتين العسليّتين كالمتسائلة 
ثم قالت في شيء من الحياء: 

مضى زمن كنا لا نجد وقئا ينّسع لمديثنا! 

حمًا؟ ذلك ماض مفىء عهد الدروس الديثيّة 
وقصص الأنبياء والشياطين» عهد تعلّقه بها لحدٌ 
الجنون» انقضى ذلك العهد. فيم يتحدّثان اليوم؟ إلا 
تكن دردشة لا معنى لها فلا وجه للكلام عل 
الإطلاق, ابتسم كأنمًا يعتذر بابتسامته عن صمته 
السابق واللاحق معا؛ ثم قال: 

- نحن نتكلّم كلما وجدنا للكلام موضوهًا. 

فقالت برقٌة : 

- ليس للكلام حدود لمن أراد أن تكلين ولكنّك 
تبدو غائنًا دائًا أو كالغائبف. . 

ثم بعد تفكير: 

أنت تقرأ كثيرٌاء في عطلتك تقرأ كا تقرأ في وقت 
دراستك» لم تستوف يومًا حظك من الراحة» أخخاف 
أن تكون أتعبت نفسك أكثر مما ينبغي . . . 

فقال كال بلهجة دلت على أنّه لم يرحب بهذا 
التحقيق : 

اليوم طويل جدَّاء وقراءة ساعات لا يمكن أن 
تُتعب إنساناء ليست إلا نوهًا من التسلية وإن تكن 

فقالت بعد تردد: 

أخحاف أن تكون القراءة سبب ما يبدو عليك كثيرًا 
من الصمت والشرود... 

كلا ليست القراءةء القراءة ملاذ من التعب لو 
تعلمين. ثىء آخر يشغل عقله طيلة الوقت ولا يسلم 
منه وقت اراق لقسفة شيء لا علاج له عندها ولا 
عند غيرها من البشرء إِنه مرض قلس يتعبّد حائرًا ولا 
يدري هاذا وراء عنائه يروم! قال بمكر: 

القراءة كالقهوة لا ضرر منها! ألا نحيّين أن أصير 
«عالم)اة كجذي؟ 


4 قصر الشوق 


فشاعت البهجة والفخار في الوجه المسسطيل 
الشاحب» وقالت: 

- بل» إن أودّ ذلك بكلّ قلبي» ولكتّنى أحبٌ أن 
أراك دائًا منشرح الصدر. . . 

قال باسما: 

- إني منشرح الصدر كا تحبّين» فلا تشغلي البال 
بمحض أوهام . 

كان يلاحظ أن رعايتها له ازدادت في السنوات 
الأخيرة أكثر ما ينبغي, وأكثر نما يودّء وأنّ تعلّقها به 
وحدببها عليه وإشفاقها مما يضرّه ‏ أو ما تتوهم أنه 
بضرّه ‏ باتت شغلها الشاغل إلى حدٌ ضايقه واستفزه 
للذود عن حرّيّته وكرامته. بيد أنّه لم تغب عنه أسباب 
هُذا التطور الذي بدأ عقب مصرع فهمي وابتلائها 
بفقد. فلم يجاوز أبدًا في ذوده عن حريّته حدود 
اللطف والأدس : 

- يسرّني أن أسمع هذا منك وأن يكون حقًا 
وقد نا لست أبغي إلا سعادتك» ولقد دعوت لك 
اليوم في سيّدنا الحسين دعاء أرجو أن يمن الله 
باستجابته | 


- آمين. . . 
ونظر إليها وهي ترفع الكنجة لتملاً فنجانها للمرة 
. ذكر 
كيف كانت زيارة الحسين لديها أمنية في حكم 
المستحيل, ها هي اليوم تزوره كلما زارت القرافة أو 
السكريّة» ولكن ما أفدح الثمن الذي دفعته نظير هذه 
الحرّيّة الضئيلة! هو نفسه له أمانيه التي في حكم 
المستحيل فأيّ ثمن تقتضيه كي تتحقّق؟ ألا إِنْ أي 
ثمن- وإن جل - يمون في سبيل ذلك؛ عاد يقول 
ضاحكًا ضحكة مقتضية : 

- إن لزيارة الحسين ذكريات لا كنسى. . . 

تحسست ترقوتها بيديهاء» وهي تبتسم قائلة : 

- وأثر باق لا يزول. . . 

فقال كال في شىء من اللتماس : 

للبت الوم حيينة النيك ل كنف قا أصبح 
من حقك أن تزورى خديجة وعائشة أو سيّدنا الحسين 


كلما أردت» تصوّري أي حرمان كنت مَنِين به نفسك 
لولم يفك أبي قبودك ! 

رفعت إليه عينيها فيما يشبه الارتباك أو النجل. 
كأمًا كبر عليها أن تذكّر بامتياز نالته نتيجة لتكلها. ثم 
أطرقت في وجوم ولسان حاها يقول «ليتني بقيت كما 
كنت وبقي لي فقيدي»» غير أُمّبا تحاشت الإفصاح عي 
جاش به صدرها إشفاقًا من تكدير صفوه. وقنعت بأن 
تقول وكأنها تعتذر عمًا حظيت به من حرية : 

ليس خروجي بين حين وآخر فرجة أستمتع بهاء 
إفي أزور الحسين لأدعو لك. وأزور أختيك لأطمئنّ 
عليهما ولحل مشكلات لا أدري من كان غبري 
يحلّها! 

فابتده المشكلات التي تعني, ولمَا كان يعلم أنْها 
زارت السكريّة اليومء فقد تساءل : 

- هل من جديد في السكريّة؟ 

قالت وهى تتنهد : 

العادة, . . ! 

هر رأسه نا وهو يبتسم قائلا : 

مخلوقة للئقار. هذه هى خديجة. . . 

قالت أميئة بحزن: 

- قالت لى حماتها: إِنْ أي محادثة معها مخاطرة غير 
محمودة العواقبا,.. . 

- الظاهر أنْ حماتها ‏ نفسها . قد خرفت! 

لها من الكير أعذارء ولكن ما عذر أختك؟ 

- ترى أآثرتها على الحقٌ أم آثرت الحقٌ عليها؟ 

وضحك ضحكة ذات مغزى. فتنبّدت أمينة مرّة 
أخرىء وقالت: 

أختك حامية الطبع. وسرعان ما تضيق حي 
بالنصيحة الخالصة» ويا ويل إذا جاملت حماتها مراعاة 
لستها ومكانتها. هنالك تسألني وعيناها تحماران (أنت 
معي أم عَلِم؟6 لا حول ولا قرّة إلا بالله. معي أم 
عل!... هل نحن في حرب يا ابني؟. ومن الغريب 
أن يكون الحنّ أحيانا على حماتها ولكتّها تتادى في 
الخصام حبّى ينقلب الحق عليها هي . . . ! 

هيهات أن يسخطه عليها شيء. كانت ولا تزال أمه 


الثانية ومورد حنان لا ينضب. أين منها عائشة الجميلة 
السادرة التي تشبّعت بالشوكتية حتى ذؤابتها! 

وعم أسفر التحقيق؟ 

- بدأ الشجار بالروج هله المرّة وعلى غير المألوف. 
دخلتٌ الشفّة وهما يتجادلان في عنف حبّى عجبت لا 
أهاج الرجل الطيّبء فتدخلت بينها بالسلام» ثم 
عرفت سبب هذا كله كانت معتزمة أن تنفض 
الشمّة. ولكنّه ظلٌ نائيًا حبّى التاسعة فاأصئت على 
إيقاظه حيّى استيقظ غاضبًاء وركبه عناد مفاجئ قأبى 
أن يغادر الفراش, وسمعت والدته الزعق. فجاءت 
على عجل. وما لبنت النار أن اشتعلت. ولم يكد هذا 
الشجار أن ينتهى حيّى شبٌ آخر بسبب أحمد الذي 
عاد من الطريق مطين الجلباب». فضرنته وأرادت أن 
يستحمٌّ من جديدء. فاستغاث الولد بأبيه؛ وتصدّى 
الرجل لحايتهء فكان الشجار الثاني في نصف بمار! 

وهو يض حك : 

وماذا فعلت؟ 

- بذلت ما في وسعي ولكتّي لم أسلم. فلامتني 
طويلًا على وقوفي موقف الوسيط. وقالت لي: كان 
ينبغي أن تنضمّي إل كا انضمت أمَه إليه ! 

ثم وهي تتنهد لثالث مرة: 

- قلت لخديجة : ألا تذكرين كيف كنت تريني أمام 
والدك. فقالت بحدّة: «هل تظئين أنه يوجد رجل مثل 
أبي ف هذه الدنيا!؟). 

وردت مخيلتئه على غير ميعاد صورة عبد الحميد بك 
شدّاد وحرمه سئيّة هانم. وهما يسيران جنبًا إلى جنب», 
من الفراندا إلى السيّارة المنيرفا المنتظرة أمام باب 
القصر. لا سيّد ولا مسود ولكن صديقين متساويين». 
يتحادثان في غير كلفة وهى تتأبئّط ذراعه. حبّى إذا بلغا 
السيّازة تعن البلك. انبا حق تركبهى أولا!..هل 
يتأ لك أن ترى والديك في مثل هذه الصورة؟! يا لها 
من خاطرة مضحكة! يتحرّكان في جلال تخليق بالمعبودة 
التي أنجباهاء ولو أن الهائم لم كن عون اله كيرلة "١‏ 
أئهبا كانت ترتدي معطفًا نفيسًا آية في الذوق والأناقة 
والغندرة» وتنطلق سافرة الوجه. وجه مليح وإن يكن 


قصر الشوفق 59” 


دون الوجه الملائكيئ با لا يقاس» وتنشر فيها حولها 
شذى عَطِرًا وروعة آسرة؛ ود لو يعلم كيف يتحادثان 
وكيف يأتلفان.» وكيف يتخاصان إن كانا يتخاصمان . 
شغفا بمعرفة حياة تمت إلى حياة معبودته بأوثئق الوشائئج 
والصلاتء أتذكر كيف كنت تطالعهما بين المتعبّد 
الراني إلى كبار الكهنة والسدنة؟ قال مبدوء: 

- لو تطبّعت خديجة ببعض طباعك لضمنت حياة 
شيك 

ابتسمت أساريرها في سرورء غير أنْ سرورها 
ارتطم بالحقيقة المرّة» وهي أن طباعها لم تستطع على 
دماثتها أن تضمن لها السعادة دواماء ثم قالت 
والابتسامة لا تفارق شفتيها لتداري سا أفكارها 
السوداء التي تشفق من إطلاعه عليها : 

هو وحده الحادي» ربّنا يزيد طبعك حلاوة ححتى 
تكون من الذين يحون الناس ويحبهم الناس. . . 

فبادرها متسائلا : 

- كيف تجديننى؟ 

فقالت بإيمان : 

أنت كذلك» وأكثر. . . 

لكن كيف يتأن لك أن تحبّك الملائكة؟! ادم 
صورتها السعيدة وتأمّل قليلاء هل يمكن أن تتخيّلها 
مسهّدة طريحة حبٌ وجوى؟ وما أبعد ذلك عن خوارق 
الظنون؛ إثها فوق الحبٌ ما دام الحبٌ نقصا لا يدرك 
الكمال إلا بالحبيب. اصبر ولا تلو قلبك من الألم. 
حسبك أن تحبٌ» حسبك منظرها الذي يشعشع بالنور 
روحك. وأنغام نبراتها التي تسكر بالتسطريب 
جوارحك» من المعيودة ينبثق نور تتبدذى فيه الكائنات 
خلقًا جديدًاء الياسمين واللبلاب هن بعد صمت 
يتناجيان» والمآذن والقباب تطير فوق بساط الشفق 
صوب الساء. معالمى الحيّ العتيق تنطق عن حكمة 
الأجيالء» أوركسترا الوجود تستانف زفسرات 
الصراصير, الحنان يفيض من المحورء الأناقة تزخحرف 
الأزقة والدروب,» عصافير الغبطة تزقزق فوق القبور. 
الجهادات تتيه في صمت التامّلات» فوس قرح يحل 
في الحصيرة التي تطرح عليها قدميك. هذه دنيا معبودتي! 


قصر الشوق 


كنت مارّة بالأزهر في الطريق إلى الحسين. 
فقابلتني مظاهرة كبيرة تبتف ببتافات ذكرتبي بالماضي. 
هل جد جديد يا بي؟ 

قال ؛ 

الإنجليز لا يريدون أن يذهبوا بسلام! 

قالت بحدّة: وف عينيها نظرة غضب تبرق: 

الانجلير.. . الإنجليرز!. . . متى تنزل عليهم 
نقمة الله العادل؟ 

انطوت دهرًا لسعد نفسه عن مثل هذه الكراهية» 
لولا أن أقنعها في النهاية بأنّه لا يجوز أن يبغضوا 
شخصًا أحبّه فهمي! . وعادت تتساءل في قلق ظاهر: 

ماذا تعني يا كيال؟ هل نعود إلى أيام البلاء؟ 

فقال بامتعاض : 

لا يعلم الغيب إِلّا الله ! 

فاعتراها ضيق بدا في تقلّصات وجهها الشاحب» 
وقالت: 

ِ اللْهمّ قِنا العذاب فلنتركهم لغضب القهار. هذه 
هي الخطة المثى: أمَا أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة فهو 
الحنون والعياذ بالله ! 

هدّئي من روعك؛. لا محيد من الموت. الناس 
يموتون بسبب أو بآخرء وبلا سبب على الإطلاق! 

قالت في استياء : 

لا أنكر أن قولك حقٌ» ولكنّ لهجتك لا تعجبني ! 

- كيف تريدين أن أتكلّم؟ 

قالت بصوت مؤثر: 

أريد أن تعلن موافقتك على أنه من الكفر أن 
يعرّض الانسان نفسه للتهلكة. . . 

قال في تسليم » وهو يداري ابتسامة : 

أوافق. . . 

فرمقته بارتياب» وقالت بتوسل : 

وأن تقول ذلك بالقلب لا باللسان. . . 

- بالقلب أتكلّم . . . 

ما أعظم الفارق بين الواقع والمشال» أنت تتطلع 
بحماس إلى المثل الأعلى في الدين والسياسة والفكر 
والحبٌ. الأمّهات لا يفكرن إلا في السلامة, أي أمَ 


ترضى أن تدفن ابئًا في كل حمسة أعوام, لا بد للحياة 
المخاليّة من قرابين وشهداء.... الجسم والعقل 
والروح قرابينباء فهميى ضحى بحياة واعدة في سبيل 
ميتة رائعة» فهل تستطيع أن تلقى الموت كما لقيه؟ 
قلبك لا يتردّد عن الاختيار ولو حطم قلب هذه الام 
التعيسة. ميتة تستئزف جرحًا وتضمّد جروخاء يا له 
من حبٌ... أجلء ولكنّه ليس الذي بيني وبين بدور 
وأنت تعلمين, الحبٌ العجيب حقًا هو حبّي للك هو 
شهادة للدئيا ضِدّ المتشائمين من خصومهاء علمني أنَّ 
الموت ليس أفظع ما نخاف وأنْ الحياة ليست أببج ما 
نبتغي, وأنّ من الحياة ما يغلظ ويفرٌ حثّى يلتمس 
الموت؛ ومنها ما يرقٌ ويثرى حب بهفو إلى الخلود. 
ومناداتها لك ما أطرمباء بصوت لا تدري كيف تصفه. 
لا رفيع النبرة ولا غليظهاء مثل «فا» السلّم الموسيقي 
المنبعثة من ككان» رئينه في صفاء النورء ولونه لو 
تخيّلت له لوئًا في زرقة السماء العميقة. داق الإيمان, 
داعية إلى السماء. . 


١5 -‏ ب 

يوم اللخميس القادم سأعقد زواجي متوكاك عل 
الله . . 

- ربّنا يوفقك! 

سيكون التوفيق من نصيبي إذا رضي عني 
أبي.. . 
- إِنّه راض عنكء والحمد لله. . . 

سيقتصر الحضور على الأهل. ولن تلقى هئالك 

- عظيم عظيم!! 

وددت لو كانت نيئة في الحاضرين» ولكن. . . 

ما عليئاء لمهم أن مر الليلة في هدوء. . . 

- لم يغب عيّ هذا بطبيعة الحال؛ أنا أعرف الئاس 
بطبعك. ولن يعدو اليوم كتابة العقد وشرب 
الشربات. . . 

- عظيم» ربنا هديك إلى سواء السبيل. . . 

- كلّفت كمال أن يبلغ والدته تحياتي وأن يرجوها 


عب ألا تحرمني من دعائها الطيّب كما عوّدتني من 
قديمء وأن تعفو عرًا كان. . . 

طن عليماةا 

- أرجو أن تكرّر على سمعي أنك راض عب . 

- إفي راض عنكء ولله أسأل أن يكتب لك 
التوفيق والفلاح» إنّه سميع الدعاء. . 

هكذا سارت الأمور ضَدَ مشيئة السيّد أحمدء 
واضطرٌ إلى مجاراتها أن ينصدع ما بينه وبين ابنهء وكان 
قلبه في الحقٌّ أرق من أن يتصدّى لياسين بخصام 
جدّيَ فضلًا عن القطيعة» فقبل أن يسلّم بيده ابنه 
البكر إلى بنت بهيجة» وأن يبارك ‏ بنفسه - العلاقة 
التي ستضمٌ خليلته السابقة إلى صميم أسرته! بل لم 
يقبل تدخل أمينة حين أعربت له عن رجائها ني أن 
يمتنع «إخوة فهمي» عن شهود زواج ياسين من مريم. 
فقال ها بلهجة حاسمة وفكرة سلخيفة. من الناس من 
يتزوّج من أرملة أخيه على حبه والوفاء له ومريم لم 
تكن زوجة فهمي ولا حي خطيبته: وذلك تاريخ قديم 
مضى عليه ستّة أعوام, لسث أنكر أنه لم يوفق في 
اختياره ولكنّه حسن النيّة بقدر ما هو بغل» وم يسئ 
إلى أحد كا أساء إلى نفسهء أسرة كان بوسعه أن 
يصهر إلى خير منباء وفتاة مطلّقة, الأمر لله وذنبه على 
وإن كانت اكتسبت مع الأيام السود بعض جرأة تعينها 
على الإفصاح عن رأيها للسيّد إلا أنها لم تكن من القوة 
بحيث تجعلها تراجعه أو تجادله. ولذلك فعندما زارتمها 
خديجة لتخبرها بِأنْ ياسين دعاها إلى حضور زواجه. 
وأئْبا تفكر في ادّعاء المرض لتتخلف عن الذهاب لم 
توافقها على رأيها ونصحتها بقبول دعوة أخيها. 

وجاء يوم الخميس» فذهب السيد أحمد عبد الجواد 
إلى بيت المرحوم محمد رضوان. حيث وجد ياسين 
وكال - الذي سبقه إليه ‏ في استقباله» ثم لحق بهم 
بعد قليل إبراهيم شوكت وخليل شوكت مصحوبينٍ 
بخديجة وعائشة, ولم يكن في البيت من آل هريم سوى 
بضع نساء. فاطمآنٌ السيّد أحمد إلى مرور اليوم 
بسلام! وكان في طريقه إلى حجرة الاستقبال قد رأى 


قصر الشوق 9/1١‏ 


معالم مألوفة في البيت. مر بها من قبل في ظروف جد 
مختلفة. فهجمت عليه ذكريات الماضى محدثة في نفسه 
ألوانًا من الاستياء والضجر لسخريتها الصامتة من 
الدور الجديد الذي جاء يمثّله كوالد وقور للعريس» 
وراح يلعن في سرّه ياسين الذي أوقعه ‏ وأوقع نفسه 
وهو لا يدري في هذا المأزق» غير أنْ الآمر الواقع 
حمله على أن يراجع نفسه وينّيها قائلا: إِنّه ليس على 
الله بكثير أن يخلق البنت على غير مثال الأمْ» وأن يجد 
ياسين في مريم زوبًا صالحة ‏ بكل معنى الكلمة - وأن 
يقيه نرق أمُهاء ثم سأل الله الستر| 

وكان ياسين آخحذًا زينتهء بادي السرور رغم 
تواضع الحفل المقام لزواجه. وسَرَه ‏ على وجه 
الخصوص - أن لم يتخلف أحد من إخوته عن 
الحضور. وكان يشفق من أن تؤثّر الأم في بعضهم 
فيتخلّف! أكان في وسعه أن يستغني عن مريم إكرامًا 
هم؟ كلاء أحبّها. وم تجعل هي من سبيل إليها إلا 
الزواج فلم يكن من الزواج بده لم لا؟ ليست 
اعتراضات والده أو زوجه بعادلة أو بما يكترث 
لعواقبهاء ثم إن مريم أوّل امرأة يرغب الزواج منما 
عن معرفة ونظرء وهو إلى هذا متفائل جدًا بزواجه 
ويرجو أن تستقرٌ به حياة زوجيّة دائمة» أليس كذلك؟ 
بلى وهو يشعر أنه سيكون زوجا طيبًا وستكون زوجة 
طيّبة وسيجد رضوان في مقبل الأيّام بينًا سعيدًا ينمو 
فيه وينضجء لقد دار كثيرًا وآنْ له أن يستكنٌء في غير 
الظروف التى اكتنفت زواجه لم يكن يتردّد عن أن 
يحتفل به احتفالا شاملا لشي ألوان البهجة والسرورء 
ليس كهلا ولا فقيرًا ولا هو تمن «يدّعون» كراهية 
الليالي الملاح حيّى يرضى ببذا الحفل الموحش الصامت 
الذي هو بالماتم أشبهء ولكن مهلاء فللضرورة 
أحكامء وليزج تقشّفه هذا تحية لذكرى فهمي . 

وكان لقاء مريم بسخديجة وعائشة ‏ يعد فراق طال 
أعوامًا - مؤثرًا على تحفظه وم بخل من حرج بين . 
تبادلن القبلات والتهاني وتحادئن طويلًا فشرّقن 
وغرّبنء ولكنَهنَ تمنبن الماضي ما استطعن إلى ذلك 


# 


سبيل . وكانت اللحظات الأولى أحرجها جميعا. 


فتوقّعت كل واحدة من ترديدًا لذكرى ماضية على 
نحو يثير عتابًا أو ملامّاء ماذا دعا إلى تقاطعهنٌ أو لم 
تعكّر الج ولكتبا مرّت بسلام. ثم وججهت مريم 
الحديث بلباقة إلى ثياب نحديجة ورشاقة عائشة التي لا 
زالت تحافظ عليها رغنم إنجاببا ثلاثة» ثمّ سألت مريم 
وأمّها عن «الوالدة». فكان الحواب أنْها بخير ولم يزدن 
حرفًا. ونظرت عائشة إلى صديقتها القديمة بعين ملؤها 
لمودّة والحنان وقلب متعطش إلى حبٌ الئاس دواماء 
ولولا إحساس بالإشفاق لساقت الكلام إلى الذكريات 
الماضية ولضحكت ملء فيهاء أمَا خديجة فجعلت 
تسترق إليها نظرات متفخّصة؛ ومم أن مريم ظلت 
سنوات لا تخطر لها على بال فإِنْ أنباء زواجها من 
ياسين أطلقت لسانها بالملاحظات الْرّةَ» وراحت تذكر 
عائشة بواقعة «الإنجليزئ» وتتساءل عا أعمى ياسين 
وأصمّه! على أن شعور نخديجة العائلٌ المرهف الذي 
يتقدّم سائر مزاياهاء لم يسمح لها بوك شيء من ذلك 
على مسمع من آل شوكت غير مستثنية زوجها نفسه ) 
حيّى نبّهت أمّها إلى ذلك قائلة «سواء رضينا أم لم 
نرض فستصبح مريم من أسرتنا!|»»... ولا عجب» 
فيا زالت خديجة حيّى بعد إنجاب عبد المنعم شوكت 
وأحمد شوكت تعد آل شوكت «أغرابا» لدرجة ما. 
وجاء الأذون في مطلع المساء. ثم عقد الزواجء 
ودارت أكواب الشربات». وانطلقت زغرودة واحدة. 
وتلقّى ياسين التهاني والدعوات الصالمسات. وذعيت 
العروس إلى مقابلة وسيدها الكبير» وآل زوجهاء 
فجاءت مخاطة بأمها وخديجة وعائشة وقبلت يده 
وصافحت الآخرين وعند ذاك قدّم السيد لا هدية 
الزواج» أسورة ذهبيّة ذات فصوص دقيقة من الماس 
والزمرّد. واستمرّت الجلسة العائليّة وقنا غير قصيرء 
وحوالى التاسعة أخل الحاضرون في الانصراف تباعاء 
ثم جاء حنطور فحمل العروسين إلى بيت ياسين بقصر 
الشوق الذي جهز دوره الثالث لاستقبال العروس» 
وظنّ الجميع أنَّ الستار قد أسدل على الزواج الثاني 
لياسين بخيره وشرّه؛ ولكن حدث بعد مرور أسبوعين 
من تاريخ الزواج أن شهد بيت المرحوم محمد رضوان 


حفلا آخر لزواج جديد. عد بحق مفاجأة غريبة في 
بيت السيّد أحمد والسكريّة وقصر الشوق بل في حي 
بين القصرين جميعا!! فعلى حين غرة ‏ ودون سابق 
إنذار - لم يدرٍ الناس إِلَا وببيجة تعقد زواجها على 
بيومي الشربتلي!. . . عجب الناس لهذا الزواج كل 
العجب. وكأتمًا كانوا يفطئون ‏ لأوّل مرّة ‏ إلى أن 
دكان بيومي الشربتلي تقع على ناصية عطفة بيت آل 
رضوان تحت إحدى مشربيّات البيت العتيدة مباشرة » 
فوقفوا أمام هذه الحقيقة يتساءلون. وحقٌ للناس أن 
يعجبوا» فالعروس أرملة رجل عرف في حياته بينهم 
بالطيبة والتقوى» وهي معلودة من «سيّدات» الحيّ 
المحترمات رغم ولعها بالتبرج. فضلا عن بلوغها 
الحمسين من عمرهاء بينا كان الزوج من العامة ذوي 
الجلابيب يبيع الخرّوب والتمرهندي في دكان صغير. 
ولم جاوز الأربعين من عمره إلى كونه زوجا رسخت 
قدمه في الحياة الزوجيّة عشرين عاماء أنجب خلاها 
تسعًا من الإناث والذكور! كل ذلك أثار القيل 
والقال!! فخاض الناس - دون تورّع - قي مقدمات 
الزواج التي لم يشعر بها أحد. متى وكيف بدأت ثم 
كيف نضجت حيّى انتهت بالزواج؟! وأيّ الطرفين 
كان البادئ الداعي وأمّهها كان المستجيب الملبّي؟!. . . 

قال عمّ حسنين الحلاق. وكان دكانه يقع في 
الجانب الآخر من الطريق لصق سبيل بين القصرين 
نه كثيرًا ما كان يرى ست ببيجة واقفة أمام دكان 
بيومي تشرب الخرٌوب» ربا تبادلا .حديئًا قصيرّاء فلا 
يظنٌ - لحسن نيته - إلا خيرًا!. .. وقال أبو سريع 
صاحب اللمقلى» وكان دكانه يتأخر ميعاد إغلاقه عن 
بقيّة الدكاكين: بأنّه ‏ أستخفر الله لاحظ مرّات أن 
قومًا يتسللون بليل إلى داخخل البيت» ولكنّه لم يكن 
يعلم أنّْ بيومي بيهم! وتكلم درويش بائم الفول» 
وتكلم الفوئّ اللبّان» ومع أئّبم تظاهروا بالرئاء للأب 
المعيل وانتقدوا ‏ بمرارة ‏ الرجل الأخرق الذي تزوّج 
امرأة في سن أمّهء فَإئّهم في قرارة النفس نفسوا عليه 
حظّه ونقموا عليه ارتفاعه عن طبقتهم ببذه الحيلة «غير 
المداسبة». ثم طال الحديث بعد ذلك عن تقدير 


دميراثه) المنتظر في البيت» وعن الغنائم المحتملة من 
قود وحلى! 

أمَا بيت السيّد وبيت السكريّة بل وبيت قصر 
الشوق قد رُلزلوا زلزالا شديدّاء يا للفضيحة!. .. 
هكذا هتفت السنتهم. وغضب السيّد أحمد غضبًا 
أرعب آل بيته فتجتّبوا مخاطبته أيّامًا متتابعات» اليس 
من حقٌ بيومي الشربتلي أن يدّعي قرابته من الآن 
فصاعدًا؟ ملعون ياسين وملعونة شهواته. بيومي 
الشربتلي أصبح «عمه» وأنف الجميع في الرغام» 
وصاحت نخديجة عندما تلقث النبا ديا خير أسود». ثم 
قالت لعائشة «منذا يلوم نينة بعد الآن؟ إِنْ قلبها لا 
يكذّْبها أبدّاه» وأقسم ياسين ‏ بين يدي أبيه ‏ على أن 
الأمر وقع على غير عِلّم مئه ولا من زوجهء وأنّه أحزنها 
حنًا فاق كلّ تصوّرء ولكن ما حيلتها؟! وم تقف 
الفضيحة عند هذا الحدٌء فإنّه ما كادت زوجة بيومي 
الأولى تعلم بالخبر حبّى طاش عقلهاء فغادرت بيتها 
كالمجنونة سائقة أمامها ذرّيّتها جميعًاء ثم انقضت على 
بيومي في دكانه» فنشب بينهما عراك عنيف استعمل فيه 
اللسان واليد والقدم والزعتّ والصراخ على مرأى 
ومسمع من الأطفال الذين جعلوا يعولون ويستنجدون 
بالمارّة حيّ تجمهر الناس أمام الدكان السابلة 
وأصحاب الدكاكين والنساء والأطفالء فخلّصوا بين 
الروجين وجرّوا المرأة جرًا إلى الطريق» فوقفت تحت 
مشربيّة مبيجة مشقوقة الجلباب بمزقة الملاءة منفوشة 
الشعر دامية الأنفء ثم رفعت رأسها إلى الشوافك 
المغلقة وأطلقت لساها كالسوط المحمّلة أطرافه 
بالرصاص المنقوع في السم. والأدهى من هذا كله أنْا 
برحت موقفها رأسًا إلى دكان السيد أحمد بصفته والد 
زوج بنت زوجهاء وتوسشلت إليه بلهجة خطابية باكية 
أن يستعمل نفوذه لإقناع زوجها في الرجوع عن غيه. 
فاستمع السيّد إليها وهو يكظم غيظه وحزنه على ما آل 
إليه أمرهء ثم أفهمها برقّة ‏ ما استطاع ‏ أنْ هذا الأمر 
كله خارج عن دائرة نفوذه بخلاف ما تتصوّرء وما زال 
استق عير فواارظن لذ كانه ومو يقل دع للف عل 
أنه رغم حنقه فكر طويلا وهو بين الحيرة والتساؤل فيه 


قصر الشوق “/9؟ 


دفع ببيجة إلى هذا الزواج الغريب» نخاصة وهو يعلم 
علم اليقين أنه لم يكن يعر عليها إرضاء قلبها لو كان 
به رغبة إلى بيومي الشربتل دون حاجة إلى تعريضص 
نفسها وآها لشب الفلاقل بالاقتران منه؛ لم أقدمت على 
هذه الحاقة غير مبالية بزوج الرجل وعياله ولا عابئة 
بعواطف ابنتها وآلا الجدد كأتما قد أصاببا مسٌ؟ ألا 
يكون الإحساس المحزن بالكبر هو الذي جعلها تفزع 
إلى الزواج» بل والتضحية بكثير مما تملك جريا وراء 
سعادة كان يضمنا لما الشباب الذي تخل عنها؟ تأمل 
هذه الفكرة في حزن واكتئاب. وذكر مذلّته بين يدي 
زنوبة العوادة التى أبت أن تجود عليه بنظرة عطف حبق 
حملها إلى العوّامة. تلك المذلة الى زعزعت ثقته بنفسه 
وحملته - على طمانينته الظاهرة ‏ على التجهم للزمان 
الذي سبق فتجهمه. 

على أي حال لم تتمبّع بهيجة بزواجها طويله! ! 

مع خباية الأسبوع الثالث منه شكت دمل قُْ 
ساقهاء ثم تبين بالكشف الطبَيَ أنها مصابة بمرض 
السكر فثقلت إلى قصر العيني» وترامت الأخبار عن 
خطورة حاطا أيّاّاء ثم وافاها الأجل المحتوم . 


- ١7 

أمام سراي آل شدّاد وقف كمال متأبطًا حقيبة 
صغيرة» في بدلة رماديّة أنيقة» وحذاء أسود لامع 
وقد استقام طربوشه فوق رأسه الكبير. . . بدا طويلا 
نحيفاء وبرز عنقه من فوق بئيقة القميص غير عابي 
بحمل الرأس الكبير والأئف العظيم . وكان الخو لطيمًا 
تتخلله نسائم باردة تؤذن باقتراب ديسصيرء وكان في 
السياء سحاب متفرّق ناصع البياض يتحرّك وانيا 
فيحجب شمس الصباح حيئا بعد حين. وقف كيال 
وقفة المنتظر وعيناه متجهتان نحو الجراج» حتّى خرجت 
منه الفيات يسوقها حسين شداد ثم دارت في شارع 
السرايات ووقفت أمامه. وأخرج سين شذاة:.راسهة 
من نافذتها وهو يسأل كمال : 

ألم تبيئا بعد؟ 

“نفخ في البوق ثلاثّاء ثم عاد يقول وهو يفتح الباب : 


قصر الشوق 


تعال اجلس إلى جانبي. . . 
ولكنّ كمال اكتفى بإدخال الحقيية وهو يغمغم 
«صبرً). وترامى إليه صوت بدور من ناحية اللحديقة, 
فالتفت صوبه فرآها مقبلة تركض وفي أثرها عايدة. . 
أجل » المعبودة تحطر بقوامها البديع في فستان سنجابي 
قصير على أحدث موضة, توارى أعلاه تحت دراعة من 
الحرير كحليّة اللون كشفت عن ساعديبا الخمريتِين 
الصافيتين: وكانت هالة شعرها الأسود تحدق بقذالتها 
وعارضيها وتئوس بحركة مشيتها نوسانًا تموجيًاء أما 
أسلاك قصّتها الحريريّة فاستكنت على الحيين كأسنان 
المشطء وفىي وسط هذه المالة بدا الوجه البدريّ في 
طابع من الحسن أنيق ملائكيّ كانه سفير سام لدولة 
الأحلام السعيدة. تسمر في موضعه تحت تأشير التيار 
المغناطيسيٌ» على حال بين اليقظة والنوم؛ ولم يبقّ من 
الدنيا في وعيه إلا عاطفة امتنان ووجيشة وجدان. 
وجعلت هي تقترب في خفة وتبختر كأئْها نغمة حلوة 
مجسمة حيّى سطعه من أعطافها عبير باريسيء. ولما 
القت الأعين لمعت في ناظريها وشفتيها المضمومتين 
ابتسامة موسومة بالبشاشة والهدوء والأرستقراطية معا 
فرد عليها كال بابتسامة حائرة وسجدة من رأسه. عند 
ذاك خاطبها حسين قائلا: 
- اجلسي أنت وبدور في المقعد الخلفي . 
تأخر كيال خطوة ففتح باب السيّارة الخلفيَ ووقف 
منتصب القامة كأحد الحاشية» فكانت مكافأته ابتسامة 
وكلمة شكر بالفرنسية. وانتظر حي دخلت بدور 
فالمعبودة» ثم أغلقه واندسٌ إلى جانب حسينء ونفخ 
حسين مرّة أخرى وهو ينظر صوب القصرء فا لبث أن 
جاء البوّاب حاملا سلّة صغيرة فوضعها لصق حقيبة 
كال فيها بينه وبين حسينء فقال الأخير ضاحكا وهو 
ينقر بأصبعه على السلة والحقيبة : 
ما جدوى رحلة بلا طعام؟ ! 
وزمجرتث السيارة وهي تتحرك, ثم انطلقت إلى 
شارع العباسيّة وحسين شدّاد يقول مخاطبًا كيال: 
- عرفت عنك أشياء كثيرة» اليوم يتاح لي أن 
أضيف إليها معلومات جديدة عن معدتك؛» ويبدو لي 


أننك رغم نحافتك أكول» فهل تراني مخطنًا؟ 

فقال كيال باسمّاء وكان سعيدًا منشرحًا فوق مطمح 
الك 

انتظر حبّى تعرف بنفسك . . . 

سيّارة واحدة محملهما معاء مشاركة من نوع ما تعز 
فيا عدا الأحلامء همس الأماني: لو جلست أنت في 
المقعد الخلفيَ وجلست هي في المقعد الأماميّ لمأت 
عينيك منها طوال الطريق ولا رقيب. لا تكن طمَاتًا 
جحودًا واسجد حمدًا وشكراء استنقذ رأسك من شي 
الفكر وخلّص نفسك من ثيّار الوجد وعش بكلّ 
وعيك في الساعة الراهنة» أليسث ساعة بالعمر أو 
أكثر؟ 

- م أستطع أن أدعو حسن وإسماعيل إلى رحلتنا 
هله! 

نظر كمال إليه كالمتسائل دون أن ينبس . بيد أنّ قلبه 
خفق في سرور وحياء هذا الامتياز الذي خُصٌ به 
وحده؛ على حين استطرد حسين قائلا بلهجة المعتذر: 

- السيارة ا ترى لا يمكن أن تتسع للجميع. . . 

فقال كال بصوت خافت: 

هذا واضح . , . 

فعاد الآخر يقول باسما: 

- وإذا لم يكن من الانتخاب بد فانتخب من 
يشاببك. ولا شك أنْ ميولنا متقاربة في هذه الحياة, 


أليس كذلك؟ 
فقال كال بواجةه وشت أساريره بالفرحة الي غمرت 
قلبه : 


5008 

ثم وهو يضحك : 

- غير أني قانع بالرحلة الروحيّة. أمّا أنت فيبيدو 
أنك لن تقنع حيٌّ تصل الرحلة الروحية بالرحلة حول 


الأرض. . . 
- ألا تهفو نفسك إلى السياحة في جنبات الأرض 
الواسعة؟ 


فكر كال قليلاء لم قال : 
- ييل إل أن مطبوع على حبٌ الاستقرار وكأ 


أجفل من فكرة الرحلات؛ أعني من الحركة 
والاضطراب لا من الرؤية والاستطلاع» وددت لو كان 
من الميسور أن يطوف بي العالم حيث أنا! 

ضحك حسين شداد ضحكته اللطيفة المنبعثة من 
القلبء وقال: 

قف في منطاد ثابت إن استطعت, وانظر إلى 
الأرض وهي تدور من محتك!] 

قَلّ كال ضحكة حسين اللطيفة الجذّابة مليّاء 
فوردت ذهنه صورة حسن سليم وراح يقارن بين 
هذين اللونين من الأرستقراطيّة: أحدهما يمتاز باللطف 
والبشاشة» والآخر ينسم بالتحفظ والكبرياء. وكلاهما 
بعد ذلك جليل. وقال كيال: 

من حسن الخظًا أنْ الرحلات الفكريّة لا تقنضي 

فرفع حسين شدّاد حاجبيه فيا يشبه الشك. غير 
أنه عدل عن متابعة الموضوع قائلا بابتهاج: 

- المهمٌ الآن أنّنا نقوم برحلة قصيرة معّاء وأنْ ميولنا 
متقاربة في هذه الحياة. . ْ 

وما يدري إلا والصوت العذب يجبيء من الوراء 
قائلا : 

- وبالاختصار فَإِنْ حسين يحّك كما تحبك 
بدور. . . ! 

نفذت هذه الحملة المعظرة بالحبٌ الملخئة بالصوت 
الملائكيئ في قلبه فطيرته نشوة وطرباء كالنغمة الساحرة 
التي تند فجأة في تضاعيف أغنية فوق المنتظر والمألوف 
والمتخيّل من الأنغامء» فتترك السامع بين العقل 
والحنون. المعبود يعبث بألفاظ الحبت سادراء يلقيها 
عليك غافلا عن أنّه يلقي مغنسيومًا على قلب يحترق» 
استرجم صداها لتستعيد رنين الحبٌ في أوتار ثغره» 
والحبّ لحن قديم غير أنه يضحي جديدًا عجبًا في 
ترنيمة خالقة» يا إلحي؟! إِنْنى أفنى من فرط السعادة. 
قال حسين معلْقًا على قول أخته: 

عايدة تترجم أفكاري بلغتها النسائية الخاصة. . . 

انطلقت السيّارة إلى السكاكينى فإلى شارع الملكة 
نازلي ثم إلى شارع فؤاد الأؤل» ومنه مرقت إلى 


الزمالك في سرعة عدّها كيال جنونيّة : 

- في السماء غيمء ولكنًا في حاجة إلى مزيد منه 
لنضمن غبارًا سعيدًا في سفح الغرم . 

وعلا الصوت البديع وهو يخاطب بدور فيها بدا 
قائلا : 

انتظري حبّى نصل إلى الحرم. وهنالك اجلسي 
معه كيفم| يحلو لك. . . 

فسالا حسين ضاحكا: 

ماذا تريد بدور؟ 

تريد يا سيّدي أن تجلس مع صاحبك. . . 

صاحبك! ل لم تقول «كيال»؟ هلا أسعدت الاسم 
بما لا يطمح إليه صاحيه؟ وخاطبه حسين قائلا : 

أمس سمعها يابا وهي تسألبي: هل يجيء معنا 
أنكل كيال إلى الهرم؟ فسألني من يكون كيال؟ ولا 
أجبته ساها: «أتحيين أن تتروجي أنكل كيال؟»؛ فأجابته 
بكل بساطة «نعم [». 

فالتفت كبال إلى الوراءء ولكتها تراجعت حص 
التصقت بمسند المقعد وأخفت وجهها في كتف أختهاء 
فتزود كيال من الوجه البديع بنظرة خاطفة ثم أعاد 
رأسه. وهو يقول بلهجة الرجاء : 

- لعلّها عند الحدٌ لا تسى كلمتها! 

ولا بلغت السيارة طريق الجخيزة ضاعف حسين من 
سرعتها فعلا أزيزها وساد الصمت» رحب كيال 
بالصمت ليفرغ إلى نفسه ويتملٌ سعادته. كان أمس 
حديث الأسرة فاختاره رمّها زوجًا للصغيرة» يا أغاريد 
الزهور والسعادة. احفظ عن ظهر قلب كل كلمة 
تقال... املأ نفسك بعبير باريس» زود أذنك 
بالهديل والبغام» علّك تعود إليها إذا عبادت ليالي 
السهاد. كلات المعبودة عاطلة عن حكمة الحكماء 
ودرر الأدباء» فيا بالا عبرّك حيّى الأعياق وفي فؤادك 
تفجر ينابيع السعادة! هذا الذي جعل السعادة سرًا 
تتيه فيه العقول والأفهام, أبّا المجدّون اللاهثون وراء 
السعادة إني وجدتبا قي الكلمة الفارغة والرطانة 
الغامضة والصمت أيضًا وفي لا شيءء رباه ما أعظم 
هذه الأشجار الباسقة على الجحانيين تتعانق أعاليها فوق 


كلا" قصر الشوق 


الطريق فتنتشر سماء من الخضرة اليانعة» وهذا النيل 
الجاري مكتسبًا من وشي الشمس غلالة من اللالى» 
متى رأيت هذا الطريق آخخحر مرة؟ في رحلة إلى الهرم 
وأنا في السنة الثالثة» في كل رحلة عاهدت نفسي 
بالعودة إليه منفردّاء وراءك تجلس من ترى بوحيها كل 
شبىء جديدًا وجميلا حبّى مجرى الحياة الأثريّة في الح 
العو هل لك أمنية فوق ما أنت فيه؟ . . . نعم : أن 
تواصل السيارة انطلاقها على ذه الحال التي نحن 
عليها إلى الأبد. رباه أهذا هو الجانب الذي طلما 
أعياك وأنت تتساءل عا تريد من هذا الحبت؟ هبط 
عليك من وحي الساعة يكتنفه المحال. اسعد بالساعة 
المتاحة. ها هو الهرم يلوح من بعيد صغيراء وعمًا قليل 
تقف عند قدميه كالئملة عند أصل الشجسرة 
الفارعة, , . 

- نحن ذاهبون إلى زيارة قرافة جدّنا الأول! 

فقال كيال ضاحكا: 

لنقرأ الفاتحة بالهيروغليفيّة . . . 

فقال حسين ساخرًا: 

- وطن أجل تخلفاته قبور وجثث!... (وهو يشير 
صوب اطرم) انظر إلى الجهد الضائع. . . 

قال كيال بحراس : 

ذلك الخلود! . , . 

4 سوف تنشط كعادتك للدفاع» أنت وطني 
لد المرض» لن نختلف في هذاء ربا كان أحبٌ إل 
أن أكون في فرنسا من أن أكون في مصر. . . 

فقال كيال وهو يواري ألمه نحت ابتسامة رقيقة : 

ستجد هئالك الفرنسيينْ أعظم أمم الأرض 
وطنية!. . . 
- نعمء الوطنيّة مرض عاليّ» لكبّي أحبٌ فرئسا 
نفسهاء وأحبٌ في الفرنسيّين مزايا لا تمت إلى الوطنيّة 

هذا محرن مؤسف حمًا بيد أنه لا يثير حفيظته, لأنَّ 
صادر عن حسين شذاد... إساعيل لطيف يحنقه 
أحيانًا باستهانته... حسن سليم يغضبه أحيانًا 
بتكيره, . . أمَا حسين شدّاد فيحظى برضاه على أىّ 


حال من الأمر. 

وقفت السيّارة غير بعيد من سفح المرم الأكبر 
منضمّة إلى صف طويل من السيّارات الفارغة» ولاح 
خلق كثيرون هنا وهناك؛ تفرقوا جماعات صغيرة, 
ومنهم من امتطى حمارًا أو جملا أو تسلق الهرم » غير 
باعة وكارين وغالين» أركن واسيفة: له مد إل أن 
الهرم انطلق في وسطها كيارد خرافي» أمًا تحت المنحدر 
من الناحية الأخرى فقد ترامت المديئة» رءوس أشجار 
وخط مياه وأسطح عبارات. ترى أين يقع بين 
القصرين من هذا كله؟ والبيت القديم؟ أين أمّه وهي 
تسقي الدجاج نحت سشيفة الياسمين؟ 

- فلنترك كل شىء في السيّارة لنتجول أحرارًا. . . 

فاذووا متاق وكير امنا راعذ دا عن اتا 
بعايدة فحسين ثم بدورء وأخيرًا كال الذي أمسك بيد 
صديقته الصغيرة» وطافوا بالهرم الأكبر متفخصين 
أركانه ثم أوغلوا في الصحراء. وكانت الرمال تقاوم 
أقدامهم فتعرقل انطلاقهم. غير أن الهواء هفا لطيما 
مشا وراوضف الشمين بك الشليون والخم ان 
والتشرت تجمعات السحب في أفاق السماء ترسم قُْ 
اللوحة العلية صورا تلقائيّة تعبث بها يد الهواء كيفما 
انّفق. قال حسين وهو يملا رئتيه بالهواء : 

ورطنت عايدة بالفرنسية» فأدرك كيال بمعلوماته 
المحدودة في تلك اللغة أنها تترجم قول أخيهاء وكانت 
الرطانة عادة مألوفة لديهاء فَحمفت من غلوائه في 
التعصب للغته القوميّة من ناحيةء وفرضت على ذوقه 
كأمارة من أمارات الحسن النسائىّ من ناحية أخرى. 
قال كال بتأثْر» وهو يتأمّل ما حوله : 

جميل حشّاء سبحان الله العظيم! 

فقال حسين ضاحما: 

- إِنْك تجد دائمًا وراء الأمور إمّا الله وإِمّا سعد 
زغلول. . . 
أظنٌ أنه لا خلاف بيننا فيا يتعلّق بالأوّل! 

- ولكنْ دأبك على ذكره يضفي عليك مسحة ديئة 
خاصة كأنك من رجال الدين؛ (ثُمٌ بلهجة تسليم) فيمٌ 


العجب وأنت من حئ الدين؟! 

أتكمن وراء هذه الجملة سخرية ما؟ وهل يمكن أن 
تشاركه عايدة في سخريته؟ ترى ها رأبهما في الح 
القديم؟ وبي عين تنظر العبّاسيّة إلى بين القصرين 
والنحاسين؟ هل مشّك الخجل؟ مهلا إن حسين لا 
يكاد يبدي أي اهتمام بالدين» المعبودة فيها يبدو أقل 
اهتمامًا منه. ألم تقل يومًا ئها تحضر دروس الدين 
المسبيحيّ في المبر دي دبيه وإثها تشهد الصلاة ونترنم 
بأناشيدها؟ ولكنها مسلمة! مسلمة رغم أنْها لا تعرف 
عن الإسلام شيئًا يذكرا ما رأيك في هذا؟ أحبّها. 
أحبها لد العبادة» وأحبٌ دينها رغم وخخر الضمير. 
أعترف بهذا مستغفرا رى! 

أشار حسين بيده إلى ما يحيط بهم من آي الال 
والجلالء ثم قال: 

هذا ما يستهويني حماء أما أنت فمجئلون 
بالوطنيّة. قارن بين هله الطبيعة الجليلة وبين 
المظاهرات وسعد وعدلى واللوريات المحملة بالجنود! 

فقال كيال باسما: 

الطبيعة والسياسة كلتاهما شيء جليل!. . . 

تافل تفيية فحأة كاغا قل تذكز بتداعي المعاني 
أمرًا هاما : 

كدت أنسيى» لقد استقال زعيمك! 

فابتسم كيال ابتسامة حزينة ولم يجب» فقال الآشر 
بقصد إغاظته : 

استقال بعد أن ضيّع السودان والدستورء هه؟! 

قال كيال بهدوء لم يكن ينتظر منه في غير هذه 
الظروف: 

كان قَثّل سير لي ستاك ضربة موجّهة إلى وزارة 

د دعنى أكرّر على سمعك ما قاله حسن سليم؛ 
قال: إن هذا الاعتداء مظهر للكراهية التي يضمرها 
البعض - ومهم القتلة - للإنجليز» وسعد زغلول هو 
المسثول الأول عن تبيبج هذه الكراهية! 

كظم كال الغيظ الذي أثاره «رأي» حسن سليم في 
نفسهء وقال بالهدوء الواجب فى حضرة المعبودة: 


قصر الشوق 0/ا5 


- هذا هو رأي الإنجليزء ألم تقرأ برقيات الأهرام؟ 
فليس عجيبًا أن يردّده الأحرار الدستوريّونء إِنْ من 
مفاخر سعد أن يثير العداوة ضد الإنجليز. . . 

تدخلت عايدة متسائلة» وفي عينيها نظرة عتاب أو 
تحذير ماؤجتها ابتسامة جذابة: 

رحلة أم سياسة؟ 

فأشار كبال إلى حسين. وهو يقول معتذرا: 

إليك المسئول عن فتح هذا الموضوع . . . 

فقال حسين ضاحكاء وهو يتمخلل شعره الحريري 
الأسود بأصابعه الرشيقة : 

رأيت أن أقدّم تعزيتي في استقالة الزعيمء هلا 
كل ما هتالك! 

ثم متسائلًا بلهجة جدّيّة : 

ألم تشترك في المظاهرات الخطيرة التي كانت تقوم 
في حيكم على عهد الثورة؟ 

كنت دون السنّ القانونية! 

فقال حسين بلهجة لم تخل من سخرية لطيفة: 

على أ حال تُعدٌ واقعة دكان البسبوسة اشتراكا 
في الثورة! 

وضحكوا جميعاء حتّى بدور اشتركت في الضحك 
حاكاة لحم. فصدر عنهم أوركسترا رباعيّ مكون من 
بوقين وكبان وصفارة» وبعد هنيهة صمتء. قالت 
عايدة كأنا لتدافم عنه : 

كفاية أنه فقد أنخاه!. . . 

فقال كيال مدفوعًا بشعور الفخار الذي دب في 
قلبدء واستزادة من عطفههما: 

أجل. فقدنا شير أسرتنا. . . 

فعادت تسائله باهتيام : 

كان في الحقوق. . . أليس كذلك؟ كم كان يكون 
عمره لو عاش حي الآن؟ 

كان يكون في الخامسة والعشرين . . . (ثم بلهجة 
أسيفة). . . كان نابغة بكل معتى الكلمة. . . 

فقال حسين» وهو يفرقع بأصبعيه: 

كان!. . . هذه هي الوطنيّة. كيف تتعلق بها يعد 
ذلك؟! 


> قصر الشوق 


فقال كيال باسما: 

- سوف نكون جميعًا في خبر كان. ولكن شتّان بين 
ميتة وميتة! 

فرقع حسين بأصبعيه مرة أخرى دون تعليق» يبدو 
أنه لا يرى في قوله معنى. ماذا أقحم حديث السياسة 
عليهم؟ لم يعد به ما يسرّء شغل الشعب يعداوته 
الحزبيّة عن الإنجليزء سحفًا لهذا كله. يخلق يمن 
يتنسم الفردوس ألا يكرب صدره بهموم الأرضص» ولو 
إلى حين. أنت تمشي في معيّة عايدة في صحراء الهرمء 
تأمل هذه الحقيقة الرائعة واهنف بها حبّى تسمع بناة 
الهرم؛ معبود وعابده يسيران معا فوق الرمال» العابد 
من شدّة الوله يكاد يذروه الهواء والمعبود يتسل بعد 
الخصى. لو كان مرض الحبٌ معديّاء ما باليث يآلامه. 
المواء يفو بأهداب فستاها ويتخلل هالة شعرها 
ويسري في أعياق صدرها... ألا ما أسعد اطواء! 
أرواح العاشقين فوق اطرم تبارك القافلة معجبة بالمعيود 
راثية للعابد مردّدة بلسان الزمان: ليس أقوى من 
الموت إلا الهوى, تراها على بعد أشبار منك ولكتّها في 
الحقٌ كالأفق تخاله منطبقًا على الأرض وهو في ذروة 
السماء يحلق. . . كم منّيت النفس بأن تمس في هله 
الرحلة راحتهاء ولكن يبدو أنْك سترحل عن هذه 
الدنيا قبل أن تعرف مسّهاء لِم لا تكون شجاعًا فتهوي 
إلى انطباعة قدمها فتلئمها؟... أو تاحذ منها حفنة 
فتجعلها حجابًا يقي من آلام الحبٌ في ليالي الفكر؟ 
واأسفاه!! كل الدلائل تشير إلى أنه لا اتتصال بالمعبود 
الآ «الترايل أن اللتون» قرين أو ب 

شعر باليد الصغيرة تجذب يده فنظر إليهاء فرفعت 
نحوه ذراعيها داعية إياه إلى حملهاء فانحنى فوقها ثم 
رفعها بين يديه غير أنْ عايدة قالت معترضة : 

كلا بدأ التعب يساورناء» فلنسترح قليلا, . . 

على صخرة عند رأس المتحدر المفضي إلى أبي الهول 
جلسوا على نفس الثرتيب الذي ساروا عليه» مد 
حسين ساقيه غارزًا كعبيه في الرمالء» جلس كيال 
واضعًا رجلا على رجل ضامًا بدور إلى جنبه. على حين 
قعدت عايدة إلى يسار أخيها فتناولت مشطها وراحت 


تسح شعرها وتربت -خصلاته بأناملها. 

وحانت من حسين نظرة إلى طربوش كيال. فسأله 
منتقدًا : 

- لماذا تلبس الطربوش في هذه الرحلة؟ 

فنزع كمال طربوشه ووضعه في حجره قائلا : 

ليس من المألوف عندي أن أسير بدونه. . . 

فضحك -حسين قائلا : 

إِنْك مثال طيّب للرجل المحافظ! 

تساءل كيال: ترى هل يعني بقوله هدحًا أم ذما؟ 
وأراد أن يستدرجه للإيضاح» ولكنّ عايدة مالت إلى 
الأمام قليلا ملتفتة نحوه لتلقي نظرة على رأسه فنسي ما 
كان بسبيله. وتحول انتباهه إلى منطقة الرأس في قلق. 
إن رأسه يبدو الآن حاسرًا فيكشف عن ضخامته 
ويعرض شعره الأجرد العاطل عن الزينة» وها هصا 
العيئان الجميلتان ترئوان إليهء فأيّ أثر يعكسه عليهها؟ 
تساءل الصوت الموسيقي : 

لماذا لا تري شعر رأسك؟ 

سؤال لم يخطر له على بال من قبل» هكذا رأس 
فؤاد جميل الحمزاوي وجميم الرفاق بالحيّ العتيق . 
ياسين لم ير يطلق شعره وشاربه حبّى توظف. هل 
يتصوّر أن يلقى أباه كل صباح على مائدة الفطور بشعر 
مصفف؟ ! 

- ولم أربّيه؟ 

فتساءل حسين مفكدًا: 

آلا يكون أحمل؟ 

- ليس هذا بذي بال. . . 

حسين ضاحكًا: 
مدح أم ذمّء على أيّ حال ليهنا رأسك بالرعاية 
السامية . 

أنا خلقت لأكون طالبًا. . . 

- جواب جميل... (ثم رفع طبقة صوته 
متسائلا)... ل تحدّثني عن مدرسة المعلمين حديئًا 
شافيا» كيف وجدتبها بعد مرور ما يقرب من الشهرين؟ 

- أرجو أن تكون مدخلا لا بأس به للدئيا التي 


أتطلّع إليهاء وتراني أحاول الآن أن أعرف عن سبيل 
الأساتذة الإنجليز معاني للكليات المحترة مثل «أدب» 
و«دفلسفة» ودفكر». . . 

هذه هي الثقافة الإنسانيّة التي نتطلع إليها. . . 

فقال كمال بحيرة : 

- ولكتّبا خضمٌ مضطرب فيما يبدو ينبغي أن 
نعرف الحدود. ينبغي أن نعرف ما نريد على نحو 
أوضح » إنْبا مشكلة. . . 

لاح الاهتام في عيني حسين الجميلتين وهو يقول : 

الأمر بالنسبة إل لا يُعَدّ مشكلة, إني أقرأ قصصًا 
ومسرحيّات فرنسيّة مستعيئًا بعايدة على فهم الصعب 
من نصوصهاء وأستمع معها أيضًا إلى مختارات من 
الموسيقى الغربيّة تعزف هي بعضها بمهارة على البيانو 
وقد طالعت أنخخيًا كتابًا يلخص الفلسفة الإغريقية في 
يسر وسهولة. لست أبغي إلا السياحة للعقل 
والجسمء أمًا أنت فتريد أيضا أن تكتبء. وهذا 
يقنضيك أن تعرف الحدود والأهداف. . 

الأدهى من ذلك أي لا أدري فيم أكتب على 
وجه التتحديد! 

تساءلت عايدة بلهحة باسمة: 

أتريد أن تكون مَؤْلْمًا؟ 

فقال وهو يتلقّى موجة عالية من السعادة التي عت 
على البشر: 

عار عا اس 

شاعرًا أم نائرًا. . . (وهي تميل إلى الأمام لتتمكن 
من رؤيتة). . . دعي أن بفراستي . . . 

استنفدتٌ الشعر في مناجاة طيفك» الشعر لغتك 
المقدّسة فلا أمتهنه. غاضت دموعي ينابيعه في سواد 
الليالي؛ ما أسعدني في مرمى ناظريك وما أتعسني» إني 
أت عرف تفكك كي قي ابافة قله الكسسن .+ 

شاعرء أجل أنت شاعر. . . 

حمًا؟ كيف عرفت هذا؟ 

اعتدلت في جلستهاء فندذت عنها ضحكة خافتة 
كأنها وسوسة الأماني. ثم قالت: 

الغراسة بداهةء فكيف تطالب بتفسير لها؟! 


قصر الشوق 9/4 


- إثها تعبث! 

قال حسين ذلك وهو يضحكء. فبادرت تقول: 

كلا إذا كان الشاعر لا يعجبك فلا تَكنّه, , . 

النحلة فطريها الطبيعة ملكة, البستان مغناهاء 
رحيق الزهر شرابهاء الشهد نفثهاء وجزاء الآدمي 
الطائف بعرشها. . . لسعة وى .ب نيا قالت وكلى . 
عادت تسأله: 

هل قرأت من القصص الفرنسيّة شيئًا؟ 

- بعض ما ترجم عن ميشيل زيفاكوء لا أستطيع 
أن أقرأ الفرنسيّة كما تعلمين. . . 

فقالت بحاس : 

لن تكون مِؤْلّقًا حيّى تنقن الفرنسيّة» اقرأ بلزاك 
وجورج صاند. ومدام دي ستال ولوتيء واكتب بعد 
ذلك قصّة. . . 

فقال كمال باستنكار: 

قصّة!؟ إنْبا فنّ على الهامش, إنما أتطلم إلى عمل 
جِذَي. . . 
فقال حسين جادًا : 

القصّة في أوربا عمل جدّيّ» ثمّة كتاب يتفرّغون 
لها دون غيرها من فنئون الكتابة فترفعهم إلى درجة 
الخالدين» لست أهرف با لا أعرف». ولكن أستاذ 
اللغة الفرنسيّة أكد لي ذلك. . . 

هر كال رأسه الكبير في شك» فاستطرد حسين 
قائلا : 

حاذر أن تُغضب عايدة» إِنْبا قارئة معجية بالقصة 
الفرنسيّة» بل إثها بطلة من بطلاتها! 

فيال كمال إلى الأمام قليلاء ومدّ إليها بصره ليقرأ 
ثر قول حسين فيها مغتئمًا الفرصة المتاحة ليملا عينيه 
من منظرها البهيج » ثم تساءل : 

كيف كان ذُلك؟ 

- إن القصّة تستغرقها استغراقا غريباء فرأسها 
مفعم بحياة خياليّة» مرّة رأيتها تختال أمام المرأةق 
فسألتها عرًا بها؟ فأجابتني «هكذا كانت تسير أفروديت 
على ساحل البحر بالإسكندرية!). 

قالت عايدة وهي تقطب تقطيبة باسمة : 


6 قصر الشوق 


لا تصدّقه, إِنه أغرق مي في الخيال, ولكنه لا 
يرتاح حتى يرميني بما ليس في. .. 

أفروديت؟... ما أفروديت يا معبودتي؟! يحزنني 
وحقّ كالك أن تتخيّلٍ نفسك في صورة غير ذاتك! 

قال بإخلاص: 

لا عليك من هذاء إن أبطال المنفلوطي وريدر 
هجارد يستأثرون بخيالي. . . ! 

فضحك حسين ضحكة رائعة. وهو مبتف: 

ما أحرى أن يجمعنا كتاب واحد! لاذا نبقى على 
الأرض ما دمنا مفو هكذا إلى الخيال؟ عليك أنت أن 
تحقق هذا الحلم. لست كاتبًا ولا أريد أن أكون كاتباء 
ولكن في وسعك أنت أن تجمعنا إذا شئت في كتاب 
واحد. 

عايدة في كتاب تكون أنت مؤلّفه! صلاة أم تصوّف 
أم جئون؟! 

وأنا؟ ! 

علا صوت بدور فجأة متسائلا في احتجاج فضجٌ 
ثلائتهم بالضحك, وقال حسين في هجة تلبيه : 

لا تنس أن تحجر مكانًا لبدور! 

فقال كيال وهو يضم الصغيرة بساعده في حنان : 

- ستكونين في الصفحة الأولى. .. 

تساءلت عايدة وهي ترمي بناظريها إلى الآفق : 

ماذا تكتب عنّا؟ 

لم يدر ماذا يقول. فدارى ارتباكه بضحكة وانية 
ولكنّ حسين أجاب عنه قائلة : 

- كما يكتب المؤلفون؛ قصة غراميّة عنيفة تنتهي 
بالموت أو الانتحار! ْ 

يقذفون كرة قلبك بالأقدام وهم يلعبون. 

- أرجو أن تكون هذه النباية من نصيب البطل 
وحله؟ 

قالتث عايدة ذلك ضاحكة. 

البطل أعجز من أن يتصور معبوده فانيّاء وتساءل: 

- هل حنم أن تنتهي بالموت أو الانتحار؟ 

فأجاب حسين ضاحكا: 

- هي النباية الطبيعية لقصة غرام عنيف! 


فرارًا من الألم أو ضنًا بالسعادة تراءى الموت أمنية. 
قال كالساخر: 

على ل سم دما 0 

أل كن قرت هذا يدو اتلك 1 خزب: العراة 
بعل. . . ! 

من الحظات الحياة اللحية لحظة يقوم البكاء فيها مقام 
البنج في العمليّة الحراحيّة» وعاد حسين يقول: 

- المهمٌ عندي ألا تسبى أن تحجز لي مكانًا أيضًا في 
كتابك ولو كنت بعيدًا عن الوطن. . . 

حدجه كمال بنظرة طويلة» ثم سأله : 

ألا تزال تراودك فكرة السفر؟ 

فانساب الحدٌ في لهجة حسين شدّاد. وهو يقول: 

- كل ساعة. أريد أن أحياء أريد أن أسيح على 
وجهي طولا وعرضًا وارتفاعًا وعمقّاء ثم ليات الموت 
بعل ذلك , . . 

وإن جاء قبل ذلك؟ هل يمكن أن يحدث هذا؟ ما 
للحزن يكاد أن يقتلك؟ أنسيت فهمي؟ الحياة لا 
تقاس بالطول والعرض دائمّاء كانت حياتك لمحة 
ولكتّها كانت كاملة؛ أو فما جدوى الفضيلة والخلود؟ 
لكك حزين لسبب آخرء كأئما عزّ عليك أن يبون 
فراقك على الصديق المتشوق إلى السفرء كيف تكون 
دنياك من بعده؟ كيف تكون إذا حال رحيله بينك 
وبين القصر الحبيب؟ ما أكذب ابتسامة اليوم. إنّها 
الآن قريبة» صوتها في أذنك وعبيرها في أنفك فهل 
تستطيع أن توقف عجلة الزمن؟ هل تعيش بقيّة العمر 
حائا من بعيد حول القصر كالمجانين. . . 

إن أردت رأبي فأججل سفرك حتّى نتم 
وواسكلكت: ... 

فقالت عايدة بحاس : 

هذا ما قاله له بابا مرارًا, . . 

هو الرأى الصواب . . 

فتساءل حسين متهكمًا : 

- أمن الضروريّ أن أحفظ المديّ والرومانٌ كي 
أتذوق حمال دنياي؟ 

عادث عايدة تخاطب كيال قائلة : 


- شد ما يسخر أبى من أحلامه. إِنْه يتم أن يراه 
قضائيًا أو عاملا معه في دنيا المال. . . 

القضاء. . . المال! لن أكون قضائيًاء حيّ إذا 
نلت الليسانس وفكرت جدّيًا في اختيار وظيفة فسيكون 
السلك السياميّ وجهتي. أما المال فهل تطمعون في 
مزيل منه؟ إنّنا أغنى مما يطيق الانسان. . . 

ما أعجب أن تكون ثروة الإنسان أعظم مما يطيق» 
قديمًا تخيّلت أن تكون تاجرًا كأبيك وأن تملك خرانة 
كخزانته؛ لم تعد الثروة من أحلامك, ولكن ألا تتمقٌ 
أن تكون قادرًا على تجريد نفسك للمغامرات الروحيّة؟ 
ما أتعس حياة تستغرقها مطالب الرزق. 

- إن أسرتي جميمًا لا تفهم آمالي. يرونني طفلا 
مدللاء قال خالي مرّة متهكمً) على مسمع مث «لا ينتظر 
أن يكون الذكر الوحيد في الأسرة خيرًا من هذا». لم 
هذا كلهي لأن لا أعبد المال ولأنّني أوثر اللحياة عليه 
أرأيت؟! إن أسرتنا تؤمن بِأنْ أي نشاط لا يؤدّي إلى 
أيّ زيادة في الثروة ضرب من العبث الباطل» وتراهم 
يحلمون بالألقاب كاأها الفردوس المفقود. أتدري لم 
يحون الخديو؟ طلما قالت لي ماما: «لو بقي أفندينا 
على العرش لثال أبوك الباشويّة من زمن بعيدى: والمال 
العزيز يبون وينفق بلا حساب في استقبال أمير إذا 
شرّفنا بزيارته. . . (ثمم وهو يضحك). . . لا تنس أن 
تسجّل هذه الغرائب إذا فرغت يومًا لتأليف الكتاب 
الذي اقترحته عليك , 

لم يكد يفرغغ من حديثه حتّى بادرت عايدة تخاطب 
كيال قائلة : 

- أرجو آلا تتأثّر في تأليفك بتحامّل هذا الأ العاقٌ 
حتّى لا تظلم أمرتنا! 

فقال كبال بلهجة ساجلة : 

معاذ الله أن ينال أسرتك ظلم على يدي! وفضلا 
عن ذلك فليس فيا قال ما يشين. , . 

فضحكت عايدة في ظفر؛ على حين ارتسمت على 
شفتى حسين ابتسامة ارتياح رغم ارتضاع حاجبيه 
كالداهش . وكان الأثر الذي تركه حديث حسين في 
نفسه أنه لى يكن صادقًا كل الصدق في حملته على 


قصر الشوق +4١‏ 


أسرته. أجل لم يشكٌ في قوله أنه لا يعبد المال وأنّه 
يؤئر الحياة عليهء وأبى - إلى ذلك أن يُرجع هذا 
508 إلى ورة الملل وحدها ولكن إلى انّساع أفق 
صاءحية ولا ما دام الثراء لا يحول دون عبادة المال عند 
الكثيرين ولكنّه خيّل إليه أنْ ما ورد في حديئه عن 
الخديو والألقاب واستقبال الأمراء إِتما ورد على سبيل 
الفخر المدغم في الانتقاد: لا الفخر وحده ولا الالتقاد 
وحدهء كأنما كان يفائخر بها بقلبه وينتقدها بعقلهء أو 
لعلّه كان يسخر منها حمّاء ولكّه لم يجد غضاضة في 
التشهير بها أمام شخص لا يسك في أثْها تبهره وتفتنه 
مهما يكن من يجاراته له في انتقادها. عاد حسين 
يتساءل في هدوء بأسم : 

أيّنا سيكون يطل الكتاب» أنا أم عايدة أم بدور؟ 

هتفت بدور «أنا!»» فقال ما كمال وهو يشدٌ عليها 
«اتفقنا». . . ثم أجاب محسين : 

- سيبقى هذا سرًا حيّى يولد الكتاب! 

- وأيّ عنوان ستختار له؟ 

- حسين حول العالم ! 

فضجٌ ثلاثتهم بالضحك بما ذكّرهم هذا العنوار 
المفتوح باسم تمثيلية «البربريّ حول العالم» التي كانت 
تثّل في الماجستيك», وسأله حسين بالمناسبة قائلًا: 

ألم تعرف الطريق إلى المسرح بعد؟ 

كلاء في السينم) الكفاية الآن. , . 

قال حسين مخاطنًا عايدة: 

- إن مؤلف كتابنا غير مسموح له بالسهر حارج 
ألبيت إلى ما بعد التاسعة مساء] 

فقالت له عايدة متهكمة : 

- على أي حال فهو خير من الذين يسمح لهم 
بالطواف حول العالم! 

ثم التفنت صوب كمالء وسآلته برقة خليقة بجذبه 
إلى رأبها سلمًا: ٍ 

عا آم العوب» ححا أن يت أنه أن عيضا ابنه عن 
مثاله في النشاط والجاه؟! أمن العيب أن سعى في 
الحباة إلى المال والحاه والألقاب والقيم العالية؟ 

ابقي حيث أنت. يسعى إليك المال والحاه والألقاب 


8 قصر الشوق 


والقيم العالية كي تسمو جميعا بلثم موطئ قدميك, 
كيف أجيب وني الجواب الذي تودّين انتحاري؟ يا 
وبح قلبك من مرام لا يرام ! 

لا عيب في هذا أبذا. . . (ثم بعد انقطاع قصير) 
على شرط أن يوافق مزاج الشخص! 

فاستطردت قائلة : 

- وأيّ مزاج لا يوافقه هذا!؟ والعجيب أن حسين 
لا يزهد في هذه الحياة الرفيعة طموحًا إلى ما هو أرفع 
منباء كلا يا سيّدي» إِنّه يحلم بأن يجيا بلا عمل. في 
فراغ وبطالة! أليس هُذَا بعجيب!؟. . 

تساءل حسين ضاحكا في سخرية: 

ألا يعيش هكذا الأمراء الذين تعبدونهب؟ 

- لأنه ليس فوق حياتهم حياة يتطلع إليهاء أين 
أنت من أولئك يا تنبل؟ 

التفت حسين ناحية كال قائلا بصوت لم يل من 
أثر للغيظ : 

القاعدة المّعة في أسرتنا هي العمل على زيادة 
الثزوة ومصادقة ذوي النفوذ فتأمل من وراء ذلك في 
رتبة البكويّة» وعليك بعد ذلك مضاعفة الجهد لاماء 
الثروة ومصادقة النخبة الممتازة حي تنال الباشويّة. 
وأخيرًا أن تجعل غايتك العليا في الحياة التودّد إلى 
الأمراء والقناعة بذلك ما دامت الإمارة لا تال بالعمل 
أو اللباقة» أتدري كم كلفتنا زيارة الأمير الأخيرة؟ . . 
عشرات الألوف من الجنيهات ضاعت في ابتياع أثاث 
جديد ونحف نادرة من باريس! 

فعارضته عايدة قائلة : 

- لم يُنفق ذلك امال تودًا لأمير من حيث هو أمير 
فحسبء ولكن لكونه شقيق الخنديوء فالدافع إلى 
المجاملة كان الوفاء والصداقة لا التودّد والزلفىء وهو 
بعد شرف لا يماري فيه عاقل . 

ولكنّ حسين تمادى في عناده قائلا: 

- ولكن بابا لا يفتأ يود علاقته بعدلي وشروت 
ورشدي وغيرهم تمن لا يمكن أن يُتَهموا بالإخلاص 
للخديوا! . . . أليس في ذلك تسليم بالحكمة القائلة بأنّ 
الغاية تبر الواسطة؟ . . 


ى مسا 1د 

هتفت به بصوث لم يسمعه من قبل») بصوت نم 
عن الكبرياء والاستياء والتأنيب». كأمًا أرادت أن تنبهه 
إلى أنْ هذا الكلام لا يجوز أن يقال أو في الأقل أن 
بجهر به على مسمع من «غريب» فاحمرٌ وجهه حجلا 
وألمًا وفترت السعادة التى حلّق في أجوائها ساعة 
بالاندماج في هذه الأسرة الحبيبة. وكانت هامتها 
مرفوعة وشفتاها مضمومتين وف عينيها نظرة موحية 
بالتقطبب وإن ل يلمح له أثر في جبينهاء كانت بالجملة 
غضبى ولكن كما يخلق بالملكة العريقة أن تغضب. ولم 
يكن رآها من قبل منفعلة» ولم يكن يتصور أنْها 
تنفعل» فرنا إلى وجهها في دهش وارتياع» وامتلاً 
إحساسا بالحرج حبّى ود لو ينتحل عذرًا يتدحى به عن 
متابعة الحديث. ولكن لم يمض عل ذلك ثوان حي 
أفاق من غشيته وراح يتمل جمال الغضب اللملكى في 
الوجه الملائكيّ» ويتذوّق لفحة الكبرياء واستعلاء 
الاباء وتجهم السماء؛ ثم عادت كأنًا لتسمعه هو: 

- إن صداقة بابا لمن ذكرت تعود إلى تاريخ قديم 
سابق على خلع الخديو, . . 

عند ذلك رغب كمال صادقًا في أن يبدّد هذه 
السحابة» فساءل حسين مداعنا: 

- إذا كان هذا رأيك فكيف تحتقر سعد لأنّه كان 
أزهريًا؟ 

فضحك حسين ضحكته الصافية وهو يقول: 

- إن أكره التودّد إلى الكبراء. ولكن لا يعنى هذا 
أن أحترم العامة. . . إني أحبٌ الجمال وأزدري القبحء 
ومن المؤسف أن امال قلّ أن يوجد في العامّة!. . . 

ولكنّ عايدة تدخّلت في الحديث قائلة بصوت 
معتدل : 

ماذا تعنى بالتودّد إلى الكبراء؟ إِنّه سلوك يُعاب 
عل تكن لبس مني ولك التتانمن الكبراء لضا 
وليس توددنا إليهم دون تودّدهم إلينا, . . 

فتطوع كال للوجابة عن حسين قائلا بإيمان : 

هذا حقٌّ لا مراء فيه. . 

وما لبث أن بض حسين وهو يقول: 


د عنس | تاوما ,لهو “لوا همل الستو د 

هضوا فاستأئفوا السير متّجهين نحو أبي الول في 
جرٌ ظليل انتشرت تجمعات السحب في افاقه حت 
قائقت وسديت: القننش بكار شنافة فاكنى ديا 
لوا أبيفى ناصعا يقطر صفاء وملاحةء والتقوا في 
طريقهم بجماعات من الطلبة والأوربئين نساء ورجالاء 
فقال حسين مخاطبًا عايدة» ولعله أراد أن يسترضيها 
بطريق غير مباشر : 

إن الأوربيّات يتفرّسن في فستانك باهتمام. 
0000 

فافترٌ ثغرها عن ابتسامة عجب وارتياح» وقالت 
بلهجة تنم عن ثقة مكينة بالنفس وهي ترفع رأسها في 
كيرياء لطيف: 

فضحك حسين وابتسم كهال» ثم قال الأول 
يخاطب الآخخر: 

- عايدة تعد مرجعًا للذوق البارسي في حينا 
فقال كمال وهو لا يزال يبتسم : 

فكافاته عايدة بضحكة رقيقة حافتة كسجم الحامء 
مسحت عن قلبه الأثر الخفيف الذي تركه النزاع 
الأرستقراطي البديع!... العاقل من يعرف لقلمه 
قبل الخطو موضعها. فاعرف أين أنت من هؤلاء 
الملائكة, المعبود الذي يشرف عليك من فوق السحاب 
يتعالى حتّى على أهله المقرّبين.» فا وجه العجب في 
هُذا؟! ما كان ينبغي أن يكون له أهل أو أسرة» فلعله 
اخذهم ليكونوا وسطاء بين ذاته وبين عابديه,» أعجب 
به في هدوئه وحدته وتواضعه وتكثره وإقباله وإدباره 
ورضاه وغضبه. كل أولئك صفاته فارو بالعشق قلبك 
الظاميمء. انظر إليهاء إِنْ الرمال تعوق مشيتها فتوانت 
خفتها وانّسعت خطواتها وتمايل أعلاها كالغصن الثمل 
بالنسيم الواني ولكدّبا وهبت الأبصار صورة جديدة من 
محاسن المثى تضارع في جمالها مشيتها المعروفة فوق 
فسيفساء الحديقة» وإذا التفتٌ إلى الوراء فرأيت آثار 


فصر الشوق م 


القدمين اللطيفتين مطبوعة فوق الرمال. فاعلم أنْها 
تقيم معالم للطريق المجهول يبتدي بها السالكون إلى 
سبحات الوجحيد وإشراقات السعادة؛ في زياراتك 
السالفة هذه الصحراء كان مارك ينقضى في اللعب 
والوثب سادرًا عن نفحات المعاني لأنْ 57 قلبك م 
تكن تفتحت... أمّا اليوم فأوراقها نديّة بسرضاب 
الهموى تقطر ببجة وتئرٌ ألما فإن تكن سلبت طمانينة 
الجهالة فقد وهبت القلق السامي. . . حياة القلب 
وأنشودة النور. . . 

نذت الشكرى عن ثغر بدور. فقال حسين: 

آنْ لنا أن نعودء ما رأيكم؟! على أيّ حال أمامنا 

ولمًا يلغوا السيّارة احرج حسين الحقيبة والسلة 
المملوءتين بالطعام» فوضعههما على مقدّمة السيارة وراح 
يزيح الغطاء عن سلته. غير أنْ عايدة اقترحت أن 
يتناولوا الطعام على درجة من درجات الهرم» فمضوا 
إليه وارتقوا درجة من درجات الأساس فحطوا الحقيبة 
والسلّة في وسطهاء وجلسوا على حافتها تاركين 
أرجلهم تتدلى. بسط كيال جريدة كانت في حقيبته 
وطرح عليها الطعام الذي جاء به دجاجتين وبطاطس 
وجبنًا ومورًا وبرتقالا. كم تابع بيذي حسين وهو 
يستخرج من السلّة طعام «الملائكة»» فإذا به: 
سندوتشات أنيقة» وأكواب أربع. وترموث... ومع 
أنَّ طعامه كان أدسم فإنّه بدا في ناظريه على الأقل - 
عاطلًا عن حلية الأناقة فساوره قلق وحياء» وتساءل 
حسين وهو يرمق الدجاجتين بنظرة ترحاب عا إذا كان 
صاحبه قد أحضر أدوات مائدةء فأخخرج كيال من 
الحقيبة سكاكين وشوكًا وشرع يقطع الدجاجتين 
شرائح ع وهنا نزعت عايدة سدّادة الترموث وراحت 
تملأ الأكواب الأربع» فإذا بها تمتقّ بسائل أصفر 
كالذهب» فلم يملك كيال أن يسأل داهشًا: 

ما هذا؟ 

فضحكت عايدة ولم تجبء أمًا حسين فقال ببساطة 


وهو يغمز أنحته بعيله : 


15 قصر الشوق 


ةا 

- بيرة؟ !| 

هنف كيال الخائف, فقال حسين بتحدٌ وهو يشير 
إلى السندوتشات: 

وم خخنزير!. . . 

أنت تعبث بي!. لا أصدّق هذا. . . 

- بل صدّق وكُلُء يا لك من جحود! جثناك بأنفس 
ما يؤكل وأللْ ما يُشرب! 

أفصحت عينا كيال عن دهش وانزعاج». وانعقد 
لسانه فلم يدر ماذا يقول» وكان أشدٌ ما يزعجه أن 
هذا الطعام والشراب هر في البيت» وبالتالي عن 
علم أهله ورضاهم! 

ألم تذق شيئًا من هذا من قبل؟ 

- سؤال في غير حاجة إلى جواب . 

- إذن ستذوقه لأوّل مرّة» والفضل لنا! 

هذا محال. , , 

د له ؟ 

- لله؟!. سؤال في غير حاجة إلى جواب أيضًا. . 

رفع حسين وعايدة وبدور أكوابهم وشربوا جرعات 
ثم أعادوهاء ونظر الأوّلان إلى كمال مبتسمين كأنما 
يقولان له «أرأيت أنه لم يحدث لنا شيء!4» ثم قال 
حسين : 

الدين!. هه؟ كوب البيرة لا يسكر. وحم 
الخنزير كله لذّة وفوائد» لست أدرىي ما حكمة الدين 
في شئون الطعام! 

تقّص قلب كيال لوقع هذا الكلام» بيد أنه لم 
يخرج عن رقته وهو يقول معاتبا : 

خسان ال ل فا 

ولأوّل مرّة مذ افتتحت المأدية تكلّمت عايدة 
فقالت: 

لا تسئْ بنا الظن. نحن نشرب البيرة لفتح النفس 
ليس إلاء ولعلّ مشاركة بدور لنا تقنعك بحسن نيتنا 
ما لحم الخنزير فلذيذ جذّاء جرّبه ولا تكن حنبليا. لا 
تزال أمامك فرصة كبيرة كي تطيع الدين فيا هو أهمْ 
فين خلا كلس 


ومع أنْ كلامها لم يختلف في جوهره عن كلام 
حسين. فإنّه نزل على قلبه المتألم بردًا وسلاماء وإلى 
هذ! فقد صادف منه نفسًا حريصة كل الحرص على ألا 
تكدر لهم صفوا أو تخدش طم شعوراء فابتسم في 
تسامح رقيق » ومضى يتناول طعامه وهو يقول: 

دعوني اكل الطعام الذي آلفه. وأكرموني 
بالمشاركة فيه . 

ضحك حسينء ثم قال تخاطبا كبال وهو يشير إلى 
أنحته : 

- اتفقئا في البيت على أن نقاطع طعامك إذا قاطعت 
طعامناء ولكن ييل إل أنْنا لى نحسن تقدير ظروفك. 
على هذا فإنْني سأتحلل من ذلك الاثفاق إكرامًا لك. 
ولعل عايدة أن تقتدي بي... 

فنظر كيال نحوها برجاءء فقالت باسمة: 

ع إذا وعدت ال اتعىةالطان يكاج ] 

فمال كيال بابتهاج : 

- لا عاش من أساء بكم الظنْ. . . 

أكلوا بشهوة عظيمة» حسين وعايدة أوّلا ثم تشبجع 
كيال بها فتابعهماء وكان يقدّم الطعام بنفسه إلى بدور 
التي اكتفت بسندوتش وقطعة من صدر الدجاجة ثم 
أقبلت على الفاكهة, ولم يستطع كيال أن يقاوم الرغبة 
في استراق النظر إلى حسين وعايدة وهما يأكلان ليرى 
كيف يتناولان طعامههاء أما حسين فكان يلتهم الطعام 
دون مبالاة كأنّه متفرد غير أله لم يفقد طابعه الممتاز 
الذي يمثْل في عينيى كمال الأرستقراطيّة المحبوبة المنطلقة 
على سجيتهاء وأما عايدة فقد كشفت عن أسلوب 
جديد من الرشاقة والأناقة والتهذيب في طبيعتها 
الملائكية سواء في قطع اللحم أو القبض بأطراف 
الأنامل على السندوتش أو حركات الثغر عند المضغ, 
ومضى هذا كله يسيرًا هِيّنا لا أثر للتكلّف أو القلق 
فيهء الحقٌ أنّه انتظر هذه الساعة بتشوّف وإنكار كأنما 
كان في شك من أنْها تأكل الطعام كسائر البشر. . . 
ومع أنْ معرفته لنوع الطعام أزعجت ضميره الديؤئ أَئا 
إزعاح فإلّه وجد في «غرابته» وخروجه عن مألوف ما 
يتئاوله الناس الذين عهدهم مشاببة تربطه بأكله. 


فارتاح لها خياله الحائر المتسائل» وتناوبه شعوران 
متناقضان. قلق بادئ الأمر وهو يراها تقوم ببذه 
الوظيفة التى يشترك فيها الإنسان والحيوان» ثم داخله 
شيء من الارتياح لا قرّبت هذه الوظيفة بينه وبينها ولو 
درجة واحدة! على أنْ نفسه لم تعفه من علامات 
الاستفهام عند هذا الحد. فوجدها تدفعه إلى التساؤل 
عا إذا كانت تؤدّي سائر الوظائف الطبيعية الأخرى؟ لم 
يسعه أن يقول لاء ولم مبن عليه أن يقول نعمء 
فأضرب عن الإجابة وهو يعاني إحساسًا لم يعرفه من 
قبل تضمّن - فيا تضمّن ‏ احتجاجًا صامنًا على 
نواميس الطبيعة! 

إفي معجب بشعورك الدين ومثاليِتك 
الأحلافية . . 

نظر كال إليه في حذر المرتاب» فقال حسين 
بتوكيد : 

عن صدق تكلّمت لا عن دعابة. . 

ابتسم كمال في حياءء ثم أشار إلى ما تبقّى من 
السندوتشات والبيرة قائلا : 

بالرغم من هذاء فإِنْ احتفالكم بشهر رمضان 
يشوق كل وصف. أنوار تضاءء قرآن يتل في مهو 
الاستقبالء المؤدْنون يؤدْنون في السلاملك. هه؟ 

- إِنْ أب يحبي ليالي رمضان سبًا وكرامة واستمساكا 
بالتقاليد التي اتبعها جدّي» وإلى هذا فهو وماما 
يواظبان على الصوم. . . 

قالت عايدة باسمة : 

رو اي 

فقال حسين بجدٌّ أريد به السخرية: 

عايدة تصوم يومًا واحدًا من الشهرء ورتما أفلست 
قبيل العصر! 

فقالت عايدة على سبيل الانتقام : 

وحسين يأكل في رمضان أربسع وجبات يوميّاء 
الوجبات الثلاث المعتادة ووجبة السحور! 

فقال حسين ضاحكّاء وقد كاد الطعام يسقط من 
فيه لولا أن رفع رأسه بحركة سريعة: 

- أليس غريبًا ألا نعرف عن ديننا شيعًا ذا بال؟! لم 


يكن عند بابا وماما معلومات تستحقٌ الذكر. وكانت 
مربيتنا يونائية» وعايدة تعرف عن المسيحيّة وطقوسها 
أكثر مما تعرف عن الإسلام؛ نحن بالقياس إليك في 
حكم الوثنيين. .. (ثمٌ مخاطبًا عايدة). .. إنّه يقرأ 
القرآن والسيرة. . . ! 

فقالت بلهجة رئما دلت على شيء من الإعجاب: 

حمًا؟! برافوه ولكن أرجو ألا تسيء بي الظنّ أكثر 
تا ينبغىء فإني أحفظ أكثر من سورة. . ٠.‏ 

فغمغم كيال كا الم : 

بديعء بديع جدَّاء مثل ماذا؟ 

فكفت عن الأكل حيّى تتذكر. ثم قالت باسمة: 

- أعنى أني كنت أحفظ بعض السورء, لا أدري ماذا 
تبقّى منها. . . (ثُمّ رفعت صوتها فجأة شأن من تذكر 
شيئًا أعياه طلابه) مثل السورة التى يقول فيها إِنْ ربّنا 
واحد ألخ . . . ْ 

ابتسم كيالء وقدّم لها شريحة من صدر الدجاجة 
فتناولتها شاكرةء ولكنّبا اعترفت بأئها أكلت أكثر مما 
تأكل عادة. ثم قالت: 

- لو كان الناس يتناولون الطعام عادة كما في 
الرحلات لاختفت الرشاقة من الوجود. . 

فقال كيال بعد ترذد: 

إِنْ نساءنا لا تستهويينّ النحافة. . 

فوافقه حسين على رأيه قائلا: 

- ماما نفسها من هذا الرأي. ولكنّ عايدة تعد 
نفسها بأريسية. . . 

عفا الله عن استهانة معبودتي» شد ما أزعجت 
نفسك المؤمنة» كا أزعجتها من قبل خطرات الشكٌ 
التي صادفتها في مطالعتك» هل تستطيع أن تلقى 
استهانة المعبود بما لقيت به من خطرات الشكُ من نقد 
وغضب؟ هيهات., نفسك لا تنطوي لها إِلّا على الحبٌ 
الخالص. حيّى عيوبها فأنت تحبهاء عيوبها؟ لا عيب لها 
ولو كان ما بها نحفة في الدين واجتراء على المحرّمات» 
تلك عيوب لو وُجدت في غيرهاء أنخشى ما أخشاه آلا 
تروق في عينى حسناء بعد اليوم إذا لم يكن بها خفة في 
الدين واجتراء على المحرّمات. هل مسّك القلق؟ 


5 قصر الشوق 


استغفر الله لنفسك وفاء وقل إِنْ هذا كله عجيب. 
عجيب كأبي الهول» ما أشبه حبك به أو ما أشبهه 
بحبك» كلاهما لغز وخلود! ! 

أفرغت عايدة آخر ما في الترموث في الكوب 
الرابع» ثُمْ قالت لكال بإغراء: 

هلا غيّرت رأيك؟ ما هي إلا شراب منعش. . . 

فابتسم ابتسامة اعتذار وشكرء وعئد ذاك .حطف 
حسين الكوب ورفعه إلى فيه. وهو يقول: 

- أنا بدل كيال. .. (ثم وهو يتأؤه) . . 
نمسك وإلا متنا امتلاء. . . 

فرغوا من الطعامء ولكن فضل منه نصف دجاجة 
وثلائة سندوتشات. فخطر لكال أن يوزعها على 
الغلمان الذين يتجوّلون في المكان. غير أنه رأى عايدة 
وهي تعيد السندوتشات مع الأكواب والترموث إلى 
السلة» فلم ير بدا من أن يعيد بقيّة طعامه إلى الحقيبة 
وقد وردته ذكرى حديث إسماعيل لطيف عن الروح 
الاقتصاديّة لآل شُداد! ووثب حسين إلى الأرض وهو 


. يجب أن 


يقول: 

لدينا مفاجأة سارّة لك؛ أحضرنا معنا فونوغرافًا 
وبعضص الأسطوانات لتساعدنا عل ال هضم . سسهحم 
أسطوانات أوردية من مغتارات عايدة وأخرى مصرية 
مثل وحزر فرّرع. ووتعمد العشئ؛. ووحود من 
هنا . . , ما رأيك في هذه المفاحأة؟ , . . 


- 18 

انتصف ديسمبرء غير أن الجوٌلم يجاوز حدّ 

الاعتدال إلا قليلًا على رغم أن الشهر هلَّ بعاصفة من 
الرياح والأمطار والبرد القارص . وكان كمال يقترب من 
سراي آل شداد في خطوات متكدة سعيدة طارحًا 
معطفه المطويّ على ساعده الأيسر وقد دل مظهره 
الأنيق - خاصّة مع ملاحظة ميل الجر إلى الاعتدال - 
على أنه جاء بمعطفه استكمالا لمظاهر الأناقة والوجاهة 
أكثر منه حيطة لتقلب الجوقء وكانت شمس الضحى 
ساطعة فرجح عنده أنْ مجلس الأصدقاء سينعقد في 
كشك الحديقة ‏ لا في الثوى حيث يجتمعون في الأيام 


الباردة ‏ وأنّ الفرص بالتالي ستسنح لرؤية عايدة التي 
لا يتاح لقاؤها إِلّا في الحديقة. على أنَّ الشتاء إذا كان 
يحرمه من لقائها في الحديقة. فإنّْه لم يحل دون رؤيتها 
في النافذة المشرفة على الممرٌ الجانبي للحديقة أو في 
الشرفة المطلّة على مدخل القصرء في هله أو تلك 
عند مقدمه أو حال متنصرفه, رما لمحها وهي معتمدةٌ 
الحافة بمرفقيها أو مفترشة راحتها بذقنهاء فيرفع نحوها 
عينيه حانيًا رأسه في ولاء العابد» فترذ نحيته بابتسامة 
رقيقة ذات وميض يضىء لَه أحلام اليقظة وأحلام 
المنام. على أمل رؤيتها اختلس من الشرفة نظرة وهو 
يدخل القصرء ثم من النافذة وهو يقطع الممرٌ الحانبي 
ولكنه لم يجدها لا في هذه ولا في تلك. فانجه - وهو 
يمي النفس باللقاء في الحديقة ‏ نحو الكشك حيث 
رأى -حسين جالسًا بمفرده على غير العادة. تصافحا 
وقلبه يشرق ببهجة الموذة التى تبعثها في نفسه مطالعة 
هذا الوجه الصبيح » أليف روحه وعقله. واستمع إليه 
وهو يرحب به في لهجته المرحة الصافية قائلًا: 

أهلًا بالمعلّم! الطربوش والمعطف! لا تنس في 
المدّة القادمة الكوفيّة والعصاء أهلا. . . أهلا. . 

خلع كال طربوشه ووضعه على المنضدة» وطرح 
المعطف على كرسي وهو يتساءل : 

- أين إسماعيل وبحسن؟ 

- إسماعيل سافر إلى البلد مع والده فلن تراه اليوم . 
أمّا حسن فقد تلفن لي صباحا بأنه سيتاخر ساعة أو 
أكثر لكتابة بعض المحاضرات... أنت تعلم أنه 
طالب مثال مثل حضرتك؛ وهو مصمم على نيل 
الليسانس هذا العام. . . 

جلسا على كرسيّين متقابلين موليين القصر ظهريه|ا 
وقد وعد اتفرادهما كيال بجلسة هادثة لا شقاق فيها. 
جلسة يرحب صدرها بالتائلات غير أئْها ستخلو في 
الوقت نفسه من النضال المتعب اللذيذ معًا الذي يدعو 
إليه حسن سليم؛ والملاحظات التهكميّة اللاذعة التي 
يبعثرها إسياعيل لطيف دون حساب, استطرد حسين 
قائلا : 

آنا عل العكس منكيا طالب ردىء؛ أجل إن 


أستمع إلى المحاضرات مفيدًا من قدرتي على تركيز 
الانتباى غير أنِي لا أكاد أطيق مراجعة كتبي المدرسيّة 
قالوا لى كثيرًا: إن دراسة القانون تتطلب ذكاء نادرّاء 
الأحرى أن يقولوا: إنْبا تتطلب غباء وصبرًا. حسن 
سليم طالب مجدٌ شأن الذين يحدوهم الطموح. طالما 
تساءلت عا يجعله يحمل نفسه فوق ما تطيق من العمل 
والفنفرة وهو الو نشاءتت كامعالهمن ابناءء المتتشارون ب 
لقنع من العمل بما يكفل له النجاح اعتمادًا على نفوذ 
أبيه الذي سيضمن له في النهاية نيل الوظيفة التي 
يتطلّع إليهاء فلم أجد تفسيرًا لذلك إلا كبرياءه الذي 
يحبّب إليه التفوق ويدفعه إليه دفعًا لا هوادة فيه. أليس 
كزلك؟ ما رأيك فيه؟ 

قال كال في صدق: 

حسن شابٌ جدير بالاعجاب لخلقه وذكائه. . . 

سمعت أبي يقول مرّة عن أبيه سليم بك صبري : 
نه مستشار فل عادل» فيا عدا القضايا السياسيّة. . 

صادف هذا الرأي هوى في نفس كيال؛ لما سبق إلى 
علمه من تشيّع سليم بك صبري إلى الأحرار 
الدستوريين»؛ فقال ساخرا: 

معنى هذا أنه قانونٌّ بارعء ولكنّه غير أهل 
للقضاء . 

فضحك حسين ضحكة عالية. وقال: 

نسيت أنْني أخاطب وفديا. . . 

فقال كيال وهو يرفع منكبيه : 

- لكنّ والدك ليس وفديًا! تصوّر أن يجلس سليم 
بك صبري للفصل في قضية عبد الرحمن فهمي 
والنقراشي | 

هل صادف قوله عن سليم بك صبري ارتياخا في 
نفس حسين؟ نعمء هذا يبدو جليا في العينين 
الجميلتين اللتين لم تألفا الكذب أو الرياء» ولعله راجع 
إلى المنافسة التي تقوم عادة ‏ مهما اتسمت بالتهذيب 
وآداب اللياقة ‏ بين الأنداد» وقد كان شداد بك 
مليونيرًا ومن رجال المال ذوي المكانة والجاه فضلا عن 
صلته التاريخيّة بالحديو عبّاسء غير أن سليم بك 


قصر الشوق 41> 


المناصب إلى حدٌ التقديس. فلم يكن بد من أن يتبادل 
المنصب الرفيع والمال الوفير نظرات الشزر أحيانا. 
ألقى حسين على الحديقة المترامية أمام ناظريه نظرات 
هادئة يشوبها شيء من الأسف, فقد تجرّدت جدائل 
الدنخيل وتعرّت شجيرات الورد» وشحبت الخضرة 
اليانعة واختفت ابتسامات الزهور من تغور البراعم , 
وبدت الحديقة غارقة في الحزن حيال زحف الشتاء. 
ثم قال وهو يشير أمامه : 

انظر إلى فعل الشتاء» هذه آخصر جلسة لنا في 
الحديقة, ولكئنك من هواة الشتاء. . 

إنّه مهوى الشتاء حقّاء ولكنّ عايدة أحبٌ إليه من 
الشعاء والصيف والخريف والربيع معاء فلن يغفر 
للشتاء حرمائه من مقابيلات الكشك السعيدة. غير أنه 
قال موافمًا : 

الشتاء فصل جميل وقصيرء وفي البرد والغيم 
والرذاذ حياة يستجيب لا القلب. 

يمل إل أن هواة الشتاء يكونون عادة من ذوي 
النشاط والاجتهادء فهكذا أنت» وهكذا حسن 
ارتاح كال إلى هذا الثناء ولكنّه أراد أن مخض من 
دون حسن سليم - بأكثره, فقال: 

ولب لا أعطي واجباتي المدرسيّة إلا نصف 
نشاطي فحسبء الحقٌّ أنْ حياة العقل أوسع من 
المدوشة ركددر. 

هرّ حسين رأسه مستحسئاء وقال: 

لا أظنّ أن ثمّة مدرسة يمكن أن تستهلك الوقت 
الطويل الذي تكرّسه للعمل يوميًا. . . على فكرة: أنا 
لا أوافقك على هذا الاسراف وإن أكن أغبطك 
أحياناء خيّرني ماذا تقرأ الآن. . .؟ 

ابتهج كال مبذا الحديث الذي كان . بعد عايدة ‏ 
أحبٌ ثيء إلى نفسه وأجاب قائلا: 

2 مظع أن أقول لك الآن: إِنْ مطالعاتي أخذت 
تتبع نوعًا من النظام ء لم تعد قراءة حرّة كيف) اثفق ما 
بين قصص مترحمة ومختارات شعريّة ومقالات نقدية؛ 


به فعمدت أخيرًا إلى تخصيص ساعتين كل مساء 
للقراءة في دار الكتب وهنالك أنظر في دائرة المعارف 
باحثًا عن معاني الكلمات الغامضة الساحرة. كالآدب 
والفلسفة والفكر والثقافة.» مسجلا في الوقت نفسه 
أسماء الكتب التي تصادفني» إِنَّه عالم بديم تذوب فيه 
النفس شخفًا واستطلاعًا. . . ! 

كان حسين يصغي إليه بانتباه واهتام طارحًا ظهره 
على مسند الكرسي الخيزران» واضمًا يديه في جيني 
جاكتته الكحليّة الإنجليزيّة: وعلى شفتيه العميقتين 
ايتسامة مشاركة وجدانيّة صافية. قال: 

جميل جدّاء بالأمس كنت أحيانًا تسألبي عبّا ينبغي 
أن يُقراء اليوم جاءت نوبتي لأسألك أنا. هل وضح 


لك الطريق؟ 
دزوية اندم وقيةا» بعلب علطن ال ساضه 
تنجو المليقة 


ارتفع حاجبا حسين كالمتسائل» ثم قال باسما: 

- الفلسفة؟ إنْها كلمة مشرة» حذار أن تذكرها على 
مسمع من إسماعيل! طلما اعتقدت أنّك ستتجه نحو 
الأدب. . 

لا لوم عليك؛ الأدب متعة سامية بيد أنه لا يملأ 
عيفّ» إِنَّ مطلبي الأول الحقيقة. ما الله. ما الإنسان, 
ما الروح. ما المادّة؟! الفلسفة هي التى تجمع كل 
أولنك في وحدة منطقيّة مضيئة كما عرفت أخيرّاء هذا 
ما أروم معرفته من كل قلبيى» وهُذه هي الرحلة 
الحقيقيّة التي تُعَدٌ رحلتك حول العالم بالقياس إليها 
مطلبًا ثانوياء تصوّر أنه سيمكنني أن أجد أجوبة شافية 
هذه المسائل جميعًا!. . . 

نور الشوق والحماس وجه حسين وهو يقول: 

- هذا بديع ناز لن أتوان عن مرافقتك في هذا 
العالم الساحر» بل لقد طالعت بالفعل فصولا عن 
الفلسفة الإغريقيّة وإن لم أخرج مما بكيء يعتدٌ به 
لست أحبٌ الاندفاع مثلك» ولكئى أقطف زهرة من 
هنا وزهرة من هناك وأسلك بين هذا وذاك سبيلا 
والآن دعنى أصاررحك بأني أخاف أن تقطع الفلسفة ما 
كان بينك وبين الأدب من أسباب». فأنت لا تقنع 


بالاطلاع ولكنك تريد أن تفكر وأن تكتب» ولن يتاح 
لك فيها أعتقد ‏ أن تكون فيلسوفا وأديبًا في آن. . . ! 

- لن ينقطع ما بيني وبين الأدب. إِنْ حبٌ الحقيقة 
لا يناقض تذوّق الجمال» ولكنّ العمل شيء والراحة 
شىء آخرء وقد عزمت على أن أجعل الفلسفة عملي 
والأدس راحتي . . . 

فضحك حسين فجأة. ثم قال: 

- هكذا تتملّص من تعهّدك لنا بأن تكتب عنًا قصّة 
جامعة! 

فلم يملك كيال أن يضحك قائلا : 

- ولكبى آمل أن أكتب يومًا عن «الإنسان» 
فيشملكم ضمنا! 

- لا مهمني الإنسان بقدر ما مهمني أشخاصناء انتظر 
حي أشكوك إلى عايدة! 

خفق قلبه لدى ساع الاسم خحفقة نحية وحنان 
وشوق. فانقلب نشوان كأنما قد ثمل روحه بلحن 
معربد بالطرب» هل يرى حسين حمًا أنه أأى من الأمر 
ما يستأهل عليه مؤاخحذة عايدة؟ ما أجهل حسين! 
كيف غاب عنه أنه ما من شعور يستشعره أو فكرة 
يتامّلها أو شوق يستشرفه إلا وآفاقها تترقرق ببهاء 
عايدة وروحها! 

- انتظر أنت» وسوف تثبت لك الأيّام أننى لن أتخى 
عن كياد ما بحبيت ب 

ثم متسائلا بعد قليل بلهجة جذّيّة : 

ل لا تفكّر في أن تكون كاتبًا؟ كل الظروف 
الراهنة والآتية تبئئ لك التفرّغ لهذا المنّ! 

فهرٌ حسين كتفيه استهانة» وقال: 

- أأكتب ليقرأ الناس؟ ولم لا يكتب الناس لأقرأ 
أنا؟ 

- أيّهها أعظم شأنا؟ 

لا تسألني أيّهها أعظم شأناء ولكن سلي أبّبما 
تبعل جغالاً. إل اعد العمل لغنة البشرتة» :له لان 
كسول؛ كلاء ولكن لأنّ العمل مضيعة للوقت وسجن 
للفرد وحائل منيع دون الحياة. الحياة السعيدة هي 
الفراغ السعيد. . . 


حدجه كيال بنظرة دلّت على أنه لم يأخدذ قوله مأخخذ 
الجذء ثم قال: 

لا أدري ماذا كانت تكون حياة الإنسان لولا 
العمل؟. إِنْ ساعة من الفراغ المطلق تنقضي أثقل من 
عام حافل بالعمل. . . 

- يا للتعاسة! إِنْ صدق قولك نفسه هو ما يؤكّد 
هذه التعاسةء هل حسبتني أطيق الفراغ المطلق؟ كلا 
واأسفاهء لا أزال أشغل وقتي بالنافع والضارٌء ولكنى 
آمل يومًا أن أعاشر الفراغ المطلق معاشرة سعيدة. . 

هم بالتعليق على قوله. ولكن جاء صوت من 
ورائهما يتساءل «فيم تتحدثان يا ثرىوه, صوت أو 
بالحريّ نغمة حلوة ما إن تتردّد في مسمعيه حتى تعزف 
أوتار قلبه مجاوبة إيَاها من الأعياق كائّبا عناصر مؤتلفة 
في لحن واحد وسرعان ما خلت نفسه من متواثب 
الفكر فغمرها فراغ مطلق ‏ ترى أهو الفراغ المطلق 
الذي يحلم به حسين؟ ‏ هو ذاته لا شيء» ولكنّه 
السعادة كلها. . 

والتفت إلى الوراءء» فرأى عايدة قادمة على بعد 
خطوات تتقدّمها بدور حبّى وقفتا أمامهماء كانت 
ترتدي فستانًا كمُونيًا وسترة صوفيّة زرقاء ذات أزرار 
مذهبة» وقد تجلت بشرتها السمراء في عمق السماء 
الصافية وصفاء الماء المقطر. وهرعت بدور إليه فتلقّفها 
بين ذراعيه وضمّها إلى صدره كأتما ليواري في عناقها ما 
اعتراه من هيهان. وعئد ذاك جاء نخادم مسرعًا فوقف 
أمام حسين وهو يقول بأدب «التليفون». فقام حسين 
مستاذناء ومضى نحو السلاملك والخادم يتبعه. . . 

وهكذا وجد نفسه معها على انفراد - وجود بدور لم 
يكن ليغئر من هذا المعنى ‏ لأول مرّة في حياته» تساءل 
في إشفاق: ترى أتبقى أم تذهب؟ ولكتها تقدّمت 
خطوتين حبّى صارت تحت مظلة الكشك جاعلة 
المنضدة بينها وبينهء فدعاها إلى الجلوس بإشارة من 
يد ولكتها هزّت رأسها بالرفض باسمةء فقام واقفًا 
ورفع بدور بين يديه فأجلسها على المنضدة. ولبث 
يرت رأس الصغيرة في ارتباك وهو يبذل كل قوته كي 
يملك عواطفه ويتغأب على الفعاله. . . مضت فترة 


قصر الشوق 84 


7 


صمت لم يسمع خلالما إلا حفيف الغصون وخشخشة 
أوراق جافة متنائرة وزقرقة عصفورء. فبدا المكان فيا 
لحت عبناه من أرضه وسيائه وأشجاره وسوره البعيد 
الفاصل بين الحديقة والصحراء وقصّة المعبودة المسبلة 
على جبينها والنور البديع المنبثق من حور مقلتيها. بدا 
كل أولئك كأنه منظر بيج من حلم سعيدء لم يدر 
على وجه اليقين - إن كان حقيقة مائلة أمام ناظريه أم 
خيالة ملوحة حيال ذاكرته» حتى سجع الصسوت 
الرخيم وهو يقول مخاطبا بدور فيها يشبه التحذير: ولا 
تضايقيه يا بدور!» فكان جوابه أن ضم بدور إلى 
صدره قائلا: «إن تكن هذه هي المضايقة فا أحبّها إلى 
نفسبي !)0 ورنا إليها وني عيئيه أشواق. وراح يتمسل 
منظرها آمئًا هذه المرّة من الرقباء منعًا فيها التأمّل كأتما 
يستكنه أسرارها ويطبع على صفحة غيْلته ملاحها 
ورموزهاء فتاه في سحر المنظر حيّى بدا ذاهلا أو غائبًا 
وما يدري إلا وهي تتساءل: 

- ما لك تنظر إِلّ هكذا. . . ؟! 

فأفاق من غشيته؛ وتجل في عينيه الارتباك فابتسمت 
متسائلة : 

- هل تريد أن تقول شيئًا؟ 

هل يريد أن يقول شيئًا؟ إِنه لا يدري ماذا يريد. 
حمًا إن لا يدري ماذا يريدء وتساءل بدوره: 

- هل قرأت في عينيّ هذا؟ 

أجابت وثغرها يفترٌ عن ابتسامة غامضة : 

ل 

ماذا قرأت فيهما؟ 

فرفعت حاجبيها كالمتعجبة. وهي تقول: 

هذا ما أردت معرقته. . , 

أيبوح لها بسرّه المكنون قائلا بكلٌ بساطة «احبّك» 
وليكن ما يكون! لكن ما جدوى البوح؟ وماذا يكون 
من أمره لو قطع الاعتراف ما بينه وبينئبا من صداقة 
ومودّة ‏ كما هو الراجح - إلى الأبد؟! وانتسه - وهو 
يتامل ‏ إلى النظرة التي تلوح في عينيها الجميلتين» 
نظرة مطمئئة شديدة الثقة بنفسها جريثة لا يعتورها 
ارتباك أو جل . نظرة كأنما تبط عليه من َل بالرغم 


قصر الشوق 


من أنْها في مستوى نظرهء فلم يرتح ها وزادته تردّداء 
ماذا وراءها يا ترى؟ وراءها فيها رأى شعور 
بالاستهانة» ورثما العبث كأنما هي بالغ ينظر إلى طفل . 
ولعلّها لم تل كذلك من تعال لا يمكن أن يبرّره فارق 
السنّ وحده إذ لم تكن تكبره إل بعامين على أكثر 
تقديرء أفلا تكون هذه النظرة الخليقة بأن يلقيها هذا 
القصر الشامخ بشارع السرايات على البيت القديم ببين 
القصرين؟ ولكن لم لم يلمحها في عينيها من قبل 
ذلك؟ رما لأئّها لم تنفرد به من قبل أو لأنّه لم يتح له أن 
ينعم فيها النظر إِلّا هُذْه الساعة. وآلمه ذلك وأحزنه 
حب فترت نشوته أو كادت. ورفعت بدور نحوه يديها 
داعية إياه لحملهاء فتناوها في حضنئه:, وإذا بعايلة 
تقول: 

- يا للعجب!.؛ لاذا تحبّك بدور كل هذا اللحبّ؟ 

فقال وهو ينظر في عينيها : 

لأني أكنّ ها مثله وأكثر. . 

فتساءلت كالمرتابة : 

- أهذا قانون يركن إليه؟ 

الحكمة السائرة تقول «من القلب للقلب 
رسول». . . 

فجعلت تنقر المنضدة بأفملتها وهي تتساءل : 

هب فتاة جميلة أحبّها كثيرون» فهل تحبهم جميعًا؟ 
أرني كيف يصدق قانونك في هذه الحال. . . 

فقال وقد أذهله سحر الحوار عن كل شىء حي 
أححزانه ؛ ا 

- يكون من أمرها أن تحب أصدقهم حبا لها!. . 

- وكيف تفرزه من الآخرين؟ . . . 

لو يدوم هذا الحوار إلى الأبد! 

أحيلك مرّة أخرى إلى الحكمة السائرة ومن 
القلب للقلب رسول»! 

فضحكت ضحكة مقتضبة مثل رئة الوتر» وقالت 

- لو صح هذا ما خاب محبٌ صادق في حبّه! فهل 
هذا صحيح؟! 

صدمه قومًا كما تصدم حقائق الحياة المستنيم إلى 


المنطق وحده. فلو صم منطقه لوجب أن يكون أسعد 
الناس بحبّه ومحبوبه. ولكنء أين هو من ذلك؟! الح 
أن تاريخ حبّه الطويل لم يعدم لحظات أمل خلت كان 
يضىء ظليات قلبه بسعادة وهميّة على أثر ابتسامة حلوة 
عردها لسرن او كلفة غارة قائلة للتاوزل أوكل 
سعيد عقب ليلة فكر وسهاد ولواذًا بقول سائر له 
احترامه في نفسه مثل «من القلب للقلب رسول». 
فكان يتعلّق بالأمل الخلّب في إصرار اليائس حي تعيده 
الحقيقة إلى وعيه. ها هو الساعة يتلقى هذه الحملة 
الساخرة الحاسمة كالدواء المرٌّ ليتداوى بها مُستقيّلا من 
كواذب الآمال» وليعرف على وجه اليقين موضعه أين 
يكونء ولنًا لم تحرُ جوابًا على سؤاها الذي تحدّته بهى 
هتفت معبودته ومعذبته بلهجة المنتصر: 

ها ين 

واستحكم الصمت مرّة أخرى. فعاود مسمعيه 
حفيف الغصون وخشخشة الأوراق الجافة وزقزقة 
العصفور. غير أنه تلماها هذه المرّة بوجد فاتر وقلب 
خائب؛ ولاحظ أنْ عينيها تتفخصانه بإمعان لا داعي 
له» وأنْ نظرتها تزداد جرأة وثقة وما يوحي بالعبث» 
وأثها أبعد ما يكون عن منظر أنثى تصِدّت لذكرء 
فشعر بغمز في قلبه وبرودة» وتساءل هل قُدّر له أن 
ينفرد مها لتقوض أحلامه دفعة واحدة؟! ولاحظت 
قلقه» فضحكت ضححة لاهية, وقالت في دعابة وهي 
تومئ إلى رأسه : 

- لا يبدو أنك شرعت في تربية شعرك؟ 

فقال باقتضاب : 

كلا. . , 

ألا يروقك ذْلِك؟ 

وهو يمط بوزه باستخفاف: 

كا وه 

- قلنا لك إنّه أحمل. . . 

- هل ينبغي للرجل أن يكون جميلا. . . ؟ 

فقالت ارات 

- طبعا الجمال محبوب»؛ سواء في الرجال 
والنساء. . , ؟ 


هم بأن يردّد محفوظاته مثل «حمال الرجل في 
أخلاقه» ألخ. ولكنٌ غريزة من غرائزه أوحت إليه أن 
مثل هذا القول - مع صدوره عن شخص في صورته - 
لن يلقى عند معبودته إلا ال هزء والسخريةء فقال وهو 
يعان وخرًا في قلبه داراه يضحكة مصطنعة: 

د ل عر لكان 

أو لعلّك تنفر من الجمال كما تنفر من البيرة وحم 
الخنزير! 

فضحك ضحكة يعالج بها يأسه وقهره.» فعادت 
تقول : 

الشّعر الطبيعي غطاء طبيعيَ أعتقد أنْ رأسك في 
حاجة إليهء آلا تعلم أنّ رأسك كبير جدًا؟ 


ذو الرأسين! أنسيت ذلك النداء القديم؟... يا 
للتعاسة ! 

هو كذلك. . . 

لمه؟ . , 


أجاب وهو يبز رأسه 5 إنكار: 

- سليه بنفسك فإنْني لا أدري . 

ضحكت ضحكة خافتة؛ أعقبها صمت. معبودك 
جميل فاتن ساحرء ولكنّه ذو جبروت كا ينبغي له دق 
جبروته وتلقّن شي أنواع الألم. ولم ترحمه فيا بداء م 
تزل عيناها الحميلتان تصعدان البصر في وجهه 
وتصوّبان حيٌّ ثبتتا على. . .» أجل على أنفه!... 
هنالك وجد قشعريرة في أعراقه حي قف شعره وغضص 
البصر وهو خخائف يترفّب؛ وسمعها تضحك. فرفع 
عينيه وهو يتساءل : 

ماذا يضحكك؟ 

ذكرت أمورًا مثيرة طالعتها في مسرحية فرنسية 
معروفة. ألم تقرأ «سيرانو دي برجراك؟» . 

أنسب الأوقات للاستخفاف بالألم وقت يزيد فيه 
الألم عن حدّهء قال مهدوء واستهانة : 

لا داعي للمداراةء أنا أعرف أنْ أنفي أكبر من 
رأمي , ولكن أرجو ألا تسألي مرّة أخرى «للمه؟» سليه 
بنفسك إن شكت. . . ! 

وإذا ببدور تمد يدها فجأة فتقبض على أنفه, 


قصر الشوق 54١‏ 


فأغرقت عايدة في الضحك وهي ميل برأسها إلى 
الوراء. وم يملك هو أيضا إلا أن يضحك» ثم سأل 


بدور مدارأة لارتباكه : 


وترامى إليهم صوت حسين وهو بهبط سلم 
الفرانداء فغيّرت عايدة من لهجتها فجأة. وقالت له 
بصوت جمع بين الرجاء والتحذير: 

إيَاك أن تزعل من مزاحي! . . . 

عاد حسين إلى الكشك. فجلس على كرسيه داعيًا 
كيال إلى الجلوس فاقتدى به بعد تردّد ‏ واضعا بدور 
عل حجره. غير أن عايدة لم تلبث بعد ذلك إِلَا قليلا 
فاخذت بدور وحيّتهماء ثم انصرفت وهي تلحظ كيال 
بنظرة ذات معنى خاصٌ» وكأئما تكرّر تحذيره من 
الزعل» لم يجد من نفسه أي رغبة في استثئئاف الحديث 
فاكتفى بالإصغاء أو بالتظاهر باللإصغاء مع المشاركة فيه 
بين حين وآنصر بسؤال أو تعججب أو استحسان أو 
استهجان لإثبات وجوده ليس إلّاء وكان من حسن 
حطّله أن عاد حسين إلى طرق موضوع قديم لا يتطلب 
انتباها أكثر نما عنده. وهو رغبته في السفر إلى فرنسا 
ومعارضه أبيه التى يأمل في التغلب عليها قريبًا. أما 
الذي كان يشغل قلبه وفكره معًا فهو ذلك المظهر 
الجديد الذي تبدّت به عايدة في الدقائق التى جمعمت 
بيهها على انفراد أو على شبه انفراد, ذلك المظهر 
الموسوم بالاستخفاف والسخرية والقسوة, أجل 
القسوة! فقد عبثت به بدون رحمة وأعملت فيه دعابتها 
كا يُعمل المصوّر ريشته في الخلقة الآدميّة ليستخرج 
منها صورة كاريكاتوريّة فذّة في قبحها وصدقها معًا!. 
ذكر ذُلك المظهر ذاهلاء ومع أن الألم كان يسري في 
روحه كبا يسري السمٌ في الدم ناشرًا فيها ظلًا ثقيلا 
من القنوط والكآبة. فإنّه لم يجد في نفسه سخطا أو 
غضبًا أو احتقارًا لهء أليس هو صفة جديدة من 
صفاتها؟ بلى. لعلّه أن يكون غريبًا كولعها بالرطانة 
وشرب البيرة وأكل لحم الخنزيرء ولكنّه ككل أولئك 
صفة منسوبة إلى ذاتهاء خليقة بأن تتشرّف ببذا 
الانتساب وإن عدت في غيرها نقيصة أو استهتارًا أو 


45 قصر الشوق 


معصية, ولا ذنب لها هي أن نشأ عن صفة من صفاتبها 
ألم في قلبه أو يأس في نفسه ما دام العيب عيبه هو لا 
عيبها هي. وهل كانت هي التي كثرت رأسه أو 
فاطق أنفنهة؟ ‏ إوتهلة قراها ارت :يتعاباتينا :عل 
الصدق والواقم؟ لم يحدث شيء من هذا فانتفى عنبها 
الملام وحقٌ عليه الألم, وعليه أن يتقبله بتسليم صوق 
كما يتقبّل العابد القضاء وهو أصدق ما يكون إِيانًا بأنه 
قضاء عادل مهما يكن من قسوتهء وأنّه صادر عن 
معبود كامل لا مظئة في صفة من صفاته أو إرادة من 
إراداته. . . هكذا خرج من التجربة القصيرة العنيفة 
الني صهرثه منذ دقائق وهو أشدّ ما يكون ألما وعذابا 
ولكن دون أن ينال ذلك من قوّة حبّه وافتنانه 
باحبيب!... الساعة يحظى بمعرفة ألم جديدء ألم 
الرضى بحكم قاس قفى عليه بعدم الأهلية؛ كا 
عرف من قبل عن طريق الحبٌّ أيضا ‏ ألم الفراق وألم 
الإغضاء وألم الوداع وألم الشكُ وألم اليأس» وكيا عرف 
أيضًا ألما يحتمل وألمًا يُستلذٌ وألمًا لا يسكن مها قدّم 
له من قرابين التأوّهات والدموع, كأنما أحبٌ ليتفقّه في 
معجم الألى. ولكنّه على التماع الشرر المتطاير من 
ارتطام آلامه يرى نفسه ويعرف أشياءه. ليس الله 
والروح واللمادّة - فحسب ‏ ما يجب أن تعرفه. ما 
لتقب :ها الشف .هنا اشبال كتبوب جنا 
القبح؟. . . ما المرأة؟. . . ما الرجل؟ . . . كلّ أولئك 
يجب أن تعرف أيضاء أقصى درجات المهلاك تماسٌ أولى 
درجات النجاة. اذكر ضاحكا أو اضحك ذاكرًا أنْك 
هممتث بالإفضاء إليها بمكنون سّك؟ اذكر باكيًا أنْ 
أحدب نوتردام ملأ حبيبته رعبًا وهو يجحنو عليها 
مواسيّاء وأنه ‏ أحدب نوتردام ‏ لم يستش عطفها 
البرىء إلا وهو يلفظ آخر أنفاسه الأخيرة. (إيّاك أن 
تزعل صن شراجي واب جرباراخة اليناسس لضن جببنا 
عليك. فليفصح المعبود عن ذات نفسه علنا نخرج من 
جحيم الحيرة ونطمئن في قبر اليأاس. هيهات أن يقتلع 
الياس جذور الحبٌ من قلبي. ولكنه على أي حال 
مناجاة من كواذب الأمال! . . . 

والتفت حسين نحوه ليسأله عن سرّ صمته. ولكنّه 


لح فيا بدا - شخصًا قادماء فأدار رأسه ثم هتف : 
ها هو حسن سليم قد أقبل. كم الساعة الآن؟ 
فالتفت كيال إلى الوراءء فرأى حسن مقبلا نحو 

الكشك . . 


ا عت 

غادر حسن وكمال سراي آل شاد والساعة تدور في 
الواحدة» وهم كيال بافتراق عن صاحبه أمام باب 
القصرء ولكنّ الآخر قال له برجاء : 

هلا تمَشّبت معي قليلا من الوقت. . . ! 

فلبّى كيال الدعوة عن طيب خاطرء وسارا في 
شارع السرايات جنبا إلى جنب... كيال بقامته 
الطويلة. وحسن لا يكاد يبلغ رأسه منكب صاحبه. لم 
يكن يخلو من تساؤل!! خاصّة وأنْ الوقت لم يكن 
انيبن الأوقات للمشي الذي ليس وراءه هدف. وما 
يدري إلا وحسن يلتفت إليه متسائلا: 

- فيم كنت) تتحدّثان؟ 

فأجاب كيال وهو يزداد تساؤلا : 

- في أمور شبّى كالعادة. سياسة. . . ثقافة ألخ. . . 

ذكانت مفاجأة حمًا أن يقول له بصوبه المهادئ 
المدّدن : 

- أعني أنت وعايدة , , . ! 

فاستولت الدهشة على كيال» حيّى لبث ثواني لا 
يتكلم ثم تمالك نفسه فسأله : 

- كيف عرفت هذا ولم تكن معنا؟ 

فقال حسن سليم دون أن يلوح في وجهه أي 
تغيير: 

جئت في أثناء حديثكاء فتراءى لي أن أذهب إلى 
حين حيّ لا أقطعه عليكيا. . . 

ترى أكان يسلك مسلكه لو وجد نفسه في موقفه؟ 
واشتدّت به الحيرة وخالطه شعور بأنه مقبل على حديث 
مثير ذي شجون. قال: 

لا أدري ماذا حملك على ذلك التصئف. ولو 
ملحتك ما تركتك تذهب. . . 


قصر الشوق 497 


للياقة أحكام! أعترف بأنّني شديد الحساسيّة في يستحنٌ أن أخرك به ما كتمته عنك. ليس إلا أننا 


هذه الناحية . . . 

آداب أرستقراطيّة! . . . أين أنت من إدراكها. 

لا تؤاخذني إذا صارحتك بأنك تدقق أكثر مما 

ابتسم .حسين ابتسامة خفيفة لم تمكث على شفتيه, 
ثمٌّ بدا كالمنتظرء ولمّا طال به الانتظار عاد يتساءل: 

- نعم؟ . . . فيها كنتها تتحدثان؟ 

كيف إذن ارتضت آداب اللياقة مثل هذا 
الاستجواب؟! وفكّر الحظات في توجيه هذه الملاحظة 
إليه» غير أنه دقق في اختيار الصياغة الحديرة بالاحترام 
الذي يكنه له احترام يرجع إلى شخصيته أكثر نما 
يرجع إلى سنه ‏ حثّى قال: 

- المسألة أبسط من أن تحتاج إلى هذا كله غير أَني 
أتساءل عن مدى التزامي بالاجابة ! 

فبادره حسن قائلا بلهجة المعتذر: 

- أرجو ألا ترميني بلهجة المتطفل أو بدسٌ أنفي في 
خاصٌ شئونك» فإِنْ لدي من الأسباب ما يبرّر هذا 
السؤال» وسوف أحدّئك عن أمور لم تعرض مناسبة 
تجعلني أحدّئك عها من قبل» غير أني اعتقدت ‏ 
اعتمادًا على ما بيئنا من صداقة ‏ أنك لن تضيق 
بسؤالي» أرجو ألا تفهم الأمر على غير هذا 
الوجه . . . ! 

خف التوئرء ولعلّه سر لتلقّى هذا الكلام الرقيق 
عن حسن سليم بالذات» الشخص الذي طلما رآه 
مثالا للأرستقراطيّة والنبل والكبرياء. فضلُا عن أنه 
كان أرغب منه في استنفاد أوجه الحديث عن أمر يتعلق 
بمعبودته. لو كان إسماعيل لطيف هو صاحب السؤال 
ما احتاج الأمر إلى شيء من هذا اللف والدوران حول 
ما يجب وما لا يجب وما يليق وما لا يليق» ورما كان 
أففى إليه بكلّ شيء وهما يتضاحكان؛ ولكنْ حسن 
سليم لا يخرج عن تَحفّظه أبدًا ولا يخلط بين الصداقة 
ورفع الكلفة, فلا بأس من أن يودي ثمن تحقفظه! 
قال : 

أشكرك على حسن ظئكء» وثق بأنه لو كان ثمّة ما 


تكلّمنا بعض الوقت في شكون عاديّة وهذا كل ما 
هتالك. غير أنّك أيقظت حبٌ الاستطلاع في نفسي 
فهل لي أن أسألك ‏ ولو من باب العلم بالشىء - عن 
الأسباب التي تراها ميرّرة لسؤالك؟. لست ألحّ بطبيعة 
الحال. بل إني على أتمّ الاستعداد للنزول عن سؤالي 
إذا لم يصادف منك قبولا . . . ! 

قال حسن سليم سبدوئه واتّزانه المألوفين: 

ددماعتتة ع سان هده :ولكن ارسو أن تنظر 
قليلاء يبدو أنّك لا تودٌ إخباري عم دار بينىا من 
حديث» وهذا حقّك لا ريب فيه: بل لا أجد فيه 
إخلالا بواجب الصداقةء ولكيّي أودٌ أن ألفت نظرك 
إلى أن كثيرين يخدعون بحديث عايدة ويفسّرونه تفسيرًا 
لا يمت للواقم بسبب» ورثما أحدثوا لأنفسهم بسبب 
ذلك متاعب لا داعي لها. . . ! 

أفصِح عنًا تريد قوله. في الج نذر تجهم لا يلبث 
أن يئقلب إعصارًا فيعصف بقلبك المطعون. كأنْ به 
موضعًا سليًا لم يُطعن!. أنت أنت المخدوع يا صاحء 
ألا تدري أنه الحياء ويحده الذي يمنعني من أن أفضي 
إليك بما كان؟! فلتصعقني الصواعق إن أرحت لك 
بالا!, 

ل أفهم مما قلت حرفا. . . ! 

علا صوت حسن قليلًا» وهو يقول: 

لسانا يجود في يسر بألطف الكلام» فيحسبه 
السامع ذا مغزى أو أن وراءه عاطفة ماء ولكنّه مخض 
كلام لطيف تخاطِب به كل من يحادثها سرًا أو جهرًا! . 
وكم خدع كثيرين. . . ! 

برح الخفاء. صاحبك مصاب بالداء الذي هصرك! 
من يكون حبّى يدّعى العلم بالبواطن؟! شد ما يشير 
حنقيى! قال باسمّا وهو يتظاهر بعدم الاكثراث : 

- يبدو أثك واثق مما تقول!؟ 

إني أعرف عايدة حقٌ المعرفة» نحن جيران منذ 
الاسم الذي يهاب النطق به في السرّ فضلا عن 
الجهر ينطق به هُذا الشابٌ المفتون بلا مبالاة» كأنه 


14 قصر الشوق 


اسم فرد من غار الملايين!. هذه الجرأة فيه تخفضه في 
قلبهء درجات وترفعه في خياله درجات» وجملة «نحن 
جيران منذ بعيد» حزّت في قلبه كالخنجر فأطاحت به 
كا تطيح النوى بالغريب. سأله بلهجة مؤدّبة وإن لم 
يل مدلوها من سخرية : 

ألا يجوز أن تكون خدعت أيضًا كالآخرين؟. 

فتراجع رأس حسن في كبرياء. وهو يقول في يقين: 

لست كالآخرين. . . ! 

شد ما أحنقه عطرسته. شد ما أحنقه جماله وثقته 
بنفسهء هذا الابن المدلل للمستشار الخطير الذي 
ترتقي الشبهات إلى أحكامه السياسيّة! وندّت عن 
حسن «هه) كأنه ذيل ضحكة وإن لم تضحك أساريره. 
أراد أن يمهّد بها للانتقال من طبقة صوتيّة متغطرسة إلى 
طبقة أخرى لطيفة: ثم قال: 

ِنْبا فتاة ممتازة لا تشومبا شائبةء ولو أنْ مظهرها 
وحديثها وأنسها تجرٌ عليها الظنون أحيانا! 

فبادره كال قائلاً بحماس : 

إِنَّ مظهرها وخيرها على السواء لفوق كلّ ظَنّ! 

فحنى حسن رأسه بامئنان كأتًا يقول له وأحسنت»» 
ثم قال: 

هذا ما ينبغي أن تراه عين بصيرة سليمة» غير أن 
ثمّة أمورًا تمر بعض الأفهام» سأضرب لك أمثلة على 
سبيل التوضيح: إن البعض يسيء فهم اختلاطها في 
الحديقة بأصدقاء أخيها حسين» ابذة ما جرت به 
التقاليد الشرقيّة. والبعض الآخر يقف متسائلا حيال 
محادثتها لهذا وملاطفتها لذاك. وآخرون يتوهمون وراء 
الدعابة اللطيفة ‏ تصدر عنها عفوا ‏ سرًا خطيرّاء هل 
أدركت ما أعني؟ ! 

فقال كيال بنفس اللحاس السابق : 

ع إن أفرلة ما تف طبشا..ولكق اغبي أن كر 
مغاليًا في ظنونك. عي أنا شخصيًا لم يساورني شك 
قط في أيّ تصدف من تصرّفاتباء لأنْ أحاديثها ودعابتها 
ظاهرة البراءة» ولأنئّها من ناحية أنخرى لم تتلقّ تربية 
شرقيّة خالصة حيّى تطالب بالمحافظة على التقاليد أو 
تؤاخذ على الخروج عليهاء وأظنّ أن هذا هو رأي 


الآخرين أيضا. . 

هرّ حسن رأسه كأنما يتمق لو يستطيع أن يؤمن 
برأيه في «الآخرين». غير أن كمال لم يعن بالتعليق على 
ملاحظته الصامتة» كان سعيدًا بالدفاع عن معبودته. 
سعيدًا بالفرصة التى تبيّات له لإعلان رأيه في طهارتها 
وبراءتماء أجل لم يكن صادقًا في حماسه. لا لأنّه كان 
يبطن غير ما يعلن- فطالما آمن بأنْ معبودته فوق 
منال الشبهات - ولكن حزنًا على الأحلام السعيدة التي 
قامت على افتراض وجود وسرً» وراء دعابات المعبودة 
وتلميحاتها الرقيقة» إِنْ حسن يبدّد تلك الأحلام كما 
بدّدها حديث اليوم تحث الكشكء ومع أن قلبه 
المكلوم كان يجاهد سرًا للاستمساك ولو بخيط واه من 
خيوط الأمل, فإنّه جارى حسن سليم مجاراة المؤمن 
برأيه تغطية لموقفه ومداراة طزيمته وإبطالا لادّعاء الآخر 
أنه والعارف» وحذه لحقيقة المعبودة! عاد حسن يقول: 

لا غرابة في أن تدرك هذا فإلك شابٌ لبيب. 
الواقع كما قلت إن عايدة بريئة ولكن. . 
صارحتك بخصلة فيها ربما بدت غريبة في عينيك, 
وربما كانت مسئولة للحدٌ كبير عن سوء فهم الكثيرين 
لما أعني شخفها بأن تكون «فتاة أحلام) كل من 
يتصل بها من الشباب!. . . لا تنس أنه شغف بريء: 
ني أشهد بأنّى لم أصادف فتاة أحفظ لكرامتها منباء 
ولكئّها مولعة بقراءة الروايات الفرئسيّة» كثيرة التحدّث 
عن بطلاتهاء مفعمة الرأس بالخيال! . 

ابتسم كيال ابتسامة مطمئئّة أراد بها عن أنه لم 
يسمع جديدًا فيا قال صاحبه ثم قال مدفوعًا برغبة 
في إغاظته : 

عرفت هذا كله من قبل» دار حديثنا يومًا ‏ أنا 


: معذرة إذا 


وحسين وهي - عن الموضوع ذاته! 

0 أخيرًا أن يخرجه عن وقاره الأرستقراطيٌ» 
فنطقت أساريره بالدهش وتساءل كالمترعج : 

- متى كان ذلك؟ لا أذكر أنْنىي حضرت هذا 
الحديث! هل قيل أمام عايدة أنْها تود أن تكون «فتاة 
أحلام» كل شابٌ؟ . . . 

رمق كمال ما طرأ عليه من تغيّر بعين الظفر 


والارتياح» غير أنه أشفق من التمادي» فقال بحذر: 

- لم يرد ذكر هذا بلفظه ولكن بالمعنى الذي يؤدّي 
إليه خلال حديث دار حول ولعها بالروايات الفرنسية 
وإغراقها في الخيال! 

استرد حسن هدوءه وانّزائه» ولزم الصمت مليًا 
كأنّه يحاول أن يستجمع فكره الذي نجح كال في 
تشتيته إلى حين» وبدا كالمتردّد لحظات حتى شعر كال 
بأنه يود أن يعرف كل شيء عن الحديث الذي دار بينه 
وبين عايدة وحسين, متى وقع؟! ماذا جعلهم يطرقون 
هذه الشكون الحسّاسة؟! وما تفصيل ما قيل فيه؟! لولا 
أنْ كبرياءه كان يمنعه من السؤال. وأخيرًا قال: 

ها أنت نفسك تشهد لصدق رأبي» ولكن من 
سوء الحظّ أن كثيرين لم يفهموا سلوك عايدة كيا فهمته 
أنت» فلم يفطنوا إلى حقيقة هامّة وهي أثها تحب حبٌ 
الشخص ها لاا الشخص نفسه! 

لو اطلع الأحمق على الواقم ما تَحِشّم كل هذا 
التعب الضائع» ألا يعلم بأنني لا أطمع حبّى ني أن 
تحب حبّي؟ انظر إلى رأسي وأنفي وانعم بالّا! قال 
بصوت لم يخل من بكم : 

تحب حب الشخص لما لا الشخص نفسه! يا لها 
من فلسفة! 

عن حقيقة أنا بها عليم! 

ولكّك لا تستطيع أن تضمن صدقها في جميع 
الأحوال!؟ 

- بلى أستطيع وأنا مغمض العينين. 

غالب كال حزنه وهو يتساءل متظاهرًا بالدهش : 

- أتستطيع أن تؤكد عن يقين أنها لا تحب هذا 
الشخص أو ذاك؟ 

فقال حسن بثقة واطمئئان : 

أستطيع أن أؤكّد أمْها لم تحب أحدًا من يتوهمون 
أحيانًا أئها تحبهم ! 
اثان يحقّ لها أن يتكلما مبذه الثقة: المؤمن والأحمق. 
وهو ليس بالأحمق, ترى لم يتحرّك الألم ولا جديد فيها 
سمعت؟! الحقّ أن تألْت اليوم تم عام من أعوام 
ا 


قصر الشوق هة+ 


- ولكنّك لا تستطيع أن تؤكد أنْبا لا تحب إطلاقا؟ | 

- لم يقل هذا. . . 

فرمقه بالعين التي يتطلّم بها الإنسان إلى العرّاف. 
لم سأله : 

- أتدري إذن أنها تمب؟ 

فحتى رأسه بالإيجاب. وقال: 

- إنما دعوتك إلى المثي لأحدّئك عن هذا. . . ! 

غاص قلبه في أعماق صدره كأئما يحاول الفرار من 
الألم ولكتّه غرق في عباب الألم؛ كان قبل ذلك يتالم 
أله مكو أن يماحو سعدبه ردقل له أتنا 
تحبّ.. . إِنْ المعبودة تحب!. . . إِنْ قلبها الملائكي 
بخضع لنواميس الشوق والحنين والرغبة واللهفة الموجهة 
جميعًا إلى شخص معين! أجل كان عقله ‏ لا شعوره ‏ 
يسلّم أحيانًا بإمكان ذلكء, ولكن كما يسلّم بالموت 
كفكرة مجرّدة لا كحقيقة باردة ناشبة في جسد عزيز أو 
في جسده هو بالذاتء لذلك فاجأه الخبر كأنه يتحقق 
لأول مرّة في الوجود والفكر معاء تأمّل هذه الحقائق 
جميعًا واعترف بِأنْ ثمّة آلامًا في هذه الدنيا لى تخطر لك 
على بال رغم خيرتك العميقة بالألمء استطرد حسن 
فائلا : 

قلت لك من بادئ الأمر إن لديّ من الأسباب ما 
يبر هذا الحديث معك. وإلا ما سمحت لنفسي 
بالتدخل في خاصٌ شكونك . . . 

ينبغيى أن تلتهمه النار المقدّسة حي آخر ذرّة من 
ماف 

- إن مقتنع بما تقول. وها أنا مصخ إليك. . . 

ابتسم محسن ابتسامة خفيفة أوحت بتردّده حيال 
الكلمة الأخيرة الفاصلة؛ فصير كبال». ثم تعجله ‏ 
رغم أنّ قلبه استشفٌ الحقيقة المنجعة ‏ قائلا :. 

قلت إنك تدري أبها تحبٌ. .. !؟ 

فنبل حسن التردّد قائلا: 

نعم يوجد بيئنا ما يجعل لي الحقٌ في ادّعاء ما 
قلكاب با 

عايدة تحبٌ أيّتها السماوات! أوتار قلبك تنقبض 
باعثة لحنًا جنائزيّاء هل يكن قلبها لهذا الشابٌ السعيد 


5 قصر الشوق 


مثل ما يكنه لها قلبك. إن صمح أنْ هذا من الممكنات 
فأحرى بالعام أن يتصدّع. ليس صاحبك بكاذب لأن 
النبيل الجميل لا يكذب. قصارى أملك أن يكون 
حبها من جس حلاف حبككء وإذا لم يكن من 
الفاجعة بدّ فمن العزاء أن يكون حسن هو المحبوب, 
من العزاء أيضًا أنْ الحزن والغيرة لا يطمسان الحقيقة 
أمام عينيك» هذا الغنى الساحر العجيب! قال كالذي 
يضغط على زناد المسدّس وهو يعلم أنه قارغ : 


فض الحديف , 

- على انفراد؟ 

أفلتت العبارة منه بلا وعي. فارتتك نادما وتورّد 
وجههء ولكنّ الآخر قال ببساطة : 

أحيانًا , , . 

كم يودٌ أن يراها في هذا الدور ‏ دور المحبّة ‏ الذي 
لم يخطر له في خيال» كيف تتجلى في العين الساجية 
التي تلقي إليه بنظرتها من عَلُ لمعة الوجد والحنان؟ 


- يبدو أنك مطمئنٌ إلى أنْها تحب هذه المرّة ‏ منظر يضيء العقل بقبس من الحقيقة المقدسة ويقتل 


الشخص نفسه لا حب الشخص لا! 

فندّت عله «هه» مرّة أخرى ليعرب بها عن ثقته. 
ولحه بنظرة سريعة ليرى مدى إيمانه بما يقول. ثم 
قال: 

- لم يكن حديثنا قط أنا وهي ‏ من النوع الذي 
يحتمل معنيين ! 

أيّ نوع من الحديث هو؟ حياتي كلها أهبها ثمنا 
لكلمة منه» أعرف الحقيقة كلها وأتجرّع العذاب حي 
الغالة» ترى هل سمع الصوت المطرب وهو يقول له 
«أحبّك!؟ بالفرنسيّة قالها أم بالعربيّة؟ بمثل هذا 
العذاس تشتعل النيران» قال مهبدوء: 

أهنئك» كلاى) فيا أرى جدير بصاحيه! 

20000 

- غير أني أتساءل عا دعاك إلى الافضاء إل ذا 
النكك الفية؟ 

فرفعم حاجبيه حسن» وهو يقول: 

ليا وجدتكىا تتحثثان على انفراد أشفقت أن 
تخدع ببعيض القول كا مدع كشرون؛. فصممت على 
مصارحتك بالحقيقة, لأني كرهت فكرة انخداعك أنت 
بالذات . . . ! 

غمغم كبال قائلًا «شكرًا» تأثْرًا بالعطف السامي, 
عطف الشات الموهوب الذي تحبه عايدة» الذي كره له 
الانخداع فقتله بالحقيقة. ترى ألم تكن أوهام الغيرة 
بين البواعث التي أغرته بمصارحته بسرّه؟ ولكن اليس 
له عينان يرى مبها رأسه وأنفه؟! استطرد حسن قائلًا: 

إنهبا ووالدتها كثيرًا ما تزوران بيتئاء وهناك تسدح 


القلب قتلاء مِبْذا تستباح لعنة الكفر الأبديّة. روحك 
يتململ كطائر سجين يودٌ أن ينطلق, العالم ملتقى 
خرابات يستعذب عنه الرحيل؛ لكنّك حي إذا صحّ 
عندك أنّ الشفاه تلاقت في قبلة ورديّة فلن تعدم في 
دوّامة الجنون لذَّة الحرّيّة المطلقة» وسأله مدفوعًا برغبة 
انتحاريّة لم يستطع مقاومتها فضللا عن فهمها: 

كيف إذن توافق على اختلاطها بأصدقاء حسين؟ 

تريّث حسن قليلا قبل أن يجيب قائلا : 

- لعل لا أرتاح إلى ذلك كل الارتياح» ولكبّي لا 
أجد فيه ماخذًا وهي تمارسه على مرأى من أحيها ومن 
الجميع وبحكم تربيتها الأوربيّة ولا أخفي عليك أني 
فكرت أحيانًا في مكاشفتها بامتعاضي ولكتّي كرهت أن 
ترميني بالغيرة» وكم تود لو تثير غيرتي! أنت تعرف 
طبعًا هذه الخيل النسائيّة وأعترف لك بأني لا 
امتسيفها: 

لا عجب أنْ إثبات دوران الأرض حول نفسها 
وحول الشمس قد أطاح بأوهام ودو رءوسًا. 

ان انمه ماك 

فقال حسن بلهجته الناطقة بالئقة : 

- على أنه في وسعى دائًا أن أحملها على الإذعان 
شق إذا أروت! ْ 

أثارته هذه الجملة واللهجة التي قيلت بها إلى حد 
الجنون» وتمقٌ لو يجد سببًا يعتل به على ضربه ليمرّغه 
- وإنّه لقادر - في التراب. ولحظه من عل فلاح له 
الفارق بين طوليهما أكثر من الواقع بكثير» لم لم تحب 
أيضًا الذي دوا سنًا؟ وآمن قلبه بأنه حسر الدنيا. 


ودعاه حسن إلى تنئاول الغداء على مائدتهع فاعتذر 
شاكرّاء ثم تصافحا وافترقا. 

عاد فاتر النفس مثقل القلب بالقنوط؛ وكان يودّ أن 
تلق إل لفسة ايحتشن أحداض ويه انح 
يستصفي معانيها كلّهاء بدت الحياة متلقّعة بشوب 
حداد. ولكن ألم يكن يعلم من أوّل الأمر أن هذا 
الحبٌ ضائع؟ فأيّ جديد جلجلت به الحوادث؟ عل 
أي حال ليكن عزاؤه أنْ الآخرين يتكلمون عن 
الحبّ. أمّا هو فيحبٌ ملء قلبه. إِنْ الحبٌ الذي ينور 
روحه لا يستطيعه أحد سواه فهذا هو امتيازه وتفوّقه. 
ولن يتخلى عن حلمه القديم بأن يظفر بمعبودته في 
السماءء في السماء حيث لا فوارق مصطنعة ولا رأس 
كبير ولا أنف غليظ. في السماء ستكون عايدة لي 
وحدي بحكم قوانين السماء. . . 


"00 

كأنّه لم يعد له وجودء تجاهلته بحال لا يمكن أن 

يتأن إِلّا عن تعمّد. فطن إلى ذلك أوَّل ما فطن إليه 
صباح الجمعة التالي - بعد مضي أسبوع على حديث 
حسن سليم بشارع السرايات - في اجتماع الأصدقاء 
بكشك الحديقة بسراي آل شدّاد. كانوا يتحدثون 
فجاءت عايدة كعادتها مصطحبة بدورء لبثث عندهم 
قليلا تخاطب هذا وتداعب ذاك دون أن تعيره التفانًا 
فظن أوّل وهلة أن دوره سيجيء. ولكن طال به 
الترقّب» ولاحظ إلى هذا أنْ عينيها لا تريدان أن تلتقيا 
بعينيه أو لعلّهما ت#تنباه فخرج عن موقفه السلبيّ 
واعترض حديثها بملاحظة عابرة ليحملها على مخاطبته. 
ولكتّبا واصلت الحديث متجاهلة إيّاه» ومع أنْ أحدًا لم 
يتسّه فيها بدا إلى مناوراته الفاشلة - لامراكهم في 
الحديث المحبوب ‏ فإن ذلك لم يخقف من وقع اللطمة 
التي تلقّاها من غير أن يدرك لما سببّاء غير أنه مال إلى 
تكذيب ما قام بنفسه ودارى شكوكه؛. وجعل يتحين 
الفرص لتجربة حظه من جديد وهو من الإشفاق في 
غاية» وإذا ببدور تحاول الافلات من يد عايدة ملوحة 


فصر الشوق 151 


له بيدها المطلقة. فتقدّم منبا ليأخذها بين ذراعيف 
ولكنّ عايدة جذبتها نحوها وهي تقول: «آنْ لنا أن 
نهب ثم حيتهم ومضت إلى حال سبيلها! 

آم ما معنى هذا؟ إِنْ عايدة غضبانة عليه وما 
أرادت بمجيثها إِلّا أن تعالنه بغضبهاء ولكن فيم 
آخذته؟ أيّ ذنب جبى؟ أي هفوة كبيرة أو صغيرة أتى؟ 
يا لها من حيرة هرئت بمنطقه وشت يقينهء بيد أنه 
قبض عل زمام نفسه بيد قوية أن تفضحه شجونه, 
وكان على ضبط النفس قادراء فمئل دوره المألوف 
تمثيلا حسئًا ووارى أثر الضربة القاصمة عن أعين 
الصحابء؛ وقال لنفسه بعد تقوض المجلس: إِنْه 
يحسن به أن يواجه الحقيقة مهما تكن قاسية؛ وأن يسلّم 
بأنْ عايدة حرمته ‏ اليوم على الأقل ‏ من نعمة 
صداقتها. . . إِنّ في قلبه العاشق مسجلا كهربائيًا دقيمًا 
كلسي ريه أو كيظرة أن كه لذ ميكليا: 
حي النوايا يُطلِع عليها وحيّ الآتي البعيد يبتدهه. 
ليكن السبب ما يكون أو ليكن الأمر بلا سبب كمرض 
استعصى على الطبٌ سرّهء فإنْه في الحالين يرى كأنه 
ورفة شجر انتزعتها ريح عاتية من فئن غصن وألقت 
بها في غثٌ النفايات . 

ووجد فكره جوم حول حسن سليمء ألم يختم 
حديثه معه بقوله وعلى أنه في وسعي دائمًا أن أحملها 
على الإذعان لمشيثتي إذا أردت»؟ ولكنها جاءت اليوم 
كعادتهاء إن بلواه من تجاهلها إِيّاهِ لا من غيابهاء ثم 
نه وحسن افترقا على صفاء: وليس ثمّة ما يدعو ححسن 
إلى مطالبتها بتجاهله. وليست هي بالتي تمتشل أمر 
إنسان مهما يكن شأنه؛ وليس هو بالمذنب» فيا مر 
التجئّى يا ربٌ السياوات؟! إِنّْ لقاء الكشك - بينه 
وبينها - على قسوته وعبثه الجارح برأسه وأنفه وكرامته لم 
يخْلُ من مودّة ودعابة ثم شُتم بما يشبه الاعتذارء ريما 
يكون قد قضى على أمله في الحبٌ ولكنه لم يكن في حبّه 
أمل. أما لقاء اليوم فابتلاه بالتجاهل. بالتبذى 
بالصمت. بالموت» ولآن يجنو الحبيب أو يقسو خير 
على أيّ حال من أن يمرٌ بعابده وكأنه شيء لم يكن يا 
للتعاسة! ألم جديد يضاف إلى معجم الآلام الذي 


4 قصر الشوق 


يحمله على صدره. ضريبة جديدة للحبٌء وما أفدح 
ضرائبه» يؤذي بها ثمن النور الذي يضيئه ويحرقه. 

واحتقن بالغضب صدرهء عرٌ عليه جدًا ألا يحظطى 
على حبّه العظيم إلا ذا الإعراض البارد المتعجرف. 
وحرٌ في نفسه الا يتمخّض غضبه إِلَّا عن الحبٌ 
والولاء. وألا يرد اللطمة إلا بالابتهال والدعاء» ولو 
كان المتجئى عليها شخصًا آخر ولو كان حسين شدّاد 
نفسه لقطعه دون تردّدء أما وهو المعيود فقد ردت 
شظايا الغضب إلى نحره. وانصيّت العداوة على هدف 
واحد هو نفسه. فنزعت به الرغبة في الانتقام إلى إنزال 
العقاب بالجاني .. الذي هو نفسه ‏ قضى عليها بالحرمان 
من الدنياء وامتلاأ بشعور عئيد محزون أملى عليه 
الإعراض عنبا إلى الأبد! رضي فيها رضي بصداتتها 
بل اعتبرها فوق أحلام مطمعه بالرغم من أن قوة حبّه 
تضيق عنها السماوات والأرض» ورضي أكثر من هذا 
بالياس من حبّها قانععا من عربدة الأماني بابتسامة حلوة 
أو كلمة رقيقة ولو تكون ابتسامة ا وكلمته. غير 
أن التجاهل أحزنه وأذهله وخبله م من الدنيا جميعا 
نبذهء ولعلّه أتاح له أن يشعر بشعور الميت لو كان 
ميت يشعرء لم ترحمه الفكر ساعة من ساعات يقظته 
طول الأسبوع الذي قضاه بعيدًا عن قصر آل شداد. 
وتهالك شعوره في اجترار الخيبة التى قرعته لحظة بعد 
أخرى. وهو في البيت صباحا يفطر على مائدة أبيه, 
وهو في الطريق يسير بحواس زائفة» وهو في مدرسة 
المعلّمين يسمع بعقل غائب». وهو يقرأ مساء بانتباه 
مشنّت. وهو يتذلل للنوم كي يقبله في ملكرته؛ ثم 
وهو يفتح عينيه في الصباح الباكر فإذا بالفكر تتتخاطفه 
كأنمما كانت على عتبة الوعيى ترصده أو كأنما هي التي 
طرقته بجزع النهم كي تواصل التهامه كرّة أخري, ألا 

ما أفظع النفس | إذا خانت صاحها! . . 

ويوم الجمعة ذهب إلى قصر الحبٌ والعذاب» فبلغه 
قبل الميعاد المعتاد بقليل. لماذا ترقب هذا اليوم بصبر 
نافد؟ ماذا يرجو عنده؟ هل يطمع أن يجد ولو نبضًا 
بطيئًا ضعيفًا ليوهم نفسه بأنَّ جفّة الأمل لم تفارقها 
الحياة بعد؟ هل يحلم بمعجزة تردٌ معبوده إلى الرضى 


على غير انتظار وبلا سبب كما غضب على غير انتظار 
وبلا سبب؟ أو أنّْه يستزيد من الجبحيم ناز لما إل 
برودة الرماد؟! سار في ثمرٌ الذكريات إلى الحديقة. وإذا 
به يرى عايدة جالسة على كرسي واضعة بدور على 
حافة المائدة أمامها. وليس في الكشك سواها أحد! 
توقف عن المسير وفككر في العودة إلى الخلرج قبل أن 
تلقف تاحيعةه ولكنه نل هذه الفكرة تعد واذوراءه 
وتقدّم صوب الكشك تدفعه رغبة شديدة في مواجهة 
العذاب وكشف الئقاب عن اللغز الذي فتك بأمنه 
وسلامه. هذا الكائن اللطيف الجميل» هذا الروح 
الشفاف المتدكر في فستان امرأة» هل يدري ماذا فعل 
به جفاه؟ هل ينام ضميره قرير العين لو شكا إليه ما 
عاناه» ما أشبه استبداده باستبداد الشمس بالأرض 
الذي قضي عليها بأن تدور حولها في دائرة مرسومة ‏ لا 


تقترب هنها فتندمج ولا تبتعد عنها فتنتهي - إلى الأبد! 


لو تجود بابتسامة فيتداوى بها من آلامه جميعًا!؟ وكان 
يقترب منها متعمّدًا أن يحدث في مشيته صوبًا لتنبيههاء 
فأدارت رأسها نحوه كلمتسائلة» ثم لم تفصح أساريرها 
عن شيء» فوقف على بعد ذراعين من مجلسهاء 
رأسه في خشوعء وقال باسمًا: 

- صباح الخير. . 

فحنت رأسها حنوة صغيرة» ولكتها لم تنبسء ثم 
نظرت فيا أمامها. 

لم يعد ثمّة شك في أنْ الأمل جنّة هامدة. وخيّل 
إليه أنها ستصيح به «اذهب عئّى برأسك وأنفك حتّى 
لا يحجبا عبّى ضوء الشمس!4. غير أنّْ بدور لوّحت له 
بيدهاء فالت عيناه إلى وجهها الحميل المشرق ومضى 
نحوها ليداري في عطفها البريء هزيته فتعلّقت 
بذراعيه . فهوى رأسه إليها وقبل خذها قبلة حنان 
وامتئانء وإذا بالصوت الذي فتم له فيها مضى أبواب 
الموسيقى الإلهيّة يقول بجفاء : 

- من فضلك لا تقبلهاء القبلة تحيّة غسير 

نذت عنه ضحكة حائرة لم يدر كي كيف ولا لم ندّت. 

ثم امتقع لونهء» وبعد دقيقة واحمة ذاهلة قال منكرا: 


- ها ليست القبلة الأولى فيها أذكر! 

فرفعت كتفيها كأنما تقول (هذا لا يغيّر من الحقيقة 
شيئًا» . آ0. أيمضى إلى أسبوع جديد من العذاب دون 
أن ينطق بكلمة دفاعا عن نفسه؟ 

- اسمحي لي أن أتساءل عن سر هذا التغير 
الغريب» فقد جعلت أتساءل عنه طوال الأسبوع 
الماضي دون أن أظفر بجواب!؟ 

لم يبد عليها أنْها سمعته. وبالتالي لم تعن بالرد 
عليه فعاد يقول وقد وثبى صوته بحيرته وأله : 

- إِنَّ ما يحزنني حا هو أني بريء لم أجنٍ ما أستحق 
عليه العقاب] 

وم تزل مصرة على الصمت» فخاف أن يجي ع 
حسين قبل أن يستدرجها إلى الكلام. فبادر يقول 
بلهجة جمعت بين التشكتي والترجي : 

ألا يستحقٌ صديق قديم مثلي أن يكاشف على 
الأقل بذنبه؟ 

فرفعت نحوه جانب رأسهاء ولحظته بنظرة مكفهرة 
اكفهرار السحاب المنذر بالمطر» ثم قالت بلهجة 
غاضبة : 

لا تدّع البراءة الكاذبة. . . ! 

يا رب السماوات هل ترتكب الذنوب بلا وعي من 
الجاني؟! قال في نيرات متدافعة» وهو يربّت بحركة 
آليّة يدي بدور الى حاولت أن تجذبه إليها وهي لا 
تدرك مما يدور شيئًا: 

صدقت” ظئونى واأسفاه! هذا ما حذثني به قلبي 
فكدّبته إن مذنب في نظركء أليس كذلك؟ ولكن 
بأىّ ذنب تتهمينني؟ ! خبريني وحياتك» لا تنتظري أن 
أكون البادئْ بالاعتراف لسبب بسيطء. وهو أنني لم 
أجن شيئًا يستحقٌ الاعتراف. مهم أنقّب في زوايا 
نفسى وحياتي وتاريخي فلن أعثر على نيّة أو كلمة أو 
فعل وُجُه ضدّك بسوء. إن أعجب كيف لا تأخذين 
هذا مأخذ البديبيّات من الأمور؟! 

فقالت بازدراء : 

لست ممّن يؤثّر فيهنّ التمثيل» سَلَ نفسك عم 
قلت عت ! 


فقال بانزعاج : 

ماذا قلت عنك؟ ولمن قلته؟ أقسم لك. . . 

فقاطعته بضيق قائلة : 

- لا يمن القسم في كثير أو قليل» وفره لنفسك» 
إن الذي يغتاب الناس لا يوؤمّن على قسّمء المهم أن 
تذكر ماذا قلت عثي. . .! 

رمى بمعطفه على مقعد كأتّما ليأخذ كامل أهبته 
للنضال. وابتعد خطوة عن بدور ليتخلّص من تاولتها 
البريئة في الاستثثار بانتباهه. ثم قال بحرارة ناطقة 
بالصدق: 

لم أقل عنك كلمة أخجل من إعادتها الآن على 
مسمعك. لم أتفوه عنك بكلمة سوء في حياتي وما كان 
ذلك في وسعي لو تعلمين» وإذا كان «بعضهم» قد 
أبلغك عبّي ما أغضبك. فهو واش حقير لا يستحق 
ثقتك. وإنى على استعداد لمواجهته أمامك لتري 
بنفسك مبلغ صدقه أو بالحريّ مدى كذبه. ماذا بك 
من عيب حي أتحدّث به؟! لش ما أسأت بي الظنّ! 

- شكرًا على هذا الثناء الذي لا أستحقّه, لا أظنني 
أخلو من نقصء على الأقلّ فإنْي لم تلق تربية شرقيّة 
خالصة ! 

نشبت هذه الحملة الأخيرة في انتباهه. فذكر كيف 
وردت على لساته وهو يجاور حسن سليم دافعا 
الشبهات عن معبودتهء فهل يكون حسن أعادها 
بطريقة أثارت الشك في خسن مقصده؟! حسن سليم 
النبيل؟ هل يتأن هذا حمًا؟ شد ما يدور رأسه! قال 
وعيئاه تنطقان بالدهش والأسف : 

ماذا تقصدين؟! أعترف لك بأني قائل هذه 
الجملة» ولكن سلي حسن سليم يخبرك» أو ينبغي له 
أن يخبركء بأئني قلتها وأنا أنوه بمزاياك!. . . 

فحدجته بنظرة باردة» وتساءلت : 

- مزاياي؟! وهل رغبتي قِ أن أكون «فتاة أحلام» 
كل شاتٌ من بين هذه المزايا؟ | 

فهتف كمال بانزعاج وغيظ: 

هو قائل هذا عنك لا أناء» هلا انتظرت حي 


٠‏ قصر الشوق 


يحضر لأتْهداه أمامك؟! . . . 

فواصلت تساؤلها الذي تتابع في مرارة وسخرية 
قائلة : 

- وهل ملاطفتي إيّاك من بين هذه المزايا أيضًا؟ 

قال يائسًا وقد عجزء حيال انصباب التهم. عن 
الدفاع : 

- ملاطفتك إيّاي؟! أين؟ ومتى؟ 

- في هذا الكشك!؟ هل نسيت؟! أتتدكر أنك 
أوضته ذلك؟! 

المته سخريتها وهي تتساءل «هل نسيت؟!» وأدرك 
لتوّه أَنّ حسن سليم ‏ يا للحباقة ‏ قد ظنّ بلقاء 
الكشك الظنون. فكاشف حبيبته بشكوكه أو نسبها 
قال بحرن وحئق : 

أنكرء أنكر بكل قوّة وصدق. إن نادم على سن 

فقالت بكبرياء, كأتما اعتيرت جملته الأخيرة موججهة 
إليها هي : 

- إنه عند شن الظنّ دائًا. . . 

زفر غبارٌّاء وخيّل إليه أن أبا المول قد رفع قبضته 
الجرانيتيّة الهائلة التي لم تتحرّك منذ آلاف السنين» ثم 
هوى بها عليهء فهرسه وواراه تحتها إلى الأبد. قال 
بصوت متهدّج : 

إذا كان حسن هو الذي أبلغك عنى هذه 
الأكاذيب فهو كاذب وضيعء ويكون هو الذي اغتابني 
لا آنا الذي اغتبتك., . , ! 

لاحت في عينيها الجميلتين نظرة قاسية» وتساءلت 
بحدّة : 

- أتنكر أنك انتقدت أمامه اختلاطي بأصدقاء 
مييق | 

أهكذا يحرف النبل الأرستقراطيّ الكلام؟! قال 
بتأثر شديد: 

- كلاء لم يحصل ذلكك. علم الله أني ل أقله 
منتقدّاء ولكنه اذعى اذعاءات كبيرة. قال. . . . قال 


2 
٠ 


إِنْك تحبينه | وقال إنه إن شاء منعك من الاختلاط بنا! 


وم أكن أقصد. . . 

قاطعته قائلة بازدراء وهي تقف منتصبة القامة في 
كرياء. حسّ تموجت هالة شعرها الأسود بحركة رأسها 
المرفوع : 

أنت تهذي ! لا مهمْني ما يقال عنئىء إن فوق هذا 
كل ولا خطا لي فيا أعتقد إلا أنْني أهب صداتتي 
دون ثمييز. . . ! 

ارات بدور إلى الأرض وهي تكلم فتناولت 
يدها م ولته ظهرهاء وغادرت الكشلكء فهتفف مها 
متوسلا : 

انتظري لحظة من فضلك كي... 

ولكتّبا كانت قد ابتعدت» وكان صوته قد علا أكثر 
ما ينبغي حيّى خيّل إليه أنّه أسمم الحديقة كلهاء وأنّ 
الأشجار والكشك والكراميٌ ترمقه بنظرة جاملة 
ساخرةع فأطبق فاه واعتمد براقي حافة المائدةء فيال 
فرعه الطويل كأئما انحنى تحت ضغط القهرء لم يمكث 
ونا وولف رن ليق أن عاد مسق ددا للق 
المحيًا كعادته.ء فحيّاه تحيّته الصافية اللحلوة وجلسا على 
كرسيين متجاورين» وتبعه بعد قليل إسماعيل لطيف» 
وأخيرًا جاء حسن سليم يسير في خخمطواته المتمهلة 
وحركاته المترفعة. وتساءل كيال في حيرة: تشرى 1 
يلمحههما حسن من بعيد كا لمحهما في المرة السابقة؟ 
ومتى - وكيف ‏ يدري بما دار بيهها من حديث قاطع 
أسيف! وانفجر في صدره الغيظ والغيرة كا تنفجر 
الزائدة. بيد أنه آلى على نفسه آلا يُشمت به غريماء 
وألا يضع شخصه موضع السخرية أو العطف 
الزائف. وألا يمكن أحدًا من أن يطالع في. صفحة 
وجهه أثرًا مما تضطرب به جوانحهء فألقى بنفسه في 
تيّار الحديث.» ضحك للاحظات إساعيل لطيف» 
وعلّق طويلاً على تكوّن حزب الانمحاد وخروج 
الخارجين على سعد زغلول والوفد ودور نشأت باشا في 
هذا كله بالاختصار مثُّل دوره خخير تمثيل حي انفضٌ 
المجلس بسلام» وغادر كيال وإسماعيل وحسن سراي 
آل شدّاد عند الظهرء وكأنَ كال لم يعد يحتمل مزيدًا 
من الصيرء فخاطب حسن قائلا: 


أريد أن أحدّثئك قليلا. , . 
فقال حسن مهدوء: 
فنظر كمال إلى إسماعيل كالمعتذر. وقال: 
على انفراد! 
همٌ إسماعيل بالانسحاب» فأوقفه حسن بإشارة من 
يده. وقال: 
لست أخفي عن إسباعيل شيعًا. . . 
فاحنقته هذه الحركة فاستشفٌ وراءها مريبًا 
يتوبّس.» غير أنه قال دون مبالاة : 
إذن فليسمعناء فلست أخفي عنه شيئًا أيضا. . . 
وانتظر قليلُا حتّى باعد المشى بينهم وبين سراي آل 
شدّاد ثم قال: 
- قبل حضوركم اليوم اتّفق لي أن قابلت عايدة في 
الكشك عل انفراد. فدار بيئنا حديث غريب أدركت 
منه أنّك نقلت إليها بعض حديثئا في شارع السرايات 
أتذكره؟ - مشوٌمًا ععرّفًا حَبّى دحل في روعها أنني 
حملت عليها حملة ظالمة باغية . 
رده حسن بين شفتين ممتعضتين لفطّي «مشوه 
ومحرّف» ثم قال ببرود وهو يلقي عليه نظرة كأئما يريد 
بها أن يذكره بأنّه إنما يخاطب «حسن سليم» لا شخصًا 
أخر: 
يحسن بك أن تكلّف نفسك بعض المحهد في تحير 
الألفاظ . . . 
فقال كيال بانفعال: 
هذا ما فعلته! فالحقٌ أن كلامها لم يدَعٌ لي شكا في 
أنلك أردت الوقيعة بيني وبينها! 
حال لون حسن غضبّاء ولكنّه لم يستسلم له فقال 
بصوت أمعن في البرود : 
- يؤسفبي أن أحسن الظنَ طويلًا بفهمك وتقديرك 
للأمور (ثمّ بلهجة ساخرة) هلا أخبرتني عا عبى أن 
أجنيه من وراء هذه الوقيعة المزعومة؟! الحقّ أنك 
تندفع بلا رويّة أو عقل. . . ' 
فاشتدٌ الغضب بكال» وهتف قائلا: 
بل سوّلتٌ لك نفسك سلوكا شائنًا. . . ! 


قصر الشوق ٠٠١1١‏ 


وهنا تدتّمل إساعيل قائلا : 

- إفي أقترح عليكما تأجيل الحديث إلى وقت آخخر 
تكونان فيه أملك لأعصابكيا! 

فقال كيال بإصرار: 

إن الأمر من الحلاء بحيث لا يحتاج إلى مناقشة , 
وهو عارف وأنا عارف! 

فعاد إسماعيل يقول : 

د ع غلنا ما ذار الى الكشف يمك ويا 
لعلنا. . . 

ولكنّ حسن قال بكبرياء: 

أنا لا أقبل محاكمة . . . ! 

فهتف كال منفْسًا عن غيظه. وإن كان يعلم أنه 
من الكاذيين : 

على أي حال أخبرتها بالحقيقة لتعلم أيّنا أصدق 
قولًا | 

فصاح حسن بوجه ممتقع : 

- فلندعها توازن بين ما قال ابن التاجر وما قال ابن 
السفان!] 

اندفع كيال نحوه مكورًا قبضته فحال إسماعيل 
بيبياء وكان أقوى الثلاثة رغم ضألة حجمه. ثم قال 
دخرم ., 

لا أسمح مبذاء كلاكيا صديق, محترّم ابن مخترمء 
دعانا من هذا العبث الخليق بالأطفال. . . 

عاد ثائرًا هائجًا جريًا يقطع الطريق ببخطوات ححادة 
اعتدائيّة وياطنه يستعر بالآلم»ء طعن في قلبه وكرامته. 
معبودته وأبيهء فيا بقي له في الدنيا؟! وحسن,ء الذي لم 
يحرم زميلًا كبا احترمه ولا أعجب بخلق أحد كها 
أعجب بخلقه؛ كيف اثقلب في ساعة من الزمان وقَاعًا 
سبّابًا؟! الحقٌ أنه رغم حنقه عليه لم يستطع أن يؤمن 
بالتهمة التي اتبمه بها إهانًا خالصًا من كل شك أو 
تردّدء فلم يزل يعاوده التفكير في الأمرء فيسائل 
نفسه: آلا يجوز أن يكون من وراء ذلك الموقف الأليم 
ما وراءه من أسرار؟! أيكون حسن شوه كلامهء أم 
تكون عايدة قد أساءت الفهم أو بالغت في التكهّن أو 
استسلمت للغضب؟ غير أن الموازنة بين ابن التاجر 


"0 قصر الشوق 


وابن المستشار رمت به في جحيم من الغضب والأم 
جعلا من محاولة إنصاف حسن ضربًا من العبث. وقد 
ذهب بعد ذلك إلى سراي آل شداد ف موعد اللقاء 
المعهودء فوجد حسن معتذرًا عن التخلف بطارئ؛ 
وأخبره إسماعيل لطيف عقب انفضاض المجلس: بأنه 
حسن - آسف جدًّا عل ما بدر مئه حين الغضب عن 
«ابن التاجر وابن المستشار»ء وأنّْه مؤمن بأنّه ‏ كمال - 
ظلمه ظلً) فادًا باستنتاجاته الواهمة وأنّه يرجو ألا 
تقطع هذه الحادثة العارضة أسباب الصداقة بينبهاء 
وأنّه - حسن - كلفه بإبلاغه ذلك عن لسانه» ثم تلقى 
منه خطابًا بذا المعنى مشدّدًا الرجاء في ألا يعودا إلى 
الماضى إذا تلاقيا وأن يسدلا عليه ستار النسيان» 
ل بقوله «اذكر حملة ما أسأث به إل وجملة ما 
أسأتٌ به إليك لعلّك تقتئع معي بأنْ كلانا مخطئ وأنْه 
لا يصمّ لأحدنا تبعًا لذلك أن يرفض اعتذار 
صاحبه!؛. وطايت نفس كيال بالرسالة حيئاء بيد أنه 
لاحظ أنْ ثمّة تناقضًا بين كبرياء حسن المعروف وبين 
هذا الاعتذار الرقيق غير المتوقم. أجل غير المتوقم!! 
فا كان يتصوّر أنه يعتذر لأئّ سبب من الأسباب؟ فاذا 
غيّره؟ لا يمكن أن يكون لصداقته هو هذا التأثير 
الضحم في كيرياء صاحبهء فلعلّه ‏ حسن - أراد أن 
يسترد سمعته المهلّبة أكثر مما أراد استرداد صداقته. 
ولعلّه حرص أيضًا على ألا يستفحل الشقاق فتترامى 
أنباؤه إلى حسين شدّاد أن يستاء الشابٌ لموقف شقيقته 
من النزاع أو يغضب بدوره إذا بلغه ما قيل عن ابن 
التاجر ‏ وهو ابن تاجر ‏ وابن المستشار! أيّ سبب من 
أوائك له وجاهته وهو أدنى إلى المنطق في حال حسن 
من اعتذار لا يراد به إِلّا وجه الصداقة وحدها؟! كل 
شيء يبون فليصالحه حسن أو فليخاصمه المهمٌّ حقًا 
أن يعرف هل قرّرت عايدة الاختفاء؟ لم تعد تطوف 
بمجلسهم. أو تبدو في النافذة؛ أو تلوح في الشرفة. 
لقد أفشى لما قول حسن بأنه إذا شاء منعها من 
الاختلاط بأحد ليضمن ‏ اعتماذا على كيريائها ‏ 
إصرارها على زيارة الكشك فلا يحرم من رؤيتها. 
لكّها اختفت رغم ذلك كأئما رحلت عن البيت كل 


بل عن الحيّ كله بل عن الدنيا كلها فيا عاد يجد لها 
طعياء أيمكن أن يطول هذا الفراق إلى ما لا 
نباية؟. . . ود لو كان قصدها أن تعاقبه حيئا ثم تعفو 
أو في الأقل أن يذكر حسين شدّاد سببًا لغيابها يكذّب 
خخاوفه, ودّ هذا أو ذاك كثيراء وانتظر وطال انتظاره بلا 
فائدة , 

كان إذا مضى لزيارة السراي أقبل عليها بعينين 
قلقتين تضطربان في محجريبهما بين اليأس والرجاء. 
فيسترق إلى شرفة المدخحل نظرة» وإلى نافذة الممر 
الجانبئ نظرة» ثم يلحظ شرفة الحديقة وهى في طريق 
الكشك أو السلاملك. ويجلس بين الأصدقاء ليحلم 
طويلا بالمفاجأة السعيدة التي لا تريد أن تع وينفض 
المجلس فيغادره ليختلس نظرات متغبة حزينة من 
النافذة والشرفاتء» خاصّة نافذة الممرٌ الجانبئ التي 
كثيرًا ما تظهر في أحلام يقظته إطارًا للصورة المعبودة, 
ثم يذهب متجرّعًا اليأس زافرًا الكرب. وبلغ به 
اليأاس أن كاد يسأل حسين شذاد عن سر الختفاء 
عايدة غير أن تقاليد الحو العتيق الذي تشع بها 
عقلته فلم ينطق» وجعل يتساءل في قلق عن مدى إلمام 
حسين بالظروف التي أدذت إلى تواري المعبودة. أما 
حسن سليم فلم يشر إلى «الماضي» بكلمة ول يبد في 
صفحة وجهه أنه يفكر على أيّ وجه فيهء ولكن لا 
شك أنه كان يرى في كلّ جلسة تجمعهم شاهدًا على 
هزيمته - كمال المجسّمةء وكم كان يتالم كمال هذا 
الخاطر. تعذب كثيراء شعر بالعذاب ينفذ إلى نخاعه. 
وبذيان العذاب يخالط عقله: وكان شر ما يعذّبه لوعة 
الفراق ومرارة المزيمة وضيقة اليأس»: وأفظع من هذا 
كله الإحساس بالهوان» بأنّه المنبوذ من روضة الرضى» 
المحروم من أنغام المعبود وأضوائه. فجعل يردّد وروحه 
تذرف دموع الأسبى والقهر «أين أنت من أولفكك 
السعداء أنّبا المخلوق المشوه!»؛ ها معنى الحياة إن 
أصئت على الاختفاء؟ أين تجد عيئاه النور؟ ويتلقى 
قلبه الحرارة؟ وتنعم روحه بالغبطة؟ فلتبدٌ المعبودة بأئّ 
ثمن ترضاه. فلتبدٌ لتحبٌ من تشاء حسن كان أو 
غيره. فلتبدٌ. ولتهزأ برأسه وأنفه ما شاء لما المزاح 


واللعب» إنْ اشتياقه إلى اجتلاء طلعتها وسماع صوتها 
فاق طاقة النفئس على الاشتياق. فأين منه نظرة رانية 
لتمسح عن صدره سخام الكآبة والوحشة» ولتسرٌ قلبًا 
أصبى مفتقد السرور منه كالنور من فقيد البصر. فلتبد 
وإن تتجاهله» فإنْه إن خسر سعادة القبول عندها فلن 
تضيح سعادة رؤيتها ورؤية الدنيا بعد ذلك في محتلى 
ضوئها البهيج. أمّا بغير ذلك فلن تكون الحياة إلا 
لحظات متّصلة من الألم المخلخل بالجنون» وهل كان 
خروجها من حياته إلا كخروج العمود الفقريّ من 
الجسم الإنسانيّ يردّه من بعد توازن وتكامل إلى شبه 
جثة ناطقة؟ 

وأخخرجه الألم والقلق عن الصبرء فلم يعد يحتمل 
الاتتظار حبّى يجيء يوم الجمعة فكان يذهب مع 
الأصدقاء إلى العباسيّة فيحوم حول السراي من بعيد 
لعلّه يلمحها في نافذة أو شرفة أو في خطراتها وهي 
نظن أئّها بمنأى عن عينيه» على أنْ الانتظار في بين 
القصرين كان من فضائله اليأس بخلاف حومان 
المحموم حول مقام المعبودة» كحومان مجموعة من 
الديناميت حول عمود من النيران. لم يرهاء ولكنه رأى 
مرّات أحد الخدم وهو ذاهب إلى الطريق أو عائد منه» 
فكان يُتبعه عيئًا متفخصة متعجّبة كأنها تسائل المقادير 
عا جعلها تخصٌ هذا الإنسان بحظوة القرب من 
المعبودة والاختلاط بها والاطلاع على شيَّى أحواماء 
مستلقية أو مترئمة أو لاهيةء كل ذلك من حظ هذا 
الإنسان الذي يعيش في المحراب ولا تشغل قلبه 
العبادة ! 

وف جولة من جولاته رأى عبد الحميد بك شداد 
وحرمه المصون وهما يغادران القصر ليركبا المثرفا التي 
كانت في انتظارهما أمام البابء رأى الشخصين 
السعيدين اللذين تقف عايدة أمامهما . من دون 
العالمينَ ‏ بإجلال واحترام. اللذين يخاطباها بلسان 
الأمر أحيانًا فلا تملك إلا أن تطيع! وهذه الأمّ المقدّسة 
التى حملتها في بطنها تسعة أشهرء فها من ريب في أن 
عايدة كانت جنيئًا فوليدة كتلك المخلوقات التي كان 
يرنو إليها طويلا في فراتّى عائشة ونخديجة. وليس من 


قصر الشوق ٠7١‏ 


إنسان هو أعرف بطفولة معبودته من هذه الأم السعيدة 
المقدّسة! سوف تبقى الآلام ما بقي في متاهة الحياة أو 
في الأقل لن تمحى آثارها. أين تذهب ليالي يناير 
الطوال وهو دافن في الوسادة عيئيه الدامعتين؟ وبسط 
راحتيه إلى ربٌ السهاوات وهو يدعو من الأعياق الله 
قل لهذا الحبّ كُنْ رمادًا كبا قلت لنار إبراهيم كوني 
بردًا وسلاما»؟! وتمنيه لو كان للحبٌ مركز معروف في 
الكائن البشري لعلّه يبتره كيا يبتر العضو الثائر 
بالجراحة؟ وهتافه باسمها المحبوب ليتلقّى صداه في 
سكون الحجرة الصامتة بقلب خاشم كأئما كان غيره 
المنادى؟ ومحاكاته لصوتها حينما دعت باسمه ليستعيد 
حلم السعادة المفقودة؟ وتقليبه البصر فى كراسة 
الذكريات للتعبّت من أن ما كان حقيقة لا وهمًا من 
الخيال؟ ! 

ولأوّل هرّة منذ أعوام تطلع إلى ما قبل الحبٌ من 
الماضي بلهفة كا يتطلّم السجين إلى ذكريات الحرّيَة 
الضائعة. أجل لم يتصور شخصا هو أشبه بحاله من 
السجين» غير أنّْ قضبان السجن بدت أطوع للتحطيم 
وأرقٌ أمام الزمام من أغلال الحبٌ الأثيريّة التي تستاثر 
المشاعر في القلب والأفكار في العقل والأعصاب في 
الحسد م لا تؤذن بانحلال؛ ووجد نفسه يوما 
يتساءل: ترى هل ذاق فهمي مثل هذا العذاب الذي 
يعانيه؟ وهفّت عليه ذكريات أخبيه الراحل مثل لحن 
كامن حزين . تنبّد في أعماق النفس. فذكر كيف قص 
يومًا على مسمعه مغامرة مريم مع جوليون؛ فأغمد 
خنجرًا مسمومًا في قلبه بلا حيطة أو حذر. وجعل 
يستحضر في ذاكرته وجه فهميء فتخيّل إليه هدوءه 
الذي انخدع به وقتذاك . لم تصور تقلصات الأم قُِ 
قساته الحميئة حين حلا إلى نفسه؛. ومئاجاته الشاكية 
التي لا شك غرق فيها كما هو يغرق الآن في تأؤهاته 
وأنينه. فشعر بغمز في قلبه وراح يقول: لقد عان 
فهمي ما هو أشدّ من الرصاص قبل أن يستقر 
الرصاص في صدره! ومن عجب أنه وجد في الحياة 
السياسيّة صورة مكيّرة لحياته. فكان يطالع أنباءها في 
الصمحف وكأنئمًا يطالم مواقف مما مر به في بين 


4 قصر الشوق 

القصرين أو العباسيّة. هذا سعد زغلول ‏ مثله هو 
شبه سجين وهدف للطعنات الباغية واللدملات 
الظالمة ولخيانة الأصدقاء وغدرهم» وكلاهما ‏ هو وسعد 
. يكابدان أحزانًا من اتصاهما بأناس علوا 
بارستقراطيتهم وسفلوا بفعالهم. تقمص شخص 
الزعيم في كدره كما تقمّص حال الوطن في قهره؛ وكان 
يلاقى الموقف السياسيّ وموقفه الشخصيّ بعاطفة واحدة 
وانفعال واحدء فكأئما كان يعنى نفسه وهو يقول عن 
سعد زغلول «اتليق هُذه المعاملة الظالمة ببذا الرجل 
المخلص؟», وكأنما كان يعنى حسن سليم وهو يقول 
عن زيور «خان الأمالة واستحلٌ القبيح في سبيل 
الاستيلاء على الحكومة؛. وكأنما كان يعني عايدة وهو 

يقول عن مصر وهل تلت عن رَجُلها الأمين وهو يذود 

عن حقوقها؟!», 

1 )ات 
كان بيت آل شوكت بالسكريّة من البيوت التي لا 

تحظلى بنعمة الهدوء والسكيئة» لا لأنْ أدواره الغلاثة 
أصبحت مأهولة بالسكان من آل شوكت فحسب. 
ولكن بسبب خديجة قبل أيّ شيء آخخر. كانت الأم 
العجوز تقيم في الدور التحتانّ, وخليل وعائثئة 
وأبناؤهما: نعيمة؛ وعئيان. ومحمد في الدور الفوقانٌ, 
ولكنّ ضوضاء أولئك جميعًا لم تكن شيئًا بالقياس إلى 
ضوضاء خديجة وحدها. سواء ما يصدر عنبا مباشرة أو 
ما يصدر عن الآخرين بسببهاء وقد حدثت تغيّرات في 
نظام البيت كانت خليقة بحصر أسباب الضوضاء في 
أضيق الحدود. كاستقلال خديجة ببيتها ومطبخهاء 
وكاستئثارها بالسطح لتربية دواجههاء» وغرس بستان 
متواضع ف جانب منه على مثال بستان البيت القديم 
بعد أن أجلت عنه حماتها ودواجنباء كان كلّ ذلك 
خليقًا بتخفيف الضوضاء إلى حدٌ كبير» ولكنّ 
الضوضاء لم تخف؛. أو لعلها خفت بقدر لم يلحظه 
أحد؛ على أنْ روح خديجة اعتورها هذا اليوم فتورء 
ولم يكن سِرّه ‏ فيها بدا خحافيّاء فإنْ عائشة وخليل 
انتقلا إلى شقتها ليشاركا في تفريج الأزمة ‏ أجل الأزمة 
- التي أرُمتهاء جلسوا: الأخوان, والأختان في الصالة 


على كنبتين متقابلتين. وكانت الوجوه جاذة» وكانت 
خديجة متجهّمة» وكانوا يتبادلون نظرات ذات معنىء 
ولكنّ أحدًا منبم لم يشأ أن يطرق الأمر الذي جمعهم 
حي قالت خديجة بنيرة شاكية حانقة معا: 

- هذه المنازعات تقع في كل بيت2» هكذا كانت 
الدنيا منذ نخلقها ربّنا وليس معنى هُذا أن ننشر متاعبنا 
على الناس. خصوضًا أولئك اللين لا ينبغي أن 
بشغلوا بالكلام الفارغ. ولكتها أبت إلا أن تمعل من 
شئون بيتنا فضائح عامّة حسبي الله ونعم الوكيل. . . 

تحرّك إبراهيم في معطفه كأنه يستوي في مجلسه. ثم 
ضحك ضحكة مختزلة لم يذْرٍ أحد على وجه الدقة ماذا 
أراد بها فحدجته تخديجة بنظرة ارتياب وهي تتساءل : 

ماذا تعني مبئ هئخ؟. . . ألا يبت قلبك بشيء في 
الدنيا؟ 

وأعرضت عنه كاليائسة؛ ثمّ استطردت تقول 
مخاطبة حليل وعائشة : 

هل يرضيكا ذهابها إلى أبي في الدكان لتشكوني 
إليه؟ هل يجوز إقحام الرجال ‏ خاضة من كان على 
شاكلة أبي- في منازعات النسوان؟ ما كان ينبغي أن 
يعلم بشىء من هذاء ولا شك أنه تضايق من زيارتها 
وشكواهاء ولولا أدبه لصارحها بذلك... ولكتها ما 
زالت تلح عليه حبّى وعدها بالمجيء. ما أبشسع 
تصرفهاء لم يلق أبي هذه الصغائر, فهل يرضيك هذا 
التصئف يا سي خليل؟ 

فطلب خليل في استياء» وقال : 

أمّيى أخطات» صارحتها أنا نفسيى بذلك حت 
صبّت عل غضبهاء غير أنْها ست كبيرة» وأنت تعلمين 
أن الإنسان في مثل سنّها يجتاج إلى المداراة والحلم 
كالأطفال حيذا. . . 

فقاطعه إبراهيم في ضجر قائلا: 

حيّذا, .. حبّذا. . ١.‏ كم كرّرت حيّذا هذه حيّى 
مللتهاء أنّك كما قلت ستٌ كبيرة» ولكنّ قرعتها 
وقعت على من لا ترحم. . . ! 

التفتت نخديجة إليه بحدّة وقد عبس وجهها وانسع 
منخراهاء وقالت: 


الله . . . الله. . . » لم يبق إلا أن تعيد هذا الكلام 
الجائر أمام بابا. . . ! 

فقال إبراهيم وهو يلوح بيده اسفا: 

بابا ليس معنا الآن. وهو إن جاء فلن يجبيء 
ليستمع إل أناء ولكثِي أقرّر الحقيقة التي يسلّم بها 
التميع ولا تستطيعين أنت إنكارهاء أنت لا تطيقين 
أمّي ولا تحتملين ظلّهاء أعوذ بالله. لم كل هذايا 
شيخة؟ بشيء قليل من الحلم والكياسة كان يسعك أن 
تأسريهاء ولكنٌّ القمر أقرب منالا من حلمك, هل 
تستطيعين أن تنكري كلمة واحدة ما قلت؟! 

فردّدت عينيها بين خليل وعائشة لتشهدهما على هذا 
«الظلم» الصارخ» فبدوا حائرين بين الحقٌ والسلامة, 
حيّى تمتمت عائشة وهى من الإشفاق في باية : 

- سي إبراهيم يقصد أن تغضي قليلًا عا يبدر 
منهأ. . . 
وهرّ خليل رأسه بالموافقة في ارتياح من ظفر أنخيرًا 
بسلم النحاة؛ ثم قال: 

هو ذلك» أمّي سريعة الغضب ولكتها بمدزلة 
والدتك. وبشيء من الحلم تعفين أعصابك من مشقّة 
المشاحنة , . . 

فنفخت سخديجة وهي تقول : 

الأصوب أن يقال إِنّا هي التي لا تحتمل لي ظلّا 
لقد أتلفت أعصاي» وما من مرّة نتلاتى إلا ونُسمعني 
- تصريحا أو تلميحًا ‏ كلمة تبيج الدم وتسم البدن. 
ثمّ أطالب أنا بالحلم! كأني محلوقة من ثلج» اليس 
يكفيني عبد المنعم وأحمد اللذان استتفدا صبري 
وحلمي ؟!1 يا هوه أين أجد منصفًا؟ | 

فقال إبراهيم في تبكم وهو يبتسم : 

- لعلك تجدين هذا المنصف في شخص أبيك؟ ! 

فهتفت قائلة: 

أنت شامت بي» أنا أفهم كل شيء» ومع ذلك 
فرينا موجود! 

فقال إبراهيم بصوت ممطوط يدل على التسليم 
والتحذي في آن: 


- ربنا موجود! 


قصر الشوق ه ٠ل‏ 


وقال خليل بعطف: 

هدّئي روعك حبّى تلقي والدك بنفس مطمئثئة! 

من أين طا بالنفس المطمئئة؟ لقد انتقمت العجوز 
منها شر انتقامء وعبًا قليل تُدعى إلى لقاء أبيها في 
موقف يفْرٌ منه قلبها ودمها. وهنا ترامى إليهم صياح 
عبد المنعم وأحمد من وراء باب حجرته! وأعقبه صوت 
أحمد وهو يبكيى. فقامت على عجل رغم سانتها 
وانجهت نحو الحجرة. فدفعت الباب ودخلت وهي 
تصيح بدورها: 

ما معبى هذا؟! 1 أبكا عن الشجار ألف مرة؟ 
خصيمي المعتدي منكيا. . . 

قال إبرأهيم بعد أن توارت وراء الباب : 

تشكنة كينا وين الراعة :عذاه مشتحكاء 
منذ الصباح الباكر تبدأ ببخوض معركة طويلة تستغرق 
المبار كله فلا تسكن حيٌّ تأوي إلى الفراش» يجب أن 
يذعن كل شيء إلى إرادتها وتفكيرهاء الخادم» الآكل» 
الشرب, الآثاث, الدجاج, عبد المنعم. أحمد. أناء 
الكل يجب أن يذعن لتنظيمهاء إني أشفق عليهاء 
وأؤكد لكم أن بيتنا يمكن أن ينعم بأحسن حال من 
النظام والدقة دون حاجة إلى هذه الوسوسة. . . 

فقال خليل باسما: 

ربنا يعيتها. . . 

- ويعيئني معها! 

قال إبراهيم ذلك وهو مز رأسه باسًا أيضاء ثم 
أخرج من جيب معطفه الأسود علبة سجائره» ونيض 
متجهًا إلى أخيه فقدّمها له فتناول خخليل سيجارة. ودعا 
عائشة لتتناول واحدة ولكتّها رفضت ضاحكة؛. وأومات 
إلى الباب الذي توارت وراءه خديجة» وهي تقول: 

ل الساعة تمر بسلام. . . 

فعاد إبراهيم إلى مجلسه وهو يشعل سيجارة» ويقول 
مشيرًا إلى الباب نفسه : 

محكمةء في الداخل الآن محكمةء ولكنها ستعامل 
هذين المتهمين بالرحمة ولو على رغمها. . . 

عادت خدنحجة وهى تقول متأففة : 

- كيف يمكن اررق طعم الراحة في هذا البيت! 
كيف ومتى؟ ! 


وجلست وهي تتنهد. ثم قالت مخاطبة عائشة : 

- نظرت من المشربيّة فوجدت الطين المتخلف من 
مطر الأمس لا يزال يغطي أرض الحارة» فخبريني 
ورئك كيف يشقٌ أبي سبيله؟!... ول هذا العناد 
كلّه؟ ! 

فسألتها عائشة : 

والسماء؟ كيف حالما الآن؟ 

قطران! ستجعل الحارات بحورًا قبل الليل» 
ولكن هل أجدى ذلك في حمل حماتك على تأجيل ما 
بيت من شِرٌ ولو إلى يوم آخمر؟ كلاء ذهبت إلى 
الدكان رغم ما يسيّبه المثى لها من متاعب, وما زالت 
بالرجل حتى تعهد لها بالحضورء ولو سمعها سامع في 
الدكان وهي تشكوني في هذه الظروف العسيرة لحسبني 
ريا أو سكيئة! 

وضحكوا حميعا مغتلمين الفرصة التي أتاحتها لهم 
للتنفيس عن صدورهم», وتساءل إبراهيم : 

- أتحسبين نفسك أقل شأنا من ريّا وسكينة؟ ! 

وسمع نقر على الباب, ولا فتحت الخادم لاح وجه 
الجارية سويدان فنظرت إلى خديجة بخوف» وقالت: 

مدو لق لكوي لطي ب 

ثم سرعان ما توارت» وقامت -خحديجة شاحبة اللون 
وهي تقول بصوت خحافث: 

- لا تتركونا وحدنا, , , 

فقال خليل ضاحكا: 

- معك إلى النباية يا خديجة هانم!. . . 

فقالت بلهجة وشت بالرجاء والتوسّل : 

- كونوا في جانبي . . . 

وغادرت الشقّة بعد أن ألقت عائشة نظرة متشخصة 
على صورتها في المرآة لتتوكد من خخلوٌ وجهها من أي أثر 
للأصباغ . 

كان السيّد أحمد عبد الجواد يجلس على كنبة في صدر 
الحجرة القديمة تحت صورة كبيرة للمرحوم شوكت. 
على حين جلسثت الأمٌ على مقعد قريب في معطف 
كثيف لم مد كثافته في إخفاء ضالة جسمها الذي 
احدودب أعلاه, وقد نحل وجهها وعمقت تجاعيده 


وتكائرت وجفٌ جلده فلم يبق شيء منه على ما كان 
عليه إلا أسنانها الذهبيّة, ولم تكن هذه الحجرة بالغريبة 
على السيّد أحمد. ول يبون قِدّمها من فخامتهاء وإذا 
كانت الستائر قد مبتت وقطيفة بعض المقاعد والكنبات 
قد الجردت أو بتكت عند المقابض والمساند» فإنّ 
بساطها العجمئٌ قد صان رونقه أو استجدٌ نفاسته, 
إلى أنْ جوها تنسّم برائحة بخور لطيفة مما تولع به 
العجوز. وكانت المرأة تميل على مظلتها وتقول: 

- قلت لنفسي إذا لم يحضر السيد أحمد كما وعدني. 
فلا هو ابني ولا أنا أمّه. . . 

فابتسم السيد قائلا : 

- لا سمح الله إني طوع أمرك. فأنا ابنك وتخديجة 
ابنتك! 

فمطت بوزهاء وقالت: 

- كلكم أبنائي ! أمينة هانم ابنتى الطيّبة» أنت سيّد 
الناس» أمّا خديجة (ورنت إليه وعيناها تتسعان) فلم 
ترث سجية واحدة من سجايا والدها الطيبين. . . (ثم 
وهي تبر رأسها) يا لطيف الطفت. . . ! 

فقال السيد بلهجة المعتذر: 

- إن أعجب كيف أغضبتك لهذا الحدٌ؟ كان الأمر 
كله مفاجأة شديدة علِّ: لا أقبل هذا مطلقّاء ولكن 
هلا حدّئتني عا فعلت؟ 

فقالت المرأة مقطبة : 

هذا شيء قديم» كنا نخفي عنك كل شيء إكرامًا 
لتوسّلات والدتها التى أعيتها الحيل في إصلاحهاء 
ولكتي لن أقول كلمة واحدة إِلّا في وجههاء في وجهها 
يا سي السيد ى) عزمت أمامك في الدكان. . , 

عند ذاك جاءت الجماعة. دخل إبراهيم في المقدّمة. 
وتبعه خليل» فعائشة. ثم خخديجة. وصافحوا السيّد 
واحذًا فواحدًا حتّى جاء دور خديجة. فالحنت في أدب 
مثاليّ حتّى لمت يدهء فلم تتمالك العجوز من أن 
تقول في عجب : 

- ربّاه ما هذه البوليتيكاء أأنت ندعجة قا ل 
تخدعئك الظواهر يا سيّد أحمد, , , 

فقال خخليل معاتبا أمه: 


هلا تركت والدنا حبّى يستريح! ليس ثمّة ما 
يدعو إلى محاكمة على الإطلاق! 

فعلا صوت المرأة وهي تجيبه قائلة : 

ما الذي جاء بك؟! ما الذي جاء بكم؟ دعوها 
واذهبوا عنّا بسلام. . . 

فقال إبراهيم برقة : 

وخدي الله . . 

فصاحت به: 

ع اانا لفيقوة احبين متكا بق ]: ل كتف رجاه 
حمًا ما أحوجتنى إلى استدعاء هذا الرجل الطيّبء ما 
الذي جاء بك؟ وكان يجب أن تكون غاطًا في نومك 
كالعادة؟ | 

ابت صدر خخديجة ارتياحًا إلى هذه البداية» فتمئت 
لو تشتدٌ حبّى تغطي على قضيّتهاء ولكنّ السيّد سأها 
بصوت مرتفع سد الطريق في وجه المعركة المأمولة : 

ما هذا الذي سمعته عنك يا خديجة؟! أحقٌ أنك 
لست الابنة المؤدّبة المطيعة لوالدتك» أستغفر الله بل 
لوالدئنا حميعًا؟ ! 

حاب أمل خديجة. فغضت بصرهاء وتحرّكت 
شفتاها في همس دون أن تبين وهي مز رأسها لفيا 
ولكنّ الأمّ لوّحت بيدها للجميع كي ينصتواء ثم 
أنشأت تقول : 

هذا تاريخ قديم لن أستطيع أن أسرده عليك في 
هذه الحلسةء مثذ أوْل يوم لما في هذا البيت وهي 
تخاصمني بلا سبب» وتخاطبني بأطول لسان عرفته في 
حياق» لا أحبّ أن أعيد عليك ما سمعته طوال حمس 
سئوات» أو يزيد. كثير كثير» وقبيح قبيح!! عابت 
إشرافي على البيت وتنقّصت طهبي - هل تتصور هذا يا 
سي السيّد؟ وما زالت حيّى انفصلت بشقّتها عن 
فانشطر البيت الواحد بيتين» حيّى الجارية سويدان 
حرّمت عليها دول شقتها لأنبا جاريتي» وجاءت 
بخادم خصوصيّة لهاء السطحء السطح على سعته يا 
سى السيّدء ضيّقته عل حتى اضطررت إلى نقل 
را إلى الفناء!! ماذا أقول أيضا يا بي؟ هذا قليل 
50 ولكن ما عليناء قلت لنفسي ما فات فات. 


قصر الشوق /ا١‏ 


واحتملته وصيرت عليه وقد ظئنت بعد الانفصال أن 
أشنات: التقاق لدي ولكن هل صدق ظيّي؟. كلا 
وحياتك . 

انقطعت عن الحديث لسعال غلبها. وراحث 
تسعل حي انتفخت أوداجهاء وخديجة تلحظها وهي 
تدعو الله في سرّها أن يأحذها قبل أن تتم حديثها. 
ولكنّ السعال سكت فازدردت ريقها وتشهّدت» ثم 
رفعت إلى السيّد عينين دامعتين. وسألته بصوت لم يخل 
من ببح : 

- أتستنكف أنت يا سيّد أحمد أن تقول لي يا أمّي؟ 

فقال الرجل الذي تظاهر بالعبوس رغم ابتسام 
إبراهيم وخليل : 

معاذ الله يا أَمي . . . 

عوفيت يا سيّد أحمد. لكنّ ابنتك تستنكف من 
هذاء تدعوني «تيزة». أقول ها مرارًا أدعيني «لينة», 
فتقول لي «وماذا أدعو التي ف بين القصرين؟»): أقول 
ا" انا تنتقاء. املف اثيية» لتقل لى«دليس ل إلا نينة 
واحدة ربّنا يخْليها لي». انظر يا مى السيّد؛ أنا الي 
تلقيتها بيدي من عام الغيب! 

ألقى السيّد أحمد على نخديجة نظرة غاضبة» وسأها 
محتدًا : 

صحيح هذا يا خديجة؟ يجب أن تتكلمي. . . 

كانت نخديجة كأشا فقدت القدرة على البطق. 
كانت من الغيظ في نباية» وكانت من اللخوف في نباية, 
وإلى هذا كله كانت يائسة من نتيجة المناقشة فحدتها 
غرائز الدفاع عن النفس على التذرّع بكافة ضروب 
الضراعة والمسكنة» قالت بصوت ححافت: 

أنا مظلومة. كل واحد هنا يعلم بأني مظلومة, 
مظلومة والله يا بابا. . . 

كان السيّد أحمد في دهش مما يسمعء ومع أنه فطن 
من أوّل الأمر إلى حال «الككبر» التي تسيطر على المرأة» 
ومع أنه لم يغب عن ملاحظته ما يكتنف اللجو من 
فكاهة بدت آثارها في وجهّي إبراهيم وخليل؛: فإنه 
صمّم على التظاهر بالجدٌ والصرامة إرضاء للعجوز 
وإرهانًا لخديجة. وكان يعجب لا يتكشّف له من عناد 


4 قصر الشوق 


حديجة وحذة طباعهاء الأمر الذي لم يخطر له في خيال 
من قبل» أكانت على هذا الخلق مذ كانت في بيته؟ 
أتعلم أمينة من أمرها ما لا يعلم؟ هل يكتشف على 
آخر الزمن صورة جديدة لابنته مناقضة للصورة التي 
كونبا كيا سبق أن اكتشف لياسين؟! 

- أريد أن أعرف الحقيقة؟! أريد أن أعصرف 
حقيقتك. إِنْ الى تتحدّث عما والدثنا امرأة أحرى 
غير التي عهدبباء فأيّتها تكون الصادقة؟! 

ضمت المرأة أناملها وهرّت يدها داعية إيّاه إلى 
الصير حتى نتم حديثهاء ثم استطردت قائلة : 

قلت لما: إني تلقيتك بيديّ من عام الغيب» 
فقالت لي بلهجة شريرة لم أسمع بمثلها من قبل : «إذن 
أكون نجوت من الموت بأعجوبة!). 

ضحك إبراهيم وخليل»: وخفضت عائشة رأسها 
لتخفي ابتسامتهاء فقالت العجوز مخاطبة ابنيها 
د«اضحكاء اضحكل اضحكا من أمكما!). ولكنّ 
السيّد تَمهّم وإن يكن باطنه ضحكء تشرى أنخلقت 
بناته على مثاله أيضًا؟ اليس هذا مما يستحقٌّ أن يروى 
على إبراهيم الفار وعلّ عبد الرحيم ومحمّد عفت؟! 
قال لخديجة بغلظة : 

- كلا. . . كلاء لأعرفنٌ كيف أحاسبك على هذا 
0 0 00 

فواصلت العجوز حديثها بارتياح قائلة : 

- أمًا سبب شجار الأمس. فهو أن إبراهيم دعا 
بعض أصدقائه إلى وليمة فقدّمت لهم الشركسيّة فيه 
قُدَّمٍ من أطعمة. وفي المساء سهر عندي إبراهيم 
وخليل وعائشة وخديجة. وجاء ذكر الوليمة فنوّه 
إبراهيم بثناء المدعوين على الشركسيّة» فالبسطت ست 
خديجة. ولكتّها لم تقئم بذلك. بل راحت تؤكّد أنَّ 
الشركسية هي الصنف الأثور عن بيتها الأوّل. فقلت 
بحسن نيّة: إن زينب زوجة ياسين الأولى هي التي 
أدخلت الشركسية في بيتكم. وإنّ خديجة لا بدّ وأن 
تكون تعلّمتها منباء أقسم لك أني ما تكلّمت إِلّا عن 
حسن نيّة وأني ما قصدت أحدًا بسوء. ولكن أجارك 
الله يا حبيب» انتفضت غاضبة وصاحت في وجهي 


«هل تعرفين عن بيتنا أكثر مما نعرف؟» فقلت لها: إن 
أعرف بيتكم من قبل أن تعرفيه أنت بعمر مديدء 
فصرخحت قائلة: وأنت لا تحبّين لنا الخير ولا تطيقين أن 
ينسب لنا شىء حميد ولو كان طهي الشركسيّة. 
الشركسية تؤكل في بيتنا قبل أن تولد زينب وعيب أن 
تكذب واحدة في مكل سنك» أي والله هذا يا سي 
السيد ما قذفتني به أمام الجميع, فآيّتنا الكاذبة برك 
وصلاتك؟ ! 

قال السيّد غاضمًا ساخطا: 

- رمتك بالكذب في وجهك! يا رب السماوات 
والأرض. ما هذه أبنتي . . . 

غير أن خليل قال لأمّه باستياء : 

- أهذا جئت بوالدنا؟! أيصمٌ أن نكدّر خخاطره 
ونضيع وقته بسبب نزاع صبيان حول الشركسيّة؟! 
هذا كثير يا أماه. . . 

فحملقت المرأة في وجهه مقطبة وصاحت به: 

- اخترس» اغرب عن وجهي» لست كاذبةء ولا 
يصح أن يرميني مخلوق بالكذب. إني أعرف ما أقول 
ولا حياء في الحقٌ. لم تكن الشركسية بالطعام المعروف 
في بيت السيّد قبل أن تدخله زينب» وليس في ذلك ما 
يعيب أحدًا أو ينتقصه. ولكتها التقيقة. هاكم السيّد 
فليكذّبني إن كنت كاذبة, إن طواجن بيته مضرب 
الأمثال ويليها الأردٌ المحشوء أما الشركسيّة فلم تقدم 
على مائدته قبل مجيء زينب» تكلم يا سي السيّد أنت 
وحدك الحكم. . . 

قاوم السيّد أحمد إغراء الضحك طيلة حديث 
المرأة» ثم قال بلهجة عنيفة : 

- ليت ذنبها اقتصر على الكذب والادّعاء الباطل 
من دون أن تضيف إليه سوء الأدب. هل شبجّعك على 
هذا السلوك السيّئ ابتعادك عن قبضة يدي؟! إِنْ يدي 
نل إل حيف ككس أن عند بلدا كؤ سرد الفسين هما 
أن يجد أب ابنته مستحمّة للتأديب والعقاب بعد أن 
اكتمل نضجها واستوت بين النساء زوجة وأمًا. . . 

واستطرد ملوحا بيله: 

- إفي غاضب عليك. ووالله إنّه ليؤلني أن أرى 


رجيات انامرن...... 

أجهشت خديجة بالبكاء فجأة جاء ذلك عن تأثير 
وتدبير معاء ولم يكن ثمّة وسيلة أخحرى للدفاع, ثم 
قالت بصوت متهدّج تخنقه العبرات , 

أنا مظلومة» والله أنا مظلومة» إِْها لا ترى وجهي 
حبَّى ترميني بكليات قاسية» ولا تفتأ تقول لي «لولاي 
لقضيت العمر عانسًاء وأنا لم أنلها بسوء أبدّاء وكلهم 
شهود على ذلك, . . 

لم تعدم الحركة التمثيليّة - الصادقة الكاذبة - أثْرًا 
تركته في النفوس: قطب خليل شوكت حانقاء ونتكس 
إبراهيم شوكت رأسه. والسيّد نفسه ولو أنْ مظهره لم 
يعتوره تغيير إِلّا أن قلبه القبض عند ساعه ما قيل عن 
العنوس كعهده من قديم, أما العجوز فجعلت تنظر 
إلى خدئهة نظرات نافذة من تحت حاجبيها الأشيبين» 
وكأتما تقول لها «مثّل دورك يا ماكرة لن يجوز علّ»» 
وما استشعرت في الحو عطفًا على الممكّلة قالت بتحدٌ : 

هاكم عائشة أشتها؟ إني أستحلفك بعينيك» 
أستحلفك بالقرآن الشريف إلا ما شهدت بما سمعت 
ورأيت. أ ترمني أختك بالكذب في وجهي؟ ألم 
أصف نزاع الشركسيّة دون مبالغة أو تجاوز, تكلّمي يا 
بنيّة تكلّمي, إِنَّ أختك ترميني الآن بالظلم بعد أن 
رمتني بالكذب. تكلمي ليعلم السيّد من الظالم ومن 
المعتذدي . . . 

روعت عائشة بجرّها المباغت إلى حومة القضية التي 
ظنّت أنّبا ستقف منا موقف المشاهد إلى الغبايةء 
وشعرت بالخشطر يحدق بها من كل جانب» فردّدت 
عينيها الجميلتين بين زوجها وأخيه كالمستغيثئة» فهم 
إبراهيم بالتدخل. ولكنّ السيّد أحمد سبقه إلى الكلام , 
فخاطب عائشة قائلا : 

إِنّْ والدتنا تستشهد بك يا عائشة» فيجب أن 

فاضطربت عائشة حيّى شحب لونباء ولكنّ شفتيها 
لم تتحرّكا إِلّا عند ازدراد ريقهاء وغمضت عينيها فرارًا 
من عي أبيها وأصءت على الصمت. قال خليل 


مميتتحا : 


قصر الشوق 7١9‏ 


لم أسمع من قبل أنْ أختا دُعيت للشهادة على 
أختها. . . ! 

قفصاحت به أمّه؛ 

- وم أسمع من قبل أن أبناء يتكتلون ضدٌ أمّهم كما 
تفعلون. (ثُمٌ ملتفتة إلى السيّد) ولكن حسبي صمتهاء 
إن صمت عائشة شهادة لى يا سى السيّد. . . 

ظنّت عائشة أنْ عذامها قد القن عند هذا الحدء 
ولكئّا ما تدري إلا وخحديجة تقول لها برججماء وهي 

تكلس يا عائشة: هل سمعتني أشتمها؟ 

لعنتها في سرّها من صميم قلبهاء وراح رأسها 
الذهبئ مبتزٌ اهتزازة عصبيّة. فهتفت العجوز: 

جاءنا الفرجح» هي الى تطالب بالشهادة. لم يبق 
لك عذر يا شوشو. يا ري إذا كنت ظالمة حقًا ىا تقول 
خديجة فَلِمَ لم أظلم عائشة؟ لم تسير الأمور بيني وبينها 
على خخير حال؛ لم يا رب ل4؟ 

مض إبراهيم شوكت من مجلسه. ثم جلس إلى 
جانب السيدء وقال له: 

يا والديء يؤسفني أننا أتعبناك وأضعنا وقتك 
الثمين هباءء فلندع الشكوى والشهادة جانباء لندع. 
الماضي كله جانبًا ولننظر فيما هو أهمٌ وأجدى, يلبغي 
أن يكون محضرك خيرًا وبركة. فلنعقد الصلح بين أمي 
وزوجيء ولتتعهّدا لك بأن تحافظا عليه على 
الدوام . . . 

ارتاح السيّد أحمد إلى هذا الاقتراح. غير أنه قال 
بلباقة وهو يهزّ رأسه معترضا: 

كلا لن أقبل أن أعقد صلحًاء فإنَ الصلم لا 
يكون إلا بين ندّين» والطرفان هنا هما والدتنا من 
تالح رايهنا من ,لاحية اعخرى»: بوليميف الابلة كالاء: 
فيجب أُوَلُا أن تعتذر خديجة إلى أمّها عا سلف, لتعفو 
أمّها عنما إذا شاءت, ثم نتكلم بعد ذلك في 
الصلح . . 

ابتسمت العجوز حيّى تضامّت تجاعيدهاء غير أثها 
نظرت نحو خديهة يحذر» ثم أعادت بصرها إلى 
السيّد ولم تنبس. فاستطرد السيّد قائلا : 


7٠‏ قصر الشوق 


- يبدو أن اقتراحي لم يصادف قبولًا. . . 
فقالت العجوز بامتنان : 
- إِنك لا تنطق إلا عن الصواب: سلّم فوك. 
وبارك الله في عمرك. . . 
وأشار السيّد إلى خديجة فقامت دون تردّد واقتربت 
منه في انكسار لم تشعر بمثله من قبل حبّى مثلت بين 
يديه فقال ها بحزم : 
- قبل يد والدتك. وقولي لها: اصفحي عب يا 
آه ما كانت تتخيّل ‏ ولا في الكابوس - أنْها يمكن 
أن تقف هذا الموقف أبدّاء ولكن أباها ‏ أباها المعبود ‏ 
هو الذي قفضى به. أجل قفضى به من لا تستطيع 
لقضائه ردًا. فلتكن مشيئة الله. تحوّلت نمديجة إلى 
العجوز. ومالت نحوهاء ثم تناولت اليد التي رفعتها 
إليها - إي والله رفعتها إليها دون ثمانعة ولو في الظاهر 
- ولثمتهاء وهي تشعر باشمئزاز وتقزز وقهر أليم» ثم 
غمغمت قائلة : 
- اصفحي عئّى يا نيئة!. . . 
فنظرت العجوز إليها مليًّا وقد شاع البشر في 
وجههاء ثم قالت: 
- صفحت علك يا خديجة» صفحت عنك إكرامًا 
لأبيك. وقبولا لتوبتك. , , 
وندت عنها ضحكة صبيانية» ثم استطردت تقول 
بتحدير: 
- لا جدال بعد اليوم في الشركسية, آلا يكفيكم 
أنكم فقتم الدنيا في الطواجن والأررٌ المحشوٌ. . . ؟ 
قال السيد بسرور: 
- الحمد لله على الصلح (ثُمَ وهو يرفسم رأسه إلى 
خديجة). . . انينة دائما ليست تيزة. هله نيئة كالأخرى 
سواء يشواء, + : 
ثم بصوت خفيض أسيف : 
- من أين جئت عبذا الخلق يا خديجة؟ ما كان 
ينبغي لأحد نشأ في بيت أن يعرفه. أنسيت أمَّك وما 
تتحلٌ به من أدب ودمائة؟ ايت أنْ أىئّ شي تأتيئه إنها 
ير وجهي أنا؟ لقد عجبت والله وأنا أستمع إلى 
حدق للك وانيوك عسي لويلة ب 


- 57 

رقيت الجماعة في السلّم عائدة إلى مساكتها عقب 
رحيل السيد أحمد عبد الجواد. كانت خخديجة تتقدّم 
القافلة بوجه مربدٌ تعلوه صفرة الغضب والحنق» وكان 
الآخرون بشعرون بأنْ الصفاء لم يزل أبعد ما يكون 
عن القلوب فأشفقوا نما سيتمخُض عنه صمت 
خديجة» لذلك صحب خليل وعائشة خديجة وإبراهيم 
إلى شقّتهياء رغم أنْ زياط نعيمة وعثمان ومممّد كان 
حريا بأن يعيدهما إلى شقّتهها فورّاء ولمًا عادوا إلى 
مجلسهم بالصالة قال خليل ‏ وهو بسبيل جسٌ النبض 
مخاطنا أنخاه: 

كانت كلمتك الختاميّة حاسمة فأنتت بخير 
النتائج . . . 

فتكلّمت خديجة لأوّل مرّة قائلة بانفعال: 

- أتت بالصلح أليس كذلك؟ هي السبب فيها نزل 
بي من مذْلة ل أتعرّض لثلها من قبل. . . 

فتساءل إبراهيم كالمستدكر: 

لا مذلة في أن تقبَلٍ يد أمّي أو تستصفحيها. . 

فقالت دون مبالاة: 

- إنها أمك أنتء ولكتها عدوّي أناء ما كنت 
لأدعوها نيئة لولا أمر باباء أجل فا هي إلا نينة بأمر 
بابا» ويأمر بابا وحده! 

مال إبراهيم إلى مسند الكنبة وهو يتنبّد يائسّاء 
وكانت عائشة قلقة ولا تدري أي أثر تركه امتناعها عن 
الشهادة في نفس أختهاء وزاد من قلقها تنب خديجة 
النظر إليها» صممت على محادثتها لتحملها على 
معالنتها بحقيقة مشاعرهاء فقالت برقّة: 

- ليس في الأمر مذلّة وقد تصافيتياء ويجب ألا 
تذكري إل سمه الختام . . , 

فتصلب جذع شديجة ورمقتها بنظرة غاضبة» لم 
قالت بحدة : 

- لا تكلميني يا عائشة؛ أنت آخر شخص في الدنيا 
يمن له أن يكلم . . 

فتظاهصرت عائشة بالدهش» وتساءلت وهي تقلب 
عينيها بين إبراهيم وخخليل : 


أنا؟ ! لماذا لا سمح الله؟ ! 

فقالت بصوت كالرصاص برودة وحذة: 

- لأنك خنتني وشهدت بصمتك علن! لأنك آثرت 
إرضاء الأخرى على مظاهرة أختك». هذه هي الخيانة 
تعيتها ين 

- أمرك عجيب يا نخديجة!. . . كل واحد يعلم بن 
الصمت كان في صالحك! 

فقالت بنفس اللهجة أو أشذ: 

- لو راعيت صالحي حمًا لشهدت لي بالحقٌ أو 
بالباطل لا بهم: ولكنك آثرث التي تطعمك على 
أختك», لا تكلّميني. ولا كلمة واحدة؛ لنا م يكون 
عندها الكلام . 

وف ضحى اليوم التالي ذهبت خديجة لزيارة أمّها 
رغم توحّل الطرقات وامتلاء منخفضاتها بالمياه 
الراكدة؛ ومضت إلى حجرة الفرث» فنبضت أمّها 
لاستقبالها في سرور وحرارة» وأقبلت نحوها أمم حنفي 
مهذلة. ولكئها ردّت السلام بكلمات مقتضبة حتى 
تفخصتها أمّها بنظرة متسائلة, فقالت دون شمهيد: 

جئتك لتري رأيك في عائشة. . . فلم يعد بي 
طاقة لأتحمل أكثر مما تحملت. . . 

لاح 2 وجه أميئة اهتمام مقرون بالأسىء فقالت 
وهي تشير إليها برأسها كي تسبقها إلى الخارج : 

ماذا حدث كفى الله الشئ؟ حذّثني أبوك مما كان 
ف السكريّة؛ فيا دخل عائشة في ذلك؟ (ثجٌ وثما 
ترقيان في السلّم)... ربّاه يا خديجة. طلما رجوتك 
أن توسّعي من صدركء, حماتك عجوز ينبغي مراعاة 
ستّباء إن ذهابها إلى الدكان وحده في جو كجو أمس 
برهان على ضعف عقلهاء ولكن ما الحيلة؟ كم غضب 
أبوك! لم يكن يصدّق أنه يمكن أن تند عنك كلمة 
سوءء ولكن ماذا أغضبك من عائشة؟ لقد صمتت 
اليس كذلك؟ لى يكن في وسعها أن تخرج عن 
الصمت . . . 

وجلستا في الصالة ‏ مجلس القهوة ‏ على كنبة جنبا 
إلى جنب. ونخحديجة تقول محذّرة : 

- نيئة أرجو ألا تنضمّي إليهم ما لي يا رب لا أجد 


قصر الشوق ١1١ل‏ 


نصيرًا في هذه الدنيا! 

فابتسمت الأمٌّ ابتسامة عتاب» وقالت: 

- لا تقولى هذاء لا تتصوري هذا يا بديّةء ولكن 
خبريني ماذا وجدت من عائشة؟ 

وهي تدفع بيدها الهواء كأمًا تلطم عدوا: 

كل م شهدت علّ» فأوقعت بي شر هزية. . . 

ماذا قالت؟ 

- لم تقل شيئًا. . . 

ب الحمل لله , , . 

إِنَّ المصيبة جاءت من أنّها لم تقل شيئًا. . . 

تساءلت أمينةئ وهي تبتسم في عطف: 

- وماذا كان في وسعها أن تقول؟ 

وكأنمًا كبر عليها تساؤل أمّهاء فقالت بعبوس 
وحدة: 

كان في وسعها بأن تشهد بأنني لم أعتدٍ على المرأق 
لا. لو فعلتٌ ما جاوزتٌ واجبات الأخوة. كان في 
وسعها على الأقلّ أن تقول إِنّها لى تسمع شيئاء الح 
أئها آثرت المرأة عل خذلتني وتركتني أقم نحت رحمة 
الماكرة الشامتةء لن أنسى هذا لعائشة ما حييت!. . . 

قالت أمينة» بإشفاق وألم : 

خديجة لا ترعبينني؛ كان يجب أن يكون كل شيء 
قد نُسى في الصباح. . . 

- نُسى؟! لم أنم من الليل ساعة. سهدت وبرأسي 
مثل الناره» كل مصيبة كانت تبون لو لم تجيء من 
عائشة» من أختى؟! لقد ارتضت أن تنضم إلى حزب 
الشيطان. حسئًاء ليكن ما تشاء! كان لي حماة فأصبح 
لي اثنتان» عائشة!. .. ربّاه طللما سترتهاء لو كنت 
خائنة مثلها لقصصت على أب ما تزخر به حياتها من 
قلّة الأدب» إنّها تحب أن يعرف عنما أنْها ملك كريم 
وأنني شيطانٌ رجيم. كلاء أنا حير منها ألف مرّةء إِنْ 
ل كرامة لا يعلو إليها التراب» ولولا أبي (وهنا اشتدت 
نراتها حدّة) لما استطاعت قوّة في الأرض أن محملني 
على أن أقبّل يد عدوي أو أن أدعوها نينة! ْ 

ريّتت أميئة كتفها برقّة» وهي تقول: 

أنت غضبى » دائًا غضبى» هذثئي من روعك» 


7 قصر الشوق 


ستبقين معي حبّى نتغذى معًا لم نتحادث في 
هذوء, . . 
إفي في كامل عقلي وأعرف معنى ما أقول. أريد 
أن أسأل أبيء أيّتهها خير من الأخرى: التي تلزم 
بيتهاء أم التي تزور بيت الجيران فتغثي وترقص 
ابنتها؟ ! 

تنيْدت أمينة» وقالت بحزن: 

إن رأي أبيك في هذا لا يحتاج إلى سؤال» ولكنّ 
عائشة سيّدة متزوجة والرأي الأعلى في سلوكها 
لزوجهاء وما دام يسمح لها بزيارة الجيران ويعلم بأئها 
عي بين صديقاتها اللاتي يحببنها ويحببن صوتها | شأننا 
نحن؟! لك الله يا خديجة!... أتسمّين هذا قلة 
أدب؟ ! هل يُعْضبك حمًا أن رقص نعيمة؟ ! إِنهأ 2 
العافية ومن ردنا 1/7 لقا المقنرة ماضن 
تحدنجة) سامحك الله ., . . 

فقالت نخديجة بإصرار: 

إن أعنى كل كلمة قلتهاء وإذا كان يعجبك أن 
تغنى ابنتك عند الحبران وترقص ابنتهاء فهل يعجبك 
أيضًا أن تدخن, كالرجال؟! نعم؛ ها أنت تدهشين! 
أكرّر على مسمعك أنْ عائشة تدحن. وأنْ التدخين 
صار ها كيمًا لا تملك الامتناع عنه, وأنَّ زوجها يعطيها 
العلبة ويقول لحا بكل بساطة «علبتك يا شوشوةه. 
رأيتها بنفسى وهي تأخذ النمّس وهي تُخرجه من فمها 
وأنفهاء أنفها أتسمعين؟ لم تعد تخفي عنئى ذلك كما 
كانت تفعل أول الأمرء بل دعتني إليه مرّة بحجة أنه 
مهدّئ للأعصاب الحامية. 5 هي عائشة. فما 
قولك؟ وما قول أبي يا ترى؟ 

ساد الصمت؛» وبدت أميئة في حيرة شائكة. غير 
أها صمّمت على خطة التهدئة التي التزمتها. قالت: 

- الندخين عادة قبيحة بالقياس إلى الرجال 
أنفسهم. أبوك لم يدخن قطء فأذا أقول عليه بالنسبة 
إلى النساء؟! ولكن ما القول أيضًا إذا كان زوجها هو 
الذي أغراها به وعلّمها إيّاه؟ ما الحيلة يا ديجة؟ إنّها 
لزوجها لا لناء ول يبقّ إلّا النصح إن كان يجدي . . . 

فجعلت خديجة تنظر إليها في صمت وثى بتردّدها 


قبل أن تقول: 

إن زوجها يدلّلها تدليلا معيئًا حبّى أفسدها 
وأشركها في كافة معاصيهء ليس التدخين بشي عاداته, 
ولكنّه يشرب الخمر في بيته دون حياء. إِنْ بيته لا يخلو 
من الزجاجة كأتها ضرورة من ضرورات الحياة وسوف 
يوقعها في الخمر كما أوقعها في التدخين, لم لا؟ العجوز 
تعلم بن شقّة ايقناا كالة ولك لا تكترف لتك 
سوف يسقيها الخمرء بل إن أقطع بأنه فعل فإني 
شممت مرّة في فمها رائحة غريبة» وسألتها عنها 
وضيّقت عليها رغم إنكارهاء أؤكد لك أنها شربت 
الخمر وأئّها بسبيل اعتيادها كالتدخين. . . 

صاحث 2 في يأس : 

إلا هذا يا ربّء ارحمي نفسك وارحميناء انّقَى الله 
يا خديجة. .. 
- إن تقيّة وربّنا عالمء لا أدخن ولا تفوح من في 
روائح مريبة! ولا أسمح للخمر بأن تدخل شقّتي! ألم 
تعلمي بأنّ البغل الآخر حاول أن يقتنى هذه الرجاجة 
المحرّمة؟! ولكيّى وقفت له بالمرصادء قلت له بصريح 
العبارة: إني لا أبقى مم زجاجة خمر في شقّة واحدة. 
فتراجع أمام تصميمي» وجعل يحتفظ برجاجته عند 
أخيه في شقّة المانم التى خانتني بالأمس. وكلّم) 
صرختٌ لاعنئة الخمر وشاربيهاء قال لي - قطم الله 
لسانه ‏ «من أين جئت ببْذه الحنبلية؟ هذا أبوك منبع 
الأنس كله وقلّ أن يخلو له مجلس من الكأس والعود!» 
أسمعت ماذا يقال عن أبي في بيت آل شوكت؟! 

لاحت في عيئ أميئة نظرة حزن وجزع» وجعلت 
تقيض راحتيها وتبسطها في اضطراب وقلق. ثم قالت 
بصوت نمت نبراته عن التشكي والتام : 

- رحماك يا ربيء لم نخلق لشىء من هذاء عندك 
العفو والرحمة. يا ويل النساء فق البيعال: لن أسكث 
ولا يصح أن أسكت. سأحاسب عائشة حسابًا 
عسيرًاء ولكئى لا أصدّق ما تقولين عنهاء إِنَّ سوء 
ظنك بها جعلك تتخيّلين ما لا أصل لهء ابنتى طاهرة 
وستظلٌ طاهسرة ولو انقلب زوجها شيطانًا رجيمّاء 
سأحدّثها حديئًا صريحاء وساحادث سي خليل نفسه إن 


لزم الأمرء فليشرب كما يشاء حتّى يتوب الله عليه. . . 
أمَا ابنى فحدٌ الله بينها وبين الشيطان. . . 

هيت على نفس خديجة نسمة راحة لأوّل مر 
فتابعت جزع أمها بعين راضية واطمائت إلى أنْ عائشة 
ستشعر قريبًا بمدى الخسران الذي منيت به جزاء 
خيانتهاء ول تأبه كثيرًا لما أضفت على الوقائع من مبالغة 
في التصوير أو حدّة في الوصف مما جعلها تسمّي شقَة 
أخمتها حانة» وهي تعلم أن إبراهيم وخليل لا يقربان 
الخمر إِلّا في أحوال نادرة وني اعتدال لم يبلغ حدٌ 
السكر أبدَّاء ولكتّها كانت حائقة ثائرة» أما ما قيل عن 
أبيها من أنه منبع الأنس... إلخء فقول أعادته على 
أنَها بلهجة استنكار لا تدع مالا للشك في كفرها به 
ولكنّ الحقيقة أئّْا اضطرّت من زمن إلى التسليم بما 
يقال أمام إجماع إبراهيم وخليل وأمّهما العجوز, 
خصوضًا وأئّهم كاشفوها بما يعلمون عنه في غير ما 
تحامل عليه أو انتقاد لهء بل وهم ينوهون بأريحيته 
ويعقدون له زعامة الظرف في عصره؛ قابلت ذلك 
الإجماع بادئ الأمر بعناد غليظ. ثم داخلها الشك 
رويدًا وإن لم تعلنه» ووجدت عسرًا شديدًا في مزج 
هذه الصفات الحديدة بالشخصيّة الوقور الحبارة التي 
آمنت ها طوال حياتهاء غير إن هذا الشك لم مبون من 
شأنما وجلالهاء بل لعلّها أثرت في نظرها بما انضاف 
إليها من ظرف وأريحيّة. لم تقنع بما أحرزت من نصرء 
فعادت تقول بلهجة التحريض: 

عائشة لم تَحَيُ فحسب. ولكّها خانتك أيضا. . . 

وصمتت ريثا يتغلغل قويها في الأعماق» لم 
استطردت قائلة : 

إثها تزور ياسين ومريم في قصر الشوق. .. 

هتفت أمينة وهي محملق فيها بفزع : 

ماذا قلت؟ 

فقالت وهي تشعر بأنْبا تسورت ذروة الظفر: 

هله هي الحقيقة المحزنة! زارنا ياسين ومريم أكثر 
من مرّةء زارا عائشة وزاراني» أقول الحقٌ إن 
اضطررت لاستقبالهم) وما كاد يسعني إلا أن أفعل 
إكرامًا لياسين غير أنه كان استقبالًا متحفطاء ودعاني 


ياسين إلى زيارة قصر الشوق» ولست في حاجة إلى أن 
أقول لك إِنْني لم أذهب. وتكرّرت الزيارة دون أن يغير 
ذلك من تصميمي حيّ قالت لي مريم «لم لا تزورينا 
ونحن أنختان من قديم الزمان؟» ولكئي اعتذرت بشقّ 
المعاذير» وبذلتٌ كل حيلها لاجتذابي» وجعلت تشكو 
لي معاملة ياسين لها واعوجاج سلوكه وانصرافه عنهاء 
علّها ترفّق قلبي ولكثّي لم أفتح لها صدري . . . عائشة 
على خلاف ذلكء تستقبلها بالترحاب والقبل» الأدهى 
من ذلك أئّْها تبادلها الزيارة» وقد صحبت معها مرّة 
بى خليل» وفي مرّة أخصسرى صحبت نعيمة وعثيان 
ومحمّدء لد ما تبدو سعيدة بتجديد صداقتها مريم» 
وقد نبّهتها إلى مجاوزتها الحدّ في ذلك فقالت لي «لا 
مأخذ على مريم إِلَا أنّنا رفضنا يومًا أن نجعل منها 
خطيبة للمرحوم الغاللي» فأي وجه للعدل في هذا؟!؛؛ 
قلت لما «أنسيت الحنديّ الإنجليزي؟؟» فقالت لي «لا 
ينبغي أن نذكر إلا أنّها زوجة أخينا الأكبره. هل 
سمعت يا نينة عن شيء كهذا من قبل؟ 

استسلمت أميئة للحزن» فنكست رأسها ولاذت 
بالصمتء فجعلت خديجة تنظر إليها مليّاء ثم عادت 
تقول : 

هذه هي عائشة بلا زيادة ولا نقصان. عائشة 
لشن شهدت علي أمس فاذلّتني أمام العجوز 

تبّدت أميئة من الأعياق» ورمقت خخديجة بعينين 
فاترتين» ثم قالت بصوت حافت : 

- عائشة طفلة تأبى أن يكون لما عقل أو وزنء ولن 
تزال كذلك مها امتدّ مها العمرء فهل يسعني أن أقول 
غير ذُلك؟! لا أودٌ ولا أستطيعء هل هانت عليها 
ذكرى فهمي؟ لا أستطيع أن أصدّق ذلكء ألم يكن في 
وسعها أن تقتصد في عواطفها حيال تلك المرأة ولو 
إكرامًا لي؟! لكن لن أسكت عن هذاء سأقول ها إِنْها 
أساءت إل وإنْني غاضبة حزيئة لأرى ما يكون منها 
نعل دالت بن 

فأمسكت خبديجة بخصلة من سوالفهاء وقالت: 

أحلق هذا لو صلح لما حال! إنها تعيش في دنيا 


4 قصر الشوق 


غير الدنيا التي نعيش فيهاء لست أتحامل عليها ورين 
يعلم إنني لم أخاصمها ولا مرّة مذ تزوّجت» ححقٌّ لني 
طالما حملت عليها لما يقع منها من إهمال لأطفاها أو تملق 
مزر لحماتها وغير ذلك مما حدّئتك عنه في حينهء ولكنّ 
حملتي لم تجاوز حدّ النصح الحازم أو النقد الصريح. 
هذه أول مرّة يضيق بها صدري فأعالنها الخصام : 

فقالت الأمّ برجاء وإن ظل وجهها ممتعضًا: 

- دعي الأمر لي يا خديجة, أمّا أنت فلا أحبٌ أن 
يفصل بينك وبينها خصام أبدّاء لا يصمّ أن يفترق 
قلباك) وأنتها تعيشان معًا في بيت واحد. لا تسبي أمْبا 
أختك وأنّك أختهاء بل أختها الكبرى. إِنَّ قلبك 
أبيض والحمد لله وهو مترع بالحبٌ لأهلك جميعاء إن 
كلما اشتدٌ أمر لم أجد عزاء إلا في قلبك» وعائشة مهيا 
يكن من هفواتها هي أختك. لا تنسى هذا. . . ! 

فهتفت في تأثر: 

- إني أغفر لما كل شيء إلا شهادتها علّ. . . ! 

- لم تشهد عليك؛ حافت أن تغضبك كا خافت أن 
تغضب حاتبا فلاذت بالصمت, إنها تكره أن تغضب 
أحذدًا ‏ كا تعلمين ‏ وإن كانت رعونتها كثيرًا ما 
تغضب الكثيرين» لم تقصد الإساءة إليك أبذّاء فلا 
تحمل تصرفها أكثر ما يحتمل» سأزوركم غدًا لأصفي 
سان اتعهاء ولكني سأصلح بينكما وإيّاك أن تمتنعي 
عن الصلح . , . 

ولأؤّل مرّة تتجل في عي خديجة نظرة قلقة مشفقة 
حتّى أنْها غضت عينيها لتخفيهها عن أمّها وصمتت 
قليلا» ثم قالت بصوت حافت: 

- نعم» لم يعد الخال يحتمل الصبر. 

خديجة كأنما تحدّث نفسها: 

- سوف تتهمنى بأنني أفشيت أسرارها. . . 

510 

ولمَا آنست منبا مزيدًا من القلق والاشفاق. عادت 
تقول: 

- على أّ حال أنا أعرف ما يقال وما لا يقال. . , 

فقالت خخديجة بارتياح : 


هذا أفضل» فهيهات أن تعترف بحسن نيت 
ورغبتي في إصلاح أمرها. . . ! 


7117 ات 

د فووا 

نذت عنه بغتة مفعمة بالخرارة والانفعال عندما رأى 
عايدة خارجة من باب القصر. كان يقف كعادته كل 
أصيل على طوار العبّاسيّة يراقب البيت من بعيد وغاية 
أمانيه أن يلمحها في شرفة أو نافذة. وكان يرتدي بدلة 
رصاصية أنيقة كأنًا أراد أن يجاري الْحوّ الذي بعشت 
فيه الأيّام الأخيرة من مارس أريحيّة ولطفًا وبشاشة, 
فضك عن أنه كان يزداد تأئّمًا كلم ازداد ألما وقنوطا . 
وكانت عيناه لم ترياها مذ خاصمته في الكشك. ولكنّ 
الحياة لم تكن تنيسّر له إلا أن يج كلّ أصيل إلى 
العباسيّة فيطوف بالقصر من بعيد في مثابرة لا تعرف 
اليأس. معلّلاً نفسه بالأحلام. قائعًا إلى حين باجتلاء 
المقام واجترار الذكريات. وكان الألم في الأيّام الأولى 
للفراق كالمجنون في هذيانه ووسوسته, ولو طال به 
الأمد على ذلك لقضى عليهء ولكنّه نجا من تلك 
المرحلة الخطيرة بفضل اليأس الذي وطن النفس عليه 
من قديم. فانسرب الألم إلى مستقرٌ له في الأعماق يؤدي 
فيه وظيفته من غير أن يعطل سائر الوظائف الحيويّة 
كأنْه عضو أصيل في الجسم أو قوّة جوهريّة في الروح. 
أو أنه كان مرضًا حادًا هائجًا ثمٌ أزمن فزايلته 
الأعراض العنيفة واستقرٌ. غير أنّه لم يتعرٌ - وكيف 
يتعزى عن الب وهو أجل ما كاشفته به الحياة؟ ‏ 
ولكنّه كان يؤمن إِيانًا عميمًا بخلود الحبّ. فكان عليه 
أن يصبر كا ينبغي لإنسان مقدور عليه بأن يصاحب 
داء إلى آخر العمر. 

ولما رأها وهي تغادر القصر فجأة ندّت عنه هذه 
الآأهة. وتابعت عيناه عن بعد مشيتها الرشيقة التي 
طال تشوقه إليها حي رقصت روحه رقصة قطر هيياهها 
حنيئًا وطربّاء ومالت المعبودة إلى اليمين وسارت في 
شارع السرايات» فشبّت في روحه ثورة اجتاحت 


المزيمة التي راض عليها النفس قرابة ثلائة أشهر ففزع 
به قلبه إلى أن يطرح همومه عند قدميها وليكن ما 
يكون. واتجه دون تردّد إلى شارع السرايات. كان في 
الماضي محذر الكلام أن يفقدهاء الآن ليس ثمة ما 
يخاف عليه: إلى أن العذاب الذي عاناه طيلة الأشهر 
الثلاثة الماضية لم يدع له سبيلا إلى التردّد أو التراجع . 
وم تلبث أن انتبهت إلى اقتراب خطاه. فالتفتت إلى 
الوراء فرأته على بعد خطوات منهاء ولكتها أعادت 
رأسها إلى وضعه الأوّل دون مبالاة. لم يكن يتوقع 
استقالا ألطف. ولكتئّه قال معاتيًا: 

أهكذا يكون اللقاء بين الأصدقاء القدماء؟! 

فكان الجواب أن حكّت الخطى دون أن تعيره أدن 
التفات» فأوسع خطوه مستمدًا من ألمه عناداء ثم قال 
وهو يوشك أن يحاذيها : 

له تتجاهليني فهذا شىء يفوق الاحتال ولا داعي 
له لو راعيت الانصاف, ,. 

وكان أخوف ما يخاف أن تصرّ على تجاهله حي تبلغ 
هدفها المقصود. ولكنّ الصوت الرخحيم خخاطبه قائل: 

من فضلك ابتعد عبني ودعني أسير في سلام . 

فقال بإصرار وتوسّل معا: 

ستسيرين بساام» ولكن بعد أن نصفي 
اسان 

فقالت بصوت تردّد عميقًا واضحًا في صمت 
الطريق الأرستقراطيّ الذي بذا خخاليًا أو شبه خخال, : 

لا أدري شيثًا عن هذا الحسابء ولا أريد أن 
أدري أرجو أن تسلك سلوك الحنتليان . . . ! 

فقال بحرارة ووجد: 

أعدك بأن أسلك سلوكا يُعتير بالقياس إلى 
الجنتليان نفسه مثاليّاء وليس في وسعي أن أفعل غير 
هذاء إذ إِنْك أنت التى توحين إل بسلوكي . 

قالت ولم تكن تنظر إلى تاحيته : 

أعني أن تتركني في سلام» هذا ما عنيته , . . 

لا أستطيعء لا أستطيع قبل أن تعلّن براءتي من 
التهم الظالمة التي عاقبتني عليها دون استماع إلى 
دفاعي . . . 


قصر الشوق ١6‏ 


أعاقيتك أنا؟! 

تغاضى عن الحديث لحظة خاطفة كي يتملى سحر 
الحال» فقد رضيت أن تحاوره» وأن تتمهّل في خطوها 
السعيدء وسواء أكان هذا لأنها تود أن تستمع إليه أم 
لأدّا تتعمّد إطالة المسافة حيّى تتتخلّص منه قبل بلوغ 
هدفها فلن يغّْر هذا من الحقيقة الياهرةء» وهي أخنا 
يسيران جنبًا إلى جنب في شارع السرايات» تحف بها 
أشجار الطريق الباسقة؛ وترنو إليهما من فوق أسوار 
القصور عيون النرجس الساجية وثغور الياسمين 
الباسمة؛ في هدوء عميق يتعطش قلبه المستعر إلى 
نفحة منهء وقال: 

عاقبتي أشدّ عقاب باختفائك عن ثلاثة أشهر 
كاملة وأنا أتعزّب عذاب المنَهُم البريء. . 

يحسن ألا نعود إلى ذلك., . . 

في انفعال وضراعة : 

- بل يجب أن نعود إليهء إِنَي مُصِرَ على ذلك 
وأتوسّل إليك باسم العذاب الذي عانيته حي لم يعد 
بي قوة لتحمل المزيد منه. . . 

تساءلت في هدوء: 

ما ذلبي أنا في ذلك؟ 

أريد أن أعرف : ألا تزالين تعدّينني معتديا؟ الأمر 
المؤقّد أثني لا أستطيع أن أسيء إليك بحالء ولو 
تذكّرت مودّتي طوال الأعوام الماضية لاقتنعت برأني 
دون عناء؛ دعيني أفصّل لك الأمر بكل صراحةء لقد 
دعان حسن سليم إلى مقابلته عقب الحديث الذي دار 

قاطعته فيبا يشبه الرجاء : 

دعا من هذاء إنّه ماض انتهى . . . 

وقعت الحملة الأخيرة من أذئه موقع النياحة من أذن 
الميت لو كان ميت يسمعء ثم قال بتاثر بدا في نبراته 
كالنغمة إذا هبطت من الحواب إلى القرار: 

انتهى. ..» أعلم أنّه انتهى. لكب أطمع في 
خسن الختام. لا أريد أن تذهبي وأنت تظئين في 
الغدرء أو الغيبة» إنني بريء ويعرٌ عل أن تسيئي 
الظنّ بشخص بكنّ لك كل إعزاز واحترام» فلا يجري 


5 قصر الشوق 


لك ذكر على لسانه إلا مقرونًا بكلّ ثناء. . 
ألقت عليه نظرة وهي تميل برأسها إلى الناحية 
الأخرى كأنما تداعبه قائلة ومن أين لك هذه البلاغة 
كلّها؟. ثم قالت بشيء من الرقة : 
- يبدو أنّه وقع سوء تفاهم غير مقصودء ولكن ما 
فات فات . . 
بحاس وأمل : 
- بل لا يزال في النفس شيء من الشكٌ فيا أرى. 
فقالت بتسليم : 
كلاء لا أنكر أني أسأت الظنْ حيئاء ولكن تبين 
لي الحقٌ بعد ذلك. . . 
فطفا قلبه فوق موجة من السعادة ترنّح فوقها 
كالثمل» ثم تساءل: 
- متى عرفت ذلك؟ 
منذ زمن غير قصير. . . 
ورنا إليها بامتنان. وعبرته حال من الوجيد يحلو 
معها نوع من البكاء. ثم قال: 
- عرفت أنْني برىء؟ . . . 
0 
هل يستردٌ حسن سليم احترامه عن جدارة؟ 
وكيف عرفت الحقيقة؟ 
فقالت بعجلة توحي الرغبة في إنهاء التحقيق : 
- عرفتها. . . وهذا هو المهم. . . 
تنب الإالحاح أن يضايقهاء ولكنّ خاطرًا خطر 
ناظلت عل قلبه سحابة من الكدر حيّى قال متشكيًا : 
- ومع ذلك أصررت على الاختفاء! لم تكلفي 
نفسك إعلان العفو ولو بإشارة أو كلمة مع أنّك 
افتننت في إعلان الغضب! ولكنّ عذرك واضح. وهو 
عندى مقبول. . . 
- أي عذر هذا؟ 
بصوت حزين: 
- إِنّك لا تعرفين الألم» وإن أسأل الله مخلصًا ألا 
تعرفيه أبدأ, . . 
قالت كالمعتذرة : 
- ظنئت أنه لا يهمّك أن تكون متهمًا. . . ! 


سامحك الله لقد اهتممث أكثر مما تتخيّلين. 
وساءني جدًا أن أجد الشقّة بيننا واسعة. فلم يقف 
الأمر عند -حدّ أنّك تجهلين ما أكنه لك من... من 
مودّة ولكنّه جاوز ذلك إلى إلصاق التهم الظالمة بي» 
فانظري أين كنتٌ وأين كنت؟ على أني أصارحك بان 
الاتهام الجائر لم يكن أسوأ ما عانيت هن ضروب 
الآلم. . 

بأسمة : 

لم يكن ضربًا واحذًا من ضروب الألم إذن؟! 

فشجعته الابتسامة ‏ كا تشججع الطفل ‏ على 
الاسترسال في عاطفته. فقال بوجد وانفعال: 

- بىء وكانت التهمة أخف الآلامء أمًا أشذها 
كان انخحتفاؤك. كان لكل ساعة من ساعات الأشهر 
الثلاثة الماضية نصيبها من آلاميى؛ عشت أشبه ما 
يكرة بالعانين هذا ادغو الله محادنا الا معدنت 
بالآلى دعاء مجرّبء. فإنَ لي بالألم تجربة وأيّ تجربة, 
وأقنعتني هذه التجربة القاسية بأنه إذا كان مقدورًا عل 
أن تختفي من حياق» فمن الحكمة أن أبحث لي عن 
حياة أخرى. كان كلّ شىء كلعنة طويلة مقيتة, لا 
تمزئي بي) أنا أتوجّس من ناحيتك شيئًا كهذا دائا 
ركد لال اخل مو ان رايع لذ اضرو اندرا 
ملاك كريم مثلك من عذاب الآخرين ودعي جانيا 
أنّك سببه. لكن ما الحيلة؟ قُضي عل من قديم أن 
أحبّك بكل قوّة نفس . . . 

ساد صمت مقطع بأنفاسه المتردّدة» وكانت تنظر 
إلى الأمام فلم يطالع عينيها ولكنّه وجد في صمتها 
راحة لأنه على أي حال أخفف من كلمة سادرة وعذه 
توفيقًا. تصوّر أن يجيئك صوتها ناععًا عذبًا معربًا عن 
الشعور نفسه! يا له من مجنون! لماذا سكب ماء قلبه 
المكنون؟ لم يكن إلا كقافز رامَ الارتفاع قَذْمًا فوجد 
نفسه محلّق فوق هامة الجوًا ولكن أي قوّة نستطيع أن 
تشكمه بعد ذُلك؟ 

- لا تذكريني بما لا أحبٌ ساعه فإن في غنى عن 
ذلك؛ لن أنسى رأمي لأني أحمله ليل نهارء ولا أنفي 
إن أراه مرّات كل يوم ولكن عندي شيء لا نظير له 


عند الآخرين. حبي لا نظير له إني فخور به؛ ويجب 
أن تكونى به فخورًا أيضًا ولو زهدت فيه.ء شكذا كان 
مذ رأيتك أول مرّة في الحديقة؛ ألم تشعري به؟. لم 
أفكر في الاعتراف من قبل لأني خفت أن يقطع ما بيننا 
من مودّة وأن يطردني من الفردوس. لم يكن من اليسير 
عل أن أغامر بسعادتي. أمّا وقد طردت من الفردوس 
فعلاء أخحاف؟ ! 

سال سرّه على لسانه كأنه دم تعذّر منعه. ولم يكن 
يرى من الوجود إلا شخصها البديع» كأنْ الطريق 
والأشجار والقصور والقلّة العابرة قد غابت وراء 
سحابة شاملة لم تنحسر إلا عن فرجة لاحت منها 
المعبودة الصامتة بقامتها الحيفاء وهالتها السوداء 
وعارضها الموسوم بالملاحة المنطوي على الأسرارء يبدو 
في الظل حيئا أسمر صافيّاء وحيئًا ‏ إذا مرا بطريق 
جانب - وضاءٌ مئيرًا تحت شعاع الشمس المائلة 
للغروب. ولم يكن يبالي أن يسترسل في الحديث حت 


الصياح ! 
ار 00 


الكشك ونودي 0 للتليفون. كدت أعترف لولا أن 
عاجلتني بمهاجمة رأسي وأنفي. فكنت (وهو يضحك 
ضحكة مقتضبة) كالخطيب الذي هم بفتح فيه فانهال 
عليه الخصى من جمهور المستمعين؟ 

هادئة صامتة كا ينبغي لاء ملاك من عالم آخر لا 
يطيب له التحدّث بلغة ار 00 بشئوتهم» أما 
كان من الأكرم له الأكرم؟! 
الكبرياء حيال 9< كفرء مواجهة القائل بالقتيل ذنّ 
من الحكمة. أتذكر الحلم السعيد الذي استيقظت منه 
ذات صباح فبكيت عليه؟ . . . الحلم سرعان ما يبتلعه 
النسيان. أما الدموع أو بالحريّ ذكراها فتبقى رمرا 
خالداء وإذا مها تقول: 

- ل أقل ما قلت إِلَا على سبيل الدعابة؛ ورجوتك 
حينذاك ألا تغضب. 

هذا الشعور الرطيب جدير بالتذوّق. كالفرحة 
السعيدة على أثر وجع ضرس وضرباته. وتداعت 


تريد. . 


الأنغام الكامئة في نفسه حيّى برز متها لحن مليح. عند 
ذاك تراءت قسيات المعبودة رمورًا موسيقيّة للحن 
سماويّ مرموقة على صفحة الوجه الملائكي . 

- ستجديئتى قانعًا بما دون الرجاءء لأنبى كبا قلت 

والتفتت صوبه في رشاقة طبيعيةء فألقت عليه نظرة 
باسمة ثم استردّتها على عجل قبل أن يتمكن من 
قراءتباء أيّة نظرة كانت يا ترى؟... نظرة رضى؟ 
تأئر؟. عطف؟. استجابة؟. سخرية مهذّبة؟ وهل 
أصابت الوجه جملة أم اختصّت بالرأس والأنف؟ 
وجاءه صوتها قائلا : 

- لا يسعبي !إ لا أن أشكرك. وأعتذر لك عن 
إيلامك الذي لم أتعمده. أنت رقيق وكريم. . 

ونرعت به النفس إلى الارتماء في أحضان لأحلام 
اليعيلة 5-5 0 قائلة يصوت خافت : 

الآن دعني أ تساءل عيًّا وراء ذلك؟ 

ترق أيسمع صوت معبودته أم صدى صوته هو؟ 
هذه الحملة بنصها محلقة في مكان ما من سياء سين 
القصرين محفوفة بتنبّداته. هل أن له أن يجد لا 
جوابا؟. . . تساءل في حيرة: 

- هل وراء الحبٌ شيء؟ ! 

ها هي تبتسمء ترى ما معنى ابتسامتها؟ لكنّك غير 
الابتسام تروم» عادت تقول. 

إِنْ الاعتراف بداية وليس خباية» إِنِي أتساءل عن 
فأجاب. بحيرة أيضًا؛ 
- أريد. .. أريد أن تأذني لى بأن أحتك. , 
فا ملكت أن ضحكت» ثم تساءلت: 
- أهذا ما تريد حقًا؟! ولكن ماذا أنت فاعل إذا ل 


آذن لك؟ 


فقال وهو يتنهد : 

في هذه الخال أحبّك أيضًا. 

فتساءلت فيما يشبه الدعابة» الأمر الذي أرعبه : 
فيم إذن كان الاستعذان؟ 

خنا ها انقب هنوات» اللساف إن اعفرف دن 


4 قصر الشوق 


ياف أن ينحط على الأرض فجأة كما سما عنها فجأة 
وسمعها تقول : 

أنت محرني » ويبدو لي أنّك تميّر نفسك أيضًا. . . 

قال بجزع : 

إني. .. حائر؟ رتماء ولكثي أحبّك. ماذا وراء 
ذلك؟ يخيّل إل أحيانا أفي أطمع إلى أمور تعجر 
الأرض عن حملهاء ولكئي إذا تأمّلت قليلا عجزت عن 
تحديد هدف لىي» خيريني أنت عن معنى هذا كله 
أريد أن تتحدّئي وأن أستمع. هل عندك ما ينتشلني 
من حيري؟... 

قالت باسمة : 

- ليس عندي مما نسأل شيء, كان ينبغي أن تكون 
انف التسلق وانا المنفسة السك فلسونا؟! 

قال واحما ووجهه يتورد: 

- أنث تسخرين مني. . . ! 

فقالت بعجلة : 

كلاء غير أن ل أكن أتوقم هذا الحديث عندما 
غادرت البيت, فاجأتني بما لم أتوقع. وعلى أيّ حال 
فإني شاكرة ممتثة» ولا يسع إنسان أن يسبى عواطفك 
الرقيقة المهذبة» أمّا أن يسخر منها فهذا ما لا يخطر على 
بال. . 

نغمة أآسرة ومناغمة عذبةء ولكنّه لا يدرئ أيجد 
المعبود أم بلهوء وهل تتفتح أبواب الأمل أم توصد في 
خفّة النسيم. وقد سألته عنًا يريد فيا أجاب لأنه لا 
يدري ماذا يريد» ولكن ماذا عليه لو قال إِنّه يطمح 
إلى الوصال, وصال الروح بالروح» وأن يطرق باب 
السرٌ المغلق بعناق أو قبلة. ألا يكون هذا هسو 
الجواب؟! وعند مفترق الطرق الذي ينتهي عند شارع 
السرايات» توقفت عايدة عن السير» ثم قالت برقة 
ولكن بلهجة قاطعة : 

08 5ص252, 

فتوقف عن السير أيضًا وهو يحملق في وجهها 
بدهش. «هناه تعني أنه يجب أن نفترق هناء لم يكن 
لحملة «أحّك؛ هذا الامتداد في المعنى الذي يغنى عن 
السؤال قال دون تدر أو تفكير: ْ 


كلا. . . ! 

ثم هاتفًاء كمن ظفر بكشف مضيء بغتة : 

ماذا وراء الحبّ؟ أليس هذا سؤالك؟ هاك 
اكرات الك لتر م 

فالت مهدوء باسم: 

ولكن يجب أن نفترق الآن. . . ! 

تساءل ببحرارة: 

لا كدر ولا سوء ظنٌّ؟ 

أتعودين إلى زيارة الكشك؟ 

إذا سمحت الظروف. 

بقلق : 

كانت الظروف تسمح في الماضي! 

لاقي قبن الام ري 

آبله الجواب إيلامًا عميقاء فقال: 

يبدو أنك لن تعودي . . . 

فقالت كأنما تنّهه إلى وجوب الافتراق : 

سازور الكشك كلما سمحت الظروف» 
عد 1 
وغادرت موقفها متّجهة نحو شارع المدرسة فوقف 
يرنو إليها كالمسحورء. وعند منعطف الطريق التفتت 
نحوه فألقت عليه نظرة باسمة ثم غابت عن ناظريه. 

ماذا قال وماذا سمع؟ سيخلو إلى هذا عا قليل» 
بعد أن يفيق» متى يفيق؟! إنه يسير الآن وحله, 
وحده؟ وخفقات القلب وهييان الروح وأصداء النغم؟ 
ومع ذلك شعر بالوحدة بقوّة هزّت صميم فؤاده, 
وفشمه شذا ياسمين ساحرًا آسرا ولكن ها هويته؟ ما 
أشبهه بالحبٌ في سحره وأسره وغموضه» لعل سر هذا 
يفضي إلى ذاك» ولكنّه لن يحل هذا اللغز حتّى يأتي على 
ترائيل الخحيرة. . 


1 ات 
قال ححسين: شبذاد : 
هذه جلسة الوداع واأسفاه! 
امتعض كال لدى ذكر كلمة الوداع» ورمق حسين 


بنظرة سريعة ليرى إن كان وجهه ينطق بالأسف حمًا 
كا نطق به لسانه! على أنه استشعر جو الوداع منذ أكثر 
من أسبوع. إذ إِنَ كي بريه اودر ساد عرعسل 
الأصدقاء إلى رأس البرٌ والإسكندرية» فا هي إلا أيام 
حي تغيب عن أفقه الحديقة والكشك والأصدقاء, أما 
المعبودة فقد ارتضت الاختفاء من قبل أن يقضي به 
الرحيل؛ وأصرّت عليه رغم الصلح الذي سوج به 
حديث شارع السرايات» لكن هل يمضي يوم الوداع 
دون زيارة؟ هل هانت الودّة إلى حدٌ الضنّ بنظرة 
عابرة قبل سفر ثلاثة أشهر؟. تساءل كيال باسما: 

- ل قلت «واأسفاه!»؟ ١‏ 

فقال حسين شداد باهتام : 

وددت لو سافرتم معي إلى رأس البرّء يا 
سلام!... أيّ تصييف كان يكون؟!... 

كان يكون عجبًا بلا ريب» حسبه أن المعبودة لا 
تستطيع مواصلة الاختفاء هناك! وخاطبه إسماعيل 
لطيف : 

كان الله في عونك! كيف تحتمل حر الصيف هناء 
ِنْ الصيف لم يكد يبدأ بعدء ومع ذلك انظر إلى حرٌ 
اليوم ! . 

كان الجوٌ شديد الحرارة رغم تقلص ذيل الشمس 
عن الحديقة والصحراء الممتدّة وراءهاء غير أن كمال 
فال مبدوء: 

لا ثشىء في الحياة لا يمكن احتاله. . . 

وف اللحظة التالية كان يسخر من إجابته ويتساءل 
كيف أجاب بهاء وإلى أي حدّ يمكن اعتبار أنْ أقوالنا 
تعبير صادق عرًا في نفوسنا؟ ونظر فيا حوله فرأى أناسًا 
سعداء ما في ذلك ريبء بدوا في قمصاءهم ذوات 
الأكيام القصيرة وبنطلوناتهم الرماديّة كأنها يتحدّون 
الحرّء كان هو وحله الذى يرتدي بدلة كاملة ‏ وإن 
تكن بدلة خفيفة بيضاء ‏ وطربوشًا وقد وضعه على 
المنضدة. وإذا بإسماعيل لطيف ينوه بنتيجة الامتحان 
قائلا : 

- نتيجة نجاح ماثة في المائة» حسن سليم نال 
الليسانسء» كيال أحمد عبد الجواد منقول.» حسين 


قصر الشوق ١9‏ 


شدّاد منقول» إسراعيل لطيف منقول. . . 

قال كيال ضاحكا : 

- لو اكتفيت بذكر النتيجة الآأخيرة لعرفنا الأخريات 
بدأهة ! 

فقال إسياعيل وهو يرفع منكبيه استهانة : 

كلانا بلغ هدفا واحدّاء أنت بعد كد وتعب 
تواصلا طول العامء وأنا بعد تعب شهر واحد! 

هذا دليل على أنْك عالم بالفطرة! 

فتساءل إسماعيل ساخرا : 

ألم تقل مرّة في أحد أحاديئك التافهة إِنْ برئارد شو 
كان أخيب تلميذ ني عصره؟ 

فقال كيال ضاحكًا: 

الآن آمنت بأنْ عندنا نظيرًا لشو. على الأقل في 

عند ذاك قال حسين شذاد: 

- عندي خخير ينبغي إذاعته قبل أن يسرقنا 
الل 
ولا وجد أنَّ قوله لم يجدٍ كثيرًا في لفت الأنظار إليه 
بض فجأة. ثم قال بلهجة لم تخل من تثيل : 

- دعوني أزفٌ إليكم خبرًا طريفا وسعيدًا (ثم 
مستدركًا وهو ينظر نحو حسن سليم) أليس كذلك؟ 
(نَمٌ وهو يعود برأسه نحو كمال وإسماعيل) تمت أمس 
خطبة الأستاذ حسن سليم على أختي عايدة. . . 

وجد كال نفسه أمام هذا الخبر بغتة كما يجد إنسان 
نفسه تحت الترام وكان أنعم ما يكون عيئا بالسلامة 
والأمن. خفق قلبه شخفقة عنيفة كسقطة' طيارة منطلقة 
في فراغ هوائيّ؛ بل هي صرخة فزع باطنيّة تصذعت 
الضلوع دون تسرّبها إلى الخارج». وقد عجب. 
خصوصًا فيها بعد - كيف استطاع أن يضبط مشاعره 
ويلاقى حسين شدّاد بابتسامة التهنئة» فلعلّه شُغْل عن 
القارعة - ولو إلى حين ‏ بالصراع الذي نشب بين 
نفسه وبين الذهول الذي طوقهاء وكان إسماعيل 
لطيف أوّل من تكلّم فردّد عينيه بين حسين شدّاد 
وحسن سليم الذي بدا هادئًا رزيئًا كعادته وإن شابه 
هذه المرّة شيىء من الحياء أو الارتباك» ثم هتففا: 


0٠‏ قصر الشوق 


وحن 15" نا لسهو و باك سا شاك د سناة 
ومفاجىء وغادر! غير أني سأؤجل الحديث عن الغدر 
إلى حين» حسبي الآن أن أقدّم خالص التهاني. . . 

ومبض فصافح حسين وحسن,» فقام كال من فوره 
للتهنئة كذلك, وكان مأخوذًا رغم ابتسامته الظاهرة 
سرعة الحوادث وغرابة الأقوال حي خيّل إليه أنه في 
حلم غريب وأنْ المطر يهمر فوق رأسه وأنّه يتلفت 
باحثًا عن مأوى» وقال وهو يصافح الشابّين : 

ديا سنا قال فلن 

عاد المجلس إلى سابق هيئته؛ واختلس كيال من 
حسن سليم نظرة على رغمه فرآه هادثًا رزيئاء وكان 
يشفق من أن يجده تالا أو شامتًا - كا تصوّر هذا - 
فداخله شيء من الارتياح العابرء وراح يستجدي 
نفسه أقصى ما لديها من قوة ليستر جرحه الدامي عن 
العيون اليواقظ وليتفادى من موضع الهزء والزراية, 
تجلّدي يا نفسي وأنا أعدك بأن نعود إلى هذا كله فيا 
بعد بأن نتألم معًا حيّى مهلك وبآن نفكر في كل شيء 
حبّى نجنٌ, ما أمتع هذا الموعد في هدأة الليل حيث لا 
عين ترى ولا أذن تسمع. حيث يباح الألمى والمهذيان 
والدموع دون زراية زار أو لومة لائم. وثمة البئر 
القديمة أزح عن فوهتها الغطاء واصرحٌ فيها مخحاطبًا 
الشياطين ومناجيًا الدموع المتجمعة في جوف الأرض 
من أعين المحزونين؛ لا تستسلم. حذارء فالدنيا تبدو 
لناظريك حمراء كعين الجتحيم. عاد إسماعيل لطيف 
يقول منّخذًا لهجة الاثهام : 

- مهلا. لنا عندكيا حساب» كيف حدث هذا 
ودون سابق إنذار؟ أو فلندع هذا إلى حين» ولنسال 
كيف تمت الخطبة دون حضورنا؟ 

قال حسين شداد مدافعا عن موقفه: 

- لم يكن هناك حفل كبير أو صغيرء اقتصر المع 
على خاصة الأهلع موعدنا يوم الكتاب وعليك خير, 
يشكرنان طن لذ عو لاا 

يوم الكتاب! كأثه عنوان لحن جنائزيّ» حيث يشيّع 
قلب إلى مقرّه الأخير محفوفا بالورود مودّعًا بالزغاريد, 
وباسم الحبٌ تعنو ربيبة باريس لشيخ معمُم يتلو فاتحة 


الكتاب. وباسم الكبرياء هجر إبليس الْنّة. قال كمال 
باسم| : 

- العذر مقبول والوعد مأمول. 

فصاح إساعيل لطيف محتجا: 

هذه بلاغة أزهريّة إذا لاحت ها فى الآفق مائدة 
تناست دواعي العتاب. وتغنّت بالتسامح والثناء» كل 
ذلك في سبيل لقمة دسمة! حمًّا إِنْك أديب أو فيلسوف 
أو ما شاكل ذلك من ضروب الشحاذة, أمّا أنا فلست 
كذلك, . , 

3 مواصلا حملة الاتبام على حسين شذاد وحسن 
سليم : 

يا لكيا من داهيتين.» صمث طويل يعقبه فجأة 
إعلان خطبة» هه؟ حقًا يا أستاذ أنّك الخليفة المنتظر 
لثروت باشا. . . 

وال حي ملم :وهر يم معتدر ا 

- إن حسين نفسه لم يعلم بالأمر إلا قبيله أيَام 
معذودات . . 

فتساءل إسماعيل : 

خطبة من جانب واحد كتصريح 58 فبراير؟ 

رفضته الأمّة المغلوبة على أمرها بإباء ولكنّه فرض 
عليها وما كان كان,» وضحك كال ضحكة عالية. 
فقال إسماعيل وهو يغمز حسن سليم بعينه : 

- استعينوا على قضاء... لا أذكر ماذا بالكتان! 
قالها عمر بن الخطاب. أو عمر بن أبي ربيعة» أو عمر 
أفندي ع والله أعلم . . . 

وقال كيال فجأة: 

جرت العادة بأن تنضج هذه الأمور في صمت. 
على أن أقرٌ بأنْ الأستاذ حسن أشار في حديث له معي 
مرة إلى شيء كهذا! 

فرمقه إسماعيل بارتياب, على حين ألقى عليه حسن 
نظرة واسعة. وقال مستدركا: 

- كان كلاما أشبه بالعناوين. . , ! 

تساءل كيال في دهش كيف ندّ عنه ذلك القول؟ إِنّه 
كذب أو شبه كذب على أحسن تقدير» كيف يطمع ‏ 
ببذا الأسلوب الشاذْ ‏ أن يقنم حسن بأنّه كان على 


علم بنواياه وأنّه لم يفاجأ بها أو يكترث لها؟ يا للحماقة! 
أمّا إسماعيل فقد قال لحسن وهو يحدجه بنظرة عتاب : 
ولكتّ لم أحظّ بعنوان واحد من هذه العناوين! 

قال حسن بجد: 

أؤكد لك أنه إذا كان كيال قد وجد في حديثي 
معه ما اعتيره إشارة إلى المخطبة؛ فإنما يكون قد استعان 
على ذلك بخياله لا بكلماتي. 

ضحك حسين شدّاد ضحكة عالية» وقال مخاطبا 
حسن سليم : 

إسماعيل زميلك القديمء وهو يريد أن يقول لك 
نه إذا كنت سبقته إلى الليسانس بثلاث سنوات فلا 
يعني هذا أن تضنٌ عليه بأسرارك أو أن تؤثر بها غيره! 

فقال إساعيل باسيّاء وكأئما كان يداري مضايقته : 

إن لا أرتاب في زمالته القديمة, ولكبّى أسحاسبه 
حبّى لا يعود إلى الوقوع في الإهمال يوم القران! 

فقال كيال باسما: 

نحن أصدقاء الطرفين» فإذا أهملنا العريس فلن 
تهملنا العروس. . . 

إِنّه تكلم ليثبت أنه حيء لكنّه حي يتلم شد ما 
يتأ ترى هل جرى في خاطره يومًا أن يكون لبه 
نباية غبر هذه الباية؟ كلاء غير أن الإيمان بأنْ الموت 
دم مقدّر لا عنم من المزع حين حضوره. وهو ألم 
مفترس لا يعرف المنطق أو الرحمةء لو يستطيع أن 
يشخصه ليعلم في أ موضع يكمن أو عن أي 
ميكروب يصدر؟! وبين نوبات الألم يرشح بالملل 
والفتور. . . 

- ومتى يُعقد القران؟ 

إن إسماعيل يسأل عنًا يدور بخاطره كآنه مول 
بأفكاره: ولكنّه لا ينبغي له أن يصمت. قال: 

نعم هذا مهمٌ جدًا حي لا نؤخذ على غرّة» متى 
يُعقد القران؟ 

قياء لك حسين قداف يات" 

يم تتعججلان الأمر؟! فليهنا العريس بما بقي من 
عهد عروبيته. . . 

وقال حسن مبدوثه المعتاد : 


قصر الشوق 7١‏ 


- ينبغي أن أعرف أُوّلَا إن كنت سأبقى في مصر أم 
1 

فقال حسين شدّاد معقمًا: 

إما أن يعي في النيابة, أو في السلك 
العساس 0 

هكذا يبدو حسين شدّاد مسرورًا بالخطبة» فأستطيع 
أن أزعم أنْن كرهته ولو دقيقة عابرة» كأنْه نخانني فيمن 
خانوني» أخائني أحد؟ اختلطت الأمور علل. غير أن 
هذا المساء يعدنى بخلوة حافلة. . . ْ 

أئهما تفضل يا أستاذ حسن؟ 

فليختر ما يحلو له. النيابة... السلك 
السيامئّ . . . السودان. . . سوريا إن أمكن. . 

النياية ببدلة. إن أفضل السلك السياسي. . . 

يحسن أن ثفهم والدك ذلك جيّدًا حّى يركز عنايته 
في الحاقك بالسلك السياسي , . . 

أفلتت هذه الجملة أيضًا؟ ولا شك أنها أصابت 
الهدف. ينبغي أن يتمالك أعصابه وإلا وجد نفسه 
مشتبكا مع حسن في نزاع علني» ثم ينبغي أن يراعي 
خاطر حسين شدّاد؛ فههما الآن أسرة واحدة؛ ما أقسى 
هذه الشكّة من الألم. هر إسماعيل رأسه كالآسف. 
وقال : 

هذه آخر أيّامك معنا يا حسن» بعد عشرة العمر 
كله يا لها من حباية محزنة! . 

يا للحياقة! يحسب أن الحزن يمس قلبًا واحة المعبود 
مرتّعه , 

الواقع أمْها هاية محزنة يا إسماعيل. . . 

كذب في كذب. مثل تبنئتك لهء يستوي في هذا 
ابن التاجر وابن المستشار. قال: 

أيعني هذا نلك ستقضي عمرك كله خارج القطر؟ 

هذا هو المتوقّع. لن نرى مصر إلا في القليل 
النادر. . . 

قال إسماعيل متعجبا: 

حياة غريبة! هلا فكرت فيا ينتظر أولادك من 
متاعب | ؟ 

واقلباه! أيليق هذا العبث بلمعاني! يحسب الشرير 


7 قصر الشوق 


أنَّ المعبودة تحبل وتنوحم وتنداح بطنها وتتكور ثم يجيئها 
المخضاض فتلد! أتذكر خديجة وعائشة في الأشهر 
الأخخيرة؟ هو الكفرء لم لم تثسترك في جمعية الكف 
السوداء؟ الاغتيال شخير من الكفر وأنجع» وتجد نفسك 
يومًا في قفص الاتهام وعلى المنصة سليم بك صبري 
والد صديقك الدبلومامئّ وحمو معبودتك» كا مثل بين 
يديه قتلة السردار في هذا الأسبوع, الخائن! . . . 

حسين شداد ضاحكًا: 

- أتقطع الدول علاقتها السياسيّة حيّى يرق أولاد 
الدبلوماسيين في بلادهم؟! 

بل تقمطم الرءوس! عبد الحمييد عنايت. . 
الخرّاط. . . محمود راشد. . . علي إبراهيم. . . راغب 
حسن... شفيق منصور... محمود إسماعي ل . .. 
كال أحمد عبد الجواد الإعدام شنمّاء القاضي الوطني 
سليم بك صيري» القاضي الإنجليزئ مستر كرشو, 
الاغتيال هو الجواب؛ أتريد أن تقل أم تقتل!. . . 

وخخاطب إسياعيل حسين قائلا : 

- رحيل أختك سيحمل والدك على الإصرار على 
رفض فكرة سفرك أنت! . . . 

فقال حسين شداد باطمئنان : 

- قضيّتي تقترب من الحل الموفق بمخطى ثابتة. . . 

عايدة وحسين في أوربًا! إنسان يفقد في ساعة حبيبه 
وصديقه تفتقد روحك معبودها فلا نجده ويفتقد 
عقلك أليفه فلا يجده. وني الحئ العتيق تعيش وحيدا 
مهجورًا كأتك صدى حنين هائم منذ أجيال. تأمّل 
الآلام النى ترصدكء آن لك أن تحصد ثار ما زرعت 
من أحلام في قلبك الغرّء توسّل إلى الله أن يجعل 
الدموع دواءً للأحزان؛ وعلّق إن استطعت جسمك 
بحبال المشانق أو ضعه على رأس قَوَةٌ مدمرة تنقض بها 
على العدوٌ, غذً! تُلقى روحك نخلاء كما لقيت بالأمس 
ضر بح الحسين, يا خحيبة الآمال. والمخلصون قتلى أما 
أبناء الخونة فسفراء . قال إسماعيل لطيف وكأنما يخاطب 
نفسه : 

- لن يبقى في مصر إلا أنا وكيال» وكبال غير مأمون 
الجانب, لأنْ صديقه الأول قبل أو بعد أو مع حسين 


هو الكتاب . . . 


فقال حسين في ثقة وإيمان: 

- لن يقطع الرحيل ما بينئا من أسباب. . . 

فخفق قلب كيال رغم فتوره؛ وقال: 

على أن قلبي يحدثني بأنك لن تحتمل الغربة إلى 
الأيك. . . 
هذا هو الراجح. ولكتّك ستفيد من رحلتي با 
سارسله لك من كتبء» سئواصل أحاديثنا بالرسائل 
والكتب. . . 
هكذا يتكلم حسين ى! لو كان السفر قد بات أمرًأ 
مفروغًا منه هذا الصديق الذي يسعد بلقياه سعادة 
فاتنة فحيّى الصمت يستمتع به في محضره. ولكل عزاء 
لسعب ال اه ا ا و ال 
جلّء هكذا هانت وفاة جدّته المحبوبة على النفس التي 
اكتوت بنار الحزن على فهميء غبر أنه ينبغي أن يذكر 
دائعً) أنه في جلسة الوداع كي يملأ عينيه من الورود 
والأزهار الثملة بالنضرة لا تبالي في أي حزن بهبيمء 
رنقه مشكلة بسي انه عل اذا بعلاة كيلك سيفو بكر 
إلى معاشرة المعبود أو كيف بيبط المعبود حبّى يعاشره 
بشر؟! فإذا لم يبد لذاك حلا فسوف يسير في طريقه 
بقدمين ترسفان في الأغلال وفى حلقه شجاء والحب 
حمل ذو مقبضين متباعدين تخلق لتحمله يدان... 
فكيف يحمله وحده؟ وكان الحديث يطرد ويتفرّع وهو 
يتابعه بعينيه وهرّات رأسه وكلمات يثبت بها أنْ الخطب 
لم يقضص عليه بعد. وكان الأمل معقودًا بأن قاطرة 
الحياة تسير وأنْ عمظّة الموت في الطريق على أيّ حال» 
وها هي ساعة الغروب. . . ساعة الظلام والهدوء. . . 
تحبّها كيا تحب الفسجرء وعايدة والألم لفظان لمعنى واحمد 
فينبغي أن تحب الألم وأن تطرب للهريمة منذ اليوم ؛ ولا 
تزال عجلة الحديث في دوران غير منقطع والأصدقاء 
يتضاحكون ويتناظرون كأنّْ واحدًا منهم لم يعرف الحبٌ 
قلبه. . , حسين ضصحكة الصحة والصفاء» وإساعيل 
ضحكة العربدة والعدوان» وحسن ضحكة التحفظ 
والأمتفاكى. وين مسية: لذ أن يتحديف و راس 
الب أعدك بأن أحجّ إليها يومًا وأن أسأل عن الرمال 


التى وطئتها أقدام المعبودة لألثمها ساجداء الآخران 
يتغْئيان بسان استفانو ويتحدّثان عن أمواج كالجبال, 
حمًا؟ تصوّر جنّة تقذف بها الأمواج إلى الشاطئ: وقد 
امتص البحر الرهيب جمالا ونبلها؟ ولتعترف بعد هذا 
كله بأن الملل يطوّق الكائنات وأنْ السعادة رتما كانت 
وراء أبواب الموث. وتَواصّل السمر حيّى آنْ للجمع 
أن يتفرّقء فتصافحوا بحرارة. . . شد كيال على يد 
حسين. وشدٌ حسين على يد كال. ثم مضى وهو 
يقول : 

إلى اللقاء. . . في أكتوبر! 

كان في مثل هذا الموقف من العام الماضي وما قبله 
يتساءل في لهمفة متى يعود الأصدقاء؟ الآن ليست 
أشواقه رهينة بعودة أحد. ستظلٌ مستعرة جاء أكتوبر 
أو لم يجئ» عاد الأصدقاء أو لم يعودوا. لن يلوم شهور 
الصيف بعد الآن لأمْبا تباعد بينله وبين عايدة. فاطوة 
التي تفصل بيمها أعمق من الزمن» وقد كان يعالج 
الزمن بجرعات الصبر والأملء ولكنّه باصم اليوم 
عدوًا مجهولا وقوّة خارقة غامضة لا يدري من تعاويذها 
ورقاها حرفا واحدًا... , فليس أفامه إلا المبيت 
والتعاسة حيّ يقضى الله أمرًا كان مفعولًا. تراءى له 
عت سانا نرقو راس الشتر «كسه دنا عاد لفامين 
الألى المبرّحء أشبه ما يكون في جبريته وقوته بالظاهرة 
الكونيّة, فتأمله بعين ملؤها الإكبار والحزن, 

افترق الأصدقاء الثلاثة أمام سراي آل شدّاد: فسار 
حسن سليم إلى شارع السرايات,؛ واتهه كمال 
وإسماعيل نحو الحسينية في طريقهها المعهود الذي 
يفترقان في ممايتهء فيمضي إسماعيل إلى غمرة» ويمفي 
كمال إلى الحي العتيق» وما إن الفردا حتى ضحك 
إسماعيل ضحكة عالية طويلة. فسأله كمال عنما 
أضحكه. فقال في شبث: 

- ألم تفطن بعد إلى أنك كنت في الأسباب الجوهرية 
الى دعت إلى الإسراع في إعلان الخطبة؟ 

أنا؟ ! 

نذدّت عن كيال وعيئاه تتّسعان في ذهولء فقال 
إسماعيل في استهانة : 


قصر الشوق 97 


- نعم أنتء لم يكن حسن يرتاح إلى صداقتكياء 
هذا يبدو لي عُقّقًا رغم أنه لم ينبس لي عنه بكلمة. إِنْه 
ذو كبرياء شديد ‏ كما تعلم ‏ ولكئّي أعرف كيف أصل 
إلى ما أريد. أؤكد لك أنْهلم يكن يرتاح إلى 
صداقتكاء أتذكر ما نشب بينكما ذلك اليوم؟ الظاهر 
أنه طالبها بأن تححدّ من حرّيّتها في الاختلاط 
بالأصدقاءء والظاهر أنها ذكرته بأنه لا حقّ له في 
مطالبته فأقدم على هذه الخنطوة الكبيرة ليكون من 
استطات القر فق 

قال كال وخفقان قلبه يكاد يعلو على صوته: 

- لكنني لم أكن الصديق الوحيد! كانت عايدة 

فقال إسماعيل متهكمًا : 

ولكتّها اختارتك أنت لتر قلقه! ريما لأمّبا آنست 
في صداقتك حرارة لم تجدها عند غيرك, على أيّ 
حال» إنْبا لا تلقى الأمور ارتجالا» وقد صمّمت منل 
قديم على الظفر بحسن فجنت أخيرًا ثمرة صبرها! 

«الظفر بحسن»؟ «ثمرة صيرهاء! ما أشبه هاتين 
العبارئين بقول مافون «شروق الشمس من الغرب». 
قال وقلبه يتاوه : 

- ما أسوأ ظنئْك بالناس ! إثّها ليست على شيء مما 
تتصور! 

فقال إسماعيل دون أن يفطن إلى شعور صاحبه : 

- لعل الأمر وقم اتّفاقَا أو لعل حسن كان واهماء 
على أيّ حال جاءت العواقب في صالحها. . . 

هتف كيال غاضبا: 

صالخحها! ماذا تظنّ؟!| سبحان الله إنك تتحدّث 
عنها كا لو كانت خخطبتها لحسن تعتير ظفرًا لها لا له!! 

فحدجه إسراعيل بنظرة غريبة» ثم قال: 

نك فيها يبدو غير مقتنع بأنْ أمثال حسن قليلون؟ 
أسرة ومركز ومستقبل». أما مثيلات عايدة فلسن 
قليلات. هنّ أكثر ما تتصورء ترى هل تقذرها أكثر ما 
تستحقٌ؟ إِنَّ أسرة حسن ارتضت زواجه متها لثروة 
أبيها المائلة فيما أعتقدء إنْها فتاأة... (ثُمم بعد 
تردّد). . . ليست بارعة الجهال على أيّ حال! , . . 


4 قصر الشوق 


إِمّا أن يكون محنونًا وإمًا أن تكون مجئونًا أنت! حرّه 
ألى كهذا من قبل يوم اطلع على كلمة جارحة تبجم بها 
كاتبها على نظام الزواج في الإسلام» ألا لعنة الله على 
الكافرين جميعًاء تساءل مهدوء يغطي به على لوعته : 

- ل إذن كر المحجبون من حوها؟ 

أبرز إسماعيل فكّه الأسفل فارتفع ذقنه في .حركة 
استهانة» ثم قال: 

- لعلّك تعنيني فيمن تقصد! لا أنكر أنْبا خفيفة 
الروح» وطراز وحدها في الأناقة؛ إلى أن أسلويها 
الغريّ في اللباقة الاجتماعية يريق عليها فتنة وإغراء. 
لكنّها بعد ذلك سمراء نحيلة لا شيء فيها يُشتهى ! 
تعال معي إلى غمرة نر ألوانا من الجمال تزري بجباهها 
حملة وتفصيلاء هنالك ترى الملاحة الحقّة في البشرة 
الوضيئة والنبد الكاعب والردف المليء. هذا هو الجبال 
إن أردته . . , لا ئىء فيها يشتهى !. . . 

كأئها شيء يشتهى كقمر ومريم! نهد كاعب وردف 
مليء... كمن يصف الروح بصفات الجسد! يا لشدّة 
الألىل كُتب عليه اليوم أن يتجرّع كأس الألم حي 
ثيالتهاء إذا توالت الضربات القاتلة فمن الخير أن 
ترحب بالموت. . 

وعند الحسيئيّة افترقاء فسار كل إلى سبيله. . 


10ت 

تنقضي السئون ولا يفتر حبّه لهذا الطريق» قال 
لنفسه. وهو يلقي على ما حوله نظرة ضيقة: ولو شابة 
حي للسرأة التي يختارها قلبي حبي لهذا الطريق 
لأراحي من متاعب حمةه. أعجب به من طريق 
كالتيه لا يكاد يمتدّ بضعة أمتار طولًا حي ينعطف بمنة 
أو يسرة.ء وفي أي موضع منه يطالعك منحنى يطوي 
وراءه مجهولاء وضيق ما بين جانبيه يريق عليه تواضعًا 
وألفة فهو كالحيوان الأليف, واللممالس في دان على 
يميله يستطيع أن يصافح الجالس في دكّان على يساره. 
سقوف بمظلات الخيش تمتدٌ بين أعالي الحوانيت 
فتحجب أشعّة الشمس المحرقة وتنفث في البرٌ الرطب 


سمرة حالمة» وعلى الأرائك والرفوف جوالق مرصوصة 
مترعة بالحناء النضراء والشطة الحمراء والفلفل الأسود 
وقوارير الورد والعطر والقراطيس الملونة والموازين 
الصغيرة» وتتدلّ من عَلُ الشموع في أحجام وألوان 
شتّى كأئها التهاويل. في جو مفعم بشذا العطارة 
والعطر كأئها أنفاس حلم قديم تائه لا يذكر متى رآ 
أمّا الملاءات اللفٌ والبراقع السود والعرائس الذهبيّة 
والأعين الكحيلة ل الثقيلة فمنها جميعا أستعيذ 
بواهب النعم. سير الحالم في تهاويل حلم جميل رياضة 
حبوبة بَنِدَ أني أشكو ضئّي القلب والعين. إن تعد 
النسوان هنا لا تحصيهنّ» مبارك المكان الذي يضِمْهنٌ 
ولا منجى لك إلا أن تمتف من أعماق الفؤاد: يا 
خراب بيتك يا ياسين. هنالك يجيبك صوت أن افتح 
دكان في التربيعة واستقرٌء أبوك تاجر. سيّد نفسه. , 
ينشق في مسرّاته أضعاف أضعاف مرتّبك. افتحها 
وتوكل ولو بعت لذلك ربع الغوريّة ودكان الحمزاوي» 
بى 00 
عبك. تجلس وراء الميزان فيجيئك النسوان من كل 
فب : ا الخير يا مبى ياسين» واقعد بالعافية يا بى 
ياسين. على وعلّ إن تركت مصونة دون تحيّة أو 
متهتّكة دون ميعاد! ما ألذّ الخيال وأقساه على من 
سيبقى إلى آخمر العمر ضابطًا بمدرسة النحاسين. 
والعشق ذاء د جوع دائم وقلب 5 فوا رحمتاه 
لمن خخلق بشهوة خليفة وسلطان ضابط مدرسة. هدم 
الرجاء فلا جدوى من الكذب, ويوم حملتها إلى قصر 
الشوق كان الأمل يعدك بحياة هادئة مطمئلة؛ قاتل 
الله الملل كيف يمازج النفس كما تمازج مرارة المرض 
اللعاب! عدوت وراءها عامًا ثم مللتها في أسابيع فيا 
التعاسة إن لم تكن هذا؟ بيتك أوْل بيت يضجح 
سالشكوى في شهر العسلء سل قلبك أين 
مريم!؟... أين الملاحة التى لوؤعتك؟... يجبك 
بضحكة كالتأوه ويقول أكلنا وشبعئا وصرنا نتقزز من 
رائحة الطعام» وهي ماكرة يستعذب اللعب بها ولا 
تفوتها شاردة. مرة بنت هرّةء اذكروا حسنات موتاكم 
هل كانت أمك خيرًا من أمها؟! المهم أنها ليست 


كزيئب يسهل خداعها وما أثقل غضبها إذا غضبت» 
لا هي بالتي تغضي ولا أنت بالذي يقنع. هيهات أن 
تُشبع جوعك المستعر امرأة أو يعرف الاستقرار قلبك, 
ومع ذلك توقمت أنّك ستظفر بحياة زوجيّة سعيدة! ما 
أعظم أباك وما أحقرك! لم تستطع أن تكون مثله 
ودواؤك أن تكون مثله؟! رباه ما هذا الذي أرى؟! 
هله امرأة حقًا؟! كم قنطارًا يا ترى تزن؟! اللّهمّ إني 
لم أرَ من قبل طولا كهذا الطول ولا عرضًا كهذا 
العرض. كيف تملك هذه الضيعة؟! إني أنذر إذا 
وقعت بين يديّ امرأة في قدرها أن أنيمها في وسط 
الحجرة عارية؛ وأن أدور حولمها سبعا وأنا أفقر. , . 

ته الك 

جاء الصوث من وراء فاهترٌ له قلبه» وسرعان ما 
تحولت عيناه عن المرأة الضخمة إليه» فرأى شابة في 
معطف أبيض. فا تمالك أن هتفف: 

- زلوبة!. . . 

وتصافحا في حرارة وهي تضحك, غير أنه حثها 
على السير حبّى لا يلفتا إليها الأنظارء فسارا جنا إلى 
جنب يشقّان الزحام. هكذا التقيا بعد طول الفراق» 
ولم تكن ترد على خاطره إلا في القليل النادر بعد أن 
شغلته عنها الشواغل» ولكنّه وجدها جميلة كيوم 
هجرها أو لعلينا ازدادت مالا ثم ما هذا الرئ 
الحديث الذي استبدلته بالملاءة اللف؟! وانبعشت فيه 
موجة من النشاط والسروره وإذا ها تتساءل: 

كيف حاللك؟ 

عال» وأنت؟ 

فيا ترف 

نال ددا والحمد لله أنت غيّرت زيّكء لم أكن 
أعرفك عند أول نظرة» لا أزال أذكر مشيتك في الملاءة 
اللفا... 

وأنت لم تتغيّر, لم تكبر, .ازددت سمانة» هذا كل 
تال الامو 

أنت الآن شيء آخر! بلت أفرنجيّة!. .. (وهو 
يبتسم في حذر)... إلا أن ردفها من الغورية! 

لسانك! 


قصر الشوق هلا 


- أرعبتني! كأنك تبت أو تروجت. . . ! 

لا شىء على الله بكثير. . . 

قا" كوي نيك1 سملت الأريفى د ينان ران 
الزواج فلا يبعد أن تسوقك قلّة العقل يومًا إليه! 

- حاسب» إن متزوجة تقريبًا. . . ! 

ضحك - وكانا يميلان إلى الموسكي - قائلا : 

مثل تماما. . . 

- لكنك متروج بالفعل» أليس كذلك؟ 

نكف عر لك هل 5 (لم مستدركا) أوة. . . 
كف تيف أن ابر رناعيك أزه انا 

وضحك مرّة أخرى ضحكة ذات معنى » فابتسمت 
ابتسامة غامضة» وقالت: 

تقصد بيت السلطانة؟ 

أو بيث أبيء أليس الود متصلد؟ 

- تقريمًا! 

- كل شيء عندك الآن بالتقربب! أنا كذلك متروج 
تقريبّاء أعنى أن متروج وأبحث عن رفيقة. . . 

هشّت بيدها ذبابة على وجههاء فوسوست أساورها 
الذهبية المحيطة بساعدها وهي تقول: 

- أنا مرافقة وأبحث عن زوج! 

مرافقة؟! من السعيد ابن ال. . . 

قاطعته وهي تشير إليه محذّرة : 

إيّاك والسسّء إِنه رجل ذو مقام. . . 

فقال وهو يلحظها ساخخحرًا : 

- ذو مقام؟! هق هق. زنُوبة!... أودٌ لو 
أنطحك , . 

أتذكر متى تقايلنا آخر مرّة؟ 

أو ابي رضوان عمره الآن سنّة أعوام, فتكون 
قد تقابلنا آخر مرّة منذ سبعة أعوام, . . تقريبًا! 

- ولكن لا ينبغي لحي أن ييأس في هذه الدنيا من 
اللقاء . . . 

ولا الفراق. . . 

- الظاهر أُنَّكِ حلعت الوفاء مع الملاءة اللفٌ! 

فحدجته بنظرة مقطبة وهي تقول: 


5 قصر الشوق 


أتتحدّث عن الوفاء يا ثور! 

فسرّه رفع الكلفة إلى هذا الحد وشجع مطامعه. 
فقال: 

الله وحده يعلم كم سررت بلقائك, كثيرا ما 
كنت تخطرين ببالي» ولكتها الدنيا! 

دنيا النسوانى هه؟ 

فقال متظاهرًا بالتائر: 

ديا الموت» وديا المتاعب. . 

لا يدو أنّك تحمل للمتاعب همّاء إِنْ البغال 
لتحسدك على صحتك. . . 

لولا أنْ العين الحميلة لا تحسد. . 

أتحاف على نفسك! كأنك عبد الحليم المصري 
طولًا وعرضًا. . . 

فضحك ختالاء وصمت قليلاء ثم قال بلهجة 
جديدة جادة : 

- أين كنت ذاهبة؟ 

ل تذهب الواحدة إلى التربيعة؟ أم ظئنت الناس 
مثلك لا هم لم إلا التحككك بالنسوان؟ 

- مظلوم والله. . . 

- مظلوم! لما لمحتك وجدتك تغوص بعينيك في 
امرأة كالبوابة. . . 

- بل كنت شاردًا أفكر لا أعي فيم أنظر. . . 

- أنت! إن أنصح من يروم لقاءك أن ينقّب في 
التربيعة عن أضخم امرأة. وأنا كفيلة بأئه سيجدك 
وراءها لابدًا كبا تلبد القراضة في الكلب. . . 

- أنت يا وليّة لسانك كل يوم يطول عن يوم. . . 

- اسم الله على لسانك أنت. . 

ما عليناء خلينا في الأهمّ. أين أنت ذاهبة الآن؟ 

- سأتسوّق قليلاء ثم أعود إلى بيتى! 

فصمت لحظة كالمترذد» ثم قال: 

ما رأيك في أن نقضي معًا بعض الوقت؟ 

فلحظته بعيئيها السوداوين اللعوبتين» وقالت: 

- ورائي رجل غبورا . . . 

فقال وكأنّه لى يسمع اعتراضها: 

- في مكان لطيف لنشرب كأسين! . . . 


فعادت تقول بصوت أعلى من سابقه : 

قلت لك ورائي رجل غيور!. .. 

فاستطرد قائلا دون اكتراث : 

توفابيان» ما رأيك؟ إنه مكان لطيف وابن 
حلال» سأنادي هذا التاكبي. . . 

فندّ عنها صوت احتجاج» ثم تساءلت في استياء 
وشى وجهها بغيره قائلة: «بالقوة؟!» ثم نظرت في 
ساعتها بمعصمها ‏ وقد كادت هذه الحركة اللمسديدة 
تُضحكه - وقالت بلهجة الشارط : 

عل آلا أتأخّرء الساعة الآن السادسة» وينبغي 
أن أكون في البيت قبل الثامنة . . 

تساءل والتاكسى يطوي بها الطريق: ترى هل 
لحتهها عين ما بين التربيعة والموسكي؟ غير أنه هر 
كتفيه استهانة وهو يزحلق طربوشه المائل فوق حاجبه 
الأيمن إلى الوراء بمقبض منشّته العاجيّة. ماذا همّه؟! 
مريم وحيدة وليس وراءها وحش مثل محمد عفت 
الذي قوّض أول بيت زوجيّة بنئاهء وأمًا أبوه فرجل لبق 
وهو يعلم أنّه لم يعد الطفل الغرير الذي نكل به في 
فناء البيت القديم. وفي حديقة توفابيان جلسا حول 
مائدة متقابلين» كان المشرب غاضا بالنساء والرجال؛ 
والبيانو الميكانيكيّ يعزف مقطوعاته الرتيبة» على حين 
هفْت رائحة الشواء مع نسيم الأصيل من ركن قصي. 
وأدرك من ارتباكها أنها تجلس في مكان عام لأول مرّة 
فداخله سرور حرّيف, ثم أيقن في اللحظة التالية أن 
ما به حنيئًا حمًا لا محض رغبة عابرة» وبدت له أيّامها 
الغابرة أسعد الأيّام كلّها. وطلب قارورة كونياك ثم 
طلب شواء؛ وجرى ماء الحياة في نحذيه. ثم خلم 
طربوشه فبدا شعره الأسود مفروقًا من الوسط على 
جانبي الرأس كشعر أبيه. فما إن لمحته زنوبة حٌى 
ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة لم يفطن بطبيعة 
الحال إلى ما وراءها. كانت أوّل هرّة يجالس فيها امرأة 
في حانة غير حانات وجه اليركة. وكانت أل مغامرة له 
بعد زواجه الثاني مع استثناء إلمامة واحدة بدرب عبد 
الخالق. وربما كانت أوّل مرّة كذلك يشرب فيها 
كونياك وراقيّاه مارج البيت» إذ أنه لا يتناول اليد 


منه إِلّا فيا يقتنى من زجاجات في البيت للاستعمال 
«الشرعيّ») على حدّ تعبيره. ملا الكأسين في زهو 
وارتياح» ثم رفع كأسه وهو يقول ها: 

- صحّة زنوبة مارتل! 

فقالت بكيرياء خفيف الظل : 

- إني أشرب الديوارس مع البك. . . 

فقال متاففا : 

دعينا من سيرته» ربّنا يقدّرنا على جعله في خبر 
كان , , 

بعدك!. . . 

- سنرىء كلما شربنا كاسًا تفتّحت لنا أبواب 
والحلت عقد. . . 

ولإحساسها بقِضّر الوقت المتاح تعجلا الشراب 
فامتلاأ الكأسان وفرغا تباعاء وهكذا أخذ الكونياك 
يزغرد بلسانه الناريّ في معدتيهها فيرتفع زثبق النشوة في 
ترمومتر العروق» أمّا الأوراق اللخضراء المتطلعة من 
الأصص وراء سور الحديقة الخشبيّة فافترّت ثغورها 
عن بسمات متألّقة» وأخيرًا وجد البيانو آذانًا متساعحة. 
والوجوه الخالمة المعربدة تلاقت أعينها مرارًا في أنس 
ومودّة» وجو الأصيل سبح في موجات موسيقية 
صامتة, وبدا كلّ شىء طيبًا وجميلا: 

أتعرف ماذا ل إلى لساني أول ما رأيتك اليوم 
وأنت تحملق في المرأة كالمسعور؟ 

- أقشدم؟... ولكن أفرغي كاسك ولا حيّى 
أملاه , , 

وهي تتناول ريشة شواء : 

- كدت أصيح بك: يا بن الكلب. .. 

وهو يضحك ضحكة ريانة : 

- ول لم تفعلي يا بئت القارحة؟ 

أصل لا أشتم إلا الاحبّاء! وكنت وقتها غرييًا أو 
كالغريب! 

والآن ماذا ترينني؟ 

| وز 00 

- يا سلامء الشتيمة تُسكر أكش من الخمر أحيانا. 
هذه الليلة المماركة ستتحدّث عنبها الجرائد غذًا. . . 


قصر الشوق ١7709‏ 


لم كفى الله الشرٌ؟ ناوي تعمل حادثة؟! 

- الطف يا ربٌ بي وبها. .. 

وعند ذاك قالت بي شيء من الاهتهام : 

- لم تحدثى عن زوجك الجديدة. . . ؟ 

فربت ياسين شاربه وهو يقول : 

- ححزينة المسكينة! ماتت أمّها هذا العام , . , 

- العمر الطويل لكء كانت غَنيّة؟ 

- تركت بيتّاء البيت المجاور لبيتناء أعنى المجاور 
لبيت والدي؛ ولكتّها تركت في نفس الوقت شريكًا 
لزوجي فيه وهو زوجها! 

لا بدّ أنّ زوجك جميلة. فأنت لا تقع إلا على 
النقاوة. . 

فقال بحذر: 

لها جمالماء غير أنه لا يقاس بجمالك أنت, . 

آه مئنك أه. . . ! 

- هل عرفتنى كاذبًا أبدًا؟! 

أنت؟! أنا أشكٌ أحيائًا في أن اسمك هو ياسين 

إذن فلنشرب هذه الكأس أيضًا. . . 

- نُسكرني كي أصدّقك . ؟! 

- إذا قلت لك إِنْنى أرغب فيك وأحنّ إليك فهل 
تشكّين في صدقي؟ انظري في عيني؛ وجني 
- أنت خليق بأن تقول هذا الكلام لأية امرأة 
تصادفك , , 

هذا كها يقال إِنْ الجائم يودٌ ألوان الطعام جميعٌاء 
ولكنّ الملوخيّة مثلّا قد تستأثر بمنزلة خخاضة. . . 

الرجل الذي يحب امرأة حمًا لا يترد عن الزواج 
منها. , 

فنفخ , ثم قال : 

- أنت مخطئة. بودّي لو أقف فوق هله المائلة 
وأصرخ بأعلى صوتي: من يحب منكم امرأة فلا 
يتزوجهاء أجلء لا شيء يقتل الحبّ كالزواج. 
صِدّفيني, إن مجرّبء وقد تزوجت مرة وأخرى وأعرف 
مدى صدق ما أقول. . . 


قصر الشوق 


والعلك ل عقو علد إل الراة الى "تناسياف:. 

- تناسببي؟ كيف تكون هله المرأة؟ وبأيّ حاسشة 
يمتدى إليها؟ وأين تكون هذه المرأة التي لا تملَ؟! 

فضحكت في فتورء وقالت: 

- كأنك تتمئّى أن تكون ثورًا في حديقة أبقارء هذا 


هو أنت! 
ففرقع بأصبعه طريّاء وقال: 
الله . . . اللهء منِذا الذي كان في زمان مضى 


يدعوني بالثور؟. . . إنّه أبي ريّنا يمسيه بالخير» كم أودٌ 
لو أكون مثله. حظي بامرأة هي آية الطاعة والقناعة. 
وانطلق على هواه لا يجد في حياته المتاعبء موفمًا في 
زواجه. موفْقًا في عشقه. . . هلا :ها أزيلة ».: 


ب ما عمره؟ 
اظنةدق : اللقافية توا اتسين د يبن أله البو مق 
الشيات . 


لا عظيم أمام المسان 1 ]تع رو 

إل اوه الاستقؤق الحكتؤقانتة مق الفبان آذ 
ترينه الآن في بيتكم؟ 

فقالت ضاحكة وهي ترمي بعظمة إلى قطة تموء 
نحت قدميها: 

د.مكرة :ذلك البيت: متل اشهره :الآن الى تب 
الخاص وأنا سيّدثه! ْ 

حهًا؟! حسبتك تمزحين: وهل هجرت التخثت 
أيضًا؟ 

- هجرته. إِنّك تحدّث سيّدة بكلّ معنى الكلمة, , . 

فقهقه في البساط. ثم قال: 

- إذن اشري ودعيني أشربء ورينا يلطف بنا. . . 

في النفس فتنة وفي الحو فتئة» ولكن أبّبها الصوت 
وأبّها الصدى؟ وأعجب من هذا أنْ الحياة تدبٌ في 
الجهادات: الأصص تترنح هامسة والأركان تتناجى , 
السماء ترنو إلى الأرض بأعين النجوم الناعسة وتتكلّم . 
وبينه وبين صاحبته رسائل متبادلة تفصح عن المكنون 
في جو مشحون بالأضواء المنظورة وغير المنظورة يبهر 
الفؤاد ويزغلل العين» وفي الدنيا شيء يدغدغ البشر 
فلا يتركها حتى تغرق بالضحك؛ الوجوه والكليات 


والحركات وغيرها تغري جميعًا بالضحكء, والوقت يمر 
كالشهاب» وحاملو ميكروب العربدة يوزّعونه بين 
الموائك بوجوه أثقلتها الرزانة» أمَا أنغام البيانو فتترامى 
من بعيد فيكاد يغطي عليها صليل عجلات الترام: 
وغلمان الطوار ولاقطو الأعقاب ينشرون حوهم لغطا 
كطنين الذباب» وجحافل الليل تعسكر فوق الربوع 
وتستقر. كأنك تنتظر حبّى يجيئك الساقي فيسألك: 
أليس للنشوان مقرٌ؟ وأنت عن ذاك وما هو أجل لاه 
سادر. لو تسجد مريم بين يديك هامسة: حسبي 
غرفة أمارس فيها طاعتك وأملاأ الحجرات يمن تمبوى 
من النساءء أو يريّت ناظر المدرسة كتفك كلّ صباح 
فائلًا: كيف حال والدك يا ب؟ لو تشقٌّ الحكومة 
طريقًا جديدًا أمام دكان الحمزاوي وربع الغوريّة أو 
تقول لك زنُوبة: سأهجر غدًا بيت صاحبي وأكون 
طوع بنانك؛ لو حدث هذا لاجتمسع الناس عقب 
صلاة الجمعة يتبادلون قُبَل الصفاء, أمّا حكمة الليلة 
فهي أن تجلس على الكنبة وأن ترفص زنُوبة عارية بين 
يديك, هنالك يتاح لك أن ترعى شامة الحسن النابتة 
فوق سرّتها : 

- كيف حال الشامة المحبوبة؟ 

تساءل وهو يشير إلى بطنئه باسيّاء فقالت ضاحكة: 

0000989 

فأالقى نظرة زائغة على المكان. وقال: 

أتنوين: عولا» النامن و :هنا امعهيى :إلا فانييق وان 
فاسقء هكذا كل الناس السكيرين. . . 

تشرفناء أمَا أنا فمخي يتطاير. . . 

أرجو أن يطير اللتزء الذي يقيم فيه رفيقك. . . 

- آه لو علم بما هو حاصل لنا! سوف يطعنك يوم 
بفردة شاريه 

أهو شاميٌ من ذوى الشوارب الحبارة و. . 

- شاميَ!؟... (ثمّ ترغت بصوت مسموع) برهوم 
يأ برهوم , 

- هس ء لا تلفت إلينا الأنظار. . . 

- أي أنظار يا أعمى! لم يبِقَ إلا نفر قليل. . . 

وهو يمسح على بطنه نافحُما : 


بالق ره 

المحنونة أمك. , , 

صوتك يعلو أكثر تما ينبغي» قومي بنا. . . 

دنال أيق؟ 

- عمرك أطول من عمري» لندع الأمر إلى 
وهل يفلح من يترك قياده إلى قدميه؟ 

نبا آمن على كل حال من مح ميعثر. . . 

فقاطعها وهو ينبضص مترنحًا: 

علينا أن ندبّر أمورنا بلا تفكير, لأنْ التفكير لن 
يذعن لنا قبل صباح الغد. قومي ينا. . . 


51 د 

أسبلت المساكن جفونهاء وأقفرت الطرقات إِلَّا من 
نسمة شاردة أو ضوء مصباح مهومء أمَا الصمت فقد 
خلا له الَوٌ فتاه ونشر جناحيهء وما جدوى الفنادق إذا 
كان أصحابا لا يلقونك إلا بالنظرة الشزراءء كاك 
مرض يترنّح فهم يجتنبوه» أجل إِنّك تلاقي الإعراض 
بالازدراء ولكئك ستظلٌ بلا مأوىء وقد ضَمْ الرقاد 
العاشقين فإلامٌ تبيم على وجهك.» وها هو حوذي يرفع 
راسه المثقل بالنعاس وسرنو إليك بنظرة ترحاب». 
فوارحمتاه للذي بسحب المرأة في أذيال الليل وهو 
يتساءل إلى أين. ..؟ 

- إلى أين؟ 

أجاب الخوذيّ باسما: 

ود كه الام 

فقال له ياسين: 

- لم أقصدك بسؤالي. . . 

فقال الرجل : 

تحت الأمر على أي حال, . . 

عند ذاك قالت زنوبة: 

لا تسألني أنا سَلْ نفسك. لم لم تفكر في ذلك قمل 
أن تسكر؟ ! 

فزدا[ شرق يترم ملكا يوق رفهن أمام:«الغربة.: 


قصر الشوق 9؟/! 


- الئيل! أحسن مكانء هل أذهب بكها إلى شاطئ 
اليل ؟ 

فتساءل ياسين محتدًا : 

أحوذيّ أنت أم نوق؟! ماذا نفعل عند النيل في 
هذا الوقت من الليل؟ ! 

قال الحوذي بإغراء : 

هنالك النور ضئيل والمكان حال . . . 

ب جو مناسب لقطاع الطرق! 

زنوبة بخوف: 

يا خبر أسودء أذناي وعنقي وساعداي محمّلة 
بالذهب! 

فقال الحوذيّ وهو يبز منكبيه : 

الدنيا بخيرء أنا كل ليلة أذهب إلى هناك بأناس 
طيّبينَ مثلكياء ونعود على أحسن حال. . . 

زنوبة بحدّة: 

لا تذكر النيل على لسانك, إن بدني يقشعر 
لذكره! 

- بعد الشر عن بدنك. . , 

صاح ياسين وكان قد اتخل مجلسه في العربة إلى 
جانب زنُوبة : 

- كلمن أناء مالك أنت وبدها! 

يا بك أنا خدذامك, . , 

- ربّنا يحل عسيرهاء إن أردت فندمًا ذهبنا إلى 
فندق. . . 
- تشاجرنا في ثلاثة فنادق» ثلاثة أم أربعة يا زنُوبة؟ 
شف غيرها. 

- نرجع إلى النيل. . . 

زنُوبة بغضب: 

الذهب يا عمر. . . ! 

ياسين وهو يطرح ساقيه على المقعد الخلفي : 

- فضا عن أنه ليس هناك مكان. , . 

فقال الحوذئ : 

أما عن المكان فلديك العربة, . 


هتفت زلوية : 


0 قصر الشوق 


- هل أنذرتها مضايقتي؟ 

فقال ياسين وهو يفتل شاربه : 

لك حقّء لك حقّء ثم إن العربة مكان غير 
صالح. ولن أرضى بعبث الأطفال على آخر الزمن, 
أسمع . . 

مدّ الرجل أذنه. فصاح ياسين بنفخة آمرة: 

- إلى قصر الشوق! 

طق طق طق طق تخوض الظلمات ولا أنيس إلا 
النجوم. في الأفق قلق يلوح ثم لا يلبث أن يغرق في 
بحر النسيان كالذكرى المستعصية. ذلك أن الارادة 
ذائبة في كأس من الخمرء وإذا رفيقة الهناء تساءلت 
بلسان ملعثم عن: أين يقصد في قصر الشوق؟ أجاب 
إلى ببتي الذي ورثته عن أمّيء قضت مقادير بأن 
تعيش فيه للغرام وأن توقفه بعد مماتها على الغرام. 
استقبل بقلب شيّق أمْ مريم ومريم» والليلة يحتضن 
سيّدة الليالي الخوالي» وزوجك أمّها السكران؟ في النوم 
مغرقة؛ أليس لكل شيء حساب... وأنت مع رجل 
لا يعرف الخوف قلبه. اقطفي من لأآلمْ النجوم ما 
ترصعين به جبينك. وغَئي في أذني وحدي: هاتيلٍ 

- وأين أقضي بقيّة الليل. . .؟ 

- سأوصلك إلى حيث تريدين . . . 

- لن تستطيع أن توصل قشّة . 

- باريس في الوجه البحري . . . 

- لولا أن أخافه ! 

من هو؟! 

بصوت منكسر وهي تلقي برأسها إلى الوراء : 

- من يدرينى؟ نسيت. . 

غثى الجالية ظلام دامس. حبّى القهوة أغلقت 
أبواءها. وقفت العربة عند مدخل قصر الشوق فغادرها 
باسين وهو يتجشأء وتبعته زنُوبة معتمدة على ذراعه, 
ثم مضيا معا في حذر لم يغن عن الترنّحء يتعقّبهيا 
سعال الحوذيّ وأطيط حذاء الخفير الذي مر بالعربة 
وهي تدور مستطلعاء وقالت له: إِنّْ الطريق وعرء 
فقال لها: لكنّ الدار أمان, وقال لها أيضًا: لا تشغلٍ 


البال. وعبئًا حاولت أن تذكّره بأنْ زوجه في الشقّة التي 
إليها يسعيان» فضا عن أنْها كانت تحاول تذكيره وهي 
تبتسم في الظلام ابتسامة بلهاء» وكادت قدمها تعثر 
مرّتين وهي ترقى السلّم. حيّى وقفا أمام الشقّة وهما 
يلهئان؛ بعثت رهبة الموقف في شعورهما المبعثر يقظة 
عابرة حاولت أن تلم شتاته بقبضة وانية» فأدار المفتاح 
في القفل بحذر ثم دفع الباب برفق بالغ» وبحث في 
الظلام عن أذن زنّوبة حيّى عثر عليهاء فيال نحوها 
وهمس أن تخلع الحذاء. وفعل مثلهاء ثم تقدّمها خطوة 
فوضع راحتها على كتفه ثم مضى إلى حجرة الاستقبال 
لقاء المدخل» ثم دفع بامها وانسلّ إلى الداخيل وهي في 
أثره. تنبّدا معًا بارتياح. وردٌ الباب ثم قادها إلى 
الكنية وجلسا معاء قالت متضايقة : 

- الظلام شديد, أنا لا أحبٌ الظلام! 

فقال وهو يضع الحذاءين تحت الكلبة : 

- ستألفيئه بعد قليل. . . 

- بدأ مي يدورا . . . 

الأن فقط؟!ا 

وقام فجأة دون أن يلقي إلى ما أجابت به بالا وهو 
يمس في ارتياع : 

لم أغلق الباب الخارجي . . . 

ومدّ يده ليخلم طربوشه فهتف: 

- نسيت الطربوش أيضًا! في العربة يا ترى أم في 
توفابيان؟ 

- الطربوش في داهية» أغلق الباب يا عمر. . , 

تسل ميرّة أخرى إلى الصالة, ثم إلى الباب 
الخارجئ فأغلقه بحذر شديد» وفي طريق عودته 
خطرت له فكرة مغرية» فاتجه نحو الكنصول وهو يمد 
يده أمامه رائدة لتقيه الاصطدام بكرسئ السفرة» ثم 
عاد إلى حجرة الاستقبال قابضًا على زجاجة كونياك 
نملوءة حتّى نصفهاء وضع الزجاجة في حجرها وهو 
يقول : 

- جئتك بدواء لكل شىء. , 
فيك اها اباس اقالاك: 

خمر؟!... حسبك! أتريد أن نطفح؟! 


جرعة نستردٌ مها أنفاسنا بعد هذا الجهد! 

شرب حتّى ظَنْ أنّه قادر على كلّ شيء, وأنَّ الجنون 
حالٌ يُستطاب؛ وهاج البحر فعلًا مع موجه وسفل ثم 
دار في دوّامة ما لها من قرارء وسَّلّت في أركان الحجرة 
السنة تنطق في الظلاء لغوا وهذرّاء وتلدٌ عنهبا 
ضحكات معربدة؛ في ضجّة كضوضاء السوق حي 
الغناء جرى في أثيرهاء وهوت الزجاجة على الأرض 
فأحدثت صونًا كالنذيرء ولكن كان أمامه شوط عليه 
أن يقطعه ولو في بحر من العرق؛. طال الوقت أم قصر 
فليس الزمان في حسبانه. لذلك تمرك الظلام وشاب 
إهابه والجفون المغلقة عنه غافلة» وكما يستيقظ الحام 
السعيد وهو يمد اليد ليقطف لذة جديدة استيقظ هو 
على صوت وحركة. فتح عينيه فرأى نورًا وظكك 
يتراقص على الجدران» وثنى رقبته فلمح عند الباب 
مريم قابضة على مصباح قد جلا من وجهها ملامح 
عابسة وعينين تشيعان شرر الغضب. تبودل بين 
المنطرحين على الكنبة والواقفة عند الباب نظرات 
طويلة غريبة», زائغة بالذهول من ناحية مستعرة 
بالغضب من الناحية الأخرى» ثم لم يعد الصمت مما 
يستطاع. أعربت زوبة عن قلقها بأن فتحت فاها 
طارئ فأغرقت فيه حيّى اضطرّت إلى إخفاء وجهها 
بكفيهاء وإذا بياسين يصيح بها بلسان ثقيل : 

- كفي عن الضحك!. . . هذا بيت محترم ! 

وبدا أن مريم أرادت أن تتكلّم فلم يسعفها لسانها 
أو أعجزها الخضب. فقال لا ياسين ولم يكن يدري 
ماذا يقول: 

وجدت هذه «الستّ» في حالة سكر شديدء 
فجئت بها إلى هنا حتى تفيق. . . 

وم تسكت زلوبة» فقالت معترضة: 

- هو السكران كما ترين» وقد جاء بي بالقوة!. . 

لدت عن مريم حركة خطيرة كأئما همّت بأن تقذفه) 
بالمصباح» فتصلّبت قامة ياسين ونظر إليها متحمُرًاء 
ولكتها سرعان ما تراجعت متأثّرة بخطورة الإقدام. 
فوضعت المصباح على منضدة وهي تصرّ على أسنانها 


قصر الشوق ٠١‏ 


بحنق. ثم تكلّمت لأوّل مرّة وكان صرتها جافًا متهدّجًا 
محشوشئًا بالحقد والغضب» قالت: 

- في بيتي!... في بيتي؟!» في بيتي يا مجرم يا بن 
الشياطين! 

ودرّى صوتما كالرعد يصبٌ عليه اللعناث وينعته 
بكل خبيث. صرخت وصوّتت حي شق صسرتها 
الجدران. ونادت السككان والجيران وهى تخلئف 
لتفضحئه وتشهد عليه النائمين. وكان امسن ينذرها 
بشتى الوسائل ليسكتهاء لوح ا بيده وحملق فيها 
بعينيه» وصاح بها مزمجراء فلا خابت وسائله يض 
منفعلا واتمه نحوها بخطوات واسعة ليبلغها في أقصر 
وقت دون اندفاع خخشية أن يتل توازنه» ثم انقض 
عليها مسدّدًا راحته إلى فيها ليسدّه. ولكتّبا صرخت فى 
وجهه كاهرة اليائسة وركلته بقدمها في بطئه. فتراجع 
مترنحًا مكفهرٌ الوجه من الحنق والألم ثمّ سقط على 
وجهه كالبنيان المتهدم. انطلقت من زثوبة صرخة 
مدوية فجرت مريم نحوها وارقت عليهاء وجذبت 
شعرها بيمناها وأنشبت أظافرها الأخرى في عنقها 
وجعلت تبصق في وجهها وهي تسبٌ وتلعن» وما لبث 
ياسين أن نهض ثانيًا هارًا رأسه بعنف كأنها ليطرد عنه 
الخمارء فتحول إلى الكنبة وسدّد نحو ظهر زوجه 
الراقدة فوق غريمتها قبضة شديدة فصرخت صريم 
وتراجعت زائغة عنه. فتبعها وقد أعباه الغضب موجها 
إليها ضربات متتابعة حيّى فصلت بينها السفرة» وعند 
ذاك تناولت الشبشب من قدمها وقذفته به فأصاب 
صدره فجرى نحوهاء وراحا يدوران في الصالة وهو 
يصيح بها (اغربي عن وجهي ء أنت طالقة. . , 
طالقة. .. طالقة. . .». وإذا بيد تنقر الباب وصوت 
الجارة المقيمة في الدور الثاني ينادي وستّ مريم. . . 
ست مريم»» فتوقف ياسين عن الجري وهو يلهث. 
أما مريم ففتحت الباب وبادرت تقول بصوث ملذ 
السلم كله : 

تعالي انظري داخل الحجرة وتحتّريني هل رأيت 
مثل هذا من قبل؟1 عاهرة في بيتي تسكر وتعربدء 
ادخلي وانظري . 


قصر الشوق 


فقالت الخارة باستحياء : 

- هذّئي نفسك يا ست مريمء تعالي معى حي 
الصباح. . 

هنف ياسين دون مبالاة: 

اذهبي معها, لا حقٌّ لك في البقاء في بيتى. . . 

فصرخحت مريم في وجهه: 

يا فاسق. يا مجرمء تجيئني بعاهرة في بيت 
الزوجية . . 

فضرب الجدار بقبضته وصاح بهاأ: 

أنت العاهرة أنت وأمّك. . . 

- تسب أمي وهي بين يدي الله ! 

- أنت عاهرة, أنا أعلم ذلك عن يقين, ألا 
تذكرين الجنود الإنجليز؟! الحنّ عل لأني لم أستجب 
إلى تحذير الناس الطيبين! 

- أنا ستك وتاج رأسك؛ أنا أشرف من أهلك ومن 
أمّك. سَلْ نفسك عن الرجل الذي يتزوّج امرأة وهو 
يعلم أنّها عاهرة كما قلت! هل يكون إلا قرَادًا 
حسيسًا؟! .. (وهي تشير إلى حجرة الاستقبال). . . 
تزوج من هذهء إثها من النوع الذي يوافق مزاجك 
القذر. . . 

- كلمة أخرى. ويسيل دمك حيث تقفين. . . 

ولكنّ حنجرتها عادت تصرح وتقذف اللهب حي 
تدخلت الجحارة لتحول يها إذا دعا داع .» وجعلت 
تربت منكبها متوسلة إليها أن تمضي معها حب يطلع 
الصبح » واشتدٌ الضيق بياسين فصاح بها: 

- خذي ثيابك واخرجي» ابعدي عن وجهي. لا 
أنت زوجي ولا أنا أعرفك» أنا داخمل الحجرة الآن 
وإيّاك أن أجدك إذا عدث. , 

واندفع إلى حجرة الاستقبال ودفع الباب وراءه 
دفعة عئيفة ارنخت ها الجدران. ثم ارتمى على الكنية 
وهو يمف عرق جبينه» «مست زنُوبة قائلة : 

- إى خحائفة , . . 

فقال بخشونة : 

- اسكتي. مم تخافين؟! (ثم بصوت مرتفع) أنا 
ريع امد 


فقالت وكأئها تخاطب نفسها: 

ماذا أصابنى في عقلى حيّق طاوعتك وجئت معك 
إلى هنا؟ 00 ْ 

- اسكتي!.. . ما كان كان ولست آسمًا على 


طّ 


تو قروو افد 

.وانت الب الاسيزاى خدول الاب لفق 
فدنت على أن أكثر من جارة قد أحاطت بالزوجة 
الغاضبة» ثم سمع صوت مريم وهي تقول بلهجة 
باكية : 

هل سمعتم عن هذا من قبل؟ عاهرة من عرض 
الطريق في بيت الزوجيّة؟ استيقظتٌ على ضوضائه) 
وهما يضحكان ويغئيان! إي والله كانا يغئيان بلا حياء 
بعد أن أذهلها السكرء. خختروني أهذا بيت أم 
ماخحور؟ | 

وإذا بصوت امرأة تقول محتجة : 

- أتجمعين ثيابك وتغادرين بيتك؟! هذا بيتك يا 
5-7 مريم ولا يصح أن تغادريه. فلتغادره 
الأخرف::. 

فهتفت مريم : 

- لم يعد بيتي. لقد طقني المحترم ! 

فقالت أخرى : 

-لم يكن في وعبهء تعالي الأن معنا ولنؤخل الحديث 
إلى الصباح» ومهما يكن من أمر فياسين أفندي رجل 
طيُب وابن ناس طيبين» لعنة الله على الشيطان» تعالي 
يا ابنتي ولا تحزني. . . 

فصاحت مريم : 

لا كلام ولا حساب؛ لا طلع الصباح عليه 
المجرم ابن المجرمة. . 

م تتابع وقع الأقدام مبتعدًا حثى لم يعد يسمع من 
المتحدّئات إلا أصوات مبهمة» ثم دوت صفقة الباب 
ظهره. . 

5 00 

عندما فتح عينيه كان نور الضحى قد ملا الحجرة. 

وجد في رأسه ثقلًا لا عهد له به رغم أنَبا لم تكن أوّل 


مرّة يستيقظ بعد ليلة محمورة. وبحركة من رأسه غير 
مقصودة وقعت عيناه على زنوبة وهي تغط في نومها إلى 
جانبه» هنالك استعادت ذاكرته حوادث الليلة الماضية 
في لقطة واحدة: زنُوبة في فراش مريم» ومريم؟! عند 
الجيران» والفضيحة؟! في كل مكان. يا ها من وثبة 
جبّارة في هاوية التدهور, ما جدوى الغضب أو الندم 
الآن؟ ما كان كان وكلّ شيء قد يتغيّر إلا أمس» 
أيوقظها؟ ولكن لله؟ فلتمتى نومًا حّ تشبعء ولتبق 
عقي نه وبي انار البق قل ادالقير 
الظلامء ولم يكن بد من استعادة شبيء من ححيويته 
ليلاقي بد يومه العسيرء فأزاح الغطاء الخفيف عن 
جسمه وانزلق إلى أرض الغرفة ثم مضى إلى الخارج 
تقيلا منفوش الشعر منتفخ الجفون محمرٌ العينين. 
تثاءب في الصالة بصوت كالخوار ثم نفخ وهو ينظر إلى 
باب حجرة الاستقبال المفتوح ثم أغمض عينيه متأوها 
من ثقل رأسه وقصد إلى ايام . أمامه يوم عسير حقّاء 
مريم عند الحيران والأخرى محتلة فراشها وقد أدركها 
العبار قبل أن يخفي أثار جريمته. فيا للجنون! كان 
يجب أن يسرّبها قبل أن يأوي إلى فراشه فكيف تواى 
عنّا يجب؟! أي غاشية غشيته؟! بل ومتى وكيف مضى 
مها من حجرة الاستقبال إلى حجرة النوم؟! إِنّْهِ لا يذكر 
شيناء لا يذكر حي كيف ومتى استجاب للنوم. 
والجملة أمّْها فضيحة كبرى بلا ثمن» وليلة بريئة ولكنّها 
مئقلة بالعار مثل رأسه المثقل بالهم والصداع. .. 
ولكن لا عجب فهذه الشنّة مسكونة من قديم بشياطين 
الفضائح, تركة أمْ غفر الله لها. مضت الأمٌّ وبقي 
الابن ليكون مضغة الأفواه ونادرة السكحان والجيران 
وغدًا تبرع الأنباء إلى بين القصرين. . . فإلى الأمام! 
قرار هاوية سحيقة من العربدة والسفالة فليت هذا الماء 
البارد الذي تغتسل به يطهر النفس من ذكريات 
السوء» ومن يدري فلعلّك إذا أطللت من النافذة 
وجدت أمام بابك لمة ترصد يروج المرأة الي طردت 
الزوجة واحتلت مكانهاء كلا لن تسمح لها بالخروج 
مهما يكن من أمرء أمّا مريم فقد طلّقتها! طلقتها وما 
أردت ذلك وأمّها لم يف ماؤها في قبرها بعد فإذا 


قصر الشوق “7 


يقول عنك الناس أمّها المفتري ؟! وشعر بحاجة ماسة 


إلى فلجان قهوة ينعش به حواسّهء فغادر الحمام إلى 
المطبخ , وفي أثناء عبوره الدهليز الذي يفصل بينها لمم 
الكنصول في الصالة فذكر زجاجة الكونياك المهراقة في 
غرفة الاستقبال» وتساءل لحظة عا أصاب السحادة, 
ثمّ ذكر في اللحظة التالية وفي أسف ساخر أنْ أثاث 
الشقّة كله لم يعد ملكه وأنه سيلحق عا قليل 
بصاحبته» وبعد دقائق معدودات كان محمل كوبا مملوءًا 
حتى نصفه بالقهوة ويسير نحو حجرة النوم. وهنالك 
وجد زثوبة جالسة في الفراش تتمطى وتنتشاءب» 
فالتفتت نحوه وقالت : 

- صباحنا خيرء وإن شاء الله نغيّر ريقنا في القسم! 

فرشف رشفة وهو ينظر إليها من فوق الكوب». ثم 
قال : 

- قولي يا فتاح يا عليم. . . 

فلوّحت بيديها حجّى وسوست الأساور الذهبية حول 
ساعدمباء وقالت: 

- أنت السبب في كل ما حصل . . . 

فجلس على حافة السرير فيما يل ساقيها 
الممدودتين؛ وقال بضيى : 

محكمة! هه!|. قلت لك قولي يا فتاح يا عليم! 

فريّتت سلسلة ظهره بكعب قدميهاء وهي تقول 


متأوهة : 
ل لخسربت بيني ١‏ الله وصضذدة يعلم ما يتظرني 
هناك , , 


فوضع سافًا على ركبته حي انحسر الجلباب عن 
الأخرى فبدت مكتنزة مغطاة بغابة من الشعر الفاحم. 
وقال: 

- رفيقك؟ خحيبة الله عليه! ما يكون هذا إلى طلاق 
زوجي ؟! أنت التي خصربت بيتى» وبيتٍ أنا الذي 
خرب. . . 
قالت وكاأنها تحّذث نفسهاء 

- ليلة سوداء لم أعرف لي فيها رأسًا من قدمين, لا 
تزال الضوضاء تدوّي في رأمبي. لكنّ الحق علّ؛ ما 
كان ينبغي لي أن أطاوعك من بادئ الأمر. . . 


4 قصر الشوق 


خيل إليه أنْها راضية رغم تشكّيهاء أو أنْها تذذعي 
التشكّي اذعاء. ألم يعرف في الأزبكيّة نساء يتباهين 
بكل عراك دموي ينشب من أجلهنٌ!؟ على أنه لم 
يغضبء كانت الأمور قد بلغت حدَ اليأس فأعفته من 
مشقّة اللهوض لعالحتهاء فلم يملك إلا أن يضحك 
وهو يقول : 

شر البلية ما يضحك! اضحكي » خربت بيت 
واحتللته. قومي فاصلحي من شأنك واستعدّي لإقامة 
طويلة حّى يُقبل الليل» لن تغادري البيت حتّى يأتي 
الليل. . 

يا خر أسود! سجينة! أين زوجك؟ 

- لم يعد لي زوجة. .. 

د أبن هي ؟ 

في المحكمة الشرعية إن صدق ظني. . . 

- أخاف أن تعتدي عل عند خروجي . . . 

تخافين؟! ربّنا يرحمنا! إِنْ ليلة أمس على فظاعتها 
لم توهن من مكرك وخبئك يا بدت أنمت زبيدة! 

ضحكت ضحكة طويلة فبدا أنْها تقر بالتهمة 
الموججّهة إليهاء وفي مباهاة أيضاء ثم مدّت يدها إلى 
كوب القهوة فتناولته واحتست قليلا منهاء ثم ردّتها إليه 
وهي تتساءل: 

والآن؟ 

- كما ترين» لا علم لي أكثر منك. ولكن يمر في 
نفسي أن أنكشف أمام الناس كما اتكشفت في الليلة 
الماضية. . , 

هرت منكبيها في استهانة قائلة ؛ 

- لا تبنم بذلك؛ ما من رجل إلا ويخفي تحت ذقنه 
مخازي تضيق عنها الأرض . 

- رغم هذا فالفضيحة فضيحة. تصوّرى الشجار 
والعويل والطلاق عند الفجر! تصوّري الجيران وقد 
فزعوا إلى شقّي مستطلعين فرأت أعينهم كل ثىء. 

قطبت قائلة : 

- كانت هي البادثة! 

لم يملك أن ضحك ضحكة ساخرة» فعادت تقول 
بإصرار: 


كانت تستطيع أن تعالج الأمور بحكمة لو كانت 
عاقلة» الغرباء في الطريق يتسامحون مع السكارى 
المعربدين, هي التى جَنْتْ على نفسها بالطلاقء وماذا 
كنت تقول لها؟. . . 
وكلام آخر عن الحنود الإتجليز. . .؟ 

تذكر هذا الآن فقط وهو يحدجها بنظرة محنقة 
متسائلا كيف رسخت هذه الألفاظ في ذاكرتهاء وغمغم 


يا عاهرة يا بنت العاهرة. هه؟ 


كنت غاضبًا لا أدري ماذا أقول! 

- [إحم ! 

إحم في يافوخك!. . . 

الحنود الإنجليز؟. . . هل جئت بها من بار 
فلشىي؟! 

أستغفر الله. إثْها بنت ناس وجيران العمرء ولكنّه 
الكقبية غلية القن لكت م 

- لولا الغضب ما انكشفت الأسرارا 

وحياة خخالتك حسبنا ما تحن به. . . 

خترني عن الحنود الإنجليز وخل شعر رأسي . . . 

بصوت عال محتد: 

- قلت إنه الغعضب وكفى. . . 

شهقت ساخخرة» ثم قالت: 

- أتدافع عنبا؟. . . اذهب فاستردها. . . 

ملعون أبو البارد الذي لا يستحي . . . 

ب ملعون أبوه. . 

غادرت الفراش إلى المرآة فتناولت مشط مريمء 
وراحت قمشط شعرها بعجل وهي تتساءل: 

ما عسى أن أفعل لو قطع الرجل علاقته بي؟ 

- قولي له مع السلامة. أما بيتي فمفتوح لك على 
الدوام . . . 

فالتفتت إليه قائلة بلهجة أسيفة: 

- أنت لا تفقه معنى ما تقول! كنا بسبيل التفكير 
لجدَي في الزواج . 

- الزواج! وهل ها زلت تفكرين فيه بعد ما رأيت 
من أحواله في الليلة الماضية؟! 

قالت في دهاء: 


- أنت لا تفهمني! لقد ضقت ذرعًا بالحياة الترام. 
ليس وراءها إلا البوار إِنْ مثلي إذا تزوّجت قدَّرت 
الحياة الزوجية حير قدرها! 

من المغفل يا ترى؟! التتخت لم يكن يعدّها بأكثر من 
عؤادة» وحياة اللهوى ليس وراءها بعد الثلاثين ‏ 
وستبلغها قريبًا ‏ إلا التلف. فالزواج هو الأمل 
الموعود. هل تقصدك بِبذا الحديث؟... ما ألذ 
الشيطانة! لا أنكر أنني أريدهاء أريدها بكل قوّةء 
وفضيحتي تشهد على ذُلك. . . 

أتحكينه ؟ 

كالغاضية : 

- لو كنت أحبّه ما وجدتني الآن سجينة هنا!. . . 

اهترٌ صدره حنانا رغم ارتيابه في صدقها. أجل إذا 
لم يكن يعرف الإخلاص قلبها أبدت له ميلا لا شك 
فيه . 

- لا غبى لي عنك يا زنوبة» في سبيلك ارتكبت 
جئونًا غير مبال بالعواقب» أنت لي وأنا لك من قديم 
الزمان. . . 

وساد الصمت.» بدت كأئها تنتظر مزيدًا على لهف. 
ولكنه لم ينبس فقالت: 

- هل أقطع أسبابي بذلك الرجل؟ لست من اللاتي 
يستطعن أن يجمعن بين رجلين. . . 

من هو؟ 

- تاجر من ناحية القلعة يدعى محمد القلل. . . 

- متزوج؟ 

وله أولادء ولكنّه كثير المال. . . 

- وعدك بالرواج؟ 

يغريني به) ولكنّني متردّدة لأنْ ظروفه وكونه 
زوجا وأبا مما ينذر بالمتاعب. . . 

احتمل مكرها من أجل حمال عينيها. 

- لم لا نعود كا كنّا؟.... لست فقيرًا على أيّ 
حال . . 

- لا يعنيني مالك. ولكن ضقت بحياة الحرام ! 

- والعمل؟ 


هذا ما أسأل عنه, . . 


قصر الشوق ه8! 


- أفصحي . . . 

قلت ما فيه الكفاية. . . 

يا له من هجوم غير متوقعء أجل إِنْه يبدو أوّل ما 
يبدو مضحكاء غير أنه يريدها فلا يسعه أن يرد علل 
اهجوم بمثله. قال بعد صمت: 

لا أخفي عنك أن بت أتطيّر من الزواج. . . 

- كما أتطير من الحرام . . . ! 

- لم تكوني كذلك أمس! 

- كان في قبضة يدي زوجء ما اليوم. . . ! 

- قليل من المرونة حمّى نتلاقى : شيىء واحد لا 
ينبغي أن يغيب لك عن بال. وهو أني مهما تطل بي 
عشرتك فلن أتخل عنك., . . 

فهتفت محتدة : 

- سوابقك تشهد على صدقك . . . 

فقال بلهجة جِدَّيّة يداري بها ضعف مركزه: 

الإنسان لا يتعلّم بلا ثمن. . . 

- لم تعد تغرر بي الأقوال. آه منكم يا رجال! 

ومنكنٌ يا نساء أليس ثمة [آه؟! يا بنت أنحث زبيدة 
رحمتك» جاءت بعد منتصف الليل سكرى وفي 
الصباح ضاقت بالحرام. لعلّها قالت لنفسها: إذا 
كانت زوجه الثانية عاهرة فلم لا أكون زوجه الثالثة؟! 
هانْ ياسين, أنسيت ما ينتظرك في الخارج من 
اللناعب؟ دع المتاعب تنتظرك ولكن لا تفقد زنّوبة 
بكلمة نابية» كما فقدت مريمء مريم؟ الآن كمْرت عن 
ذنبى يا أخي» قال بهدوء : 

- يجب ألا ينقطع ما انصل بيئنا. . . 

- بيدك انقطاعه واتّصاله , . . 

يجب أن نلتقي كثيرًا ونفكر كثيرًا. . . 

- من جانبي لاا حاجة بي إلى تفكير جديد! 

- فإمًا أن أقنعك برأبي. وإما أن تقلعيني 
الك 
- لن أقتنع برأيك . . . 

وغادرت الحجرة وهي تداري عنه ابتسامة فاتبع 
ظهرها المتأوّد نظرة استغراب» أجل كل شيء يبدو 
غريبًاء ولكن أين مريم؟ وحيدة على أيّ حال ولن 


*/ قصر الشوق 


تذوق نفسه الراحة والسلام. وسيُسال غدًا في بين 
القصرين وبعد غد في المحكمة الشرعيّة» ولكن كانت 
حياته) في الأيّام الأخيرة نضالا متواصلاء حبّى قالت له 
بصريح العبارة: كرهتك وكرهت عيشتك» لم أحلق 
كى أوفْق في الزواج. أهكذا كانت حياة جدّي؟ إني 
انه الاهرة في يقال موق نقد اكلدتريه الجر 
أن تتروج متي. . . 
758 - 

كانت الشمس ثؤذن بالمغيب عندما عير السيّد أحمد 
عبد الجواد القنطرة الخشبيّة المؤدّية إلى العؤامة؛ ودقٌ 
الجرس ففتح الباب بعد قليل عن زنُوبة في فستان من 
الحرير الأبيض نمت شفافيته عن محاسن جسدهاء فلا 
رأته هتفت: 

أهلً... أهلاء قل ماذا فعلت أمس؟ تصوّرت 
حضورك ودف الجرس دون نتيجة ووقوفك حيئًا ثم 
ذا انار زرط ا رسا رق 1 ياد 
فعلت؟ ْ 

بالرغم من أناقة مظهره والعرف الطيب الذي 
يتطاير منه بدا وجهه متجه)| وعيئاه جامدتين تعكس 
حدتتاهما اسشياء» سأل قائل: 

ف ا اكير 

فتقدّمته إلى حجرة الجلوس وتبعها حتّى وسط 
الحجرة بين نافذتين مفتوحتين على النيل ول يجلسء أما 
هي فجلست على مقعد بين النافذتين وهي تتظاهر 
بالهدوء والئقة والابتسام. ثم قالت: 

خترجت - كما تعلم ‏ أمس لأستبضع» فقابلت في 
بعض الطريق ياسميئة العالمة فدعتنى إلى بيتهاء 
وهنالك أبت عل أن أنصرف. وما زالت بي حي 
أجبرتني على المبيت عندهاء لم أكن رأيتها منل انتقلث 
إلى هذه العوامة» لو سمعتها وهي تطعن في وفائي 
وتسألني عن سر الرجل الذي أنساني عشيرتي وجيراني! 

صادقة أم كاذبة؟ هل عان آلام أمس واليوم بلا 
سبب حمًا؟ إِنّه لا يربح ملَيرًا ولا يخسر مَلَينا بلا سبب, 
فكيف عان تلك الآلام المروّعة بلا سبب؟! دنيا 
ماكرة. .. غير أنه على استعداد لأن يلثم ترابا إذا 


صح عنده صدق هله الشيطانة. فليصحّ له صدقها 
ولو يفقد ما بقي من عمره. هل آنَ له أن يثوب إلى 
رقن ماك 

- مبّى عدت إلى العوامة؟ 

فرفعت ساقها حي مستوى المقعد. وراحت تتامل 
شبشبها البمبئ ذا الوردة البيضاء وأصابعها المخضبة 
بالحناء. ثم قالت: 

- هلا جلست أوَلا وخلعت طربوشك لأرى مفرق 
شعر رأسك؟ عدت يا سيدي مم الضحى . . . 

كذّاءة ! 

الطلقت من فيه كالرصاص مفعمة غضيا وياساء 
ثم استطرد قائلا في عنف قبل أن تفتح فاها: 

- كذابة» لم تعودي مع الضحى ولا مع العصر. 
لقد جئت إلى هنا أثناء النبار مرّتين فلم أجدك. . . 

وجمت قليلا ثم قالت بلهجة جمعت بين التسليم 
والفسجر: 

- الحقٌ أني عدت قبيل المغرب,. منذ ساعة تقريباء 
لم يكن ثمّة ما يدعوني إلى اختلاق الكذب لولا أني 
لمحت في عينيك استياء لا أساس له فأردت أن أزيله. 
الحقّ أنْ ياسمينة لحت عل في الصباح كي أتسوّق 
معها. ولا علمت بانفصالي عن خالتي عرضت عب 
أن أنضم إلى تختها على أن تنيبني عنها في بعحض 
الأفراح. وطبعا ل أوافق. لسابق علمي بأنك لن 
ترضى عن سهري مع التخت, المقصود أني بقيث معها 
لعلمي بنك لن تجيء إلى هنا قبل التاسعة مساء. هذه 
هي الحكاية فاجلس وصلّ على اللبيّ. . . 

حكاية ممتلقة أم صادقة؟ لو يطلع أصحابك على 
موقفك هذا؟ لشدٌّ ما عبرأ بك المقادير» على أي أعفو 
على أضعاف هذا في سبيل قطرة من الراحة» تشحذ 
الراحة وما اعتدت الشحاذة من قبل» هكذا هانت 
عليك نفسك أمام العوادة» كانت موكلة يومًا بخدمتك 
تقدّم لك في مجلس الأآنس الفاكهة وتنصرف في صمت 
وأدبء إِمّا الراحة أو فلتستعر نيران الجحيم . 

- ياسميئة العالمة ليست في جبال الواق. سوفف 
أسألها عن -حقيقة اللحكاية. . 


قالت وهي تلوّح بيدها في استهانة واستياء : 

- سَلْها كيفا بدا لك ., . , 

وغلبته أعصابه الثائرة المنبكة فجأة. فقال بعناد: 

د سوف أسأها هذا المساءء إتي ذاهب إليهاء 
الآن. . . حقّقت لك كل رغباتك فينبغى أن تحترهى 
حقوقي كاملة. . . ْ ٠‏ 

وانتقلت إليها عدوى هياجه. فقالت بحدة: 

- مهلاء لا ترميني في وجهي بالتهم» فقد اسع لك 
حلمي حيّى الآنء ولكن لكل شيء حتء أنا إنسانة 
من لحم ودمء فنّح عينك وصلّ على أبي فاطمة!. . . 

تساءل في ذهول: 

أبذه اللهجة تخاطبينني؟! 

نعم ما دمت تخاطبني بمثلها! 

اشتدّث قبضة يده على مقبض عصاه وهو يبتفف: 

أنا أستاهل» فأنا الذي حلقت منك سيّدة وهيّات 
لك حياة نحسدك عليها زبيدة نمسها! , , . 

واستفرّها قوله فبدت كاللبؤة الهائجة: وصاحت: 

خلقبي الله سيّدة لا أنتء» لقد ارتضيت هذه 
الياة بعد توسّلاتك الحارة.» فهل نسيت هذا؟! لست 
أسيرة أو عبدة لك, تحقيق ومحضرء ماذا تظنْ بي؟ هل 
اشتريتني يمالك؟ إذا كانت حياق لا تعجبك فليذهب 
كل هذا إل كال بسبيلة :..:: 

يا ربٌ السياوات أهكذا تستحيل الأظافر المدللة إلى 
نخالب؟ إن كنت في شك من الليلة البارحة فاستخير 
هذه اللهجة الوقحة.» جنس غرود ابتليت به فتجرع 
الألى حي الثالة. انبل من الإهانة حيّى تكتفيء والآن 
ما جوابك! بأعلى صوتك أصرخ في وجهها: اخرجي 
إلى الطريق الذي التقطتك منه. اصرخء أجل 
اصرخء اذا يمنعك؟! لعنة الله على ما يمنعك». خيانة 
القلب شر من ألف خيانة» هذا هو ذل القلوب الذي 
كنت تسمع عله وتهزأ منهء شد ما أكره نفسي إذ 

- تطردينني؟ !| 

بنفس النبرات المحتدّة الغاضبة : 

إذا كان معنى هذه الحياة أن تحبسبى هنا كالرقيق 


قصر الشوق /ا"/ 


أذ ترميني بالتهم كلا حلا لكه فمن لخي لي ولك 
أن تنتهي . . . 

وأدارت عنه وجهها فتامّل عارضها وصفحة عنقها 
في هدوء غير طبيعيٌ بالذهول أشبه. أقصى ما أسأل 
الله من سعادة أن أنبذها دون مبالاة» هي ذلك 
يشتفك: ولك تطيق أن عغود إل هذا المكآن قلا مد 
لها من أثر؟ ! 

- لم أكن شديد الثقة في نبلك. ولكبّي لم أتصوّر أن 
يذهب يك اللححود هذا المذهب! 

- تريدى حجرًا لا شعور له ولا كرامة! 

أنت أحقر من هذا لو تعلمين! . . . 

- بل أريدك شخصًا يعرف للجميل حقه وللعشرة 
مغبّرة للهجتها من الغضب إلى السخط والتشكي : 

فعلت لك أكثر مما تتصوّرء ارتضيت أن أهجر 
أهلٍ وعم لأبقى حيث تريد» حتّى الشكوى كتمتها 
كي لا أكدّر صفوك فلم أشأ أن أصارحك بِأنْ «بعضص 
الناس» يودٌ لي حياة خير من هذه فلم ألتي إليهم بالا! 

أثمّة متاعب أخرى لم تقع لي في حسبان؟ تساءل 
كالتريح : 

هاذا تعنين؟ 

فعكفيت غل 'أسورة ذهَية تذيرها تخول ساغيدها 
الأيسرء وهي تقول : 

رجل محترم بريد أن يتروجني ويلح في ذلك بلا 
ملل. . 

الحرارة والرطوبة يمخنقانك عنقا أمَا «العكنئة) فقد 
فغرت فاها لتبتلعك, ما أسعد هذا الملاح الذي يطوي 
شراعه أمام النافذة! . 

من هو؟ 

رجل لا تعرقه. فسمّه كيف شئت! 

تراجع خطوة» ثم جلس على كنبة تتوسط مقعد 
كبيرين» وشبك راحتيه فوق مقبض عصاه وهو يساها: 

- متى رآك؟ وكيف علمت برغبته؟ 

كان يراني كثيرًا حينا كنت أقيم مع خالتي» وفي 
الأيام الأخيرة كان يحاول مكالمتي كلما صادفني في 


قصر الشوق 


طريقه؛ ولكيِي تجاهلته فحرّض إحدى صديقاتي على 
إبلاغي رغبته» هذه هي الحكاية! 

ما أكثر حكايانك. عندما افتقدتك أمس قاتلني ألم 
واحدء لم أفطن وقتذاك إلى كلّ هذه الآلام والمتاعب» 
اتركها إن استطعت. اهجرها فهجرها هو سبيل 
السلام. أليس الناس ممطئين في تصوّرهم أن الموت 
ها يكلون؟! 

أحبٌ أن أعرف صراحة؛ هل توذين قبول هذا 
العرض؟ 

تركت ساعدها بحركة عصبية وشخصت إليه 
بوجهها في) يشبه الكبرياء» ثم قالت بتوكيد : 

- قلت لك إني تجاهلته. يجب أن تفهم معنى ما 
الول 
يجب ألا تعود الليلة إلى فراشك بأفكار قاتلة حي لا 
تتكرر ليلة أمس» غربل نفسك من المهواجس . 

- صارحينى هل زارك أحد في العوامة؟ 

دااعذ؟1 ان احن هو 1 يدككل مله القزافة اعد 
بر اللاو 
- زنُوبة» إن أستطيع أن أعرف كل شيى لا تخفي 
عني ا صارحيني بكل كبيرة وصغيرة ولك عندي 
بعد ذلك العفو مهما يكن من أمرك , . . 

قالت محتجة غاضية : 

- إذا أصررت عل الشكٌ في صدقي فخير لنا أن 
أتذكر الذبابة التي رأيتها تحتضر في صباح اليوم في 
خيط العنكبوت؟ ! 

حسبناء دعيني أسالك الآن. هل قابلك هذا 
الرجل أمس؟ ! 

د أخخيرتك: أين كنت أمش + .... 

نافخًا على رغمه: 

- لماذا تعذّبينني» وما حرصت على شبيء حرصي على 
سعادتك؟ 

ضربت كفا بكفّ. كأنًا قد كبر عليها شك ثم 
قالت: 

- لم لا تريد أن تفهمني؟. . . إن أرفض كلّ غال, 


بسيلك! 

ما أجمل هذه اللغمةء المأساة أنها يمكن أن تصدر 
عن قلب فارغ, كالمغني الذي يذوب في نغمة حزينة 
شاكية وقلبه ثمل بالسعادة والفوز. 

- إن أشهد الله على قولك. صارحيني الآن: من 
يكون هذا الرجل؟ 

ماذا يمك منه؟ قلت لك إِنْك لا تعرفه. تاجر 
من غير حيّنا ولكنّه كان يجلس من حين لآخر في قهرة 

اسمه؟ 

عبد التؤاب ياسين. هل عرفته؟ . . . 

اكتريت هذه العوامة لقضاء وقت سعيد. هل تذكر 
أوقاتك السعيدة؟! أيّتها الدنيا هل تذكرين أحمد عبد 
الحسواد الذق ل بيكق بال 'شينا؟ زد 
جليلة... ببيجة... سليهنٌ عنه» إِنّه بلا ريب غير 
هذا الرجل الخحائر الذي اشتعل الشيب في فوديه. . 

- إن شيطان النكد هو أنشط الشياطين. . , 

- بل هو شيطان الشكٌ لأنّه يخلق من لا شيء. . 

جعل ينقر الأرض بطرف عصاه. ثم قال بصوت 
عميق : 

- لا أريد أن أعيش أعمى. كل ولا شيء بقادر 
على أن يجعلني أتباون في رجولتي وكرامبي. بالاخختصار 
لا أستطيع أن أهضم مبيتك في الخارج ليلة أمس. . 

- رجعنا مرة أخرى! 

- وثالثة ورابعة» لست طفلة. أنث امرأة ناضجة 
عاقلة» واليوم تحدّثينني عن ذلك الرجل! هل غرّك 
خا وغله بالزواج منه ؟ 

أجابت بكرياء قائلة : 

- إن أعلم أنه لا يخدعني. وآي ذلك أنه وعدني 
بألا يقرببي حي يعقد زواجه مئى. . . 

- أترغبين في هذا الزواج؟ 

قطبت في استياءء ثم قالت بلهجة المتعجّب: 

- ألم تسمع ما قلت؟! إني أعجب لا تبدي اليوم 
من كسل. لكن على أ حال لست الساعة كالعهد 
بكء أفِقٌ من الكدر الذي جلبته على نفسك بلا سبب 


واسمع مثي للمرّة الأخيرة: لقد تجاهلت الرجل ورغبته 
إكراما لك . . . 

رغب أن يعرف سنّه ولكنه لم يدر كيف يصوغ 
السؤال. الشباب والكهولة أمور لم تر له في حساب 
من قبل» قال بعد تردّد: 

- لعلّه من الأغرار الذين يلقون القول بلا تردّد! 

والنس فلكو اله القلاتان ان حتيرةا' 

أي أنه يتآخّر عنه بربع قرنء والتأخّر مكروه إلا في 
العمرء أمَا الغيرة فتقتلنا بلا حياء. 

وعادت هى تقول: 

تجاهلجه 9 أنْه وعدني بالحياة التي أتمئاها! 

يانخ القدعة! نات زيسدة أن تعلم »يتيك 
الكثير! . . 

حقًا؟ . . 

دعنى أصارحك بأن لم أعد أطيق هذه الحياة. . 

اذكر مرّة أخخرى الذبابة والعنكبوت. . 

كد 

- أجلء أريد حياة مطمئئة في ظل الحلال» أم 
تراني محطئة؟ 

جئت للتحقيق معها فأين تقف الآن؟ هي التي 
طردتك فمن أين لك هذا الحلم كلّه؟ اخمجل من 
نفسك ما بقي لك من أيَام. أتفهم ما تعني إيماءاتها؟ 
ما أجمل الأمواج المتلاطمة في ساعة المغيب! ولا طال 
به الصمت استطردت قائلة مهدوء : 

- لن يغضبك هُذاء أنت رجل تقئّ رغم كل 
شىءء فلا يمكن أن تحول بين امرأة وبين الخلال الذي 
رم لا أودٌ أن أكون بردعة لكل راكب. لست 
كخالتي» لي قلب مؤمن وأخاف الله وقد صدق عزمي 
على هجر الحرام. . . 

استمع إلى قوها الأخير بدهشة وانزعاج» وجعل 
يتفخصها بحنق داراه بابتسامة باهتة, ثم قال: 

- م تحدّثيني عن هذا من قبل كنا حثّى أؤل أمس 
على خخير حال! 

- لم أكن أدري كيف أكاشفك با في نفسي. . . 

إنها تبتعد عنك بسرعة مخيفة خبيثة. يا خيبة 


قصر الشوق و 


الأمل. إني مستعدٌ أن أنسى ليلة أمس المشثومة. . 
أنسى شكي وألمي. . . على أن تقلع عن هذا المكر 
- كنا نعيش في سعادة ووثئام. فهل هانت عليك 
العشرة؟ !| 
- لم من ولكيّى أريد أن أجعل منها شيئًا أفضل, 
أليس الحلال خخيرًا من الحرام؟ ! 
تقلصت شفته السفل محدثة ابتسامة لا معنى ماء 
ثم قال بصوت خحافت: 
- الأمر بالنسبة لي مختلف جدًا. . . 
- كيف؟ !| 
انا زوجء وابني زوجء وبناني أزواج. الأمر دقيق 
جدًا كما ترين. .. (ثمّ بلهفة) ألم نكن نعيش في سعادة 
كاملة؟ ! 
قالت بضجر: 
- لم أقل لك طلق زوجتك وتبًا من ذرّيّك! 
كثيرون هم الذين يجمعون بين أكثر من زوجة! 
فقال بإشفاق : 
ليس الزواج في مثل. . . حالي تما يبون أمره؛ أو 
يعرض في حياة الإنسان بلا قيل وقال! . 
ضحكت ساخرةء ثم قالت: 
- كل الئاس يعلمون أنّك عشيق وأنت لا تبالي 
هم فكيف تشفق من قيلهم وقالهم على زواج مشروع 
إن أردت الزواج. . . ؟! 
قال باسما في ارتباك وضيق ؛ 
- قليل من الناس من يظلع على أسراري؛ إلى أن 
أهل بيتي هم أبعد الناس عن الشك في أمري. . . 
رفعت حاجبيها المرْججين في إنكار» ثم قالت: 
هذا ظنّك» أمّا الحقيقة فلا يعلمها إِلّا الل أي 
سر يصان ووراءه ألسنة الناس؟ ! 
ثم استدركت غاضبة قبل أن يتكلم : 
- أم لعلّك لا تراني أهلا للتشئف بالانتساب 
إليك؟ ! 
أستغفر الله. زوج زنوبة العؤادة على سن ورمح | 
ما قصدت هذا يا زنوية. . 


قصر الشوق 


فقالت باستياء : 
لن تخفي عبّى مشاعرك طويلاء» سأعرفها غدًا إن 
لم أعرفها اليوم. فإن كان زواجي يعرك فمسع 
السلامة. . 
نبي ء لتطردها فتطردك. ' تعد تساطا أين كالت 
ولكنبا تخبّرك بين الزواج أو الذهاب؛ ماذا أنت 
صانع؟ ماذا يبقيك بلا حراك؟ إِنّه القلب اللخائن» إِنْ 
نزع عظامك من لحمك أهون من هجر هله العوادة, 
أليس من المحزن آلا تبتلي بِبْذا الحبٌ الأعمى إلا على 
كبر! ؟ 
تساءل في عتاب : 
أهذا هو قدري عندك؟ 
لا قدر عندي لمن يأنف مثئي كأني بصقة معدية! 
قال بهدوء حزين: 
كلام سمعنا مله الكثير. . . 
ولْكنه صدق وحى., , ., 
آن لي أن أعرف هذا من غير اللسان! 
غض بصره في كرب ويأس. لم يكن يدري كيف 
يقبل ولم يكن بوسعه أن يرفض؛ وكان حرصه عليها 
من وراء ذلك يغله ويشدّت فكرهء قال بصوت 
خحفيض : 
أعطني مهلة كي أدير أمري . . . 
فقالت مبدوء وهي تخفي ابتسامة ماكرة : 
- لو كنت مُحبّبى حمًا ما تردّدت. . 
فقال مل 
الجنين. بهد اء أعني أموري الأخرى. . . 
وحرّك يده كأئما يفسّر بها قوله وإن كان لا يدري 
على وجه التحديد ما تعنى فابتسمت قائلة : 
إذا كان الأمر كذلك فأنا رهن انتظارك . . . 
فشعر براحة وقتيّة, كالراحة التى يجدها الملاكم 
الموشك على السقوط إذا أدركه الجرس المؤذن بانتهاء 
الجولة غير الأخيرةء وانبعشت في نفسه رغبة إلى الترويح 
عن همه والتنفيس عن قلقه: فقال لما وهو يمل نحوها 
يله : 


لجان لاي 
فتراجعت في مقعدها إلى الوراء بإصرار وهي 


تقول : 


عندما يأذن الله . . . 


15ب 

غادر العوامة يشقٌّ سبيله في ظلام وسار وشاطئ 
النيل في طريق مقفر متجهًا إلى جسر الزمالك. كان 
اطواء يبفو لطيفًا فلفخ رأسه الملتهب. وبعث في 
أغصان الأشجار اطائلة المتشابكة حركة وانية نل عنها 
هسيس كالهمس» وكانت تبدو في الظلام كالكثبان أو 
السحب الجونء كلما رفع رأسه وجدها مطبقة عليه 
كاهمٌ الحائم على صدرهء وهذه الأضواء المنبعثة من 
نوافذ العؤامات هل تنبعث من بيوت خلت من الهم؟ 
ولكن ليس كهمّك همْ. ليس من بموت كمن ينتحر. 
وأنت بلا جدال قد وافقت على الانتحار. واصل 
السير لم يكن أحبٌ إليه وقتذاك من المثشي ليريسح 
أعصابه ويستعيد أفكاره قبل أن يمضي إلى الإخوان» 
وهنالك يخلو إليهم ويكاشفهم بكل شيء» لن يقدم 
على هذه الخطوة حي يشاورهم وإن حمْن سلفًا ما 
سيقولون؛ ولكنّه سيعترف أمامهم مهما كلفه الأمرء 
وإنّه ليجد إلى مكاشفتهم رغبة دافعة كأها استغاثة 
غريق يتخطفه الموج العاق. لم يغب عله أله يَعَذّ في 
حكم الموافق على الزواج من زنوبة» ولم ينكر شعوره 
الذليل بالرغبة فيها والحرص عليها ولكنه لم يتصوّر 
كيف يمكن أن يتحقّق هذا في صورة زواج رسمي ولا 
كيف يزفٌ البشرى إلى الأهل والأبناء والناس حميعا. 
ومع أنه كان يريد أن يطيل المشى ما وسعه ذلك إلا أنه 
اندفع يسير بسرعة وفي خطوات واسعة وعصاه تضرب 
الأرض التربة كاًا يتعجّل الذهاب إلى هدف ولا 
هدف له. تأبت عليه وصدّته. هل تغيب عن تجربته 
وحنكته هذه الأساليب؟... ولكنٌ الضعيف يقع في 
الشرك وهو يدري. ومع أنه استجدٌ بالمشي والهواء 
النقي بعض الراحة إِلَا أنّه لم يزل مشتّت الفكر مشْعّث 
الوجدان, ولم تزل الأفكار تطرق رأسه بغير انتظام 


حيّى لم يعد يحتمل حاله فخيّل إليه أنه سيجنٌّ إن لم 
يمسم الأمر بحل ولو يكن الضلال نفسه. 

في هذا الظلام يستطيع أن يخاطب نفسه بلا تردّد أو 
حياءء تحجبه الأغصان المتلاحمة عن الساء. وتواري 
خواطره الحقول المثرامية إلى يميلهء وستلع مشاعره ماء 
النيل الجاري إلى يساره» ولكن حذار من النورء حدذار 
أن تكتنفه هالة منه فينطلق كعربة السيرك داعيًا وراءه 
الغليان وهواة العجائب. أمًا سمته وجلاله وكرامته 
فسلام الله عليهاء كان ول يزل ذا شخصيتين» يعيش 
بواحدة بين الإخوان والأحباب., ويطالع بالأخمرى 
الأهل وسائر الناس. وهذه الأخيرة التى تمسك عليه 
جلاله ووقاره وتقرر له منزلة لاا يطمع إليها أحدء وهي 
هي التي تتآمر نزواته عليها وبهددها بالفناء الأبدي . 
وتراءى له الحسر يمصابيحه الوهاجة فتساءل إلى 
أين؟... بيد أنه رغب في مزيد من الوحدة والظلام 
فمرٌ أمام الحسر إلى طريق الجيزة. ياسين! ذكره 
برظالف» «عميناك ترق اسيل لم؟ سيكون أوّْل من 
يفهمك ويتسامح معك أم تراه يشمت بك ويتندر؟ 
طالما زجرته وأدّبته ولكنْ قدمه لم تنزلق بعد إلى مثل 
هاويتك؟ كيال؟ يجب أن تلقاه منذ الساعة بقناع غليظ 
أن يطلع على الذنب في اساريرك. خمديجة وعائشة؟ 
سينكس منها الجبين في بيت آل شوكتء» زثوبة امرأة 
أبيك» زفاف يصفق له أهل المجون. في صدرك 
غوايات فانحتر مسرحًا غير دنياك لماء هل ثمّة مملكة 
ظلام بعيدًا عن متناول البشر كي تمارس رذائلك في 
سلام؟! غدًا فلتنظر إلى نسيج العنكبوت لترى ماذا 
تبقّى من الذبابة؟ استمع إلى نقيق الضفادع وزفرات 
الصراصير. ما أسعد هذه الحشرات. كن حشرة 
لتسعد بلا حسابء» أمًا فوق سطح الأرض فلن 
يسعك إلا أن تكون «السيّده أحمدء مُرٌ الليلة بامل 
بيتك حميعًا... زوجك... كيال... ياسين. . 
حديجة... عائشة... ثم كاشفهم بنيتك إن 
استطعت» وإن استطعت فاعقد زواجك بعد ذلك . 

هنيّة! أتذكر كيف نبذتها على حبّها؟ لم تحب امرأة 
كها أحببتهاء ولكن يبدو . واأسفاه ‏ أنّْنا نخسر العقول 


قصر الشوق /4١‏ 


في كهولتنا! لتشرب هذه الليلة حيّى يرفعوك على 
الأعناق. ما أحنئه إلى الشرابء كأنّك لم تشرب منذ 
عام الفيل» إِنْ الآلام التى تجرّعتها في عامك هذا 
خليقة بأن تمحو حسنات السعادة التى تمتَعت بها العمر 

ضرب بعصاه الأرض» ثم توقف عن السيرء ضاق 
بالظلام والسكون والطريق الحاشد والأشجار وفزع 
قلبه إلى الإخوان. ليس هو بالذي يستطيع أن يخلو إلى 
نفسه طويلاء فا هو إِلّا عضو في جماعة وجزء من كل 
وهئالك تل المشكلات كما اعتادت أن تحلٌ. واستدار 
لبرجع إلى الجسرء وعند ذاك انتفض جسمه غضبًا 
وتقرّزاء فقال بصوت غريب تمرّقه الشكوى والألم 
والحنق : «ليلة كاملة تبيتها في الخارج. . . في مكان 
مجهول. . . ثم توافق على الزواج منها!» وطئه إحساس 
ثقيل بازدراء النفس عصر جلعه وعصر قلبه. 
.. يا للسخرية! بل أمضت ليلتها في 
حضن الرجل الذي لم يزايلها حّ وافاهما عصر اليوم 
التالى» لبثت عنده وهي عالة ممواعيد حضوره فاذا 
يعني هُذا؟! ليس إلا الغرام أنساها الوقت. يا جحيم 
الآخحرة! أو أنك هنت للحدٌ الذي لا تبالي عنده 
بغضبك» كيف حاورتها مسترضيًا بعد ذلك أيّها 
المسحور؟ وكيف تمضي حاملا وعد الزواج بها يا عار 
الدنيا والآحرة. كأنك لم تشعر بالقرن الذي ارتضيته 
من شدّة ضغط الهم على رأسك؛ قرن تكلّل به هامة 
أسرة لتخزي به جيلًا بعد جيل» ما عسى أن يقول 
الناس عن هذا القرن فوق الجحبين الأغرٌ؟! إِنَّ الغعضب 
والمقت والدم والدموع لا تكفي للتكفير عن 
استسلامك وضعفك؛ لشدّ ما تضحك منك الآن 
وهي مستلقية على ظهرها في العرّامة» ولعلها لم تغتسل 
بعد من عرق رجلها الذي سيضحك منك بدوره؛ لا 
ينبغي أن يطلع الغد وفم يضحك منكء. اعترف 
بِحْوّرك واعرضه على مائذة الإخوان لتسمسع 
قهقهاتهم... اعذروه كبر وأخحرّف... اعذروه فقد 
جرب كل شيء إل متعة القرون! زبيدة: أبيت أن 
تكون سيِّدًا في بيتي وارتضيت أن تكون قَوَادًا في بيت 


ياسميلة ! ؟. 


قصصبر الشوق 


عوادتي» جليلة: لست أخي ولا حبّى أختي! إني أشهد 
هذا الطريق الرهيب وهذا الظلام الكثيف وهذه 
الأشجار الهرمة على هرولتي في الظلام باكيًا كالطفل 
الغرير» لا بت ليلتي حب أردٌ الإهانة إلى الطاغية! 
وتمعت عليك! ل؟ لأمْها ضاقت بالحرام! الحرام الذي 
لم تغتسل منه؛ قل إِنّْها لم تعد تطيقك وكفى » ما أفظع 
الألم. ولكنّه حقّ عل وعبادة» كمن ينطح المبدار حت 
ببشم رأسه تكفيًا عن ذنب؛ الشيخ متولي عبد 
الصمد يظنٌ أنه يعرف أمورًا كثيرة, ألا ما أجهله! مَر 
بجسر الزمالك مرّة أخرى إلى طريق أمبابة» وجعل 
يحثٌ خطاه بعزم وعناد مصمًّا على غسل ما لططخه من 
خزي» وكلّما ألحّ عليه الآلم جد في السير ضاربًا بعصاه 
الأرض كأئما يسبر على ثلاث . 

وبدت له العوّامة يلوح من نافذتها الضوء فاشتدٌ 
هياجه بيد أنّْه كان قد استعاد ثقته بنفسه وشعوره 
برجولته وكرامته واطمأنْ خاطره بعد أن استقرٌ على 
رأي» وانحدر على السلّم فمرٌ فوق الجسر الخشبي ثم 
طرق الباب بعصاه. وكرّر ذلك يعئف. حيّى جاءه 
الصوت متسائلا في انرعاج : 

دهن الطا 3 ! 

فأجاب بقوة : 

أنا, , 

الفتح الباب عن وجهها المتعجب» فأفسحت له 
وهي تغمغم «خيرًاة» فمرق إلى حجرة الجلوس حت 
توسّطها ثم استدار ووقف ينظر إليها وهي تقترب منه 
متسائلة حىٌى وقفت حياله وراحثت تتفحخحص وجهه 
المتجهم بقلق. قالت: 

خير إن شاء الله!! ما عاد بك؟! 

فقال مبدوء مريب: 

خير والحمد لله كيا ستعلمين. . . 

جولف تعرنا لفيا "خون: أن تكلم فاستطرد 
قائلا : 

جثت لأخبرك بألا تتعلّقي بما قلت فإِنّ الأمر 
كله لم يكن إلا دعابة سخيفة . 

هبط جذعها هبوط الخيبة ونطق وجهها بالإنكار 


والحنق. ثم هتفت : 

- دعابة سخيفة! كيف لا تفرق بين دعابة سخيفة 
وبين كلمة شرف ارتبطت ما؟ 

قال ووجهه يزداد اكفهرازا : 

يمسن بك وأنت تخاطبينني أن تلتزمي حد الأدب 
الواجب» فَإِنْ نساء من طبقتك يرتزقن في بيتي 
خادمات , . 

صاحت وهى تحملق في وجهه: 

- هل رجعت لتسمعني هذا الكلام؟ لم لم تقله من 
قبل؟ لم وعدتئي واستعطفتني وتودّدت إِلِيّ؟ أتحسب أن 
هذا الكلام يخينني؟ لى يعد بي متسّع للدعابات 
السحخيفة . 

لوح لها بيده غاضبًا فأسكتهاء ثم هتفف: 

جئت كي أقول لك إِنْ الزواج من واحدة مثلك 
خزي لا يليق بكرامتي» وإنّه لا يصلح أكثر من أن 
يكون دعابة يتندّر بها هواة الدعابات المخجلة, وإنّه ما 
دامت أمثال هذه الأفكار تدور برأسك فأنت لم تعودي 
أهلا لمعاشرتي. إذ لا يصِمّ أن أعاشر المجانين. . . 

كانت تصغي إليه وشرر الغضب يتطاير من 
حدقتيهاء بيد أنها لم تستسلم لتيّار الغضب كا تمنى. 
ولحل مر لضي ينه اق حنارياها برلا برقتوية 
للعواقب. فقالت بلهجة أخحف من السابقة : 

- لن أتزوجك بالقوة.» لقد كاشفتك بما لمجول 
بخاطري تاركة لك الخيار. الآن تريد أن تتحلّل من 
وعدكء لك ما تشاءء ولا داعي لسبي وإهانتي» 
ليذهب كل من إلى حال سبيله في سلام. . . 

أهذا قصارى جهدها في الحرص عليك؟! الم تكن 
توق" اعد مجالة لومم اق سول الظلاكتاقدي ايت 
فيك الأظافر؟ استمدٌ من ألمك غضبا: 

سيذهب كل منا إلى حال سبيله؛ غير أن أردت 
أن أصارحك برأبي فيك قبل أن أذهب. لا أنكر أني 
سعيت إليك بنفسي. ربا لأنَّ النفس تولع أحيانا 
بالقاذورات» فهجرت من كنت تسعدين بخدمتهن كي 
أرفعك إلى هذه الحياق. لذلك لا أدهش لأني لم أحظ 
عندك بما حظيت به عندهنٌ من الحبٌ والتقديرء ذلك 


أن القذر لا يقدّر إلا من كان على شاكلته» وقد آنَّ لي 
أن أربأ بنفسي عنكء. وأن أعود إلى حظيرق 
الأول 

بدا في وجهها القهرء قهر من يحجزه النوف عن 
التنفيس عن صدره المستعر» وتمتمت بصوت مرتعش 
النبرات : 

مع السلامة. اذهب ودعني في سلام . . . 

قال بحنق وهو يكظم آلامه: 

- لقد نزلت فهنتث. . . 

هنا أفلت الزمام.: فصاحت به: 

حسبك. كفاية؛ ارحم الحشرة القذرة واحذرهاء 
اذكر كيف كنت تقبّل يدها والخشوع في عينيك». نزلت 
فهنت؟. .. الحقٌ أنك كيرتء. قبلتك على 
كير وها أنا أتلقى الحزاء. . 

لوح بعصاه وهو يصيح بغضب: 

- اخرمسى يا بلت الكلب. اخرسى يا دون؛ لمى 
ثيابك وغادري العؤّامة, ...000 ٌْ 

فصاحت بدورها وهي ترفع رأسها في تشنج : 

افا "انتيلك ها انرنج علنة أخرس اذ غلك 
العوؤامة والنيل والطريق صوانًا حي تحضر اللحكمدارية 
كلبا اسم أو ٠.‏ لبيك لكذة «وتائفة ع انا ترم 
والأجر على الله اذهب أنتء. هذه العوامية عوامتي 
وعقد إيجارها باسمي, فاذهب بالسلامة قبل أن تذهب 

لبث قليلًا كالمتردّد ينظر إليها باحتقار وازدرا 
ولكنه عدل عن مغامرة قاسية تفاديًا من الفضيحة, ثم 
بصق على الأرض ومفى إلى الخارج في خطوات 


واسعة ثابتة. . 


. ههءزا, 


0 
ذهب من توه إلى الإخوان» فوجد محمّد عفت وعل 
مد ارس :راح اللاو لتر را 
كان وتيت نح طافقةا) وف يداف كن نابو يداك كان 
ثم مضى في المزيع الأخير من الليل إلى بيته فنام نوما 
عميقًا. واستقبل مع الصباح يومًا هادئا. خلا في أوّله 


قصر الشوق "4 /! 


من الفكرء وكان كلما نزع به الخيال إلى منظر من 
مناظر حياته القريبة أو الماضية صِدّه بعزم. اللَّهِمْ إلا 
منظرًا واحدًا رحب باستعادته عن طيب خاطرء ذلك 
هو المنظر الأخير الذي سججل انتصاره على المرأة وعلى 
نفسه معّاء وراح يؤكّد الأمر لنفسه فيقول: «انتهى كل 
شيء والحمد لله ولأكوننٌ شديد الحذر فيما يقبل من أيام 
حياتي؟. 

بدا اليوم هادثًا في مطلعه. فاستطاع أن يفكر في 
فوزه المبين وأن يبن نفسه عليه» ولكن انقلب اليوم 
بعد ذلك خاملا بل خامدّاء فلم يجد من تفسير للك 
إلا أنه رد الفعل للجهد العصبئ المضني الذي بذله في 
اليومين الماضيين» بل في الأشهر الماضية على تفاوت في 
الدرجة. إذ الحقٌ أن معاشرته لزئُوبة بدت لعينيه في 
تلك اللحظة مأساة خاسرة من أوَها لآخرها. لم يكن 
من اين عليه أن يسلّم بأوّل هزيمة تلحقه في حياته 
الغراميّة الطويلة. كان لذلك رجع شديد الأثر في قلبه 
وخياله. وكان يثور كلما همس له عقله بأنّ الشباب قد 
ول معترًا بقوّته وجماله وحيويّته. ثم يصب على ذُلك 
التعليل الذي جاهر به المرأة أمس وهو أنها لم تحبّه لأنّ 
القذر لا يقدّر إلا القذرا لشدّ ما تشوّق طوال يومه إلى 
مجلس الإخوان؛ فلا دنا موعده نفد صبره فمضى 
متعجّلا إلى بيت محمّد عفّت بالجاليّة» فاجتمع به قبل 
أن يتوافد الاخوان. وسرعان ما قال له : 

ع التيفتت ا 

فتساءل محمد عفث: 

- زنُوبة؟ ! 

فأومأ بالايجاب. فتساءل الآخر باسمًا: 

- مبذه السرعة؟ 

ضحك كالساخرء ثم قال: 

هل تصذقني إذا قلت إِنْها طالبتني بالزواج حي 
ضقت بها؟! 

فضحك كالساخر. ثم قال: 

- زبيدة نفسها لم تفكر في ذُلك! يا للعجب! لكنها 
معذورةع فقد وجدتك تدلّلها أكثر مما تحلم به فطمعت 
فى المزيد. . . 


4 قصر الشوق 


فغمغم السيّد أحمد قائلا باستهانة : 

و 

فضحك محمّد عفت مرّة أخرى» وقال: 

ددلعليا عالكت فى حباك؟! 

يا لها من طعنة! اضحك بقدر ما تجد من ألم... 

- قلت إِنْها مجنونة وكفى . . . 

وماذا فعلتَ؟ 

صارحتها بأنني ذاهب إلى غير رجعة. 
وذهبك. . . 

- كيف تلقّت ذُلك؟ 

لخاد مر وهددت أخرى» وقالت في داهية 
الئة» ثم تركتها كالمجئونةء كانت غلطة من بادئ 
الأمر. 

قال غُممّد عفْت وهو برّ رأسه مقتنعًا: 

نعم ما منّا إلا من ضاجعهاء ولكنٌ أحدًا م 
يفكر حي في مجرد معاشرتا. . . 

تصول وتجول في ميادين الأسود ثم زم أمام فأرة. 
أخف عارك حي عن أقرب المقرّبين واحمد الله على أن 
كل شيء قد النتهى . . . 

لكنْ شينًا في الواقع لم ينته. لم تبرح غيّلته» وصحّ 
لديه فيها تلا ذلك من أيّام أنْ تفكيره فيها لم يكن عُرّدًا 
ولكنّه اقترن بألم عميق تزايد وتفتّى» وصمٌ لديه أيضًا 
أن ذلك الألم لم يكن غضبًا لكرامته فحسب ولكن كان 
ألم الحسرة والحنين» وأنّه في| بدا عاطفة طاغية لا تقتنع 
بأقلّ من تدمير من يعانيها. بيد أنه كان شديد الاعتزاز 
بما سبل ساعة انتصارهء فميٌ نفسه بقهر مشاعره 
المستبدة الخائنة في مهلة تطول أو تقصر كيف اتفق. 
ومهما يكن من أمر فقد غادره السلام فأمضى وقئه 
من دا أجرانة هعد نا لان وذكراكةي .ركان 
يبلغ به الضعف أحيانًا أن يفكر في مصارحة محمد 
عفّت بما ينوء به من آلام. بل تمادى به الخاطر مرّة إلى 
حدٌ الاستعانة بزبيدة نفسهاء ولكّها كانت فترات 
ضعف كنوبات الحمى ثم يفيق إلى نفسه وهو يبز رأسه 

وقد صبغت أزمته سلوكه العام بلون من القسوة 


قاومه ما استطاع بحلمه وكياسته, فلم يفلت منه 
الزمام إِلّا قليلاء وَهُذا القليل لم يلحظه إِلّا الأصدقاء 
والمعارف الذين ألفوا منه الدمائة والتسامح والرقّة؛ أما 
أهل بيته فلم يفطنوا إلى شبيء, لأنّْ سلوكه حيالهم بقي 
هو هولم يكد يتغيّر إذ أنْ الذي تغيّر حقًا هو العاطفة 
المستترة وراءه فاستحالت من شدّة مصطنعة إلى شِدّة 
حقيقيّة لم يدرك مداها سواه. على أنه هو نفسه لم ينج 
من اتسوئه اهلة» بن لعله كان هدفيا الأرلغ قينا مر 
به على نفسه من تقريع وما عبرها به من مهانة. وأخييرًا 
بما أخذ يمرٌ به رويدًا رويدًا من ذلَّه وتعاسته وهجران 
شبابه. ثم يعزي نفسه فيقول: لن أتحرك. لن أسيم 
نفسى مزيدًا من الذل. فلتدُرٌ بي الأفكار كل مدار.ء 
ولتقلية بن 'العراظك كز منقلب» ولأبقينٌ حيث أنا لا 
يعلم بألمي إلا الله الغفور الرحيم. لكنّه ما يدري إلا 
وهو يسائل نفسه: ترى ألا تزال في العوامة أم تركتها؟ 
وإذا كانت مباء فهل ما يزال لديها بقيّة من ماله تغنيها 
عن الناس» أم يكون الرجل قد للحق بها هنالك؟ 
تساءل كثيرًا وفي كل مرّة يلقى عذابا ينفذ من روحه 
إلى لحمه وعظمه فيهصره هصرًاء لم يكن يجد شيئًا من 
القرار إلا عند استحضاره المنظر الأخير في العوّامة 
الذي أوهمها فيه وتوهم - أنه نبذها وعلا عليهاء 
ولكنّه كان يستدعي مناظر أخرى سجّلت ذلّه وضعفه, 
ومناظر غيرها سجّلت ألوانا من السعادة لا تسبى! . 
وخلق الخيال له مناظر جديدة التقيا فيهاء فتشاجراء 
وتحاسباء وتعاتباء ثم أدركهها سلام الصلح 
والوصال. .. حلم كثيرًا ما يتراءى له في عالم الباطن 
الزاجر بما ل يحصى من ألوان الشقاء والسعادة, لم لا 
يتاكد بنفسه مما طرأ على العوّامة وسكانها؟ في الظلام 
يستطيع أن يسير هنالك دون أن يراه أحد. . . 
وذهب متسمرًا بالظلام كاللصٌء فمرٌ أمام العوّامة 
ورأى النور يوصوص من خصاص النافذة. ولكنّه لم 
يدر إن كانت هي التي تستضيء به أم ساكن جديد. 
بيد أن قلبه شعر بأنَّ النور نورها هي دون غيرهاء 
وخيّل إليه وهو يتطلّع إلى العوامة أنه يستشفٌ روح 
صاحبتهاء وأنّه ليس بينه وبين رؤيتها رؤية العين إِلَا 


أن يطرق الباب فيفتح عن وجهها كا كان يفتح في 
الأيَامِ الذاهبة. السعيد منها والتعيس على السواءء 
ولكن ما عسبى أن يفعل لو طالعه وجه الرجل؟! حمًا 
أئها قريبة ولكن ما أبعدهاء وقد حرم عليه هذا المعبر 
الل الانقي ادي هل مرّت به هذه الحالة في حلم من 
الأحلام! قالت له اذهب. قالتها من قلبها ثم مضت 
في سبيلها كأنه لم يعرض لا يومًا وكأئها لا تشعر له 
بوجود! إذا كان الإنسان ببذه القسوة فكيف يتطلّع إلى 
طلب الرحمة أو المغفرة! 

وذهب مرّات ومزات حسٌّ صار التردّد 5 العوامة 
بدد جثوم الليل عادة يمر بها قبل ذهابه إلى مجلس 
الإخوان. ولم يبدُ عليه أنه يريد أن يفعل شيئًا ذا بال, 
وكأنه كان يرضي بها حبٌ استطلاع عقيم جنونٌ. 
وكان هم بالعودة مرة إذ انفتح الباب وخرج شبح م 
يتبيّله في الظلام فدقٌ قلبه في خوف ورجاء. ثم عبر 
الطريق مسرعًا ووقف في جوار شجرة وعيناه تحملقان 
في الظلام. قطع الشبح المعبر الخشبيّ إلى الطريق ثم 
سار في اتجاه جسر الزمالك. فوضح له أنه امرأة. . . 
وحدثه قلبه بأنها هي. وتبعها عن بعد وهو لا يدري 
عل أيّ وجه تنتهي الليلة. هي أو غيرها فماذا 
يقصد؟! غير أله واصل سيره مركّرًا التباهه في شبحهاء 
ولا بلغت الجسر ودخلت في مرمى مصابيحه توكد 
إحساس قلبه وأيقن أثْها زثوبة» غير أنْها كانت ملتفة في 
الملاءة اللف التى تخلّت عن ارتدائها طوال معاشرتها 
له. عجب لذلك وتساءل عن معناه فظن ما أكثر 
ظنونه ‏ وراءه أمرًا. رآها تتجه إلى محطة ترام الحيزة 
وتنتظرء فسار محاذيا للحقول حيّى جاوز الموضع 
قبالتهاء ثم عبر إلى ناحيتها ووقف بعيدًا عن مرمى 
بصرها. وجاء الترام فاستقلته. وعند ذاك هرول إليه 
فركب جاعلًا مجلسه في ماية المقعد المطلّة على السلّم 
ليراقب النازلين» وعند كل محطة راح يتطلم إلى 
الطريق وقد زايله الإشفاق من اكتشاف أمره لأنه حيّى 
إذا وقع فقد فاتها أن تعلم أنه كان يرصدها أمام 
العوامة متجسّسًا. نزلت في العتبة النضراء فنزل 
وراءها ورآها تتجه إلى الموسكي مشيًا على الأقدام 


قصر الشوق ه45 


فتبعها على بعد مرخبا بظلمة الطريق. ترى هل 
عاودت الاتصال بخالتها؟ أم تراها ماضية إلى السيّد 
الحديد؟ ولكن ماذا دعاها إلى الذهاب إليه وعندها 
عوامة تنادي العاشقين؟! وبلغت حي الحسين 
فضاعف انتباهه أن تضيم منه في زحمة الملاءات اللفٌ. 
لم تستبن له غاية وراء هله المطاردة الخفيّة» ولكن كان 
مدفوعا برغبة في الاستطلاع أليمة وعقيمة وإن تكن في 
نفس الوقت عنيفة لا تجدي معها المقاومة. . . سارت 
أمام الجامع فاتههت إلى حارة الوطاويط حيث يقل 
المارّة ويلبد الشحًاذون المتعبون. ثم إلى الجاليّة حيّى 
مالت إلى قصر الشوق فتبعها مشفقًا من أن يلقاه 
ياسين في الطريق أو يراه من نافذة, فارتأى إن صادفه 
أن يزعم له أنه ذاهب لزيارة صديقه غنيم حميدو 
صاحب معصرة الزيوت وجار ياسين بقصر الشوق. 
وما يدري إلا وهي تنعطف إلى أوّل حارة؛ تلك الحارة 
التي لم يكن بها من بيت إلا بيت ياسين. فدقٌّ قلبه 
بقوّة وثقلت قدماه! كان يعرف سكان الدورين الأول 
والثاني» وهما أسرتان لا يمكن أن تربطهما بزنوبة رابطة! 
وزاغ بصره قلقًا واضطرابّاء غير أنه وجد نفسه يميل 
إلى العطفة غير مقدّر للعواقب» فاته نحو الباب حي 
ترامى إلى سمعه وقع الأقدام الصاعدة, ثم دخل بثر 
السلّم رافعًا رأسه منصنًا إلى وقع الأقدام فشعر 
بمرورها بالباب الأرّل ثم الثاني» ثم وهي تطرق باب 
ياسين! . . 

تسمر في مكانه وهو يلهث. فدار رأسه وشعر بخور 
وتهدّم. ثم تتبّد من الأعاق وانتزع نفسه من موضعه 
راجعا من حيث أق وقد غاب الطريق عن عينيه في 
زحمة الأفكار وارتطام الخواطر. . . 

ياسبن كان الرجل! فترى هل علمت زنُوبة بعلاقته 
الأبويّة بياسين؟! وراح يدفع الطمأنينة في نفسه كما 
يدفع سدادًا غليطًا في فوهة ضيّقة قائلا: إنّه لم يجر على 
لسانه ذكر لآحد أبنائه أمامهاء فضلًا عن أنّه من غير 
المعقول أن يكون واقفًا على سرّهء وأنه ليذكر كيف 
جاءه منذ أيَام لينبي إليه طلاق مريم». فطالعه بوجه 
المذنب المرتبك ولكن في براءة وإخلاص لا تشويه) 


5 قصر الشوق 


شائبة» وإنّه ليفترض كلّ شيء إلا أن يقدم ياسين.على 
خيانته وهو عالم بما يفعل» بل من أين لياسين أن يعلم 
أن أباه ذو صلة أو كان ذا صلة بأيّ امرأة في الوجود, 
فله أن يطمئنٌ من هذه الناحية» وحيّى إذا كانت زنوبة 
قد عرفت علاقته بياسين», أو إذا عرفتها يومًا من 
الأيام . للخ تطلغ ياسين علع سر حلب فان رفظم بها 
بينبماء وواصل السير مؤجلا الذهاب إلى الاإخوان ريثا 
يستردٌ أنفاسه ويملك جنانه فمضى في ااه العتبة على 
تعبه وإعيائه . 

أردت أن تعرف وها أنت قد عرفتء ألم يكن 
الأفضل أن تنفض يديك من الأمر كله قانعًا بالصير؟! 
احمد الله على أن الظروف لم تجمعك بياسين وجهًا 
لوجه في بؤرة الفضيحة؛ كان ياسين هو الرجل» متى 
عرفته؟ وأين؟ وكم من مرّة خانته معه وهو لا يدري؟! 
أسكلة لن تبحث لها عن جواب» افترض إذا شت 
أسوأ الفروض فلن يغيّر هذا من الأمر شيئاء وهل 
عرفها قبل أن يطلق مريم أم بعد الطلاق أم كانت 
الشيطانة الباعث على الطلاق؟ أسئلة أخرى لن تعرف 
الجواب عنها ولن تبحث عنه. فافترض أسوأ الفروض 
أيضًا إراحة لرأسك المصدوع, ياسين كان الرجل! قال 
إن طلّقها لقلّة أدبها! كلام كان يمكن أن يعلل به 
طلاق زينب لولم يظلع هو على السبب الحقيقئٌ حال 
وقوعه. سوف تعرف الحقيقة يومّاء ولكن ماذا بهمّك 
من أمرها؟ آلا زلت مشغوفًا بالجرى وراء الحقيقة؟! 
أنت مبعثر الرأس معذّب القلب» ايمكن أن تغار من 
ياسين؟ كلا ليست هذه بالغيرة» على العكس مما تظنّ 
أنث خليق بالتعزّي» إذا لم يكن بد من أن يكون لك 
قاتل فليكن ابنك هو قاتلك» ياسين جزء منك. جزء 
ملك انهزم وجزء منك انتصرء أنت المغلوب وأنت 
الغالب. ياسين قلب مغزى المعركة كنت تشرب كأسًا 
مزاجها الآلم والمزيمة فصار مزاجها الألم والهريمة والفوز 
والعزاء. لن تنحسّر على زنوبة بعد اليوم» غاليت في 
الاعتداد بنفسك, عاهد نفسك عل ألا تُسقط الزمن 
من حسابك بعد الآنء ليتك تستطيع أن توجه هذه 
النصيحة إلى ياسين حيّى لا يؤحذ على غرّة إذا جاء 


دوره» أنت سعيدء لا داعي للندم» ينبغي أن تواجه 
الحياة بخطة جديدة وقلب جديد وعقل جديد. دع 
الراية في يد ياسين. وسوف تفيق من دوارك ويمضي كل 
شيء وكأنه لم يكن» لن يُتاح لك أن تجعل من حوادث 
الأيّام الأخيرة حديئًا يدار على مائدة الإخوان كسابق 
عهدك, علّمتك هذه الأيّام المخيفة أن تطوي الصدر 
على أمور كثسيرة؛ آه... ما أعظم تشوقي إلى 
التراانه. 

أثبت السيّد أحمد في الأيام التالية أنه أقوى مما 
اعترضه من أحداث,؛ فسار في طريقه قلماء وقد 
ترامت إليه أنباء طلاق ياسين على حقيقتها من السيد 
علّ عبد الرحيم نقلا عن غنيم حميدو وآخرين»؛ إن لم 
يتعرف الراوون على حقيقة المرأة التي نجم عن 
مغامرتها طلاق الزوجة... وابتسم السيّد» وضحك 
طويلًا من كلّ شيءء وكان ماضيًا إلى بيت عحمّد عفّت 
ذات مساء ‏ حين شعر بثقل قبيح في أعلى الظهر 
والرأس حيّى لهث. لم يكن الأمر جديدًا كل الجدّة. 
فقد جعل الصداع ينتابه كثيرًا في الأيّام السابقة ولكنه 
لم يشتذ عليه كهذه المرّة» ولمًا شكا حاله إلى محمد 
عفْت أمر له بقدح من شراب الليمون المثلوج. وأمضى 
سهرته حيّى نبايتهاء ولكنّه استيقظ في اليوم التالي أسوأ 
حالا من الأمسء وبلغ به الضجر أن فكر في استشارة 
الطبيب» والواقع أنّْه لم يكن يفكر في استشارة الطبيب 
إلا حين الضرورة القصوى. 


12 

تتطور الأشياء بالمناسبات كيا تتطوّر الألفاظ بما 

يستجدٌ من معانٍ جديدة. لم يكن قصر آل شدّاد في 
حاجة جديدة كي يزداد في عيتي كال جلالاء ولكنه 
بدا في ذلك 0 جديد من أزياء 
الحياة. أريقت عليه الأنوار حي غمرته. أجل: كان 
كل ركن من أركانه وكلّ موضع من جدرانه يتقلد 
عقدًا من اللآلمُ المضيئة. . . مصابيح كهربائيّة مختلفة 
الألوان تومض فوق رقعة جسده من أعلى السطح إلى 
أسفل الجدارء كذلك السور الكبير» والباب الضخم. 


كذلك أشجار الحديقة بدت كأنئما استحالت أزهارها 
وثيارها أنوارًا حمرًا وخضرًا وبيضاء ومن النوافذ جميعًا 
انبعثت الأضواءء فكل شيء هتف مؤْذنا بالفرح, 
وعندما رأى كيال وهو مقبل ذلك المنظر آمن بأنّه يحج 
إلى مملكة النور لأول مرة في حياته. وازدحم الطوار 
المواجه لمدخل البيت بالغلمان» وفرش المدخل بسرمل 
فاقم لونه كالذهب. وقتح الباب على مصراعيه, 
كذلك باب السلاملك فلاحت من داخخحله نجفة كبيرة 
في سقف البهو المعد لاستقبال المدعوين» على حين 
امتلأت الشرفة العليا الكبيرة بمجموعة وضيئة من 
الغيد في ثياب السهرة البهيجة. ووقف شداد بك 
وجماعة من رجال الأسرة في مدخل السلاملك 
يستقبلون الوافدين, أمّا شرفة السلاملك فقد ازدانت 
برجال أوركسترا عجيب ترامت أنغامه إلى حدود 
الصحراء . 

القى كال على المنظر كله نظرة شاملة سريعة» ثم 
تساءل: ترى أعائدة في الشرفة العليا بين المطلات؟ 
وهل وقعت عيناها عليه وهو يقبل مع المقبلين بقامته 
الفارعة وزينته الكاملة والمعطف على ساعده يتقدمه 
رأسه الكبير وأنفه الشهير؟ لم يمخل من إحساس 
بالارتباك وهو يجتاز الباب, ولكنّه لم ينجه إلى 
السلاملك كالآخرينء وإثما مال إلى «مرّه» القديم 
المفضي إلى الحديقة كبا نه حسين شدّاد من قبل كي 
يتاح لجماعتهم البقاء مما أطول مدّة ممكنة في الكشك 
المحبوب. كأنما كان مخوض بحرًا من نورء وقد وجد 
السلاملك الخلفيَ ‏ كالأمامئ ‏ مفتوح الباب. مضاء 
بالأنوار» يعس بالمدعؤين» كذلك الشرفة العليا معمورة 
بأسراب الحسان, أمَا في الكشك فلم يجد سوى 
إسماعيل لطيف في بدلة سوداء أنيقة أضفت على منظره 
العدوانَ هيئة لطيفة لم يره في مثلها من قبل» ألقى 
إسماعيل عليه نظرة سريعة» ثم قال: 

- بديع» لكن ل أتيت بالمعطف؟ حسين لم يمكث 
معي إلا ربع ساعة ولكنه سيعود إلينا حين يفْرغ من 
الاستقبالات». أمًا حسن فقد لبث معي دقائق ولا أظنه 
سيتمئكن من مجالستنا كها نود هذا يومه وله عنًا أمور 


قصر الشوق 4١‏ 


تغنيه» كان حسين يفكر في دعوة بعض الزملاء إلى هنا 
ولك منعته فاكتفى بأن يدعوهم إلى مائدتناء سيكون 
لنا مائدة خخاصّة. هذا أهمٌ بر أزقه إليك الليلة. . . 

هنالك ما هو أهمّ. سوف أعجب من نفسي طويلا 
لقبولي هذه الدعوةء لم قبلتها؟! لتبدو كأنك لا تبالي. 
أم لأنك غدوت مغرما بالمغامرات المخيفة؟ ! 

هذا حسنء ولكن لم لا نذهب ولو قليلا إلى البهو 
الكبير لنشاهد المدعوين؟ . . 

قال إسماعيل لطيف بازدراء : 

لن تحظى بما تريد حيّى لو ذهبناء فإِنْ الباشوات 
والبكوات خصّوا بالبهو الأماميّ وحدهمء فإذا ذهبت 
فستجد نفسك بين الشباب من الأهل والأصدقاء في 
البهو الخلفيّ وليس هذا ما تريد» وددت لو أمكن أن 
نددسٌ في الحجرات العليا التي تموج بأفخر مُكل 
ال 

مثال واحد يعنيني» يثال المثّل الذي لم تقم عليه 
عيناي منذ يوم الاعتراف, هتك سرّي وذهب. 

- لا أكتمك أني مشوق إلى رؤية الكبراءء قال 
حسين لي إِنَّ والده قد دعا كثيرين تمن أقرأ عنهم في 
الصحف. . . 

ضحك إسباعيل ضحكة عالية» وقال: 

أتحلم بأن ترى كبسًا وله أربسع أعين أو ست 
أرجل؟! إثّهم أناس مثلىي ومثلك فضلاً عن أثهم 
طاعئون في السنٌّ وذوو منظر لا يسيٌ كثيرّاء إن أفهم 
مر تطلّعك إليهم؛ ما هو إلا ذيل لاهتهامك المفرط 
بالسياهة و 
يجدر بي آلا أهتمّ بشيء ما في هذه الدنياء لم تعد لي 
وم أعد لحاء غير أن اهتهامي بالكبراء مستمّدٌ في الحقيقة 
من هيامي بالعظمة. أنت تودٌ أن تكون عظيًا لا 
تذكرء ولك مؤملاتك الواعدة من خلقة سقراط والام 
بتهوفن» أنت مدين ببذا التطلع للتى حرمتك التور 
بذهابباء غدًا لن تجد لا أثرًا في مصر كلهاء يا جنون 
الألم إن لك لسكرة!. . . قال بتشوّف: 

قال لي حسين إِنْ الحفلة ستجمع بين رجال من 
جميع الأحزاب. . 


قصر الشوق 


- صحيح » بالأمس دعا سعد الأحرار والوطنيّين إلى 
حفلة الشاي المعروفة بالنادي السعديّ» واليوم شداد 
بك يدعوهم إلى زفاف كريمته» رأيت من أصدقائك 
الوفدين. فتح الله بركات. وحمد الباسل. ورجاء من 
الآخرين: ثروت» وإسماعيل صدقي» وعبد العزيز 
فهميى. شدّاد بك يعمل ببمّة عالية» وحسئًا فعل» 
لقد وى عهد أفنديناء» كان الشعب يبتف منشدًا: «الله 
حي... عبّاس جي». ولكنٌ الحقيقة أنه ذهب إلى 
غير رجعة فكان من الحكمة أن يعمل شداد بك 
للمستقبل حسابه» ويجب أن يسافر كل أعوام قلائل 
إلى سويسرا ليقذم إلى الخديو فروض طاعة كاذبة من 
باب الحيطة. ثم يعود ليواصل سيره الموفق. . . 

قلبك يمقت هذه الحكمة, إن محلة سعد بالأمس 
القريب أثبتت أن الوطن مليء ببؤلاء الحكياء. ترى 
أشدّاد بك واحد منهم؟ والد المعبودة؟! مهلاء إِنَّ 
المعبودة نفسها نزلت من علياء السماء لتقترن بواحد من 
البشرء ليتفتت قلبك حي يعجرك ل أجزائه المتشائرة . 

- تصوّر أنّْ حفلة كهذه تمفى بلا مطرب ولا 
مطربة! ْ 

قال إساعيل بلهجة ساخرة : 

- آل شداد نصف باريسيين» ينظرون إلى تقاليد 
الأفراح بازدراء غير قليل» ولا يسمحون لعلمة بأن 
تحبي حفلة في بيتهم ولا يعترفون بمطرب من مطربيناء 
ألا تذكر حديث حسين عن هذا الأوركسترا الذي أراه 
الليلة لأول مرّة في حياتي؟ إنه يعزف مساء الأحد من 
كل أسبوع في جروي؛ وسينتقل إلى البهو بعد العشاء 
ليطرب الكبراء. دع هذا واعلم أن زيئة الليلة هي 
العشاء والشمبائيا! 

جليلة وصابر وزفاف عائشة وخديجة؟ شتان بين 
الحوين» كم كنت سعيدًا في تلك الأيّام! الليلة يشيع 
الأوركسترا حلمك إلى القيرء أتذكر الذي رأيت من 
ثقب الباب؟... أسفي على الآلههة التي تتمرّغ في 
التراب!. . . 

هذا شيء يبون» الذي آسف عليه حقًا وسآسف 
عليه طويلا هو أنْني ل أتمككن من مشاهدة الكيراء عن 


كثب؛ كنت أتطلم إلى سياع حديثهم لأفهم أمرين 
هامين: أوهما الموقف السياسيٌ على حقيقته وهل بات 
من المأمول حمًا بعد الائتلاف أن يعود الدستور والحياة 
النيابيّة؟ والثاني كلام هؤلاء الناس العاديّ الذي 
يتبادلونه في مناسبة سعيدة كهذه؛ أليس بديعًا أن 
تصغي إلى ثروة باشا مثلا وهو يثرثر ويمزح؟! 

قال إساعيل لطيف وهو يتظاهر بالاستهانة وإن 
نت حركات الاستهانة نفسها عن مباهاة : 

أتيح لي أكثر من مرّة أن أجلس مع أصدقاء أبي 
من أمثال سليم بك والد حسن وشدّاد بك. أؤكد لك 
أنْك لن تجد لديهم ما يستحقٌ هذا الاهتمام. . . 

من أين جاء الفارق إذن بين ابن المستشار وابن 
التاجر؟! كيف كان جلّ حظّد أحدهما أن يعبد المعبود 
على حين يتزوج الآخخر منه!؟ أليس هذا الزواج آية 
على أنّ هؤلاء القوم من طيئة غير طينة البشر؟. . . 
لكك لا تدري كيف يتكلم أبوك بين أصحابه 
وأقراله! . . 

على أيّ حال سليم بك ليس من العظاء الذين 
عق بد 

ابتسم إسماعيل لمذه الملاحظة الأخيرة دون أن يعلق 
عليها. هذه الضحكات تميء من الداخحل مفعمة 
بالغبطة. وأخرى تهبط من الشرفة العليا معبقة بشذا 
الأنوثة الساحرء وبين هذه وتلك تجاوب كالذي بين 
أنغام الآلات المترامية من بعيد تستقبلها الأذن وحدة 
حيئًا وطاقة من ألحان شيّى حيئًا آخر, ثم تكوّن كلها 
الضحكات والأنغام ‏ إطارًا ورديًا يبدو فيه القلب 
الحزين المترع بالوحشة كبطاقة سوداء في طاقة ورد. . 

وما لبث حسين شدّاد أن جاء متهلّلا بقامته الفارعة 
ووجهه المتألّق يختال في الردنجوت؛ فتح ذراعيه عندما 
اقترب ففعل كال مثله وتعائقا بحرارة» ثم لق به 
حسن سليم في بزّْته الرسميّة. جميلًا في كبريائه 
الطبيعيَ الملفوف في مظهره المؤدذب المهذب وإن بدا إلى 
جانب حسين قصيرًا صغيرًاء فتصافحا أيضًا بحرارة» 
وهنأه كال من أعماق لسانه. وقال إسساعيل لطيف 
بصراحته المعهودة التي لا تكاد في أغلب الأحيان تتميز 


ع المكن الشيوء: 

كيال آسف لأنّه لم تُنَمْ له مجالسة ثروت باشا 
وصحبه! 

فقال حسن سليم بمرح غريب أطاح بتحفظه 
المعهود : 

فلينتظر حي يسجّل مؤلفاته المنتظرة؛ وعندها يجد 
نفسه واحدًا منهم!. . . 

أمّا حسين شدّاد فقال محتجا: 

أهاوي تزمّت أنت؟! إنما أريد أن تمر الليلة كلها 
ونحن مستمتعون بحريتنا الكاملة , . . 

وقبل أن يجلس حسين استأذن حسن سليم 
منصرفاء إذ كان في الواقع كالفراشة لا يستقرٌ بموضع . 
ومل سحسين ساقه أمامهى وراح يقول: 

- غدًا يسافرون إلى بروكسلء سبقاني إلى أورباء 
ولكنّ بقائي هنا لن يطول. وغدًا تكون ملهاتي التنقل 
ما بين باريس وبروكسل. . . 

وتنتقل أنت ما بين النحّاسين والغورية؛ بلا حبيب 
ولا صديق. هذا جزاء من يتطلع إلى السماء. ستردّد 
بصرك بين أركان المدينة حائرًا ولن تبرأ عيناك من لوعة 
الشوق. املأ رئتيك من هذا المواء الذي تعبقه 
أنفاسهاء غذدًا سوف ترثي لنفسك. 

يخيّل إل أني سالحق بك يوما. . . 

تساءل حسين وإسماعيل معًا: 

كن 

لتكن كذبتك ضخمة كألمك. . . 

- ثمّة انّفاق بيني وبين أبي على أن أسافر في بعثة 
على حسابي الخاص بعد إتمام دراستي. . . 

هتف حسين سرور: 

- لو تحقّق هذا الحلم! 

أمّا إسماعيل فقال ضاحكًا: 

أخاف أن أجد نفسي وحيدًا بعد بضع سنين! 

تلاقت آلاث الأوركسترا جميمًا في حركة متدفقة 
سريعة. أعلنت - فيا أعلنت ‏ عرًا في كل آلة من 
مرونة وقوّة» كأئما تشترك كلها في سباق عنيف بات 
المدف منه في مرمى العين ومتناول الطموحء فسما بهم 


قصر الشوق 494/ 


اللحن إلى ذروته العلياء تلك الذروة الى توحي بتداني 
الختام. انجذب وعيه إلى الأنغام المستعرة رغم 
استغراقه بالشجن, فانخرط في عَذُوها حي تدافع دمه 
ولحغت منه الأنفاس. وسرعان ما داخلته رقة وأسكرته 
أريحية جعلت من حزنه نشوة دامعة» فتنبّد مم النباية 
من الأعماق» وقمل أصداء اللحن الثرئمة في روحه 
بانفعال وتأثّرء فخيّل إليه أنه يتساءل: ألا يمكن أن 
تنتهى عواطفه المتأججة في ذروتها إلى ختام كذلك؟ ألا 
يمكن أن يكون للحبٌ - كهذا اللحن وككل شيء - 
نهاية؟! وذكر أحوالا مرّت به في أوقات نادرة. فتراءت 
من الفتور حّى بدا وكأنّه لم يبنّ من عايدة إلا اسمهاء 
أتذكر هذه الفترات؟ وكان يبر رأسه حيرة ثم يتساءل: 
هل انتهى حمًا كلّ شيء؟ وإذا بخيال يطوف أو فكرة 
تخطر أو منظر يرى فيستيقظ من غفوته ويّلقى نفسه 
غريقًا في بحر الحوى مكبلا بأصفاد الأشر. جرّب إذا 
حلت بك فترة من هله الفترات أن تقبض عليها بكلٌ 
قواك وألا تدعها تفلت حبيّى يستقرٌ بك الشقاءء أجل 
حاول أن تفني خلود الحبٌ. قال حسين شدّاد باسمًا: 

بدأت الحفلة بتلاوة سورة على سبيل اليركة! 

القرآن؟! ما ألطف هذا! الباريسيّة الحسناء نفسها 
لا تستطيع أن تعقد قرانها إلا بماذون وقرآن! وهكذا 
سيقترن زواجها في ذهنك بالقرآن والشمبانيا. 

حدّثنا عن نظام الحفلة؟ 

قال حسين وهو يشير براحته إلى البيت: 

عمًا قليل يُعقد القران» وبعد ساعة يدعى الجميع 
إلى الموائد» ثم ينتهي كل شيءء وتبيث عايدة هذه 
الليلة في بيتنا لآخر مرّة ثم تسافر مع الصباح إلى 
الإسكندريّة لتستقل بعد غد الباخرة إلى أوربا. . . 

ستضيع منك مناظر ما أخلقها بالتسجيل لتكون 
زادًا لأللك الشرهء كرؤية اسمها الجميل وهو يكتب في 
الوثيقة الشرعيّة: ومنظر وجهها المتطلّم إلى إعلان النبا 
السعيدء ولون الابتسامة التي يفترٌ عنها ثغرها عند 
زفاف البشرىء ثم منظر العروسين و”ما يتلاقيان. 
حيّى ألمك يعوزه الزاد. . . 

وهل يعقد القران مأذون؟! 


5 قصر الشوق 


ل يق! 

هكذا أجاب حسين, أمًا إسماعيل فضحك ضحكة 
عالية. وقال؛ 

بل قسيس ! 

ا سخافة في سؤالك!. . . سل أيضًا هل يبيتان 
الليلة معًا! أليس من المحرن أن يسدّ مجحرى حياتك 
رجل لا شأن له كهذا المأذون؟ ولكنْ دودة حقيرة هي 
التي تأكل جدث أكبر الكبراءء فكيف ستكون جنازتك 
حين يحم القضاء؟ شيء هائل يملأ الطريق أم لمة 
تقضى؟... وإذا بالصمت يشمل البيت حيّى استحال 
نورًا بلا تغاريد فشعر بخوف وأنقباضص. الآن. في 
مكان ماء لعلّها هذه الحجرة أو تلك. ثُمّ لعلعت 
زغرودة طويلة مجلجلة أحيت ذكرى قديمة. زغرودة 
كتلك الزغاريد التي عرفها من قبل فلا تمت إلى باريس 
سسا ثم تبعتها زغاريد مجتمعة كالصواريخ » لشدٌ ما 
يبدو هذا القصر الليلة كأيّ بيت من بيوت القاهرة. 
وتابعت دقات قلبه الزغاريد حتّى لحث؛. ثم سمع 
إسماعيل يِبئْ فهنا بدوره؛ وتمثئى عند ذاك لو كان 
منفردًاء ثم تعزى بأنه سينفرد بنفسه أيَاما وليالي فوعد 
أله بزاد لا يفنى. وانبعشت الأوركسترا تعزف مقطوعة 
يعرفها حقٌ المعرفة هي «العفو يا سيد الملاح» فنادى 
قدرته الطائلة على التحمّل والتصبّر وإن كانت كل قطرة 
من دمه تطرق جدران عروقه مؤذنة بن كل شىء قد 
انتهىء إن التاريخ نفسه قد انتهى» إن الحقيقة جميعًا 
قد انتهت. إِنْ الأحلام التى فوق الحياة قد انتهت. 
وإِنّه يواجه الصخر المابّب الأطراف ولا شيء غيره. 
قال حسين متأملا : 

كلمة ثم زغرودة ويدخل الواحد منا في دنيا 
جديدة: سوف نعرف ذلك كلَّنا يومًا ما. , . 

فقال إساعيل لطيف : 

سوف أباعد ما استطعت بيني وبين ذلك 
اليوم. . 

كلنا؟! إِما السماء وإمّا لا شيء! 

- لن أذعن لذلك اليوم أبدًا. . . 

بدا عليهما أئا م يكترثا لقوله أو أئيه| لم يحملاه على 


محمل المدّ. بيد أن إساعيل عاد يقول: 

- لن أتزوج حي أقتنع بأنْ الزواج ضرورة لا 
عيض عنما ...| 

وجاء نوبي حاملا أكواب الشربات» ثم تبعه آخر 
رةه غملة سنن تلوق التاعرفي غلية من الباود 
على قوائم أربع مذهبة؛ مموه زجاجها الكحلّ بزخارف 
فضيّةء وقد انعقد عليها شريط أخضر من الحرير 
سجّل عل لافتة هلاليّة في عقدته الحرفان الأولان 
لاسمّى العروسين «ع. ح». شعر وهو يتناول العلبة 
بارتياح لعله كان أوّل شعور بالارتياح يحظى به في 
ذلك اليوم. فقد وعدته العلبة الفاخرة بأنَّ معبودته 
ستترك وراءها أثرًا خالدًا كحبّهاء وأنْ هذا الأثر 
سيتى. :نا بلي وهو عل الأرقن ودرا ناس طروت 
وحلم سعيد وفتلة سامية وخيبة رائعة. ثم لفه شعور 
بأنه ضحيّة اعتداء منكر تآمر به عليه القدر وقانون 
الوراثة ونظام الطبقات وعايدة وحسن سليم وقوة خفية 
غامضة لم يشا أن يسمّيها.. . وتراءى له شخصه 
التعيس وهو يقف وحله أمام هذه القوى مجتمعة 
وجرحه ينلزف فلا يظفر بأمى, ولم يجد ما يرد به على 
هذا الاعتداء إلا ثورة مكبوتة حُرمت من الإفصاحء 
بل أجيرته الظروف على التظاهر بالسرور كأنًا مِِقَْ 
القوى الباغية على تنكيلها به ونيذه خارج حدود 
البشريّة السعيدة. فأضمر ها حميعًا حنقًا خالدًا ترك 
للمستقبل أمر تكييفه وتوجيهه. أجل شعر بأنه لن 
يأخذ الحياة بعد تلك الزغرودة الفاصلة مأخذًا سهلًا 
أو يرضى فيها بالقريب أو يتسامح معها تسامح الكرم 
والصفاء. وأنّ طريقه سيكون شاقًا عسيرًا ملتويًا غاضًا 
بالمضض والغضاضة والألمى ولكنّه لم يفككر في التراجع . 
قبل الحرب وأبى الصلح. وأنذر وتوتّد. غير أنّه ترك 
للقدر اختيار الغريم الذي سينازله والوسيلة التي 
سيحارب بها. قال حسين شذاد وهو يزدرد ريقه 
المشرب بالشربات : 

- لا تعلن الثورة على الزواج؛ أعتقد ‏ إذا أتيح لك 
أن تسافر ىا تقول أنّك ستجد زوجة تعجبك. . . 

كأنك لم تجد التي تعجبك هناء ابحث عن وطن 


جديد لا يتاذى جنسه اللطيف يبمنظر الرءوس السَادْة 
والأنوف الكبيرة» إِما السماء وإمًا الموت. قال وهو بهرٌ 
رأسه كالمقتنع : 

داهذا راف 

فقال إسماعيل لطيف ساخرًا: 

- أتعرف ماذا يعني الزواج من أوربيّة؟ إنه كلمة 
واحدة «الظفر» بامرأة من أحط طبقات الشعب» امرأة 
ترضى بأن تكون تحت رَجُل تشعر في أعماقها بأنه عبد 
قن العيين: 

حظيت ببذه العبودية في وطنك الكريم لا في أوربا 
التي لن تراها. 

قال حسين مستنكرًا: 

مغالاة! , 

- انظر إلى المدرّسين الإنجليز كيف يعاملوننا! 

قال حسين شدّاد بحاس هو بالرجاء أشبه: 

الأوروبيون في بلادهم غيرهم في بلادنا! 

هل من سبيل إلى قوة قاهرة تبيد الظلم والظالمين؟! 
يا رب العالمين أين عدالتك السهاويّة؟! 

دعا الداعي إلى الموائد فمضى الأصدقاء الثلاثة إلى 
السلاملك. ثم إلى -حجرة -جانبية تتفرع عن البهر 
الخلفيَء فوجدوا مقصفا صغررًا ينّسع لعشرة على 
الأقلء وبحق بهم شبّان بعضهم من أقرباء آل شدّاد 
والبعض من أصدقاء المدرسة, ومع أن العدد دون 
الحد المقرّر للمقصف وهو ما شكر عليه حسين من 
الأعياق» إلا أئّْبم سرعان ما اندفعوا إلى الطعام بقوة 
وعلف حيّى ساد الجو نشاط السباق, وكان ينبغي لحم 
أن يتحرّكوا دوامًا ليطوفوا بشّى ألوان الطعام التي 
امتّت صحافها على طول المائدة تفصل بين كل 
مجموعة منها وأحرى طاقة صغيرة من الورود. ولوح 
حسين بإشارة من يده إلى السفرجي. فجاء بقوارير 
الويبسكي وزجاجات الصوداء فهتف إسماعيل لطيف: 

أقسم أني تفاءلت شيرًا ببذه الإشارة من قبل أن 
أعرف مغزاها. 

ومال حسين على أذن كيال قائلا برجاء: 

كأسًا واحدة من أجل خاطري . . . 


قصر الشوق ١ه‏ 


وقالت له نفسه «اشرب» لا رغبة في الشراب فإِنْه لم 
يعرفه ولكن رغبة في الثورةء بيد أن إيمانه كان أقوى 
من حزنه وتمرّدى قال مبتسما: 

أمّا هذه فلاء شكرًا. , , 

قال إسماغعيل لطيف وهو يرفع كأسا مترعة : 

لا حق لك في هذاء حقّى الورع يبيح لنفسه 
السكر في حفلات الزفاف. . . 

مضى يتناول طعامه الشهى في هدوء؛ وكان يراقب 
بين حين وآخخر الآكلينَ والشاربين أو يشترك معهم في 
الحديث والضحك. إِنْ سعادة المرء تتناسب تناسبًا 
طرديًا مع عدد مرات شهوده لمقاصف الأفراح » ولكن 
هل مقصف الباشوات مثل مقصفنا؟! نلتهم طعامهم 
ولحقّق معهم! شمبانيا!... هذه فرصة لتذوّق 
الشمبانيا. . . شمبانيا آل شداد ماذا قلتم؟ ما للأستاذ 
كيال لا يقرب الخمر؟ لعله ملأ بطنئه فلم تعد تشّسع 
لزيدء الح أن آكل بشهوة لا تجارى. كأنما أعصاب 
معدتي لا تتائر بالحزن أو أئْها تتأئر به تأثْرًا عكسيًا. . 
هكذا تغديت في مأئم فهمي», امنعوا إسباعيل عن 
الأكل والشرب وإلا نفق. موت المنفلوطي وسيد 
درويش وضياع السودان أحداث كلّلت زماتتا 
بالسواد» لكنّ الائتلاف وهذا المقصف من أنباء زماتنا 
السارّة, أكلنا ثلاثة من الديكة الروميّة وثمّة رابع م 
يمسس بعد... هو هذا!! ربّاه إنّه يشير إلى أنفي 
فيضسجون جميعا بالضحك! إنهم سكارى فلا تغصب! 
اضحك معهم متظاهرًا بالاستهانة والمرح» أمًا قلبي 
فبنتفض غضبّاء إن استطعت أن تغزو العالم فاغزه. 
أما آثار هذه الليلة البهيجة فهيهات أن تنجو منها أبد 
الدهرء وهاك اسم فؤاد الحمزاوي تتناقله الألسن, 
عن تفوقه ونبوغه يتحدثون فهل لذعتك الغيرة؟ 
سيكون حديثك عنه مدعاة لإكبارك ولو على نحو ماء 

كان طالبًا محدًا مبذ طفولته! 

- أتعرفه؟ 

أجاب حسين شدّاد عنه : 

- والده موظف في متجر والد كمال. . . 

في قلبي ارتياح لعن الله القلوب. . 


7 قصر الشوق 


قال كيال: 

- كان والده ولا يزال الرجل المجدّ الأمين. 

وما تجارة والدك؟ 

كم أحيط «التاجرة في حيالي مهالة الإكبار» حتى 
قيل لك ابن تاجر وابن مستشار: 

تاجر جملة للبقالة, . . 

الكذب أداة نجاة حقيرة. انظر إليهم كي تستشافت 
ما يدور وراء أقئعة وجوههم ولكن أي رجل في هذا 
البيت يضارع أباك حمالا وقوة؟ ! 

وعقب الانصراف عن الموائد عادت الأكثريّة إلى 
مجالسهافي البهو. وانطلق كثيرون إلى الحديقة 
يتمشّون؛ فمرٌ وقت هادئ خامل» ثم أخذ المدعؤون 
في الانصراف, أمّا الأهل قصعدوا إلى الدور الثاني 
ليقدّموا التهاني إلى العروسين؛ وما لبث الأوركسترا أن 
انتقل إليهم ليعزف مختاراته الرائعة في المجلس 
السعيد. ارتدى كمال معطفه وحمل علبة الحلوى 
الفاخخرة ثم تأبط ذراع إسماعيل وغادر سراي آل 
شدادء قال إسماعيل وهو يلقي على صاحبه نظرة 
تحمورة : 

- الساعة الحادية عشرة» ما رأيك في أن نتمّى في 
شارع السرايات حي أفيق قليلًا؟ فوافق كمال عن 
طيب خاطرء لأنّه وجد في المثى وقتل الوقت فرصة 
مواتية بيتهاء باعتا شي ل الذي سار فيه 
من قبل إلى جانب عايدةء يعترف لا بحبّه وييثها 
الامه. لن يغيب عن رأسه منظر هذا الطريق ذي 
العصور الجليلة الصامتة. والأشجار الباسقة على جائبيه 
تطالع المساء بهدوء النفس المطمئئة وروعة الخيال 
السامي . ولن يفتأ قلبك كلما وطئته قدماك أو استدعاه 
خيالك يرعش باعنًا بخفقات الحنين والوجد والألم 
كالشجرة المقلقلة بالرياح ترمي أوراقها وثارهاء ومهما 
يكن من فشل رحلتك القديمة على أديمه فلن يزال 
يدّخر لك ذكرى حلم غابر وأمل ضائع وسعادة 
موهومة وحياة دافقة مترعة بالمشاعر هي على أسوأ 
التقديرات خير من راحة العدم ووحشة الحجر وحمود 
العاطفة» وهل أنث واجد في مستقبلك زادًا للقل إلا 


أماكن تتطلّع إليها بعين الخيال وأسماء تمدّ لما آذان 
الشوق؟! تساءل كيال: 

- ترى ماذا يحدث الآن في الدور الأعلى؟ 

فأجاب إساعيل بصوت مرتفع أزعج الصمت 
الاثم : 

- أوركسترا يعرف مقطوعات غربيّة» العروسان 
فوق المنصة يبسيان وحولما آل شدّاد وآل سليم . 5 
مثل هذا الجمع مرّات عديدة. . 

عايدة في ثياب العرس! يا له من منظر! هل رأيت 
شيئًا كهذا ولو فيا يرى النائم؟ ! 

- وإلام يمتدٌ الحفل؟ 

- ساعة على الأكثر كي يتمكن العروسان من النوم 
ما داما سيسافران في الصباح إلى الإسكندرية. 

كلات كالخناجرء اغرز منها ما تشاء في قلبك, . , 

غير أنَّ إسماعيل عاد يقول متسائلا : 

- ولكن متى عرفت ليالي الزفاف النوم؟ ! 

وضحك ضحكة عالية معربدة» ثم تجشأ ونفخ 
أبخرة الخمر وهو يقظب متأفمًا ثم بسط صفحة وجهه. 
وقال : 

عون 9 حك عاك بترم العتابء لا نوم لمم يا 
عيني» لا يغرّنك تحفظ حسن سليم. سيصول ويجول 
كالفحول حتّى مطلع الصبح. هذا قضاء لا نجاة 
تذوّق هذا النوع الجديد من الألم المقطرء روح الألم 
أو ألم الألىء ليكن عزاؤك أنّك انفردت بألم لم.يشعر به 
إنسان قبلك. وأنّه سيهون عليك الجحيم إذا قدّر 
عليك يوما أن تحملك الزبانية وترقص بك فوق ألسنة 
هيبهء أم!! لا لفقد الحبيب فإِنّْك ما طمحت يومًا في 
امتلاكهء ولكن لنزوله من علياء سهائه. لتمرّغه في 
الوحل بعد حياة عريضة فوق السحاب. . . لأنّه رضي 
لخذه أن يقبل. ودمه أن يسفح !| ولحسده أن ييتذل. 0 
أشد حسرتي وألمي! . . . 

أحقٌّ ما يقال عن ليلة الدخلة؟ 

هتف إسراعيل : 

- أتجهل بالله هذه الأمور؟ 


كيف يقدّسون الدئنس؟ . . . 

لا أجهلها طبعٌاء كنت حتّى زمن قريب لا أدري 
غنا شفاء وثمّة أمور أودٌ أن تعاد على مسمعي . . . 

قال إساعيل ضاحكا: 

- إِنّك تبدو لي أحيانًا أحمق أو أبله. . . 

- دعنى أسألكء أيبون عليك أن يفعل هذا 
بشخص تقدّسه؟ 

تجشأ مرّة ثانية حي تطايرت رائحة الخمر اللعينة إلى 
أنف كيال» وقال: 

لذ سكن تعض شعن أنانقد فق .: 

ابنتك مثلاء لو كان لك ابنة. . . ؟ 

- لا ابنتي ولا أمي . كيف جئنا نحن؟ هذا هو 
5 

لحن! الحقيقة نور لألاء. فعْضٌ الطرفء وراء 
ستار القداسة الذى سحدث أمامه طيلة حياتك يعبثان 
كالأطفال, ما لكل شىء يبدو نخاويًا! الأم... 
الأب.. . عايدة. كذلك قربه الحسين... مهنة 
التجارة. . . أرستقراطيّة شدّاد بك يا لشِذّة الألم. 

ما أقذر قائنون الطبيعة!. . . 

تجشّا إساعيل للمرّة الثالثة» وقال وقد نمم صوته 
عن الضحك وإن لم يُسمم له ضحك : 

الحقيقة أنْ قلبك موجع, إنه يغتى مع المطربة 
الجديدة أمّ كلنوم «أفديه إن حفظ الحموى أو 
كال في انزعاج : 

ماذا تعني؟ 

فقال إسماعيل بلهجة تعمّد أن تشيى بسكره أكثر من 
الواقع : 

أعنبى أنك تحب عايدة! 

ما كنك افتضح سيره؟. . 

ك اننع سكرزان 1 

هي الحقيقة والجتميع يعرفوبها! 

هتف وهو يحملق صوبه في الظلام : 

هاا ول 

أقول إِثْها الحقيقة. والجميع يعرفونها. 


قصر الشوق هلا 


الجميع؟! من هم؟! من افترى هذا عل؟ 

ب عايدة! 

عايدة؟ 

- عايدة هي التي أذاعت سرّك. . . 

عايدة؟ لا أصدّق هذاء أنت سكران. 

- نعم أنا سكران ولكن هذه هي الحقيقة أيضًاء من 
فضائل السكران أنه لا يكذب... (ثمم بعد ضحكة 
رقيقة). . . هل أغضبك هذا؟ عايدة كيا تعلم شابة 
لطيفة. حالما لفت الأنظار سرًا إلى عينيك المغرمتين 
وأنت لا تدري». لا بدافع السخرية ولكن لأثها تنيه 
دلالا بالمفرمين» وقد كاشفت حسن أوّل الأمر فوجه 
حسن نظري إليك مرّات» ثم أفضى بالسرٌ إلى حسين. 
بل علمت أن سنيّة هانم سمعت عن العاشق الوهان 
كيا كانوا بدعونك! وغير مستبعّد أن يكون الخدم قد 
استرقوا السمع إلى ما دار عنك بين سادعهم. فالكل 
يعرف قصّة العاشق الولهان. . . 

شعر بخورء وخيّل إليه أن الأقدام المتحرّكة تطأ 
كرامته بقسوةء فانطبقت شفتاه على حزن مريرء أهكذا 
يبعثر السر المصون. وعاد الآخر يقول: 

لا تتأثّرء كان الأمر كله دعابة بريئة صدرت عن 
قلوب تكن لك الونّ حبّى عايدة لم تلع سرّك إلا 
بدافع المباهاة ! 

توهمت فالخدعت! . . . 

فقال إسماعيل ضاحكا : 

- إنكار حبك عبث كإنكار الشمس في رابعة 
المبار! . . . 

صمت كيال صمتا مليشًا بالشجن والاستسلامء 
وفجأة تساءل: 

ماذا قال حسين؟ 

ارتفع صوت إسماعيل وهو يقول : 

حسين؟! إِنّْه صديقك الأمبن؛. طالما أعلن عن 
عدم ارتياحه لأسلوب أخته البريء» وكان يجيبها منوها 
بمزاياك! 

تنبّد في ارتياح. إذا كان في الحبٌ قد خاب أملهء 
فقد بقيت له الصداقة, آه. كيفف يسعه أن يدخصل 


4 قصر الشوق 


سراي آل شدّاد بعد الليلة؟! 

وقال إسماعيل بلهجة جدَّيّة كائما يشجع صاحبه على 
مواجهة الموقف: 

كانت عايدة في حكم المخطوبة لحسن من قبل 
إعلان الخطوبة بأعوام» ثم نا أكبر منك سنا وهذه 
العواطف تُسبى عقب النومء فلا تبثم ولا تحزن. 

هذه العواطف تلسى! تساءل باهتتام غير خخاف : 

أكانت تسخر مني وهي تنوه بهذا الغرام المزعوم؟ 

_ كلاء قلت لك إنّا تسعد بالحديث عن عشّاقها! 

كانت معبودتك إِلْهًا قاسيًا ساخرًا ينشرح صدره 
للهزء بعابديهء أتذكر يوم مثُلتٌ برأسك وأنفك؟ ما 
أشبهها بقانون الطبيعة في قوته وقسوته؛ كيف هرعت 
بعد ذلك متهّلة إلى ليلة الدخلة كأيّ فتاة؟! أمّا أمك 
فشيمتها الحياء كأئما تشعر بذنبها! 

وكانا قد توغّلا في الطريق فاستدارا راجعين في 
صمث كأنًا قد تعبا من الحديث وشجونه. وما لبث 
إسماعيل أن اندفع يغْثى بصوت رديء «يا ما شاء الله 
ع التحفجية». ولكنٌ الآخر لم يخرج عن صمته فضلا 
عن أنه لم يبد عليه أنه انتبه إلى غنائه: ما أخجله! 
أحدوئة كان. وكأنه بأهل البيت والأصدقاء والخدم 
وهم يتغامزون من وراء ظهره وهو عنهم غافل» معاملة 
فظة لا يستحمّهاء فهل يكون هذا جزاء الحب 
والعبادة؟! ما أقسبى المعبودة وما أفظع الألم! لعل نيرون 
عندما غ وروما تحترق كان ينتقم الخال كحاله هذه. 
كن قائدًا غازيًا يختال على متن جوادء أو زعيًا يُحمل 
على الأعناق. أو تمثالا من صلب فوق سارية؛ أو 
ساحرًا يتصوّر في أي صورة شاءء أو ملاكًا يطير فوق 
السحاب» أو راهًا منزويا ف صحراء ؛ أو مجرما خخطررًا 
يزلزل الآمنين, أو مهرّجًا يأسر الضاحكين, أو منتحرًا 
هيز الرائين. لو علم فؤاد الحمزاوي بقضّته لقال له 
وهو يواري سخريته تحت طلاء أدبه المعهود: الحق 
عليك» فأنت الذي هجرتنا من أجل هؤلاء الناس». 
احتقرت قمر ونرجس فذق هجر الآلحة. السماء أو لا 
شىء هذا هو جوابي. فلتتزؤج كا تحبث. وتذهب إلى 
بروكسل أو باريسء وليتقدّم بها العمر حبّى يذوي 


عودها الريّان» فلن تظفر بحب كحبى . لا تنس هذا 
الطريق ففوق أديمه سكرت بِخْلّب الآمال ثم نجرعث 
غصص اليأس. لم أعد من سكّان هذا الكوكب. 
غريب أنا وينبغي أن أحيا حياة الغرباء. 

عندما مرا بسراي آل شدّاد في طريق العودة وجدا 
العّال عاكفين على لزع الزينات وأسلاك المصابيح 
الكهربائية من فوق الحدران والأشجارء فتجرد البيت 
الكبير من حلية الزفاف واشتمل بالظلام» إلا حجرات 
ظلّ النور ينبعث من شرفاتها ونوافذها. انتهى الحفل 
وتفرّق الجمع وأذن الحال بن لكل شيء نبايةء وها هو 
يعود حاملا علبة الحلوى كأئه طفل يلهى عن البكاء 
ببضع قطع من الشيكولاتة» وواصلا السير على مهل 
حت بلغا مطلع الحسينية» فتصافحاء وافترقا. . . 

لم يكد كمال يتقدّم في شارع الحسينيّة أمتارًا حت 
توقف. ثم انقلب عائدًا إلى العبّاسيّة الى بدت مقفرة 
مغرقة في النوم» وحثُ خطاه صوب سراي آل شدّاد. 
وعندما شارف البيت مال يمنة إلى الصحراء التي تكتنفه 
وأوغل فيها حي بلغ موضعًا فيا وراء السور الخلفي 
للحديقة يطل على السراي على بعد. وكان الظلام 
كثِيفًا شاملا يطمئنٌ الرقباء ستائره. ولأوّل مرّة في ليلته 
شعر بالبرودة في ذلك الخلاء العاري» فحبك المعطف 
حول جسده النحيل الطويل. . . تراءى له شبح البيت 
وراء سوره العالي كالقلعة الضخمة» فجالت عيناه 
باحئة عن هدف غال حيّى استقرّتا على نافذة مخلقة 
يوصوص النور من خلال خخصاصها في أقصى اللتناح 
الأيمن من الدور الثاني. تلك غرفة العرس. الغرفة 
الوحيدة اليقظى في هذا الجانب من القصرء كانت 
بالأمس حجرة نوم عايدة وبدورء وازّيْنت الليلة لشهود 
أعجب ما جرت به المقادير. تطلّم إليها طويلا» أوّل 
الأمر بلهفة كأنّه طائر مقصوص الجناح يتطلع إلى عشّه 
فوق الشجرة؛ ثم بحزن عميق كأنما يرى بعينيه 
مصرعه فييا وراء الغيب» ماذا يدور وراء هذه 
النافذة؟. .. لو يتاح له أن يتسلق هذه الشجرة في 
الحديقة ليرى! إِنْ البقيّة الباقية من عمره ثمن زهيد 
يؤدّيه عن طيب تخاطر لقاء نظرة خلال هذه النافذة» 


وهل قليل أن ترى المعبود في خلوة زفافه؟ كيف يقييان 
وكيف تلتقي العينان؟ وبأيّ حديث يتناجيان؟ وني أي 
مكان من الدنيا ينزوي الآن كبرياء عايدة؟ إِنّه يتحرّق 
شغمًا إلى الرؤية وإلى تسجيل كل كلمة تند أو حركة 
تصدر أو أمارة تنطق بها أسارير الوجه؛ بل إلى 
خطرات الئفس وتصورات الخيال ونفثات العاطفة 
وفورات الغرائز. .. كل شيء ولو كان بشعًا مرعبًا أو 
حزنًا مؤليّاء ولتذهب الحياة بعد ذلك دون أسفء 
ولبث بمكانه والوقت يمضى لا هو يبرح ولا النور ينطفئ 
ولا خياله يمل التساؤل. ماذا كان يفعل لو كان في 
مكان حسن سليم؟ ودوّخته الحيرة دون اللجواب» إن 
العبادة لن تغنى عن هذه الليلة شيئاء وخلا العبادة من 
مطالب النفس لم يتوجه إلى عايدة» أمًا حسن سليم 
فمن طائفة لا تتقيّد بالعبادة. هكذا يتعذب في 
الصحراء وهئالك تتبادل قبل ما عهده الناس وتنبّدات 
تتصبّب عرقًا وغيبوبة تنزّ دما وغلالة تنحسر عن جسد 
فانء كهذا العلم الفاني وآماله الخاوية وأحلامه 
الطائشة. . . فائك ما بدا لك على هوان الألحة. 
وليمتل قلبك بالمأساة» ولكن أين يمضي الشعور الباهر 
الرائع الذي نور قلبه أربعة أعوام؟ لم يكن وهما ولا 
صدى لوهم نه حياة الحياق» ولكن تسيطر الظروف 
على الحسد فأيّ قوة تستطيع أن تتطاول إلى الروح؛ 
وهكذا لتبقينٌ المعبودة معبودته. والحبّ عذابه وملاذه؛ 
والحيرة ملهاته. حيّى يقف أمام الخالق يومًا يسائله عن 
حيّره من معضلات الأمور» آه لو يطلع على ما وراء 
النافذة» لو يكشف سر أسرار وجوده؟. . . وكان البرد 
يقرصه أحيانًا فيذكره بموقفه وبالوقت الذي يمر سادراء 
ولكن فيم يتعجّل العودة؟... أيطمع حمقًا أن يطرق 
النوم جفونه هذه الليلة؟! 


31ت 
وقف الحنطور أمام دكان أحمد عبد الجواد» وقد 
لطخ عجلاته الوحل المتراكم في شارع النححاسين والمياه 
المتجمّعة في فجواته, فغادره السيّد مُحمّد عفْت في جبة 
صوفيّة ودخخل الدكان وهو يقول باسمًا: 


قصر الشوق ههلا 


جتناك بحنطورء وكان الأسلم أن نجيئك 
بقارب . . . 
وكانت الأمطار قد انهملت يومًا ونصف يوم حتى 
سالت الأرض وغرقت الحوارى والأزقة» ومع أنَّ 
السهاء أمسكت - بعد ذلك - إلا أن تجهّمها م 
ينكشفء وظل وجهها متواريًا وراء سحاب جون أظل 
الأرض بمظلة قاتمة بعثت في الجر عكارة كأئها نذير ليل 
مبيم . واستقبل أحمد عبد الحواد صاحبه بترحاب ودعاه 
إلى الجلوس. وما كاد محمّد عفْت يطمئنّ إلى مجلسه 
عند ركن المكتب حتّى قال كأنما ليجلو سرٌ مجيئه : 

- لا تعجب لمجيثئى في هذا الجر رغم أنْنا سئلتقي 
في مجلسنا المعتاد بعد ساعات. ولكيّى اشتقت إلى 
الانغراد بك! 

وضحك محمد عفْتء كأنما ليعتذر عن غرابة قوله. 
نفيك اليكن أيفناء .ولكتيا كانت «ضحكة إل 
التساؤل أقرب, وذهب حميل الحمزاوي ‏ وكان ملتفعا 
بكوفيّة ضمت قمّة رأسه وما تحت ذقنه ‏ إلى الباب» 
فنادى صبِي قهوة قلاوون ليُحضر قهوة» ثم عاد إلى 
كرسيّه وقد أعفاه المطر والبرد من العمل أما السيّد 
أحمد فقد حدّئه قلبه بأنْ وراء الزيارة أمرّاء فقد وقعت 
في وقت لا تدفم إليه إلا ضرورة» إلى أن الأزمات 
النفسيّة التي عاناها الرجل منذ قريب وما انتابه من 
مرض أخيراء كل أولنك جعله عرضة للقلق على غير 
عادتهء غير أنه دارى قلقه بضحكة لطيفة» ثم قال: 

كنت قبيل حضورك أتذكر سهرة الأمس وأستعيد 
منظر ألفار وهو يرقص! الله يقطعه. 

فقال محمّد عفت باس : 

كلنا تلاميذك! ويبذه المناسبة دعني أنقل إليك ما 
يشيعه عل عبد الرحيم عنك. إِلَّه يقول إِنْ الصداع 
الذي انتابك في الأسابيع الماضية ما هو إلا عارض 
خلو حياتك من النساء في الأيام الأخيرة!. . 

لخلؤ حياتي من النساء! وهل للصداع من سبب 
غير النساء؟! 

وجاء صبوع القهوة بأقداح القهوة والماء على صيئية 
صفراءء فوضعها على ركن المكتب الذي يجلس حوله 


57 قصر الشوق 


الصديقان. ومضى» وشرب محمّد عفْت شربة ماى ثم 
قال : 

- شرب الماء البارد في الشتاء لذيذ» ما رأيك في 
هذا؟ لكن فيم سؤالي وأنت من عشّاق الشتاء الذين 
يستحمّون كل صباح بالماء البارد حيّى في هذه الأيّام 
من فيراير. .. الآن خترني. هل أعجبتك أنباء المؤتمر 
الوطني الذي احتشد في بيت محمد محمود؟ عشنا وشفنا 
مرّة أخرى سعد وعدلي وثروت في جبهة واحدة! 

فتمتم السيد قائلا : 

- ربّئا من حكمته أنه يقبل التوبة. . . 

إن لا أثق في هؤلاء الكلاب. . 

ولا أناء ولكن ما العمل؟ الملك فؤاد طيّنهاء ومن 
المحزن أنّ المعركة لم تعد بيننا وبين الإنجليز. 

نم مضيا يحتسيان القهوة في صمت إن دل على ثيء 
فعلى أنَّ الحديث العابر لم يعد له محل؛ وأنْ على محمّد 
عفت أن يدلي بما عنده. واعتدل الرجل فى جلسته. 
وكاطت» اناه لس تددن لخاد 

أعندك أخبار عن ياسين؟ 

انعكس السؤال في عينى السيد الواسعتين اهتماما 
مشوبًا بقلق. وفي الوقت ذاته خفق قلبه خفقة مروّعة, 
قال : 

- خير! إِنْه يزورني من حين لآخخرء وكانت زيارته 
الأخيرة يوم الاثنين الماضي فهل من جديد؟ أمر يتعلق 
بمريم؟ لقد رحلت إلى جهة مجهولة» وعلمت أخيرًا أن 
بيومي الشربتلي اشترى نصيبها في بيت أمها. 

قال محمّد عفت وهو يتكلف ابتسامة : 

- الأمر لا يتعلّق بمريم» من يدري لعلّها غابت عن 
ذاكرته» المسألة دون لف أو دوران زواج جديد. 

فخفق قلبه مرة أخرى فيا يشبه الفزع وهو يقول: 

- زواج جديد؟! ولكئه لم يشر إلى ذلك بتانًا في 
أحاديئه معي !| 

هرّ مممّد عفت رأسه فنا وقال: 

- لقد تزوّج بالفعل من شهر أو أكثر, حدّئني بذلك 
غليم حميدو منذ ساعة فقطء وكان يظنٌ أنك تعلم كل 
شيء! 


جعلت يسراه تعبث بشاربه بسرعة عصبيّة. ثم قال 
وكأنه يخاطب نفسه : 

- لهذا الحد! كيف أصدّق هُذا! كيف أنخفى عن 
الأمر؟! ٠‏ 

- الخال تقتضي الكتان! أصغ إل لقد آثرت أن 
أكاشفك بالحقيقة قبل أن تفاجا مها مفاجأة غير كريمة. 
ولكن لايصمّ أن نعيرها أكثر مما تستحنٌ. وينبغي قبل 
كل شيء ألا تستسلم للغضب» لم يعد الغضب مما 
تحتمله. اذكر تعبك الأخير وارحم نفسك . 

قال السيّد يائسًا: 

في الأمر فضيحة!؟ هذا ما حذّثنى به قلبى» هات 
ها ذلك نا سيك فك : : ْ ْ 

هر عحمّد عفّت رأسه آسمًاء ثم قال بصوت ملخفض : 

كن دائيًا أحمد عبد الحواد الذي عهدناه. لقد 
تروّج من زنوبة العوادة! 

- زلوبة! . , 

وتبادلا نظرة ذات دلالة.» وسرعان ما بدا الارتباك 
في وجه أحمد والإشفاق في وجه صاحيبه. ثم لم تعد 
مسألة الزواج ذاتها بالأولى في الأعمية. فتساءل السيد 
أحمد بلهجة لاهئة : 

- ترى هل تعلم زنُوبة بأنه ابني؟! 

لا يداحلني في هذا شكُء غير أني أكاد أوقن بأئها 
لم تطلعه على سرّك لتتمكن من إيقاعه في الشرك» وقد 
نجحت نجاخًا تستحقٌ عليه كل تهنثة! 
ولكنّ أحمد عبد الجواد عاد يتساءل بنفس اللهجة 
اللاهئة : 

أم تراه أخمفى عب الأمر لعلمه بما كان؟ 

قلف لذ أصدق هذاه لرتسشق هذا إل علمة :من 
أقدم على الزواج منهاء إِنّه شابٌ طائش ما في ذلك من 
رمع نوكته ليس لذلا بوإذا كان قد اعفن عفك 
الأمرء فا ذلك إِلَّا لأنه لم يجد الشجاعة ليصارحك بأنّه 
تزوّج من عوادة! يا ويل الآباء من الأبناء الطائشين» 
الحقٌّ أنني تأت كثيراء ولكبي أكرّر الرجاء بألا تستسلم 
للغضب, ذثبه على جنيه» وأنت بريء من فعلته ولا 
لوم عليك , 


تنيّد أحمد عبد الحواد بصوت مسموعء, ثم سأل 
صاحبه : 

- خبّرني كيف علق غنيم حميدو على الخبر؟ 

فلوّح محمّد عفت بيده مستهيناء وقال : 

سألني: كيف يرضى السيّد أحمد عن هذا؟ فقلت 
له: إن الرجل لا يعلم شيئًا. فتاّف وقال لي: انظر 
إلى المدى البعيد بين الأب وابنه! كان الله في عونه. 

قال أحمد بلهجة راثية: 

- أهذه عاقبة تربيتي لهم؟ إن في حيرة شديدة يا 
سيّد مُحمّد؛ المصيبة أنْنا نفتقد السيطرة الفعلية عليهم 
في الوقت الذي تستوجب مصلحتهم الحقيقية 
سيطرتناء إنهم بحكم العمر يتحملون مسثولية 
أنفسهم. ولكتّهم يسيئون استعالها دون أن نستطيع 
تقويم ما يعوجٌ منهم, نحن رجال ولكتّنا لم نلد 
رجالاء من أين جاء العيب يا ترى؟ هذا الثورا. 
امرأة في متناول كل يد فياذا دعاه إلى الزواج منها؟! 
فلنبك على أنفسناء لا حول ولا قوّة إلا بالله . 

وضع محمد عفت يده على مكب صاحبه بحنو 
وقال : 

لقد أدّينا ما علينا من واجبء الأمر بعد ذلك 
لصاحب الأمر. وهيهات أن يراك أحد مستحمًا للوم . 

عند ذاك جاء صوت الحمزاوي الأسيف وهو يقول: 

لا يستطيع منصف أن يلومك على أمر كهذا يا 
مى السيّدء على أنه يخيّل إل أنْ الأمل في الإصلاح لم 
ومع الي اسع ا 

- إن يبدو بين يديك طفلا مطيعًاء وهو سيطلقها 
حتًا غذًا أو بعد غد فخير الي عاجله. . . 

فتساءل السيّد متشكيًا: 

وإن كانت قد حبلت؟ 

فجاء صوت الحمزاوي وهو يقول جزعًا: 

لا قذر الله ولا سمح . . 

وبدا أنّْ عند مممّد عنْت مزيدًا من القول» فنظر 
إلى صاحبه بإشفاق» ثم قال: 

- ومن المؤسف حا أنّه باع دكانه بالحمزاوي ليونتْ 


بيته من -جديد! 


حملق أحمد في وجهه. ثم قطب منفعلاء وهتف 
حانقًا : 

- كأني غير موجود في هذه الدنيا!. . . حيّى في هذا 
لا يشاورني!... 
ثمّ وهو يضرب كما بكفت: 

- ضحكوا عليه بلا ريب». وجدوا في طريقهم 
لقية» بغلا بلا سائس في ثياب أفندي. . . 

فقال محمّد عفْت متأثرًا: 

- تصرفات أطفال! . . . نسى أباه ونسى ابئه! ولكن 
ما الفائدة من الغضب؟! 0000000 

صاح أحمد عبد الجواد : 

- ييل إل أنه ينبغي أن آذه بالحزم مهما تكن 
العواقب. . . 

مدّ محمّد عفّت ذراعيه كأنمًا يدفع رزيّة. وقال 
بتوسل : 

د إِنّْ كتير ابتك آعهةء لا تخطرء وانت سيد 
العارفين» ليس عليك إلا النصيحة وليقض الله بما هو 
قاض .. . 
وخفض محمد عفْت عينيه متفكرّاء وبدا الحظات 
كالمتردد. ثم قال: 

- ثمّة أمر يمني كا مَك ألا وهو رضوان! 

وتبادل الرجلان نظرة طويلة» ثم استطرد محمد 
عفت قائلا : 

- سيبلغ الغلام السابعة من عمره بعد أشهر. 
وأخحاف أن يطالب به فينشا بين أحضان زثوبة» هذا 
شر جب دفعه. ولا إخالك توافق عليه» فأقلعه بأن 
يترك الغلام عندنا حبّى يقضي الله أمرًا. . . 

لم يكن من طبع أحمد عبد الجواد أن يرحب بأن 
يبقى ابن ابله عند آل أمّه بعد انقضاء فترة الحضانة 
الشرعيّة» ولكنّه من ناحية أخحرى لم يشأ أن يقترح 
ضمّه إلى بيته هو حي لا يضيف إلى أعباء أمينة عبئًا 
جديدًا لى تعد بحكم سنها أهلا لحمله. فقال في 
استسلام أسيف : 

- لا يصِمٌ أن يترق رضوان في بيت زنُوبة هذا ما 
أقرّك عليه. . . 


مهلا قصر الشوق 


فقال محمّد عفْت وهو يتعهد بارتياح : 

- إن جدّته تبه من كل قلبهاء وحيّى لو دعت 
ظروف قهريّة في المستقبل إلى أن ينتقل إلى بيت أمّه 
فسوف يجد هناك جوًا صالحاء إذ أن زوج أمّه رجل في 
الأربعين أو جاوزهاء وقد حرمه الله من نعمة 
دن 

فقال أحمد عبد الحواد برجاء : 

- لكئي أفضل أن يبقى عندك. . , 

طبعا. . . طبغاء إني تكلمت عن احتهالات بعيدة 
أسأل الله آلا نضطرٌ إليهاء الآن لم يبق لي إِلّا أن 
أرجوك أن تترفق في مخاطبته ومحاسبته حت يتيسّر إقناعه 
رك رميو ان ل ب 

وهنا جاء صوت الحمزاوي المسالم وهو يقول: 

السيّد أحمد سيّد الحكاء. وهل يغيب عنه أن 
ياسين رجل؟ وأنّه مثل كافة الرجال حر التصكف في 
شئونه وأملاكه؟ هذا ما لا يمكن أن يغيب عن السيد. 
وما عليه إلا النصيحة, والباقي على الله. . . 

استسلم أحمد عبد الجواد بقيّة النهار إلى التفكير 
والحزن. قال لنفسه: إِنْ ياسين في كلمة ابن ميب 
للآمال» وليس أفجع من ابن عيب للآمال. إِنْ مآله 
بي ويا للأسف! ولن يحناج إلى قوّة بصيرة كي 
يتصوره. أجل سوف ينحدر من سيّئ إلى أسوأ وعنئد 
الله اللطف. وقد رجاه حميل الحمزاوي أن يؤجل 
مخاطبة ياسين إلى الغد. فانصاع لرجائه يائسًا أكثر منه 
قادرأ لوجاهة النصح . 

وعند عصر اليوم التالي استدعاه إلى مقابلته» فلبى 
باسين مبادرًا كما ينبغي للابن المطيع . والحقٌ أنْ ياسين 
لم يقطع ما بينه وبين أهله من أسباب. كان البيت 
القديم المكان الوحيد الذي لم يجد الشجاعة للعودة إليه 
على شذة حنينه إليهء وما من مرّة كان يلتقي فيها بأبيه 
أو خديجة أو عائشة إلا ويحمّلهم السلام إلى امرأة أبيه. 
أجل لم ينس قلبه غضبها عليه ول تمح من صفحته آثار 
ما سبّاه تعئتها معدء بيد أنه أى أن يسبى كذلك العهد 
القديم, عهد لم يكن يعرف أمّا إلاها. ولم ينقطع عن 
زيارة أختيه. كما كان يقابل كمال أحيانًا في قهوة أحمد 


عبده أو يدعوه إلى بيته حيث عرف الشابٌ مريم أولا 
ثم زنُوبة أخخيرًا. أمَا أبوه فكان يزوره في دكانه مرّة على 
الأقل كل أسبوع. وهنا أتيح لياسين أن يعرف 
شخخصية أبيه الثانية التي يأسر الناس مهاء فنشأت بين 
الرجلين صداقة وطيدة ومودّة وثيقة. غدَّتها صلة 
الرحم من ناحية وفرحة اكتشاف الأب على حقيقته من 
ناحية أخرى. غير أنْ ياسين وهو يتفرّس في وجه أبيه 
ذلك اليوم لمم فيه ما ذكره بالوجه القديم الذي طالما 
بعث في أطرافه الرعب. ولم يتساءل عيّا طرأ عليه. 
لأنه كان وائمًا من أنه سيقف على سره عاجلا أو 
آجلاء فلم يشكٌ في أنه مُلاقٍ العاصفة التي توقم 
ويا متك أنه نجل لتطلقة...رادره الرعل :قاف 

يحزنني أن أجد نفسى بِبْذا ال هوان. وماذا وراء أن 
أعرف أنباء ابني من الآخخر ين؟ 

فطامن ياسين رأسه ولم ينبس. فثار الرجل على 
طلاء المسكنة الكاذب الذي يطالعه به» وصاح: 

1 الع هذا القناع , دعك من النفاق وأسمعني 
صوتك» طبعا أنت تعلم ما أعنيه! 

فقال ياسين بصوت لم يكد لسسع : 

- لم أجد الشجاعة لاخبارك, . , 

هذا شأن من يتسثر على ذنب أو فضيحة! 

حذّرته غريزته من أن يلجأ إلى أيّ نوع من أنواع 
المعارضة؛. فقال باستسلام : 

2 1 00 

فسأله السيّد ذاهلا : 

إذا كان هذا هو رأيك حفّاء فَلِمَ فعلتها؟! 

لاذ ياسين بالصمت مرّة أخرى. فخيّل إلى الأب 
أنّه يقول له بصمته «عرفت أّْا فضيحة ولكيّ أذعنت 
للحبٌّ!ى وذكره هذا بموقفه المخزي أمام لمرأة ذاتباء 
يا للعار! غسلت خريك بغضبة كبرى» ولكنّك عدث 
تسعى إليها! أمّا هذا الثور فيا أضيعه! 

- فضيحة ارتضيتها أنت دون تقدير للعواقب 
لنتعذب بها نحن جميمًا! 

هتف بسذاجة قائلا : 

- أنتم جميعًا؟! معاذ الله. . . 


عاود السيد الغضب. فصاح به : 

- لا تتصنّع الجهل. لا تدّع البراءة» أنت تعلم 
أنك في سبيل شهواتك لا تبالي ما يصيب سمعة أبيك 
وإخوتك. أقحمت على الأسرة عوادة لتكون هي ومن 
بعدها ذرّيّتها منّاء لا إخالك كنت تجهل هذا قبل أن 
أذكره ولكنّك تستهين بكل شيء في سبيل شهوتك. 
هانت كرامة الأسرة على يديك. وأنت نفسك تتهار 
حجرًا بعد حجرء. وسوف تجد نفسك في النباية 
خخرابا. . . 

غضٌ البصر لائذًا بالممت حب نطقت حاله 
بالذنب والتسليمء لن تكلفك هذه الفضيحة إِلَا قدرًا 
من الفمقل 5] ارس حيلف كلا 1ن لفسا ورق 
غدًا بحفيد أمّه زنُوبة وخالته زبيدة» مصاهرة طريفة 
بين السيّد أحمد التاجر المعروف وزبيدة العالمة الذائعة 
الصيت. لعلّنا نكمّر عن ذنوب لا ندريها! 

- إِنَّ بدني يقشعرٌ كلما فكُرت في مستقبلك. قلت 
لك إِنْك تنهار وسوف تهار أكثر وأكثرء خخرني ماذا 
فعلت بدكان الحمزاوي؟ 

رفع إليه عينين كثيبتين» وتردد مراتء ثم قال: 

- كنت في حاجة ماسّة إلى المال. . . 

م وهو يخفض عينيه : 

- لو كانت الظروف غير الظروف لاقترضت ما 
أحتاجه من حضرتك ولكنّ الأمر كان محرجًا. . . 

السيّد حائمًا : 

يا لك من مراء! ألا تمحجل من نفسك؟ أراهن 
على أنّك لم تجد في كلّ ما فعلته أي غرابة أو إنكار. أنا 
عارفك وفاهمك فلا تحاول أن تخدعني» ليس عندي إلا 
كلمة واحدة وإن كنت أعلم مقدّمًا ألا طائل حتها: 
أنت تخرب نفسك بنفسك ونهايتك سوداء . . 

عاد ياسين إلى صمته متظاهرًا بالأبى. الثور! هي 
جذابة شيطانة ولكن ماذا اضطرّك بالزواج منها؟ كنت 
أظنّ أئْها طالبتني بالزواج طمعًا في تقدّم عمري» لكنْبا 
أوقعت هذا الثور على شبابه. ووجد عند ذاك شيئًا من 
الارتياح والعزاء. كانت خخظتها المدبرة أن تتزوج بأيّ 
ثمن إِلَا أنْها آثرت غيري علٌء فوقم هذا الأحمق : 


قصر الشوق 4ه 


طلّقها؟ طلّقها قبل أن تصير أمّا وتفضحنا إلى أبد 
الآأبدين!. . . 

تردّد ياسين مليّاء ثم تمتم : 

حرام علٌٍ أن أطلّقها بلا ذنب! 

يا بن الكلب!... أتحفتني بنكتة بارعة لسهرة 
الليلة! . . . 
سوف تطلّقها عاجلا أو آجلاء ولكن قبل أن 
تنجب لك طفلا يكون مشكلتك ومشكلتنا. . . 

تبد بصوت مسموع مستغئيًا بذلك عن الكلام, 
على حين راح الأب يتفخصه فيها يشبه الحيرة» فهمي 
ماتء كال أبله أو مجنون. وهذا ياسين لا أمل فيه. 
المحزن أنه أعرٌ الجميع لدي . دع الأمر لله. رباه! ماذا 
يكون الحال لو زلْت قدمي إلى الزواج. . . 

- بكم بعت الدكان؟ 

- ماثتي عحلية . . , 

- تستحقّ ثلاثماثئة» موقعها ممتاز جدًا يا جاهل» لمن 
بعتها؟ 

- عل طولون؛ بائع الخردوات . 

مبارك مبارك هل ضاع المبلغ في الجهاز الجديد؟ 

لدئ منه مائة. . , 

بلهجة ساخرة: 

ع احيية فالعريس لا يستغنيى عن النقود. , 

ثم بلهجة جادّة حزينة: 

- يا ياسين اسمع كلاميء أنا أبوك. احترس وغير 
سيرتك » أنت نفسك أبء ألا تفكر في ابنك ومستقبله؟ ! 

فقال مدافعًا متحمسا: 

- إن نفقته الشهريّة تصله على آخر ملْيم! 

أهي مسألة تجاريّة؟ إن أتكلم عن مستقبله. بل 
عن مستقبل الآخرين الذين ينتظرون في عالم الغيب! 

فقال ياسين باطمئئال : 

- ربنا يخلق ويرزق. . . 

هتف الرءجل باستياء : 

- ربّنا يخلق ويرزق وحضرتك تبدّد! قل لي... 

واعتدل في جلسته, ثم تساءل وهو يركز فيه عينيه 
القويتين ' 


- رضوان على عتبة السابعة» فاذا أنت صانع به؟ 
أتاخذه لينشا في أحضان حرمكم؟ 

لاح في الوجه المت الارتباك» ثم تساءل بدوره: 

ماذا أفعل إذن؟ لم أعمل في الأمر فكري. . . 

هر الرجل رأسه في أسى ساخرء وقال: 

- دفع الله عنك شب الفكر! وهل لديك وقت لتِذَّره 
فيه؟! دعني أفكّر عنك, دنمني أقول إن رضوان يجب 
أن يبقى فى حضانة جذه. . 

فكر قليلا ثم خفض رأسه بالإيجاب قائلا بانصياع : 

الرأي رأيك يا أي» هذا في صالحه ولا شلكٌ. . . 

قال الأب متهكمًا : 

- يبدو لي أنّه في صالحك أيضًا كيلا تشغل نفسك 
بأمور تافهة ! 

ابتسم دون تعليق» كأتما يقول له «إن واثق من 
أنك تمزح ولا بأس من ذلك», 

- ظننت أنه سيشقٌ عل إقناعك بالتخل عنه! 

- إِنّ ثقتي في رأيك هي التي جعلتني أبادر إلى 
الموافقة ! 

فتساءل السيد بدهسشة ساخرة: 

اق سال ران 1 1 تش يبيد ل الأسور 
الأخرى؟ ! 

ثم وهو يتمبّد آسمًا : 

- القصد! ربنا هديك» وذلبك على جنبك. 
سأاحدّث محمد عقت الليلة في شأن الاحتفاظ 
برضوان., على أن تقوم بكل نفقاته فعسى أن 
ود ال 
عند ذاك :بض ياسين وسلّم على أبيه واتّهه نحو 
باب الدكانء وما إن خطا خطوتين حيّى أدركه صوث 
أبيه وهو يسأله : 

ألا تحبٌ اببك ككل الآباء؟ 

فتوقف ياسين متلفثًا نحوهء وهو يقول بإنكار: 

- وهل يحتاج هذا إلى قرار يا أبي! إِنْه أعز شيء في 
الحياأة, . . 

فرفع السيّد حاجبيه؛ وقال وهو ممرٌ رأسه هزة 


غامضة : 


مع السلامة. . 


1ت 

قبل الخروج إلى صلاة الجمعة بساعة. دعا أحمد 
عبد النواد كمال إلى حجرته لم يكن يدعو أحدًا من 
أهل بيته إلى مقابلته إلا لأمر هامّء والحقّ أنه كان 
مبلبل الفكرء متحفّرًا لاستجواب ابنه عنًا يشغله. 
وكان بعض أصحابه قد وججهوا نظره مساء أمس إلى 
مقال ظهر في البلاغ الأسبوعئ بقلم الأديب الناشئ 
«كال أحمد عبد الجواد». ومع أن أحذا متهم لم يقرأ 
من المقال إلا العنوان وهو «أصل اللإنسان» والإمضاء 
وهو الأديب الناثشئٌ «كهال أحمد عبد الحواد» فإنهم 
اتنخذوا منه مادّة للتعليق والتهنئة وممازحة السيّد. حي 
فكر الرجل جدًا في أن يكلف الشيخ متوق عبد 
الفيحة عم ننكاي: الشاكم كال لدعتي يعنت 
«سججل اسم ابنك مع أسماء كبار الكتاب في بجلة 
واحدة؛ طب نفسًا وادخ الله أن يكتب له مستقبلا 
باهرا كما كتب لهم». وقال له عل عبد الرحيم 
وسمعت من شخص محترم أن المرحوم المنفلوطي ابتاع 
عزبة بقلمه فأبشر خيراه» وحدّثه آخرون عن القلم 
وكيف شق السبيل لكثيرين إلى حظوة الحكام 
والزعياء» ضاربين الأمثال بشوقي وحافظ والمنفلوطي. 
وعندما جاء دور إبراهيم الفار داعبه قائلا «سبحان 
الذي خلق من ظهر الجاهل عالمًا» أمّا السيّد فقد 
ألقى نظرة على العنوان ونظرة على «الأديب الناثئ»» 
ثم وضع المجلة فوق جيّته التي كان قد نزعها بسبب 
حرارة يونيه وحميًا الويسكي موْجَلا قراءتها حتّى ينفرد 
بنفسه في البيت أو في الدكان» ثم واصل سهرته بصدر 
منشرح وضمير تيّاه فخور. بل جعل يراجع نفسه لأول 
مرّة في سسخطه المكظوم على إيثار الشابٌ لمدرسة 
المعلّمين قائلًا إِنَّ «الولد» فيهما يبدو سيكون «شيئاه رغم 
اختياره غير الموفق, وبنى أحلامًا على سا قيل عن 
«القلم» وحظوة الكبراء وعزبة المنفلوطي» أجل» من 
يدري؟ لعله لا يكون معلا فحسب ولكن يشقٌ 


السبيل حقًا إلى حياة لم تخطر له هو على بال. وعند 
ضحى اليوم» وعند فراغه من الصلاة والإفطار» تريّع 
على الكنبة وفتح المجلة باهتمام وراح يقرأ بصوت 
مرتفع ليمتل بمعانيهاء لكن ماذا وجد فيها؟ إِنّهِ يقرأ 
المقاللات السياسيّة فيفهمها دون عناءء أمَا هذه المقالة 
فإمها دارت برأسه وأفزعت قلبهء وأعاد تلاوتها بعناية 
فطالع كلاما عن عالم يدعى «دارون» ومجهوده في جزر 
نائية» ومقارنات ثقيلة بين شئى الحيوانات حي وقف 
مبهوئًا عند تقرير غريب يزعم أن الإنسان سلالة 
حيوانيّة! بل أنه متطوؤر عن نوع من القردة! وكرّر تلاوة 
الفقرة الخطيرة منزعجّاء ثم لبث ذاهلًا أمام هذه 
الحقيقة الأسيفة وهى أنْ ابئا من صلبه يقرّر ‏ دون 
اعتراض أو مناقشة أنْ الإنسان سلالة حيوانيّة| 
انزعج الرجل انزعاجًا شديدًا وتساءل في حيرة: هل 
حمًا يعلّمون الأولاد هذه المعلومات الخطيرة في مدارس 
الحكومة؟ ثم أرسل في طلب كيال. 

وجاء كيال وهو أبعد ما يكون عدا يختلج في رأس 
أبيه» وكان قد استدعاه قبل ذلك بأيّام ليهئئه على 
النقل إلى السنة الثالئة فظنّ بالدعوة الجديدة خميرًا. 
وبدا شاحب الوجه ضامر الجسم كعهده في الفترة 
الأخيرة في حال عذلتها الأسرة بالجهد الشديد الذي 
بذله قبيل الامتحان» ولكن غاب عنها سرها اللحقيقي 
وهو ما عاناه طيلة الأشهسر الخمسة الماضية من ألم 
وعذاب أسيرًا لعاطفة مستبدة جهئمية كادت تودي به 
وأشار السيّد إليه بالجلوس. فجلس على طرف الكنبة 
متجهًا نحو أبيه بأدب» وعند ذاك لمح أمّه جالسة أمام 
الصوان مشغولة بترتيب الثياب وخيطهاء أما الرجل 
فقد رمى بالبلاغ الأسبوعي إلى الفراغ الذي يفصل 
بيمما على الكنبة وقال بهدوء مصطئع: | 

- لك مقال في هذه المجلة؛ أليس كذلك؟ 

خطف غلاف المجلة عيني كال فرنا إليه بعين ذاهلة 
دلّت على أنه لم يكن يتوقع هله المفاجأة قط. . . من 
أين لأبيه هُذا الاطلاع المستجدٌّ على المجلات الأدبيّة؟ | 
لقد سبق أن نشر في الصباح وتأملات» بين النثر 
والشعر المنثور ضمّنها نظرات فلسفيّة بريئة وأنات 


قصر الشوف ١5لا‏ 


عاطفيّة. وهو آمن كل الأمن من ناحية اطلاع أبيه 
عليهاء فلم يدرٍ بها أحد من أسرته إلا ياسين الذي 
كان هو نفسه يقرأها عليه فينصت الآخر. ثم يقول له 
معلّمًا هذا ثمرة توجيهي الأول لكء أنا الذي علّمتك 
الشعر والقصصء. جميل يا أستاذء ولكن هذه فلسفة 
عميقة جدًا فمن أين جئت ببا؟» أو يقول مداعيًا من 
الحسناء التي ألهمتك هذه الشكوى الرقيقة؟ ستعلم يا 
أستاذ يومًا أئْنَ لا يجدي معهنٌ إلا ضرب المراكيب». 
ولكن ها هو يظلم على أخطر ما كتب». تلك المقالة 
التي شبٌ التفكير فيها معركة جهنميّة في صدره وعقله 
كاد يحترق في أتونهاء» فكيف حدث هذا؟ وهل يجد له 
من تفسير إلا عند أصدقاء أبيه الوفديّين الذين 
بيحرصون على اقتناء كافة الجرائد والمجلات الوفديّة؟ 
وهل يطمع في أن يخرج سالمً) من هذا المأزق؟ رفع 
عينيه عن المجلّة ثم قال بلهجة لم يمكنها من الإفصاح 
عن اضطرابه : 

- بلىء خطر لي أن أكتب موضوعًا تشيتا لمعلوماتي 
وتشجيعا لنفبى على مواصلة الدرس. . . 

قال لشن أخرة مهبدوئه المصطنم : 

- لا عيب في ذلك» الكتابة في الصحف كانت ولم 
تزل الوسيلة إلى اللجاه والحظوة عند الكبراءء ولكنّ 
المهم ا موضوع الذي يكتب فيه الكاتب» ماذا أردت 
ببذه المقالة؟ اقرأها واشرحها لي؛ فقد غمض عل 
فرفاكةر: 


يا للتعاسة! ليس هذا المقال للجهرء وخاصة على 


- إِنّه مقال طويل يا باباء ألم تقرأه حضرتك؟ إن 

حدجه الرجل بنظرة برّاقة متحمّزة أهذا ما يدعونه 
بالعلم الآن؟ آلا لعنة الله على العلم والعلياء. . . 

- ماذا تقول فى هذه النظريّة؟ لقد لفتت نظري 
عبارات غريبة تقول إِنّْ الإنسان سلالة حيوانيّة» أو 
شيئًا من هذا القبيل. أحقٌّ هذ!ا؟ 

بالآمس ناضل نفسه وعقيدته وربّه نضالا عنيمًا أعيا 
روحه وجسده.ء واليوم عليه أن يناضل أبا غير أنْه 


قصر الشوق 


كان في الجولة الأولى معذّبًا محموما... أمّا في هله 
الجولة فهو خائف مرتعب,. إِنْ الله قد يؤجّل عقابه. 
أمّا أبوه فشيمته التعجيل بالعقاب. . 

خذاعنا تق رو هله القارية] 

علا صوت السيّد وهو يتساءل في انزعاج : 

- وادم أبو البشر الذي خلقه الله من طين ونفخ فيه 
من روحه. ماذا تقول عنه هذه النظريّة العلميّة؟ ! 

طالما طرح هذا السؤال على نفسه. لم يكن دون أبيه 
انزعاجاء ولم يغمض له عين ليلتها حثّى الصباح. 
وتقلب في الفراش متسائلا عن آدم واللخالق والقرآن» 
وقال لنفسه مرّة وعشْرًا: القرآن إمّا أن يكون حمًا كله 
أو لا يكون قرآناء إِنك تحمل علٌٍِ لأنك لم تدر 
بعذابي» لولم أكن قد اعتدت العذاب وألفته لأدركني 
الموت تلك الليلة. قال بصوت خافت: 

- دارون صاحب هذه النظريّة لم يتكلم عن 
«وسيدنا» آدم. . , 

هتف الرجل غاضبا: 

- لقد كفر دارون ووقم في حبائل الشيطان. إذا 
كان أصل الإنسان قردًا أو أيّ حيوان آخر. فلم يكن 
آدم أنا للبشر... هذا هو الكفر عينه. هذا هو 
الاجتراء الوقح على مقام الله وجلاله!! إني أعرف 
أقباطا ويبودًا في الصاغة وكلّهم يؤمنون بآدم. كل 
الأديان تؤمن بآدم فمن أي ملّة دارون هذا؟ إِنّه كافر 
وكلامه كفر ونْقْل كلامه استهتار. خرن أهو من 
أساتذتك في المدرسة؟ 

ما أدععى هذا إلى الضحك لو كان في القلب فراغ 
للضحك, لكنّه قلب أفعمته الآلام. ألم الحبّ 
الخائب. والم الشكٌ وألم العقيدة المحتضرة. إن الموقف 
الرهيب بين الدين والعلم أحرقك. ولكن كيف يَسَع 
عاقل أن يتدكر للعلم قال بصوت متواضع : 

- داروك عالم إنجليزيّ مات منل زمن بعيد. . . 

وهنا نل عن الأ صوت يقول بتهدّج : 

- لعنة الله على الإنجليز أجمعين . . . 

فالتفتا نحوها التفاتئة قصيرة. فوجداها قد تثركت 
الثهاب والابرة وتابعت الحديث؛ ولكن سرعان ما 


انصرفا عنها وعاد الأب يقول: 
- خترني» هل تدرسون هله النظريّة في المدرسة؟ 
التقف حبل النجاة الذي تدلى إليه فجأة. فقال 
لائذًا بالكذب : 


الكو + 
- أمر غريب! وهل تدرّس هذه النظريّة فيها بعد 
لتلاميذك؟ ! 


باكلا مناكتون: فدرين آداك ال غيلؤقة لمنا 
بالنظريات العلمية, . . 

شيرب اند كنا كته وذ تن “تله اللحظة ل 
كان له على العلم بعض ما له على الأسرة من سلطان» 
وهتف محنمًا : 

- إذن لماذا يدرّسونها لكم؟! هل الغاية إدخال الكفر 
في قلويكم؟ 

فقال كال بلهجة المحتح : 

معاذ الله أن يؤثْر في عقيدتنا مؤثر. . . 

فتفخصه بارتياب وهو يقول: 

ولكنّك نشرت الكفر يمقالك! 

- أستغفر الله؛ إن أشرح النظريّة ليلمَ ها القارئ 
لا ليؤمن بباء هيهات أن يؤثّر في قلب المؤمن رأي 
كافر. . . 
ألم تجد موضوعًا غير هذه النظريّة المجرمة لتكتب 
فيه؟ 

لاذا كتب مقالته؟ لقد تردّد طويلا قبل أن يرسلها 
إلى المجلة. ولكنه كان كأتما يود أن ينعى إلى الناس 
عقيدته. لقد ثبتث عقيدته طوال العامين الاين أمام 
عواصف الشكٌ التي أرسلها المعرّي والخيّام» حي 
هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية. 
على أننى لست كافرّاء لا زلت أومن بالله. أما 
الدين...؟ أين الدين؟ ذهب! كما ذهب رأس 
الحسين» وى) ذهبت عايدة» وكيا ذهبت ثقتي بنفسي! 
ثم قال بصوت حزين: 

0 لعل أخطأت. عذري أنني كنت أدرس. هذه 
النظر يقب 
ه ليسن. هذا بعذره وعليك أن تصلح خطأك . . . 


با له من رجل طيّب! إِنّه يطمع في أن يحمله على 
مهاجمة العلم في سبيل الدفاع عن أسطورة. نا لفك 
تعذب كثيرًا ولكنّه لن يقبل أن يفتح قلبه من جديد 
للأساطير والخرافات التي طهره منباء كفى عذابًا 
ومحداعاء لن تعبث بي الأوهام بعد اليومء النور النور؛ 
أبونا آدم! لا أب ليء ليكن أبي قردًا إن شاءت 
الحقيقة. إِنّْه خير من آدميِينٌ لا عدد لهم. لو كلدت من 
سلالة نبي حمًا ما سخرت مي سخريتها القاتلة!. . . 

- وكيف أصلح الخطأ؟ 

فقال السيد ببساطة وحذة معا: 

عندك حقيقة لا شك فيهاء وهي أن الله خلق 
آدم من تراب» وأنّ آدم هو أبو البشرء هذا مذكور في 
القرآنء فا عليك إلا أن تبي أوجه اللخطا وهو عليك 
هين وإلا فيا فائدة ثقافيك؟ 

وهنا جاء صوت الأمّ قائلا : 

ما أيسر أن تبين خطأ من يعارض قول ال رحمن» 
قل هذا الإنجليزيّ الكافر: إِنْ الله يقول في كتابه 
العزيز: إِنْ آدم هو أبو البشرء كان جدّك من حملة 
كتاب الله فعليك أن تنتهج سبيله. لقد سرّني أنك 
تبغي أن تكون مثله من العلاء. . . 

لاح الضيق في وجه السيّدء فانتهرها قائلا : 

ماذا تفهمين أنت من كتاب الله أو من العلم؟ 
دعينا من جذه وانتبهي إلى ما بين يديك. . . 

فقالت في حياء : 

- أريد يا سيّدي أن يكون كجذه من العلاء الذين 
يضيئون الدنيا بئور الله, , . 

فصاح الرجل ساخخطا؛ 

ها هو قد بدأ ينشر الظلام . . . 

فقالت المرأة بإشفاق: 

معاذ الله يا سيّدي. لعلّك لم تفهم. . . 

حتحيا! الكه نظرة ‏ فاليةى لقل خنفت ين عدت 
في معاملتهم فهاذا كانت النتيجة؟ ها هو كيال يذيع أن 
أصل الإنسان قردء وها هي أمّه تناقشه وتقول له لم 
تفهم؟ صاح بها: 

دعيني أتكلّم. لا تقاطعيني» ولا تتدخلٍ فيا لا 


فصر الشوق ”ا 


تفهمين» انتبهي إلى عملك. الله يقطعك. . . 

ثم ملتفتا إلى كيال بوجه متجهم : 

خترنيء هل أنت فاعل ما قلت لك؟ 

عليك رقيب في البيت لم يبتل الأحرار بمثله في 
الدولء لكنّك كا تمخافه تحبّه, فلن يطاوعك قلبك على 
الإساءة إليه . جرع الآلم فقد احترت حياة النضال. . , 

- كيف يمكن أن أردٌ على هذه النظريّة؟ لو 
انحصرت مناقشتي في الاستشهاد بالقرآن لما جاءت 
بجديد. فالكل يعلم بما عندي ويؤمن به أمَا 
مناقشتها علميًا فشأن المختصّين من العلماء. . 

- ولماذا تكتب فيا لا شأن لك به؟ 

اعتراض وجيه في ذاتهء غير أنه من المؤسف أنه لا 
يجد الشجاعة للاعتراف لأبيه بأنه آمن بالنظريّة بصفتها 
حقيقة علميّة, وأنها ببذه الصفة يمكن الاعتراد عليها 
في إنشاء فلسفة عامّة للوجود خارج نطاق العلمء أمّا 
السيّد فقد ظنٌ صمته إقرارًا بالخطا فتضاعف أسفه 
وحنقه. إِنّْ الضلال في هذا الميدان شديد المخطورة 
سبّئْ العاقبة» وهو ميدان لا سلطان له عليه» وريًا 
وجد فيه نفسه مكتوف اليدين أمام الشابٌ الضالٌ كا 
وجد نفسه من قبل أمام ياسين بعد انقلابه من 
وصايته. فهل يجري عليه ما جرى على الآباء الآخرون 
في هذه الآيّام الغريبة؟ ! إِنْ أنباء كالأساطير تترامى إليه 
عن شباب «اليوم؛, منهم تلاميذ قد اعتادوا التدخين. 
وآخمرون يعبئون بكرامات المدرّسين. وغير هؤلاء 
وأولئنك قد تمرّدوا على آبائهم. أجل لم جمن هيبته. 
ولكنٌ عم أسفر ذلك التاريخ الطويل من الحزم 
والصرامة؟ ها هو ياسين يتدهور ويضمحلء وها هو 
كيال يناقش ويجادل ويحاول التملّص من قبضته : 

- أصغ إل بكل وعيك, لا أريد أن أقسو عليك 
فإنك مؤدّب ومطيعء أما عن موضوعنا فلا أملك لك 
إلا النصيحة. وينبغي أن تذكر أنّه ما من أحد قد 
خالف نصيحتي وسلم. . . 

إليك ياسين شاهدًا عدا أقول. وقد نصحت قديا 
«المرحوم» بألا يلقي بنفسه إلى التهلكةء ولو امتدٌ به 


14 قصر الشوق 


العون لكاة رحا تاك 

وهنا قالت الم بصوت كالآنين: 

قتلوه الإنجليزء إنهم إما يُقتلون وإمًا يكفرون! 

وواصل السيّد .حديئه قائلا : 

- إذا وجدث في دروسك ما يخالف الدين. 
واضطررت إلى حفظه كي تنجح في الامتحاد. فلا 
تؤمن بهء ومن باب أولى لا تنشره في الصحف وإلا 
حملت وزرهء ليكن موقفك من علم الإنجليز كموقفنا 
من احتلالهمء وهو عدم الإقرار بشرعيّته ولو فرض 
علينا بالقوة الحبرية. . 

تدخّل الصوت الرقيق الحبي مرّة أحرى قائلا: 

- ولتكرّس حياتك بعد ذلك لفضح أكاذيب هذا 
العلم ونشر نور الله. . . 

فصاح بها السيد : 

قلت ما فيه الكفاية دون الحاجة الى آرائك! 

فعادت إلى ما بين يديباء وجعل السيّد يدق فيها 
متوعّدًا حي اطمأنّ إلى صمتهاء فالتفت إلى كيال 
متسائلا : 

- مفهوم؟ 

فقال كبال بلهجة موحية بالثقة : 

يكل تاكيك 

إذا أراد أن يكتب بعد اليوم فعليه بالسياسة 
الأسبوعيّة حيث لا تمتدٌ يد أبيه الوفديّ, أمَا عن أمه 
فقد وعدها في سره بأن يكررّس حياته لنشر نور الله 
أليس هو نور الحقيقة؟ بلى» وسيكون في تحرّره من 
الدين أقرب إلى الله مما كان في إيمانه بهء فيا الدين 
الحقيقي إلا العلمء هو مفتاح أسرار الكون وجلاله, 
ولو بعث الأنبياء اليوم ما انختاروا سوى العلم رسالة 
لهم. هكذا يستيقظ من حلم الأساطير ليواجه الحقيقة 
المجرّدة, لّمًا وراءه تلك العاصفة ‏ التي صارع فيها 
الجهل حي صرعه ‏ حدًا فاصلا بين ماض خرافيّ وغد 
نورانَء بذلك تتفتّح له السبل المؤدّية إلى الله» سبل 
العلم والخير والجمال» وبذلك يودّع الماضي بأحلامه 
الخادعة وآماله الكاذية وآلامه البالغة. . , 


8 

بعناية واهتهام جعل يتفخص ما تقع عليه عيناه وهو 
مقبل على سراي آل شذاد. فلا عير مدخلها تضاعفت 
عنايته واهتامه بتفخص ما حوله. فقد آمن أخيرًا بأن 
هذه الزيارة ستكون آخر عهده بالبيت وآله وذكرياته. 
كيف لا وقد انتزع حسين في الناية موافقة أبيه عل 
سفره إلى فرنسا؟ تأممّل بملء عينييه ووجدانه الممرّ 
الجائبي المفضي إلى الحديقة, والنافذة المطلة عليه وكان 
طيفها الرقيق الأنيق يطالعه منها بنظرة حلوة لا تعني 
شينًا كنظرات النجوم أو تحيّة رقيقة لا يقصد بها 
شخصه كتغريد البلبل المشغول بفرحته عن السامعين. 
م المنظر الكل للحديقة المبسوط بين مؤشر القصر 
والسور العريض المشرف على الصحراءء وما بين هذا 
وذاك من أعراش الياسمين وجماعات النخيل 
وشجيرات الوردء وأخيرًا الكشك العتيد الذي تمل 
نحت سقفه بنشوات الحبٌ والصداقة. وذكر المكل 
الإنجليري الذي يقول «لا نضع كل بيضك في سلة 
واحدة» وابتسم ابتسامة حزيئة» فإنّْه وإن حفظه منذ 
عهد بعيد إلا أنه لم ينتفع به فوضع عن سهو أو حماقة 
أو قضاء وقدر كل قلبه في هذا البيت» بعضه للحبٌ 
وبعضه للصداقة. وقد ضاع الحث وها هو الصديق 
يحزم أمتعته استعدادًا للرحيل» ومن الغد سيلقى نفسه 
بلا حبيب ولا صديق» كيف يمكن أن يتعزى عن هذا 
المنظر؟ قد الطبع في صدره وعلق قلبه وبات ذا ألفة 
وحنين» القصر والحديقة والصحراء. جملة وتفصيلاء 
كانطباع أساء عايدة وحسين شداد في -حافظته» فكيف 
ينقطع عنه أو يقنع برؤيته من بعيد كسائر الارّة؟ هو 
الذي لشْدة ولعه بالبيت دعا ئفسه يومًا مداعبًا 

بالوئي! . . . 
وكان حسين شدّاد وإسباعيل لطيف جالسين على 
كرسيين متقابلين أمام المنضدة الى وضع عليها الدورق 
التقليديّ والأكواب الثلاثة وكانا كعادتبها في الصيف 
يرتديان قميصًا مفتوح الطوق وبنطلونًا من الفائلة 
البيضاءء فطالعاه بوجهيها المتناقضين: حسين بوجهه 
الجميل الوضيء. وإساعيل بوجهه اللحادٌ الفسمات 


ونظراته التهجمية. فأقبل عليههما ببدلته البيضاء نمسكًا 
بطربوشه الذي تدلدل زرّهء وتصافحواء ثم جلس 
جاعلا ظهره إلى البيث, البيت الذي ولاه من قبل - 
ظهره! وسرعان ما قال إسراعيل محخاطبًا كمال» وهو 
يضحك ضحكة ذات معنى : 

- يتعيّن علينا من الآن أن نبحث عن مكان جديد 

ابتسم كمال ابتسامة باهتة. ما أسعد إسياعيل 
بسخريته التي لم تعرف الألم. وهو وفؤاد الحمزاوي 
اللذان بقيا له. صديقان يؤنسان القلب ولا عازجائه. 
مبرع إليهما هربًا من الوحشة؛ ولا حيلة إلا أن يرضى 


يمأ قسم له. 
- سئلتقي في المقاهي أو الطرقات ما دام حسين قد 
قرر هجرنا. . . 


هر حسين رأسه في أسفء أسف الفائز بأمئية 
عزيزة وهو مجامل بإعلان حزنه على فراق يبون» ثم 
قال : 

- سأغادر مصر وفي قلبي حسرة على فرائكماء 
الصداقة عاطفة مقدّسة. إن أقدّرها من أعباق قلبي, 
والصديق هو القرين الذي يعكس نفسك فيكون 
صدى لعواطفك وأفكارك؛ لا مهم أن نختلف في كثير 
ما دام الجوهر متشابباء لن أنسى هذه الصداقة أبذّاء 
وستصل الرسائل ما بيننا حي نعود إلى اللقاء مرّة 
خرف 
كلام جميل هو العزاء للقلب المكلوم المهجور. 
ألم يكن ما أصابه على يد أخته كافيًا؟ هكذا تتركني 
وحيدًا بلا صديق حقيقئّ» وغدًا يُقتل المهجور ظماً 
إلى الألفة الروحيّة الساخرة. تساءل في كآبة: 

- متى نعود إلى اللقاء مرّة أخرى؟ لم أنس بعد 
تطلّعك الحارٌ إلى السياحة الدائمة» فمن يضمن لى ألا 
يكون ذهابك إلى الأبد؟ 

فآمن إسماعيل على قوله قائلا : 

- قلبي يحدثني بأنَ العصفور لن يعود إلى 
القفص . . 

ضحك حسين ضحكة قصيرة)» غير أنْها وشت 


تسر ورةء م قال : 

- لم أظفر بوافقة بي على سفري حجٌ وعدته 
بمواصلة دراستي القانونية, ولكني لا أدري إلى أي 
مدى سيمكننى المحافظة على وعدي؟ لا استلطاف بيني 
وبين القانون. أكثر من هذا يخيل إل أني لن أصير على 
الدراسة النظاميّة» لا أريد إلا ما أحبّهء وقلبي موززع 
بين معارف شتى لا تجمعها كليّة واحدة كها قلت مرارًا 
وتكرارّاء أريد أن أتلقى مخحاضرات في فلسفة الفنّء 
وأخرى في الشعر والقصص. وأن أرتاد المتاحف 
ومعازف الموسيقى, وأن أعشق والمو. فأ كليّة نحوى 
هذه الألوان حميعًا؟ ! ونْمَة حقيقة أخرى تعرفانها وهي 
أني أفضل أن أسمع على أن أقراء أريد أن يشرح 
غيري لأستمع أناء ثُمْ أنطلق بحواسٌ مجلوة وعقل 
مضيء إلى سفوح الجبال وشواطئ البحور والمشارب 
والمقاهي والمراقص». وسوف تصلكما تباعًا تقاريري عن 
هذه التجارب الفَذَّة! 

كأنه يصف الْنئّة التي نبذ هو الإيمان بها! بيد أمْبا 
جئة سلبيّة تأخذ ولا تعطي. وهو يطمح إلى مثال 
آخرء أمَا حسين فهيهات أن يحنّ إلى مغناه القديم. 
إذا ضمته تلك الحياة الوردية إلى صدرها الرفغيد. 
وكأن إسماعيل كان يردّد خواطره حين قال مخاطيًا 
-حسين : 

- لن تعود إليناء الوداع يا حسين! حلمئا واحد على 
وجه التقصريب. دع جاننا فلسفة الفنٌ والمشاحف 
والموسيقى والشعر وسفوح الجبال. . . ألخ. فنكون 
شخصًا واحدًا! أذكْرك للمرّة الأخيرة بأنّك لن تعود 
القاو + 
وحدجه كال بنظرة متسائلة. كأنما تطالبه برأيه فيما 
قال إسباعيل» فقال: 

- بل ساعود كثيراء ستكون مصر ضمن سياحتي 
الطويلة لأرى الآهل والأصدقاء (ثمٌّ موجهًا المشطاب 
إلى كيال) سوف أنتظر سفرك إلى الخارج بجزع أكاد 
أشعر به من الآن! 

من يدري لعل كذبته تصدق فيجوب تلك الآفاق, 
مها يكن من أمر فقلبه يحدّثه بأنْ حسين سيعود يومًا 


وأنّ هذه الصداقة العميقة لن تضيع هباء. إن قلبه 
الصدوق يؤمن بهذا كما يؤمن بأنْ الحبّ لا تُقتلم 
جذوره من القلب واأسفاه! قال برجاء : 

- سافر وافعل ما تحب ثم عد إلى مصر لتجعلها 
مقامك, على أن تخرج منا سائحًا كلما طابت لك 
البراعة: 

فأمّن إسماعيل على رأيه : 

لو أنّك ابن حلال حقًا لقبلث هذا الحلٌ الوجيه 
الذي يوفق بين رغبتك ورغبتنا. . . 

قال حسين وهو يطامن رأسه كأنما قد اقتنع : 

- سينتهي بي المطاف إلى هذا الحل فيا أعتقد. . . 

كان يصغي إليه وهو يملا من منظره ناظريه. خخاصة 
العينين السوداوين اللتين تشبهان عينى عايدة» ولفتاته 
الجامعة بين السموٌ واللطف» وروحه الشئاف الذي 
يكاد يتمثل أدافة قيلت يرى ونس . إذا غاب هذا 
العزيز فاذا يبقى من نعمة الصداقة وذكرى الحبٌ؟ 
الصداقة التي تلقنتها على يديه ألفة روحيّة وسعادة 
مطمئئة. والحبٌ الذي ألهمه على يد أحته فرحة سماء 
وعذاب جحيم؟! وعاد حسين يقول وهو يشير إليهما 
واحدًا بعد الآخر: 

- عندما أعود إلى مصر ستكون أنت مماسبًا في 
وزارة الماليّة. وأنت مدرّسّاء ولا يبعد أن أجدكا 
والدين! ما أعجب هذا! 

تساءل إسباعيل ضاحكا: 

- هل تستطيع أن تتخيّلنا موظفين؟ تصوّر كال 
مدرْسًا! (ثم موجهًا الخطاب إلى كيال) يجب أن تسمن 
كثيرًا قبل أن تواجه التلاميذء سوف تلقى جيلا من 
العفاريت نحن نُعَدَ بالقياس إليهم من الملائكة, 
وسوف تجد نفسك وأنت الوفديّ العئيد مضطرًا بحكم 
الوظيفة إلى معاقبة المضربين بأمر الوفد! 

أخرجته ملاحظة إسماعيل عن مجرى التفكير الذي 
كان مسترسلا فيه فوجد نفسه يتساءل: كيف يستطيع 
مواجهة التلاميذل برأسه وأنفه المشهورين؟! وججد 
امتعاضا ومرارة» وخيّل إليه ‏ قياسًا على شوادٌ 
الملدرسين الذين عرفهم في حياته ‏ أنه سيلةزم القسوة 


في معاملة التلاميذ ليحمي شخصيّته المهدّدة! غير أنه 
تساءل: ترى هل يسعه أن يكون قاسيًا على غيره كما 
يقسو على نفسه؟ قال ارتمالا : 

- لا أظنّ ني سامتهن مهنة التدريس إلى 
الغباية. . , 
لاحت في عيني حسين نظرة حالة وهو يقول: 

من التعليم إلى الصحافة على ما أظَنٌّ» اليس 
كذلك؟ 

وجد نفسه يفكر في المستقبل. فعاودته فكرة الكتاب 
الجامع الذي حلم كثيرًا بتأليفه» ولكن ماذا بقيى من 
موضوعه الأؤل؟ لم يعد الأنبياء أنبياء؛ ولا اللحئة 
والجحيمء وليس علم الإنسان إِلّا فصلا من علم 
الحيوان. فعليه أن يبحث عن موضوع جديد. قال 
مرتجلا أيضا: 

- لو أمكّن يومًا من إنشاء مجلة للدعاية للفكر 
الحديد! 

فقال إسماعيل لطيف بلهجة الوعظ والا«رشاد: 

- بل السياسة هي السلعة الرائجة. خصّص للفكر 
إذا شئت عامودًا في الصفحة الأخيرة. وفي البلد متسع 
لكاتب وفدي هجاء جديد, . . 

فضحك 2حسين ضحكة عالية» وقال؛ 

- لا يبدو أنْ صاحبنا سياسيٌ إيجاىَ. حَسب أسرته 
ما قدّمت من فديةء أما الفكر فالمجال أمامه واسع 
فيه... (ثم مخاطبًا كال)... لديك ما تقوله. لقد 
كانت ثورتك الإلحاديّة طفرة مفاجئة لم أتوقّعها من 

ما أسيعله ببذه الصفة الجديدة التى وجد فيها تحيّة 
لثورته ومَلَقًا لغروره. قال وقد تورّد وجهه: 

ما أجمل أن يكرّس الإنسان حياته للحقّ والخير 
والجيال! . . . 

سنن إنس فيل لاوا ى :ل اقيمة تا 25 قال 
متهكمًا : 

أاسمعوا وعوا! 

أما حسين فقال جادًا : 

- إن مثلك! ولكيي قانع بالمعرفة والمتعة! 


فقال كمال بحياس وإخلاص: 

الأمر أجلّ من هذاء إِنْهِ كفاح في سبيل الحَقٌ 
يستهدف خير الإنسانيّة جميعاء وبغيره لا يكون للحياة 
معنى في نظري . . . 

رت السام كنا كنت برقن الكرنة كله ره 
بأبيه - وقال: 

إذن فالواجب آلا يكون للحياة معنى! كم تعبت 
وشقيت حبّى تحرّرت من الدين! لم أتعب أنا تعبك, 
ولكنّ الدين لم يكن شغلي أبدًا فهل تعدّني يا ترى 
فيلسوفا بالفطرة؟! حسبي أن أعيش الحياة التي لا 
تحناج إلى تعريف, غير أن هذا الذي أتبعه بالفطرة لا 
تبلغه أنت إلا بالكفاح المريرء أستغفر الله» بل أنت لم 
تبلغه بعد فلا زلت ‏ حبّى بعد إلحادك ‏ تؤمن بالحقيقة 
والخير والجهال وتريد أن تكررّس طا حياتك. اليس هذا 
ما يدعو إليه الدين؟! فكيف تكفر بالأصل وتؤمن 
بالفرع؟ 

لا تبال, رفيق المزاحء لكن لم يبدو ما يؤمن به من 
القِيّم مثارًا للسخرية؟! هبك شُيّرت بين عايدة وبين 
الحياة السامية فأبّهها تختار؟!. . . لكنّ عايدة تتخايل 
لعيي دائما وراء الل! . . . 

قال مقبوة ين عن كاله إذ :طالدية الضمف» 

- المؤمن يستمدٌ حبّه لهذه القيم من الدين» أما الحر 
قيد يا الداع 

رياه متى أراك مرّة أخرى؟ أما إساعيل فضحك 
ضحكة وشت بانحراف تفكيره إلى ناحية جديدة. 
وسأل كيال: 

خثرني آلا زلت تصلي؟ وهل تنوي أن تصوم 
رمضات القادم؟ 

كان دعائي ها أمتع ما في الصلاةء وليالي هذا 
القصر أسعد ما فى رمضان... 

ل أعد من المصلينء ولن أكون من 
الصائمين. . . 

وهل تعلن إفطارك. . . 

ضاحكًا : 
كلا. . . 


قصر الشوى الا 


ائرت التفاق! 

فقال ممتعضًا: 

- ليس من ضرورة تدعوب إلى إيلام الذين 
يد 

فتساءل إسياعيل ساخرًا : 

- أنظنَّ أنك ببذا القلب تستطيع أن تواجه المجتمع 
يومًا بما يكره؟ ! 

كليلة ودمئة!؟ مبجة المقاطرة غفطت على 
الامتعافش. ربّاه هل عبرت على أساس الكتاب الذي 
مم يتبلور في ذهني بعد؟! 

مخاطبة القزاء شبىء. ومخاطبة والدين على الفطرة 
شىء آخر! ا ْ 

فخاطب إسماعيل حسين وهو يشير إلى كال قائلا : 

- إليك فبلسوفًا من أسرة عريقة في الجهل | 

لن يعوزك أن تجد أصدقاء للهو واللغو. ولكتك لن 
تحظطى لروحك بصديق يجحاورهاء فاوّض بالصمت أو 
حاون تتشيلكة: “اسايق :تيناد الصعيف: قليلة :. :وكانت 
الحديقة صامتة أيضًا فلا نسمة تبفوء أمَا الورد 
والقرنفل والينفسج فبيدت وحدها سعيدة بالجرء 
وحسرت الشمس ثوبها المضيء عن الحديقة فلم يبق 
منه إلا حاشية في أعلى السور الشرقيّ. أنهى إسماعيل 
الصمت بأن التفت إلى حسين شدّادء وسأاله: 

- ترى هل يتاح لك أن تزور حسن سليم وعايدة 


هانم؟ 
يالله!... خخفقة قلب أم القيامة قامت في 
صدري؟ ! 


- عندما يستقر بي المقام في باريس»؛ سأفكر حتًا في 
القيام برحلة إلى بروكسل. . . 

ثم وهو يبتسم : 

- تلقينا خطابًا من عايدة الأسبوع الماضي» يبدو أنها 
نعاني متاعب الوحم! 0 

هكذا الألم والحياة توأمانء لست الآن إلا ألم 
خالصًا في ثياب رجلء. عايدة منداحة البطن سائلة 
الإفرازات؟! مأساة أم مهزلة الحياة؟! نعمة اللحياة 


الفناء. ليتنيى أستطيع أن أعرف كنه هذا الأآلم. قال 


4 قصر الشوق 


إسماعيل لطيف: 

سيكون أبناؤها أجانب! 

- من المتفق عليه أن يرسلوا إلى مصر إذا جاوزوا 
طور الطفولة . 

هل تراهم يومًا بين تلاميذك؟ تسائل نفسك أين 
رأيت هذه الأعين فيجيب القلل الخافق أنْها مقيمة هنا 
مئل قديمء وإذا سخر الصغير من رأسك وأنفك فبأي 
قلب تعاقبه! أيّا النسيان. . . هل أنت خرافة أيضا؟ ! 
عاد حسين يقول: 

- شد ما أسهبت في الحديث عن حياتها الجديدة» لم 
تخف سرورها بها حتّى بدا حنينها إلى الأهل مجرّد 
مجاملة . . 

لثل هذه الحياة في الأوطان المثاليّة خلقت. أما 
مشاركتها في الطبائع الآدميّة فعبث من الأقدار التي 
عبثت شتّى مقدّساتك. ترى ألم يخطر بباللها أن تشير في 
خطاها المسهب بكلمة إلى الأصدقاء القدامى؟! ولكن 
س أدراك بأئّها لا زالت تذكرهم؟! وعاودهم الصمت 
مرة أخرى» بدا المغيب يقطر سمرة هادئة. ولاحت في 
الأفق حدأة مولية؛ وترامى إليهم نباح كلب» وأقبل 
إساعيل على الدورق يشرب» وراح حسين يصفر 
بفيه, أمَا كال فكان يسترق إليه النظر بوجه هادئ 
وقلب يتحشر. 

الحر هذه السئة ملعون. , . 

قال إسماعيل ذلك, ثم جفف شفتيه بمنديله 
لحريري المزركش ثم تجشأء وأعاد المنديل إلى جيب 
بنطلونه , 

فراق الأحباب ألعن. . . 

- متى تسافر إلى المصيف؟ 

- في آخخر يونيه . 

أجاب إسماعيل بارتياح» فعاد حسين يقول: 

- ستسافر غدًا إلى رأس اليرّ حيث أمكث أسبوعًا 
معهم. ثم أسافر بصحبة أبي إلى الاسكندريّة فأستقل 
الباخرة في "١‏ يونيه. 

وينتهي تاريخ فثرة من الزمن» وربما انتهى قلب. 
حدّق حسين إلى كال مليّاء ثم ضحك قائلا: 


- نترككم وأنتم على خير حال من الوحدة 
والائتلاف. فعسى أن تسبقنا أنباء الاستقلال إلى 
بأريس. . . 
فهتف إساعيل مخاطبًا حسين وهو يشير إلى كمال : 

- صاحبك غير راض عن الائتلاف! عر عليه أن 
يضع سعد يله في يد الخوئة؛ وعرٌ عليه أكثر أن 
يتحاثئى الاصطدام بالإنجليز فينزل عن الوزارة إلى 
خصمه القديم عدلي. هكذا تجده أشدّ تطرَّفًا من 
زعيمه المقدس نفسه! 

مهادنة الأعداء والخونة خيبة أخرى تتجرّعهاء أىّ 
شىء في هذه الدنيا لم يخب فيه أملك؟ غير أنّه ضيحك 
عالياء ثم قال: 

- بل يشاء هذا الائتلاف أن يفرض على دائرتنا نائبا 
خران] 

وضج ثلانتهم بالضحك. وعند ذاك دبْت في مرمى 
البصر منهم ضفدعة ما لبثت أن توارت في العشب. 
وهفت نسمة مؤذنة بتداني المساءء وتخفف العالم 
المحدق بهم من زياطه وضوضائه. فأذن المجلس 
بالختام » وملأه ذلك بالجزع فجعلت عيئاه تتقلبان في 
المكان لتمتلئا من منظره. هنا بدت أول هرّة باعثة 
شعاع الحبّ. وهنا صدح الصوت الملائكيّ ب «يا 
كال» وهنا دار حوار العذاب حول الرأس والأنف. 
وهنا عالنّ المعبود بخصام التجيّى. وني تضاعيف هذا 
الجو ترقد ذكريات عواطف ومشاعر وانفعالات لو 
مستها يد العبث يوما لأحيت الصحراء ونضرت 
وجههاء املأ من هذا كله عينيك وأرّخه فإِنُ حوادث 
كثبرة تبدو وكأئبا لم تقع لو لم يقيّدها يوم وشهر وعام. 
نما نستعدي الشمس والقمر على خخظ الزمان المستقيم 
لندوره لتعود إلينا الذكريات الضائعة؛ ولكن لا شبىء 
يعود أبداء فذبْ في الدموع أو تسل بالابتسام. ‏ 

وقف إساعيل لطيف وهو يقول: 

آن لنا أن نذهب, . . 

ترك إسماعيل يسبقه إلى عناق صاحبه» ثم جاء 
دوره فتعالقا طويلاء طبع على خدّه قبلة وتلقّى مثلهاء 


فغمت -خياشيمه رائحة آل شدّاد ممثلة في صاحبه. 


زكيّة لطيفة كأئها عبير غير آدميّ. أو نفئات حلم دوم 
في سماء مليثة بالمسرّات والآلام. فافعم بها حناياه حيّى 
ثمل. ولبث صامتا مليًا حبّى يملك عراطفهء غير أنه 
عندما تكلم تهدّج صوته وهو يقول: 

- إلى اللقاء ولو بعد ححين. . . 


5 0 

- لا يوجد أحد إلا الخدم ! 

ذلك لأنّ ضوء النبار لم يكد يختفي بعدء والزبائن 
يفدون عادة مع الليل» هل ضايقك خلوٌ المكان؟ 

- أبدًا. خلوٌ المكان عامل مشجّع على البقاء. 
خاصة وأئبا أول هرّة. 

- للحانات هنا ميزات لا تقدّر بثمن. فهي تقوم في 
طريق لا يقتحمه إلا ع وراء لذَّةَ محرّمة. فلن يكدّر 
صفوك هنا لاثم ولا زاجر. وإذا عثر بك ششخص 
تحترمه كأبيك أو ولي أمرك, كان هو الأحقٌ باللوم 
والأخلق بأن يتجاهلك أو يفرٌ من سبيلك إن 
استطاع . , 

- اسم الشارع وحده فضيحة! 

لكنّه أدعى إلى الطمأنينة من غيرهء لو أنّنا ذهبنا 
إل إحدى حانات شارع الألفي أو عياد الدين أو حي 
حمّد علَِء ل أمنًا أن يرانا أب أو أخ أو عمّ أو ذو 
مال! ولكتهم لا يجيئون إلى وجه البركة فيا أرجو. 

- منطقك سليم», غير أني لا زلت مضطربًا. 

- صيرك, المقطوة الأولى دائً) عسيرةء ولكنّ الخمر 
مفتاح الفرج. لذلك أعدك بأنّك ستجد الدنيا عند 
ذهابئا ألطف وأعذب مما عهدتها قبل ذلك. . . 

- حدّثني عن أنواع الخمورء أبّها الأوفق أن أبدأً 
به؟ 

- الكونياك عنيف وإذا مرج بالبيرة فَقّلُ على شاربه 
السلام: الويسكي مقبول الطعم جيّد الأثرء أمًا 
الي 
لعل الزبيب ألذَّها! ألم تسمع صالح وهو يغ 
«وسقاني شراب الزبيب!». . . 

- طالما قلت لك إِنّه لا عيب فيك إِلَّا الإغراق في 


قصر الشوق 4 


الخيال» الزبيب أقبحها رغم أنف صالح. فيه طعم 
الأنيسون الذي تمزع منه معدتي» فلا تقاطعني . . . 

| 

وهناك البيرة. ولكنها شراب الحرٌ ونحن والحمد 
لله في سبتمير. وهناك النبيذ. غير أنّْ عاقبته لطسة بنت 

- إذن. . . إذن. . . فهو الويسكي . . . 

- برافو! توسّمت فيك النجابة من قديمء ولعلّك 
توافقني بعد قليل على أنّْ استعدادك للهزل يفوق 
استعدادك للحقيقة والخير والجهال والوطنيّة والاإنسانية 
إلى آخر هذه القائمة من الخزعبلات التي تُتعب بها 
قلبك دون جدوى. . . 

ونادى النادل» فطلب كأسين من الويسكى . 

- من الحكمة أن أقنع بكأس واحدة. . ْ 

- قد تكون هذه هي الحكمةء غير أنّنا لى نجع هنأ 
لطلب الحكمة. وسوف تعلم بنفسك أن الحنون أللّ 
من الحكمةء وأنّ الحياة أخمطر من الكتب والفكرء 
اذكر هذا اليوم ولا تنس صاحب الفضل عليك . . . 

لا أحبٌ أن أفقد الوعيى. أخخاف أن. . 

- المهم عندي أن أجد الشجاعة للسير في الدرب 
إيّاه بلا تردّدء وأن أدخخل عند الحاجة . . . 

- اشرب حيّى تشعر بأنك لا تبالي أن تدخل . . . 

00 أرجو آلا أندم على فعلتي فيها بعد. . . 

- تندم؟! طالما دعوتك من قبل فكلت تعتذر 
بالتقوى والدين. ثم جاهرت بأنك بعد زوين 
بالدين» فكرّرت عليك الدعوة. فيا أعجب إلا 
لرفضك باسم الخلق! لكن يجب أن أعترف بأنئك 
انبعت المنطق أخيرًا. . . 

أجل أخيرًا. بعد فترة من القلق والحيرة بين أبي 
العلاء والخيّام. أو بين التقشَّف واللدّة. وقد نزع به 
طبعه إلى مذهب الأؤلء فإنّه وإن يشّر بحياة قاسية إل 
ئها وافقت ما نشأ عليه من تقاليد. ولكنه لم يدر إلا 
ونفسه تبفو إلى الفناء. وكأنّ صونًا خفيًا راح يمس في 
أذنه: لا دين ولا عايدة ولا أمل؛ فليكن الموثتف. عند 


قصر الشوق 


ذاك ناداه الخيام بلسان هذا الصديق فلبّى عتفظا 
بمبادئه السامية رغم هذاء وإن يكن قد وسع من معنى 
الخير حتّى وسع مسرّات الحياة جميعاء قائلا لنفسه: إن 
الايمان بالحقيقة والجمال والإنسانية أسمى أنواع الخير. 
وإنّه لذلك كان ابن سينا يختم يوم الفكر بالشراب 
والحسان. ومهما يكن من أمر فإنّه لم يجد سوى هذه 
الحياة الواعدة منقذًا من الموت. . 

إن معك في هذاء ولكتّى لم أتخل عن مبادثي . . . 

أعلم أنّك لن تتخلى عن أوهامك» طول العشرة 
جعلها حقيقة أكثر من الحقيقة نفسهاء لا بأس أن ثقرأ 
بل وأن تكتب ما وجدت قرّاء. اجعل من الكتابة 
وسيلة للشهرة والثروة؛ ولكن لا تأخذها مأخذ الحذٌ. 
كنت متديّنًا عنيفاء وأنت الآن ملحد عنيف. دائثمً) 
عنيفء قلق كأنّك مسئول عن البشرية. الحياة أبسط 
من هذا كلهء مركز في الحكومة يرضي النفس وببتئ 
مستوى لا بأس به من المعيشة» استمتاع بلذات الحياة 
بقلب متفتح ال من الهمومء استمساك بقدر من 
القوّة والاعتداء عند اللزوم يضمن لك الكرامة 
والفوز» فإذا وافقت هله الحياة الدين فبها ونعمت» 
ولا فذنبه على جنبه. . 

الحياة أعمق وأعرض من أن تنحصر في شبيء واحد 
ولو يكون السعادة نفسهاء اللذّة ملاذي ولكنّ ارتقاء 
الجبال الصعبة سيظلٌ مطلبي ؛ عايدة ذهبت فيجب أن 
أخلق عايدة أخرى بكل ما ترمز إليه من معان أو 
فلتذهب الحياة غير مأسوف عليها. 

- ألم تشغل فكرك أبذدًا بما فوق هذه الحياة من 
معان؟ 

- هق! شغلت عن ذلك بالحياة نفسها أو بالحري 
بحياتي أناء ليس في بيتنا كافر وليس فيه متدين, 
وهكذا أنا! 

صديق ضروري مثل وقت الفراغ. شا المنظر مثل 
منظرك: موصول الذكريات بعايدة فهو في القلب. رائد 
هله الدروب الغناءء جبّار إذا تمذّيته. يفتقد في 
المسرّات دون الحدّ والمليّات» ليس فيه للروح 
موضوع» غاب وراء البحار صديق الروح والعقل . . . 


فؤاد الحمزاوي ذكي ولكن لا فلسفة له؛ نفعيّ حبّى في 
تذوق الجال. . . يبغي وراء الأدب بلاغة ينتفع مها في 
تحبير المرافعات» من لىي بوجه -حسين وروحه؟! وجاء 
النادل فوضع على المنضدة كأسين طويلين مضلعي 
الكعب. وفضٌ سدادة قارورة الصودا وصبٌ في 
الكأسين فتحول الذهب إلى بلاتين مموه باللالى. 
ورص أطبق السلطة والحبن والريتون اتدل ثم 
ذهب. ردّد كبال بصره بين كاسه وبين إسياعيل. فقال 
الأخير باسمًا: 

- افعل كيا أفعلء ابد بجرعة كبيرة» صححتك . . , 

غير أنه اكتفى بحسوة وراح يتذوّقهاء ثم لبث 
يترقب. .. ولكنّ عقله لم يطر كما كان يتوقع فتجرّع 
جرعة كبيرة» ثم تناول قطعة من الحبن ليغير الطعم 
الغريب الذي انتشر في فيه . 

- لا تتعجلني ! 

العجلة من الشيطان. لمهم أن تترك مكانك 
وأنت على حال تمكنك من اقتحام ما تريد. . 

ما الذي يريد؟ امرأة ممّن استثرن تقززه ونغوره وهو 
مفيق فهل جحل الشراب مرارة الابتذال. كان يناضل 
الغريزة بالدين وعايدة؛: أما الآن فقد حلا للخريسزة 
الجو. غير أنْ حافرًا آخر للمغامرة هو أن يكتشف المرأة 
ذلك المخلوق الغامض الذي تنطوي عايدة نفسها تحت 
جسه ولو كره. لعل في ذلك عزاء عن السهاد 
والدموع المطويّ سرّها في جوف الليل المكتوم, 
وتكفيرًا عن العذاب الدامي الذي لا أمل في التداوي 
منه إلا بالياس والذهول. الآن يستطيع أن يقول إِنه 
خرج من زنزانة الاستسلام ليخطو الخطوة الأولى في 
طريق النلاص وإن يكن طريقًا تحمورًا محفوفًا 
بالشهوات والمكاره. وتجرع جرعة أخرى وانتظرء ثم 
ابتسم. . . أما باطنه فكان حتفل بمولد إحساس جديد 
ينفث حرارة وصبوة» فتابعه مستسل) كا يتابع نغمة 
حلوة. وكان إسماعيل يراقبه بإمعان» فقال باسم): 

- أين حسين ليشهد بنفسه هذا المنظر؟ 

أين حسين أين؟ ! 

- سوف أكتب له عنه بنفسي. هل رددثت على 


رسالته الأخيرة؟ 

- نعم. رددت برسالة موجزة كرسالته. . . 

له وحده أسهب وأفاض حيّى سججل كل خخاطرة» يا 
للسعادة التي نخصٌ عبا وحده؛ ولكن لا ينبغي أن يبوح 
بسر رسالته أن يشر غيرة مدرّبه. . 

- كانت رسالته إل موجزة أيضًا فيما عدا الحديث 
الذي تعرفه ولا محبه ! 

- الفكر! (نْمْ وهو يضحك). . . ما حاجته إلى هذا 
هو الذي سيرث ثروة تملأ المحيط. ما سر ولعه هذه 
الخزعبلات؟ التكلف أم الغرور أم الاثنان معًا؟! 

جاء دور حسين يمل تحت المطرقة» ترى ماذا تقول 
عفني في غيابي؟! 

- لا تنافض بين الفكر والغنى كما تظنّء لقد ازدهر 
الفكر في اليونان القديمة بفضل بعض السادة الذين لم 
يشغلهم طلب الرزق عن التفرغ للعلم. . . 

افيا ا رسكن 

أفرغ بقيّة كأسه وترقب. ثم تساءل هل مرت به 
حال كهذه من قيل؟ نافث الحرارة الوجدانيّة ينطلق في 
الدورة الدموية. يجرف في طريقه الفجوة التي تتجمع 
بها نفايات الأكدارء قمقم النفس يتفككك للخام أحزانه 
فتطبر منه عصافير المسرّات تر عقخ . برهك ضندق: تمه 
مطربة.ء وهذه ذكرى أمل واعد. وذاك طيف مبجة 
عابرة» الكثمر لعاب كله السعادة. 

- ما رأيك في كأسين أختريين؟ 

- عمرك أطول من عمري. . . 

ضحك إساعيل ضحكة عالية وهو يومئ إلى النادل 
بإصبعهء ثم قال بارتياح : 

- أنت سريع الاعثراف بالجميل. . . 

ا ل م 

وجاء النادل بالكاسين والمزة. وأخذ الزبائن يفدون 
مطربشين ومقبعين ومعمّمين» فيستقبلهم النادل بمسح 
وجوه المناضد بالمناشف إذ كان الليل قد أقبل وأضيئت 
المصابيح فتألقت المرايا الملتصقة بالجدران مصورًا على 
أسطحها قوارير الديوارس والجون ووكرء وترامت من 
الخارج ضحكات ملعلعة كالأذان غير أثها تدعو 


قصر الشوق ١/ا/‏ 


للفجورء وصوبت نحو منضدة الصديقين المراهقين 
نظرات إنكار متسامح باسمء ثم ورد من الطريق بائع 
جمبري صعيدي فبائعة فول ذات ثليتين ذهبيتين. 
وماسح أحذيةء وصبئّ كبابجئ هو في الوقت ذاته قواد 
كما دل ترحيب الجلوس بهء وقارئ كفٌ هندي, ثم لا 
تسمع هنا وهناك إلا وصحتك» وها هاء وفي مرآة تل 
رأس كمال مباشرة نظر فرأى وجهه مورّدًا وبصره لامعًا 
باساء وفيها وراء صورته عكست المرآة منظر رجل 
عجوز وهو يرفع كأسه إلى فيه ثم يتمضمض بحركة 
أرنبية ويزدرد الشراب» مم يقول لخليسه بصوت 
مسموع «المضمضة بالويسكي سنّة عن جد لي مات 
وهو يسكر» فحول كيال وجهه عن المرآة» وقال 
لاوسماعيل : 

نحن أسرة محافظة جدّاء أنا أوْل ذائق 
فيها. . . 
فهزٌ إسراعيل منكبيه هازئاء ثم قال: 

- كيف تحكم على ما ليس لك به علم؟ هل 
شاهدت شباب والدك؟ أمَا أبي فيتناول كأسا مع 
الغداء وأخرى مع العشاءء وقد أمسك عن الشراب 
في الخارجء أو هذا ما يدّعيه أمام والدتي. . . 

لعاب إله السعادة يتسرّب إلى مملكة الروحء وهذا 
الانقلاب الغريب الذي حدث في لحظات لا تقدر 
البشريّة على إدراكه في أجيال وأجيال» وهو في جملته 
يجود بمعنى باهر جديد لكلمة «السحر»؛ وأعجب شبيء 
أنه لم يكن جديدًا كل الجدّة فلعلّه طاف بالروح مرّة 
ولكن مى وكيف وأين؟ إنّه موسيقى باطنيّة تعزفها 
الروح وما الموسيقى المعهودة بالقياس إليها إلا كقشور 
التفاح بالقياس إلى لبابهء ترى ما سرٌ السائل الذهبي 
الذي صنع هذه المعجزة في لحظات معدودات؟ لعلّه 
طهر مجرى الحياة من الزبد والرواسب فانطلقت وثبة 
الحياة المكبوتة كيا انطلقت أول مرّة حريّة مطلقة ونشوة 
خالصة» فهذا هو الشعور الطبيعيّ بوثية الحياة إذا 
تحرّرت من ربقة الجسد وأغلال المجتمع وذكريات 
التاريخ ومخاوف المستقبل» موسيقى رائقة نقيّة تقطر 
طربا وتصدر عن طرب, مثلها طاف بروحي من قبل 


؟// قصر الشوق 


ولكن متى وكيف وأين؟ آه... يا للذكرى. . . إنّبا 
الحث! يوم نادت ديا كبال» أسكرتك وأنت لا تدري 
ما السكر فقرٌ بأنك سكير قديم. وأنّك عربدت دهرًا 
في طريق المهوى المخمور المعبد بالأزهار والرياحين. 
كان ذلك قبل أن يتحول قطر الندى الشفاف إلى 
وحل. فالخمر روح الحبٌ إذا انجابت عنه بطائة 
الآلام. فحبٌ تُسكر أو اسكر تحب. . 

الحياة حميلة مهما قلت وأعدث. . . 

ها هاء أنت الذي تقول وتعيد. . 

طبع المقاتل على خدٌ غريمه قبلة صافية فحل السلام 
على الأرض» وغرّد البلبل فوق غصن ريانء فطرب 
العاشقون في أربعة أركان المعمورة؛ وطار طائر 
الأشواق من القاهرة إلى بروكسل مارًا بباريس فاستقبل 
بالحئان والأناشيد. وتخبن 0 شباة قلمه في مداد 
قلبه فسجّل وحيّا منرلاء : ثم آوى المجرب إلى 
شيخوخته فألمّت به ذكرى 7 بعت في صدره ربيعا 
مكثماء أما أسلاك الشعر الأسود المسدل على الحبين 
فكعبة يتّجه إليها الثملون في حانات الوجد. 

- كتاب وكأس وحسناء وارمني في البحر! 

ها هاء سيفسد الكتاب الكأس والحسناء 
والدن. 

- لسنا متفقين في فهم معنى اللذّة تراها أنت لوا 
وعبئًا وهى علدي الحك كل الجذع هذه النشوة الآسرة 
هي سر الحياة وغايتها العلياء وما الخمر إلا بشيرها 
والمثال المحسوس المتاح لماء وكيا كانت الحدأة مقدمة 
لاحتراع الطائرات,» والسمكة تمهيذًا لاختراع 
الغواصة. فالخمر ينبغي أن تكون رائد السعادة 
البشريّة. والمسألة تتلخص فى هذه الكلمة: كيف 
نجعل من الحياة نشوة دائمة كنشوة الثمر دون 
الالتجاء إلى الخمر؟ لن نجد الجواب في النضال 
والتعمير 00 والسعي, فكلّ أولئك وسائل وليست 
بغايات. السعادة لن تتحققٌ حتى لفرغ من استشلال 
الوسائل كلها لنتمكن من أن نحيا حياة عقلية روحية 
خالصة لا يكدرها مكدر هله هي السعادة التي 
أعطتنا الخمر مثالها. كل عمل وسيلة إليها أما هي 


فللست «وشتيلة لكوع 

الله يخرب 535 1 

لمه؟1. , 

- كان أملي أن أجدك في نشوتك محدّنًا طريما 
لطيفًاء ولكنّك كالمريض يزيد مرضه الخمر استفحالاء 
فيم تتحدّث يا ترى إذا شربت الكأاس الثالثة؟ 

- لن أشرب أكثر مما شربت» إني الآن سعيد وفي 
وسعي أن أدعو أيه امرأة تعجبنى . . 

هلا انتظرت قليلا؟ 

ولا دقيقة واحلة ., . 

سار متأبطًا ذراع صاحبه غير هيّاب ولا متردّد. 
ينتظمه تيار من البشر يتلاطم مع تيار آخر قادم من 
الوجهة المضادّة؛ في طريق ملتو ضيّق برؤاده. كانت 
الرءوس تدور إلى اليمين تارة وإلى اليسار أخرى» 
وعلى الجانبين بدت مضيفات الطريق قائيات وقاعدات 
يقَلْبن في وجوههنٌ المقنعات بالزواق الفاقم أعين 
الترحيب والإغراء؛ ولا تمض آونة حقّ يمرق أحدهم 
من التيار إلى إحداهن فتتبعه إلى الداخل وقد مسحت 
عن عينيها نظرة الإغراء لتحلٌ تحلها نظرة الجدّ 
والعمل. وكانت المصابيح المركبة فوق أبواب البيوت 
والمقاهي تضىء الطريق بأنوار ساطعة انعقدت في 
أعاليها سحب الدخان المتطاير من بخور المجامر وتبغ 
االجوز والنارجيلات,» أمًا الأصوات فقد تلاقت 
واختلطت في دؤامة صائحبة دارث بها الضحكات 
والمتافات وصرير الأبواب والنوافذ وعزف _البيائو 
ومزيكة اليد وتصفيق الأيدي الراقصة وزعيق الشرطيئ 
والشخير والنخير وسعال الحشاشين وصراخ السكارى 
واستغاثات مجهولة وقرع عصي وغناء فرديّ وجماعىّ. 
وفوق الجميع لاحت الساء قريبة من أسطح البيوت 
البالية ترنو إلى الأرض بأعين لا تطرف. كل حسناء 
هنا في متناول اليدء تجود بحسنها وأسرارها نظير عشرة 
فروش لا غيرء فمن كان يصدّق هذا قبل أن يراه؟ 
وخاطب إسماعيل قائلا: 

- هارون الرشيد يخطر في بهو الحريم. . 

فتساءل إسماعيل ضاحكا: 


- ألم تعجبك جارية يا أمير المؤمنين؟ 

فأشار كيال إلى بيتء وقال: 

- كانت تقف عند هذا الباب الخالي؛ ترى أين 
ذهيبت؟ 

مع زيون في الداخل يا أمير المؤمنين» فلينتظر 
مولانا حي يقضى أحد رعاياه وطره. . . 

عواكت 1م تمد ضالّتك؟ . . 

- إن قديم عهد بالطريق وأهله؛ ولكتي لن أمضي 
إلى وجهتي حيّ أسلمك إلى صاحبتكء ماذا أعجبك 
فيها؟! يوجد أجمل هنبا كثيرات. . 

سمراء لم يطمس الزواق سمرتهاء وفي حنجرتها وتر 
يذكر من بعيد بتلك الموسيقى الخالدة» وقد تجد العين 
نوعا من الشبه بين بشرة المختنق وأديم السسماء 
الصافية : 

- أتعرفها؟ ! 

تدعى هنا وردةء وأسمها الحتقيقئ عيوشة. 

عيوشة ‏ وردة! لو يستطيع الإنسان أن يغير ماهيّته 
كما يغيّر اسمه! في عايدة نفسها شيء يشبه مركب 
عيوشة ‏ وردة؛ وفي الدين.؛ وفي عبد الحميد بك 
شدّاد. وفي الآمال العريضة., أوَّاه!. لكنّ الخمر 
ترفعك إلى عرش الآلحة فترى هله المتناقضات غارقة في 
أمواج الفكاهة المقهقهة. مستحقّة للعطف. وشعر 
بكوع إساعيل ينهزه في جنبه وهو يقول (دورك)» فنظر 
صوب الباب فرأى رجلا يغادر البيت متعجلاء وإذا 
بالمرأة تعود إلى موقفها ىا رآها أوّل مرّة فانجه نحوها 
بقدمين ثابتتين فتلقته بابتسامة» ثم مضى إلى الداخل 
وهي قُْ أثره تغني «أرخي الستارة الل في رمحنا». . . 
ووجد سلا ضِيّقًا فرقي فيه وقلبه يخفق حيّى انتهى إلى 
دهليز يفضي إلى صالة. وصوتبا يلاحقه قائلا من حين 
لآخر «يمينك»,. «شالك؛», «هذا الباب الموارب». 
حجرة صغيرة مورقة الجدران» مكونة من فراش 
وتسريحة ومشجب وكرسئّ خحشب وطست وإبريق. 
ووقف في وسط الحجرة كالمرتبك وعيناه تراقباما. 
ومضت هي تغلق الباب والنافذة الى كان يترامى منها 
صوت دفٌ وصفارة وتصفيق» ولاح وجهها في أثناء 


قصر الشوق ا 


ذلك جادًا بل أقرب إلى العبوس والصرامة حي تساءل 
ساخرا عما تبيته له. ثم واجهته وراحت تقيسه بعينيها 
طولا وعرضّاء ولا مرّتا برأسه وأنفه دَاخَلّه قلق. غير 
أنه أراد أن يتغلّب على قلقه فاقترب منها فاتحا ذراعيه. 
ولكنّها استنظرته بحركة جاقّة من يدها وهي تقول 
«انتظر» فتسمّر في مكانه. بيد أنه كان مصمًُا على 
تذليل العراقيل» فقال باسرًا فيا يشبه السذاجة : 

أنا اسمي كيال. . . 

فحدجته بنظرة داهشة وهى تقول: 

اقل نكا ا وب ْ 

ناديني! قولي لي ديا كيال»! 

فقالت وما تزداد إلا دهشة: 

لماذا أناديك وأنت أمامي كالرزية؟ ! 

أعوذ بالله! ترى أتمازحه؟ وازداد تصميً) على إنقاذ 
الموقففء فقال: 

قلت لي انتظرء ماذا أنتظر؟ 

ل هلا للكا سق م : 

قالت ذاك: ثم نزعت ثوبها بحركة مهلوانية ووثبت 
إلى الفراش ففرقع تحت ثقلهاء واستلقت على ظهرها 
وراحت تربئت بطها بأناملها المهضبة بالحناء. انتسعت 
عيناه إنكاراء لم يكن يتوقع هذه المفاجأة البهلوانيّة, 
وشعر بِأنْ كلا منبها في وادء» وما أبعد المدى بين وادي 
اللذّة ووادي العمل. . . انهدم في لحظة ما أقامه الخيال 
في أيّام. وجرت مرارة الامتعاض في ريقهء غير أن 
الرغبة في الاكتشاف لم تفتر فغالب انزعاجه ثم حرّك 
ناظريه صوب الحسد العاري حتى استقر على هصدف 
وبدا حيئًا كأنّه لا يصدّق عينيهء وأحدّ بصره في انزعاج 
وتقزّز حبّى شعر في النباية ما يشبه الرعب. أهذه هي 
الحقيقة آم أنّه أساء اختيار المثال؟ ولكن مهما يكن من 
سوء اختياره فهل يغيّر هذا من الجوهر؟! ونرزعم أنْنا 
نحبٌ الحقيقة! شد ما ظلموا رأسك وأنفك! وحدّثته 
نفسه بالهرب». وأوشك أن يصغي إليهاء ولكنّه تساءل 
فجأة لماذا لم يبرب الرجل الذي سبقه؟ وماذا يقول 
لإسماعيل إذا عاد إليه؟ كلا لن يبرب» لن يتراجع أمام 
المحنة . . 


14 قصر الشوق 


ما لك واقفًا كالتمثال؟ 

هذه النبرة التي هرّت الفؤاد. لم تكذب الأذنان 
ولكنّ الجهل كذاب؛ سوف تضحك كثيرًا من نفسك 
ولكن وأنت ظائر لا هاربء هب الحياة مأساة فعليك 
أن تلعب دورك, 

- أتقف هكذا حي الفجر؟! 

قال ببدوء غريب: 

- نطف النور. . . 

فهبت جالسة في الفراش وهي تقول بجفاء وحذر: 

- بشرط أن أراك في النورا 

تساءل في إنكار: 

لمه؟ 

- حبّى أطمئنٌ إلى صحّتك! 

وتجرد للاختبار الصِحّيّ في منظر بدا له آية في 
المزلي م ساد ظلام دامس . 

وعندما عاد إلى الطريق كان يحمل بين جنبيه قلا 
فاترًا مليئًا بالحرن. وخيّل إليه أنّه وسائر البشر يعانون 
تدهورًا مؤلمً وأنْ الخلاص منه بعيد. ورأى إسماعيل 
مقبلا نحوه راضمًا ساخخرًا متعبًا وهو يتساءل : 

ع كقو سال القلملة 

فتأبئط ذراعه وسار به يسأله بدوره جادًا : 

- هل النساء جميعًا متشاءبات؟ 

تألقى عليه الشابٌ نظرة متسائلة. فأفصمم له كيال 
عن شكوكه ومخاوفه في عبارة موجزة. فقال إساعيل 
باسم) : 

- على العموم الأصل واحد وإن اختلفت 
الأعراض! إِنك مضحك لدرجة تستحقٌ الرئاء. هل 
أستدتج من حالك أنّك لن تعود إلى هنا مرّة أخحرى؟ 

- بل سأعود أكثر مما تظنٌ: دعنا نشرب كأمًا 
أخرى, . 

ثم وكأنه يحدّث نفسه: 

- الجمال. . . الجمال!. . . ما هو اللتمال؟ 

تاقت نفسه في هذه اللحظة إلى التطهّر والانعزال 
والتاقل» وحن إلى ذكرى الحياة التي عاشها معذَّبًا في 


0 
٠ 


ظل المعبودة: ثم بدا وكأنه آمن بقسوة الحقيقة إلى 


الأبد. أيجعل من الإعراض عن هذه الحقيقة مذهيه؟ 
سار متفكرًا في طريق احانة يكاد لا يلقي بالا إلى ثرثرة 
إسماعيل. إذا كانت الحقيقة قاسية فالكذب دميمء 
ليست الحقيقة قاسية ولكنّ الانفلات من الجهل مؤْم 
كالولادة. اجر وراء الحقيقة حي تنقطع منك 
الأنفاس. ارض بالألم حبّى تخلق نفسك من جديدء 
هذه المعاني تحتاج إلى عمر لاستيعاءها. عمر من التعب 
تتخلله سويعات من الخمر. . . 


دن 

أمَا هذا المساء فقد جاء كمال الدرب وحدهء جاء 
ثملا يترئم بصوت هامس. غير هيّاب وهو يشقّ بين 
تيار البشر الصاخحب سييلا. ووجد باب وردة خخاليا 
ولكنّه لم يتردّد كما فعل أوّْل عهده بالدرب. وإا قصد 
البيت ودخل دون استئذان فارتقى السلّم حيّى انتمى 
إلى الدهليزء وهناك مد بصره إلى الباب المغلق الذي 
بدا ضوء في ثقب مفتاحه. ثم مال إلى حجرة انتظار 
فألفاها الحسن الحظ خالية وجلس على مقعد خشبي 
ماذا ساقيه في ارتياح. وبعد مرور دقائق سمع صرير 
الباب وهو يفتح فتوثب للقيام» وغادر الرجل الآخر 
الحجرة كا نمت عليه أقدامه متّجهًا نحو السلّمى 
فتريْث الحظات ثم مض وذهب إلى الدهليز» فرأى 
وردة خلال باب حجرتها المفتوح وهي تعيد ترتيب 
الفراش» فلا لمحته ابتسمت وهتفت به أن يعود إلى 
مجلسه دقيقة واحدة. فعاد من حيث أق وهو يبتسم في 
ثقة. ثقة الزبون الذي جاز فترة الحضانة . ولم تكد تر 
دقيقة على جلوسه حقٌّ ترامى إليه وقع أقدام صاعدة 
فاستقبلها بضيق؛ لأنه يكره البقاء مع غيره من 
المتتظرين غير أنْ القادم انمه نحو حجرة وردة» وسا 
- كال أن سمع المرأة وهي تخاطب القادم قائلة 
برقة : 

- عندي زبون فاذهب إلى الحجرة وانتظر. . . 

ثم رفعت صوتها منادية إيّاه وهي تقول «تفضّل». 
فقام كال وغادر الحجرة دون تردّد فالتقى بالقادم في 
الدهليز؛ وجد نفسه وجها لوجه مع ياسين! التقت 


عيناهما في نظرة ذاهلة. وسرعان ما غض كيال -جفنيه 
وهو يلوب تجلا وارتباكًا واضطراناء وأوشك أن 
يندفم هاربًا لولا أن عاجله ياسين بضحكة عالية رِنْت 
في سقف الدهليز رنيئا عجيبّا فرفع الشابٌ إليه عينيه 
فرآه فاتحا ذراعيه وهو يبتف في سرور: 

- يا ألف ليلة بيضا!. . . يا ألف نهار سلطايٌ! 

وقهقه عاليًا فتعلق به نظر كمال في ذهول» ولي 
طالع فيه المرح الصافي جعل يفيق إلى نفسه حي 
ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة متسائلة» ثم رجعت 
إليه الطمأنيئة وإن لم يقارقه الحياء. وراح ياسين يقول 
بصوت خخطابي : 

هذه ليلة سعيدة, الخميس 7١‏ أكتوبر سنة 
5 ليلة سعيدة حقّاء ويجب أن نحتفل بها كل 
عام. ففيها تكاشّف أَخَوان. وفيها ثبت أن صغير 
الأسرة يتقدّم حاملا لواء تقاليدها المجيدة في عام 
اللذات! . , , 

وعند ذاك جاءت وردة وهي تسأل ياسين : 

- صديقك؟ 

فقال ياسين ضاحكا: 

سل أخي ابن أبي وأ.... كلا ابن أبي فقط. 
أرأيت أنك معشوقة الأسرة يا بنت اللذين؟! 

فتمتمت قائلة «عفارم»» ثم خاطبت كال قائلة : 

واجب الأدب يقضي بأن تنزل لأخيك الأكبر عن 
دورك يا نونو. . . 

فضحك ياسين ضحكته الكبيرة» وقال: 

- واجب الأدب! منذا الذي علّمك آداب 
الوصل؟! تصوّري أشما ينتظر أخاه على الباب! . . , 
هاد و هنا... 

فرمقته بنظرة تحذير وهي تقول: 

اضحك بصوتك المخيف حيّى تسمع البوليس يا 
كي وكيك تعذر ما دام أخوك النونو لا ييكني إلا 
مترنسحا! 

حدج ياسين كمال بنظرة دهش وإكبار» ثم قال: 

أعرفت هذا أيضًا! رباه حمًا إِنّنا أولاد حلال؛ 
أولاد حلال بالمعنىء قرّب فاك لأشمّه! ولكن لا فائدة 


قصر الشوق هلال 


من ذلك فالسكران لا يشم رائحة السكران». خبّرني 
الآن: ما رأيك في هذه الحكمة التي تعلّمتها من الحياة 
لا من الكتب؟. . . (ثمٌ وهو يشير إلى وردة). . . إِنْ 
زيارة واحدة لبنت الملسوعة هذه تعادل مطالعة عشرة 
كتب محرمة. إذن فانت تسكر يا كيال؟! يا ألف غبار 

* أبيض! نحن أصدقاء من قديم الزمان» أنا أوّل من 
عل., 


- الله الله! . . . هل أنتظر حتّى مطلع الفجر! 
دفع ياسين كيال وهو يقول: 

ادخل معها وسوف أنتظر أنا. . . 

ولكنّ كيال تقهقر وهو يبز رأسه بالرفض القاطع. 


ثمّ تكلم لأول مرّة قائلا : 


باكا رن لينو دب لمق الليلة: 


ودس بذه قُِ جيية فأخرج نصف ريال ثم أعطاه 


المرأة . فهتف ياسين بإعجاس : 


تحيا الشهامة! لكتنى لن أتركك وحدك. . . 
وربت كتف وؤردة مودعًا؛ ثم تأبط ذراع كال وذهيا 


- يجب أن نحتفل عبلذه الليلة فلنمض بعض 
الوقت في بارء إن عادة أشرب في شارع محمد عل مع 


نفر من الموظّفين وغيرهم. ولكنّ المكان غير مناسب 
لك فضلا عن بعده. فلئختر مكانًا قريئًا حي نتمكن 
ب العودة بف كرو دك" قورف اكه عد ل الود 


المبكرة مندذ زواجي الأخير» أين سكرت يا بطل؟ . . . 
غمغم كمال في حياء : 
لو 1 
عال! هلم نذا إليه . قتع بوقتك دوك تباونء 


فخدًا حين تصبح معلا سيتعذر عليك زيارة هذا الحيّ 
ببيوته وحاناته (ثمم وهو يضحك): تصور أن يلقاك هنا 
أحد تلاميذك! على أنْ ميدان اللهر واسع وسوف 
تتدرّج فيه من حسن إلى أحسن . . . 


ومضيا إلى فنش صامتين. كان من حسن الح أنْ 


العلاقة بين ياسين وكهال لم تفتر بعد هجرة ياسين 
للبيت القديم» ولم يكن بينهيا كلفة» إذ كان من طبع 
ياسين ألا يعنى بحقوقه التي تكفلها له مكانته في 


7 قصر الشوق 


الأسرة» إلى أنْ مخالطة كال له واطلاعه على سيرئه عن 
كثب واستاعه إلى ما يقال عنه جعلته يؤمن بولع أخحيه 
بالنساء وميله مع الأهواء. ولكنّه رغم هذا كله قد 
بوغت بلقائه في بيت وردة مباغتة عنيفة» إذ لم يذهب 
به الخيال إلى حدٌ تصور ياسين سكُّيرًا أو متسكّعًا في 
هذا الدرب! وبمرور الوقت أخحل يتخفف رويدًا رويدًا 
من وقع المفاجأة. كما مضى الشعور بالابرعاج يزايله. 
م حل مله إحساس بالطمانينة بل بالارتياح. ولم) 
بلغا فنش وجداه مكتظًا بالجلوس» فاقترح ياسين أن 
يجلسا في الخارح. واختار مائدة عند طرف الطوار على 
ناصية الطريق ليبتعدا ما أمكن عن الناس» ثم جلسا 
متقابلين وهما يبتسمان : 

عفريو 6ن 

أجاب كيال بعد تردّد : 

- كأسين .... 

لا شك أن لقاءنا غير المتوقع عليّر أثرهماء فلُعد 
الكتزق أن انافك أعرته إلا قلبتلا:.سعنة أو 

- يا خبر! أَيُعَذٌ هذا قليلا؟! 

لا تدهش كالسدّج فإنّك لم تعد ساذجًا. . . 

- على فكرة؛ قبل شهرين لم أكن أدري شيئًا عن 
فقال ياسين كالمستنكر: 
ورين انلا يلين ان الحا مطاف كا تا 

وضحكا معا. ثم طلب ياسين كأسين» وعاد 
يتساءل : 

- ومتى عرفت وردة؟ 

عرفت وردة والويسكي في ليلة واحدة. . 

- وما خيرتك بالنساء عدا ذذلك؟ 

- لا شىء... 

فحنى ياسين رأسه وهو ينظر إليه من تحت حاجبيه 
مفطبًا في ابتسام. كأنما يقول له «اطلع من دول ثم 
قال : 

- إياك واذعاء البلاهة. لم يفتني أن أطلع في زمن 
مفى على مناورات كانت تدور بيلك وبين بنت أبو 


سريع صاحب المقلى, تارة بالعبن وتارة بالإشارة. هه؟ 
هذه الأمور لا تخفى على الخبير يا عكروت. ولكن لا 
شك أنْك قنعت بالعبث السطحي حي لا تجد نفسك 
مضطرًا إلى مصاهرة عم أبو سريع؛ كا صاهرت حماتي 
السابقة بيُومي الشربتل. هه؟ وها هو قد أصبح من 
ذوي الأملاك وجاركم الملاصق! ترى أين اختفت 
مريم؟ لا أحد يعلم عنها شين كان أبوها رجلا طيئاء 
ألا تذكر السيّد محمد رضوان؟ فانظر ما آلَ إليه بيته؟ ! 
لكنّها الأخلاق لا تستهين مبا امرأة إلا هانت! 

فا تمالك كال أن ضحك متسائلا: 

والرجل آلا يلحقه من استهانته شيء؟ 

فضحك ياسين ضحكته الكبيرة» وقال: 

- الرجل غير المرأة يا طويل اللسان. يبرن كيف 
حال والدتك؟ الست الطيّبق ألا زالت حائقة عل 
حت بعد طلاق مريم؟ 

لا آظتيا تذكر شيكًا من الآمر كله قلت أنيظن كا 
علو 

فأمُن على قوله. ثُمَ هر رأسه كالآسف. وجاء 
النادل بالشراب والمرة) وسرعان ما رفع ياسين كأسه 
وهو يقول: وصحّة آل أحمدو. فرفم كال كأسه ثم 
شرب نصفها على أمل أن يستردٌ ما ذهب من مرحه. 
وقال ياسين بفم مملوء بالخبز الأسود والحبن : 

- كان ييل إِلّ الك ستكون أقرب إلى خلق 
والدتك. كما كان المرحوم. فتنبّات لك بالاستقامة, 
ولكتك, ولكئنا, . , 

وحدجه كيال بنظرة متسائلة» فعاد يقول باسرًا: 

- لكنّنا خلقنا على مثال أبينا. . . 

- أبينا! إِنّه للحن الذي لا تطاق معه الحياة! 

فقهقه ياسين عاليّاء وتريّث قليلاء ثم قال: 

- إِنْك لا تعرف أباك. وقد كنت أجهله مئلك. ثم 
تكشّف لي عن رجل آخر قلّ أن يجود الزمان بمثله . 

وتوقف عن الكلام» فقال كال بحب استطلاع 
واهتيام : 

ماذا عرفت مما لم أعرفف...؟ 

- عرفت أنه قطب اللطافة والطرب,. لا محملق في 


كالمعتوه» ولا تظئنيى سكران. والدك عمدة الفكاهة 
والطرب والعشق! 

50 

- أول ما عرفته في بيت زبيدة العالمة. . . 

زبيدة ماذا؟ , . . ها. . , ها., 

ولكنّ وجه ياسين بدا أبعد ما يكون عن الهزل. 
فكفٌ كيال عن الضحك قبل أن تزايل أساريره هيئة 
الضحك؛ ثم أخذ فمه يضيق رويدًا رويدًا حتّى 
انطبقت شفتاه فحملق في وجه أخيه صامتا وهذا يحدّثه 
عا رأى أو سمع عن أبيها في تبسط وإسهاب. هل 
يفتري ياسين على أبيه كذبًا؟ كيف يمكن أن يقع هذا 
وأئّ بواعث تبرّره؟! كلا إن لا ينطق إلا يما علم. 
وهذا إذن هو أبوهء ربّاه! والجد والجلال والوقار ما 
أمرها؟! إذا سمعت غدًا أن الأرض مسطحة أو أن 
أصل الإنسان هو آدم فلا تدهش ولا تنزعج. وأشييرًا 
تساءل : 

- أتدري والدتي بذلك؟ 

ياسين وهو يضحك : 

دالا”فيك أثبا تدوق بسكره عل الأقل د 

ترى كيف كان أثر ذلك في نفسها هي التي تفزع 
من لا شىء؟! أتكون أمّى ‏ مثلى - ظاهرًا من السعادة 
وباطثًا من الشقاء؟! قال وكأئّه ينتحل أسبابًا للدفاع لا 
يؤمن مها : 

الناس هواة مبالغة فلا تصدّق جميع ما يزعمون» 
ثم إن صحّته ندل على أنّه رجل معتدل في حياته . 

فقال ياسين بإعجاب», وهو يشير إلى النادل أن يعيد 
الكرة : 

ٍِ إِنْه أعجوية ! جسمه معجزة وروحه محيجزةى 
كل شيء فيه معجزة؛ حّ طول لسانه (ضحك منب) 
معا)... تصوّر أنه بعد هذا كله يحكم آله كا تعلم 
ويحافظ على جلاله واحترامه كما ترى! .. ما 
افيس ا 

تأمل هذه العجائب: أنت وياسين تتشاربان! أبوك 
شيخ ماجن! هل ثمّة حقيقيئ وغير حقيقئ؟! ما علاقة 
الواقع بما في رءوسنا؟ ما قيمة التاريخ؟ ما العلاقة بين 


قصر الشوق /ابالا 


عايدة المعبودة وعايدة الحبل؟ أنا نفسى ما أنا؟! لاذا 
تالت ذلك الآلى الوحشيّ الذي لم ا منه يبعل؟ 

- ما عسى أن يقع لو رآنا بمجلسنا هذا؟ 

فرقم ياسين بأصبعهء ثم قال: 

- أعوذ بالله ! 

وهل وسة عقيل دف" 

فصفر ياسين وهو يرعش حاجبيه . 

- أليس من الظلم أن يتمتع أبونا بالدسم» عبلى 
حين لا نجد نحن إلا الفعات؟ 

- انتظر حظك, ما زلت في أوّل الطريق. 

- ألم يتغّر سلوكك معه بعد وقوفك على سرّه؟ 

إلا هذا! 

لاحت نطرة حالمة في عيني كمال وهو يقول: 

ليته أعطانا من لطفه نصيًا! 

- ليته . . 

ما كان أمرنا ليفسد أكش مما فسد!] 

حبٌ النساء والخمر ليس من الفساد في شيء. . 

- وكيف تفسّر سلوكه على ضوء إيمانه العميق؟ 

- وهل أنا كافر؟! وهل أنت كافر؟! وهل كان 
الخلفاء كفرة؟ الله غفور رحيم!... 

ما عسبى أن يكون جواب أبي؟ شد ما أتوق إلى 
مناقشتهء كلّ شىء محدمل إلا أن يكون منائقاء كلا 
دن فوا انق وما أزداد له إلا حًا! وغمرته الجرعة 
الأخيرة رغبة في الدعابة» فقال: 

- من المؤسف أنّه لم يتعلم فنّ التمثيل! 

فضحك باسين ضصحكة عالية» وقال: 

- لو علم بما يتهيا للممثل من ححياة حافلة بالنساء 
والخمر لكررس حياته للفن! . . . 

أهذا الكلام الهازئ عن السيّد أحمد عبد الجواد 
حمًا! ولكن هل يكون هو أجل من آدم؟ ومع ذلك 
فالمصادفة وحدها هي التي عرّفتك بحقيقة الرجل» 
والمصادفة هي التى لعبت في حياتك أخطر الأدوار.» لو 
لم أصادف ياسين في الدرب لما انقشعت عن عيني 
غشاوة المهل» لو لم يجذبني ياسين على جهله إلى 


مالا قصر الشوق 


القراءة لكنت اليوم في مدرسة الطب كما َي أبي» ولو 
التحقت بالسعيديّة ما عرفت عايدة. ولو لم أعرف 
عايدة لكنت إنسانًا غير الإنسان ولكان الكون غير 
الكون؛ ثم يحلو للبعض أن يعيب على دارون اعتهاده 
على المصادفة في تفسير آلية مذهبه. قال ياسين مستعيرًا 
شحة الحكيم : 

- سوف تعلمك الأيّام ما لم تعلم. . . 

ثم وهو يسخر من نفسه : 

ها هي تعلمني أن أقضي لذَاتي مبكرًا حي لا أثير 
شكوك زوجتي. .. 

وهز رأسه وهو ينظر إلى عيني كمال اللمتسائلتين 
الباسمتين». ثم استطرد: 

- إِنا أقرى زوجاتي الثلاث. وَييّل إل أنْني لن 
أتخلص منها! 

فسأله كيال باهتيام وهو يشير ناحية الدرب: 

ما الذي جاء بك إلى هذا وأنت متزوج للمرّة 
الثالعة؟ 

فردد ياسين الحملة المشهورة من الأغنية التي سمعها 
كبال أول ما سمعها في دخلة عائشة : 

دعلنان كس .,. .علسان كتده.:. 
كذه. , . 

ثم قال مبتسما في شيء من الارتباك : 

- قالت لى زئوبة مرة «أنت لم تتروج قط. كنت 
تعتبر الزواج نوعًا من العشق, وقد آن لك أن تنظر 
إليه بعين الحدّ». أليس غريبًا أن يصدر هذا القول عن 
عوادة؟! ولكتها فيها يبدو أحرص على الحياة الزوجيّة 
من سابقتيهاء وهي مصمّمة على أن تبقى زوجة لي 
حب تغمض عين, لكنّني لا استطيع أن أقاوم 
النسوان. سرعان ما أحبّهنّ وسرعان ما أملّهنّ» لذلك 
عمدت إلى هذه الدروب لأقضي اللبانة مبكرًا دون 
الورظ و تعتتق ريدو وارلا اللل :مب سعيك ل 
امرأة ف درس طياب! 

فسأله كال باهتام متزايد: 

د اليسية هي امرأة ككل النساء؟ 

مكدع افر ان رذ فلمتينا الوق مداه لكا 


. علشان 


فعاد كال يسأل وعيناه تلمعان بالأمل : 

ماذا ترى من اختلاف بين امرأة وأخرى؟ 

هر ياسين رأسه في زهو إدلالا بالمكانة الى وضعته 
فيها أسئلة كيال» ثم أجاب بلهجة خبير: 

- درجة المرأة تتقرّر في كادر النساء تبعًَا لمزاياها 
الأخلاقيّة والعاطفيّة بصرف النظر عن أسرتها 
ومركزهاء فزنوبة أفضل عندي من زينب لأمها أعمق 
عاطفة وأشدٌ إخلاصًا وحرصًا على الحياة الزوجيّة 
ولكنّك في النهاية تجدهنّ شيئًا واحدّاء عاشر الملكة 
بلقيس نفسها فلا محخيص من أن تجدها آخخر الأمر 
منظرًا معادًا ولغخمة مكرّرة. . . 

خبا اللمعان في عيني كيال. ترى هل أمست عايدة 
منظرا معادا ونغمة مكرّرة؟! ما أبعد هذا التصوّر عن 
التصديق! ولكن ما أنت إلا صريع الواقع. وح 
الشياتة بها تكبر عليك وتعرٌ. وإنّه لما يبعث على 
الحنون أن يعلم المعبود الذي تذهب النفس حسرة 
عليه أنّه كان في وسع الأيّام أن تجعل منه منظرًا معادًا 
ونغمة مكرّرة. بل أي الحالين أحبٌ إليك إن 
استطعت جوابًا؟ غير أن أتحسّر أحيانًا على الملل من 
شِدّة الشوق كا يتحسّر ياسين على الشوق من شِدَّة 
الملل وارفع رأسك أخيرًا إلى رب السياوات وسله عن 
حل سعيد: 

- ألم تحب أبذًا؟ 

- إذن ما هذا الذي أنا غارق فيه؟! 

- أعني حبًا حقيقيًا لا هذه الشهوة العابرة.  .‏ ؟ 

أفرغ كاسه الثالثة. ومسح على فمه بظاهر كفّه. ثم 
فتل شاربه وقال: 

لا تؤاخذي؛ الحبٌ يتركز عندي في بعض مواضع 
كالفم واليد الخ ألخ . 

ياسين جميل. ها كانت لتسخر من رأسه أو أنفه, 
ولكنه بما قال يبدو حقيقًا بالرثاءء كأنّ الإنسان لا 
يكون إنسانًا إلا أن يحبّ. ولكن ما جدوى ذلك وما 
جنيت من الحبٌ إلا الأم؟! واستطرد ياسين قائلا. 
وهو يحنّه بالإشارة على الفراغ من كأسه : 

- لا تصدّق ما يقال عن الحبٌ في الروايات, الحب 


عاطفة أيام أو أسابيع مع حسن الظنّ! 

كفرت بالخلود ولكن هل نسيان الحبٌّ ممكن؟ لم 
أعد كا كنت. إني أتسلل من جحيم العذاب فتشغلني 
الحياة حينًا حتّى أرجع إليهء وكان الموت قبلتي واليوم 
ثمّة حياة ولو بلا أمل» العجب أنّْك تثور على فكرة 
النسيان كلما خطرت» كأنما تعاني تبكيت الضميرء أو 
لعلّك تخاف أن ينكشف أجل ما قدّست عن وهمء أو 
أنْك تأبى على يد العدم أن تعبث بالحياة الرائعة التي 
بدونها تغدو ومن لم يولد سواءء لكن ألا تذكر لم 
بسطت الراحتين داعيًا الله أن ينتشلك من العذاب وأن 
يلهمك النسيان؟ ! 

م ولكنّ اليب الحقيقىٌ موجودء نلقرأ حوادثه قي 
الصحف لا في الروايات. . 

ابتسم ياسين ابتسامة ساخحرةء ثم قال: 

- بالرغم من أنّني مبتلى بحبّ النسوان فإنّني لا 
أعترف ببذا الحبّء إن المآسي التي تقرأ أخبارها 
تتحدّث في الواقع عن شبّان غير مجربين» أسمعت عن 
مجنون ليل؟ لعل له نظائر في هذه الحكاياتء ولكنّ 
المجنون لم يتزوّج من ليى؟ دلني على شخص واحد 
جنّ بحبٌ زوجته! واأسفاه! إِنَْ الأزواج عقلاء جدّاء 
عقلاء ولو كرهواء أمّا الزوجة فيبدا بالزواج جنونباء 
لأنها لا تقتنع بأقل من أن تزدرد زوجهاء ويخيّل إل أن 
المجانين يصيرون عشَّاقًا لأثهم مجانين لا أن العشّاق 
يصيرون مجانين لأنْهم عشاق. تراهم يتحدّشون عن 
المرأة كأنما يتحدّئون عن ملاك, والمرأة ليست إلا 
امرأة طعام لذيذ سرعان ما تشبع ملهء دعهم 
يشاركونها الفراش ليطلعوا على منظرها عند الاستيقاظ 
وليشموا رائحة عرقها وسائر الروائح التي قد تصدر 
عنها وليحدّئوني بعد ذلك عن الملاك. فتنة المرأة ما هي 
إلا طلاء أو أداة إغراء حيّى تقع في الشرك وعند ذاك 
يبدو لك المخلوق الآدمئ على حقيقته: لذلك فالابناء 
ومؤخر الصداق والنفقة الشرعيّة هي سر قوة الزواج لا 
الجال أو الفثنة. . . 

ما كان أجدره أن يغيّر رأيه لو رأى عايدة» غير أنه 
ينبغي أن تفكر من جديد في أمر الحبّ. كنت ثراه 


قصر الشوق 8لا 


وحيًا ملائكيًا ولكن لم يعد للملائكة وجود فابحث في 
ذات الإنسان واسلكه ضمن الحقائق الفلسفية 
والعلميّة التي تتشوق إلى اقتحامهاء بذلك تقف على 
سر مأساتك وتكشف النقاب عن سر عايدة المكنون» 
لن تجصدها ملاكا ولكنّْ باب السحر سيفئح لك 
مصراعيهء أمًا الوحم والحبل والمنظر المعاد وسائر 
الروائح فا أتعسني! 

قال كيال بأسى لم يقطن إليه أخوه: 

- الإنسان لوق قذرء ألم يكن من الممكن أن يُخلق 
خيرًا وأنظف مما كان؟ | 

رفم ياسين رأسه دون أن يلظر إلى شىء بالذات » 
وقال سرور عجيب: 
الله النفس شعشعت واستحالت 
أغنية» وانقلبت الأعضاء آلات طرب» والدنيا -حلوة. 
والكائنات محبيبة للقلب» والجو عذب, والحقيقة 
خيال., والخيال حقيقة؛ أما المنخصات فأسطورة» 
الله. .. الله ما أجمل الخمر يا كيبالء الله يطول 
عمرها ويديمها علينا ويعطينا الصححّة والعافية لنشربها 
حتّى آخر العمرء ويخرب بيت الذي يمسّها بسوء أو 
يتقول عليها بغير الحقّ» تأمل هذه النشوة الحلوة»ء 
تائلء أغمض عينيك» هل وجدت لذَّة كهذه؟. . 
الله . . . الله , . . اللمء (ثم وهو بخفض رأسه ناظوًا إلى 
كيال).. . ماذا قلت يا ولدي؟ الإنسان مخلوق قذر؟ 
أساءك ما قلت عن المرأة؟ ل أتكلم لأثير اشمكزازك 
منباء الواقع أن أحبّهاء أحبّها بكلٌ ما فيهاء ولكتي 
أردت أن أبرهن لك على أَنْ المرأة الملاك لا وجود لما 
بل لا أدري إن كنت أحبّها إن وُجدتٌ! فإ مثلّا - 
كأبيك ‏ حب الأرداف الثقيلة. ولو كان الملاك ذا 
أرداف ثقيلة لتعذر عليه الطيران» افهمني جيَّدًا ولا 
تسئ فهمًا وحياة أبينا السيّد أحمد. . . 

وما لبث كيال أن شاركه نشوتهء فقال: 

- لشدٌ هما تبدو الدنيا محبوية إذا سَرّت الخمر في 
الروح!. . . 

- يسلم فمك. حتّى النغمة المألوفة يترم مها شسحاذ 
الطريق تقع من الأذن موقع السحر. . . 


- الله , .. 


٠‏ قصر الشوق 


حص أحزاننا تبدو كأنما أحزان شخص آخر. .. 

- بخلاف نساء الشخص الآخرء فإثها تبدو وكانها 
نساؤنا. . 

هما شىء واحد يا بن أبي. . . 

الله . . الس لا أريد أن أفيق. . . 

من رذالة الحياة أنّْها لا تمكننا من الاستمرار في 
السكر كا نموى. . . 

- ليكن في معلومك أنْنى لا أرى في السكر هواء 
ولكن غاية سامية كالمعرفة والمثل الأعلى. . . 

إذن فأنا فيلسوف كبيرا 

عندما تؤمن بما قلت وليس قبل ذلك. . . 

الله يطوّل عمرك يا أبي» فقد أنجبت فلاسفة 
مثلك! 

- لم يبدو الإنسان تعيسًا مع أنه لا يطلب أحسن من 
كأس وما أكثر القوارير» وامرأة وما أكثر النساء؟! 

عله اموي الها يديد 

شاحيك عددفا اقرف كانا خرف 

قال ياسين ذلك بصوت وشى بصحوة طارئة؛ ثم 
استطرد محذرًا: 

لا تفرطء إني شريكك الليلة فأنا مسئول عنك»؛ 
كم الساعة الآن؟. . , 

وأخخرج ساعته فنظر فيهاء ثم هتف: 

- منتصف الواحدة) وقع المحذور يا بطل». كلانا 
قد تأخرء وراءك أبونا وورائي زنوبة» قم بنا. . . 

ولى تمض دقائق حبّى غادرا البار.ء فاستقلا عربة 
انلطلقت بها صوب العتبة» دارث العرية .حول سور 
الأزبكيّة في طريق يسوده الظلام» وبين آونة وأخرى 
بُرى عابر مهرولا أو مترنّساء وكلما مرّت العربة بشارع 
مقاطع ترامى إليهما صوت غناء تحمله نسمة رطيبة, 
أمَا فوق المباني وأشجار الحديقة الباسقة فقد تلْقَت 
النجوم اليواقظ . 

قال ياسين ضاحكا: 

- أستطيع الليلة أن أحلف غير متحرّج بأنني لم آت 
ترا 


فقال كال في شيء من القلق : 

ب أرجو أن أصل البيت قبل أبي. . . 
الخوف شر أنواع التعاسة. لتحيا الثورة! 
أجل لتحيا الثورة! 

- لتسقط الزوجة المستبدة! 

- ليسقط الأب المستبد! 


73197 ل 

طرق كيال الباب في خفّة حبّى فتح عن شبح أمْ 
حنفى . ولا عرفته قالت بصوت هامس : 

سيد الكين عل الملي.... 

فانتظر وراء الباب حبتّى يطمئِن إلى وصول أبيه إلى 
الدور الأعلى» غير أن صوته جاء من داخل السلّم وهو 
نشال فلك ؛ 

مَن الطارق؟ 

فخفق قلبه ولم ير بدا من التقدّم وهو يجيبه : 

أنا يا بابا. . . 

تراءى له شبح أبيه على بسطة الدور الأول على 
حين لاح ضوء المصباح الذي تمسك به الآمّ في أعلى 
السلّم. ونظر السيّد إليه من فوق الدرابزين» وهو 
يتساءل في دهش : 

كال؟!... ما الذي أخرك خارج البيت حي 
هذه الساعة؟ 

أخرني الذى أخرك , . , 

قال بإشفاق: 

- ذهبت إلى المسرح لأشهد التمثيلية المقرّرة علينا 
هذا العام . . . 

فصاح ساخطا : 

هل أصبحت المذاكرة في المسارح؟! ألا يكفي أن 
تقرأ وتحفظ؟ كلام فارغ سمجء ولم لم تستأذئي؟ 

توقف كال على بعد درجات من موقف أبيه. وقال 
معتذرًا: 

- لم أتوقم أن تمتدٌ السهرة إلى هذه الساعة المتخرة. 

فقال الرجل بغضس : 


شف لك طريقة أخرى للمذاكرة ودعك من 
الأعذار السلخيفة. . , 

ومضى يرقى في السلّم وهو يدمدم؛ فترامت إليه 
كليات من دمدمته مثل «مذاكرة المسارح على آخر 
الزمن». «الساعة واحدة بعد منتصف الليل»» «حبتق 
الأطفال:. «ملعون أبوك وأبو التمثيليّة المقرّرة». ارتقى 
السلّم حيّى الدور الأخير ومفى إلى الصالة» فتناول 
مصباحًا مضاء من فوق منضدة ودخل حجرته مكفهرٌ 
الوجهء وضع المصباح على المكتب ووقف مستندًا بكلتا 
يديه يتساءل عن تاريخ آخر شتيمة قذفه مها أبوه فلم 
يتذكره على وجه التحديدء ولكنّه كان واثقًا من أن 
سئوات دراسته العالية مرّت في سلام وكرامة» ولذلك 
وقعت اللعنة من نفسه ‏ رغم أنه لم يواجه مها موقعًا 
أليا. وتحول عن مكتبه فخلع طربوشه وشرع في نزع 
ملابسه. وعلى حين فجأة شعر بدوار في رأسه وجزع 
في معدته, فغادر الحجرة مسرعًا إلى الام حيث قذف 
جوفه بما فيه في علفف ومرارة» وعاد إلى الحجرة مرّة 
أخرى مغبوك القوى متقرّز النفس يجد في صدره ألم 
شد واعمق» ولس ماقيس واللقا الممبباح لم للقن 
على الفراش وهو ينفخ في ضيق وضجرء ولكن لم 
تمض دقائق حبّى سمع الباب وهو يفتح برفق» ثُمّ 
جاءه صوت أمّه متسائلا في إشفاق: 


7 

فقال بلهجة طبيعبة راضية ليصرفها عنه ومخلو إلى 
ما هو فيه: 

العم ., 


فتدان شبحها من الفراش حبّى وقفت فوق رأسه. 
ثم قالت كالمعتذرة: 

لا تتكدّرء أنث أعلم الناس بأبيك. . . 

- مفهوم . . . مفهوم ! 

فقالت وكأغا أرادت أن تفصح عا ساورها هي : 

- إنه مظلع على جدَّك واستقامتك. ومن هنا جاء 
إنكاره لتأخرك غير المألوف حيّى هذه الساعة. , , 

فركبه الغيظ حيَّى لم ينمالك من أن يقول: 

إذا كان السهر يستوجب كل هذا الإنكارء فلاذا 


قصر الشوق ١م‏ 


يواظب هو عليه؟ ! 

حال الظلام دون رؤية ما ارتسم على وجهها من 
دهش وإنكارء لكنّه سمعها تضحك من أنفها لتوسمه 
بأنها لم تحمل قوله على مممل الحدّء وقالت: 

- كل الرجال يسهرونء وسوف تصير رجلا عن 
قريبء أما الآن! وأنت طالب. . . 

فقاطعها قائلًا بلهجة من يودٌ الفراغ من الحديث : 

- مفهوم... مفهومء لم أقصد بقولي شيئاء لاذا 
تعبت نفسك بالمجيء إِليّ؟ عودي مصحوبة 
الياوفة رن 

قالت برقّة : 

خفت أن تكون متكدّراء سأتركك الآن ولكن 
عدني بأن تنام صافي النفس. اقرأ الصمديّة حبّى يأتيك 
النوم . . 

وشعر بابتعادها ثم سمع الباب وهو يغلق وصوتمها 
يقول «مساء الخير». نفخ مرّة أخرى. وراح يمسح 
صدره وبطنه وهو يحملق في الظلام... أمّا مذاق 
الليناة كلها فكان هران أبن كسك عسوة امن 
الساحرة؟ وما هذا الكرب الخانق الذي حل محلها؟ ما 
أشبهه بخيبة الحبٌ التي ورئت أحلامه السماويّة. ومع 
ذلك فلولا الأب ما انقلب حاله. هذه القوّة الحبارة 
التى يخافها كل الخوف. يخافها ويحبّها معّاء ما كنبها؟ 
ليس إلا رجلا لولا مرحه الذي خصٌ به الغرباء لم 
يكن شيئًاء فكيف يخافه؟ وحيّى متى يذعن لقوّة هذا 
الخوف؟ إِنّْه وهم كسائر الأوهام التي امتئحن بهاء 
ولكن ما جدوى المنطق في مقاومة العواطف الثابتة؟ 
وقد قرعت يداه يومًا أبواب عابدين في المظاهرة الكبرى 
التي تحدذت الملك هاتفة وسعد أو الشورة». فتراجع 
الملك واستقال سعد من الوزارة. . . , أما ححيال أبيه 
زنط :وبين لا على عن" 5 اقرع تقال عبد لتولة معنا 
الله. . ., 00 انيسن الحت... عايدة 
تنفسها... الخلود. قلت الخلود؟ لعم ع فبما 
يجري على الحبٌ وفيما جرى على فهمي. ذلك الأخ 
الشهيد الذي استضافه الغناء إلى الأبد. أتذكر التجربة 
التي قمت بها وأنت في الثانية عشرة من عمرك لتعرف 


قصر الشوق 
مصبره المجهول؟... يا للذكرى المحرنة!|... 
اقتنصت عصفورة من عشّها ثم خنقتهاء وكفنتها 
وحفرت لطا قيرًا صغيرًا فى فناء البيت على كثب من 
البئر القديم ثم دفنتها فيه وبعد أيام أو أسابيع نبشت 
القير وأخرجت الحثّة. فاذا رأيت وماذا شممت؟ 
وذهبت إلى أُمك باكيًا تسلا عن مصبر الميت. كل 
ميتء ومصير فهمي خاصّة فلم يصدّك عنها إلا 
الحاميا قلخام دا بلي عور قوسي ابجع ميم 
سئوات؟ وماذا سيبقى من الحبّ؟ وعم تمخض الأب 

الجليل؟ 
ألفت عيناه ظلام الحجرة فتراءى المكتب والمشجب 
والكرسيٌ والصوان أشباحًا قائمة: وندذت عن الصمت 
شه امراف مريمةه برانعلا وآكن بلاوق لحمو 
أمّا مذاق الحياة فازداد مرارة» وتساءل هل غط ياسين 
في نومه؟ وعلى أيّ حال كان لقاء زنوبة له؟ وهل أوى 
حسين إلى فراشه الباريسي؟ وعلى أيّ جانب تنام عايدة 
الآن؟ وهل تكوّر بطنما واندام؟ وماذا يفعلون في 
نصف الكرة الآخر الذي تتربع الشمس في كبد 
سمائه؟ , . . والكواكب المنيرة» أليس ثمّة -حياة تعمرها 
خالية من التعاسة؟ وهل يمكن أن يسمع أنينه الخافت 
في ذلك الأوركسترا الكو اللانبائيع؟! 

أبي! دعني أكاشفك بما في نفسبى, لست ساخطا على 
ما تكسَّف لي من شخصكء لل واكتت لباوت 
أحبٌ إل ما كنت أعرف, إني معجب بلطفك وظرفك 
ومجونك وعربدتك ومغامراتك. ذلك الجانب الدميث 
منك الذي يعشقه جميع عارفيه. وهو إن دل على شيء 
فعلى حيويّتك وهيامك بالحباة والناس, ولكبِّي أسائلك 
1 ارتضيت أن تطالعنا مِبذا القناع الفظ المخيف؟ لا 
تعتلّ بأصول التربية فانت أجهل الناس مباء وآي ذلك 
ما ترى وما لا ترى من سلوك ياسين وسلوكيء فيا 
فعلت إلا أن آذيتنا كثيرًا وعذّبتنا كثيرًا بجهل لا يشفع 
لك فيه حسن نيتك, لا تجرع فإنيٍ ما زلت أحبّك 
وأعجب بكء. وسأبقى على الدوام مخلصًا لحك 
والإعجاب بك. غير أنْ نفسي تضمر لك لومًا شديدًا 
يعادل ما جرّعتني من ألم, ل نعرفك صديمًا كما عرفك 


الغرباء» ولكن عرفناك حاكمًا مستبدًا شرسًا طاغية 
كأنما كنت أوْل مقصود بالمثل القائل «عدو عاقل خير 
من صديق جاهل»؛ لذا سأكره الجهل أكثر من أي 
شيء في الحياة. فهو المفسد لكل شيء حتّى الأبوة 
المقدّسة. خير منك أب له نصف جهلك ونصف حيك 
لأبنائلك. وإني أعاهد نفسي ‏ إذا صرت يومًا أبَا ‏ أن 
أكون لأبنائي الصديق قبل أن أكون المربي. غير أني ما 
زلت أحيّك وأعجب بك حتّى بعد أن زايلتك صفات 
الألوهيّة التي توثمتها فيما مضى عيناي المسحورتان. 
أجل ل تعد قوّتك إلا أسطورة» فلست مستشارًا 
كسليم بك ولا غتيًا كشدّاد بك ولا زعيمًا كسعد 
زغلول ولا داهية كثروت ولا نبيلا كعدلي . ولكنّك 
صديق بوب وحسبك هذاء وما هو بالقليل» فليتك 
لم تضنٌّ علينا بصداقتك. ولكن لست وحدك الذي 
تغيّرت فكرته, الله نفسه لم يعد الله الذي عبدته قديماء 
إن أغربل صفات ذاته لأنقيها من الحبروت والاستبداد 
والقهر والدكتاتوريّة وسائر الغرائز البشريّة؛ ولست 
أدري أين ينلبغي أن أشكم الفكر ولا إن كان من 
الفضيلة أن أشكمه, بل إِنْ نفسي تحدّثني بأن لن أقف 
عند حدّ وبأنٌ النضال على عذابه خير من الاستكانة 
والنوم . قد لا بِبمّك هذا بقدر ما يهمّك أن تعلم أن 
قرّرت أن أضع حدًا لاستبدادك, استبدادك الذي 
يغشاني كا يغشاني هذا الظلام المحيطء والذي يؤلني 
كا يؤلنى هذا الأرق اللعين, أمّا الخمر فلن أذوقها 
جزاء خيانتها لي: واأسفاه! إذا كانت الخمر أيضًا وهما 
حادعًا فيا بقى للإنسان؟ أقول لك إني قرّرت أن أضع 
حدًا لاستبدادك لا بالتحدّي والعصيان فانت أكرم 
عل نفسى من أن أفعل بك هذاء ولكن بالهجرة! أجل 
لأهانجرة من بيتنك حال أقف على قدميّ» وفي أحياء 
القاهرة متّسّع لكل مضطهد. أتدري ماذا كانت 
عواقب حبيى لك رغم استبدادك بي؟ أي عبدت 
مستبدًا آخر طالما ظلمني بظاهره وباطئه معّاء استبدٌ بي 
دون أن يحبّنىء ورغم ذلك كله عبدته من أعماقي ولا 
زلت أعبده. فأنت أول مسفول عن حبى وعذابي. 
ترى ما نصيب هذه الفكرة من الحقيقة؟! لست مرتاحًا 


إليها ولا متحمسا لماء ومهما يكن من واقعية الحب فلا 
شك أنه يرجع إلى أسباب أعمق أصالة في النفس» 
فلنتركها الآن معلّقة حيّ نعود إليها بالدرس فيها بعد 
وعلى أيّ حال فانت يا أبي الذي هونت عل الإحساس 
بالظلم بمداومتك على الاستبداد بي» وأنت يا أمّي لا 

تحملقي في وجهي بإنكار أو تتساءلي ما ذنبي وما جنيت 
على أحد. إنّه الجحهل. هو جنايتك. الجهل.. 

الجهل... الجهل... أبي هو الفظاظة الجاهلة. 
وأنت الرقّة الجاهلة. وسوف أظل ما حييت ضحيّة 
هذين الضدّين. وجهلك أيضًا هو الذي ملأ روحي 
بالأساطير. فأنت همزة الوصل بيني وبين عالم 
الكهوف. وكم أشقى اليوم في سبيل التحرر من آثارك 
كا سأشقى غدًا في سبيل التحرّر من أبي» وما كان 
أحراكيا أن توفرا عليٌ هذا الجهد المضني. لذلك أقترح 
- وظلام هذه الحجرة شهيد ‏ أن تلغى الأسرة ‏ هذه 
الحفرة الى يتجمّع فيها الماء الآسن ‏ وأن تزول الأبوة 
والأمومة. بل هبني وطنًا بلا تاريخ وحياة بلا ماض ء 
ولننظر الآن في المرآة فياذا نرى؟ هذا الأنف الضخم 
وهذا الرأس الكبير. أعطيتني أنفك يا أي دون مشورة 
أو رحمة فأنت تستبدٌ بي حيّى قبل أن أولدء ومع أنه 
يبدو في وجهك مهيبا جليلا فإنّه ‏ بذاته وشكله ‏ يلوح 
م في صفحة وجهي الضيّقة كأنه جندئ 
إنجليزيّ في حلقة ذكر. وأعجب منه رأمي لأنّه لا إلى 
فصيلة رأسك ينتمي ولا إلى فصيلة رأس أمّي فعن أي 
جد بعيد انحدر إ؟ فليظل ذثبه معلْقًا فوق رأسيكى) 
حبّى يتضح لي الحقّ. قبيل النوم يجب أن نقول 
«الوداع» فقد لا يطلع الصبح علينا. إن أحبٌ الحياة 
رغم ما فعلته بي على طريقة حبّي إيَاك يا أبي. وف 
الحياة أشياء جديرة بالحب وصفحة وجهها مليئة 
بعلامات الاستفهام مثيرة للشغفء, غير أنْ النافع فيها 
لا نفع فيه وما لا نفع فيه عظيم الشأن. والراجح أني 
لن أعود إلى تقبيل الكأس فقل وداغًا أيْتها الخمر. 
ولكن مهلا. أذكر ليلة غادرت بيت عيّوشة عاقدًا 
العزم على ألا أقرب النساء ما حيبت وكيف انقلبت 
بعد ذلك زبونها الأثيف ويمْيّل إل أن الإنسانية تثن 


قصر الشوق لملا 
مثلى من الخمار والغثيان فادع لما بالشفاء العاجل. . . 


- 738 

فتر حماس ياسين حال انفراده بنفسه في العربة بعد 
ذهاب كيال» وبدا كالمتفكر رغم سكره. 
الساعة الواحدة ودحل الوقت منل كثير في المزيع 
المربب من الليلء وسوف يد زنوبة ما يقظى تننظر 
وتغلي وإمًا ستستيقظ حين دخوله. وعلى أيّ حال فلن 
تمرّ الليلة بسلام؛ بسلام كامل على الأقل. 

غادر العربة عند مثعطفف قصر الشوق ومفى 
يبخوض الظلام الدامس وهو بهرّ كتفيه العريضين في 
الها 2 ستول انية مسوك عافين ولنفن لناسرة 
الذي يعمل حسابًا لامرأة». وكرّر هذا القول وهو 
يرقى في الدرج نشيدا في الظلام بالدرابزين» غير 
أن تكراره إِيّاهِ لم ينمّ عن طمأنينة قاطعة. وفتح الباب 
ودخحل. ثم مضى إلى حجرة النوم على ضوء مصباح 
الصالةء وألقى على الفراش نظرة فرآها نائمة. فردٌ 
الباب ليحول دون تسرب الضوء الخافت الآتي من 
الصالة؛ وراح يخلع ملابسه في هدوء وحذر وهو يزداد 
اطمئنانًا إلى استغراقها في النوم» ويرسم في ذهنه خطة 
للتسلّل إلى موضعه في الفراش دون أن يحدث صورنًا. 

- أشعل المصباح لأكخل عينيّ برؤيتك! 

التفت رأسه نحو الفراش ثم ابتسم في تسليمء 
وأخخيرًا تساءل كالداهش : 

- أأنت يقظى؟! ظنتك نائمة فلم أشا أن 
أزعجك ! 

- قلبك طيّبء كم الساعة الآن؟ 

الثانية عشرة على الأكثرء فإني غادرت المجلس 
حوالى الحادية عشرة. وجقت ماشيًا واحدة واحدة,. . . 

- لازم كان مجلسك في بنبا! 

لماذا؟ . , . هل تأخرت؟ 

انتظر حيّى يجيبك ديك الفجر بئفسه. 

لعلّه لم يلم بعد] 

وجلس على الكنبة ليخلع حذاءه وجوربه ولم يكن 
عله لذ القتييمن :ولعي والهة: فت :5ك« تذيه: عن 


إذ جاوزت 


5 قصر الشوق 


السرير طقطقة ورأى شبحها يستوي جالساء ثم 
سمعها تقول في حذة : 

- أشعل المصباح . 

- لا داعي لذلك», فقد فرغت من نحلم ملاسي . 

- أريد أن نصفي حسابنا في النور. . . 

- تصفية الحساب في الظلام ألطف! 

وصدرت عنها نفيخة غيظ ثم غادرت الفراش». 
ولكنّه مدّ ذراعيه من مجلسه القريب فأصاب منكبها 
فجذببا إلى الكنبة وأجلسها إلى جانبه وهو يقول: 

- لا تشعلى الفتلة. . . 

قاطي ف رو وقالت: 

- أين ما تعاهدنا عليه؟ لقد قبلت أن تسكر في 
الحانات كبا تحب على شرط أن تعود إلى بيتك في وقت 
مبكر قبلت هذا على رغمي لأنّك لو سكرت في بيتك 
لوذْرت على نفسك مالا كثيًا يضيع هباء؛ ومع ذلك 
فها أنت تعود قبيل الفجر غير مبال. بما تعاهدنا عليه! 

من يستطيع أن يخادع ربيبة التخت والعود؟ وإذا 
ثبتت الها خيانتك يومًا فهل تقف عند حدٌ الشجار 
أم.. .؟ فكرُ مرّتين» ولا تنس كذّلك أنْ فقدها لا 
سونء إنها أحبٌ زوجاتي إل خبيرة بما يسعدني». 
ا ا 

- كنت في مجلس كل ليلة لم أغادره إلا إلى بيتي. 
وعندي شاهد تعرفينه. أتدرين من هو؟ (وضسسحك 
بصوت عال,) 

ولكها قالت ببرود: 

- تكلم في الموضوع! 

فقال وهو لا يزال يضحك : 

كان جليسي الليلة أي كيال! 

فلم تدهش كا توقع. وقالت في نفاد صبر: 

- مس يشهد للعروس؟ ! 

- لا تكابري!... براءتي كالشمس!... (ثمٌ 
متأفُمًا). . . يحزنني والله أن ترتبي في سلوكي » شبعت 
من الدوران حبّى المرضء ولا رغبة لي الآن إلا الحياة 
الحادئة, أمّا الحانة فتسلية بريئة لا غبار عليهاء ولا بل 
للإنسان من مخالطة الناس. . , 


فقالت بصوت دلت نراته على الاتفعال: 

آه مسك. أنت تعلم أني لست طفلة» وأنْ 
الضحك عل مطلب عسيرء وأنه من الخير لكلينا ألا 
تدخل بيئنا الريبة!. . . 

موعظة أم وعيد؟! أين مي حياة أبي المثاليّة.» الرجل 
الذي يفعل ما يشاء فإذا رجع إلى بيته وجد الاستقرار 
والحبٌ والطاعة, لم يتحقّى لي هذا الحلم على يد زينب 
ولا مريم وأخخلق به آلا يتحقّق على يد زنُوبة» لا ينبغي 
هذه العوّادة الجميلة أن تيأس طلما هي على ذمُّتِي! قال 
بحرم : 

- لو كان بي رغبة إلى مزيد من اللحرام ما 
تروجتك! . . . 

فهتفت بحلة: 

- ولكنك تزوّجت من قبل مرّتين. فلم يمنعك 
الزواج من الحرام ! 

نفخ ناشرًا أنفاسًا محمورة, ثُمْ قال: 

حالتك غير الخالتين السابقتين يا غبية. الروجة 
الأولى اخحتارها أبي وفرضها علٌ» والزوجة الثانية 1 
تجعل لي من سبيل إليها إلا بالزواج فتزوّجتهاء أما 
أنت فلم يفرضك أحد عل ولم يغلق بابك دوني قبل 
الزواج» ولم يكن الزواج منك ليعدني بشيء جديد م 
أعرفه؛ فلم تزوجتك يا غبية إن لم يكن الزواج نفسه - 
أي الحياة المستقيمة المستقرة ‏ مطلبي؟! والله لو كان 
بك ذرّة من عقل ما سمحت لنفسك بالشك في 
أبذا, . , 

حيّن إن جئتنيى عند الفجر؟ ! 

حبق إن جئتك عند الصبح ! 

فهتفت بححلة : 

- نهء قل كلاما آخخر أو فعلى الأمن السلام! 

فقال بحدة وهو يقطب في نرفزة : 

ب ألف سلام ! 

- أرحل» أرض الله واسعة والرزق على الله . . 

فقال في استهانة متعمّدًا: 

د آأنت وشانك : 

فقالت يصوت واش بالوعيد : 


- أرحل غير أني كالشوكة لا تنتزع بيسر. 

فتتادى ف الاستهانة مها قائلا : 

د خجزعبلات! تذهبين بأيسر مما تخلع الحذاء . , 

ولكئّها غيّرت النغمة من التحدّي والتهديد إلى 
التشكي . فهتفت : 

- أأرمي بنفسي من النافذة فأريح وأستريح . . , ! 

فهزُ كتفيه استهانة» ثم نمض وهو يقول بلهجة 
أخحف : 

- ثمة طريق أفضل هو أن تقومي إلى الفراش» 
هلمي لننام وااحزىي الشيطان. . . 

انمه نحو الفراش فاستلقى عليه وهو يتأوّه كأما طال 
به التشوّق للرقاد. أما هي فعادت تقول وكأنها تحدّث 
نفسها : 

مكتوب على من يعاشرك التعب. .. 

التعب مكتوب علي أنا أيضاء جلسك هو المسئول» 
لا واحدة تغنى عن الأخريات وقهر الملل فوق 
طاقتهنّء ولكن لن أعود إلى العزوبة مختارّاء لا 
أستطيع أن أبيع كل عام دكَانًا في سبيل زواج جديدء 
فلتب زنوبة على شرط آلا تركبني» الرجل المجنون 
يحتاج إلى امرأة عاقلة؛ زنُوبة وعاقلة؟ ! 

- أتبقي على الكنبة حثّى الصبح؟ 

لن يغمض لى جفن. دعني لمابي وتمنّع أنت 
بالنوم . . 

لا بد ثما ليس منه بدّ. مد ذراعيه حيّى قبض على 
متكبهاء ثم جذبها إليه وهو يغمغم : 

+ الراشك! 

فقاومت مقاومة غير عسيرة. لم استسلمت ليده 
فمضت إلى الفراش وهي تقول متأوهة : 

متى تُتاح لي راحة البال كسائر النساء؟ 

اطمئئى2 ينبغي أن تضعي ف كل ثقتك. إني 
أهل للثقة, مثل لا يكون سعيدًا إلا إذا ور ولك 
تسعدي أنت إذا أتعبتبى بوجع الدماغ,» حسبك أن 
تؤمني بيراءة سهري . صدّفيني ولن تندمي » لست جبانًا 
ولا كذاباء ألم أجئ بك ليلة إلى هذا البيث وفبه 
زوجتى؟ فهل يفعل هذا جبان أو كذّاب؟ شبعت من 


قصر الشوق همل 


الدوران ولم يبق لىي في حياتي إل أنت! 

تّدت بصوت مسموععء وكأتما أرادت أن تقول له 
«أودٌ أن تكون صادقًا فيا تقول». فمذدٌ يده لاعبًا وهو 
يقول: 

يا سلام. هذه التهيدة حرقت قلبي» الله 
يقطعي. . 

قالت برجاء وهي تستجيب ليده رويدًا رويذا: 

- لو ربنا مبديك! 

من يصدّق أن هذه الأمنية صادرة عن عوّادة! 

لا تقابليتي بالشجار أبدّاء إِنْ الشجار يثبط 
النشاط ! 

علاج ناجم ولكنه لا ينفع في جميع الأحوال. لو 
زلضة حتوقة الليلة فنا مس 

- أرأيت أنَّ ارتيابك لم يكن في عكلّه؟! 


5 عونك 

كان السيّد أحمد عبد الجواد متبمكا في عمله وإذا 
بياسين يدخل الدكان مقبلا على مكتبه» ف! إن تصفح 
وجهه حي أدرك أنّه جاء مستنجذا: كانت في عينيه 
نظرة حائرة شاردة» ومع أنه تبِسّم له في أدب ومال 
على يده ليقبّلها إلا أنه شعر بأنه يقوم ببذه الحركات 
التقليديّة بلا وعي . وأنْ وجدانه كله غائب في مكان لا 
يعلمه إلا الله. أشار إليه بالجلوس فقرب الكرميّ من 
مجلس أبيه ثمّ جلس» وجعل ينظر إليه حيئا ثم يخفض 
بصره أو يبتسم ابتسامة باهتة. تساءل السيد عمًا دعا 
إلى هذه الزيارة» وكأنمًا أشفق من أن يترك ابنه 
الصامت إلى صمتهء فقال كالمتسائل: 

خير؟ . . . ماذا بك؟ لست كعادتك. . . 

فنظر ياسين إليه طويلا كأنما يستغير عطفه, ثم قال 
وهو مخفض عينيه : 

- سينقلونني إلى أقاصى الصعيد! 

الوزارة؟ 

0000-0 

لله 


5 قصر الشوق 


هر رأسه كالمعترض. وقال: 

- سألت الناظر فحدّثني عن أمور لا علاقة لها 
بالعمل» ظلم. . . 

سأله الرجل بارتياب : 

- أي أمور؟ أوضح . 

- وشايات وضيعة. . . (ثم بعد تردد) عن 
روجى. .. 
تضاعف اهتهام السيّد. فسأله فيها يشبه الإشفاق: 

ماذا قالوا؟ 

لاح الضيق في وجه ياسين حيئاء ثم قال: 

قال السفهاء إنفي متزوج من . . , عوادة! 

ألقى السيّد نظرة جرعة على الدكان. فرأى جميل 
الحمراوي يعمل بين رجل قائم وامرأة جالسة لا 
يفصلهم عنه إلا أذرع . فكظم غيظه وقال بصوت 
منخفض وإن لم يل انخفاضه من تبدّج الغضب: 

لعلّهم سفهاء حقّاء ولكن هذا ما حذّرتك من 
عواقبه. إنك ترتكب كل كبيرة دون مبالاة ولكنّ 
العواقب لن تغفل عنك إلى الأبد» ماذا أقول؟ إِنْك 
ضابط مدرسة ويجب أن تكون سمعتك بمبأى عن 
الشيهات. طالما قلت لك هذا مرارًا وتكرارًاء فلا 
حول ولا قوّة إلا بالله. كأن يجب أن أخلص من هموم 
الدنيا جميعًا لأتفرّغ لحهمومك أنت وحدها! 

فقال ياسين في ارتباك وحيرة : 

- ولكتها زوجتي الشرعية» ولا لوم على الإنسان في 
حدود الشرعء فا شأن الوزارة في ذلك؟ 

قال السيّد بغيظ مكتوم : 

معنب أن حرفي الور ارهق سيعيعة قو تهنا 

هلا تركت الكلام عن السمعة لغيرك ! 

- ولكن هذا تمن وظلم بالنسبة لرجل متزوّج! 

وهو يلوح بيده ساخطا : 

- أتريدني أن أرسم لوزارة المعارف سياستها؟ 

فقال باتكسار ورجاء : 

- كلاء ولكتى أرجو أن توقف النقل بنفوذك, . . 

وجعلت يسراه تعبث بشاربه وهو يحدج ياسين 
بنظرة لم تره لأنها بدت مشغولة بالتفكيرء وراح ياسين 


يستعطفه وبعتذر له عن إزعاجه ويؤكد له أنْ كل 
اعتهاده بعد الله عليهء ولم يغادر الدكّان حيّى وعده 
الرجل بالسعي في وقف نقله. 

وعند مساء اليوم نفسه ذهب السيّد أحمد إلى قهوة 
الجندي بميدان الأوبرا لمقابلة ناظر المدرسة. فيا إن رآه 
الرجل حتى دعاه إلى الجلوس وهو يقول له: 

- كنت منتظرًا مجيئك» فياسين جاوز كل حدٌ. إن 
آسف لما يسيبه لك من متاعب. . . 

فقال السيد وهو يجلس قبالته في الشرفة المطلّة على 
الميدان : 

- على أيّ حال فياسين ابنك أيضًا. . . 

- طبعاء ولكن لا شأن لي بالمسألة كلّهاء إِنّها 
خحصورة بينه وبين الوزارة. . 

فقال السيد كالمحتح وإن بدا وجهه مبتسمًا: 

- اليس عجيبًا أن يعاقبوا موظفا لأنّه تزوّج من 
عوّادة! أليس هذا شأنًا يعنيه وحده؟ ثم إن الزواج 
علاقة شرعيّة لا يصمح أن يتعرّض ا أحد بسوء!. . . 

قطب الناظر متفكرًا متسائلاء كأنّه لم يفهم ما قال 
صاحه. ثم قال: 

- لم يج ذكر الزواج إلا عرضًا وأخيرًا! أما علمت 
بالخبر كله؟ يمل إل ألّك لم تعلم بكل شيء! 

انقبض صدر الرجل» فتساءل في إشفاق وقلق : 

- أيوجد مطعن آخخر؟ 

فال الناظر نحوه قليلاء وقال بأسف : 

- المسألة يا سيّد أحمد أنْ ياسين تعارك في درب 
طياب مع ساقطة. فحرّر له محضر بلغت صورته إلى 
الوزارة. . 

بهت الرجل فانّسعت حدقتاه واصفرٌ وجهه. حبّى لم 
غالك الناظر من انخير رامة اسنا وهو يقرل» 

- هذه هي اللحقيقة»؛ وقد بذلت قصارى جهدي 
لأخف العقوبة» حي وُفْقت إلى إلغاء فكرة إحالته إلى 
مجلس تأديب فاكتفي بنقله إلى الصعيد. . . 

تيد السيّد مغمغًا: 

الل ا 

فقال الناظر وهو يرمقه بعطف ؛ 


- إن آسف جدًا يا سيّد أحمدء غير أن هذا السلوك 
لا يليق بموظف. لا أنكر أنه شابٌ طيّب ومثابر على 
عمله. بل أصارحك بأ أحبّه. لا لأنّه ابنك فحسب 
ولكن لشخصه أيضاء ولكن سا أعجب ما يقال عنه! 
ينبغي أن يصلح من شأنه ويقوّم سلوكه وإلا خسر 
مستقبله ! 

تيدف المجة طريد والغعضب مرتسم على وجهه. 
ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: 

معركة مع ساقطة! فليذهب إذن في داهية!. . . 

ولكنّه لم يتركه للداهية وإتما بادر إلى مقابلة معارفه 
من الدؤاب وعِلْيَة القوم مستشفعًا بهم في وقف النقل. 
وكان محمّد عفت على رأس الساعين معه. فتوالت 
الشفاعات على كبار رجال المعارف حيّى أثمرت فالخي 
النقلء؛ ولكنّ الوزارة أصئت على ندبه للعمل 
بديواهاء ثم أعلن رئيس المحفوظات ‏ صهر عمد 
عفْت أو زوج زوجة ياسين الأولى - عن استعداده 
لقبوله في إدارته - بإيعاز من محمّد عفت ‏ فتمّت 
الموافقة على ذلك» وتُقل ياسين في أوّل شتاء سئة 
5 إلى إدارة المحفوظات. ول تمر المسألة في سلام 
المدارس» كما صرف النظر عن بحث ترقيته إلى 
الدرجة السابعة رغم أقدميته في الثامنة الى جاوزت 
عشرة أعوام. ومع أنَّ محمد عفْت قصد من إلحاقه 
بإدارة صهره آلا تساء معاملته فإِنّ ياسين لم يرتح إلى 
وضعه الحديد نحت رباسة زوج زينبء». وقد عبر عن 
مشاعره حين قال يومًا لكيال: 

- لعلّها سرت بما وقع لي ووجدت فيه تأييدًا 
لوقف أبيها حين رفض إرجاعها إلي» إني خبير بعقول 
النساء ولا شلك في أنْها شمتت بي وإنّه لمن سوء الحظ 
ألا اجد مكانًا كرما إلا تحت رياسة هذا التيس! ما هو 
القهل الاك نيه للنشاكه .وما أضحزه عد أندرسد 
الفراغ الذي تركه ياسين, فلتشمت الحمقاء فَإن 
شامت . , . 

وم تقف زلوبة على سرٌ النقل. وقصارى ما علمت 
أن زوجها دب للعمل بمركز أفضل في الوزارة, كذّلك 


قصر الشوق /إلم/ 


تحاشى السيد أن يطرق في حديئه مع ياسين موضوع 
الفضيحة الحقيقيَ» واكتفى بأن قال له حين وُفْق إلى 
إلغاء النقل : 

- ما كل مرّة تسلم الحرّة! لقد أتعبتني وأخجلتني» 
ولن أتدخل في أمورك بعد اليوم. فافعل ما بدا لك. 
وربنا بيني وبينك! . . . 

ولكنّه لم يستطع أن يسقط أمره من حسابهء فدعاه 
يومًا إلى الدكانء وقال له : 

آنْ لك أن تفكر في حياتك تفكيرًا جديدًا يعود 
بك إلى طريق الكرامة وينتشلك من الحياة المنبوذة التي 
تحياهاء لا يزال في الوقت متسع كي تبدأً 5 
جديداء وإفي أستطيع أن أهيّىئ لك الحياة التي تليق 
بك فأصغ إل وأطعني . . . 

ثم عرض عليه مقترحاته قائلا : 

- طلق زوجك وعد إلى بيتك وإني. أتعهّد بآن 
أزوجك زواجًا لائمًا فتبدأ حياة كريمة! 

فتورد وجه ياسين. وقال بصوت خافت: 

7 إن أقذر رغبتك الصادقة في إصلاح شأنيء 
وسوف أعمل من ناحيتي على تحقيق هذه الرغبة دون 
إيذاء أحد. , , 

فهتف الرجل ساخطا : 

- وعد جديد كوعود الإنجليز! الظاهر أنْ نفسك 
تراودك على زيارة السجن» أجل سيجيئني صراخك 
المرّة القادمة من وراء القضبان. لا زلت أكرّر عليك 
أن تطلق هذه المرأة وتعود إلى بيتك . , , 

فقال ياسين وهو يتسّدء متعمّذا أن يسمع أباه 
تغهده : 

- إنها حبل يا أيء ولا أريد أن أضيف ذنًا جديدًا 
لوي ا 

اللي "اسفظلنا! اق بطق زثوية فين التلق نكر | 
أكان في وسعءك أن تتصور ما يدّخر لك هذا الشابٌ 
من متاعب ساعة تلقيته وليدًا في يوم عد من أسعد أيَّام 
حياتك؟ ! 

- ححبلى ؟ ! 

د القهر دن 


4 قصر الشوق 


وتخاف أن تضيف ذنمًا جديدًا إلى ذنوبك؟ ! 

ثم منفجرا قبل أن يفتح الآخر فاه : 

- لم لم يؤنبك ضميرك وأنت تعتدي على الطيّبات 
من بئات الطيبين! أنت لعنة وحق كتاب الله!. , 

وعند انصرافه من الدكان أتبعه عينين مليئتين 
بالرثاء والازدراء. لم يكن بوسعه إلا أن يعجب بمظهره 
الذي ورثه عنه, أمّا مخبره الذي ورثه عن أمّه, . . ! 
وذكر بغتة كيف أوشك هو يومًا أن يترى في الماوية 
على يد زنُوبة نفسها! ولكنه ذكر في الوقت نفسه كيف 
شكم نفسه في اللحظة المناسبة. شكم نفسه؟! وشعر 
بامتعاض وقلق. فلعن ياسين؛ ثم لعن. . . ياسين! 


ع 

جاء يوم 7٠١‏ ديسمبر فشعر بأنّه يوم لا كبقيّة الأيام. 
على الأقلّ بالقياس إليه هو. ففى ساعة منه وجد نفسه 
في هذه الدنياء وسجّل ذلك في شهادة حي لا يمكث 
أكثر أو أقل ما تم الاثفاق عليه!... وكان يرتدي 
معطفه ويقطع حجرته ذهابًا وجيئة» ثم يلقي نظرة على 
مكتبه فيرى كشكول الذكريات مفتوحًا على صفحة 
بيضاء رُقَمٍ أعلاها بتاريخ الميلاد. فيفكر فيا يريد أن 
يكتبه لمناسبة الذكرى» ويواصل حركته مستمدًا منها 
شيئًا من الدف»ء يستعين به على مقاومة البرودة 
القارسة. وكانت السماء كا تبدو من زجاج النافلة ‏ 
متوارية وراء سحاب متجهم والمطر ينزل قليلا 
ويسكت قليلا عررّكًا في نفسه بواعث التأمّل والحلم. 
لا بد من الاحتفال باللميلاد ولو اقتصر الحفل على 
صاحب الميلاد وحده» ذلك أنْ البيت القديم لم يعرف 
تقاليد الاحتفال بأعياد الميلاد. وأمّه نفسها لم تدر أن 
اليوم من الأيام التي لا ينبغي أن تنساهاء فلم يبق من 
تواريخ الميلاد نفسها إِلّا ذكريات غامضة عن الفصول 
التي وقعت فيها والآلام الى صاحبتها فهي لا تعرف 
عن ميلاده إِلّا أله وكان في الشتاء وكانت الولادة 
عسيرة فجعلت أتوججع وأصرخ يومين متتابعين» قديما 
كان يذكر أنباء ميلاده فيملاً الرثاء لأمّه قلبف ثم 
تضاعف شعوره بالرثاء عندما شاهد ميلاد نعيمة فخفق 


قلبه ألما لعائشة» أمًا اليوم فإنّه يفكر في ميلاده بعقل 
جديد. عقل قد عل من مهل الفلسفة المادْيّة حي ألم 
في شهرين بما تمخض عنه تفكير الإنسانيّة في قرن من 
الزمان. تساءل عن عسر ولادته وهل يرجع بعضه أو 
كله إلى الإعمال أو الجهل. وكان يتساءل وكاممًا 
يستجوب منّهمًا قائمًا بين يديه. فكر في عسر الولادة وما 
عسى أن ينجم عنه من آثار تلحق بالمحٌ أو الجهاز 
العصبيّ فتلعب دورا خطيرًا في حياة الوليد ومصيره وما 
قد يساق إليه من خير أو شر. ألا يمكن أن يكون 
تبالكه في الحبٌ نتيجة لصدمات أصابت يافوخه أو 
خدار راسية الكبير في غيابات الرحم مئل تسعة عشر 
عامًا؟ أو أن تكون تلك المثاليّة التي أضلته طويلا في 
ججاهل الخيال وأسالت منه الدمع مدرارًا فوق مذبح 
العذاب ما هي إلا عاقبة محزئة لعبث داية جاهلة؟! 
وفكر فيا قبل الولادة: بل فيا قبل الخبل» في المجهول 
الذي تنبئق منه الحياة, في تلك المعادلة الكيميائيّة 
الآلية التي تستوي كائئا حيًا فيثور أوّل ما يثور على 
أصله مزدريًاء ويتطلّم إلى النجوم مدعي له نسبًا في 
مداراتها. بيد أنه قد عرف له بداية قريبة دعاها 
بالنطفة. فهو على ذلك لم يكن قبل تسعة عشر عامًا 
وتسعة أشهر إلا نطفةء نطفة قذفت بها رغبة بريئة في 
اللذة أو حاجة ملحّة إلى العزاء أو صولة هياج بعنتها 
سكرة غاب فيها الرشاد أو حب مجرّد إحساس بالواجب 
نحو الزوجة القابعة في البيت» فابن أيّ حال من تلك 
الأخوال: كان] العله ععياء إل هده الدنيا تقس: 
الواجب. فإِنْ الشعور بالواجب لا يزايله» وحتّى 
اللذّات لم يُقبل على ممارستها إِلّا بعد أن تمكّلت له 
فلسفة تُتبع ورأيًا يُعتنقء إلى أنه لم يخل من الصراع 
والألم ولم يأخذ الحياة أخذًا سهلاء ومن النطفة مرق 
حيوان فالتقى ببويضة في البوق وثقبهاء ثم انزلقا إلى 
الرخم مثا متخلا إلى علقة» فكسيت: العلقة لما 
وعظاء ثم خرجت إلى النور والألم بين يديها يسير» ثم 
بكت قبل أن تستبين معالمها» ومضت الغرائز المودعة 
ها تنمو وتتبلور مستجذدة على مر الأيام عقائد وآراء 
ع الت وعققة عشفا (غعفف انها د نوغا 


من الألوهيّة. ثم زُلزلت فتهاوت عقائدها وانقلبت 
أفكارها وخاب قلبها فردّت إلى مكالة أذلٌ من التي 
جاءءت منها أوْل مرّة! إذن فقد مضى من العمر تسعة 
عشر عاما يا له من عهد طويل! ويا للشباب الذي 
ينطوي بسرعة البرق. هل من غزاء إلا أن تمق الحياة 
ساعة فساعة بل دقيقة فدقيقة قبل أن ينعق غراب 
الغروب؟ مضى عهد البراءة. ولحق به العهد الذي 
كانت تور فيه الحياة بالحث ق. ح» ب. ح - اليوم 
الأشواق كثيرة إلا أن المحبوب مجهول الكنه. فلم يجد 
عل علف لعفن امرانة انيه :قي الحقيقة فميةة 
الحياة ونور العلم. والسفر فيما يبدو طويل., وكأن 
المحبٌ قد استقل قطار أوجست كونت فمرٌ بمحطة 
اللاهوبية الي كان شعارها «نعم يا أماهوى. وهاهو 
يطوي الأرص في إقليم الميتافيزيقية التي شعارها «كلا 
يا أماه» وعن بعد تتراءى سحلال المنظار المكتر «الواقعية» 
وعلى قمّتها سجّل شعارها «فتح عينيك وكن شجاعًاء . 

وتوقف عن السير أمام المكتب فثبتت عيئاه على 
كشكول الذكريات» وتساءل: أيجلس ليسوّد صفحة 
الميلاد كيفها يوحي القلمء أم يؤجَل ذلك حيّى تتبلور 
الأفكار في رأسه؟ وعند ذاك طرق أذنيه وقع المطر على 
الجدران كالدندنة, فاتّمه بصره إلى زجاج النافذة المطلّة 
على بين القصرين فرأى لألمْ عالقة برقعته المموهة 
برطوبة الجؤء وما لبثئت لؤلؤة أن انسابت إلى حافة 
الأطان الشق زاشيمة تفل الرزفقة. الووقة خط ناضما 
منعظمًا كالشهاب فمفى إلى النافذة ورفع عينيه يتابع 
الأمطار المهلّة من السسحب المترعة وقد وصلت السماء 
بالأرض بأسلاك لؤْلؤيّة,» على حين لاحت الماذن 
والقباب غير عابئة بالمطر وقد بدا الأفق وراءها إطارًا 
من فضّةء واكتنف المنظر كله لون أبيض مشرب 
نكر سائعدة يقل عورال اا كا د وتوا فكت" عرد 
الطريق صيحات أطفال» فألقى نظرة إلى نحت ليرى 
الأرض تسيل بالمياه والأركان تعجّ بالوحل وقد تعثرت 
العربات وتطاير الرشاش من عجلاتها وخلت معارضص 
الدكاكين من السلع ولاذ المارّة بالحوانيت والمقاهي وما 
تحت الشرفات , 


قصر الشوق 84/! 


هذا منظر السياء يخاطب الوجدان بلسان الوجد ف) 
أجدره أن يستلهمه طويلًا ليتامّل موقفه من الحياة في 
مطلع عامه الحديد. لم يعد يجد رفيمًا يحاوره يمكنون 
روحه مذ غادر حسين شداد أرضص الوطن. فلم تبق له 
إلا نفسه ليحاورها إذا استشعر حاجة إلى الجوار, 
فانخل من روحه صديقًا بعد أن فارقه صديق الروح. 
وسأل روحه: هل تؤمن بوجود الله؟ فسألته بدورها 
لاذا لا تحاول أن تثب من نجم إلى نجم ومن كوكب 
إلى كوكب كما تشب من درجة إلى درجة فوق السلّم؟ 
وعن الصفوة المختارة من أبناء السماء فقد رفعوا 
الأرض إلى مركز الكون وجعلوا الملائكة تسجد للطين 
حيّى جاء أخوهم كوبر نيكوس فأنزل الأرض بحيث 
أنزها الكون جارية صغيرة للشمسء ثم ثلاه أخوه 
داروين فهتك سي الأمير الزائف وأعلن على الملا أن 
أباه التقيقئ هو حبيس قفصه الذي يدعو الأصدقاء 
للتفرّج عليه في الأعياد والمواسم» وني الأصل كان 
السديم فتنائرت منه النجوم كالرشاش المتطاير من 
عجلة الدراجة. وتجاذبت النجوم في لهوها الأزلي 
فأنجبت الكواكب. وانطلقت الأرض كرة سائلة 
والقمر في أثرها يعابئها وهي تقطب له بجانب من 
وجهها وتبسم له بجانب آأخخر حيّى فثر حماسها 
فاستقرّت ساتها جبالا ونجودًا وقيعانًا وصخورًا ثم 
حياة تدّى وجاء ابن الأرض يزحف على أربع 
ويسائل من يصادقه عن المثل الأعلى. لا أخفى عنك 
أن ضقت بالأساطير ذرئاء غير أني في خضم الموج 
العاقي عثرت على صخرة مثلثة الأضلاع سأدعوها من 
الآن فصاعدًا صخرة العلم والفلسفة والمثل الأعلى. 
ولا تقل إِنْ الفلسفة كالدين أسطوريّة المزاج» فالحىٌ 
أنها تقوم على دعائم ثابتة من العلوم وتتجه بها إلى 
غايتهاء أمّا الفنّ فمتعة سامية وامتداد للحياة غير أن 
مطمعي أبعد من الفنّ مثالاء لأنّه لا يرتوي إلا 
بالحقيقة. والفنّ بالقياس إلى الحقيقة يبدو فنا أنثويّاء 
وفي سبيل هذه الغاية تراني مستعدًا للتضحية بكلّ شيء 
إلا ما يمسك عاعٌ الحياة» أمّا عن مؤعّلاتي للدور الخطير 
فرأس كبير وأنف ضخم وبحب حائب وأمل في 


قصر الشوق 


المرض. واحذر أن تسخر من أحلام الشباب فم| 
اللسخدرية نيحا إلا صارقن من اأعيراض: سرض 
الشيخوخة يدعوه المرضى بالحكمة. وليس من تناقض 
في أن تعجب بسعد زغلول كما تعجب بكوبر نيكوس 
واستولد وماح. فالجهاد في سبيل ربط مصر المتأخرة 
بركب الإنسانية عمل نبيل وإنسانّ كذلك. والوطنية 
فضيلة ما لم تتلوّث بالكراهية العدوانيّة, غير أن كره 
إنجلترا نوع من الدفاع عن النفس. وليست الوطنية 
على ذاك إِلَا إنسانيّة محليّة» وتسألني هل أومن بالحبٌ؟ 
فأجيب: ,أن الحبٌ م يبرح فؤادي بعدء فلا يسعني إلا 
أن أقرٌ بحقيقة الإنسانيّة. ومع أنْ جذوره كانت 
مشتبكة بجذور الدين والأساطير فإِن تقوض المعابد 
المقدسة لم يزعزع أركانه أو يقلل من خطورة شأنه 
اقتحام محرابه بالدراسة والتحليل» وفرز عناصره 
البيولوجيّة والسيكولوجيّة والاجتاعيّة,» فكلٌ أولئك لم 
يوهن من تخحفقة القلب إذا هفت ذكرى أو تخايلت 
صورة. ألا زلت تؤمن بخلود الحب؟ ليس الخلود 
أسطورة. فلعلٌ الحبّ يُنسبى ككل شيء في هذه الدنيا, 
وقد انقضى عل زواج.... عايدة ‏ لم تتردّد قبل 
التفوّه باسمها؟ ‏ عام فقطعت شوطا في طريق 
النسيان. مررت بطور الجنون فطور الذهول فطور الألم 
الحاد ثم طور الألم المتقطع, الآن قد يمضي يوم بأكمله 
فلا تخطر لي على بال إِلّا حين الاستيقاظ وحين النوم 
ومرّة أو مرّتين في أثناء الغبارء ويتفاوت تأثري بالتذكر 
ما بين حنين ينبعث معتدلا أو حزن يِرّ مرور السحاب 
أو حسرة تلسع ولا تحرق إلا أن تشور النفس بغئة 
كالبركان فتدور بي الأرض» وعلى أي حال غدوت 
أومن بأنْني سأواصل الحياة بلا عايدة. علام تُعوّل في 
طلب النسيان؟... على دراسة الحبٌ وتعليله كما 
سلف. والتهوين من الآلام الفردية بالتاملات الكونية 
الى يبدو عالم الإنسان في مداراتها هباءة تافهة, 
والترويح عن النفس بالشراب والجنس. والتياس 
العزاء عند فلاسفة العزاء كإسبيئوزا الذي يرى الزمن 
شيئًا غير حقيقي وبالتالي فالانفعالات المرتبطة بحادث 
في الماضي أو المستقبل مضادّة للعقل» ونحن خليقون 


بالتغلّب عليها إذا كرّنا عنها فكرة واضحة متميّزة. 
أسئك أن وجدت الحبٌ ينسى؟. . . سني لأنه يعدني 
بالنجاة من الأسرء. وأحزنني بما كان تجربة خبرت بها 
الموت قبل حضوره. ومهما يكن من أمر فسأمقت ما 
حييت الأشر وأعشق الحرّيّة المطلقة, 

سعيد من لا يفكر في الانتحار أو يتمئى الموت. 
سعيد من تتوهج في قلبه شعلة الحماس. وخالد من 
يعمل أو يتهيأ صادقًا للعمل» حي فخ نتاشير الخيام 
بكتاب وكاس ومعشوق, والقلب اللهج بالآمال يسسبى 
أو يتنابى الزواج كالكاس المترعة بالويسكي لا تتسع 
للصرداء: وعد نه أذ مراتلك بالاتر اه سدر مت 
حسمًا أن إقبالك على المرأة لا تعترضه عقبات من تقرّز 
أو نفورء أمًا حنينك من حين لآخمر إلى الطهير 
والتقشّف فلعله بقيّة من تديّنك القديم. 

وم ينقطع المطر عن الانبلال لحظة. وقعقع الرعدى 
ولع البرق» وأقفر الطريق» وسكت الصياح. وخطر 
له أن يلقى نظرة على فناء اللدار فغادر الحجرة إلى 
الصالة ثم إلى النافذة» ونظر من خلال خصاصها فرأى 
المياه تجرف سطح الأرض الليّن فتخْدّده ثم تتدفق 
صوب البثر القديمة» وفاض عنها جانب فتجمع في 
نقرة بين حجرة الفرن والمخزن, هذه النقرة التى ينجم 
فيها غبّ الحفاف . مما يتساقط عفوا من حنطة أو شعير 
أو حلبة من يدي أمّ حنفي - نبت يكسوها حلّة 
سندسيّة فيترعرع أَيَامًا حبّى تدوسه الأقدام: وقد كانت 
على عهد دولة الطفولة حقل تجاريه ومراح أخلامه, 
ومن ينبوع ذكرياتها يمتاخ قلبه الآن شوقًا وحنيناء 
ومسرّة يغشاها حزن وان كسحابة شفافة تغشى وجه 
القمر. وتحول عن النافذة ليعود إلى حجرته فانتبه إلى 
وجود من كان بالصالة؛ إلى الذكرى الباقية من مجلس 
القهوة القديم؛ إلى أمه متربعة عل الكنبة باسطة 
ذراعيها فوق المجمرة ولا جليس لا إلا أمّ حنفي وقد 
تربئعت على فروة قبالتها. فذكر المجلس القديم في 
أيامه الزاهرة وما أودعه من حميل الذكريات. وكانت 
المجمرة هي الأثر الوحيد فيه الذي لم يكد يطرأ عليه 
تغيّر ينكره الرائي . 


- 5١ 


كان أحمد عبد المحواد يسير الموينى على شاطئ النيل 
في طريقه إلى عوّامة تحمّد عنّتَء وكان الليل ساجيا 
والسياء صافية متألّقة النجوم. والهواء مائلًا لليرودة, 
فلا انتهى إلى هدفه وهم بلميل إليه لم ينس بحكم 
العادة وحدها ‏ أن يرمي ببصره بعيدًا إلى حيث تقوم 
العؤامة التي دعاها يومًا «عوامة زنُوبة». كان قد انتهى 
على الذكريات الأليمةٌ عام فلم يعد يبقى في قلبه إلا 
الامتعاض والخجل. وكان من آثارها المتخلفة أن هجر 
مجالس النساء ىا فعل عقب مصرع فهمي» فثابر على 
ذلك عامًا حيّى ضجرء فرجع عن عزمه وعاد ساعيًا 
على قدميه إلى المجلس المحرّم. وما هي إلا دقيقة حت 
أقبل على المجلس فطالع المجموعة المحبوبة المؤلفة من 
أصدقائه الثلاثة والمرأتين» أمَا الأصدقاء فكان آخر 
لقاء بينه وبينهم ليلة أمس» وأمًَا المرأتان فلم تقع 
عليهم) عيناه منذ نحو عام ونصف أو على وجه 
التحديد ‏ منذ تلك الليلة الى أقحم فيها زنُوبة في 
حياته. ولم يكن شيء قد بدأ بعدء فالقوارير لم تفض 
والنظام لم يمس. وكانت جليلة محثلة كنبة الصدارة؛ 
تعبث بأساورها الذهبيّة وكائما تنصت إلى وسوستهاء 
على حين قامت زبيدة تحت المصباح المندلي من 
السقف. تنظر في مرآة صغيرة بيدهاء متفخصة 
زينتهاء جاعلة ظهرها إلى المائدة الحافلة بقوارير 
الويسكي وصحافة المزرّة. وتفرّق الأصدقاء حاسري 
الرءوس وقد خلعوا جباءهم فصافحهم أحمد عبد الجواد 
ثمّ صافح المرأتين بحرارة» فرخبت به جليلة قائلة 
وأهلا بأختي الحبيس» أمَا زبيدة فقالت له باسمة 
في عتاب «أهلا بالذي لولا الأدب ما استحقٌ منا 
السلام». ونزع الرجل جبّته وطربوشهء ثم ألقى نظرة 
عل الأماكن الكالية ونانف ونيد كان لسك إل 
جانب جليلة ‏ وتردّد قليلا قبل أن يمضي إلى كنبة 
المرأتين ويتَّخْذْ مجلسه عليهاء ول يغب ترذده عن عين 
علي عبد الرحيمء فقال: 

هكذا تبدو كأنك تلميذ ميتدى! 


قصر الشوى ١4لا‏ 


لا شأن لك به فلا حجاب بيئئا وبيله. . . 

وسرعان ما ضحكت زبيدة قائلة بتهكم ؛ 

أنا أحقّ الناس بأن أقول ذلكء. أليس هو 
بنسيبي ؟ ! 

قفط. السيّد إلى ما تُعرْضٍ به. وتساءل في قلق عن 
مدى ما اتَصل بعلمها في هذا الشأن كله. ولكنّه قال 
برقة : 

- لي الشرف يا سلطانة! 

فتساءلت زبيدة وهي ترمقه بنظرة ارتياب : 

]نانك دروو :عدف فنا كا 

فقال بلباقة : 

ما دمث خالتها!. . . 

فقالت وهي تلوح بيدها في استياء : 

أمًا أنا فلن يرضى عنها قلبي أبدًا! . . . 

وقبل أن يسأها السيّد عن السبب. هتف عل عبد 
الرحيم وهو يفرك يديه : 

.خلا ادويق سق :عمسن رسومينا .1 

وممض إلى المائدة ففض زجاجة وملا الكثوس ثم 
قدّمها إليهم واحدًا واحدًا بعناية نمت عن ارتياحه 
المعهود إلى القيام بمهمّة الساقي» ثم انتظر حي تيا 
كلّ للشرب. وقال «صحّة الأحباب والإخوان والطرب 
دامت جميعًا لناه. فرفعوا الككوس إلى شفاههم 
باسمينّء ونظر أحمد عبد الجواد من فوق حافة كأسه 
إلى وجوه أصحابه... هؤلاء الأصحاب الدين 
شاطروه حمل المودّة والوفاء قرابة الأربعين عاماء فكان 
كأنه يرى فلذات من صميم نفسه. ما ملك أن جاش 
صدره بعواطف الأخوة الصادقة. ومالت عيناه إلى 
ذا فعاف إل تحلكها قفاتلة: 

وكاذا لا يرضضى عنها قلبك؟ 

فاتمهت إليه بنظرة أشعرته بترحيبها بالحديث معه. 
وأجابته : 

لأمّها حائنة لا ترعى العهودء سخانتني منذ أكثر من 
عام فغادرت بيتي دون اسئتذان وذهبت إلى حيث لم 


وريه 


قعصبر الشوق 


ترى ألم تعلم حفًا أين ذهبت في ذلك الوقت؟ ولم 
يك أن معنن هرح افونا عر في نا درف نال 

- ألم يبلغك ذلك؟ 

فقال مبدوء: 

- بلغني في حينه! 

أنا التي كفلتها من الصغر ورعيتها بقلب الأمْ, 
فانظر كيف كان الجزاء! سفخص على الدم الننجس! 

فقال عل عبد الرحيم مازحًاء وهو يتظاهر 
بالاحتجاج : 

لا تسيّى دمها فإِنّ دمها هو دمك! . . 

ولكيّ زبيدة قالت جادّة : 

- دمي بريء منبا! 

وهنا سأها السيْد أحمد: 

من كان أباها يا ترى؟ 

أناها؟ | 

لذت هذه الكلمة عن إبراهيم الفار بصوت أنذر 
سيل من السخريات» ولكنّ محمّد عت بادره قائلا: 

تذكر أن الحديث عن حرم ياسين ! 

فزايلت وجه الفار هيئة المراح ولاذ بالسمت في 
شىء من الارتباك, على حين عادت زبيدة تقول: 

أمَا أنا فلا أهزل فيا أقول عنباء وطلما رمقتي 
بعين الحسد وطمعت في منافسبتي وهي ف رعايتي. 
ذكنت أدارمها وأغض عن مساوئها (ثمٌ وهي تضحك) 
كانت محلم بأن تكون عالمة! 

ورذدت عينيها في الحاضرين». لم قالت بلهجة 
ساخحرة : 

- لكدها أفلست فتروجت!. . . 

تساءل عل عبد الرحيم في إنكار: 

- هل الزواج في عرفك إفلاس؟ ! 

فضيّقت له عيئء ورفعت حاجب الأخرى. وهي 
تقول : 

- نعم يا عمر!... 
وهنا غنت جليلة هذا المقطع «(أنت المدام يا روحي 
أنت أنستناو. فابتسم السيّد ابتسامة عريضة وحيّاها 


العالة لا بجر التحخث حي 


بآهة لطيفة وشت بانبساطه, غير أن عن عبد الرحيم 
مض مرّة أخرى وهو يقول: 

لحظة سكوت حتّى نستوعب هذه الكأس. . . 

وملا الكئوس ووزعها بيهمء ثم عاد بكأسه إلى 
مجلسه. وقبض أحمد عبد الخواد على كاسه ولحظ 
زبيدة» فالتفتت نحوه باسمة ورفعت يدها بكأسها 
كأتما تقول له «صحّتك». ففعل مثلها وتشارباء 
وجعلت في أثناء ذلك ترنو إليه بنظرة باسمة. مضى 
عام دون أن تثب به رغبة إلى طلاب امرأة» كأنّ 
التجربة القاسية التي امئحن بها قد أحخمدت حماسه. أو 
لعلّه الكبرياء أو لعله المرض» غير أن نشوة الخمر 
ونظرة التودد حرّكتا فؤاده فاستشعر عذوبة الإقبال بعد 
مرارة الصدّء. واعتدها تحيّة طيّبة من الجنس الذي هام 
به حياته. لعلها تضمد جرح كرامته التى فست عليها 
الخيانة وتقدّم العمرء وكأنٌ ابتسامة زبيدة الناطقة 
كانت تقول له: «لم يول عهدك بعد!» فلم يحول عن 
نظرتها عينيه ولم يلغ ابتسامته. 

وجاء محمّد عفت بعود ووضعه بين المرأتين, 
فتناولته جليلة وراحت تلعب بأوتاره» ولمًا آنست من 
السامعين انتباها غنَّت «وعدي عليك يالل بحبك». 
وتظاهر أحمد عبد الحواد بالانسجام كعادته كلما سمع 
جليلة أو زبيدة: وذهب مم النغمة برأسه وجاءء كأئما 
يريد أن يخلق الطرب بتمثيل حركاته. والح أنه لم 
يعد يبقى له من عام الغناء إلا ذكريات» فقد ذهب 
الحامولي وعثيان والمنيلاوي وعبد الحىّ» كا ذهب 
شبابه وكا ولت يام النصرء ولكن ينبغي أن يوطن 
النفس على الرضى بالموجود وأن يبتعث عاطفة الطرب 
ولو بتمثيل حركاته؛ وقد دعاه حبه للغناء وغرامه 
بالطرب إلى ارتياد مسرح مثيرة المهديّة غير أنه لم يبو 
الغناء التمثيل؛ فضلا عن أنه ضاق بجلسة المسرح 
الذي شبهه بالمدرسة. كا استمع في بيت محمد عفت 
إلى أسطوانات المطربة الجديدة أمّ كلثوم ولكنّه أعارها 
أذْنا حذرة مضمرة سوء الظنّ. فلم يتذوّقها رغم ما 
قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها. بيد أنَّ 
مظهره لم يش بحقيقة موقفه من الغناء» فا زال يتطلع 


إلى جليلة راضيًا سعيدًا ويردّد مع الجميع لازمة 
«وعدي عليك» بصوته الرحيم» حتى هتف الفار 
بمحسرة , 

- أين أين الدف؟! أين الدفٌ لنسمع ابن عبد 
الحواد؟ 

سَل أين أحمد عبد الحواد الذي كان ينقر على 
الدفٌ؟! آه. لم يغيّرنا الزمان؟ وخختمت جليلة غناءها 
في هالة من الاستحسان., ولكتها قالت في لهجة اعتذار 
وهي البتسم ‏ شاكرة : 

- إن متعبة. . 

ولكنّ زبيدة كيّلت ها الثناء كيا يدور بينبها كثيرا 
على سبيل المجاملة أو حرضًا على السلام العام وم 
يكن يخفى على أحد أنْ نجم جليلة كعاللة آخذ في 
الأفول السريع الذي كان آخر آياته هجر الدقافة فيئو 
لتختها والتحاقها بتخت آخرء وهو أفول طبيعيّ إذ 
كان الذبول قد أدرك كافة المزايا التي قام عليها مجدها 
القديم من الفتنة وجمال الصوت, ولذلك لم تعد زبيدة 
تجد نحوها غيرة تذكر فوسعها أن تجاملها درن 
مضض». خاصة وأنْها كانت بلغت ذروة حياتها» تلك 
الذروة التي لا خطوة بعدها إِلّا نحو الانحدار. وكان 
الأصدقاء كثيرًا ما يتساءلون عا إذا كانت جليلة قد 
أعدّت العدّة لهله المرحلة الخطيرة من الحياة» وكان 
رأي أحمد عبد الحواد أنبها ١‏ تفعل ؛ واتهم بعض من 
عشقتهم بتبديد الكثرة من ثروتهاء ولكنّه جاهر في 
الوقت ذاته بأثها امرأة تعرف كيف تحصل على المال 
بأ سبيل. وأيّده على ذلك عل عبد الرحيم قائلا: 
إثْها تتاجر بجال نساء تختها وإنْ بيتها يتحول رويدًا 
رويدا إلى شيء آخر. أمّا زبيدة فقد انعقد إجماعهم 
على أنْها- رغم مهاتراتها في ابتزاز الأموال جوادة 
مفتوئة بالمظاهر التي تحرق المال حرقاء إلى ولعها 
بالشراب والمخدّرات وخاصة الكوكايين. قال محمد 
عفت لخاطبًا زبيدة : 

- اسمحي لي بأن أبدي إعجابي بنظراتك الحلوة 
الى تخصين مها بعضنا؟ 

فضحكت جليلة» وقالت بصوت حافت : 


قصر الشوق ةب 


الصت تفضحه عيونة , . . 

وتساءل إبراهيم الفار منكرًا: 

أم تحسبين نفسك في زاوية العميان؟ 

فقال أحمد عبد الحواد متظاهرًا بالأسف: 

- ببذه الصراحة لن تكونوا قوَادين كيا تحبّون! 

أما زبيدة فقد أحابت مُحمّد عفت: 

أنا لا أنظر إليه لغرض لا سمح الله ولكيي 
أحسله على شبابه؟ انظروا إلى رأسه الأسود بين 
رءوسكم البيض وأجيبون هل تعطونه يومًا واحدًا فوق 
الأربعين؟ 

أنا أعطيه قرئًا. . , 

فقال أحمد عبد التواد: 

من بعض ما عندكم! 

وعند ذاك ترئمت جليلة بمطلع الأغنية «عين الحسود 
فيها عود يا -حليلة؛» فقالت زبيدة: 

لا خوف عليه من الحسدء فإنّ عيني لا تؤذيه؟! 

فقال محمد عفْت وهو بير رأسه هرّة ذات معنى : 

- أصل الأذى كلّه من عيونك! 

وهنا قال أحمد عبد الجواد موججها الخطاب إلى 
زبيدة : 

- أتتحدثين عن شبابي؟ أما سمعت بما قال 
الطبيب؟ 

فقالت كالمستدكرة: 

باون عجن عنكه زلككق ما هذا الضغط الذي 
يتهمك به؟ 

لَك حول ذراعي قربة غريبة» وراح يتفخ بمنفاخ 
جلدي, ثم قال لي «عندك ضغطء! . . . 

و الهاء الف 

فأجاب السيد ضاحكا: 

ب لا أظئه جاء إلا من ذات النفخ ! 

قال إبراهيم الفار وهو 0 يكف : 

لعله مرض معد فإنّْه لم يكد يمضي شهر على 
إصابة المحروس به حبّى ذهبنا جميعا تباعًا إلى الطبيب 
وكانت نتيجة الكشف في جميسع الحاللات واحلة: 
الضغط! . . 


4 قصر الشوق 


فقال عل عبد الرحيم : 

أنا أقول لكم سرّه؛ إنْه عرض من أعراض 
الثورة. وآي ذلك أنه لم يسمع به أحد قبل اشتعاها! 

وسألت جليلة السيّد أحمد: 

وما أعراض الضغط؟ 

صداع ابن كلب» وتعب في التنفس عند 
المثى. . 

00 زبيدة وهي تبتسم ابتسامة دارت مها شيعا 
من القلق : 

- ومن يخلو ولو مرّة من هذه الأعراض؟ ما رأيكم 
أنا عندي فك انا 1د 

فسأها أحمد عبد الحواد: 

- من فوق أم من تححت؟ 

وضحكوا بلا استثناء زبيدة نفسهاء حبّى قالت 
جليلة : 

ما دمت قل حيرت الصغطء فاكشف عليها لعلّك 
تعرف علّتها! 

فقال أحمد عبد الجواد: 

- عليها أن تحضر القربة وعلّ أن أحضر المنفاخ! 

فضحكوا مرّة أخرىء ثم قال محمد عت 
كالمحتج : 

- ضغط. .. ضغط. .. ضغط. . . لا نسمع الآن 
إلا الطبيب وهو يقول كأمًا يأمر عبيده: لا تشرب 
الخمر: لا تأكل اللحوم الحمراء. احذر البيض. . . 

فتساءل أحمد عبد الحواد ساخخحرًا: 

- وماذا يصئع إنسان مثلي لا يأكل إِلَا اللحوم 
الحمراء والبيض ولا يشرب إلا الخمر؟! 

فقالت زبيدة من فورها: 

كُلْ واشرب باطنا والشفاء الإنسان طبيب نفسهء 
وربنا هو الطبيب. . . 

ومع ذلك فقد انع تعاليم الطبيب في الفترة التي 
اضطر فيها إلى الرقاد» فلَ| مض تنامى نصح الطبيب 
حملة وتفصيلا. عادت جليلة تقول: 

أنا لا أومن بالأطبّاء ولَكئي أقيم لهم العذر في) 
يقولون ويفعلون. فإئهم يتعيشون من الأمراض كما 


نتعيّش نحن العوالم من الأفراح» ولا غناء لهم عن 
القربة والمنفاخ والأوامر والنواهي كما لا غناء لنا عن 
الدفٌ والعود والأغان. . . 

فقال السيد بارتياح وحماس : 

صدقتء. فالمرض والصحة والحياة والموت بأمر 
الله وحدهء ومن توكل على الله فلا يحزن, , , 

إبراهيم الفار ضاحكا: 

- اشهدوا يا ناس على هذا الرجل» إنه يشرب بفيه 
ويفسق يعينه وبعظ بلسانه ! 

أحمد عبد الحواد مقهقهًا: 

- لا عل من ذلك ما دمت أعظ في ماخحورا . . . 

ميد عت وهو يتشخص أحمد عبد الجواد» وير 
رأسه متعجبا: 

- وددت لو كان كال بيننا لينتفم معنا 
بوعظك! . . , 

فتساءل عل عبد الرحيم : 

على فكرة» ألا يزال على رأيه من أنْ أصل 
الإنسان هو القرد؟ ! 

فضربت جليلة صدرها بيدها هاتفة: 

يا ندامتي! . . . 

زبيدة في دهش : 

- قرد؟!... (ثمْ كالمستدركة) لعلّه يقصد أصله 
هوا 

قال ها السيّد محذّرًا: 

- وأثبت أيضا أن المرأة أصلها لبؤة! 

فقالت وهي عاهرء: 

- ليتنئي أرى سليل القرد واللبؤة! 

فقال إبراهيم الفار: 

د سيكبر يومًا فيخرج عن محيط أسرته: ويقتنع بأن 
البشر من آدم وحواء. . 

قبادره أحمد عبد الحواد: 

- أو أحضره معي يومًا إلى هنا ليقتنع أن الإنسان 
أصله كلب! 

وقام عل عبد الرحيم إلى المائدة ليملا الكثوس, 
وهو يسأل زبيدة : 


أنت أعرف منّا بالسيّد فإلى أيّ حيوان ترجعينه؟ 

فتفكرت قليلُا وهي تتابع يدي عل عبد الرحيم 
وهما تصبّان الويسكي في الكثوس» ثم قالت باسمة : 

الحار | 

فتساءلت جليلة : 

- ذم هذا أم مدح؟ 

فقال أحمد عبد الحواد : 

المعنى في بطن القائل! 

وعاودوا الشراب على أصفى حالء وتناولت زبيدة 
العود وغْنّت «ارخي الستارة اللي في ريحنا» . 

وفي نشوة غامرة راح جسد أحمد عبد الجواد برقص 
مع النغمة. رافعًا الكاس التي لم يبق فيها إلا الثالة 
أمام عينيهء ناظرًا خلالها إلى المرأة كأنئما يروم أن يراها 
بمنظار خمرئّ. وبرم الخفاء إن كان ثمة خفاء ووضح 
أن كلّ شيء - بين أحمد وزبيدة ‏ قد عاد إلى قديمه. 
وردّدوا الغناء وراه زبيدة» فعلا صوت أحمد في طرب 
وسرور حي تمت الأغنية بالتهليل والتصفيق. وما 
ليث عحمّد عت أن قال خليلة : 

- مناسبة والصبٌ تفضحه عيونه» ما رأيك في أ 
كلثوم؟ 

صوتبا- والشهادة لله جميل؛ غير أنها كثيرًا ما 
تصرصع كالأطفال! 

البعض يقولون إثّها ستكون خليفة مثيرة المهدية؛ 
ومنهم من يقول بأنْ صوتها أعجب من صوت منيرة 
لفمنها | 

كلام فارغ! أين هذه الصرصعة من بحة منيرة؟ 

وقالت زبيدة بازدراء : 

في صوتها شيء يذكر بالمقرئين» كأنها مطربة 
عراف" 

فقال أحمد عبد التواد: 

لم أستطعمهاء ولكن ما أكثر الذين يبيمون بهاء 
والحقّ أن دولة الصوت زالت بموت سبي عبده. . 

فقال محمّد عفت مداعبًا: 


قصر الشوق مؤلا 


- أنت رجل رجع . تتعلق دائمًا بالماضي. .. (ثمّ 
وهو يغمز بعينه)... ألست تصرٌ على حكم بيتك 
بالحديد والنار حيّ فى عهد الديموقراطية واليرللان؟ ! 

السيد ساخرًا: 

الديمموقراطيّة للشعب لا للأسرة. . . 

علي عبد الر.حيم جادًا : 

أتظنٌ أنه يمكن التحكم بالطريقة القديمة في شبّان 
اليوم؟! هؤلاء الشبّان الذين اعتادوا القيام بالمظاهرات 
والوقوف في وجه الحئود؟ ! 

فقال إبراهيم الفار: 

لا أدري عيّا تتكلّم» ولكتني متّفق في الرأي مع 
أحمد. كلانا أب لذكورء والله المستعان. , . 

محمد عفت مداعبًا: 

كلاىا متحمس للحكم الديموقراطيّ باللسان 
ولكنكما مستبدان في بيتكا. . . ! 

فقال أحمد عبد الحواد كالمحتج : 

آتريدني على آلا أبثٌ في مسالة حيّ أجمع كيال 
وياسين وأمْ كيال» ثم نأخذ الأصوات؟ ! 

فهاهأت زبيدة قائلة : 

الا للعو زلوبة من فضلكت, .. 

وقال إبراهيم الفار: 

- إذا كانت الثورة هي سبب ما نعاني من أولادناء 
فالله يسامح سعد باشا. . . 

وتواصل الشرب والسمر والغناء والمزاح» وتعالت 
الضجّة واختلطت الأصوات» وتقدم الليل غير عائ 
بشىءء وكان ينظر إليها فيجدها تنظر إليه أو تنظر إليه 
فتجده ينظر إليهاء وقال لنفسه: إِنَّه ليس في هذا 
الوجود إل دقو جف ه: واراف أن يفصح عن فكرته 
ولكنه لم يفصح. ما لأنّ حماسه للإقصاح فتر أو لأنّه لم 
يستطع » ولكن كيف جاء هذا... الفتور؟! وتساءل 
مرّة أخحرى: أتكون لذَة ساعة أم معاشرة طويلة؟ 
ونزعت نفسه إلى التهاس التسلية والعزاءء ولكنّ ثمَة 
وش كأنّْ أمواج النيل تمهمس في أذنيه. ومع ذلك 
نمنتصف الحلقة السادسة في متناول اليد؛ سَلٍ 


5 قصر الشوق 


الحكماء كيف ينطوى العمر ونحن ندري دون أن 


دري . .. 
ماذا أسكتك كفى الله الش؟ 
أنا؟!. . . شويّة راحة. , 


أجل ما ألذّ الراحة! ضجعة طويلة تقوم بعدها 
صحيحًاء ما ألذّ الصحّةء ولكئّهم يطاردونك ولا 
يدعون لك الحظة واحدة تلعم فيها بالسلامء وهذه 
النظرة أليست فاتنة ولكنّ همسات الأمواج تعلو فكيف 
تسمع الغناء؟ 

كلاء لن نتركه حيّى يرفٌء. ما رايكم؟. 
الزفة. . . الزفة!. , 

ام با ا 

أنا؟. .. شويّة راحة., , . 

- الزفة. .. الزة, كما حدث أوؤل.مرّة في بيت 
الغورية. . . 

- ذلك عهد قديم. . . 

تجددهى الزفة. . . الزفة. . 

لا يرحمون. وذلك زمن خلا تحجبه عن عينيك 
ظليات» ألا ما أكثف الظلام! وما أشدٌ الوش! وما 


أغلظ النسيان, . . ! 
ع ال ا 
ها نا اوس 


- قليلا من الماء. . 
دايا لطيف يا رب. . 
- خير. . . خخيرء بل هذا المنديل بالماء البارد. . 


. افتحوا النافذة. . , ! 


3 

مفضى أسبوع على «حادث» الأبس. وكان الطبيب 
ول نوف أ وكانت الحال من الشدّة بحيث لم يسمح 
لأحد بمقابلته. حيّى الأبناء كانوا يتسلّلون إلى الحجرة 
على أطراف أصابعهم فيلقون بنظرة على الراقد 
متفخصين ما يكسو وجهه من ذيبول واستسلام . ثم 
ينسحبون وفي الوجوه اكفهرار وفي الصدور انقباض» 
يتبادلون النظرات ويتهرّبون منها في ذات الوقت. قال 


الطبيب نا أزمة ضغط؛ وحجم المريض فملاً طسنا 
من دمه. دم أسود كما قالت خديجة فى وصفه 
وجوارحها ترتعش» وكانت أمينة تعود من اللحجرة بين 
الحين والحين كشبح يبيم على وجهه. على حين بدا 
كال ذاهلا كأنًا يتساءل كيف تقع هذه الأمور المخطيرة 
في أقلّ من غمضة عين» وكيف استسلم الرجل الجبار 
واستكان. ثم يسترق نظرة إلى شبح أمّهء أو عيني 
خديجة الدامعتين أو وجه عائشة الشاحب ويتساءل مرّة 
أخرى ماذا يعني هذا كله؟ ووجد نفسه تنساق وهو لا 
يدري إلى تصوّر الباية التى يخافها قلبهء تصور عالّ لا 
يوجد فيه الأب. فضاق صدره وجزع قلبه. وتساءل 
في إشفاق كيف يمكن أن تتحمل هذه النباية أمّه؟ إمْها 
تبدو الآن كالمنتهية ولما يقع شيء. ثم وردت ذهنه 
ذكرى فهمي» فتساءل: أيمكن أن يسى هذا كما نسي 
ذاك؟ وتراءت له الدنيا ظليات فوق ظلءات . 

وعلم ياسين بالحادث في اليوم التالي لوقوعه؛ فجاء 


٠‏ إلى البيت لأول مرة مذ غادره عند زواجه من مريم. 


وقصد -حجرة أبيه رأسًا فألقى عليه نظرة طويلة صامتة 
ثم انسحب إلى الصالة مذهولاء فالتقى بأمينة 
فتصافحا بعد طول فراق؛» واشتدٌ تأثره وهو يصافحها 
فامتلآت عيناه بالدموع. ولبث السيّد راقذّاء ولم يكن 
أل الأمر يتكلم أو يتحرّك, فليا حجّم دب فيه شيء 
من الحياة فاستطاع أن ينطق بكلمة أو عبارة مقتضبة 
يفصح بها عمّا يريد. ولكنّه في الوقت ذاته شعر بالألم 
فصدر عنه الأنين والتأؤهات. ولا فت حدّة الآلام 
الرَضِيّة أخذ يضيق برقاده الإجباريّ الذى حرمه نعمة 
الحركة والنظافة؛ وقضى عليه بأن ياكل ويشرب ويفعل 
ما تعافه نفسه في مكان واحد هو فراشه. وكان نومه 
متقظمًاء وكان ضجره متَصلًاء غير أن أوّل ما سأل 
عنه كان خاصًا بكيفيّة إحضاره إلى البيت مغشْيًا عليه 
وأجابته أمينة بأنه جيء به في خنطور مم صحبه محمّد 
عت وعلّ عبد الرحيم وإبراهيم الفارء وأئّهم حملوه 
برفق إلى فراشه. ثم أحضروا له الطبيب رغم تأخر 
الوقت. وسأل بعد ذلك باهتيام عن عواده فقالت له 
المرأة إنْهم لا ينقطعون ولكنّ الطبيب منم المقابلة إلى 


حين. وكان يرذد بصوت خافت «الأمر لله من قبل 
ومن بعد» و «نساأل الله حسن الختام». ولكنّ الحقٌ أنه 
لم يستشعر اليأسء ولم يحس بدنو النهاية» ولم تضعف 
ثقته بالحياة الى يحبها رغم الامه ونخوفهء عاوده الأمل 
بمجرّد عودة الوعي إليهء فلم يحدّث أحدًا بحديث 
الراحلين كأن يوصي أو يودّع أو يعهد لمن يمه الأمر 
بأسرار عمله وثروته» وعلى العكس من ذلك استدعى 
جميل الحمزاوي وكلّفه ببعض أعال المبادلة التي لم يكن 
يعلم عنها شيئاء كا أرسل كهال إلى خيّاطه البلدي 
بخان جعفر ليحضر ملابس جديدة كان عهد بها إليه 
وليدفع ثمن خيطهاء لم يكن يذكر الموت إلا بتلك 
العبارات يردّدها كأتما يداري بها قسوة الأقدار. وعند 
ختام الأسبوع الأول صرّح الطبيب بأنْ مريضه اجتاز 
المرحلة الدقيقة بسلام. وأنّه لم يعد يلزمه إلا بعض 
الصبر كي يستردٌ صحّته كاملة ويستأنف نشاطه . وأعاد 
الطبيب على مسمعه ما سبق أن حذّره منه عند ارتفاع 
ضغطه أول مرّة فوعذه بالطاعة وعاهد نفسه ضادقًا غعل 
الوفلاع عن الاستهتار بعد ما تبين له من عواقبه 
الوخيمة التى أقنعته بأنْ الأمر جدّ لا هزل» وجعل 
يتعرّى قائلا: إِنَّ الحياة السليمة مع شبيء من الحرمان 
خير على أيّ حال من المرض . 

وممكذا مرّت الأزمة بسلام» فاستردّت الأسرة 
أنفاسها ولحجت قلوبها بالشكرء وعند نهاية الأسبوع 
الثان سمح للسيّد بمقابلة عواده فكان يوم سعيدء 
وكانت أسرته أوؤل من احتفل يبهذا اليوم فزاره أيناؤه 
وأصهاره وتحدّثوا إليه لأوؤل مرّة منذ الرقادء وقلّب 
الرجل عينيه في وجوههم ‏ ياسين وخديجة وعائشة 
وإبراهيم شوكت وخليل شوكت - وراح بلباقته ‏ التي 
لم تخنه في موقفه هذا يسأل عن الأطفال رضوان وعبد 
المنعم وأحمد ونعيمة وعثان ومحمدء فقالوا له: إثهم لم 
يجيئوا بهم حرصًا على راحته. ودعوا له بطول 0 
وتمام الصحة والعافية» ثم حلثوه عن حزنهم ما ألم به 
وسرورهم بسلامته» تكلّمت خخديجة بصوت متهدّج. 
وتركت عائشة على يده وهي تقبّلها دمعة تغني عن كل 
بيان» أمًا ياسين فقال بزلاقة لسان: إِنْه مرض معه 


قصر الشوق لاو 


حين مرض وبرئ معه حين مِنْ الله عليه بالشفاء. 
فتطلق وجه الرجل الشاحب بالبشر وحدثهم طويالا 
عن قضاء الله ورحمته ولطفه وأنْ على المؤمن أن يواجه 
مصيره بصير وإيمان متوكّلا على الله وحده؛ وغادروا 
الحجرة إلى حجرة كال لين الصالة لمرور العوّاد 
المنتظر توافدهم ‏ وهناك أقبل ياسين على أمينة. فشْدٌ 
على يدها وهو يقول: 

لم أحدّئك بما في نفسي طيلة الأسبوعين الماضيين, 
لأنّ مرضى بابا لم يترك لي عقلا أفكّر به. أمّا الآن وقد 
أمر الله بالسلامة فأودٌ أن أعتذر عن رجوعي إلى البيت 
دون استئذانكء. الحقٌّ أنك استقبلتني بالعطف الذي 
عهدته منك في الأيّام السعيدة الخالية» ولكن علِعٌ الآن 
أن أقدّم فروض الاعتذار. . . 

فتورّد وجه أميلة وهي تقول بتأثر: 

ما فات فات يا ياسين. هذا بيتك تحلّ فيه أهل 
ووذ كين ات 

فقال ياسين همتنًا : 

لا أحبٌ أن أعود إلى الماضي. ولكن أحلف برأس 
أي وحياة رضوان ابني أن قلبي لم يحمل قظ سوءًا لأحل 
من أهل هذا البيت؛ وأنٍ أحببتهم جميعا ىا أحبٌ 
نفسبىء ربا يكون الشيطان قل دفعبي إلى خطلء وكل 
إنسان عرضة لحذاء ولكنّ قلبي لم تشبه شائبة أبدًا. . . 

فوضعت أمينة يدها على متكبه العريض» وقالت 
بإخلاص : 

- كنت دائمًا واحدًا من أبنائي. ولا أنكر أني 
غضبتث مرّة ولكن زال الغضب والحمد للم فلم يبق 
إلا الحبّ القديمء هذا بيك يا ياسين, أهلًا بك 
أهلا. . . 

وجلس ياسين ممتناء فليا غادرت أميئة الحجرة» قال 
للحاضرين بلهجة خطابية : 

ما أطيب هذه المرأة» إِنَْ الله لا يغفر لمن يسبيء 
إليهاء لعن الله الشيطان الذي أورطني يومًا فيها جرح 
مشاعرها. . . 

فقالت له تحديجة وهى محدجه بنظرة ذات معنى : 

- لا يكاد يمفني عام حبّى يورّطك الشيطان في 


قصر الشوق 


مصيبة. كأنك لعبة في يديه. . 

فنظر إليها بعين كأنما يتوسّل إليها أن تعفيه من 
لسائهاء وإذا بعائشة تقول مذدافعة عنه: 

- ذاك تاريخ مضى وانتهى . . . 

فتساءلت نخخدعيهة في عبكم : 

- لم لم تأت معك بلمدام «لتحُيي» لنا هذا اليوم 
المماراك؟ 

كال يافين فق كراد سطع 

- لم تعد زوجي تحبي أفراحًا بعد, إثْها الآن سيّدة 
بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى. . . 

فقالت خديجة بلهجة جدَيّة لا أثر للتهكم فيها: 

يا خسارتك يا ياسين» ربنا يتوب عليك 
وبديك. . 

قال إبراهيم شوكت» كأنما يعتذر عن صراحة 


زوحته : 
لا تؤاخذني يا مي ياسين. ولكن ما حيلتي إنَها 
أختيك ! 


فقال ياسين باسما: 

- كان الله في عونك يا سي إبراهيم! . 

وهنا قالت عائشة وهي تتمبّد : 

- الآن وقد أخذ الله بيد باباء فإ أصارحكم بأئني 
لن أنسى ما حييت منظره أُوَل يوم رأيته. ريّنا لا يحكم 
على أحد بالمرضص. . . 

خديجة بصدق وحماس : 

هذه الحياة لا تساوي بدونه قلامة ظفر. . 

فقال ياسين بتأثر: 

- إنه ملاذنا عند كلّ شدّة. رجل ولا كل 
اليجان 1 

والا8 اتذكر جو تداك :يكن «اللععرة رقن علقم اق 
الياس؟ وكيف تقطع قلبي وأنا أرى تسافت أمي . 
نعرف الموت معنى من الْعانى أمّا إذا هلّ ظلّه من بعيد 
فتدور بنا الأرض» ومع ذلك فستتوالى طعنات الألم 
بعدد من نفقد من الأحبّاء. وستموت أنت أيضًا عْلْفًا 
وراءك الآمال؛ والحياة رغيبة ولو ابتليت بالحبٌ, 
وتعالى من الطريق رئين جرس حنطورء فوثبت عائشة 


إلى النافذة ثم نظرت من خصاصهاء التفتت قائلة في 
مباهاة : 

- زوار من الأكابر! 

وتتابع وصول العواد من الأصدقاء الكثيرين الذين 
امتلأت بهم حياة الأب. موظفين ومحامين وأعيان 
وتجارء وكانت منبم قلة لم تج البيت من قبل» 
وآخرون لم يأنوا إلا مدعؤين لبعض الولائم التي يولها 
السيّد في المناسبات» وغير هؤلاء وأولئك رجال تُرى 
وجوههم كثيرًا في الصاغة والسكة الجديدة: والجميع 
أصدقاء ولكنّهم ليسوا من طبقة محمّد عنّت وصاحبيه. 
وقد مكثوا قليلا مراعاة لظروف الزيارة» ولكنّ الأبناء 
وجدوا في مظاهرهم الفاخرة وعرباتهم ذوات الحياد 
المطهمة ما أشبع خيلاءهم وزهوهم. وقالت عائشة 
وهي لا تزال بموقف المراقبة : 

ها هم الأحباب قد وصلوا. . . 

وترامت أصوات محمد عقت وعلّ عبد الرحيم 
وإبراهيم الفار وهم يتضاحكون ويرفعون أصواتهم 
بالشكر والحمدء فقال ياسين: 

- لم يعد في الدنيا أصدقاء مثل هؤلاء. . . 

فأمن على قوله إبراهيم شوكت وخليل» على حين 
قال كال بحزن لم يفطن إليه أحد: 

- قل أن تتيح الحياة لأصدقاء أن يجتمع شملهم 
طويلا كيا أتاحت لمؤلاء! 

وعاد ياسين يقول كالمتعجب : 

- لى يمر بوم دون أن يزوروا البيت. وما غادروه في 
يام الشدّة إلا والدموع في أعينهم. . . 

فقال إبراهيم شوكت: 

- لا تعجب. فقد عاشروه أكثر منكم أنتم! 

وهنا ذهبت سخديجة إلى المطبخ لتقدّم مساعداتبا. أما 
يار العوّاد فلم ينقطع. وقد جاء جميل الحمزاوي بعد 
أن أغلق الدكان. وتبعه غنيم حميدو صأحب معصرة 
الجالية» ثم محمد العجمي بائع الكسكسي بالصاحية . 
وإذا بعائشة تبتف وهي تشير إلى الطريق من وراء 
النافلة : 

- الشيخ متولي عبد الصمد! ترى أيستطيع أن 


يصعد إلى الدور الفوقان؟ ! 

وراح الشيخ يقطع الفناء متوكمًا على عضا 
متنحنحًا - من حين لآخر ‏ لينبّه من في طريقه إلى 
حضوره. وأجاب ياسين: 

إله سصطليم ان يصع إلى اقكة مقلافة رب .ررقم 
مجيبًا خليل شوكت الذي تساءل عن عمر الرجل بعينيه 
وأصابعه). .. بين الثانين والتسعين! ولكن لا تسل 

وتساءل كمال: 

- ألم يتزؤج في حياته الطويلة؟ 

فقال ياسين: 

- يقال إِنّه كان زوجًا وأباء ولكنّ زوجه وأبناءه 
انتقلوا إلى رحمة الله . 

وهتفت عائشة مرّة أخرى. ولم تكن برحت موقفها 
من النافلة : 

و القلري ا لين تاها امسر ا ا 

كان يقطع الفناء ملقيًا على ما حوله نظرة متردّدة 
متسائلة» واضِعا على رأسه قبعةٌ مستديرة من الخوص 
لاح نحت حافتها أنف بجدور مقوس وشارب منفوش » 
فقال إبراهيم : 

- لعلّه صائغ من تجار الصاغة!. , . 

فتمتم ياسين في حيرة : 

ولكنّه يوناقّ السحنة, أين يا ترى رأيت هذا 
الوجه؟ ! 

وجاء شاتٌ ضرير ذو نظّارة سوداء» يجرّه من يذه 
رجل من أهل البلد ملا بكوفيّة رافلا في معطاف أسود 
طويل يبرز من تحت طرفه جلباب مقلّم» فعرفهها 
باسين ‏ من أوّل نظرة ‏ وهو من الدهش في غباية : أمَا 
الشابٌ الضرير فكان عبده عازف القانون بتخت 
زبيدة» وأمًا الآخر فصاحب قهوة مشهورة بوجه البركة 
يدعى المايوني. فتوّة وبلطجي وبريجي ألخ. . . . 
وسمع خليل وهو يقول: 

- الضرير قانونجئ العالمة زبيدة!. . . 

فتساءل ياسين متصئعا الدهش : 

وكيفا عرف بابا؟ 


قصر الشوق 49 


فابتسم إبراهيم شوكت وهو يقول: 

- والدك من السميعة القدامى. ولا غرابة في أن 
يعرفه جميع أهل الفْن! . . . 

رابتسمت عائشة دون أن تدير رأسها المنجه إلى 
الطريق لتداري ابتسامتهاء» ياسين وكمال رأيا ابتسامة 
إبراهيم وفطنا إلى ما وراءها. وأخييرًا جاءت سويدان 
جارية آل شوكت تتعثْر في خطوات الكبر؛ فتمتم خليل 
وهو يشير إليها «رسول أمنا للسؤال عن السيد». 
وكانت حرم المرحوم شوكت قد زارت السيد مرةع 
ولكئبا لم تستطع أن تعيد الكرّة لما اعتراها في الأيام 
الأخيرة من آلام روماتيزميّة تحالفت مع الكبر عليها. 
وما لبغت خخديجة أن عادت من المطبخ وهي تقول 
مبدية التشكي مضمرة المباهاة : 

- يلزمنا قهوجي ليقدّم القهوة بنئفسه!. . . 

كان السيّد جالسًا في فراشه» مسند الظهر إلى 
وسادة متكسرة. ساحبًا الغطاء حيّى عنقه. على حين 
جلس العؤاد على الكنبة والكراسيٌ التي أحدقت 
التي و اراي راي ةن كن عا 
شيء كالتفاف الأصدقاء حوله وتسابقهم إلى مجاملته 
ورعاية عهدهء وإذا كان قد بلاه المرض بالشرٌ فإنّه ١‏ 
ينكر حسلته فيم| وجد من جزع إنخوانه لما أصصا 
وتحسرهم على غيابه ومدى إحساسهم بالوحشة في 
مجالسهم أثناء اعتكافهء وكأنمًا أراد أن يستزيد من 
العطف» فجعل يقصٌ عليهم ما لاقى من آلام وسأم. 
واستباح في سبيل ذلك أن يبول ويبالغء فقال متعهّدًا : 

في الآيَّام الأولى من المرض اقتئعت فيما بيني وبين 
نفسي بأنى انتهيت؛: فجعلت أتشهد وأقرأ الصمديةع 
وفيها بين هذا وذاك أذكركم كثيرًا فتقسو عل فكرة 
فراقكم. . . ' 

فعلا أكثر من صوت قائلا : 

لا كانت الدنيا بدونك يا سيد أحمد. . , 

وقال عل عبد الرحيم بتأثر: 

- سيترك مرضك هذا في نفسي أثرًا لن يزول مع 
الآيَام . . . 

وقال محمد عفت بصوت نحافت: 


٠‏ قصر الشوق 


أتذكر تلك الليلة؟ ربّاه لقد شيّبتنا!. . . 

فال غنيم حميدو نحو الفراش قليلاً. وقال: 

- نجّماك الذي نجّانا من الإنجليز ليلة بوابة 
الفتوح! . . . 

تلك الأيام السعيدة. أيَام الصحّة والعشق» وفهمي 
كان النجابة والآأمل الموعود. 

ب الحمد لله يا سيد حميدو! . . . 

وقال الشيخ متولي عبد الصمد: 

- إني أسألك كم أعطيت الطبيب بدون وجه حقٌ؟! 
ولا داعي للجواب. ولكتّى أدعوك إلى إطعام أولياء 
الحسين. . 

- وأنت يا شيخ متولي. ألست من أولياء الحسين؟! 
وضح هذه النقطة. . . 

فاستطرد الشيخ ‏ دون مبالاة - وهو يضرب الأرض 
بعصاه عقب كل عبارة: 

- أطعم أولياء الحسين وأنا على رأسهم, أراد محمد 
عفّت أم لم يرد» وعليه هو أيضًا أن يطعمهم إكرامًا 
لك. وأنا على رأسهم. وعليك أن تؤدّي فريضة الح 
هذا العام» ويا حبّذا لو أخذتني معك ليضاعف الله 
لك الجزاء, , . 

ما أطيبك وأقربك إلى قلبي يا شيخ متولي. أنث 
من معالم الزمن . 

أعدك يا شيخ متولي بأن آخذك معي إلى الحجاز 
إذا أذن الرحمن . 
عند ذاك قال النواجاء وكان قد خلع قبعته عن شعر 
خفيف ناصع البياض : 

- شويّة زعل؛ الزعل سبب كل شيء؛ اترك الزعل 
ترجع مثل البمب. 

مانولي الذي باعك الخمر طيلة خمسة وثلاثين عاماء 
بائع السعادة وسمسار القرافة . 

هذه عاقبة بضاعتك يا مانولي! 

فنظر الخواجا في بقيّة وجوه الزبائن. وقال: 

- لم يقل أحد إن الخمر تأتي بالمرضء كلام فارغء 
الانبساط والضحك والفرفشة تسيّب المرضص؟! 


هتف الشيخ متولي عبد الصمدء وهو يلتفت نحو 
الخواجا مسدّدًا نحوه بصرًا لا يكاد يرى: 

د الآن عرفتك يا وجه المصائب» عندما سمعت 
صوتك في المرّة الأولى تساءلت أين سمعت هذا 
الشيطان؟ ! 

وسأل محمّد العجمي بائع الكسكسي الخواجا 
مانولي» وهو يخمز بعينيه ناحية الشيخ متولي : 

- ألم يكن الشيخ متولي من زبائنك يا مانولي؟ 

فقال الخواجا باسما: 

فمه ملآن بالطعام, فأين يضع اللخمر يا حبيبي؟ 

وصام عبد الصمد وهو يشْدٌ على مقبض عصاه: 

- تأذب يا مانولي! 

فصاح به العجمي : 

- أنذكر يا شيخ متول أنّك كنت أكبر حشاش قبل 
أن يقطع الكبر أنفاسك؟ 

فلوّح الشيخ بيده متجاء وهو يقول: | 

ليس الحشيش حراماء أجبت صلاة الفجر وأنثت 
مسطول؟ الله أكبر. . . الله أكير! 

ووجد أحمد عبد الحواد المايوني صامئاء فالتفت 
إليه باسمًا وهو يقول على سبيل المجاملة : 

- كيف حالك يا معلّم؟ والله زمان!. . . 

فقال الممايوني بصوت كالنعير: 

والله زمان زمان والله! أنت السبب يا سيّد أحمد 
وأنت الهاجر, ولكن لما قال لي السيّد عل عبد الرحيم 
إن عدوّك راقد ذكرت أيّام الصبوات كأئها لم تنقطع. 
وقلت لنفسبي: لا كان الوفاء إن لم أزر بنفسي الرجل 
الحبيب» رجل المروءة والفرفشة والأنسء ولولا الملامة 
لجئت معي بفطومة وتمل ودولت ونهاوندء كلَهنٌ 
مشتاقات إلى رؤيتك» يا سلام يا سي أحمد. أنت أنت 
سواء شرّفتنا كل ليلة أم هجرتنا سنين! . . . 

لم وهو جيل عينيه الحديديتين : 

- هجرقونا كلكم البركة في السيّد عللٌ». ربّنا يحل 
لنا سنية القلِ التي تجذبه إليناء من فات قديمه تاى 
عندنا أصل الأنس» ماذا غَيّيكم عنا؟ لو كانت التوبة 
لعذرناكمء ولكنّ التوبة لم يكن أوانهاء ريّنا يبعدها 


بطول العمر والأفراح! 

أحمد عبد الخواد وهو يشير إلى نفسه : 

دها أنت ترق أننا فل انقهينا | 

فقال المعلّم بحاس : 

لا تقل هذا يا سيّد الرجال. وعكة وتمضي إلى غير 
رجعة, لن أتركك حيّ تنذر أن تعود إلى وجه الشركة 
ولو مرّة ‏ إذا أخذ الله بيدك وقمت بالسلامة!. , 

فقال محمّد عفت: 

- الزمن تغيّر يا معلم همايوي» أين وجه البركة 
الذي عرفئاه قديما؟ ابحث عنه في التاريخ , أمّا ما بقي 
منه فمراح الشبّان من أهل اليوم» كيفف نسير بينهم 
وفيهم أبناؤنا؟ 

وقال إبراهيم الفار: 

ولا تنس أنّنا لا نستطيع أن نغالط ربئا في العمر 
والصحّةء انتهينا كما قال مي أحمدء ما منّا إلا مَن 
اضطرٌ إلى زيارة الطبيب ليقول له عندك وعندك» لا 
ارس ناكا وي ال تسدنى» بوطييو «دللتومن 
الوصايا المقرفة» ألم تسمع عن مرض الضغط يا معلّم 
هايون؟ 

فقال المعلّم وهو نحدجه بنظرة : 

- داو أيّ مرض بسكرة وضحكة ولعبة» وإك 
وجدت له أثرًا بعد ذلك الزقه في كبدي ! 

فصاح مانولي : 

قلت له هذا وحياتك أنت! 

وقال محمّد العجمي, كأنما يُتمّ ما بدأ صاحبه: 

داولا تلمن المتزول الأضيل يا افعلم.:: 

فهرٌ الشبخ متولي عبد الصمد رأسه متعجّباء 
وتساءل فى حيرة : 

دلوي يا أهل الخير أين أناء أفي بيت ابن عبد 
الجواد أم في غرزة أم في حانة؟ دلوي يا هوه!. . 

تساءل الهمايوني وهو يرمق الشيخ متولي شررًا : 

- من صاحبكم؟ 

عو[ كله رو 

فقال له متهكمًا: 

اقرأ لي الطالع إن كنت وليًا! 


فهتف متون عبد الصمد: 

- إما السجن وإمّا المشئقة! , . , 

فلم يتالك المايوني من أن يضحك عالياء ثم 
قال : 

حمًا نه وليّء فهذه هي النباية المتوقعة (ثمٌ مخاطبًا 
الشيخ) لكن اضبط لسانكء وإلا حقّقت بك 
لبوءتلك!] . . . 

علي عبد الرحيم» وهو يقرب رأسه من وجه 
السدنة: 

قم يا حبيبي؛ الدنيا لاا تساوي قشرة بصلة من 
غيرك. ماذا جرى لنا يا أحمد؟ أترى أنه يحسن بنا ألا 
نستهين بالمرض بعد ذلك؟ كان آباؤنا يتزؤجون وهم 
فوق السبعين, فاذا جرى؟ ! 

متولّ عبد الصمد بعنف تطاير معه الرذاذ من فيه : 

- كان أباؤكم مؤمنين طاهرين» لم يسكرروا وم 
يفسقواء في هذا الجواب الذي تريد. . . 

وأجاب أحمد عبد الحواد صديقه قائلا : 

- قال لي الطبيب إِنْ التمادي في الاستهانة مع 
الضغط عاتبته الشلل والعياذ بالله. هذا ما وقع 
لصاحينا الوديني أكرمه الله بحسن الختام؛ إني أسال 
الله إذا حم القضاء أن يكرمي بالموت». أما الرقاد 
أعوامًا بلا حراك , , , ! اللّهم رحمتك ! 

وهنا استأذن العجمى وحميدو ومالولي في 
الانصراف. وذهسوا وهم اه للسيد بالصحة 
والعمر المديد. ومال محمد عفت على السيّد ثم همس 
بصوث هامس : 

- جليلة تقرئك السلام؛ وكم ودّت لو تراك 

فالتقطت أذن عبذه القانونجي مقالتهى ففرقم 
بأصابعه » وقال ؛ 

- وأنا مبعوث السلطانة إليك. وقد كادت أن تتربى 
بز الرجال لتحضر إليك بنفسها لولا أن أشفقت 
عليك من العواقب غير المتوقعة. فأرسلتني وقالت لي 
قل له: 


وتلحلح مرة ثم مرّة» وغبئى بصوت نخافت: 


7 قصر الشوق 


أمانة يا رايح يمه تبوس لي الحلو من فمه 
وقل له عبدك المغرم ذليل 
فابتسم الممايوني كاشفًا عن طاقم ذهبيّ » وقال: 
- يِعُم الدواء» جرّب هذا ولا تلق بالا إلى وَل الله 
المتنبّو: بالمشائق . 
زبيدة؟! لا شوق بي إلى شيء. دنيا المرض شيء 
كريه. ولو وقع المحذور لمت سكرانء آلا يعني هذا أنه 
لا بد من صفحة جديدة؟! 
وقال له إبراهيم الفار بصوت نخافت: 
لداعل للد وق لقني روا ناوا ند 
- إفي أعفيتكم من تعهدكم. وساحوني عا فات! 
عل عبد الرحيم مبتسما في إغراء : 
- لو كان في الإمكان أن نحتفل هنا الليلة بشفائك!| 
متول عبد الصمد موجُهًا خطابه للجميع : 
- أدعوكم إلى التوبة والحج. . . 
اطمايوني محنقًا : 
- كأنك عسكري في غرزة, 
وبإشارة متفق عليها من الفارء تقاربت رءوس 
محمّد عفْت وعلّ عبد الرحيم وإبراهيم الفار فوق رأس 
السيد. وراحوا يغئون بصوت حافت : 
أمًا إنت مش قد الخمرة بس تسكر ليه, 
على نخمة: 
آنا إنكمكن قد اموق ابسن تعشق ليس 
على حين جعل الشيخ متول عبد الصمد يتلو آيات 
من سورة التوبة. أمّا أحمد عبد الحود فقد أغرق في 
الضحك حي دمعث عيئاه» ومرّ الوقت بلا حساب 
حوّى بدا في وجه الشيخ متولي عبد الصمد الجرع, 
فقال: 
- ليكن في معلومكم أني آخر من سيغادر هذه 
الحجرة. لأني أريد أن أخلو إلى ابن عبد الحواد. . 


7 
غادر أحمد عبد الحواد البيت بعد أسبوعين آخرين» 
فكان أوْل ما فعله أن صحب ياسين وكيهال إلى زيارة 


الحسين والصلاة في مسجده شكرًا لله. وكان نبأ وفاة 
علي فهمي كامل فد نشر في الصحف». فتامله السيد 
أحمد طويلا وخاطب ابنيه ‏ وهم يغادرون البيت - 
فائلا: - سقط ميا وهو يخطب في جمم حافل» وها أنا 
أسعى على قدميّ بعد رقاد كدت أرى فيه الموت رؤية 
العين. فمنذا يستطيع أن يعلم الغيب؟! حقًا إِنَّ 
الأعبار بيد الله وإنّه لكل أجل كتاب. , 

كان عليه أن يصر أيامًا وأسابيع حي يستردٌ وزنه. 
غير أنّه بدا رغم ذلك مستوفيًا آي وقاره وحماله. وقد 
سار في المقدّمة وتبعه ياسين وكيال. وهو منظر لم ير 
مبيئته الكاملة منذ وفاة فهميى. وثي الطريق ما بين بين 
القصرين والجامع لمس الشابّان المكانة التى يحظى مها 
أبوهما في الح كله. فها من تاجر من أصحاب 
الدكاكين القائمة على جانبي الطريق إِلّا وقد صافحه 
وتلقاه بين ذراعيه وهو يبنّئه بالسلامة . واستجابت نفسا 
تناسيق :وكوال هذه المكودةة :اتقاكة االتعادلة».. فملكهب)] 
السرور والزهو وارتسمت على ثغريهما ابتسامة لم 
تفارقهم| طوال الطريق» غير أنْ ياسين تساءل في براءة : 
لم لم يحظ بمثل مكانة أبيه وكلاهما في الجلال والجمال 
والعيوب سواء؟! أمَا كال فبالرغم من تأثّره الوقتي 
استدعى أفكاره الغايرة عن هذه المكانة المرموقة 
ليسبرها بعين -جديدة. كانت في الماضى تتمثل لعيئيه 
الصغيرتين آية للجلال والعظمة أمّا الآن فإنّه يراها لا 
شىء أو لا شيء بالقياس إلى مثله العلياء ما هي إلا 
المكانة التي يحظى بها رجل طيّب القلب لطيف المعشر 
جم المروءة» والعظمة شيء قد يناقضُ ذلك كل 
المناقضة. فهي دوي يزلزل قلوب الخاملين ويطير النوم 
عن أعين الراقدين. وهي عسيّة بأن تستثير الكراهية لا 
الحت. والسخط لا الرضى. والعداوة لا المودّة» إثها 
الكشف والهدم والبناء» ولكن أليس من السعادة أن 
ينعم الإنسان بمثل هذا الحبٌ والإجلال؟ بلى وأي 
ذلك أنْ عظمة العظياء تقاس أحيانًا بمقدار تضحيتهم 
بالحبٌ والطمانينة في سبيل أهداف أسمى. على أي 
حال هو رجل سعيد فليهداً بسعادته. انظر إليه ما 
أحمله! كذّلك ياسين ما ألطفه! وما أعجب منظري 


بينبيا كأني صورة تنككريّة في كرنفال» ازعم ما شاء لك 
الزعم أن الال حلية النساء لا الرجال فلن يمحو هذا 
من ذاكرتك موقف الكشك الرهيب. وقد برئ أبي من 
الضغط فمتى أبرأ من الحبّ؟ والحبٌ مرض غير أنه 
كالسرطان لم تُكتشف جرثومته بعد. إِنْ حسين شدّاد 
يقول في رسالته الأخخيرة : «إنْ باريس عاصمة الال 
والحب» فهل هي أيضًا عاصمة العذاب. وقد بدأ 
العزيز يبخل برسائله كأئما يقطرها من دمه الغالي 
أريد عالمًا لا تُحدَع فيه القلوب ولا تخدع . 

علد متعطف ححان جعفر لاح لمم الجامع الكبيرء 
فسمع أباه وهو يقول من الأعماق بصوت جمع بين رقة 
التحيّة وحرارة الاستغاثة ويا حسين» ثمّ حث نسطاه 
فتبعه ياسين وهو ينظر إلى الجامع وعلى شفتيه ابتسامة 
غامضة. أيدور بخلد أبيه أنه لم يتبعه إلى هذه الزيارة 
المباركة إِلّا استجابة لرغبته هو دون أدنى مشاركة في 
عقيدته؟! أمَا هذا الجامع فلم يعد في نظره إلا رمرًا من 
رموز الخيبة التى ابتلي بها قلبه. كان في الماضي يقف 
تحت مثذنته وقلبه خفاق ودمعه متحفز وصدره مرتعش 
لجيشات الوجد والؤيمان والأمل» واليوم يقترب منه وهو 
لا يراه إلا مجموعة ضخمة من الأحجار والحديد 
والخشب والطلاء تحتل مساحة واسعة من الأرض بغير 
وجه حقٌ! بيد أنه لا مناص من تمثيل دور المؤمن حتى 
تنتهي الزيارة رعاية لحقوق الأبوؤة واحترامًا للناس أو 
اثقاء لشرهمء وهو سلوك يناني الكرامة والصدق؛: 
أريد عالمًا يعيش 
إكراة ! 

وخلعوا أحذيتهم ودخلوا تباعاء فاتجه الأب إلى 
المحراب ودعا ابنيه إلى الصلاة تحيّة للمسجدء ثم رفع 
يديه إلى رأسه مقيئًا الصلاة فائعًا به. استغرق الأب في 
الصلاة كعادته فأرخى جفونه وامتثل» ونسي ياسين كل 
شيء إلا أله بين يدي الله الغفور الرحيم. وجعل هو 
يحرّك شفتيه دون أن يقول شيكاء وانحبى واستوى ثم 
ركع وسجد وكأنه يؤدّي بعض الحركات الرياضية 
الفاترة» وقال لنفسه: إِنَّ أقدم الآثار المتخلّفة على وجه 
الأرض أو في باطنها معابد وحتّى اليوم لا يخلو منها 


فيه الانسان حرًا بلا خوف ولا 


قصر الشوف :م 


مكان فمتى يشب الانسان عن طوقه ويعتمد على 
نفسه؟ وهذا الصوت الجهير الدي يترامى من أقصى 
الجامع يذكر الناس بالآخرة فمتى كان للزمن آخخر؟ وما 
أجمل أن ترى إنسانًا يغالب الأوهام ليغلبها ولكن متى 
ينتهي القتال ويعلن المقاتل أنّه سعيد؟ وإِنّْ الدنيا لتبدو 
لعي غريبة فهل تراها لقت أمس؟ وهذان الرجلان 
هما أبي وأخي فلم لا يكون جميع الناس آبائي 
وإخوق؟ وهذا القلب الذي أحمله بين جنبيٌ كيف 
ارتضى أن يسومني العذاب ألوانًا؟ وما أكثر أن أرتطم 
كلّ ساعة بشخص لا أودّه فلباذا نزح الذي أهواه من 
دونهم إلى أقصى الأرض؟ 

ولا فرغوا من صلاتهم, قال الأب : 

لنمكث قليلُا قبل أن نقوم للطواف. 

وظلوا متربّعين صامتين» حيّى عاد الأب يقول 
بصوت رفيق : 

- لم نجتمع هنا منذ ذلك اليوم ! 

فقال ياسين بتأئر: 

الفاتحة على روح فهمي . . . 

وتليت الفاتحةء ثم سأل الأب ياسين فيما يشبه 
الارتياب : 

- ترى هل شغلتك أمور الدنيا عى زيارة الحسين؟ 

فقال ياسين الذي ل يزر الجامع طوال هذه الأعوام 
إلا مرّات معدودات ؛ 

لا يمكن أن يمرٌ أسبوع دون أن أزور سيدي! 

فالتفت الأب نحو كيال» ورمقه بنظرة كأنما تسائله 
«وأنت؟»ء فقال كال وهو ند استحياء : 

وأنا كذلك! 

فقال الأب بخشوع : 

إِنّه حبيبنا وشفيعنا إلى جدّه يوم لا ترجى فيه أمّ 
ولا أب.. 

فام من المرض هذه المرّة ‏ بعد أن ألقى عليه درسا 
لا يُسى - وهو يؤمن ببطشه ويخاف عواقبه فصدقت 
نيْته على التوبة» وقد كان يؤمن دائًا بن التوبة آتية 
مها طال بها الانتظارء فاقتنم بن تأجيلها بعد ذلك 


م 


ضرب من السفه والكفر بلعمة الله الرحيم . وكان كلما 


طافت به ذكريات اللهو تعزى بما ينتظره في حياته من 
مسرات بريئة» كالصداقة والطرب والفكاهة. لذلك 
دعا الله أن يحفظه من وساوس الشيطان وأن يثبت 
قدميه فيا اعتزم من ثوبة وراح يتلو ما نيسّر من السور 
القصار التي يحفظها. 

ونبض فنبضا وراءه؛ ثم مضوا إلى الفضريح. 
وهناك استقبلهم عرف طيّب يذكو في المكان وغمغمة 
تلاوات همس في الأركان» فطافوا بالضريح بن جموع 
الطائفين. وارتفعت عينا كال إلى العبامة الكبيرة 
الخضراء. ثم استقرنا مليًا فوق الباب الحشبيّ الذي 
طالما لثمته شفتاه. فقارن بين عهد وعهد. وحال 
وحال» وذكر كيف انجلى سر" هذا القبر عن أوّل مأساة 
في حياته. ثم كيف تتابعت المآسى بعد ذلك غير مبقية 
على حب أو عقيدة أو صداقة» وكيف أنه رغم ذلك 
كلها لذ نيزال؟ واقفًا عل قلافة »يركو إل الحقيعة ركد 
العابد» غير آبه لطعنات الآلم. حيّى المرارة انداحت 
عل شفتيه فارتسمت ابتسامة» أما السعادة العمياء التي 
تفبىء وجوه الطائفين من حوله فقد نبذها غير أسف. 
ات يشتري السعادة بالنور وقد عاهد نفسه على أن 
يعيش مفتّح العينين. مؤثرًا القلق الحيّ على الطمأئيئة 
الخاملة» ويقظة السهاد على راحة النوم . 

ولما فرغوا من طوافهم دعاهما الأب إلى الجلوس 
مليًا في مثوى الضريح. فاتجهوا إلى ركن وجلسوا 
متقاربين؛ ولمح السيد بعض معارفهء فأقبلوا عليه 
مصافحين مهئئين» وجالسه نفر منهمء. وكان أكثرهم 
يعرفون ياسين ‏ إمّا عن طريق دكان والده وإمّا عن 
طريق مدرسة النحاسين ‏ أما كيال فلم يكد يعرفه أحد 
منهم» وقد لفتث نحافته أنظار بعضهم فداعب السيّد 
قائلا : 

ما لابنك هذا كاليرص؟ 

فبادره السيّد قائلاء وكأنّه يرد تحيّة بأحسن منها: 

- أنت الأبرص! 

وابتسم ياسين. وابتسم كال. وكان أول مرّة يظلع 
فيها عل شخصيّة أبيه «السرّية» الى سمع عمنها 
الكثير. هكذا بدا الأب رجلا لا تفوته النكتة حي وهو 


في مقام الحمد والتوبة أمام ضريح الحسين. وقد بعث 
ذلك ياسين على التفكير في مستقبل أبيهء فتساءل: 
ترى هل يعود إلى مسرّاته المعروفة بعد ما كان من أمر 
المرض معه. . . ؟ وقال لنفسه: «إن معرفة ذلك عندي 
من الدرجة الأولى من الأهميّة . 


- 45 

كانت م حنفي متربعة على الحصيرة بالصالة. بيلما 
جلست نعيمة ابئة عائشة وعبد المنعم وأحمد ابنا خديجة 
على الكنبة قبالتها. وكانت النافذتان المطلتان على فناء 
البيت مفتوحتين ليلطفا من جوٌ أغسطس المفعم 
بالحرارة والرطوبة؛ غير أنه لم تكد تهفو نسمة واحدة 
فظل المصباح الكبير المتدلي من السقف يرسل نوره على 
الصالة وهو ثابت,. أمّا الحجرات فبدت مظلمة 
صامتة. وكانت أمْ حنفي نخافضة الرأس» شابكة 
ذراعيها فوق صدرهاء ترفع عينيها إلى الصغار 
الجالسين على الكنبة لحظة ثم تغمضهاء ولم تكن 
تتكلّم ولكنّ شفتيها لم نتوقّفا عن الحركة» وتساءل عبد 
المنعم : 

- إلى مق يبقى خالي كال فوق السطح؟ 

- الجوٌ حارٌ هناء لم لم تبقوا معه؟ 

- الدنيا ظلام. ونعيمة تخاف الحشرات. 

وهنا قال أحمد في ضجر: 

- إلى متى نبقى هنا؟ هذا هو الأسبوع الثاني؛ إني 
أعد الأيام يوما يوماء وأريد أن أعود إلى بابا وماما. . . 

محف يرام 

إن شاء الله تعودون جميعًا وأنتم على أسعد حال. 
ادعوا الله فَإِنّه يستجيب للصغار الأطهار. . . 

فقال عبد المنعم : 

- إِنْنا ندعوه قبل النوم وعقب الاستيقاظ كما 

فقالت المرأة : 

- ادعوه في كل وقتء ادعوه الآن. هو وحده القادر 


وبسط عبد المنعم راحتيه» ثم نظر إلى أحمد داعيًا 
إِياه إلى مشاركته. ففعل الآخخحر مثله دون أن يزايل 
الضجر وجهه. ثم قالا معًا كا تعودا أن يقولا في الأيام 
الأخيرة : 

يا رب اشفب عمّئا خليل» وعثان ومحمد ابي 
عمناء حتى نعود إلى بيتنا مجبوري الخاطر. . . 

وبدا التأثر في وجه نعيمة فأرخمت أساريرها في حزن 
واغرورقت عيناها الزرقاوان بالدموع» وهتفت: 

- بابا وعثهان ومحمد كيف حالهم؟ وماما أريد أن 
أراهاء أريد أن أراهم جميعا. . . 

فتحوّل عبد المنعم إليها قائلا بصوت الموامي : 

- لا تبكي يا نعيمة. قلت لك كثيرًا لا تبكي» 
عمي بخير عثيان بخيرء محمد بخير» وسنعود قريبًا 
إلى بيتناء جدّتي تؤكّد هذاء وخالي كال أكده أيضا منذ 
قليل. . . 

فقالت نعيمة وهي تجهش في البكاء : 

- كل يوم أسمع هذاء ولكتهم لا يسمحون لنا 
بالعودة إليهم. أريد أن أرى بابا وعثيان ومحمد. أريد 
ماما. . . 

قال أحمد بتذمر: 

ج آنا أريةةننانا :ؤفاها يضما د ب 

عبد المئعم : 

سلعود عنلما يشفوك, 

هثفت لعيمة بجزع : 

لنعد الآن» أريد أن أرجع. لم يبعدوننا عنهم ؟ 

فأجابها عبد المتعم : 

- إنهم يخافون أن نشم المرض! 

قالت نلعيمة بعناد: 

ماما هناك وتخبالتي خديجة هنالك. وعمّي إبراهيم 
هناكء وجدّق هناكء فلاذا لا يمون المرض؟ 

لأنهم كبار! . . . 

إذا كان الكبار لا يشمون المرضء» فلماذا مرض 
بابا؟ , . , 
تكدت م حنفي » وقالت برقة : 
- هل ضايقك شيء؟ . . . هذا بيتك أيضاء وها هو 


قصر الشوق ٠8١٠م‏ 


بي عبد المنعم وسي أحمد ليلعبا معك, وخالك كيال 
يحبك قد عينيهء وستعودين قريبا إلى ماما وبابا وعثمان 
ومحمقد... لا تبكي يا سئّى الصغيرة وادعي لبابا 
وأخويك بالشفاء . . 

أحمد متاففا؛ 

أسبوعان عددتهها على أصابعى: ثم إن شقّتنا في 
الدور الثالث والمرض في الدور الثاني لم لا نعود إلى 
شَقّتنا ونأخذ معنا نعيمة؟ 

أمّ حنفي كالمحدّرة وهي تضع أصبعها على 
شهتيها : 

- سيغضب خالك كيال إذا سمع بما قلتء إِنه 
يشتري لكم الشكولاطة واللبّء فكيف تقول إِنْك لا 
ترغب في البقاء معه؟ لم تعودوا صغارّاء أنت يا سي 
عبد المنعم ستدخحل المدرسة الابتدائيّة بعد شهر. 
وكذلك أنت يا نعومة! 

فقال أحمد متراجعا بعض الشىء : 

دعونا على الأقل نخرج لنلعب في الطريق ! 

فأمّن عبد المنعم على الاقتراح قائلًا : 

- كلام معقول يا أمّ حنفي؛ لم لا نخرج إلى 
الطريق لنلعب؟ 

فقالت أمم حنفي بحزم : 

- عندكم الفناء وهو يسع الدنيا والآخرة» وعندكم 
السطح أيضاء ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ كان سى 
كال وهو صغير لا يلعب إلا في البيت» وعندما أفرغ 
من شغلي أقصٌ عليكم الحكايات... ألا تحبون 
ذلك؟ 

أحب ممتجا : 

أمس قلت لنا إِنْ حكاياتك انتهت! 

خالتي خخحديجة عندها حكايات أكثرء» وأين ماما 
لنغئي معًا؟ 

أَمْ حنفي باستعطاف : 

- طالما رججوتك أن تَعْئّى لنا وأنت ترفضين! 

لا أغئي هنا! لا أغني وعثان ومحمد مرضى. . . 

المرأة وهي تنبض : 


54 قصر الشوق 


سأجهز لكم العشاء ثم ننام» جبن وسطيخ 
وشمام» هه؟! 

كان كيال جالسًا على كرسي في جانب السطح 
المكشوف فيا يل سقيفة الياسمين واللبلاب» لا يكاد 
يرى في الظلام لولا جلبابه الأبيض الفضفاضء» وكان 
مادًا ساقيه في استرخاء, مصعّدًا رأسه إلى الأفق 
المرضّع بالنجوم. مستغرقا في التفكير» يكتنفه صمت 
لا يكدّره شيء إلا أن يرتفع صوت من الطريق أو 
تنبعث قوقأة عن حجرة الدجاجء وكان في وجهه أثر مما 
طرأ على الأسرة في الأسبوعين الأحيرين» فقد اختل 
نظام البيت المعهود واختفت منه أمّه إلا في أوقات 
نادرة» وتشبع جوه بتذمر المساجين الصغار الثلاثة 
الذين يبيمون في رحباته متسائلين عن «بابا» ودمامام 
حبّى أعيته الحيل في ملاطفتهم وملاعبتهم . 

أمّا في السكريّة فإن عائشة لم تعد تعْئّى وتضحك كما 
قيل كثيرًا عنهاء ولكنها تقضي الليل ساهرة بين أسرة 
المرضى الأعزاءء زوجها وطفليهاء وكم تمن صغيرًا لو 
تعود عائشة إلى بيتها القديم» وكم يشفق اليوم من أن 
تضطرٌ إلى العودة مهيضة الجناح كسيرة القلب» وأمّا 
أمّه فتهمس في أذنه ولا تزر السكريّة: وإذا زربها فلا 
تمكث طويلاء وإنه ليزورها مس حبين لآخرء ثم 
يغادرها تفوح من راحتيه رائحة المطهرات الغريبة 
ويستحود القلق على فؤادى وأعجب شيء أن جرائيم 
التيفود - كسائر الجرائيم - آية في الضآلة» لا تراها 
العينء ولكتّها تستطيع أن توقف تيّار الحياة. وأن 
تتحكم في مصير العباد. وأن تشتّت إذا أرادت 
الأسرة. محمد المسكين كان أول المرضى. ثم تيعتنة 
عثهان» وأخيرًا - وعلى غير توقع ‏ وقع الأب والليلة 
جاءت الجارية سويدان لتخبره بأنْ أمّه ستبيت في 
السكريّة» ثم قالت ‏ عن أمّه وعن نفسها ‏ إِنْه ليس 
ثمّة ما يدعو إلى القلق! إذن لم تبيت الأمّ في السكريّة؟ 
ول ينقبض صدره؟ على أنه رغم هذا كلّه ب من 
الممكن أن يصفو الحو في غمضة عين. فيشفى خليل 
شوكت وطفلاه العزيزان» ويتألق وجه عائشة ويضىء. 
وهل نسي كيف ابتلى بيته بمثل هذه المحئة منل ثهانية 


أشهر؟ وها هو أبوه يسعى في كامل صحته وعافيته. 
وقد استردّت عضلاته قوّتهاء وعيناه بريقه) الاب 
ثم رجع إلى أصحابه وأحبابه كما يرجع الطير إلى 
الشجرة الغنّاء» فمنذا يعترض على أنه يمكن أن يتغير 
كل ثىء في غمضشة عين؟ ! 

أنت هنا وحدك؟ 

عرف كال الصوت,. فقام متلفْمًا صوب باب 
السطح, ومذّ يده للقادم وهو يقول : 

- كيف حالك يا أحي؟ تفضل . . . 

وقدّم له مقعدّاء فتنفس ياسين تنفسًا عميمًا ليعيد 
إلى رثتيه توازنه| الذي اضطرب بصعود السلّم» فامتلا 
صدره بشذا الياسمين» ثم جلس وهو يقول: 

الأولاد نامواء وأمّ حنفي نامث كذلك. . . 

فسأله كيال وهو يتخذ يجلسه مرّة أخرى: 

- مساكينء لا يستريحون ولا يريحون. كم الساعة 
الآن؟ 

في الحادية عشرة؛ الحو هنا ألطف من الطريق 

- وأين كنت؟ | 

- متردّدًا ما بين قصر الشوق والسكريّة؛ وعلى فكرة 
والدتك لن تعود الليلة, , , 

- سويدان أبلغتني ذلك, ماذا جدٌ؟ كنت من القلق 
في خهاية. . . 

ياسين وهو يتنهد : 

كلّنا في القلق سواء. وريّنا عنده اللطف, والدك 
هناك أيضا, . . 

في هذه الساعة؟ | 

- تركته في البيت. . . (ثم مستطردًا بعد قليل). . . 
كنك فل السكرنة تق «الكامنة مسسافرة بواذا يرمعو 
يحضر من قصر الشوق ليخبرني بأنْ زوجي قد جاءها 
الطلق» فذهبت من فوري إلى أمّ عل الداية ومضيت 
بها إلى البيت حيث وجدت زوجي في رعاية بعضص 
الجارات» ومكثت هناك ساعة غير أني لم أطق سماع 
الأنين والصراح طويلاء فعدت إلى السكريّة مرّة 
أخرى فوجدت والدك جالسًا مع إبراهيم شوكت. . . 


ماذا يعنى هذاء خبرني بما عندك. . . 

ياسين بصوت منخفض : 

د الخال خخطيرة داه 

خطيرة؟ ! 

- نعمء جئت إلى هنا لأريح أعصابي قليلاء ألم تجد 
زنوبة ليلة تلد فيها إلا هذه الليلة؟ لشدٌ ما تعبت بين 
قصر الشوق والسكّريّة. وبين الداية والدكتور؛ والخال 
خطيرة» وقد نظرت حرم المرحوم شوكت في وجه ابنها 
وهتفت «أمان يا رتٌ. . . كان يجب أن تاحذني قبله!؛ 
فانزعجت أمّك انزعاجًا شديدّاء ولكتها لم تحفل بهاء 
وقالت بصوت مبحوح : وهذله صورة آل شوكت إذا 
حضرهم الموت». رأيت أباه وعمّه وجذه من قبل!»» م 
يبنّ من خليل إلا خيال؛ وكذا الطفلان؛ لا حول ولا 
قرّة إلا بالله . . . 

ازدرد كال ريقه ثم قال. 

دعبي أن قتي الظنون! 

عسبى! كال... لست صغيرًاء ينبغي أن تعلم 
بما أعلم أنا على الأقل. الطبيب يقول إن الأمر جد 
0 
عن الكل ؟ ! 

الكل!. . . خليل وعثان ومحمد» ربّاه! ما أنعس 
حك يا عائشة! . , , 

تلت لعيئيه في الظلام أسرة عائشة الضاحكة كبا 
كانت تبدو له في الماضى. السعداء الضاحكون الذين 
مارسوا الحياة كأئها ال متى تضحك عائشة 
من قلبها مرّة أخرى؟ كا اختطف فهمي» الإنجليز أو 
التيفود سيّان. أو غير ذلك من الأسباب» الإيمان بالله 
هو الذي جعل من الموت قضاء وحكمة يبعثان على 
الحيرة» وهو ليس في الحقيقة إلا نوعًا من العبث. 

- أفظع ما سمعت في حياتي!... 

هو ذلك» ولكن ما الخحيلة؟ وماذا جنت عائشة 
حيّى تستحقّ هذا كله؟! اللّهمْ عفوك ورحمتك. . . 

هل ثمّة حكمة رفيعة يمكن أن تبرّر القتل بالجملة؟ 
إن الموثت يتبع قوانين «الدكتة» بدقة» ولكن كيف لنا 
أن نضحك ونحن هدف النكتة؟ ولعلّك تستطيع أن 


قصر الشوق ٠١م‏ 


تلافيه بالابتسام إذا تصديت له دوامًا بالتأمل الصادق 
والفهم الصحيح والتجرّد الأصيل» ذلك هو الانتصار 
على الحياة والموت معّاء ولكن أين من عائشة ذلك 
كلّه؟ ! 

- رأسى يدور يا أخي ! 

فقال ياسين بلهجة الحكيمء ولأآول مرة فيها سمع 
كيال : 

- هذه هي الدنياء ويجب أن تعرفها على 
ثم قام فجأة وهو يقول: 

يجب أن أذهب الآن. , . 

فقال كمال كالمستغيث: 

- ابق معي بعضن الوقت. . . 

ولكنّه قال كالمعتذر. 

- الساعة الحادية عشرة؛ ويجب أن أذهب إلى قصر 
الشوق لأطمئنْ على زنُوبة» ثم أعود إلى السكرية 
لأكون إلى جانبهم, لن أنام من الليل فيها يبدو ساعة 
واحدة» والله أعلم بما ينتظرنا غذًا. . . 

فقام كال وهو يقول في جزع : 

- إنك تتكلّم ىا لو كان كل شيء قد انتهى» 
سأذهب من فوري إلى السكرية. . 

- بل يجب أن تبقى مع الأطفال حي مطلع الخبار, 
وحاول أن تنام وإلا ندمت على مصارحتي إياك 
بالحقيقة ! 

وغادر ياسين السطح فتبعه كمال ليوصله إلى باب 
البيت؛ وعندما مرًا بالدور الأعلى حيث ينام الأطفال, 
قال كيال بأسف ؛ 

يا لحم من مساكين هؤلاء الأطفال؛. وشْكَ ما بكت 
نعيمة في الأيّام الأخيرة كأنْ قلبها حدس ما 
هناللكة : 


فقال ياسين باستهانة : 

الأطفال سرعان ما يسون, ادع بالرحمة 
للكبار. . . 

ولمًا رجا إلى الفناء؛ ترامى إليهم) من الطريق 


قصر الشوق 
صوت يصيح بقوة و«ملحق المقطم: فتمتم كال 
متسائلا : 
ملحق المقطم؟ ! 
فقال ياسين بلهجة أسيفة : 
أوه إني أعرف عا ينادي فقد سمعت الناس 
يتناقلونه وأنا قادم إليك. . . سعد زغلول مات!. . 
هتف كيال من الأعياق : 
سعد!؟ 
كر نفك ايوق عن اللنس :والنفها نتحرة ثآناذ: 
هوّن عليك وحَسْبنا ما نحن فيه!. . . 
فحملق كيال في الظلام دون أن ينطق أو يأتي 
حرافًاء كأتما قد ذهل عن خليل وعثيان ومحمد 
وعائشة. عن كن شيء إلا أن سعد زغلول قد مات. 
وواصل ياسين السير وهو يقول: 
مات مستوفيًا حّه من العمر والعظمة فاذا تريد 
له أكثر من ذلك! ليرحمه الله. . . 


فتبعه صامئًا ولمًا يفق من ذهوله, لو في غير هذا 
الظرف الحرين ما درى كيف يتحمّل النبأء ولكنّ 
المصائب إذا تلاقت تحدذى بعضها بعضّاء هكذا ماتثت 
جدّته في أعقاب مصرع فهمي فلم تجد لا باكيًا ‏ إذن 
مات سعك, النفي والثورة والخرية والدستور ماث 
صاحبها. كيف لا يحزن وخير ما فى روحه من وححيه 
وتربيته ! 

ووقف ياسين مرّة أخرى ليفتح الباب. ثم مذ يده 
له فتصافحاء وعند ذاك تذكّر كمال أمرًا طال نسيانه 
له فقال لأخيه وهو يجد من لسيانه -حياء : 

أدعو الله أن تجد زوجك قد ولدت بالسلامة. . 

فقال ياسين وهو يهم بالذهاب: 

- إن شاء الله . وأرجو أن تنام نوما هادئًا . ب 


سر 


باع 


لفق سر 


سر 


١ 


تقاربت الرءوس حول المجمرة وانلبسطت فوق 
وهجها الأيدي . يدا أمينة النحيلتان المعروقتان. ويدأ 
عائشة المتحجرتان, ويدا أُمّ حنفي اللتان بدتا كغطاء 
السلحفاة, وأمًا هاتان اليدان الناصعتا البيافيض 
الجميلتان فكانتا يدي نعيمة. وكان برد يناير يكاد 
يتجمّد ثلجًا في أركان الصالة. تلك الصالة التي بقيت 
على حالها القديم بحُصرها الملونة وكنباتها الموزّعة على 
الأركان؛ إلا أن الفانوس القديم بمصباحه الغازيّ قد 
اختفى وتدلّ مكانه من السقف مصباح كهربائي. 
كذلك تغيّر المكان فقد رجع مجلس القهوة إلى الدور 
الأؤل. بل انتقل الدور الأعلى جميعه إلى هذا الدور 
تيسيرًا للأب الذي لم يعد قلبه يسعفه على ارتقاء 
السلّم العالي. ثمّة تغيّر أدرك أهل البيت أنفسهم. 
فقد جف عود أميلة واشتعل رأسها شيباء ومع أنها لم 
تكد تبلغ الستّين إِلّا أئْبا بدت أكبر من ذلك بعشرء 
ولكنٌ تغيّر أمينة كان لا شيء بالقياس إلى ما جسرى 
لعائشة من تدهور والحلال. كان مما يدعو إلى 
السخرية أو الرثاء أن شعرها لم يزل مذهبًا وعينيها 
زرقاوان» ولكنّ هذه النظرة الخامدة لا توحي بحياة, 
وهذه البشرة الشاحبة بأ مرض تنضح؟ وهذا الوجه 
الذي نتأت عظامه وغارت فيه العينان والوجنتان أهو 
وجه امرأة في الرابعة والثلاثين؟ وأمًا أمّ حنفي فبدا أن 
الأعوام تتراكم عليها ولا تنال من جوهرهاء لم تكد 
ْسٌ لحمها وشحمها فتكاثفت كالغبار أو كالقشور فوق 
جلدها وحول رقبتها وتّغرهاء غير أنْ عينيها الساهمتين 
لاحتا مشاركتين لأهل البيت في حزنهم الصامت. 
تلعيمة وحدها بدث في هذه المجموعة كالوردة المغروسة 
في حوش مقيرة» استوت شابة جميلة في السادسة عشرة 


41١١ السكرية‎ 


من عمرهاء مجللة الشعر ببالة ذهبيّة» مزيّنة الوجه 
بعينين زرقاوينء كعائشة في شبابها أو أفتن ملاحة. 
ولكتّها كانت نحيفة رقيقة كالخيال» تعكس عيناها 
نظرة وديعة حالمة تقطر طهارة وسذاجة وغراية عن هذا 
العلل وكانت ملتصقة بمنكب أمّها كأئّها لا تود أن 
تفارقها لحظة. وقالت أمم حنفى وهي تفرك يدها فوق 
المجمرة : 

- سينزل البثاءون عن العمارة في هذا الأسبوع بعد 
عام ونصف من العمل . . . 

فقالت نعيمة في نغمة ساخحرة: 

- عمارة عم بيومي الشرباتلٍ. . . 

ارتفعت عينا عائشة عن المجمرة إلى وجه أَمْ حنفي 
لحظة ولكنها لم تعلق بكلمة, قد علموا في حينه بهدم 
البيت الذي كان يومًا بيت السيّد محمد رضوان ثم 
إعادة بنائه عمارة مكونة من أربعة أدوار باسم عم 
بيومي الشرباتلي» تلك الذكريات القديمة» مريم 
وياسين ولكن ترى أين مريمء وأمُْ مريم وبيومي 
الشرباتلي الذي استولى على البيت بالوراثة والشراء. 
أيام كانت الحياة حياة والقلب ناعم البال! وعادت أم 
حنفي تقول : 

أجمل ما فيها يا سئّى دكان عم بيومي الجديدة. 
ثريّات ودندرمة وحلوىء كلها مرايا وكهرباء» والراديو 
ليل نهارء يا عيني على حسنين الحلاق ودرويش بائع 
الفول والفولي اللبّان وأبو سريع صاحب المقلي وهم 
ينظرون من دكاكيهم البالية إلى دكان زميلهم القديم 
وعمارته . . . 

فقالت أمينة وهي تشبك الشال حول منكبيها: 

سبحان ركئك الوهاب. . . 

فعادت نعيمة تقول وهي تحيط علق أمَها بذراعيها: 


7 السكرية 


سَذّ جدار العيارة سطحنا من هذه الناحية» وإذا 
عمرت بالسكّان فكيف نستطيع أن نمضي الوقت فوق 
السطحم؟ 

م يكن في وسع أمينة أن تتجاهل سَؤالا توبجهه 
حفيدتها الجميلة مراعاة لخاطر عائشة قبل كلّ شىء 
فقالت: 

لا يهمّك السكان» امرحي كيف شثت. . 

واسترقت النظر إلى عائشة لترى وقع إجابتها 
اللطيفة» إذ إنّبا باتت من شدَّة اللكوف عليها وكأئما 
تخافها. ولكنٌّ عائشة كانت مشغولة في تلك اللحظة 
بالتطلع إلى مرآة فوق نضد بين حجرة السيد 
وحجرتهاء لم تزايلها عادة التطلع إلى المرآة وإن لم يعد 
لها معنى» ويمرور الزمن لم يعد يروعها منظر وجهها 
الضحلء» وكلّما سأها صوت باط «أين عسائشة 
زمان؟ أجابت دون اكتراث «وأين محمد وعشهان 
وخليل؟»؛ وكانت أمينة تلاحظ ذلك فينقبض قلبهاء 
وسرعان ما يسري الانقباض إلى أمّ حنفي التي اندجت 
في الأسرة حتّى ورثت عنها *مومها. ومبضت نعيمة إلى 
الراديو القائم ما بين حجرة الاستقبال وحجرة السفرة 
وأدارت مفتاحه وهي تقول : 

- ميعاد إذاعة الأسطوانات يا ماما, , , 

الكت صاقف مسعنا نوا تارق ازا و لاه 
وجعلت أمينة ترنو إلى الدنحان وهو ينبسط سحابة 
خفيفة فوق المجمرة» وانبعث من الراديو صوت يعي 
ديا عشرة المافي الجحميل يا ريت تعودي»4. وعادت 
نعيمة إلى مجلسها وهى محبك الروب حول جسمها. 
كانت - كأمها في الزمان الخالي - وى الغناء. وهبت 
كيف تسمعه وكيفف تحفظه وكيفه تعيسده بصوت 
حسن. لم ينل من هذا الموى شعورها الدينيّ الذي 
غلب على كافة مشاعرهاء فهي تواظب على الصلاة. 
وتصوم رمضان مل بلغت العاشرةء ونتحلم كثيرًا بعالم 
الغيب. وترحّب بغبطة لا حدٌ لها بزيارة الحسين إذا 
دعتها جدّتها إليهاء ولكتّها في الوقت نفسه لم تقلع عن 
حب الغناء. فهي تغْثّ كلما خلت إلى نفسها في 
حجرتبها أو في الحّام. وكانت عائشة ترضى عن كل ما 


يصدر عن وحيدتهاء الأمل المضىء في أفقها المظلم, 
تعجب بتدينها ىا تعجب بصوتبهاء وحتّى عن التصاق 
الفتاة بها ذلك الالتصاق الذي بدا خمارقا للحدٌّ 
فهي تشجعه وتحبه ولا تطيق أن تسمع عله أية 
ملاحظة. بل هي تضيق بالنقد عامّة وإن هان وحسن 
القصد فيه. من ذلك أنه لم يكن لها من عمل في البيت 
غير القعود وحسو القهوة والتدخين» فإذا دعتها أمها 
إلى المشاركة في عمل لا لحاجتها إلى مساعدتها ولكن 
لتخلق فا ما تتسل به عن أفكارها ‏ امتعضت وقالت 
حملتها المشهورة «أفه... دعيني وشأني». ولم تكن 
تسمح لنعيمة بأن تمد للعمل يذّاء كأتما كانت تخاف 
عليها أقلّ حركة؛ ولو أمكن أن تصلٍ نيابة عنها 
لفعلت وكفتها جهد الصلاة. وكم من مرّة حذثتها أمها 
قُْ هذا الشأن قائلة إِنّْ نعيمة أصبحت «وعروسًاء 
وينبغي لها أن تلم بواجسات وسث البيت» فكانت 
تقول لها بصوت ينم عن الضجر «آلا تسرينها 
كالخيال؟. إن ابنتي لن تتحمّل أي جهد فدعيها 
وشأناء لم يعد لي من أمل في الدنيا سواها». ولم تكن 
أميئة لتعيد القول. كان قلبها يتقطع حزنًا عليهاء 
وتنظر إليها فتجدها مثالا مجسّيًا لخيبة الأمل» وترى 
وجهها التعيس الذي فقد كل معنى للحياة فتذهب 
نفسها حسرات» لذلك أشفقت من مضايقتهاء ولذلك 
اعتادت أن تتحمل ما قد ينم عنها من جفاء في الرد أو 
فسوة في الملاحظة بصدر رحيب وعطفف سمح . لم يزل 
الصوت يغنى «يا عشرة الماضى اللجميل». وجعلت 
عائشة سارها وتصغي إليه . هذا الغناء الذي 
كانت تحبّهء ولا زالت تحبّه. فالحزن واليأس لم يقتلا 
الإحساس بهء بل لعلهما قوّياه في نفسها بما يردّده عادة 
من معاني الشجن والحسرات» ولو أنْ شيئًا في الوجود 
ليس بمستطيع أن يعيد عشرة الماضي الجميل. بل إنها 
لتتساءل أحيانا أكان هذا المافضى حقيقة لا حلي ولا 
يالُا؟ إذن أين البيت العامر؟ وأين الزوج الكريم؟ 
وأين عثيان وأين محمّد؟! وهل لا يفصلها عن ذلك 
الماضي إلا ثانية أعوام؟. ولم تكن أميئة ترتاح إلى هذه 
الأغاني إلا في النادر. إِنّ فضيلة الراديو الأولى في 


نظرها أنّه أتاح لها سماع القرآن الكريم والأخبارء أما 
الأغاني فكانت تجرع عند تلقّى معانيها الحزينة وتشفق 
على ابنتها من سباعها حثّى قالت مرّة لأمّ حنفي «أليس 
هذا هو النواح؟».. كانت لا تبي عن التفكير في عائشة 
حيّى كادت تسى ما أخذ ينتابها هي من أعراضص 
الضغط ومتاعبه؛ ونم تكن تجد فرجة إلا في زيارة 
الحسين وغيره من الأولياء» وشكرًا للسيد الذي لم يعد 
يحجر عليها فتركها تنطلق إلى بيوت الله كما تحبث. لم 
تعد هي أيضًا ‏ أميئة العهد الماضي. غيّرها كثيرا 
الحزن والتوتمك. وقد فقدت مع الزمان مثابرتها 
العجيبة على العمل وطاقتها الخارقة في التنسيق 
والتنظيف والتدبير» ففيها عدا شئون السيد وكال م 
تكن تعنى بشىء. عهدت بحجرة الفرن والمخزن لام 
حئفي » قانعة بالإشراف وحده. وحتى الإشراف كانت 
تتهاون فيه. وكانت ثقتها في أمّ حنفي لا حدّ لهاء 
فليست هي بالغريبة عن الدار وأهلهاء ثم إنها شريكة 
العمر ورفيقة السرًاء والضراء. وقد اندجت في الأسرة 
حي صارت قطعة منهاء وتمَئّلت بكل قلبها مسرانها 
وأحزاتها. وساد الصمت حيئًا كأنئما استأثر الغناء 
بوعيهم. حتّى قالت نعيمة : 

- لمحت في الطريق اليوم صديقتي سلمى» كانت 
معي في الابتدائيّة. وستتقدّم العام المقبل في امتحان 
البكالوريا. . . 

فقالت عائشة بأمتعاض : 

- لو سمع جدّك لك بالاستمرار في الدراسة لتفوقت 
عليهاء ولكنّه لم يسمح| 

وفطنت أميئة للا أوحت به جملة «ولكنه لم يسمح؛ 
من الاحتجاج فقالت : 

جدّها له آراؤه التي لا ينزل عنهاء ترى أكنت 
ترحبين باستمرارها في التعليم رغم ما في ذلك من 
تعب وهي العزيزة الرقيقة التي لا تتحمل 
التعب؟!. . . 

فهرّت عائشة رأسها دون أن تنبسء» أمَا نعيمة 
فقالت بحسرة: 

وددت لو أتهمت تعليمي, 1 البنات يتعلمن 


السكرية ١1م‏ 


اليوم كالصبيان. . . فقالت أمّ حنفي باحتقار: 

- يتعلمن لأتْبنّ لا يدن العريسء» أمّا الجميلة 

فهزت أميئة رأسها موافقة ثم قالت: 

- وآانت متعلية يا ست البنات. حائزة على 
الابتدائيّة ماذا تريدين أكثر من ذلك؟. ولست في 
حاجة إلى الوظيفة. فلندع الله أن يقوّيك وأن يكسو 
حمالك الفتان بالعافية واللحم والدهن. 

فقالت عائشة بحذة : 

أريد ها العافية لا السيانة» السيانة من العيوب 
خاصّة في البنات, أمّها كانت زين أيامها ولم تكن 

فاتسمت أميئة وقالت برقة : 

معنا ققدي تعينة كانت زيف انانها ب 

فقالت عائشة وهي تتنبل: 

- ثم صارت عبرة الأيام ! 

- ربنا يفرّحك بنعيمة. . 

فقالت أميئة وهي تربّت على ظهر نعيمة بحنان: 

يا مور بالترت العا و 

وَعَدْنَ إلى الصمت». وإلى سباع الصوت الجديد 
الذي كان يغني وأحبٌ أشوفك كل يوم»» وإذا بباب 
البيت يُفتح ثم يُغلق فقالت أمّ حنفي وسيّدي الكبين» 
وقامت مسرعة إلى الخارج لتضيء مصباح السلّم. وما 
لبثن أن سمعن دقات عصاه المعهودة. ثم تراءى عند 
مدخل الصالة فوقفن جميمًا في أدب. ووقف قليلا ينظر 
إليهنّ خلال أنفاسه المبهورة ثمّ قال: ومساء الخين 
فرددن في صوت واحد: «إيسعد مساك»ع؛ وسبقث أميئة 
إلى حجرته فأضاءتهاء ومضى الرجل على أثرها في هالة 
من وقار الشيخوخة البيضاء. وجلس كي يسترد 
أنفاسه . وم تكن الساعة قد جاوزت التاسعة مساء. 
ظلّت أناقته كما كانت في الماضي» فالجبة الجوخ 
والقفطان الشاهي والكوفيّة الحرير كالعهد القديم» أما 
هذا الرأس المرضّع بالبياض. والشارب الفضَي؛ 
والجسم التحيل الذي خلا من سكّانه, فكانت جميعًا 


14 السكرية 


كسودثه المبكرة. من طوارئُ الزمن الجديد. ومن 
طوارئ هذا الرمن أيضًا سلطانيّة اللبن الزبادي 
واليرتقالة اللتان أعدّتا لعشائه» فلا حمر ولا مرْة ولا 
لحوم ولا بيض. وإن بقي بريق عينيه الزرقاوين 
الواسعتين آية على أنْ رغبته في الحياة لم تفتر ولى تس . 
ومضى يخلع ملابسه بمعاونة أمينة كالمعتاد» ثم ارتدى 
جلبابه الصوف وتلفع بالعباءة ولبس طاقيته ثم تربع 
على الكنبة. وقدمت له صينية العشاء فتناوله دون 
حماس» ثم قدّمت له أمينة قدحًا مملوءً! حتّى نصفه 
بالماء فأحذ زجاجة الدواء وسكب في القدح ست نقطء 
لم تجرّعه بوجه مقطب متقززه ثم تمتم «المحمد لله رب 
العالمين». طالما قال له الطبيب إن الدواء مؤقت أمَا 
«الرجيم» فدائم. وطللما حذّره من الاستهتار أو 
الإهمال. فالضغط قد استفحل» والقلب قد تأثّْر به. 
وأجبرته التجربة على الإيمان بتعلييات الطبيب بعد أن 
عانى من الاستهانة مها ما عان. ف) من مرّة حرج عن 
حدّه حي تداركه الجزاءء وأخيرًا أذعن لحكمه لا 
يكل ولا يشرب إِلَا ما يسمح به ولا يسهر إلى ما بعد 
التاسعة. ولكنّ قلبه لم يتخل عن الأمل في أن يسترد 
بوما - بقدرة قادر صحته وأن ينعم بحياة طيبة هادئة. 
وإن تكن حياة الماضى قد ولت إلى الأبد. وامتدّت أذنه 
إلى الغناء المترامي 5 الراديو في ارتياح. وكانت أميئة 
تحذئه من مجلسها فوق الشلتة عن برد اليوم والمطر 
الذي انهمر في الضحى فلم يلقٍ إليها بالا وقال في 


سرورء 
- قبل لي أنه ستذاع الليلة بعض الأغاني 
القديمة. . 


فابتسمت المرأة في ترحيب إذ كانت تحب هذا اللون 
من الغناء» ربما متابعة لحبٌ السيّد له أكثر من أي شيء 
آخرء ولبث السرور متألقًا في عيئى الرجل لحظات حت 
أدركه فتور. لم يعد بمستطيع أن ينعم بشعور سار دون 
تحفظ. أو دون أن ينقلب عليه فجأة فيستيقظ من 
حلمه مرتطم) بالواقم. الواقع يحدق به من جميع 
النواحي, أمّا الماضي فحُلم» فيمٌ السرور وقد ولت إلى 
الأبد أيَام الأنس والطرب والعافية؟. وانطوى اللذيذ 


من المأكل والمشرب والناء؟. وأين مسيره في الأرض 
كالحمل وضحكته المجلجلة من الأعماق؟ وطلوع 
الفجر عليه وهو ثمل بشْتّى المسرّات؟. اليوم يقضى 
عليه بأن يعود من سهرته في التاسعة كي ينام في 
العاشرة والأكل والشرب والمئبي بحساب دقيق مسجل 
في دفتر الطبيب. وهْكذا البيت الذي غشاه الزمن 
بالكآبة هو قلبه ومقامه. وعائشة التعيسة شوكة في جنبه 
لا يستطيع أن يصلح ما فسد من حياتها وهيهات أن 
يطمئنٌ على حاشاء اليس قد ينكشف عنها الغد وحيدة 
بائسة بلا أب ولا أَمْ؟ وما يعاليه من قلق على صحته 
هو المهدّدة بالمضاعفات وأخوف ما يخاف أن خونه قواه 
فيلزم الفراش كلميت وليس بيت مثل الكثيرين من 
أصدقائه وأحبّائهء وهذه الأفكار التى تحوم حوله 
كالذباب فيستعيذ بالله من شرّهاء أجل ينبغي أن 
يسمم الأغاني القديمة ولو لينام على الأنغام. . . 

- اتركي الراديو مفتوحًا حبّى لو نمث. . . 

فهرّت رأسها بالإيجاب باسمة. فعاد يقول متنهدًا : 

- ما أشقٌ السلم علً!. 

- استرح يا سيّدي عند كل بسطة. . . 

- لكنّ جو السلّم شديد الرطوبة» ما ألعن هذا 
المشاف. : دم متسائلا» , . . أراهن على أنك زرت 
الحسين كالعادة رغم هذا البرد, . , 

فقالت في حياء وارتباك : 

- في سبيل زيارته يبون كل صعب يا سيّدي . . . 

الحق عل وحدي!. .. 

فقالت في استرضاء : 

- إني أطوف بالضريح الطاهر وأدعو لك بالصحّة 
والعافية . 

ما أمسٌ حاجته إلى صادق الدعاء؛ فكل طيّب يدبر 
عنه. حيّى الدش البارد الذي اعتاد أن ينعش به 
جسده كل صباح حُرم عليه لخطورته ‏ فيها قيل - على 
شرايينه» وإذا صار كل طيّب ضارًا فليرحنا الله. 
ومضى وقت قصير ثم ترامت إلى الحجرة صفقة باب 
البيت وهو يغلق فرفعت أميئة عينيها متمتمة دكيال». 
ولم تكد مر دقائق حي دخل كال الحجرة في معطفه 


الأسود الذي نم على نحافته وطولهء يتطلع إلى أبيه 
خلال نظارته الذهبيّة. وقد أضفى عليه شاربه المربع 
الغزير الأسود وقارًا ورجولة. انحنى على يد والده 
مسلا فدعاه إلى الجلوس وهو يسأله كالعادة باسمًا: 

دان كقف يا استاذ؟ 

وكان كيال يحبٌ هذه اللهجة الودّيّة اللطيفة التي لم 
يحظ بها إلا بعد عمر طويل؛ فأجاب وهو يجلس على 
الكنبة : 

كنت في القهوة مع الأصحاب . 

ترى أيّ نوع من الأصحاب؟ بيد أنه يبدو جادًا 
رزيئًا وقورًا أكثر من سنّهء ثم إِنْ أكثر لياليه تنضى في 
تقد شقان ها بين ونان اين إن ان اكد 
آفتهء وعاد يسأله باسمًا: 

- أشهدت اليوم المؤتمر الوفديّ؟ 

- تعمء وسمعئا خطبة مصطفى النحاسء كان يومًا 
مشهودًا, 

قيل لنا إِنّه كان حدثًا عظيًا ولكبّى لم أسسطع 
حضوره فنزلت عن بطاقة الدعوة لأحد الأصدقاء» لم 
تعد الصحّة تحتمل التعبا... 

فداخل كيال العطف وتمتم : 

را بق بلكو 

- ألم تقع حوادث؟ 

كلا مرٌ اليوم بسلام» واكتفى البوليس بخلاف 
عادته بالمراقبة. . 

فهرّ الرجل رأسه في ارتياح» ثم قال في هجة ذات 
معنى : 

نعود لموضوعنا القديم. ألا زلت عند رأييك 
الخاطئء عن الدروس الخصوصية؟ ! 

ل يزل يشعر بالارتباك والحسرج كلَّما وجد نفسه 
مضطًا إلى إعلان مالفته لرأي والدهء فقال برقة : 

لقد انتهينا من هذا الموضوع! 

في كل يوم يطلب إلّ أصدقاء أن تعطي دروسًا 
خصوصيّة لأبنائهم. لا ترفض الرزق- الحلال» إن 
الدروس الخصوصيّة مصدر رزق واسع للمدرسين» 
والذين يطلبونك من أعيان الح , . . 


السكرية ١١م‏ 


فلم ينبس كمال بكلمة وإن نطق وجهه بالرفض 
المؤدّب» فعاد الرجل يقول متأسفًا: 

- تلى هذا كي تضيع وقتك في قراءة لا نهاية لها 
وكتابة بلا أجرء أيصح هذا من عاقل مثلك؟ 

وهنا خاطبت أمينة كيال قائلة ؛: 

- ينبغي أن تحبّ المال كا تحبٌ العلم (ثُمْ موجهة 
الخحطاب إلى السيّد وهي تبتسم في نخيلاء) نه كجدّه لا 
يعدل بحبٌ العلم ا .د 

فقال السيّد متافمًا: 

رجعبا إلى جذه!. 
عبده؟ | 

ومع أنّها لم تعرف شيئًا عن الإمام إِلَّا أثها قالت 
ببح أس : 

لم لا يا سيّدي؟1. كان كل الحيران يقصدونه في 
شئون دينهم ودنياهم! 

فغلبت روح الفكاهة على السيّد فقال ضاحكا: 

مثله الآن كلّ عشرة بقرش! 

واحتج وجه المرأة دون لسابها. وابتسم كال بعطف 
وارتباك. واستأذن في الانصراف ثم غادر الحجرة. وف 
الصالة اعترضت نعيمة طريقه لتريه فستائها الحديد؛ 
وذهبت لتجيء بهء فجلس إلى جانب عائشة ينتظرء 
كان - كبقيّة أهل البيت - يجامل عائشة في شخص 
نعيمة» ولكنّه إلى هذا كان معجبًا بالفتاة الحسناء 
إعجابه بأمّها قديمًا. وجاءت نعيمة بالفستان فبسطه 


على يديه وراح يتفخصه وهو يبدي الإإعجاب» وكان 
يتأمّل صاحبة الفستان بعطف وحبٌ. مأخحوذا بجالها 
البديع الحادئ الذي اكتسى من صفائها ورقتها نورائية 
ذات هاء. ومضبى عن المكان بقلب لا لو من 
شجن, إِنَّ مصاحبة أسرة حبّى شيخوختها ليا يحرن. 
ليس مما هون أن يرى أباه في وهنه بعد سطوة وجبروت 
أو يرى ذيول أمّه وتّواريها وراء الكبرء أو يرى انحلال 
عائشة وتدهورهاء هذا الحو المشحون بنذر التعاسة 
والنباية. ورقي في السلم إلى الدور الأعلى - شقته كبا 
يسمّيه ‏ حيث يعيش منفردًا بين حجرة نومه ومكتبته 
المطلتين على بين القصرين. وخلع ملابسه ومضى 


5 السكرية 


مرتديًا جلبابه متلفُعًا بالروب إلى المكتبة. وكانت مكونة 
من مكتب كبير فيها يلي المشربيّة وصفين من خزانات 
الكتب على جانبيها. وكان يريد أن يقرأ فصلا على 
الأقل قُْ كتاب «منبعا الدين والأخحلاق» لرجسون.ء 
وأن يراجع مراجعة أخيرة مقاله الشهري لمجلة «الفكر» 
الذي اثفق أن كان عن البراجمتزم . هذه السويعات 
الموهوبة للفلسفة» التي تمتدٌ حتّى منتصف الليل هي 
أسعد أوقات يومه») وهي التي يشعر فيها ‏ على حد 
تعبيره - بأنّه إنسان, أمّا بقيّة اليوم الذي ينقضي في 
عمله كمدرس بمدرسة السلحدار الابتدائيّة أو في 
إشباع شبّى مطالب الحياة الضروريّة: فمداره الحيوان 
الكامن فيه المستهدف أبذدا تأمين ذاته ومحقيق 
شهواته. وم يكن يحب عمله الرسميّ ولا محترمه. 
ولكنّه لم يعلن سخطه. خاصّة في بيته» أن يشمت به 
الشامتون» ومع ذلك فقد كان مدرّسًا ممتارًا حائزرا 
للتقديرء وكان الناظر يعهد إليه ببعض النشاط 
المدرسئ. حيّى رمى نفسه متفكهًا بالعبوديّة» اليس هو 
العبد الذي يتقن العمل الذي لا يحبّه؟!. والحقٌ أن 
ولعه بالتفوق الذي اعتاده منذ الصغر هو الذى دفعه 
إلى الاجتهاد والامتياز دفعًا لا هوادة فيه. وقد صمم 
من بادئ الأمر على أن يكون شخصية محترمة بين 
التلاميذ والمدرّسين فكان له ما أراد. بل كان شخصية 
محترمة ومحبوبة معاء رغم رأسه وأنفه العظيمين. . . 
ولا شلك أنه كان هما رأسه وأنفه ‏ أو كان لإحساسه 
الأليم مهما الفضل الأول في هذا التصميم القويّ الذي 
خلق منه هذه الشخصيّة المهابة. كان يعلم بأنّ رأسه 
وأئفه سيشيران من حوله الفتن فاسئل عزمه ليرد عنهيا 
وعنه كيد العابثين. أجل لم ينج أحيانًا من غمر 
وتعريض في أثناء الدرس أو في ملعب المدرسة» فكان 
يلقى اهجوم بحزم شديد» ثم يلطفه بعطفه المطبوع , 
إلى ما أثر عنه من مقدرة في الشرح والتفهيم؛ وما 
يأخذ فيه بين آونة وأخرى من موضوعات طريفة 
عراسية تسن القوميّة أو ذكريات الثورة» كل أولفك 
جعله يستميل إليه «الرأي العام بين التلاميذء وكان 
ذُلك إلى حزمه المتونّب عند الضرورة ‏ كفيلا بالقضاء ‏ 
على الفتن في مهدها!. ولَشَّدٌ ما آلله أل الأمر الغمز 


الجارح, ولَشَدٌ ما استثار المنسّ من أحزانهء بيد أنه 
سد آخر الأمر بالمنزلة الرفيعة التي بات يحتلها في نفوس 
الصغار الذين كانوا يتطلعون إليه بإعجاب وحب 
وإجلال. وواجهنه مشكلة أخرى تتعلق بمقالاته 
الشهريّة في مجلّة «الفكر». وكان يخاف هذه المرّة الناظر 
والمارّسين أن يسألوه عا يعرض فيها من فلسفات 
قديمة وحديئة تنقد أحيانًا العقائد والأخلاق بما لا يتفق 
ومسئوليّة والمدرس» ولكن من حسن الحظّ أنْ أحدًا من 
المسثولين لم يكن بين قراء «الفكرة. ثم تبين له بعد 
ذلك أن المجلة لا تطبع أكثر من ألف نسخة يصدّر 
نصفها إلى البلاد العربية» فشجعه ذلك على الكتابة 
إليها وهو آمِن على نفسه ووظيفته. وفي هذه السويعات 
القلائل ينقلب «مدرّس اللغة الإنجليزيّة بالسلحدار 
الابتدائيّة» سائسًا حا يبوب أجواء لا مُحَدٌ من الفكر 
فيقرأ ويدوّن الملاحظات التى يجمعها بعد ذلك في 
مقالاته الشهريّة تنه على جهاده الرغبة في المعرفة 
وحبٌ الحقيقة وروح المغامرة النظريّة والحنين إلى العزاء 
والتخفيف من جو الكابة الذي يغشاه والشعور 
بالوحدة الذي يستكنٌ في أعماقه. قد يلوذ من الوحشة 
بوحدة الوجود عند سبيئوزاء أو يتعزى عن هوان شأنه 
بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شوبهورء أو 
مبرّن من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة 
ليبنتز في تفسير الشرّء أو يروي قلبه المتعطش إلى الحبٌ 
من شاعريّة برجسون, بيد أنْ جهاده المتواصل لم يجد 
في تقليم مخالب الحيرة التي تبلغ حدٌّ العذاب» فالحقيقة 
معشوق ليس دون المعشوق الآدمي دلالا وتمنَعا ولعبا 
بالعقول وإثارة للشكٌ والغيرة مع إغراء عنيف بالتملك 
والوصال» وهي كالمعشوق الآدمي عرضة لأن تكون 
ذات وجوه وأهواء وتقأبات» ولا تخلو في كثير من 
الأحايين من مكر وخداع وقسوة وكبرياءء وكان إذا 
ركبته الحيرة وأعياه الجهد يقول متعرَّيًا (قد أكون معذّبًا 
حقًا ولكئّنى حى. إنسان حي. ولن تكون حياة 
الإنسان الخليقة ببذا الاسم باد ثمن!؛., 


5 


اليوم السابق, كل ذلك كان أحمد عبد اللخحواد يؤدّيه 
على خير الوجوه وبالدقة المعهودة فيه من قديم غير أنه 
يؤديه اليوم بمشقة لم يكن يجدها من قبل أن يركبه العمر 
والمرض. وكان منظره وهو منكب على دفاتره تحث 
لافتة البسملة. وشاربه الفضىّ يكاد يختفى تحت أنفه 
الكبير الذي زاده ضمور لزعي عاب كان ذلك 
المنظر مما يستحقٌ العمطف, غير أنْ منظر وكيله 
ومساعده جميل الحمزاوي الذي كان بهدف إلى 
السبعين كان ما يستحقٌ الرثاء. ولم يكن يفرغ من 
زبون حتّى يتهالك على مقعده وهو يلهث فكان أحمد 
يقول لنفسه في شيء من الامتعاض «لو كنا موظفين 
لأغنانا المعاش في مثل سنا من الكدّ والعمل!». ورفع 
السيد رأسه عن الدفتر وهو يقول: 

لا زالت الحالة متآثرة بعض الثيء بالأزمة 


الاقتصادية . . . 
فارتسم الاأمتعاض عل شفي الهمزاوي الباهتتين 
وقال: 


بدون شكٌء غير أن هُذا العام خير من العام 
السابق. والعام السابق خير من الذي قبله. الحمد لله 
على أيّ حال. . . 

عام ١47“١‏ وما تلاه من أعوام. تلك الفترة التي 
كان التجار من أصحابها يسمونها أيام الرعب. حين 
استبدٌ إسماعيل صدقي بالحياة السياسيّة وسيطر القحط 
على الحياة الاقتصاديّة. ويقبلون الأكف وهم يتساءلون 
عا يخبّئ لهم الغد, وقد كان من المحظوظين بغير شك 
لأنّْ ضيقته ١‏ تبلغ به الإفلاس الذي تبدّده عاما بعد 
عام . 

أجل الحمد لله على أي حال. . , 

ووجد جميل الحمزاوي يرنو إليه بنظرة غريبة» فيها 
ترام سو اذ مسي ري رجام اهل لذب 
مقعده من المكتب ثُمم جلس وهو يبتسم في ارتباك. 
وكان اليرد قاسيا رغم سطوع الشمس» وكان للهواء 
حملات قويّة ارتخت لا الأبواب والنوافك وتعالى 
الصفير. قال السيد وهو يعتدل في جلسته : 

هات ما عندك. إن موقن بأنّك ستقول شيئًا 


1 


هاما , 


السكرية 11م 


فخفض الحمزاوي عينيه وقال: 

موقفى لا أحسد علييهء ولا أدري كيف 
ا 

فقال السيد مشجعا: 

- ولكبي عاشرتك أكثر مما عاشرت أهلي فتستطيع أن 
تففي إل بكلّ ما في نفسك. . . 

- العشرة هي التى تصعب عل يا مبى السيد. . . 

العشرة؟! . م يخطر له هذا على بال. . . 

ارود دي ناا 

قال الحمزاوي بحزن: 

د آنل أن اع نل اش ل مكلف نسها' الا 
ا 
وانقبيض قلب السيد. فاعتزال الحمزاوي للعمل 
ليس إلا نذيرًا له بالاعتزال. كيف ينبض باأعباء العمل 
في دكانه وهو على ما هو عليه من مرض وكبر؟. ونظر 
إلى وكيله في حيرة فعاد الرجل يقول متأئرًا : 

- إني آسف جدّاء ولكئّي لم أعد أطيق العمل» ولى 
ذلك الزمان, غير أني درت الأآمر فلن أتركك وحدك. 
سيمل مكاني من هو أقدر مثى. . . 

ِنّ ثقته في أمانة الهمزاوي قد رفعت عن كاهله 
نصف متاعبهء فكيف يعود ابن الثالشة والستين إلى 
ملازمة الدكّان من طلعة الشمس إلى مغيبها؟. قال: 

- ولكنٌ اعتزال العمل والقبوع في البيت يسرعان 
بالإنسان إلى التدهورء ألا ترى هذا في أصحاب 
المعاش من الموظفين؟ 

فقال الحمزاوي باسم): 

التدهور موجود قبل الاعتزال. 

وضحك السيّد فجأة كأنئها ليداري الححرج الذي 
شعر به مقدّمًا قبل أن يقول له: 

يا عجوز يا مكارء أنت مبججرني تلبية احاح 
ايلك فؤاد. 

فهتف الحمزاوي متائرًا : 

معاذ الله إِنْ حالتي الصحَيّة لا تخفى على أحدء 
وهي السبب الأول والأخير, . . 

من يدري؟. فؤاد وكيل نيابة ومثله لا يرتاح لبقاء 
أبيه عاملًا بسيطًا في دكان ولو كان صاحب الدكان هو 


السكرية 
الذي مهّد له السبيل ليتبوًا مركزه في النيابة» ولكنّه 
شعر بن تصريحه قد آلم وكيله الطيّب فتراجع متسائلا 

متى ينقل فؤاد إلى القاهرة؟ 

في صيف هذا العام أو في صيف العام القادم على 
الأكثر, . . 

ومضت فترة سكون مشحونة بالحرج حتّى قال 
الحمزاوي مجاريا السيد في لطفه: 

- وإذا أقام معي في القاهرة وجب التفكير في 
تزويجه. أليس كذلك يا سي السيّد؟ إِنّْه ابني الوحيد 
على سبع بناتء ولا بد من تزويجه. وكلما فكرت في 
ذلك جرت فى خاطري الآنسة المهذبة حفيدتك. . . 

واسترق إلى وجه السيد نظرة استطلاع ثم تمتم : 

- لسنا قد المقام طبعا. . . 

فلم يَسَعٍ السيّد إِلّا أن يقول: 

- أستغفر الله يا عم جميل» نحن أخوان من قديم 
الزمن, . 

ترى أحرّضه فؤاد على جس النبض؟. وكيل نيابة 
شيء عظيم والعبرة في الأصل بالطيبة. ولكن أهذا 
وقت التحدّث في الزواجم؟ 

حدّئني أوْلَا أأنت مصمّم على اعتزال العمل؟ 

وجاءه صوت من باب الدكان يقول: 

- يا ألف صباح الخير. . . 

- أهلا وسهلا. . . (ثم وهو يشير إلى المقعد الذي 
أملاه الحمزاوي) تفضي. . . 

جلست زبيدة بجسم قد ترهل» ووجه قد تقلع 
بالأصباغء أمّا الحلّ فلم يعد لها أثر في عنقها أو أذنيها 
أو ساعدهاء ولا للجبال القديم مكان؛. وجعل السيّد 
يرحب بها كعادته مع كل زائر لا أكثر» أمّا قلبه فلم 
برتح للزيارة» فا من مرّة تجيئه إلا وترهقه بالمطالب. 
سألا عن الصِحّة فأجابت وهي لا تعنيى شيئًا «الححمد 
. أملا. . . أهلا. 
فابتسمت شاكرة ولكن بدا أَنْا استشعرت الفثور 
الكامن في مجاملاته. وضحكت متجاهلة الجوٌ الذي 
يكتنفها. وكانت الأيّام قد علمتها البرود. ثم قالت: 


لله) وقال لما بعد هليهة صمت. . 


لا أحبٌ أن أضيع وقتك وأنت مشغولء ولكنّك 
أنبل من عرفت في حياتيء فإمًا أن تمذني بسلفة 
أخرى. وإمًا أن تجد لبيتي شاريّاء ويا حبّذا لو تكون 
ل الشاري ! 

فقال أحمد عبد الحواد متنهدًا : 

أنا؟!. يا ليت» الزمن غير الزمن يا سلطانة» 
طالما صارحتك بالحقيقة ولكن يبدو أنّك لا تصدّقين يا 
سلطانة ,. , . 

فنضحكت ضحكة دارت مبا غنيبة أملها وقالت: 

- السلطانة مفلسة» فا العمل؟ 

في المرّة السابقة أعطيتك ما قدرت عليهء ولكنّ 
الحال لا يسمح بتكرار ذلك. . . 

ألا يمكن أن تجد لبيتي شاربًا؟ 

- سأبحث لك عن شار. أعدك بذلك. 

هذا ما يُنتظر منك يا سيّد الكرماء (ثم بلهجة 
حزيئة) ليست الدنيا وحدها التي تغيّرت ولكنّ الناس 
تغيّروا أكثرء سامح الله الناس» في أيَام العرٌ كانوا 
يستبقون إلى تقبيل حذائي»؛ والآن إذا لمحوني على 
جائب الطريق مالوا إلى الجانب الآخر. 

لا بدّ أن يتنكر للإنسان شىء. بل أشياءء الصححة 
أو الشباب أو الناس». أما يام العز. أيام الأنغام 
والحبٌ فأين هي؟ ! 

- ومن ناحية أحرى فأنت يا سلطانة لم تعملي للأيام 
ععسافا :. 

فتبدت آسفة وهي تقول: 

- نعم» لست كأختك جليلة التي تتاجر بالأعراض 
وتقتني المال والبيوت» وفضلًا عن ذلك فقد ابتلاني الله 
بأولاد الحرام حّى بلغ الفجر بحسن غير أنه كان 
يبيعئي شمة الكوكايين ‏ عندما ندر في الأسواق ‏ 
بجنيه | 

لعنه الله , 

حسن عثير؟ . . . ألف لعئة! 

- بل الكوكايين . 


والله الكوكايين أرحم من الإنسان. 


لا. . . لاء من المحزن حقًا أنّك وقعت في شرًّه. 

فقالت بتسليم وقنوط : 

هد حيل وضيّع مالي» ما عليناء متى تجد لي 
شاريا؟ 

إن شاء الله عند أوّل فرصة . 

فقالت في عتاب وهي تنبض : 

أسمع. إذا زرتك في المرّة القادمة فابتسم من 
قلبك. كل إساءة تبون إلا التى تجيئني من ناحيتك» أنا 
عارفة أني أضايقك بمطالبي ولكثئي في ضيق لا يعلم به 
إلا اللهء وأنت أنبل الئاس في نظري . 

فقال ها معتذرًا: 

- لا تتوشمي ما ليس فح الأمر أن كنث مشغرلا 
بمسألة هامة عند قدومك. وموم التجار لا تنتهي كما 
تعلمين! 

رفع الله عنك الهموم . 

فحنى رأسه شاكرًا وهو يوصلهاء ثم ودّعها قائلا : 

أهلا بك من القلب في كلّ حين. . . 

ولح في عينيها نظرة خابية تفيض غنًا فرق لاء 
وعاد إلى مجلسه منقبض الصدر فالتفت إلى جميل 
الحمزاوي وقال: 

علاننا . ج .: 

كفاك شرها وأطعمك خيرها. 

غير أَنْ ثبرات الحمزاوي قست وهو يستدرك قائلا : 

- ولكّها عاقبة عادلة لامرأة مستهترة! 

فهرّ أحمد عبد الجواد رأسه هرّة مقتضبة سريعة كأنا 
يعلن بها احتجاجًا صامنًا على قسوة هذه الموعظة. ثم 
سأله بصوت رجم به إلى النغمة الى قطعها بجيء 
زبيدة : 

ألا تزال مصمُّمًا على رأيك في هجرنا؟ 

فقال الرجل في حرج : 

- ليس هجرًا ولكنه تقاعد وأنا آسف من كل 
قلبي . 

كلام كالذي داريت به زبيدة منل دقيقة ! 

أستغفر الله. إن أتكلّم من قلبي» ألا ترى يا 
سيّدي أنْ الكبر يكاد يعجزنى؟ 

ثم دخل الدكان زبون فمغى الحمزاوي إليه» وإذا 


السكرية 19م 

بصوت عتيق يتعالى من الباب قائلًا في لهجة الغزل: 

من هذا الذي يجلس وراء المكتب كالقمر؟! 

بدا الشيخ متوئي عبد الصمد في جلباب خشن رت 
لا لون له ومركوب متفرّزء معصوب الرأس بتلفيعة 
من وبرء مستئد القامة على عكازء وكان يرمش بعينيه 
الحمراوين مسدذا بصره نحو الحجدار الملاصق لمكتب 
السيّد وهو يظنْ أنه يسدّده نحوه... فابتسم السيّد 
رغم همه قائلا : 

- تعال يا شيخ متولي؛: كيفه -حالك؟ 

فكشف الرجل عن فم لم يبق فيه ناب واحيد وهو 
ود وه 

يا ضغط زل. يا صححة عودي إلى سيد 
التاسن ...... 
وقام السيّد فاتجه نحوه فاعتدل بصر الشيخ إليه 
ولكنه تراجع في الوقت نفسه كالهارب؛ ثم جعل يدور 
حول نفسه. مشيرًا إلى الجهات الأربع وهو يصيبح «من 
3 تارجم ومن هنا تفرج». ثم تحول إلى الطريق 
فائللا : 

ليس اليومء غذّاء أو بعد غد, قل الله أعلم. . . 

ومثى في خطوات واسعة لا يناسب نشاطها مظهره 
لباو 


0 

يوم الجمعة رجعت الفروع إلى الأصل وعمر البيت 

القديم بالأبناء والأحفاد. ذلك تقليد سعيد لم ينقطعوا 
عنه. ول تعد أمينة «بطلة؛ يوم الجمعة كما كانت قديماء 
آم حنفي تبوات المركز الأول في المطبخ؛ ولم تكن 
أمينة تني عن تذكير القوم بأن أمّ حنفي تلميذجما فإِن 
غرامها بالثناء كان يتشبّع على الإفصاح عن ذاته كلما 
شعرت بقلّة استحقاقها له إلى أن نخديجة ‏ رغم أنها 
في حكم الضيفة . لم تقصّر في إهداء معونتها. وقبيل 
ذهاب السيّد إلى الدكان التف به الضيوف؛ إبراهيم 
شوكت وابناه عبد المنعم وأحمد. وياسين وابئاه رضوان 
وكريمة, يكتنفهم ذلك الخشوع الذي يجعل من 
ضحكهم ابتسامًا ومن حديثهم همسا. وكان السيد يجد 
في حضورهم سرورا يزداد تعلّمًا به كلما تقدّم به 


السكرية 


العمرء فعتب على ياسين انقطاعه عن زيارته في 
الدكّان اكتفاء بزيارة يوم الجمعةء ألا يريد هذا البغل 
أن يفهم أنه يتوق إلى رؤيته كل حين؟ . وابنه رضوان 
ميل المحيًا ذو العينين المكحولتين والبشرة الوردية 
الذي يعكس جماله ألوانًا متنوعة تذكره مرّة بياسين ومرّة 
ببنية أمّ ياسين وثالثة بصديقه الحبيب محمد عقت فهذا 
أحبٌ الأحفاد إلى قلبه» وكريمة أخته مصغر شابّة في 
الثامنة من عمرها سوف تنضج نضِجًا عجيبا ى| تشهد 
عيناها السوداوان ‏ عيئا زثوبة أمّها- اللتان يبسم لما 
خاطره ابتسامة نديّة بالحياء والذكريات . أما عبد المنعم 
وأحمد فحسبه أن يرى في وجهيههما قدرًا لا يستهان به 
من أنفه العظيم كما يرى عيني خديجة الصغيرتين» غير 
أنئبها أجرأ من الآخرين في مخاطبته: وكلهم ‏ هؤلاء 
الأحفاد ‏ يشقون طريق دراستهم بنجاح يدعو إلى 
الفخار, لكتّهم يبدون مشغولين بأنفسهم عن جدّهم. 
فمن ناحية يعزونه بأنْ حياته لم ولن تنقطع ومن ناحية 
أخرى يذكرونه بأنْ شخصه يتراجع رويدًا عن مركر 
الاهتمام الذي كان يستأثره: وم يكن ذلك ليحزنه. 
إن الإيغال بالعمر يجيء بالحكمة كما يجيء بالسوهن 
والمرض. ولكن هيهات أن يمنم ذلك الذكريات من أن 
تتدفق. عندما كان مثل هؤلاء في مطلع العمرء 
وعندما كان العام 21894١‏ وكان يتعلّم قليلًا ويلهو 
كثيرًا ما بين مغاني الحاليّة ومرتاد الأزبكية. وفي ركابه 
يجري محمّد عقت وعل عبد الرحيم وإبراهيم الفار, 
كات ابوفهاذ الدكانة ننسها يرس وحيةة لاا فيرف 
له كثيرّاء وكان العمر صفحة مطويّة مكتظة بالآمال. 
ثمّ كانت هنيّة. .. ولكن مهلا! لا ينبغي أن تستخفه 
الذكريات . 

وقام ليصل العصر فكان ذلك إيذانًا بالانصراف. 
لمّ ارتدى ملابسه ومضى إلى الدكان, وتجمعوا هم في 
مجلس القهوة حول مجمرة الجدّة؛ في جو التلاقي 
والسمر. احتلّت الكنبة الرئيسيّة أميئة وعائشة ونعيمة» 
أمَا الكنبة اليمنى فجلس عليها ياسين وزنوبة وكريمة 
وعلى الكنبة اليسرى قعد إبراهيم شوكت وتخديجة 
وكبال. على حين اتخذ رضوان وعبد المنعم وأحمد 
مجالسهم على كراسي توشطت الصالة تحت المصباح 


الكهربائئ . وكان إبراهيم شوكت كعادته التي لم يغيرها 
الزمن ينوه بألوان الطعام التي أعجبته. غير أن تنويبه 
اقتصر في الفترة الأخيرة على فضل الأستاذة على 
تلميذتها النجيبة» وكانت زنُوبة تعيد ثناءه كالصدى 
فإئّا لم تكن همل فرصة يمكن أن تتودّد بها إلى أحد 
من أهل زوجها. والحنٌ أئّبا مذ متحت لما أبواب آل 
زوجها وأتيحت لا مخالطتهم وهي تعمل بلباقة على 
توثيق علاقتها بهم, لأئْها عدّت ذلك اعترافًا بمكانتها 
بعد أن انقضت أعوام وهي تعيش في عزلة كالمنبوذة . 
وكان موت وليد لياسين السبب الحقيقئّ في زيارة أهله 
لبيته للتعزية.» فصافحت يدها أيلء 
زواجهاء وتشبجعت بذْلك فزارت 0 ثم زارت 
بين القصرين عند اشتداد المرض على السيدء» بل 
أقدمت على زيارته في حجرته فتقابلا كشخصين 
جديدين لا تاريخ مشتركًا بينههما. هكذا اندمجت زثوبة 


مهم لأول مرة منذ 


في آل أحمد حيّى غدت تخاطب أميئنة فتقول ها يا تيزة 
وتنادي خديجة فتقول لها يا أختي. وبدت دائًا مثالا 
للاحتشام : وعلى حلاف نساء الأسرة ألنفسهنٌ تجئيثت 
التبرّج خخارج بيتهاء حيّى بدت أكبر من ستهاء إذ بادر 
الذبول إلى حمالها قبل الأوان» فلم تصدّق خديجة أبدًا 
أها في السادسة والثلاثين. ولكتّبا استطاعت أن تفوز 
من الجميع بشهادة طيّبة لها حبّى قالت عنها أميئة يوما 
ولا شك أنْ أصلها طيّبء» رتما أصلها البعيد» فليكن. 
ولكتّبا بنث حلال» هي الوحيدة الى عمّرت مع 
ياسين!». وبدت خحديجة في شحمها ولحمها أضخم 
من ياسين نفسهء ولم تكن تنكر أنّبا سعيدة بذلك. كا 
كانت سعيدة بعبد المنعم وأحمد وحياتها الزوجيّة الموفقة 
عامّة؛ ا م انّقاء العين. 
وقد تغئرت معاملتها لعائشة تغترًا كليًا فلم تند عنها 
طوال ثالية أعوام كلمة واحدة تدم عن سخرية أو 
خشونة ولو على سبيل المازحة. بل حرصت الحرص 
كله على الترقق بها والتودّد إليها وملاطفتهاء خشوعًا 
حيال تعاستها وخحوفا من الأقدار الى قضت عليها بما 
قضت. وإشفاقًا من أن تضع المرأة المحزونة حغَليه) 
موضع المقارنة» وقد وقفت موقفًا كريمًا يوم حتمت على 


إبراهيم شوكت أن ينزل عن حقه المشروع في ميراث 
أخيه المتوقٌ لنعيمة فآلَ المبراث كله لعائشة وكريمتها 
دون شريك. وأملت خديجة أن يذكر صنيعها في حينه 
ولكنّ عائشة استغرقها ذهول غيّب عنها كرم أنختها فلم 
يقعد ذلك بخديجة عن غمرها بالعطف والرحمة 
والتسامح كأتما انقلبت أمًا أخرى لماء ولم تكن تطمع 
في أكثر من رضائها ومودّتها كي تطمئنٌ على أسباب 
التوفيق التي هيأها لا الله. وأخمرج إبراهيم شوكت 
علبة سجائره وقدّمها لعائشة فتئاولت سيجارة شاكرة؛ 
وتناول أخرى وراحا يدشنان. كثيرًا ما يكون إفراط 
عائشة في التدحين وتعاطي القهوة ملتقى ملاحظات 
وإن تكن تقابل منبها عادة مبز الكتفين. أمَا أمها فتقنع 
بأن تقول في لهجة الدعاء «ربنا يصترها» وأما ياسين 
فكان أجرأ الأهل في نصحها كأنما قد أهْله لذلك فَقّد 
وليده غير أن عائشة لم تكن تعدّه مصابًا مثلها وتضنّ 
عليه بمكانة مرموقة في دولة المبتلين إذ إِنْ ابنه مات وهو 
دون العام لا كعئان أو محمد, والواقع أن حديث 
المصائب كان يبدو كثيرًا هوايتها المفضّلة, كأنًا كانت 
تعتز بدرجتها الممتازة في دنبا الشقاءء واستمع كمال إلى 
ما يدور من حديث عن المستقبل بين رضوان وعبد 
المنعم وأحمد فأرهف السمع باسباء وكان رضوان 
ياسين يقول : 

كلّنا من القسم الأدبي» فليس أمامنا كليّة جديرة 
بالاختيار إلا الحقوق. 

فاجابه عبد المنعم إبراهيم شوكثت بصوته القوي 
المفعم بدبرات التوكيد» وكان بهرْ رأسه الضخم الذي 
جعله أقرب الشبان شبها إلى كمال : 

- مفهوم. .. مفهوم. ولكنّه لا يريد أن يفهم!. 

وأومأ عند عبارته الأخيرة إلى أنخيه أحمد الذي 
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة» فالتهز إبراهيم 
شوكت الفرصة وقال مشيرًا إلى أحمد أيضا: 

ليدخحل الآداب إذا شاء ولكن عليه أن يتنعني 
بقيمتهاء أنا أفهم الحقوق ولكنّني لا أفهم الآداب! 

وغضٌ كمال بصره فيا يشبه الأسى» إذ عاودته 
أصداء نقاش قديم عن الحقوق والمعلمين. إِنّه لا زال 


السكرية ١7م‏ 


يتنس في جوٌ الآمال القديمة» بيد أنَّ الحياة تجبهه 
بصدمات قاسية كلّ يوم. فوكيل النيابة مثلا لا يحتاج 
إلى تعريف أمّا كاتب مقالات ججلّة «الفكر؛ فرئما احتاج 
إلى تعريف أكثر من مقالاته الغامضة نفسها!. ولم يدعه 
أحمد إبراهيم شوكت لحيرته فنظر إليه بعينيه الصغيرتين 
البارزتين وهو يقول: 

- إي أترك الجنواب لخالي كمال. . . 

وابتسم إبراهيم شوكت ابتسامة يداري بها حرجه. 
أمّا كبال فقال دون حماس : 

ادرسٌ ما تشعر بأنه يوافق موهبتك . 

وبدا الظفر في وجه أحمد فردّد رأسه الرشيق بين 
أيه وأبيه غير أنّْ كيال عاد يقول: 

- ولكن ينبغي أن تعلم أن الحقوق تفتم لك مالا 
من اللحياة العملية الممتازة لا تستطيعه الآداب. سيكون 
مستقبلك إذا اخترت الآداب في التعليم وهو مهنة شاقة 
ولا جاه لها. . 

- بل سأتّهه إلى العمل في الصحافة. 

- الصحافة!. . . «صاح إبراهيم شوكت». . . إِنَه 
لا يدري ماذا يقول. 

فقال أحمد خخاطنا كيال ' 

- إن قيادة الفكر وقيادة عربة كارو شبيء واحد في 
أسرتنا! ْ 

فقال رضوان ياسين باسم): 

إِنّْ أكبر قادة الفكر في وطئنا من الحقوق. . . 

فقال أحمد في كررياء: 

إِنْ الفكر الذي أعنيه شيء آخحر! 

فقال عبد المنعم شو كه عاسا" 

وهو شيء ميف هدّام. إني أعلم واأسفاه بما 
عاد إبراهيم شوكت يقول لأحمد وهو ينظر إلى 
الآخرين كأنما يشهدهم على ما يقول: 

ع نقذ ككل ان تتدم تك لا ولك في الم 
الرابعة» لن يعدو ميرائك المائة جنيه في العام» وإِنْ 
بعض أصحابي يشكون مرّ الشكوى من أن أبناءهم 
الجامعيّين لا يجدون عملاء أو يعملون كُتبَةٌ بمرنبات 
تافهة وأنت حر بعد ذلك فيا تختار. . . 


السكرية 

وتدخل ياسين في المناقشة بأن اقترح قائلا: 

- لتسمع رأي خمديجة. إنْا المدرّسة الأولى لأحمد, 
وهي أقدرنا على الاختيار بين الحقوق والآداب. . 

وامتلأت الثغور بالابتسام,» حيّى أميئة ابتسمت 
وهي عاكفة على كنجة القهوة. بل حتى عائشة 
ابتسمت. فتشجعت نخديجة بابتسامة عائشة فقالت: 

- سأقصٌ عليكم قصة طريفةع أمس بعد العصر 
بقليل - والدنيا تظلم بسرعة في الشتاء كما تعرفون 
كنت راجعة من الدرب الأحمر إلى السكريّة. فشعرت 
كأنّ رجلا يتبعنيى. وإذا به يمر بي تحت قيّة المتولي وهو 
يقول «على فين يا جميل». فالتفتث نحوه قائلة: وعلى 
البيت يا سبي ياسين!). 

وضجّت الصالة بالضحك. ونظرت إليه زنُوبة 
نظرة ذات معنى تَجِلٌ فيها الانتقاد واليأس. أما ياسين 
فجعل يشير للضاحكين بيده حقٌ عاد السكون. ثم 
تساءل : 

أمن المعقول أن يصيبني العمى إلى هذا الحل؟ 

فحذّره إبراهيم شوكت قائلا : 

صاقف : 

أمَا كريمة وأمسكت بيد أبيها وضحكت كائها رغم 
كونها بنت ثيانية قد فهمث المقصود من قصة عمتهاء 
وقالت زنُوبة تعليقًا على الحال: 

شر الأمور ما يضحك. 

وحدج ياسين خديجة بنظرة مغيظة وهو يقول 
وحفرت لى حفرة يا بنت الإيه» فقالت نحديجة : 

إذا كان أحد في الموجودين في حاجة إلى الآداب 
فهو أنت لا أحمد ابي المجنون! . 

وصدّقت زنُوبة على قوطاء أمّا رضوان فدافع عن 
أبيه ودعاه بالبريء المظلوم. وظل أحمد ينظر إلى كمال 
متعلّقًا به كالأمل» أمّا عبد الملعم فكان يسترق النظر 
إلى نعيمة التى تبدّت لصق أمّها كالوردة البيضاء. 
وكانت كلما شعرت بعينيه الصغيرتين تورّد وجهها 
الشاحب الرقيق» حيّى عاد إبراهيم شوكت يقول مغيرا 
مجرى الحتديث اطبا أحمد: 

- انظر إلى الحقوق وكيف جعلت من ابن الحمزاوي 
وكيل نيابة قد الدنيا. . . 


شعر كيال كأنْ هذا القول انتقاد مر موجه إلى 
شخصه. أما عائشة فقالت لأول مرّة: 

إِنْه يريد أن يخطب نعيمة. 

وفي فترة الصمت التى اسثقبل بها الخبر قالت أمينة : 

أبوه فاتح جدّها أمس. . . 

وقجاءل يافنين عاذ | 

- وهل وافق أبي؟ 

هذا سابق لأوانه , 

فتساءل إبراهم شوكت بحذر وهو ينظر إلى عائشة : 

- وما رأي عائشة هانه؟ 

فقالت عائشة دون أن تنظر إلى أحد: 

- لا أدري. . . 

- ولكنّكِ أنت الكل في الكل. . . 

وأراد كيال أن يشهد بشهادة طيبة لصديقه فقال: 

فؤاد شاٌ ممتاز حمًا. , . 

فقال إبراهيم شوكت بحذر كامتسائل : 

أَظَنْ أهله من السوقة؟!. 

فقال عبد المنعم شوكت بصوته القوي : 

- تعمع خاله مكاريّ؛ وخاله الآخر فرّانء وعمه 
كاتب محام (ثمّ بلهجة استدراكية ضعيفة) ولكن هذا 
لا ينقص من قدر الإنسان فالإنسان بنفسه لا بأهله! . 

وأدرك كال أنّ ابن أخته يريد أن يقرّر حقيقتين 
يؤمن ببهما على تنافرهماء أولا وضاعة أصل فؤادء وثانيا 
أن وضاعة الأصل لا تنقص من قدر الشخص. بل 
أدرك أكثر من هذا أنه يحمل في الأولى عل فؤاد وأنّه 
يكمّر في الثانية عن حملته الظالمة مرضاة لعقيدته الديئية 
القويّة. ومن عجب أنْ تقرير هاتين الحقيقتين أراحه 
وكفاه شر الإفصاح عنهها بنفسه. فإنّه كابن أخته لم 
يكن يؤمن بفوارق الطبقاتء» وكان مثله أيضًا يميل 
للحملة على فؤاد والحط من شأنه الذي يدرك خطورته 
وتفاهته هو بالقياس إليه. والظاهر أنْ أميئة لم ترتح 
هذه الحملة فقالت: 

ناأتوه رجز طني عندينا: الحفر كلفنايانة 
وإخلاص . 

فجمعت خديجة شجاعتها وقالت: 


- ولكن ربا عاشرت نعيمة- لو تم هذا الزواج - 
أناسًا انسنوا أهلا للمعاشرزة: الأصل كل شوء: 

وحانعا سار من حيف 1 يعار اعد قات 
زنوبة : 

صدقت» الأصل كل شبيء! 

واضطرب ياسين» واسترق إلى خحديجة نظرة سريعة 
وهو يتساءل عن رجع قول زوجته في نفسهاء وتعليقها 
الباطيّ عليه وما يستدعيه ذلك إلى خواطرها عن عالم 
العوالم والتخت. حتّى لعن زنسوبة في سرّه على 
«قنزحتها» الفارغة واضطرٌ أن يتكلم ليغظي على كلام 
زوحجته. فقال: 

- تذكروا أنكم تتحدّثون عن وكيل ليابة. . . 

فقالت خديجة متشجعة سكوت عائشة: 

- أبي الذي جعل منه وكيل نيابة» أموالنا نحن التي 
صنعته ! 

فقال أحمد شوكت في سخرية نطقت بها عيئاه 
البارزتان اللتان تذكران بالمرحوم خليل شوكت: 

- نحن مديئون لأبيه أكثر نما هو مدين لنا! 

فاشارت إليه نخديجة بسبابتها وهي تقول بلهجة 
ملؤها الانتقاد: 

- أنت دائما ترمينا بكلام غير مفهوم . 

فقال ياسين بلهجة من يأمل في إنهاء الموضوع : 

- أريحوا أنفسكم فالكلمة الأخيرة لبابا. . . 

ورّعت أمينة فتاجيل القهوة: واتبهت أعين الشباب 
إلى حيث جلست نعيمة لصق أمها. قال رضوان 
لنفسه: بنت لطيفة وجميلة. ليته كان في الإمكان أن 
أصادقها وأزاملها. لو مشيئا في الطريق معًا لاحتار 
الرجال أيّنا الأمل!. وقال أحمد لنفسه أيضًا: جميلة 
جدّاء ولكنها كأنما هي ملزوقة في خالتي بالغراء ولا 
حظ لما من الثقافة . أمَا عبد المنعم فقال: جميلة وستت 
بيت وشديدة التقوى. لا يعيبها إلا ضعفهاء وحبّى 
ضعفها حميل: خسارة في عين فؤاد. ثم جاوز الحديث 
الباطيّ فساها : 

وأنت يا نعيمة خترينا عن رأيك؟ 

فتورّد الوجه الشاحب. وقطبت ثم ابتسمت. وتوثر 
حاها وهي زج الابتسام بالتقطيب لتخلص منبا معا؛ 


السكرية 7م 

ثمّ قالت فى حياء واستياء : 

لا رأي لي دعني وشأني!. . . 

فقال أحمد ساحرًا: 

الحياء الكاذب , . 

ولكنّ عائشة قاطعته متسائلة : 

الكاذب؟! 

فاستدرك قائلا : 

الخياء موضة قديمة, ينبغي أن تتكلّمي وإلا 
ضاعت منك الحياأةٌ, . 

فقالت عائشة بمرارة: 

- إِنْنا لا نعرف هذا الكلام . 

فقال أحمد متشكّيًا دون أن يعبا بنظرة أمّه المنذرة: 

أراهن على أنْ أسرتنا متأخرة عن العصر اللحديث 
بأربعة قرون! 

فسأله عبد المنعم ساخخرًا : 

- لى احددتها بأربعة؟ 

فقال دون اكتراث : 

على سبيل الرأفة!. 

وإذا بخديجة توجه الخطاب إلى كيال متسائلة : 

- وأنت1!... متى تتروج أنت؟! 

بوغت كبال بالسؤال فتهرّب قائلا : 

حديث قديم! 

- وجديد في الوقت نفسهء. ولن نتركه حتى يجمع 
الله شملك على بنث الخلال. . . 

تابعت أمينة الحديث الأخير باهتيام مضاعف. 
فزواج كيال أعرٌ أمانيهاء وكم رجته أن يحمّق أمنيتها 
حتى تقر عينها بحفيد من صلب ابنها الوحيد. قالت: 

- عرض عليه أبوه عرائس من أحسن الأسرء ولكنه 
يتعلل دائمًا بعذر أو بآخر. . . 

- أعذار واهيةء» كم عمرك الآن يا سي كيال؟... 

تساءل إبراهيم شوكت ضاحكا. . . 

- ثهانية وعشرون عاما! . . . فات الوقت. . . 

أنصتت أميئة إلى رقم العمر بدهش كأنما لا تريد أن 
تصدّق؛ أمّا خديجة فاستذدت وهى تقول : 

أنت مغرم بتكبير عمرك! . 

أجل فهو الخ الأصغرء فالكشف عن عمره كشففب 


4 السكرية 


غير مباشر عن عمرها. مع أن زوجها بلغ الستّين إلا 
أئّبا كانت تكره أن تذكر بأئْها في الثامنة والثلاثين» أما 
كبال فلم يكن يدري ماذا يقول» ولم يكن الموضوع في 
نظره مما تحسم بكلمة, ولكنّه كان يشعر دائمًا أنه 
مطالب بإيضاح موقفه فقال بلهجة المعتذر: 

- إني مشغول نهاري بالمدرسة وليل بمكتبي! . 

فقال أحمد بحباس : 

حياة عظيمة يا خالي» ولكنّ الإنسان ينبغي مع 
ذلك أن يتزوج. 

وقال ياسين الذي كان أعرف الجميع بكيال : 

أنت تتجئْب الشواغل حيّى لا تشغلك عن طلب 
«الحقيقي» ولكنّ الحقيقة في هذه الشواغل» لن تعرف 
الحياة في المكتبة» ولكن الحقيقة في الببت والشارع. . . 

فقال كيال معنا في الحرب : 

تعوّدت أن أنفق مرتّبي لآخر مليم؛ ليس عندي 
مدخرء كيف أتزوج؟! 

فقالت تعديجة تحاصره: 

- انْو الزواج مره وستعرف كيف تستعدٌ له . 

وقال ناسين فناحكا: 

- نك تنفق مرئّبك لآخر مليم حتّى لا تتزوؤج. .. 

كأئبها شيء واحد. ولكن لم ل يتروج رغم استجابة 
الظروف ورغبة الوالدين؟. أجل مضت فترة في ظل 
الحبّ فكان الزواج ضربًا من العبث» وتبعتها فترة حل 
محل الحبٌ فيها بديل هو الفكر فاستغرق اللحياة بنبم: 
وكانت فرحة الأفراح أن يعثر على كتاب جميل أو يظفر 
بنشر مقالة. وقال لنفسه إِنَْ المفكر لا يتزوج وما ينبغي 
له. كان ينظر إلى فوق ويظنٌ أن الرواج سيحمله على 
النظر إلى تحت. وكان - وما زال- يلد له موقف 
المشاهد المتأمّل بقدر ما ينفر من الاندماج في ميكانيكية 
الحياة. وإنّه ليضنْ بحرّيّته كما يضِنّ البخيل بماله. ثم 
نه لم يبنَ عنده من المرأة إلا شهوة تقضى» وإلى هذا 
كله فالشباب لم يضع هباء ما دام لا ينقضي أسبوع 
دون مسرّات فكريّة ولذّات جسديّة, ثم إِنّه حائر 
يداخله الشكٌ في كل شيء, والزواج نوع من الإيمان. 
قال : 

- أرمحوا أنفسكم , سأتزوج عندما أرغب في الزواج, 


فابتسمت زثوبة ابتسامة أرجعتها إلى الوراء عشرة 
أعوام وتستاءلت* 

- ولم لا ترغب في الزواج؟ 

فقال كيال فيها يشبه الضجر: 

الزواح حبّة وأنتم تجعلون منه قبة, . . 

ولكنّه كان يؤمن في أعماقه بن الرواج قبّةَ لا حبةى 
وكان يساوره شعور غريب بأنه يوم يذعن للزواج 
فسيُقضى عليه قضاء مبرمًا. وأنقذه من موقفه صوت 
أحمد وهو يقول له: 

آن لنا أن نصعد إلى المكتبة , 

فنبض مرحّبًا بدعوته» ومضى خارجا وعبد المنعم 
وأحمد ورضوان في أثره» وصعدوا إلى حجرة المكتب 
لاستعارة بعض الكتب كعادتهم كلما جاءوا إلى البيت 
القديم زائرين. وكان مكتب كمال يتوسط الحجرة تحت 
المصباح الكهربائيَ بين صفين من خزائن الكتبء 
فجلس إلى مكتبه على حين رأى الشبّان يطالعون 
عناوين الكتب المصفوفة على الأرفف. ثم احتار عبد 
المنعم كتاب «ومحاضرات في تاريخ الإإسلام). وجاء 
أحمد بكتاب «مبادئ الفلسفة)»: ثم وقفوا حول مكتبه 
وهو يرذد بصره بينهم صامتاء حبّى قال أحمد متضايقا : 

لن أقرأ كبا أحبٌ حبّى أتقن لغة أجنبية واحدة 
على الأقلٌ. 

وتمتم عبد المنعم وهو يقرأ صفحات كتابه : 

لا أحد يعرف الإسلام على -حقيقته . 

فقال أحمد ساخخطا: 

أخي يتلقى حقيقة الإسلام على يد رجل شبه 
عامئ في ان الخليلٍ. . . 

فصاح به عبد المنعم : 

صه يا زنديق! 

ونظر كمال إلى رضوان متسائلا : 

وأنت ألا تريد كتابا؟ 

فأجاب عنه عبد الملعم : 

- وقته مشغول بقراءة الخرائد الوفدية! 

فقال رضوان وهو يومئ إلى كال : 

في هذا يتفق معي عمّي ! 

عمّه لا يؤمن بشيء ورغم ذلك فهو وفدي! كا أنه 


يشكٌ في الحقيقة عامّةع ورغم ذلك فهو يتعامل مع 
الناس والواقع . تساءل وهو يردد عينيه بين عيدك المنعم 
وأحد : 


وأنتها وفديّان كذلك فما وجه الغرابة؟. وكل وطن 


فهو وفدئّ». أليس كذلك؟ 

فقال عبد المنعم بصوئه اليقي : 

الوفد أفضل الأحزاب بلا ريب» ولكنه في ذاته لم 

فقال أحمد ضاحكًا: 

- إن أوافق أخي على رأيه هذاء أو بالأحرى لا 
أوافقه على رأي إلا هذاء وريما امحتلفنا في درجة 
الإقناع الخاصّة بالوفد, أكثر من ذلك فإنْ الوطنيّة 
نفسها يجب أن تكون موضع استفهام. أجل إن 
الاستقلال فوق كلّ نزاع» أمَا معنى الوطنيّة بعد ذلك 
فينبغي أن يتطوّر حيّى يفنى في معنى أشمل وأسمى. 
وليس ببعيد أن ننظر في المستقبل إلى شهداء الوطنية كما 
ننظر الآن إلى ضحايا المعارك الحمقاء التى تنشب بين 
القبائل والأسر! 

معارك حمقاء يا أحمق! فهمي لم يستشهد بي معركة 
حمقاء؛ ولكن أين وجه اليقين؟. ورغم خخواطره قال 
ببحذة : 

أي قتيل في سبيل شيء فوق نفسه فهو شهيدء 
وقد تتغيّر فِيّم الأشياء أمَا موقف الإنسان منها فهو قيمة 

وغادروا -حجرة المكتب ورضوان يقول اطبا عيد 
المنعم ردًا عل ملاحظة له؛ 

السياسة أنحطر وظيفة في المجتمع. .. 

ولا عادوا إلى مجلس القهوة كان إبراهيم شوكت 
يقول لياسين : 

وهكذا فدحن نريٌ ونوجّه وننصح ولكن كل ولد 
يندمج في مكتبة وهي عالم مستقل عنّاء يزحمنا فيه 
أناس غرباء. لا ندري عهم شيثًا فيا عسى أن 
لصنع؟ [ . 

ع 


كان الترام مكتظًا حبّى لم يعد به موضع لواقف, 


السكرية ه؟م 


وقد انحشر كيال بين الواقفين وكأنّه يطل عليهم بقامته 
الطويلة النحيلة. كانوا مثله ‏ فيها بدا له يقصدون 
مكان الاحتفال بالعيد الوطبي - عيد ١‏ نوفمير- فردّد 
عينيه في الوجوه مستطلعا ومرحبا. 

والحقٌ أنه يشارك فى هذه الأعياد كأشدٌ المؤمنين بها 
وإن آمن في الوقت نفسه بألا إيمان له. وكان الناس 
تحادثورن: تعلفين عل 'الوقت عون سنابق تعبارت: 
مكتفين بوحدة الهدف وبرابطة «الوفديّة» التي ألفت 
بين قلومهبمء قال أحدهم : 

عيد الجهاد هذا العام عيد جهاد بكل معنى 
الكلمة؛ أو هذا ما يجب أن يكون. .. 

فقال آخخر: 

- يجب أن يِرْدٌ فيه على هور وتصريحه المشئوم . 

وثار ثالث لذكر هور فصاح: 

- ابن الكلب قال: نصحنا بأن لا يعاد دستور 
148 ولا دستور 1470, ما شأنه هو ودستورنا؟ . 

فأجابه رأبع : 

لا تنس أنه قال قبل ذلك: على أثنا عندما 
استشارونا نصحناء إلخ . . . 

أجل» من الذين استشاروه؟ 

سَلّْ عن ذلك حكومة القوادين! . 

- انوفيق انسيم . . كفى!. أنسيتموه؟. ولكن لاذا 
هادنه الوفد؟! 

لكل شيء نهاية» انتظروا خطبة اليوم . 

أصغى كمال إليهمء» بل اشترك في حديئهم. 
وأعجب من هذا أنّه لم يكن من دونهم حماساء وكان 
هذا ثامن عيد جهاد يشهده؛, وكان كالآخرين قد امتلا 
بمرارة التجارب السياسيّة التى خلفتها الأعوام السابقة. 
أجل «لقد عاصرت عهد محمد محمود الذي عطل 
الدستور ثلاث سئوات قابلة للتجديد واغتصب حرية 
الشعب في نظير وعده له بتجفيف البرك 
والمستنقعات!. كا عشت سنين الإرهاب التى فرضها 
إسماعيل صدقي على البلاد» كان الشعب يثق في قوم 
ويريدهم حكامًا له ولكنّه يجد فوق رأسه دائما أولئنك 
الجلادين البغضاء. تحميهم هراوات الكونستبلات 
الإنجليز ورصاصهم » وسرعان ما يقولون له بلغة أو 


5 السكرية 
بأخرى أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء؛ والشعب 
يخوض المعارك دون توقّف فيخرج من كلّ وهو يلهث؛ 
حتّى اتفذ في العباية موقفًا سلبيّاء شعاره الصير 
والسخريةء فخلا الميدان إلا من الوفديّين من ناحية 
والطغاة من ناحية أخرى, وقئع الشعب بمجلس 
لمتفرّج وراح يشجّع رجاله في *مس دون أن يد لهم 
يدّاه. إن قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب» 
إنه يخفق معه دائمًّاء رغم عقله التائه في ضباب 
شلك . غادر الترام عند شارع سعد زغلول» وسار في 
طابور غير منتظم نحو سرادق الاحتفال المقام في جوار 
بيت الأمّة» تقابلهم بين كلّ عشرة أمتار مجموعة من 
الجنود تحت رياسة كونستبل إنجليزي تنطق وجوههم 
بالصرامة والبلادة. والتقى قبيل السرادق بعبد المنعم 
وأحمد ورضوان وشابٌ لا يعرفه وقد وقفوا معًا 
يتحادثون. فاقبلوا نحوه مسلّمين ولبثوا معه بعض 
الوقت. منذ شهر تقريبا ورضوان وعبد المنعم بين طلبة 
الحقوق أمًا أحمد فقد انتقل إلى السنة النبائيّة بالثائري ‏ 
وإنّه لبراهم في الطريق «رجالا» بخلاف ما يراهم في 
البيت فليسوا إلا أبناء أخته وأخيه. وما أجمل 
رضوان!.» كذلك جميل» صاحبه الذي قدّمه إليه باسم 
حلمي عرّْت وقد صدق من قال إِنْ الطيور على 
أشكاها تقم. وكان أحمد يسرم وينتظر منه دائًا قولا 
غريبا متعًا أو سلوكًا لا يقل عنه غرابة» إِنّه أقرب 
الجميع إلى روحهء أما عبد المنعم فيا أشبهه به لولا 
ميله إلى القصر والامئلاء لذلك فحسب يحبّهء أما 
يقيله وتعضبه فا أرذها! . 

وأقبل على السرادق الضخم؛ وألقى نظرة شاملة 
على الجموع الحاشدة. مسرورًا بكثرتها الهائلة. وتطلّم 
مليَا إلى المنضّة التي سيعلو عندها عنما قليل صوت 
الشعب. ثم اتذ مجلسه. إِنّْ وجوده في مثل هذا 
الجمع الحاشد يطلق من أعماق ذاته الغارقة في الوحدة 
شخصا جديذًا ينتفض حياة وحماسًا. هنا ينحبس 
العقل في قمقم إلى حين وتنطلق قوى النفس المكبوتة 
طاعحة إلى -حياة مفعمة بالعواطف والأحاسيس دافعة إلى 
الكفاح والأمل. وعند ذاك تتجدّد حياته وتنبعث 


غرائزه وتتبدّد وحشته ويتصل ما بينه وبين الناس 


فيشارك في حياتهم ويعتنئق آماهم وآلامهم . إِنّه بطبعه 
لا يطيق أن يتسخل من هذه الحياة حياة ثابتة له ولكن لا 
بد منبا بين حين وآخر حيّى لا ينقطع ما بينه وبين 
الحياة اليومية.» حياة الناس». فلتؤجل مشكلات الماذة 
والروح والطبيعة وما وراء الطبيعة؛ وليمتى اهتماما بم 
يحب هؤلاء الناس وما يكرهون, بالدستور. . . بالأزمة 
الاقتصادية. . , بالموقف السياسئ,.. بالقضية 
الوطنيّة. لذلك لم يكن عجيبًا أن يبتف «الوفد عقيدة 
الأمّة» غداة ليل قضاه في تأمّل عبث الوجود وقبض 
الريح» والعقل يحرم صاحبه نعمة الراحة. فهو يعشق 
الحقيقة ويبوى النزاهة ويتطلع إلى التسامح ويرتطم 
بالشك ويشقى في نزاعه الدائم مع الغرائز 
والانفعالات» فلا بدّ من ساعة يأوي فيها اللتعب إلى 
حضن الاعة ليجدّد دماءه سني حزراره وشبابًا. في 
المكتبة أصدقاء قليلون ممتازون مثل دارون وبرجسون 
ورسل. في هذا السرادق آلاف من الأصدقاء. يبدون 
بلا عقول؛ ولكن يتمثّل في مجتمعهم شرف الغرائز 
الواعية» وليسوا في النباية دون الأول نَخَلْقَا للحوادث 
وصنعًا للتاريخ. في هذه الحياة السياسية يحب ويكره 
ويرضى ويغضب ويبدو كل شىء ولا قيمة له. وكلّما 
واجه هلا التناقض في حياته زعزعه القلق. ولكن 
ليس ثمة موضع في حياته يخلو من تناقض وبالتالي من 
قلق. لذلك شد ما يحنّ قلبه إلى تحقيق وحدة منسجمة 
نتّسم بالكمال والسعادة. ولكن أين هذه الوحدة؟!. 
ويشعر بِأنْ الحياة العقليّة لا مفرٌ منها ما دام به عقل 
يفكر فلا يقعده ذلك عن التطلّع إلى الحياة الأخرى 
تدفعه كافّة القوى المعطلة المكبوتة» فهي صصخرة 
النجاة. فلعله لذلك بدا هذا الجمع رائعّاء وكلما ازداد 
كثرة ازداد روعة. وها هو القلب ينتظر ظهور الزعياء 
بنشس الحرارة واللهفة كالآخرين. وقد جلس عبد 
امنعم وأحمد على مقعدين متجاورين» أمّا رضوان 
وصاحبه حلمي عرّت فيسيران في الممرٌ الذي يشقٌ 
السرادق ذهابًا وجيئة أو يقفان عند المدحل يتبادلان 
الحديث مع بعض المشرفين على الاحتفال فيا لما من 
شابين ذُوي نفوذ!.' وكانت همسات القوم تتجمع 
فتحدث لغطا عامًا أما الأركان التى احتلها الشباب 


فعلا ضجيجها وتخلّلته المتافات» ثم ترامى هتاف قوي 
ذو دلالة من الخارج فتطلعت الرءوس إلى مدخل 
السرادق الخلفيّ, ثم هبّوا واقفين» وتعالى هتاف يصع 
الآذان» ثم لاح مصطفى النحّاس فوق المنضصّة وهو 
يحبي الألوف بابتسامة وضيئة ويَّدّين قويّتين. وتطلع 
إليه بعينين اخختفت منه)ا نظرة الشكٌ إلى حين؛ وكان 
يتساءل كيف أومن ببذا الرجل بعد أن فقدت الإيمان 
بكنّ شىء؟. ألأنّه رمز الاستقلال والديموقراطيّة!؟. 
مهما يكن من أمر فَإِنَ اللتجاوب الحارٌ المتبادل بين 
الرجل والشعب ظاهرة جديرة بالنظرء وهي بلا شك 
قوّة خطيرة تلعب دورها التاريخئ في بناء القومية 
المصريّة. وتشبّع الجو بالحياس والحرارة؛ وتعب 
المشرفون على الحفل حي نشروا السكون في الأركان, 
كي يسمع الئاس المقرئْ وهو يتلو ما تير من القرآن 
مردّدًا فيها يتلو «يا أبّها النبيئن حرّض المؤمنين على 
القتخال»» وكان الناس ينتظرون هذا النداء فتعالى 
اهناف والتصفيق حيّى احتحٌّ بعض المتزمتين وطالبوا 
بالصمت احترامًا لكتاب الله. وأثار قوطهم في نفسه 
ذكريات قديمة يوم كان يُعَدٌّ واحدًا من هؤلاء المتزمتين 
فارتسمت على شفتيه ابتسامة ما واستشعر من توه عالمه 
الخاصٌ الحافل بالمتناقضات الذي يبدو من تعارض 
متناقضاته وكأنّه فراغ. ووقف الزعيم وراح يلقي 
خحطابه. ألقاه بصوت ران وبيان نافذ فاستغرق إِلقاؤه 
ساعتين) ثم ختمه جاهرًا في عنف سافر بالدعوة إلى 
الشورة» وبلغ الحياس من القوم مداه فوقفوا على 
المقاعد. وجعلوا يهتفون بحياس جنويّ. ولم يكن 
دونهم حماسا وهتافاء نسي أنه مدرس مُطالّب بالوقار 
وخيّل إليه أنّه رجع إلى الأيّام المجيدة الى سمع عنها 
وحال عمره دون الاشتراك فيها. أكانت المخنطب ثُلقى 
مبذه القوّة؟. أكان الناس يتلقّونها بمثل هذا الحماس؟ . 
أكان الموت لذلك يبون؟. من مثل هذا الموقف بدأ 
فهمي دون ريبء ثم اندفع إلى الموث» إلى الخلود أم 
إلى الفناء؟! . أمن الممكن أن يستشهد رجل في مثل 
حاله من الشكٌ؟. لعل الوطنيّة ‏ كالحبٌ ‏ من القوى 
الى نذعن لها وإن لم نؤمن بها!. . . 

إن فورة الحماس عالية» الهتافات حارة متودة. 


السكرية 1719م 


المقاعد ترتجح بمن فوقهاء | الخطوة التالية؟ ما يدري 
إلا والجموع تنّجه نحو الخارج. وغادر موضعه وهو 
يلقي نظرة عامّة باحثًا عن شباب أسرته ولكنّه لم يعثر 
لهم على أثر. وغادر السرادق من الباب الجانبي» ثم 
سار مستهدفا شارع قصر العيني في خطوات سريعة 
حيّ يسبق الجموع. ومرٌّ في طريقه ببيت الأمّة وكان 
كلما مر به يعلق به بصره ورد عينيه بين الشرفة 
التاريخيّة والفناء الذي شهد أجل الذكريات الوطنيّة, 
أجل لهذا البيت مثل السحر في نفسهء فها هنا كان 
يقف سعدء وها هنا كان يقف فهمي وأقرانه؛ وف 
هذا الطريق الذى يسير فيه الآن كان ينطلق الرصاص 
ليستقرٌ في صدور الشهداء» إِنْ قومه في حاجة دائمة 
إلى الثورة ليقاوموا موجات الطغيان التي تترضد سبيل 
بضتهمء في حاجة إلى ثورات دورية تكون مثابة 
التطعيم ضِدٌ الأمراض البيئة: والحنٌ أنْ الاستبداد 
هو مرضهم المتوطن. هكذا نجح اشتراكه في العيد 
الوطيّ في تجديد نفسه فلم يكن ببمه في تلك اللحظة 
إلا أن تجيب مصر على تصريح هور إجابة حاسمة 
كاللكمة القاضية. وانتصبث قامته النحيلة الطويلة, 
وارتفع رأسه الكبير» واشتدٌ وقع خطاه وهو يتقدّم أمام 
الجامعة الأمريكيّة متخيّلا أمورًا جليلة وفعالا خطيرة. 
حي المدرّس ينبغي أن يثور أحيانًا مع تلاميذه. 
ل 0 مدرّس كبير الرأس مقضي 
عليه بأن يعلم مبادئ الإنجليزية ‏ المبادئ فحسب- 
رغم أنه يطلع بها على أسرار وأسرار» يحتلّ جسمه من 
مزدحم الأرض مرضعًا ضئيلا أمّا خياله فيضطرب في 
الدوامة التي تحيط بمغالق الطبيعة. يسأل في الصباح 
عن معنى كلمة وهجاء أخري ويتساءل بالليل عن معنى 
وجوده ذلك اللغز القائم بين لغزين» وني الصباح 
أيضا يضطرم فؤاده بالثورة على الانجليز وي الليل 
تدعوه الأحوّة العامة المعذبة ‏ أحوّته لبني الإنسان ‏ 
للتعاون أمام لغز القضاء. وهر رأسه في شيء من 
العنف كأتما ليطرد عنه هذه الخيالات» وقد ترامت إلى 
مسامعه أصوات الحتاف وهو يقترب من ميدان 
الإسماعيليّة فأدرك أنْ المتظاهرين قد وصلوا إلى شارع 
قصر العيني؛ ودعاه الشعور بالنضال الذي يعمر صدره 


4 السكرية 


إلى التوقف لعله يشترك على نحو ما في مظاهرة ١‏ 
نوفمير. شَدٌَ ما طال بالوطن موقف الصابر الذي يتلقى 
الفضربات. اليوم توفيق نسيم وأمس إساعيل صدقي 
وأؤل أمس محمد محمود. تلك السلسلة المشئومة من 
الطغاة التي تمتدٌ إلى ما قبل التاريخ, كل ابن كلب 
غرّته قوّته يزعم لنا أنّه الوصيٌ المختار وأنْ الشعب 
قاصر. 

مهلا!... إن المظاهرة تغلى وتفور؛ ولكن ما 
هذا؟1» التفت كمال إلى الوراء في اضطراب. سمع 
صونًا اهترٌ له قلبه. وأنصت في انتباه فصكُ الصوت 
مسامعه مره أخرى. نه الرصاص . ورأى المتظاهرين 
عن بعد يضطربون في درّامة خطيرة لا يتضح له 
أمرهاء ولكنّ جماعات كانوا ييرعون نحو الميدان» 
وآخخرين إلى الشوارع الخانبية» وكثير من الكونستبلات 
الانجليز فوق الحياد يبون الأرض. وعلا الهتاف 
واختلط بأصوات الغضب والصراخ واشتدٌ انطلاق 
الرصاص. وخحفق قلبه وتساءلت دقاته عن عبد المنعم 
وأحمد ورضوان؛ وامتلاً اضطرابًا وغضباء وتلْت يمنة 
ويسرة فرأى قهوة غير بعيد على الناصية فاتّجه إليها ‏ 
وقد أغلق بابها نصف إغلاق ‏ وما إن مرق منها حتى 
تذكّر دكان البسبوسة بالحسين حيث سمم طلقات 
الرصاص لأوَّل مرّة. وشاع الاضطراب في كل مكان. 
وانطلق الرصاص في غزارة مخيفة ثم متقطعًا. 
وتراكمت أصوات كسر زجاج وصهيل خيل» وعلت 
أصوات مزمجرة دلّت على أنْ تجمّعات ثائرة تنتقل من 
مكان إلى مكان سرعة خاطفة, ودخخل المشروب شيخ 
وقال قبل أن يسأله أحد عيّا وراءه: «إِنْ رصاص 
الكونستبلات ينهال على الطلبة والله أعلم يعدد 
الضحاياء ثم جلس وهو يلهث وعاد يقول بصوت 
متهدج: «غدروا بالأبرياء غدراء» لو كان تفريق 
المظاهرة غايتهم لأطلقوا الرصاص في الجواء من 
مواقعهم البعيدة. ولكتهم سايروا المظاهرة في هدوء 
مصطنع؛ وجعلوا يوزعون أنفسهم على محارج 
الطريق» وفجأة أشهروا المسدّسات وأطلقوا 
الرصاص. على المقاتل أطلقوا بلا رحمة. وسقط 
الصغار يتخْبّطون في دمهم. الإنجليز وحوش ولكنٌ 


الجنود المصريّين ليسوا دونهم وحشية, إنها مذبحة 
مدبّرة يا إلمي !» وجاء صوت من آخر المقهى يقول: 
كان قلبي يحدّئني بأن اليوم لن يمضي على خي. 
فأجاب آخر: ,أيَام تلذر بالشرء فمنذ أعلن هور 
تصريحه والناس تتوقم أحدانًا خخطيرة» هذه معركة 
وستتلوها معارك. وأؤكّد لكم هذا!». 

الضحايا الطلبة دائاء أعرٌ أبناء الأمةء وا 
أسفاه! . . 

ولك الشري: عقت اليس بد لكك 1 
أنصتوا. . . 
المظاهرة الأصليّة عند بيت الأمة» وسيستمر 
الضرب هنالك ساعات طويلة! . . . 

ولك العيداة«ساد اليذان 6 فضي النوقةه فيلا 
مشحونًا بالتوتّره وأخذت الظلمة تدنو حي أضيئت 
أنوار المقهى ثم لم يعد يُسمع صوت كأنئما حل بالميدان 
والشوارع المحيطة به الموت. وفتح باب المقهى على 
مصراعيه فتراءى الميدان خاليًا من المارّة والمركبات. ثم 
جاء طابور من فرسان البوليس ذوي الخوذات الفولاذيّة 
فطاف بالميدان يتقدمه الرؤساء الإنجليز. وكان باطن 
كيال لا يكف عن التساؤل عن مصير الأبئاء . ولا دنت 
الحركة في الميدان غادر المقهى متعججلاء ول يعد إلى بيته 
حبّى مرّ بالسكريّة وقصر الشوق واطمأنْ على عبد 
المنعم وأحمد ورضوان , 

وخلا إلى نفسه في مكتبته بقلب ملىيء بالحزن 
والأبى والنضبء» لم يقرأ كلمة ولم يكتب كلمة وظل 
عقله غائبًا في منطقة بيت الأمّة». في هور والخقطبة 
النائرة والهناف الوطنيّ وأزيز الرصاص وصرخات 
الضحاياء ووجد نفسه يحاول أن يتذكّر اسم صاحب 
دكان البسبوسة التى اختبا بها قديمًا ولكنّ الذاكرة لم 


تسعفه! . 
0 
كان منظر بيت محمد عفّت بالججاليّة من المناظر 
المألوفة المحبوبة لدى أحمد عبد الحواد. هذه البوابة 
الخشبيّة التي تبدو من الخارج كأئها مدخل وكالة قديمة: 
وذلك السور العالي الذي يخفي ما وراءه خلا رءوس 


الأفجار العالية» ما هنذه الخديقة المظللة بامتجار 
التوت والحميز والمهندّسة بأشجار الحناء والليمون 
والفل والياسمين فشأهها عجيب» وعجيب أيضا بركة 
المياه التي تتوسّطهاء ثم الفراندا الخشبيّة التي تمتد 
بعرض الحديقة. وكان محمد عفْت واقفا على سلّم 
الفرائدا ينتظر القادم وهو يحبك عباءته المنزلية. أما عل 
عبد الرحيم وإبراهيم الفار فقد جلسا على كرسيين 
متجاورين . وس أحمد على الإخوان ثم تبع محمد 
عفْت إلى الكنبة التى تتوسّط الفراندا وجلسا معًا. 
كافك تاكيم قد؟ باضوطيةا فاعذاغتم مدت 
الذي بدا مترمّلا كما بدا وجهه شديد الاحمرار» وقد 
صلع عل عبد الرحيم واشتعلت رءوس الأخرين 
شيباء وانتشرت في صفحات الوجوه التجاعيدء وبدا 
عللٌّ عبد الرحيم وإبراهيم الفار أشدٌ إذعانا للكب. غير 
أنْ حمرة وجه محمّد عفْت كانت بالاحتقان أشبهء وبقي 
أحمد رغم ضموره وشيبه جميلا صافيًا. وكان أحمد يحب 
هذا المجلس حيًا جما ى] يحب منظر الحديقة التي 
تترامى حيّى السور العالى المشرف على الجماليّة» وقد 
مال برأسه إلى الوراء قليلا كأتما ليمكن أنفه العظيم 
من الارتواء بعبير الفل والياسمين والحنّاءء ورثتما 
أغمض عينيه أحيانا ليخلص لسماع زقزقة العصافير 
اللاهية فوق أغصان التوت والجميز. غير أنْ أنبل ما 
خالط قلبه في تلك اللحظة كان شعور الأخوة 
والصداقة الذي يكنّه لمؤلاء الرجال. كان يرئو بعينيه 
الزرقاوين الواسعتين إلى وجوههم الحبيبة التي نكرها 
الكبر فيفيض قلبه بالأسى والحنان عليهم وعلى نفسه. 
وكان أشدّهم تعلّقًا بالماضي وذكرياتهء يفتنه كلّ ما 
يذكر بجمال الشباب وصبوة العواطف ومغامرات 
الفتوة. وقام إبراهيم الفار إلى خوان قريب وضع عليه 
صندوق النرد فجاء به وهو يتساءل : 

امن يلاعببي ؟ 

فقال أحمد مستنكرًا وكان قليلا ما يشترك في 
العامهم : 
أجل اللعب إلى حين؛ لا يجوز أن نشغل به عن 
أنفسنا من أول الحلسة. 

فاعاد الفار الصندوق إلى مكانهء ثُمّ جاء نوبي 


السكرية الم 


بصيئيّة عليها ثلاشة أقداح شاي وكأس ويسكي 
بالصودا فتناول تممّد عفّت الكأس باسيًا وتناول الثلاثة 
الآخرون أقداح الشاي. وكان هذا التوزيع الذي 
يتكرّر كل مساء كثيرًا ما يُضحكهم؛ فقال محمد عفت 
وهو يلوح بالكاس في يده ويشير إلى أقداح الشاي في 
أيديهم : 

عفا الله عن الأيام التى أدّبتكم! 

فقال أحمد عبد الحواد متنبّدًا: 

د إكنا اذبعنا حنيقك: .وات ازلناء عن انك قليل 
الأدب. . 

وكان صدَّرٌ إليهم أمر طبَىٌ واحد في أوقات متقاربة 
من عام واحد بالامتناع عن تناول الخمره غير أنّْ 
طبيب محمّد عفْت سمح له بكاأس واحدة في اليوم: 
وظنَ أحمد عبد الجواد يومذاك أنّْ طبيب صديقه 
بتسامح فيم| يتشدّد فيه طبيبه هوء فيا كان منه إِلَّا أن 
عرض نفسه عليه ولكنّ الطبيب حذَّره في جد وحزم 
قائلا: وَإِنَّ حالتك غير حالة صديقك»» وقد افتضح 
أمر سعيه إلى طبيب محمّد عفت فكان موضع نقاش 
وتندّر طويلين. وعاد أحمد يقول ضاححًا: 

لا شك أنّك نفحت طبيبك برشوة كبيرة حي 
سمح لك ببذه الكأس! 

فقال الفار متأوّهًا وهو يرنو إلى الكأس بيد محمد 
عفت : 

كدت والله أنسى نشوتها! . 

فقال له عل عبد الرحيم ممازحا: 

فسدث توبتك مِبْذا القول يا عربيد. 

فاستغفر الفار ربه ثم تمتم في استسلام : 

ب الحمد لله . . . 

- بتنا نُحسد على كأس واحدة!... أين. .. أين 
النشوات؟ ! 

فقال أحمد عبد الحواد ضاحكًا: 

- إذا ندمتم قاندموا على الك لا على الخير يا أولاد 
الكلب!. 


- نك كسائر الوتاظ. السنتهم في دنيا وقلومهم في 
دئيا أخرى . . . 


م السكرية 


وإذا بعل عبد الرحيم يقول رافعا صوته إلى درجة 
جديدة منذرة بتغيير جرى الحديث: 

- يا رجال! ما رأيكم في مصطفى النحاس؟! . 
الرجل الذي لم تؤثْر فيه دموع الملك الشيخ المريض 
فألى أن يسى ثانية واحدة مطلبه الأسمى «دستور سنة 
77 45... 

ففرقع محمّد عفت بأصابعه وقال في سرور: 

- برافو... برافو!... إنّه أصلب من سعد 
زغلول نفسهء من كان يرى الملك الجبّار مريضا باكيًا 
م يصمد أمامه هذه الشجاعة النادرة ويردّد في ثبات 
صوت الأمّة التي أولته زعامتها قائلًا: «دستور سئة 
47 أوّلان: وهكذا عاد الدستورء فمن كان يتصوّر 
ذلك؟ 

فقال إبراهيم الفار وهو يبرٌ رأسه في عجب: 

- تصورّروا هذا المنظرء الملك فؤاد وقد حطصه 
المرض والشيخوحة؛ يضع يده على كتف مصطفى 
النحاس في مودّة بالغة! ثم يدعوه إلى تاليف وزارة 
اثتلافيّة فلا يتأنّر النحّاس لذلك كلهء ولا يسى 
واجبه كزعيم أمين. يغفل الحظة واحدة عن الدستور 
الذي توشك الدموع الملكيّة أن تغطي عليه: لا يتاثر 
لشىء من هذا ويقول بشجاعة وصلابة: دستور سئة 
أولا يا مولاي . 

عل عبد الرحيم مماكيًا نفس اللهجة : 

أو الخازوق أوَلّا يا مولاي!. 

أحمد عبد الحواد ضاحمًا: 

- قسً) بن جرت مقاديره بأن نرى الويسكي بيننا 
ونتجتّبه إِنْه لموقف عظيم! . 

وشرب محمّد عفت بقيّةَ كأسه ثم قال : 

نحن في عام 219175 ثماني سئوات مرّت على 
موت سعدءى وخمسة عشثر عاما على الثورة» ولا يزال 
الإنجليز في كلّ مكان؛ في الثكنات والبوليس والجيش 
وشيّى الوزارات» الامتيازات الأجنبية التى تجعل من 
كل ابن لبؤة سيّدًا مهابًا ما زالت قائمة, ينبغى أن 
تنتهيى هذه الحال المؤسفة. . ْ 

ولا تنس اللحلادين أمثال إسماعيل صدقي ومحمّد 
محمود والابراشي! . 


إذا ذهب الإنجليز فلن يبقى لأحد من هؤلاء 
شأن. ستصبح الانقلابات في خير كان. . . 

نعمء وإذا فكر الملك أن يلعب بذيله فلن يجد 
من يسانده! , 

وعاد محمّد عفْت يقول: 

سيجد الملك نفسه بين اثنتين فإمًا احترام الدستور 
وإما السلام عليكم! 

وتساءل إبراهيم الفار فيما يشبه الشك : 

وهل يتخل عنه الإنجليز إذا طلب حمايتهم؟ 

وإذا سلّم الإنجليز بالجلاء فلماذا يحمون الملك؟ 

فتساءل الفار مرّة أخرى: 

- وهل يسلّم الإنجليز بالجلاء حقًا؟ ! 

قال عممّد عفّت في ثقة من يعترٌ بثقافته السياسيّة : 

- لقد دهمونا بتصريح هور فكانت المظاهرات» 
وكان الشهداء رحمة الله عليهم. ثم كانت الدعوة إلى 
الاثتلاف. ثم عاد دستور سنة 0.1977 أؤْكد لكم أن 
الإنجليز راغبون الآن في المفاوضةء حمًا إِنّ الإنسان لا 
يدري كيف تنكشف هذه الغمةء كيف يمكن أن 
يذهب الإنجليز أو ينتهي نفوذ الخواجات» ولكنٌ ثقتنا 
في مصطفى النحاس لا نباية لما. . . 

ثلاثة وخمسون عامًا من الاحتلال تنتهى بشوية 
كلام حول مائدة؟! . 

دكاام الرسويم ‏ السر را 

- ولوا . . . 

فقال ععمّد عفت وهو ينمز بعيئه : 

- سيجدون أنفسهم في مركر حرج وسط حالة دولية 
مخحطيرة ! . 

- يستطيعون أن يجدوا دائ) من يؤمن ظهرهم. 
وإسماعيل صدقي حي لم يمت!. . . 

فعاد محمّد عت يقول بلهجة العارف : 

حادثت كثيرين من المظلعين فوجدتهم متفائلين» 
يقولون إن العالم مهدّد بحرب طاحنة» وإِنْ مصر في 
فوهة المدفع» وَإِنَّ من صالح الطرفين الاتفاق 
المشركف. . . 
ثمّ واصل حلديئه بعد أن مسح على كرشه في ثقة 
واطمئئان : 


إليكم خبرًا هاماء وُعدت بأن أرشّح في دائرة 
الحالية في الانتتخابات القادمة» وعدن النقراشى 

وتهلّلت وجوه الأصدقاء سروراء ثم لما جاء دور 
التعليق قال عل عبد الرحيم متصنعا الح : 

لا يعيب الوفد إلا أنّه يرشّح حيوانات أحيانًا 
باسم نوّاب! . 

فقال أحمد عبد الحواد كأغا يدافع عن عيب الوفد: 

عنوماة | تفغل الوفك؟" الديرنية انتعثل: الآمة كلهاء 
أبناء حلال وأبئاء سفلة» فمن يمثّل أولاد السفلة إلا 
الحيوانات؟!. 

فلكزه محمّد عفْت في جنبه وهو يقول: 

عجوز وقارحء. أنت وجليلة شخص واحد. 
كلاكي) عجوز وقارح]!. . . 

- إن أرضى لو رشحوا جليلة». فهي عند اللزوم قد 
تفرش الملاية للملك نفسه! 

وهنا قال عل عبد الرحيم باسما: 

قابلتها أوّل أمس أمام عطفتهاء ما زالت كالمحمل 
ولكنّ الكبر أكل عليها وبال! . 

فقال الفار: 

.ضارت معلمة قن الدتباء نيتها شغال ليل مار 
ويموت الزمار وصباعه بيلعب. 

فضحك عل عبد الرحيم طويلًا ثم قال: 

- كنت مارًا أمام باب بيتها فرأيت رجلا يتسلّل إليه 
وهو يظنّ أنه بمأمن من الرقباء. فمن تظئونه كان؟ . . 
(ثمّ أجاب وهو يغمز بعينه صوب أحمد عبد 
الجواد). . . المحروس كمال أفئدي أحمد خوجة مدرسة 
المتالعة وا + 

ضحك مميّد عنّْت والفار ضحكة عالية» أما أحمد 
عبد الجواد فقد انسعت عينئاه دهشا وابزعاجاء ثم 
تساءل في ذهول: 

كيال ابني؟1!. . . 

- أي نعم. كان ملتفًا في معطفه, وعلى عينه نظارته 
الذهبيّة. وشاربه الغليظ يختال وقارّاء كان يسير في 
رزانة ومهابة كأنما ليس هو ابن «ضحكجي أغاءع 
وبنفس الوقار انعطف إلى البيت كأنما ينعطف إلى 


السكرية الام 


الجامع الحرام: فقلت في نفسي خف الوطء يا بن 
المركوب! 

وعلا الضحكء أمّا أحمد عبد الجواد هلم يكن أفاق 
من ذهوله ولكنّه رأى أن يتخفف منه بالمشاركة في 
الضحك. وتساءل محمد عفت بلهجة ذات مغرى وهو 
يحدق في وجه أحمد: 

دجن وجيف لفغن ف ذللف البمن هنيو انين 
حضرتك؟ ! 

فقال أحمد عبد الجواد وهو ييز رأسه عجبا: 

عرفته دائمًا مؤديا مهزّبًا هادئ الطبع) برف الا 
في مكتبته وهو يقرأ أو يكتب حتّى أشفقت عليه من 
الإغراق في الانزواء والإفراط في عمل لا جدوى 

فقال إبراهيم الفار مداعبًا : 

مَن يدري فلعلٌ في بيت جليلة فرعا من دار 
الكتب! 

وقال عل عبد الرحيم : 

يداف الغله يعتزل في مكتبته لمطالعة كتاب رجوع 
الشيخ : زاذ| سار من برع د ااحفياقه يتقريير أن 
الانسان أصله قرد؟! 

وصحكوا فضحك معهم أحمد عبد الجواد الذي 
كان يعلم بخبرته أن الاستسلام للجدّ في أمثال هذه 
الأحوال يجعل منه هدفًا سهلا للمزاح والقفش» ثم 
قال: 

لهذا لا يفكّر الملعون في الزواجح حيّى ظلنت به 
الظنون! . . . 

فعس اموس :اانا 

عا قلالتاسفة والعشريق ! دي 

- يا سلام! . 
الزواج؟ . 

تمًّا مممّد عنَّت ثم مسح على كرشه وهو يقول: 

- هذه موضة فحسب ولكنّ بنات اليوم يزحمن 
الشوارع فضعفت الثقة ببِنّء ألم تسمعوا الشيخ 
حسنين وهو يعي (يا ما نشوف حاجات تجلن» البيه 


. يجب أن تزوجهء لاذا يرغب عن 


1لا التس الأزمة الاقتصاديّة وضيق المستقبل أمام 


7م السكرية 


الشباب. إِنْ خرّيجي اللتامعة يتوظفون بعشرة جنيهات 
إن وجدوا وظيفة بطلوع الروح!. 

وتساءل أحمد عبد الجواد في قلق بين : 

أخاف أن يعرف أنّْ جليلة كانت يومًا صاحبتي أو 
تعرف هي أنه ابني! . 

فتساءل عل عبد الرحيم ضاحكا: 

- أحسبتها تستجوب الزبائن؟! 

فقال محمّد عفْت وهر يغمز بعيئه : 

لو عرفته الفاجرة لقصّت عليه قصة أبيه من 
الآلف إلى الياء! . 

فهتف أحمد عبد الحواد وهو ينفخ : 

لا قدّر الله ولا كان. . . 

فتساءل إبراهيم الفار: 

د أحستب أن الذي يستطيع أن يعرف أنْ جذه 
الأوّل قرد يعجز عن معرفة أنْ أباه فاسق فاجر؟! 

فضحك ميّد عفّْتِ عاليًا حي سعل» وصمت 
لحظات ثم قال: 

- الحنّ أن مظهر كمال خدّاع, رزين هادئ 
متزمت») خوجة بكلّ معنى الكلمة. . . 

فقال عل عبد الرحيم بلهجة الترضية : 

يا سيّدي ربّئا يخليه ويطول عمره» ومن شابه أباه 

- المهم أهر «حلنج» كابيه؟. . . أعنى هل يجيد 
معاملة النساء والاستحواذ عليهدٌ؟ 

فقال عل عبد الرحيم : 

أمّا هُذا فلا أظنّ!. ييل إل أنه يظلّ متقدّمًا 
برزانته ووقاره حيّى يغلق الباب عليه وعلى صماحبة 
النصيب, ثم يأخذ في نزع ثيابه بنفس الرزانة والوقار, 
نم يرقي عليهاء وهو في الغاية من الحدٌ والرزانة كأنما 
يلقي درسًا خطيرً | 

- يخلق من ظهر الحلنج دهل! 

وساءل أحمد عبد الحواد نفسه فييا يشيه السخط: 
لذا يبدو لي الأمر غريبًا؟!. وصمُّم على أن يتناسى 
الخدر. وما رأى الفار يذهب إلى صئدوق النرد ويعود 
بف قال دون تردّد أنه آن لهم أن يلعبوا. بيد أنْ 
أفكاره ظلْت تدور حول الخبر الجديد. وقال لنفسه 


متعرّيًا نه ربّاه فاحسن تربيته حي حصل على الشهادة 
العليا وصار مدرّسًا محترمًا فله أن يفعل ما يشاء. ولعلّه 
من حسن التوفيق أن يعرف كيف يلهو رغم عوده 
الرفيع ورأسه وأنفه العظيمين!. ولو أنصف الحظ 
لتروج كيال منذ سنوات» ولا تزوّج ياسين أبدّاء ولكن 
مَن يدّعي القدرة على حل هذه الرموز؟. وإذا بالفار 
يسأله : 

- متى رأيت زبيدة آخر مرّة؟ 

فأجاب أحمد بعد تذكر: 

- في يناير الماضي . أي منذ عام تقريباء يوم جاءتني 
في الدكان لأبيع لها البيت. . . 

فقال إبراهيم الفأر: 

اشترته جليلة» ثم وقعت المجلونة في حب 
عربجي كارو فتركها على الحديدة. وهي الآن تقيم 
بحجرة على سطح بيت سوسن العالمة في حال من 
الاضمحلال يرئى هاا 

فهر أحمد عبد الحواد رأسه في أسف. وتمتم : 

السلطائة في حجرة فوق السطح!. سبحان من له 
الدوام . فقال عل عبد الرحيم : 

خباية محزنة, بيد أنْبا كانت متوقعة, , 

فلدّت عن محمد عفت ضحكة رثاء وقال: 

- فليرحم الله مَن يأمن إلى هذه الدئيا! 

ثم دعا الفار إلى اللعب فتحدّاه محمد عفت, 
وسرعان ما التفُوا جميمًا حول الئرد» وأحمد عبد الحواد 
بقول: 

- ترى من يكون حظه كجليلة؛ ومّن يكون 
كز بيدة | 


- 
في إحدى حجرات قهوة أحمد عبده. جلس كمال 

وإسماعيل لطيف. وهي نفس الحجرة التي كان كيال 
يجالس فيها فؤاد الحمزاوي في مطلع شبابه. وبالرغم 
من برودة ديسمبر كان جو القهوة دافئّاء إذ نه بإغلاق 
مدخلها يسدّ المنفذ الوحيد لما إلى سطح الأرض. 
فكان من الطبيعيّ أن تدفا وإن انتشرت الرطوبة في 
جنباتها بدرجة محسوسة. ول يكن إساعيل لطيف 


ليرضى بالجلوس في قهوة أحمد عبده. لولا رغبته في 
بجاراة كمال. إِنَّه الصديق القديم الذي لم تنقطع بكمال 
أسبابه» رغم أنْ مطالب الرزق دفعت به إلى طنطا 
خبيرًا محاسبًا مذ تخرّج في مدرسة التجارة. فكان إذا 
عاد إلى القاهرة في إجازة اتَصل به تليفونيًا بمدرسة 
السلحدارء ونال منه موعدًا للقاء في هذا الركن 
الأثري . وجعل كيال ينظر إلى صديقه القديم» كا بدا 
له بمنظره المدمج وملاعحه المدئبة الحاذة. ويعجب لا أل 
إليه حاله من رزانة وأدب واستقامة» جعلته مثالا طيبًا 
للزوج والأب» الذي كان يومًا مثالا هذا للقحة 
والاستهتار والفظاظة. وصبٌ كال الشاى الأخحضر في 
قدح صاحبه ثم في قدحه وهو يقول باسم|: 

يبدو أنْ قهوة أحمد عبده لا تعجبك! 

فارتفع رأس إسماعيل في تطاوله المعهود. وقال: 

د إنّا غريبة حقاء ولكن لاذا لا نختار مكانًا فوق 
سطح الأرض؟ ! 

على أ حال هى أنسب مكان للئاس المستقيمين 
أمثالك , ْ 

فضحك إسماعيل وهو يهرّ رأسه في تسليم. كأنما 
يقرٌ بأنّه أصبح جديرًا حمًا بفضيلة الاستقامة. هو 
الذي كان وكان» وعند ذلك سأله كمال يجاملا : 

- كيف الخال في طنطا؟ 

عال» أمّا العبار فعمل متواصل في المصلحةء وأمًا 
الليل فأقضيه مع زوجي وأولادي . 

وكيف حال الأنجال؟ 

- نحمدهء إِنْ راجتهم دائعًا على حساب تعبناء 
ولكن نحمده في جميم الأحوال. . . 

فسأله كيال مدفوعًا بحب الاستطلاع الذي يثيره في 
نفسه حديث الأسرة بصفة عامة : 

- وهل وجّدتهم حمًا السعادة الحقيقيّة» ىا يقول 
العارفون؟ 

- تعمء إِنَّهم لكذلك , 

- رغم متاعبهم؟ 

- رغم كل شيء! 

وجعل كمال ينظر إلى صاحبه بفضول أشدٌ. هذا 
شخص جديد لا يكاد يمث بصلة إلى إسماعيل لطيف 


السكرية مم 


الذي زامله فيما بين عامى ١47١‏ و/1477. تلك 
الفترة الفذّة في حياته التي عاقنها بكلّ جوارحه» فلم 
عض دقيقة من زمانها دون سرور عميق أو ألم شديد. 
فكانت عهد الصداقة الحقّة متمكْلة في حسين شذاد؛ 
وعهد الحبٌ الصادق متبلورًا في عايدة» وعهد الحماسة 
العارمة مستمدّة من شحلة الثورة المصريّة الرائعة) ثم 
عهد التجارب العنيفة التي قذف بها الشكُ والمجون 
والأهواء. وقد كان إسماعيل لطيف هذا رمز العهد 
الأخير» ودليله الخطيرء فأين هو اليوم من ذاك؟!. 
وعاد إسماعيل لطيف يقول في شيء من التذمر: 

بيد أن هناك أمورًا تشغل بالنا باستمرارء كالكادر 
الجديد ووقف الترقيات والعلاوات» وأنت تعلم أني 
تعوّدت على الحياة الرغيدة في كنف أبي» ولكنّ أبي لم 
يترك ميراناء ووالدي بدورها تستهلك كل معاشهاء 
لذلك رضيت في سبيل الرزق أن أعمل في طنطاء 
وهل كان مئلى يرضى بذّلك؟! . 

فضحك كيال قائلا : 

مثلك ما كان يرضى بكبيء ! 

فابتسم إسماعيل فيها يشبه الزهو اعتزارًا بماضيه 
الحافل الذي هحره بمحض اختياره. وسأله كال : 

ألا تنازعك نفسك إلى معاودة شيء من الماضي؟ 

كلا شبعت من كلّ شىء» وأستطيع أن أقول بأني 
لم أضجر من حياتي الحديدة بعد. كل المطلوب مثّي أن 
أبدي شيئًا من المهارة بين حين وآخرء حيّى أفوز 
ببعض النقود من والدتي» كذلك على زوجي أن تلعب 
نفس الدور مع أبيهاء إذ إن لا زلت مغرما بالحياة 
الرغيدة . . 

فلم يملك كبال أن يقول ضاحكا: 

- علّمتنا وتركتنا وحدنا على الطريق. . . 

فضحك إساعيل ضحكة عالية أعادت إلى وجهه 
الرزين كثيرًا من ملامح الماضي الماكرة. وقال : 

- أآسف أنت على ذلك؟. كلاء أنت تحب هذه 
الحياة بإخلاص عجيب» غير أنّك رجل معتدل. إني 
فعلت في سئنوات لعبي القلائل ما لن تفعل مثله مدى 
عمرك «ثمٌ بلهجة جذّيّة». . . تزوج وغيّر حياتك! 


5 السكرية 


فقال كيال بلهجة عابئثة : 
هذا أمر جدير بالتفكيرا 
ما بين ١474‏ وه19 للق إسماعيل لطيف جديد 
جدير بأن يزوره غواة الأعاجيب. على أيّ حال إنه 
الصديق القديم الباقي. أما حسين شداد فقد اختطفته 
فرنسا من وطنهء وكذلك حسن سليم أمسى الخارج 
مقامه ومعاشه. لم يعد شما من سبب في القلب 
واأسفاه, لم يكن إساعيل لطيف يوما صديق الروح. 
ولكنّه ذكرى حيّة من الماضي العجيب» لذلك فهو 
خليق بأن يعترٌ به. وأعترٌ به أيضًا لوفائه. لا مسرة 
روحيّة في مصاحبته» ولكنه آية حيّة على أن الماضي ل 
يكن خيالاء ذلك الماضي الذي أحرص على إثبات 
حقيقته حرصي على الحياة نفسهاء ترى ماذا تصئم 
عايدة في هذه اللحظة من الزمان؟. وأين هي في عام 
المكان؟. وكيف استطاع القلب أن يبرأ من مرض 
حبّها؟. . . كل أولنك أعاجيب. . . 
- إني معجب, يا سيّد إسماعيل» أنت شخص جدير 
وألقى إسماعيل نظرة على ما حوله. استعرض بها 
السقف والفوائيس والحجرات والوجوه الحالمة 
والعاكفين على السمر واللعب» ثم تساءل: 
- ماذا يعجبك في هذه القهوة؟ 
فلم يجبه كيال على سؤاله, ولكنّه قال بلهجة آسفة : 
أما علمت؟!. سوف تهدم في القريب ليقام على 
أنقاضها عبارة -جديدة. سيختفي هذا الأثر إلى الأبد! 
- مع ألف سلامة. فلتختف هذه المقبرة ليقوم فوقها 
عمران جديد, 
أنطقٌ بالحق؟. رتماء ولكنٌ للقلب لواعجه. يا 
قهري العزيزة أنت قطعة من نفسي؛ فيك حلمت كثيرًا 
وفككرت كثيراء وفيك سكن ياسين أعواماء واجتمع 
فهمي بالثوار ليفكُروا ويعملوا من أجل عالم أفضل» 
ثم إن أحبّك لأنّك مصنوعة من مادّة الحلم» ولكن ما 
جدوى هذا كلّه؟. وما قيمة الحنين إلى الماضى؟. ريما 
ظَلٌ الماضي أفيونة أصحاب القلوب» وأشقى ما تصاب 
به أن تكون ذا قلب حئون وعقل شاك: فلئقل أي 
كلام ما دمنا لا نؤمن بشيء . 


- في هذا صدقت. إن أقترح أن يهدموا الهرم إذا 
وجدوا لأحجاره فائدة ما للمستقبل! 

- الهرم!. ما دخل الحرم في قهوة أحمد عبده؟! 

داعي الآثاية افق الاسمم 5 كي سينا 
اليوم والغد. 

فضحك إسياعيل لطليفء وتطاول بعنقه ‏ كيا كان 
يفعل قديًا كلما تحدى ‏ ثم قال: 

- أحيانا تكتب كلاما يناقض هذا القول, إن كا 
تعلم أقرأ بين حين وآخر مجلة الفككر إكراًا لكء 
وسبق أن صارحتك برأبي. أي تعم. مقالاتك 
عسيرة» المجلة كلها جافة والعياذ بالله؛ لم أستطع 
المثابرة على اقتنائها أن زوجت لا تجد فيها شيئًا يُقرأء 
ولا تؤاخذني فهذا قوها!. أقول إني وجدت أحيانًا فيها 
تكتب نقيض ما تقول الآنء ولكبِي لا أزعم أن أفهم 
كثيرًا ‏ وبيني وبينك ولا قليلا ‏ مما تكتب» وببذه 
المناسبة أليس من الأفضل أن تكتب كما يكتب الكتّاب 
المحبوبون؟؛ لو فعلت لوجدت جمهورًا كثيراء 
ولربحت مالا وفيا . 

في زمن مغى كان يحتقر هذا الرأي في عناد وثورة. 
الآن لا زال يحتقره ولكن دون ثورة» لكنّه يشِكٌ في 
هذا الاحتقارء لا لشبهة في أنه في غير موضعه. ولكن 
لأنه يرتاب أحيانًا في قيمة ما يكتبء وربما ارتاب في 
ارتيابه نفسه. وسرعان ما اعترف فيا بيئه وبين نفسه 
بأه قد ضاق بكل شىء ذرعًاء وأن الدنيا تبدو أحيانا 
كلفظة قديمة الدثر معناها. 

- نك لم ترض يوما عن عقلي! 

إسماعيل وهو يقهقه : 

+ انا كاري اسن اا 

أيَام مضتء لم تعد نيرانها تحرق. لكنّها مصوئنة في 
موضعها كال ئّة العزيزة» أو كعلبة الملبّس المستكئة في 
مكانها هنل ليلة عائدة. . 

- ألم يبلغفك شيء عن حسين شدّاد أو حسن 
سليم؟ ! 

رفع إساعيل حاجبيه الكثيفين» وقال: 

- ذكرتني! حدثت أمور في العام المافي الذي 
قضيته بعيذًا عن القاهرة. . 


ثم استطرد في اهتتام متزايد: 

- علمت حال عودتي من طنطا أنْ أسرة شذاد 
انتهت . 

تفجرت في قلب كبال ثورة اهتيام طاغية؛ وعان 
كثيرًا وهو يغالب آثارها الظاهرة. ثم تساءل : 

- ماذا تعبي؟ 

- أخبرتني والدتي أنْ شدّاد بك أفلس» التهمت 
البورصة آخر مليم في حوزته. انتهى شدّاد» ثم نه م 
يتحمل الصدمة فانتحر! . 

يا له من نخيرا. متى حدث ذلك؟ 

منذ أشهرء وضاع القصر الكبير فيا ضاع من 
متاعء ذلك القصر الذي عشنا في حديقته زمنا لا 
0 

أيّ زمن وأيّ قصرء وأيّ حديقة. أي ذكريات» 
أي ألم نسي؛ أي نسيان مؤلم. الأسرة الرفيعة» الرجل 
العظيم» الحلم الكبيرء أليس هذا الخَيّشان أضخم مما 
ينبغي أن يستدعيه الحال؟!. وهذه الحقيقة الي 
مخّض عهها القلب أشدّ مما تستحقّ ذكريات عفى 
عليها النسيان؟ , 

قال كيال بصوت حرين: 

انتحر البيكء وضاع القصرء ولكن ما مصير 
أهله؟ 

قال إساعيل في امتعاض : 

لم تعد لأمّ صديقنا إلا خمسة عشر جليهًا شهريًا 
من ريسع وقفء وقد انتقلت إلى شقّة متواضعة 
بالعباسيّة» وقد زارتها والدتي فعادت تصف حالا وهي 
تبكي» تلك السيّدة التي تقأبت في نعيم لا يتصوره 
الخيال» آلا تذكر؟ 

يكز ولا لتم أ يفت تبي وم يناك الداديقية 
والكشك والنعيم الذي كان يترئم به الحواء» ويذكر 
ووو شونه. .نل نه الشاعة رين _حقدا و إن 
الدموع تطرق أبواب عيئيه الخلفية. ولن بحن له أن 
يحرن بعد الساعة على قهوة أحمد عبده التي يتهدّدها 
الزوال» فكلٌ شيء ينبغي أن ينقلب رأسًا على عقب. 

إنّه لشىء عحزنء وما يضاعف الحزن أنْنا لم نقم 
بواجب العزاءء ثرى ألم يعد حسين من فرنسا؟ 


السكرية هث“ام 


لا شك أنّْه عاد عقب الحادث. كذلك حسن 
سليم وعايدة» ولكن لا أحد منهم في مصر الآن. 

وكيف عاد حسين تاركا أسرته على حالها؟ ومن 
أين له أن ينفق بعد إفلاس والده؟ 

- سمعت أنه تزوّج هناكء ولا يبعد أن يكون قد 
وجد عملا في أثناء إقامته الطويلة في فرنساء لا أدري 
شيئًا عن هذاء فأنا لم أره منذ ودّعناه معاء كم مضى 
على ذلك؟. عشرة أعوام على وجه التقريب. أليس 
كذلك؟ . نه تاريخ قديمء كم أثار شجوني! 

كم وكمء أمَا هو فالدموع لا تزال تطرق أبواب 
عينيه الخلفيّة: إتّبا لم تُفتح منذ ذلك العهد وعلاها 
الصداء وقلبه يقطر حزثاء فيذكر بذلك القلب الذي 
اتذ من الحرن شعاراء إِنَّْ هذا الخير قد رجه رجا 
عنيفًا حيّى كاد ينفض عنه الحاضر كلهء ويكشف عن 
الإنسان القديم الذي كان حبًا خالصًا وحزنا خالصًاء 
أهذه هي نباية الحلم القديم؟ الافلاس والانتحار! . 
كأنتما قضى بأن تؤدّبه هذه الأسرة بأدب الآلمة 
الساقطين! . الافلاس والانتحارء وإذا كانت عايدة لا 
تزال في بحبوحة من العيش بفضل مكانة زوجهاء فاذا 
طرأ على كبريائها الملائكيع؟. وهل هبطت الأحداث 
بشقيقتها الصغيرة إلى . . . 

- كان الحسين أحت صغيرة. ما اسمها؟. إني أذكره 
حينًا وأنساه أحيانًا كثيرة! 

- بدورء إنها تعيش مع والدتها وتقاسمها متاعب 
الحياة الجديدة , . . 

تصور آل عايدة في حياة متواضعة! , كصياة هؤلاء 
الناس حولناء فهل تمفي بدور يوما بجورب مرفو؟ . 
وهل كشك من الترام فر حال آه. . . لا تغالط نفسك 
فأنت اليوم حزين ومهما يكن لعقلك من رأي في 
الطبقات وفوارقهاء فإنك تشعر من جرّاء هذا 
الانقلاب باميار محيف» ويعرٌ عليك أن تسمم بِأنْ 
ملك العليا تتمرّغ في التراب» فلتهنا على أي حال 
بأنه لى يبقّ من الحبٌ شيء. أجل... ماذا بقيى من 
الحبٌ القديم؟. إذا قال لا شيء فَإِنْ قلبه يخفق في 
حنان عجيب عند تردّد أي أغنية من أغاني ذلك 
العهد.ء رغم ابتذال ألفاظها ومعانيها وأنغامها. ف] 


4 السكرية 


معنى ذلك؟. لكن مهلاء إنْبا ذكرى الحبٌ لا الحبٌ 
نفسه. ونحن نحبٌ الحبٌ في جميع الأحوال خاصة 
الأحوال التى لا حبٌ فيهاء أمّا في هذه اللحظة فإنني 
أشعر كأني غريق في بحر ا موى, ذلك أن امرض 
الكامن ينفث سمومه حين الضعف الطارئ» وما 
الحيلة ما دام الشك زلزل الحقائق جميعًا يقف عند 
الحب في حذرء لا لأنه شىء فوق الشك؛ ولكن 
احتراما للحزن. وحرصا على حقيقة الماضي . 

وعاد إساعيل إلى المأساة سائمًا كثيرًا من التفاصيل » 
حبّى ضاق بها فيا بداء فقال بلهجة من يود الفراغ من 
السيرة كلها: 

الدوام لله إِنّه شيء مؤسف حقّاء ولكن حسبنا 

ولم يحارل كال أن يدعوه إلى مزيد. كان فيا قال 
الكفاية» إلى أن وجد رغبة إلى الصمت والتأمل. وكان 
يبكي بكاءً صامتا بدموع غير منظورة يذرفها قلبه. 
وأدهشه ذلك بصفته مريضًا قديًا قد برئ من مرضهء 
وقال لنفسه متعجّبًا: تسعة أعوام أو عشرة!. ما أطولا 
وما أقصرهاء ترى ما صورة عايدة الآن؟. كم يود أن 

إليها النظر ليظلع على سر ذلك الماضي الساحر. 

بل ليقف على سر نفسه. إِنَّهِ الآن لا يراها إلا لمحا 
خاطفًا في نغمة قديمة معادة, أو صورة في إعلان 
صابون. أو من سباته كالفزع وهو يهمس: هذه 
هي !. ولكن ما هي على الحقيقة قسمة من قسيات 
نجمة سينائيّة, أو ذكرى متسلّلة. فيستيقظ والواقم؟ ! 
ونبا به مجلسه. فتافت نفسه إلى رحلة مغامرة في دنيا 
الغيب». فقال لاإساعيل : 

- أتقبل دعوتي إلى كأسين في مكان لطيف مأمون؟ 

فقهقه إسماعيل قائلا : 

- إن زوجي تننظرني لنذهب معًا إلى زيارة 
ححالتها. . 

ول يكترث لرفض دعوته. طالما كانت نفسه نديمه . 
وغادرا المكان وغما يتبادللان الحديث. 
وفيها بين ذلك قال كال لنفسه: قد نضيق بالحبٌ إذا 
وُجدء ولكن شَدَّ ما نفتقده إذا ذهب . 


أىّ حديث , 


مليح هذا المجلس. . أن اليد قصيرة. من 
هذا الموضع الداف ترى ا والرائح... من 
شارع فاروق وإليه. . . ومن الموسكي وإليه. . 
العتبة وإليهاء ولولا برودة يناير القاسية لما توارى 
المشتاق وراء زجاج القهوة, تاركا رغم أنفه الركن 
البديع التابع للقهوة على الطوار المقابل» ولكن سياق 
الربيع يوما. .. أجل سيأتي غير أنْ اليد قصيرة. ستة 
عشر عامًا أو يزيد وأنت حبيس الدرجة السابعة. دكّان 
الحمزاوي بيع بأبخس الأثان. . . وربع الغوريّة على 
ميكائفة لا ند لذ ديات .. أما بيت قصر الشوق 
فمَسْكني ومأواي. وإذا كان لرضوان جد غنيّ فكريمة 
لا عائل ها غيري» ربٌ أسرة وعشيق» ولكن للأسف 
اليد قصيرة , 
وفجأة وقعت عيناه الحائرتان على شاب طويل نحيل 
ذي شارب مربّع ونظارة ذهبيّة. يخطر في معطفه 
الأسود قادمًا من الموسكي متجها نحو العتبة» فابتسم 
ونبض بنصفه الأعلى كأئًا بهم بالقيام , ولكنْه لم يفارق 
. ولولا أن الشابٌ كان مسرعًا لمضى إليه ودعاه 
إلى مجالسته. كيال خير سمير حين الضجرء لم يخطر 
الزواج له على بال رغم اقترابه من الثلاثين» لم 


َعجُلْتُ الزواج قبل الأوان؟. ولم وقعسٌ فيه مرّة 


أخرى قبل أن أفيق من لطمته الأولى؟. ولكن من ذا 
الذي لا بدو أعزب كان أم مترزوجًا؟. وكانت 
الأزبكيّة ملادًا ومتعة ا م حل بها البوار ة فهي اليوم 
بؤرة الحثالة والسفلة» لم يبقّ لك من عالم المسرات إلا 
لذ المشاهدة في هُذا المفرق من الطريق ثمَّء الصيد 
الرخيص» وخير الصيد الرخيص خادمة مصرية من 
العاملات في الأسر الإفرنجية... فهي في الغالب 
0007 الملهر نظظيفة. أما سيد مزاياها دون منازع 
فضعف الخلق. وتوجد أكثر ما توجد بسوق الفضار 


النافذة المغلقة يرسل طرفه إلى ملتقى الطرق» يتابع 


من ذوات المعاطف والملاءات اللف, يَرامُنٌ كلا 
وأجزاء في مثابرة لا تعرف الكلال. كان يجلس أحيانًا 
فيطول به الجلوس حبّى العاشرة» وفي أحيان أخرى 
ربما لم يطل به الجلوس إلا ريكا يشرب قهوته. ثم 
ينبضص مسرعا في أثر صيد قد أئس منه استجابة 
ورخصًاء كأنه تاجر روبابيكيا. ولكنّه يقنع في الغالب 
بالمشاهدة. ورثما تبع الحسناء دون مقصد جذّي, أما 
الإقدام الحق. كأن يصطاد خخادما خليعة أو أرملة فوق 
الأربعين» فكان يقع على فترات وفي حرص شديد. إذ 
نه لم يعد الرجل الذي كان, لا لأنّ الموارد ناءت 
بالأعباء فحسب» ولكن لسن الأربعين التي نزلت به 
ضِيفا دون وصضرة أ لقان با طناامه عقي 
مرعبة!. «وشعرة بيضاء في عارضي طلما أوصيت 
الحلاق بمعالجتهاء وقال الحلاق إِنْ أمر الشعرة هين, 
ولكنّ الشيب لا يلبث أن ينفجر. تنا لهاء للحلاق 
وللشيب. ووصف الرجل صبغة مفيدة ولكئّي لن الجأ 
إليها. بيد أنْ أبي بلغ الخمسين دون أن تحترق له 
شعرة. أين أنا من أبي!؟ لا في الشيب وحدهء. كان 
شابًا في الأربعين. وكان شائًا في الحمسينء أمّا أنا!. 
رباه لم أفرّط أكثر مما أفرط أبي». أَرِحٌ راسك وأتعب 
قلبك. ترى أكانت حياة هارون الرشيد حمًا كما يرويها 
الرواة؟. أين زنُوبة من هذا كلّه؟!. جانب من الزواج 
خدعة بنت كلبء ولكنُ فوته في أنك تحتضن الخدعة 
ما حييت» وسوف تدول دول وتنقلب أزمان» ولم يزل 
الدهر يتمخض عن امرأة سارحة ورجل جادٌ في 
أثرهاء الشباب لعنة. والكهولة لعنات» فأين راحة 
القلب أين؟. وأتعس ما في الدنيا أن تتساءل يومًا 
ذاهلا أين أنا؟! 

وغادر القهوة في منتصف العاشرة. فقطع العتبة 
متمهَّلًا إلى شارع محمّد عل؛ ثم مال إلى حانة 
«النجمة». وحيّا «محالوء المائل وراء البار في وقفته 
التقليديّة» فرد الرجل تحيته بابتسامة عريضة كشفت 
عن أنياب صفر مثرمة؛ ثم أشار بذقنه إلى الحجرة 
الداخليّة كأنمًا ليخيره بأنْ أصحابه في الانتظار. وكان 
متدٌ أمام البار دهليز ينتهي إلى ثلاث حجرات متداخلة 
يضح جوها بالعربدة؛ فمضى إلى الأخيرة منهاء. وم 


السكرية /الايم 

يكن بها إلا نافذة واحدة ذات قضبان حديديّة تطلّ 
على عطفة الماوردي. قد صفّت بها ثلاث موائد متفرّفة 
في الأركان. حلت اثنتان وأحدق بالثالثة أصحابه 
الذين استقبلوه مهذلين» شأهم كل مساء. كان 
ياسين - رغم شكواه - أصغرهم سنا أما أكرهم فكان 
أعزب من أصحاب المحاشات.» يليه في يجلسه 
باشكاتب بالأوقافاء فرئيس المستخدمين بإدارة 
الجامعة. ثم محام من ذوي الأملاك غير مشتغل. كان 
الإدمان يلوح في سحناتهم نظرة ذابلة وبشرة محتقئة أو 
بالغة الشحوب. وكانوا يتوافدون إلى الحانة فيا بين 
الثامنة والتاسعة فلا يفارقوبها إلا في المزيع الأخير من 
الليل: يتجرّعون أردا أنواع المخمر وأشدّها مفعولًا 
وأرخخصها ثمناء غير أنْ ياسين لم يكن يلازمهم من 
البداية إلى الباية» أو لم يكن يفعل ذلك إلا في القليل 
النادر» وفيا عد! ذلك فكان يمضي معهم ساعتين أو 
ثلانًا كيفيا اتّفقَ. وكالعادة استقبله الأعزب العجوز 
قائلا : 

أهلا بالحاج ياسين. . . 

وكان يصرٌ على وصفه بال حاج إكرامًا لاسمه المبارك. 
أمَا المحامي وكان أشدّهم إدمانًا فقال: 

- تأخرت يا بطل. حبّى قلنا لقد عثر في امرأة 
ستحرمنا من أنسه الليلة كلها. 0 

فعلّق الأعرب العجوز على كلام المحامي متفلسمًا: 

لآ يفرّق بين الرسخل. والوخل إل امرأة | 

فقال له ياسين مداعبًاء وكان قد جلس فيما بينه 
وبين باشكاتب الأوقاف: 

لا وف عليك من هذه الناحية., , 

فقال العجوز وهو يرفع الكأس إلى فيه : 

إلا لحظات شيطانيةء فقد تستثيرن بنت في 
الوائعة عدر 

فقال الباشكاتب : 

- الاسم لطوبة والفعل لأمشيرا . 

لا أفهم ما تقصد بِبُذا الكلام البارد. 

ولا أنا فاهم! . 

وجاء خالو بالكاس والترمس. فتناول ياسين 
الكأس وهو يقول: 


السكرية 

- يئاير هذا العام شايف كيفه , 

فقال رئيس المستخدمين: 

لله في خلقه شئون. جاء يناير بالبرودة ولكنه 
ذهب بتوفيق نسيم إلى غير رجعة! . 

فصاح المحامي : 

- أنقذونا من السياسة, ما زلئا نسكر وتمز بالسياسة 
حيٌّ أحمدت أنفاسناء شوفوا حكاية ثانية. . 

فقال رئيس المستخدمين : 

حياتنا في الواقع سياسيّة ولا شىء غير هذا. . . 

- أنت رئيس مستخدمين درجة سادسة» مالك أنت 
والسياسة؟ , 

فقال الرئيس محتدًا : 

- درجة سادسة قديم من فضلك؛. من أيَام سعد! 

فقال الأعزب العجوز: 

أنا درجتي السادسة من يام مصطفى كامل» 
نالف احلف ها عن الماش إكراما اللكراه.. 
اسمعواء أليس من الأفضل أن نسكر ونغتي؟ . 

فقال ياسين وهو بهم بإفراغ كأسه : 

- لنسكر أولا يا والدي , , , 

لم يتمع ياسين في حياته بنعمة الصداقة العميقة. 
ولكنْه كان له في كل مجلس - قهوة أو حانة ‏ أصحاب». 
وكان يَألف بسرعة ويُؤلّف بأسرع من ذلك. ومنذ اتهذ 
هذه الحانة ‏ تبعًا لتطوّر حالته المادّيّة ‏ مجلسًا ليليًا مختارًا 
عرف هذه الجماعة. وتوثقت أسباب السمر بينهمء غير 
أنه لم يقابل أحدًا مهم في الخارج. وم يسم إلى ذلك. 
جمسع بينهم الإدمان والاسترخاصء» وكان رئيس 
المستخدمين أرقاهم مركرّاء ولكنّه كان كثير العيال» أما 
المحامي فقد جاء هذه الحانة جريًا وراء سمعة حمرها 
القويّة» بعد أن لم تعد تَؤثّر فيه الحمور النظيفة إِلَا في 
النادر؛ ثم ألفها واعتادها. وجعل ياسين يشرب 
ويثرثر» قاذفا بنفسه في دوّامة العربدة التي تجتاح المكان 
وترتطم بأركانه. وكان العجوز الأعزب أنحبٌ أفراد 
الجماعة إليه. ولم يكن يشبع من مداعبته نخاضّة فيما 
يتعلق بالرموز الجنسيّة. فكان الررجل يحذره من 
الإفراط. ويذكره بمسئوليّاته العائليّة. فيقول له ياسين 
في استهانة ومباهاة» نحن قوم خلقنا لهذاء هكذا أبي. 


وهكذا كان جذدّي من قبل» وأعاد هذا القول في هذه 
السهرة» فتساءل المحامي مازحا: 

وأمّك؟ . . . أكانت كذلك أيشًا؟ 

وضحكوا كثيرًا وضحك ياسين, غير أنْ قلبه غاص 
في صدره متوجِعًا وأفرط في الشراب. وخيّل إليه رغم 
نشوته أنه يتدهورء فلا المكان مكانة. ولا الخمر مرف 
ولا اليوم يومه «وفي كل مكان يتغامزون عللّء فأين أنا 
من أبي؟. ليس أتعس من أن يزيد عمرك وتنقص 
نقودكء بيد أنْ رحمة الشراب واسعة.ء تفيض عليك 
أنسّاء أنسًا رقيقًا وعزاء حميلا مبون عنده كل خطبء 
فقل ما أعظم مسرّي» لن يعود العقار الذي ضاعء 
ولا الشباب الذي انقضى. ولكنّ المخمر تصلح أن 
تكون خير رفيق على مدى العمر. رضعتها شابا يافعًاء 
وها هي تؤنس رجولتي. وسوف بيت للها طربًا رأسي 
لجلّل بالمشيب, بذلك يفرح مي القلب رغم العناف 
وغدًا عندما يستوي رضوان رجلا وتتهادى كريمة 
عروساء أشرب أنخاب السعادة في العتبة الخضراء. 
فيا أعظم مسرّتي». 

وإذا بالجماعة تعْئّى «أسير العشق ياما يشوف هوان؛ 
ثم غنت «يا جارة الوادي» في جو صاحب وأصوات 
معربدة» فردّد الغناء أقوام من سائشر الحجرات 
والدهليز. ثم ساد صمت مرهق فعاد رئيس 
المستخدمين يتحدث عن استقالة توفيق نسيم. 
ويتساءل عن المعاهدة الي تهبدف إلى حماية مصر من 
خطر إيطالياء ذلك الجار الثقيل القائم في ليبياء فم) 
كان من المماعة إلا أن ردّدت في صوت واحد «إرنحي 
الستارة اللي في ريحنا... أحسن جيرانا تجرحنا». 
ورغم إفراط العجوز في الشراب والعربدة فقد احتج 
على هذه الإجابة الماجنة. ورماهم بالحذر في) يليق به 
الحد. فأجابوه في صوت واحد مرددين (اصحيسح 
خصامك وإلا هزار) فلم يسع الشيسخ إلا أن 
يضحك. وأن يعود إلى مشاركتهم بلا تحفظ . 

وغادر ياسين الحائة عند منتصف الليل». فبلغ بيته 
في قصر الشوق حوالى الواحدة صباحًا. وكعادته كل 
تفتيشيّة») فوجد رضوان في حجرته يذاكرء وقد رفع 


الضات رأسه عن كتاب القانون ليتبادل مع والده 
ابتسامة, وكان الحبٌ بيبا عميماء كذلك الاحترام 
رغم أنّْ رضوان كان يعلم أنْ والده لا يعود هذه 
الساعة إِلّا ثملا. أمّا ياسين فكان يعجب بجيال ابئه 
أئما إعجاب. كيا يعجب بذكائه واجتهاده. ويرى فيه 
وكيل نيابة المستقبل الذي سيرفع من شأنه؛ ويعز من 
كتريائه» ويعزيه عن أمور كثيرة. سأله : 

- كيف تجد دروسك؟ 

وأشار إلى نفسه كأنما يقول له «نحن هنا». فابتسم 
رضوان» وابتسمت فيه عينا هنية المكحولتان. فعاد 
أبوه يسأل: 

أيزعجك إذا أدرت الفوثوغراف؟ 

أمًا عب فلا. ولكنّ الجيران نائمون في هذه 
الساعة المتأخرة , 

فابتعد عن الحجرة وهو يقول هازنًا: 

- نوم العافية ! 

ومرّ بحجرة نوم «الأولاد» فوجد كريمة تغط في نومها 
على فراش صغيرء على حين بقي فراش رضوان في 
الجانب الآخر من الحجرة خاليا ينتظر فراغه من 
مذاكرته. وخطر له لحظة أن يوقظها ليداعيهاء ولكنه 
ذكر ما يصحب إيقاظها في تلك الساعة من تذمر فعدل 
عن خاطرته. واتجه صوب -حجرته. أجمل الليالي في 
هذا البيت حقًّا هي ليلة الجمعة: تلك العطلة 
المقدّسةء فإذا عاد إلى بيته ليلة اجمعة ‏ بصرف النظر 
عن الساعة التى يعود فيها ‏ فإنه لا يتردد في أن يدعو 
رضوان إلى مجلسه بالصالةء ثم يوقظ كريمة وزثوبة, 
وبدير الفونوغراف. ويمضى في محادثتهم وبمازحتهم 
حبّى المهزيع الأخير من الليل. كان مغرمًا بأسرته ‏ 
خاصة رضوان ‏ أجل لم يكن يشغل نفسه ‏ أو لم يكن 
لديه من الوقت - ليتابعهم برعايته وتوجيهه. تارمًا 
أمرهم لعناية زنُوبة وحكمتهم الفطرية!. ومهما يكن 
الأمر فَإِنّه لم يطق لحظة واحدة أن يمثل حيالهم الدور 
القاسى الذي مثّله أبوه حياله» وكره من صميم قلبه أن 
يخلق في قلب رضوان شعور الرهية والمخوف الذي كان 
يجده نحو أبيه!. والحقٌ أنّه لى يكن يستطيع ذلك حي 
لو أراده. وعندما كان يجمعهم حوله بعد منتصف 


السكرية و8م 


الليل كان يفصح عن ولعه بهم دون تحمظى وهو في 
نشوة من الثمر والحبء. كان بمازحهم ويسامرهم. 
وريم قص عليهم نوادر السكارى الذين صادفهم في 
الحانة, غير عائ بأثر ذلك في الأنفس البريئة» مستهيئًا 
باحتجاجات زنُوبة الي تومئ بها إليه من وراء وراء 
فيبدو وكأنما نسى نفسه وجرى على سجيّته دون حذر أو 
مبالاة. ْ 

وفي حجرته وجد زنوبة ‏ كالعادة - نائمة وليسث 
بنائمة. هكذا كانت أسذاء فقبل أن يلج الحجرة 
يترامى إليه شتخيرها. حتّى إذا توسطها نحركت وفتحت 
عينيها وقالت بلهجتها الساخحرة وحمذًا لله على 
السلامة». ثم تنهض لعاونته على خبلع ثيابه وترتيبها. 
وقد بدت في صورتها الطبيعيّة أكبر من سنبهاء وكثيرًا ما 
ظنّها تمائله سنًا. ولكتها باتت أليفته واشتبكت جذورها 
بجذورهء تلك الغانية القديمة التي نجحت في معاشرته 
فبها لم تنجح فيه سيّدة من قبل فأرست حياته الروجية 
على أساس متين» نعم لقد انتابت حياتها في أوّل الأمر 
معارك وعلا بها زئير ولكنّها بدت دائمًا حريصة على 
حياتب) الزوجيّة كل الحرص. ومع الأيّام صارت أمّاء 
ومنيت بالشكل. فلم يبق لما غير كريمة, غير أنْ ذلك 
دعاها إلى مضاعفة الاستمساك بحياتها الزوجيّة. 
خاصّة بعد أن تهدّدها الذبول وناوأها الكبر المبكر» ثم 
علّمتها الأيّام أن تتحلى بالصبر والمهادنة» وأن تتمرّس 
بدور «السيّدة» بكل معنى الكلمة. وغالت في ذلك إلى 
حدٌ أثها لم تكن تتبرّج خارج بيتها حبّى فازت أخيرا 
باحترام بين القصرين والسكريّة إلى حدّ مااء وكان 
من حسن سياستها أن تحمل نفسها على معاملة رضوان 
معاملة كريمة بالغة الرقّة والموّة» على الرغم من أئْها ل 
تكن تجد نحوه حبّاء خاصّة بعد أن ثكلت في الذكر 
الوحيد الذي أنجبته لياسين» وكانت رغم تغيّرها 
شديدة العناية بحسن هندامها وأناقتها ونظافتها. وقد 
لاحظها ياسين باسً) وهي تعيد ترتيب شعرها أمام 
المرآة» ومع أنه كان يضيق بها أحيانًا إلى حدّ الضجر. 
إلا أنه كان يشعر بحقٌ بأئّبا أصبحت شيئًا ثمينا في 
حياته لا بمكنه الاستغناء عئه بحال. وجاءت بشال 
فتلفعت به وهي تقفقف من البردء وقالت متشكية : 


السكرية 

ما أشدّ البرد!. هلا رحمثت نفسك من السهر في 
الشتاء؟ ! . 

فقال ساخحرا : 

الخمر تغيّر الفصول كما تعلمين؛ لم تتعبيين نفسك 
بالاستيقاظل؟ 

فنشخت قائلة : 

فعلك متعب وكلامك متعب! , 

بدا في جلبابه كالمنطاد» ومسح بيده على كرشه وهو 
يرئو إلى المرأة في ارثياح: وكانت عيئاه السوداوان 
تشتعلان» ثم ضحك فجأة قائلا : 

- لو رأيتي وأنا أتبادل التحيّة مع العساكر! أمسى 
عساكر آخير الليل أصدقائي الأعزاء! . 

يا فرحيي!. 


جه 

كان منظر رضوان ياسين وهو يسير في الغورية 
بخطواته المجّئدة مما يلفت الأنظار حمًا. كان في السابعة 
عشرة من عمره» مكحول العيئين» متوسط القامة مع 
ميل خفيف إلى الامتلاء» أنيق الملبس إلى حد التبرج» 
ينتسب ببشرته الورديّة إلى آل عفتء فهو يشمٌ بهاء 
ونوراء وتنم حركاته عن دلال من لا يخفى عليه 
جماله. وعندما مرٌ بالسكريّة اتجه رأسه إليها فيها يشبه 
الابتسام. وذكر لتوه عمته تحدعجة وابنيها عبد المنعم 
وأحمد. فوجد لِذِكْرهما شعورًا لا يخلو من فتور, والح 
أنه لم يجد من نفسه مشْجعًا ‏ ولو مرّة على أن يتخل 
أحدًا من أقربائه صديقًا بالمعبى الصحيح لهذه الكلمة. 
وسرعان ما اجتاز بوّابة المتوليى» ثم مال إلى الدرب 
الأحمرء حيّى بلغ به المسير باب بيت قديم فطرقه 
وانتظر» وفتح الباب عن وجه حلمى عزّْت»؛ صديق 
صباهء وزميله اليوم بكلّيّة الحقوق» ومنافسه. فيما 
بدا في اللمال. وتلل وجه حلمي لرؤياهء ثم تعانقا 
وتادلا قبلة كعادتبها عند اللقاء. ومضيا معًا يصعدان 
السلّم. وني أثناء ذلك جعل حلمي ينوه بربطة رقبة 
صديقه وتجاوب لوبها مع قميصه وجوربه؛ وكان 
يضرب مها المثل في الأناقة وحسن الذوق» فضلا عن 


أن اهتهامهما بالملابس والموضة لم يكن دون اهتمامهما 
بالسياسة أو دراسة القانون. وائتهيا إلى حجرة كبيرة 
عالية السقف. دل وجود الفراش والمكتب با على أنها 
معدّة للنوم والمذاكرة معًا. والحقٌ أهها طلما سهرا مها 
يذاكران»: ثم ناما جتبًا إلى جنب على الفراش الكبير 
ذي الأعمدة السوداء والناموسيّة. ولم يكن بيات 
رضوان خارج البيت بالشيء الجديد. فقد اعتاد منذ 
صباه أن يدعى إلى أكثر من بيت لقضاء عذة أيام. 
كبيت جدّه محمد عفت بالجاليّة» أو بيت أمّه بالمثيرة 
التي لم تنجب غيره رغم زواجها من محمد حسن. 
ولذلك وليل أبيه الطبيعيئ إلى اللامبالاة» وترحيب 
زنُوبة الخفئ بكل ما يبعده عن بيتها ولو إلى حين» م 
يجد معارضة في البيات عند صديقه في مواسم 
المذاكرة؛ ثمّ صار الأمر بعد ذلك مألوفًا فلم يكن أحد 
ليعيره أي اهتيام , وفي مثل هذا الحو من اللامبالاة نشأ 
حلمي عزّْت. توثي أبوه- وكان مأمور قسم- منل 
عشرة أعوام. وفي ذلك الوقت كانت أحواته الست قد 
تزؤجن؛ فعاش وحله مع أمّه العجوز. ووجدت المرأة 
صعوبة في بادئْ الأمر في السيطرة عليه ثم ما لبث أن 
ضار هو المسيطظر عل البيت كله. وكانت المرأة تعيش 
على معاش زوجها الصغير. وإيجار الدور الأول من 
بيتها القديم» فلم تعرف الأسرة الحياة الرهيفة مشذ 
وفاة الأب» ولكنّ حلمي لم يعجز عن مواصلة حياته 
المدرسيّة حي التحق بكليّة الحقوق» محافظا في أثناء 
ذلك كله على ما تتطلّبه حياته من مظاهر الاحترام. 
وكان سرور حلمي بلقاء صديقه لا يعادله سرورء وم 
تكن تطيب له أوقات العمل أو الراحة إلا به. لذلك 
بعث وجوده في نفسه 'نشاطًا وحماسة؛ فأجلسه على 
الكنبة الملاصقة لباب المشربية وجلس إلى جانبهء» وراح 
يفكر في اختيار موضوع ‏ وما أكثر المواضيع لمحادثته - 
غير أنَّ نظرة واجمة لاحت في عيني رضوان اعترضت 
تيار حماسه. فرنا إليه متسائلا, ثم من ما هنالك 
فتمتم : 

- زرت والدتك؟ أراهن أنّك قادم من هناك. . . 

أدرك رضوان أنْ صدق تحمين صاحبه يرجع إلى 
وجهه هوء فلاح الضجر في عينيه, وهر رأسه 


بالإيجاب دون أن يتكلّمء فسأله حلمي : 


وكات سا ا 
- عال. . . 


م وهو يتنهد : 

- ولكنٌ هذا المدعوٌ محمّد حسن!!ء أنت لم تعرف 
معنى أن يكون لأمنك زوج غير أبيك! 

فقال حلمي مواسيا : 

- كثيرًا ما يقع هذاء لا عيب فيهء ثم إِنه شيء 
فديم! 

فهتف رضوان حانقًا: 

- لا لا لاء إِنّه دائيًا في البيتء لا يبرحه إلا إلى 
عمله في الوزارة» نفسى مره أزورها فأجدها وحدهاء 
ويطيب له أن يمثّْل 0 الوالك. -والر شل ستعنا له 
وعند كل مناسبة يذكرني بأنّه رئيس أبي في إدارة 
المحفوظات», ولا يتردّد عن انتقاد مسلكه في عمله. 
ولكئى من ناحيتي لا أسكت له. . . 

وصمت دقيقة حبّى يبدأ انفعاله. ثم واصل 
حديثه : 

- أمّي حمقاء إذ رضيت أن تتروج من هذا الرجل» 
ألم يكن من الأفضل أن تعود إلى أبي؟ 

وكان حلمي يعرف الكثير عن سيرة ياسين 
المشهورة. فقال باسما: 

في العشق يا ما كنت أنوح! 

فلوّح رضوان بيده معاندًا وهو يقول: 

- ولو! إِنْ ذوق النساء سر ميف والآدهى من ذلك 
أنها فيها يبدو راضية! 

لا تسمٌ وراء ما ينفص صفوك . 

فقال رضوان في نبرات حرينة : 

- يا للعجب, إِنْ جائبًا عريضًا من حياتي ينضح 
بالتعاسة. إني أمقت زوج أمَي ولا أحبّ امرأة أبي» 
جِوٌ مشحون بالبغضاء. إِنْ أبي- كأمّي ‏ لم يحسن 
الاخختيار» ولكن ماذا في وسعي أن أفعل؟1ء وامرأة 
بي تحسن معاملتي ولكن لا أتصوّر أنئّْبا تحيّنيء هذه 
الحياة ما أرذها! 

وجاءت خادم عجوز بالشاي» فتحلب ريق رضوان 
الذي عاى في الطريق من رياح فبراير القاسية. وساد 


السكرية ١4م‏ 


الصمت وهما يذيبان السكر. وتغيّر تعبير وجه رضوان 
فآذن ذلك بإنهاء السيرة المحزنة» ورنحب -حلمي بذلك 
فقال في ارتياح : 

تعودت المذاكرة معك. فلا أدري كيف أذاكر 
وحلي. . . 
فابتسم رضوان متجاوبًا مع هذا الشعور الرقيق» 
ولكنّه سأله فسجأة : 

- هل اطلعت على المرسوم الصادر بتأليف وفد 
المفاوضة؟ 

- نعم. ولكنٌ كشيرين يلغطون متشائمين بالجوٌ 
الذي يحيط بالمفاوضة. ويبدو أنْ إيطاليا ‏ التى جدّد 
حدودنا - هي حور المفاوضة ا لحقيقيّ . والإنجليز من 
جانبهم يبدّدون في حال فشل الاثفاق! 

إِنْ دماء الشهداء لم تبرد بعد.» وعندنا دماء 
جديدة! 

فهرٌ حلمي رأسه قائلا: 

- هذا كلام يقال» لقد سكت القتال وبدا الكلام: 
ما رأيك؟ 

على أيّ حال فَإِنّ للوفد أغلبيّة ساحقة في هيئة 
اللفاوضة» تصوّر أن سالت مممّد حسن زوج أن عن 
رأيه في الموقف. فقال لي ساخحرًا: «أنتوهم حمًا أن 
الإنجليز يمكن أن يخرجوا من مصر؟!». هذا هو 
الرجل الذي ارتضته أمَى زوجًا! 

فضحك حلمي عرّت عاليًا وسأله : 

- وهل مختلف رأي أبيك عن ذلِك؟ 

إن أبي يكره الانجليزء وحسبه ذلك 

أيكرههم من صميم قلبه؟ 

- إن أبي لا يكره ولا يحب شيئًا من صميم قلبه! 

- إني أسألك عن رأيك أنت. فهل أنت مطمئنٌ؟ 

لم لاء حبّى متى تبقى القضيّة معلّقة؟ أربعة 
وخمسون عامًا من الاحتلال» أفء لست أنا التعيس 
وحدي! 

فتناول حلمي عرت آخر رشفة من قدحه وقال 
باس : 

- يبدو لي أنك كنت تحادئي ببذه الحماسة عندما 
وقعت عيئاه عليك! 


السكرية 


من؟ 

فابتسم حلمي عرّت ابتسامة غريبة» وقال: 

- كلما تحمّست تورّد وجهك وبرز جمالك في أحسن 
أحواله؛ وفي لحظة من تلك اللحظات السعيدة راك 
ولا شيكة وانت نحادئني , كان ذلك يوم ذهب وفد 
الطلبة إلى بيت الأمّة داعين إلى الانحاد. ألا تذكر ذلك 
اليوم؟ 

فتساءل رضوان باهتام لم يحاول إحفاءه : 

- نعم ولكن من هو؟ 

- عبد الرحيم باشا عيسى! 

فتفكر رضوان قليلا ثم متم : 

- رأيته مرّة عن بغد. . , 

أمَا هو فقد رآك اليوم لأول مرة. 

وارتسمتث على وجه رضوان علامة استفهام , فعاد 
حلمي يقول: 

- وعندما قابلني عقب انصرافك سألني عنك» 
وطلب إل أن أقذمك إليه في أول فرصة! 

وتيسم رضوان ثم قال: 

هات كل ما عندك , 

فقال حلمي وهو يربت منكب صاحبه : 

- دعاني وسألني بخفته. على فكرة هو خفيف 
جدًا : «من المليح الذي كان يحدّئك؟» فاجبته أنه 
زميل في الحقوق وصديق قديم واسمه كذا ألخ . 
فسألني باهتام : «ومتى تقدّمه إِي؟4؛ فسألته بدوري 
متجاهلًا غرضه: «ولمه يا باشا؟» فالفجر قائككد 
كالغاضب - هك ذا تبلغ به خفة الروح أحيانًا : 
«لأعطيه درسًا في الديانة يا بن الكلب»؛. فضحكت 
بدورى حش كتم فمى بيله. . 

وساد الصمت ليظة دوت فيها الريح في الخارج. 
وترامى صوت ارتطام ضلفة شباك بجدار, ثم علد 
صوت رضوان وهو يتساءل: 

سمعث عنه كثيرا, أهو كبا يقال؟ 

- وأكثر. . . 

لكنه عجور! 

فقال حلمي عرّت وأساريره تنطق بالضحك دون 
ضيولة: 


هذا في المرتبة الأخيرة من الأهميّة. إِنّه رجل كبير 
المقام» ظريف. ذو نفوذ ولعل شيخوخته أجل فائدة 
من الشباب. . 

فعاود رضوان الابتسام , لم تساءل ؛ 

- أين منزله؟ 

- فيلا هادئة في حلوان. 

آه تكتظ بالقاصدين من كافة الطبقات! 

- سنكون ضمن مريديهء لم لا؟1ء إِنّه من شيوخ 
الساسة ونحن من شبابهم! 

فتساءل رضوان في شىء من الحذر: 

- وزوجه وأولاده؟ ْ 

يا لك من جاهل, إنه أعزب» لم يتزوؤج قط ولا 
يحب هذه السيرة. كان وحيد أبويه؛ وهو يعيش وحله 
مع خدمه كأنه مقطوع من شجرة» وإذا عرفته فلن 
تسلو قكة ابد[ 

رتبادلا نظرة باسمة طويلة تفيض بالمؤامرات» حتّى 
قال حلمي عزت في شيء من الجزع : 

- سلني متى نذهب لزيارته من فضلك؟ 

فقال رضوان وهو ينظر إلى ثالة الشاى في قدحه: 

- متى لذهب لزيارته؟ 


8 


لاح بيت عبد الرحيم باشا عيبى على ناصية شارع 
النجاة بحلوان آية في البساطة والأناقة. فيلاً سمراء 
مكوّنة من دور واحد يعلو عن الأرض بمقداز ثلاثة 
أمتار تكتنفه حديقة أزهارء ويستهلٌ بسلاملك. وكان 
البيت والطريق والمنطقة المحيطة به غارقة في صمت 
مريح. وكان يجلس على أريكة عند الباب البوّاب 
وسائق السيارة. بواب نون بارع القسمات نمشوق 
القوام؛ وسائق في ريق الشباب مورّد الخدّين. وهمس 
حلمي عزت في أذن رضوان وهو يمد بصره نحو 
السلاملك؛ 

- صدق الباشا فيها وعدء فلا زائر اليوم غيرنا! 


وكان حلمي عت معروفًا لدى البواب والسائقع 
فوقفا لاستقباله في أدب. ولما داعبهها ممازحًا انطلقا 


يضحكان دون كلفة. وكان الو قارص البرودة رغم 
جفافهء فدخلا بهو استقبال آية في الفخامة. تتصدّره 
صورة كبيرة لسعد زغلول في بذلة التشريفة» ومال 
حلمي عرّت إلى مرآة ممتدّة طولا حيّى السقف تتوسّط 
الجدار الأيمن. فألقى على صورته نظرة متفخصة 
طويلة. فلم يترد رضوان أن يلحق به. وأن يمتمحن 
منظره بنظرة مثلهاء حيّى قال حلمي باسمًا: 

- قمران يرتديان بذلة وطربوشّاء واللي يعشق جمال 
النبَ يصل عليه! . 

وجلسا متجاورين على كنبة مذهبة ذات غطاء أزرق 
وثير. ومرّت دقائق ثم سمعت حركة آثية من وراء 
الستار المسدل على باب كبير تحت صورة سعدء فانجه 
ناحيتها رأس رضوان وقلبه يخفق باهتمام . وما لبث أن 
تراءى الرجل في بذلة سوداء أنيقة. تنتشر بين يديه 
رائحة زكية. وقد بدا داكن السمرةقء حليق الوجه. 
نحيل الجسمء مائلًا إلى الطول نوعّاء ذا قسرات دقيقة 
براها الكبرء وعينين صغيرتين ذابلتين» أمّا طربوشه 
فقذ مال إلى الأمام حبّى كاد يمسن حاجبيه» وكان يتقدّم 
هادثًا وقورًا في خطوات متقاربة وبطيئة معّاء فانعكس 
منه إلى قلب الشابٌ إجلالا وطمأنيئة. ولازم الصمت 
حبّى وقف أمام الشابّين اللذين وقفا لاستقباله: ثم 
تفخصهها بنظرة ثاقبة ثبتت على رضوان طويلًا حي 
اختلج جفناه. م أبتسم فحأةق فنشاع في الوجه 
القديم إيناس وجاذبية قرّبت المسافة التي تفصل بينه 
وبيهها حي لم تعد شيئًا. ومدّ حلمي يده فتناوها الآخر 
واستبقاها في يده. ثم مذ بوزه وانلتظرء فأدرك حلمي 
غرضه وسرعان ما عرض له حمذه فقبله. ثم نظر 
صوب رضوان قائلًا بصوت رقيق : 

- لا تؤاخاني يا ب فهذه هي طريقة السلام 
علدي . . 

ومدٌ رضوان يده في حياء؛ فتناونها الرجل و 
يتساءل ضاحكا: 

وخحدذك؟ 

فتوزد وجه رضوان.» وهتف حلمى مشيرًا إلى 


نمسه ' 


السكرية 4م 


المخابرة يا سعادة الباشا مع ول الأمر؟ 

فضحك عبد الرحيم باشا واكتفى بمصافحة 
رضوان؛ ثم دعاهما إلى الجلوس وهو يجلس على مقعد 
كبير على كثب منبهياء وقال باسم): 

- ول أمرك هذا ملعون يا رضوان» أليس هذا هو 
اسمك؟. أهلا وسهلاء لقد رأيتك في صحبة هذا 
الولد الشقي؛ فراقني أدبك وتمنيت لقاءك. وها أنت 1 
تضِنْ عل به. . 

- إفي سعيد بالتشكف بمعرفتك يا سعادة الياشا. 

فقال الرجل وهو يدير خائًا ذهبيًا كبيرًا في بنصر 
يسرأه : 

- أستغفر الله يا بن لا تستعمل عبارات التعظيم 
وألقاب التفخيم, إنْني لا أحبٌ شيئًا من هذا كله 
الذي يمني حقًا هو الروح اللطيف والنفس الصافية 
والإخلاصء أمّا سعادة الباشا وسعادة البك فكلنا أبناء 
أدم وحواء. الواقع لقد راقني أديك فوددت لو أدعوك 
إلى ببتي نأهلا وسهلاء أنت زميل حلمي في كليّة 
الحقوق. أليس كذلك؟ 

ادا يانتن إننا زملاء من عهد خليل آغا 


الابتذائية, 
- زمالة صا . , وهو يبز رأسه) . 0 


جميل. لعلك مثله من حي الحسين؟ 

- نعم يا سيّدي. ولدت في بيت جدي السيّد محمد 
عفت بالجاليّة؛ وأقيم الآن بمنزل والدي بقصر 
الشوق. . . 

أحياء مصر الأصيلةء البقاع الطيّبة. ما رأيك لقد 
عشت فيها دهرًا مع المرحوم أبن في بيرجوان. كنت 
وحيد أبويّ» وكنت عفريتاء وطالما جمعت الصبيان في 
شبه زفة ومضينا من حارة إلى حارة نعاكس طوب 
الأرض» ويا ويل الدنف لو رماه القدر إلى طريقناء 
وكان أبي يثور غضبه فيجري ورائي بالعصا. . . قلت 
يا بي إن جدّك هو محمّد عفت؟ 

فقال رضوان بفخار: 

نعم يا سيدي . . 

فتفكر الباشا قليلا ثم قال: 


4 السكرية 


- أذكر أني رأيئه مرّة في بيت نائب المماليّة» رجل 
وجيه ووطنيَ صادق. كاد يرشّح نائبًا في الانتخابات 
القادمة لولا تنحّيه في آخمر لحظة لصديقه النائب 
القديمء إِنْ الاتحاد الأخصير أوجب الصداقة في 
الانتخابات حيّ يظفر إخواننا الأحرار الدستوريون 
ببعض المقاعد. إذن أنت زميل حلمي في الحقوق!. 
حميل, القانون سيّد الدراسات» وهو يتطلب لدراسته 
ذكاء للاحاء أمّا عن المستقبل فا عليك إِلّا الاجتهاد! 

وجد في نبراته الأخيرة ما يوحي بالوعد والتشجيع. 
فدبٌ في قلبه الطموح والحاسة فقال: 

- نحن لم نفشل ولا صرة واحدة في حيياتنا 
الدراسية! . 

- برافوء هُذا هو الأساس» بعد ذُلِك تجبيء النيابة 
لم القضاء وسيوجد دائمًا من يفتح الأبواب المغلقة أمام 
المجتهدين» حياة القضاء شىء عظيمء عيادها الذكاء 
اليقظ والضمير الحيّ» لقد كنت بفضل الله من أبنائها 
الفادقيق»- .وقد تر كت القضاء للأتمفال. بالسيايية: 
فالوطئيّة تحنم علينا أحيانًا أن مجر أعمالدا المحبوبة 
ولكن إلى اليوم تجد من يضرب بنا المثل في العدالة 
والنزاهة. فضع نصب عينليك في الاجتهاد والنراهة 
وأنت حر بعد ذلك في حياتك الخاصّة. قم بواجبك 
وافعل ما تشاءء أمّا إذا قضصّرت في الواجب فلن يرى 
الناس فيك إلا النقائلص. ألا ترى أنه لا يحلو لكثير 
من الفضوليّين إلا أن يقولوا فلان الوزير به الداء 
الفلانّ. وفلان الشاعر به الداء العلانٌ. حسن, 
ولكن ليس كل المصابين وزراء وشعراءء فكن وزيرًا 
كاعر ارلخو نعل عمد ذلف ا كفا لا رع د 
ذكائك هذا الدرس يا أستاذ رضوان , , . 

وهنا قال حلمي عزرّت بخبث: 

- كفى المرء نبلا أن تعد معايبه» أليس كذلك يا 
سعادة الباشا؟ 

فثنى الرجل رأسه إلى منكبه الأيمن» وقال: 

د طبعاء سبحان من له الككال وبحده. الانسان 
ضعيف جدًا يا رضوان» ولكن عليه أن يكون قويًا في 
الجوائب الأخرى. مفهوم؟. لو تشاء أحدّئك عن كبار 
الرجال في الدولة ولن تجد واحدًا خاليًا من داء. 


وسوف نتحادث طويلا ونتدارس العبر كيها تكون لنا 
حياة هوفورة الكمال والسعادة. . 

فنظر حلمي إلى رضوان قائلا: 

ألم أقل لك إِنّ صداقة الباشا كنز لا يفنى؟ 

فقال عبد الرحيم عيسى موجها الخطاب إلى رضوان 
الذي لم تكد تتحؤل عنه عيئاه : 

إن أحبٌ العلم وأحبٌ الحياة وأحبٌ الناس. 
وديدني أن آخل بيد الصغير حبّى يكبر»ء وأيّ شىء في 
الدنيا نخير من الحبٌ؟. بيجب ذا بز اشيعدا ااه 
قانونيّة أن نحلّها معاء وإذا فكرنا في المستقبل أن نفكر 
معاء وإذا نازعتنا أنفسنا إلى الراحة أن نرتاح معٌاء ما 
وجدت رجلا حكيما مثل حسن بك عماد» اليوم هو من 
رجال السلك السياميّ المسدودين.ء ودعك أنه من 
أعدائي الشيات إن: ولكنه كان إذا تفرّغ لبحث قتلى 
وإذا طرب رقص عارياء الدنيا حلوة على شرط أن 
تكون حكيا واسع. . . الإدراك! ألست واسع الإدراك 
يا رضوان؟ 

فأجاب عنه حلمي عرزت من فوره: 

- إذا لم يكن فنحن على استعداد لتوسيعه! . . . 

فأشرق وجه الباشا بابتسامة طفليّة نمت عن رغبته 
التي لا حدٌ لها في المسرّة. وقال: 

- هذا الولد عفريت يا رضوان. ولكن ما حيلتي؟ 
نه زميل صباك يا بختهء ولست أنا القائل إِنَّ الطيور 
على أشكاها تقع. لازم أنت أيضا عفريت» خترني يا 
رضوان من أنث؟. هه. إِنْك تركتني أتكلّم بلا وعي 
وأنت صامت كدهاة السياسة. هه؟ قل يا رضوان ماذا 
تحبٌ وماذا تكره؟ . 

عند ذاك دخل الخادم حاملًا صيئيّة القهوة» وكان 
فتى أمرد شبيها بالبؤاب والسائق» فشربوا أكواب الماء 
الممزوجة بالزهرء وجعل الباشا يقول: 

- الماء بالزهر شراب أهل الحسين» أليس كذلك؟ . 

فغمغم رضوان باسما: 

- نعم ايأ سيدي , 

فقال الباشا وهو يهز رأسه طربا: 

يا أهل الحسين مدّدا. 

وضحكوا ججميعا. حيّى الخادم ابتسم وهو يغادر 


البهو. واستطرد الباشا متسائلا: 

ماذا تحبٌ؟. وماذا تكره؟. تكلم بصراحة يا 
رضوان, دعني أيسّر لك الجواب» أأنت مهتم 
بالسياسة؟ 

فقال حلمي غريك: 

كلانا في لخحنة الطلبة . 

هذا أوؤل سبب للمقاربة بينناء وهل لك في 
الأدب؟ 

فأجاب حلمى عت : 

- إن مغرم بشوقي وحافظ والمنفلوطي . . . 

فنبره الباشا قائلا : 

- اسكت أنت» أريد يا أخي أن أسمع صوته. . 

فضحكواء وقال رضوان باسما: 

- إفي أموت في شوقي وحافظ والمنفلوطي . . . 

فقال الباشا بإعجاب : 

حل أفوك هيا لذ من اتعيتن الا سبع إلا ف 
الحالية» أهي نسبة إلى الجهال يا رضوان؟. إذن أنت 
من هواة (فضة ذهب» ووفي الليل لما حل» و(من يكن» 
و«فئن يشيله وفئن يحطه». الله. . . الله هذا سبب 
آخر للمقاربة بيننا يا جماليّة» وهل تحب الغناء؟ . 

- إِنه من غواة. . 

اسكث أنت , 

فضحكوا مرّة أخرى» وقال رضوان: 

أمّ كلثوم . 

جميل, لعلى من عشّاق القديم» ولكنٌ الغناء كله 
حميل. فأنا أحبّه. ثقيله وخميفه. كا يقول المعري. 
وأموت فيه كما تقول حضرتك. جميل جذاء الليلة 

ودف جرس التليفون. فنهض الباشا إليه» ووضع 
السّاعة على أذنه وهو يقول: آلوا, 

أهلًا أهلا معالى الباشا. 
أنا قلت رأبي للزعيم صراحة»؛ وهو رأي ماهر 
والنقراشي أيضًا. 


- آسف يا باشاء لا أستطيع . أنا لا أنسى أنْ الملك 


السكرية هم 


فؤاد هو الذي عارض في ترقيتي يوماء والملك فؤاد أخخر 
من يتكلم في الأخلاق. وعلى أي حال سأقابلك غدًا 
في النادي» سلام عليكم يا باشا. . . 

وعاد الرجل متجهّم الوجه. ولكنّه ما كاد يرى وجه 
رضوان حيّ عاوده الانشراح فواصل حديثه قائلا: 

- نعم يا سيّد رضوان» تعارفنا وما أجمل التعارف, 
أنصحك بالاجتهاد. أنصحك بألا تتخلّ عن الواجب 
والمثل الأعلى. بعد ذلك أحدّئك عن الطرب وافناء. 

وهنا نظر رضوان في ساعته: فلاح الجزع في وجه 
الياشا وقال: 

إلا هذا! الساعة عدوٌ مجالس الأنس. 

فتمتم رضوان في شيء من الارتباك : 

ولكنا تأخرنا يا سعادة الباشا. 

- تأخخرنا! . أتعبي أنّه تأخر بي العمر!!. أخطات يا 
بيّء ما زلت أحبٌ السهر والجمال والغناء بعد الساعة 
الواحدة. السهرة لم تبدأ بعد, لم نقل إلا بسم الله 
الرحمن الرحيم. لا تعترض . السيّارة تحت أمرى) حتّى 
الصباح» وبلغني أنك ثبيت خارج البيت للمذاكرة» 
فلنذاكرء لِمْ لا؟. ما أحلى أن أعود إلى المدخل في 
القانون العام أو شيء من الشريعة» ببذه المناسبة من 
يدرس لكم الشريعة؟. الشيخ إبراهيم نديم» مشاه 
الله بالخير, إِنّه كابتئن عظيم. لا تدهش» سنؤرّخ يوما 
لكل رجال العصر, يجب أن تفهم كل شيء. ليلتنا 
ليلة محبّة وصداقة؛ خترني يا حلمي ما أنسب شراب 
مثل هذه الليلة؟ 

فقال حلمي باطمئئان : 

- ويسكي وصودا وشواء . 

فقال الباشا ضاحكا: 

- وهل الشواء شراب يا شقي؟ 


و١‏ 
عقب الغداء من يوم الخميس يلتئم شمل أسرة 
حديجة على نحر لا يكاد يتغير. وهكذ!ا جمعت الصالة 


بين الأب إبراهيم شوكت وعيدك المنعم وأحمد ولما 
كان من النادر أن تبقى نخديجة بدون عمل فقد جلست 


5 السكرية 
بينهم وهي تطرز غطاء مائدة» وقد بدا الكبر أخيرًا على 
إبراهيم شوكت بعد مقاومة طويلة جسارة.» فشاب 
شعره وترهّل بعض الشيء, وإن حافظ فيها عدا ذلك 
على صحّة مسد عليهاء وكان يدن سيجارة» ويأخذ 
مكانه بين ابنيه في هدوء وطمأنينة. تعكس عيناه 
البارزتان نظرة الخمول واللامبالاة التقليديّة» على حين 
لم ينقطع الشابّان عن الحديث» فيا بيهما حيناء أو مع 
الأب أو الأمّ التي شاركت في الحديث دون أن ترفع 
رأسها عن عملهاء وقد بدت كتلة عظيمة من الشحم 
واللحم. لم يعد في الحو ما ينص على خخديجة صفوهاء 
إذ لم يبِقٌ من ينازعها السيادة في بيتها مذ توفيت حماتها . 
كانت تقوم بواجباتها بهمّة لا تخذها أبدّاء وترعى 
سمانتها بعناية فائقة وهي جوهر جمالها كلّهء وتحاول 
فرض رعايتها على الجميع». الأب والابنين. فيطاوع 
الرجل» وأمًا عبد المنعم وأحمد فيشقٌ كل سبيله كما 
يرى مستعيذَيْن بحبّها من سطوتها. وقد نجحت منل 
سنوات في حمل زوجها على احترام تقاليد الدين. 
فهارس الرجل الصلاة والصوم واعتادهماء وكان عبد 
المنعم وأحمد قد شبًا على ذلك من قبل» غير أنْ أحمد 
توقف عن أداء الفريضة منذ عامين»: وجعل يتهرّب 
من استحواب أمّه كلما استجوبته أو يتعلل بعذر أو 
بآخر. وكان إبراهيم شوكت يحب ابنيه حبًا جماء 
ويعجب بها أشدّ الإعجاب. وينوّه في كل فرصة 
بنجاحه المتواصل الذي بلغ بعبد المنعم كليّة الحقوق 
وبأحمد حباية المرحلة الثانويّة» وفي ذلك كانت خدمحة 
تقول في مباهاة: 

- كل هذا ثمرة اهتمامي أناء لو ثرك الأمر لك ما 
فلح أحدهما ولا كان له شأن. . . 

وقد ثبت أخخيرًا أنها نسيت مبادئ القراءة والكتابة 
لعدم الاستعال مما جعلها هدفا لسخرية إبراهيم؛ حبّى 
اقترح ابناها أن يذكراها بما نسيت ردًا لجميلها الذي 
تباهي بهء فغضبت قليلًا وضحكت كثيراء ثم لخقّصت 
الحال في كلمة قائلة : 

لا حاجة بامرأة إلى الكتابة والقراءة ما دامت لا 
تكتب رسائل غرام ! 


بدت في أسرتها سعيدة راضية» ولعل شهيّة عبد 


المنعم وأحمد لم تكن تعجبها كثيرّاء كا أن نحافته) 
كانت تغيظها فقالت باستياء : 

- قلت ألف مرة إِنّه يجب أن تغيّرا ريقكما على 
البابونج ليفتح شهيتكماء يجب أن تأكلا جيّدَاء ألا 
تريان أباكما كيف يأكل؟ 

وابتسم الشابئان وعما ينظران نحو أبيهماء فقال 
الرجل : 

- ولماذا لا تضربين المدلل بنفسك» وأنت تأكلين 
كالطاحوئة؟ 

فقالت باسمة : 

- إن أترك لمها الحكم والخيار. 

فقال إبراهيم محتجًا: 

عينك يا شيخة أصابتني! لذلك نصحني الدكتور 
بأن أخلع أسئان . . 

فلاحت في عيليها نظرة رقيقة» وقالت: 

لا تجزع. ستذهب بشرّهاء ولن تشكو ألما بعد 
ذلك إن شاء الله , , , 

وهنا خاطبها أحمد قائلا: 

- جارنا ساكن الدور الثاني يرجو أن يؤْجّل دفع 
الأجرة حي الشهر القادم. قابلني على السلّم فرجاني 
في ذلك! 

فسألته وهي تنظر إليه مقطبة : 

- وماذا قلت له؟ 

- وعدته بأن أحدث أبي. . . 

وهل حدَّنت أباك؟ 

ها أنا أحدّثئك أنت! 

- إِنّنا لا نشاركه في شقّته فلا يجوز له أن يشاركنا في 
رزقناء ولو تساهلنا معه لتبعه ساكن الدور الأول» 
أنت لا تعرف الناس فلا تتدخل فيا لا يعليك. . . 

فنظر أحمد إلى أبيه متسائلا : 

ما رأيك يا بابا؟ 

فابتسم إبراهيم شوكت قائلا : 

- في عرضك لا تصدع دماغي, عندك أمفك. , , 

فعاد أحمد إلى أمّه قائلا. 

- إذا تساهلنا مع رجل مزئوق فلن نجوع. . . 

فقالت نعديجة بامتعاض: 


لقشد حدثتني زوجه وأصثلت لها الدفع فليرتئح 
بالك. ولكيٌ أفهمتها أنْ أجرة المسكن واجبة 
كمصروفات الأكل والشربء أفي ذلك خطاأ؟. إني 
ألام أحيانًا لأني لم أتخذ من جاراتي صديقات؛ ولكن 
من يعرف الناس يحمد الله على الوحدة. . 

فعاد أحمد يتساءل وهو يغمز بعيئه : 

وهل نحن خخير الناس؟ 

فعبست شخدنجة قائلة : 

نعمء إلا إذا كان لك في تفسك رأي آخرا 

فقال عبد المنعم : 

رأيه في نفسه أنه خير الئاس جميعًاء لا رأي إلا 
رأيه» والحكمة موقوفة على رأسه! 

ومن رأيه أيضًا أن يستاجر الناس البيوت دون 
دفع أجرتها! 

فقال عبد المنعم اضيةا: 

- إِنّه غير مقتنع بأنّه من حقٌ بعض الناس أن يملكوا 
بيونًا على الإطلاق. . . 

فقالت خديجة وهي تبز رأسها: 

يا عيني على الرأي الفقرئ. . . 

وحدج أحمد أخاه بنظرة غاضبة؛ فهر عبد الملعم 
منكبيه باستهانة وهو يقول: 

راجع نفسك قبل أن تغضب. . 

فثال أحمد محتجا: 

يحسن با ألا نتناقش معًا! 

ديل لتك عقاوو 

- إِنْك أكبر مث بعام لا أكثر. . . 

أكبر منك بيوم يعرف أكثر ملك بسنة. . . 

هذا المثل لا أومن به! 


«اتمن لا حلي الاكتيز واعده بعر نابر 1 


الصلاة معي ٠.‏ .. 
فهرّت خخديجة رأسها بأسف وهي تقول: 


صدق أخوك, الئاس تكير تعقل أمَا أنت فأعوذ 
بالله ميك حيّ أبوك صلَى وصامء فكيف فعلت 


بنشسك ما فعلت؟ . إن أتساءل ليل نهار! 
فقال عيد المنعم بصوت قفوي شذيد الْثْقَة بنفسه : 


السكرية 41م 


- بالصراحة إن رأسه يحتاج إلى تطهير من 
الداخل. . . 

- إنه. , 

- اسمعي , هذا الشاتٌ لا دين له هذا ما بت 
أعتقده , . . 

فلوح أحمد بيده كالغاضب.» وهتف متسائلا: 

- من أين لك الحقٌ في الحكم على القلوب؟ 

- الأفعال تنم عن السرائر (ثُمم وهو يداري ابتسامة) 
يا عدو الله ! 

فقال إبراهيم شوكت دون أن يخرج من هدوئه 
وطمأنينته : 

- لا تتهم أخحاك ظلعا. 

وقالت نخديجة مخاطبة عبد المنعم وهي تلحظ أحمد: 

لا تسلب أنخخاك أعرّ ما يملك الإنسان» كيف لا 
كو سن كاه 50ل كتنهم الا معي إل العياه 
ليكونوا من رجال الدين» وكان جدّه من صميم رجال 
الأو القن :81 1 تركذ ]امن كحولنا ساون ويستدون 
كأننا في جامع ! 

فقال أحمد متهكم): 

مثل خالي ياسين . . . ! 

وندّت عن إبراهيم شوكت ضحكةء فقالت ختديحجة 
متظاهرة بالغضب : 

تكلّم عن نخالك بأدب. ماله؟ قلبه عامر بالإيمان 
وربنا بديهء انظر إلى جذك وجذتك. 

وال قزل؟ 

خالك كيال من محاسيب الحسين. أنت لا تدري 

تعن النانى لا درون اوه 

فسأله عيد المنعم عتدًا : 

- لو كان الئاس حميعًا مهملين في دينبم. فهل يشفع 
لك ذلك؟ 

فقال أحمد في هدوء: 

على أيّ حال اطمكنٌ فلن تؤحذ يومًا بذنبي ! 

وهنا قال إبراهيم شوكت: ظ 

كفاكيا خصامًاء نفسى أراكها كرضوان ابن 
خالكي. . . ْ 


السكرية 

فحدجته خديجة بنظرة استياء. كأنما عر عليها أن 
يعد رضوان خيرًا من ابنيهاء فقال إبراهيم موضحًا 
رأيه : 

هذا الشاب على صلة بكبار الساسة» شاتٌ 
ذكيّ» وقد ضمن بذلك مستقبلا باهرًا. . . 

افقالت حديجة غاضبة : 

- لسث من رأيك. رضوان شابٌ سيرء اللحظع 
ككل شاتٌ يحرمه سوء الحظ من رعاية أمّه» وزئوبة 
«هانم» لا تهتمٌ في الواقع بأمره. أنا لا أنخدع بحسن 
مغاناتها لدانيةه ياف كسابة "الاتفلي ذلك لا 
بقرّ للمسكين قرارء وأكثر أيّامه يبيتها ارج بيتهء أما 
صلته بالكبراء فلا معنى هاء إنه طالب مع عبد المنعم 
في سنة واحدة» فا معنبى هذا التداخل الخطير؟ أنت لا 
تعرف كيف تضرس الأمثال. . . 

فرمقها إبراهيم بنظرة كأما يقول لما: «لا يمكن أن 
تقرّيني على رأي»» ثم قال مواصلا إيضاح رأيه : 

- ليس الشبّان اليوم كبا كانوا في الزمن الماضفي. 
السياسة غيّرت كل شيء» فكلُ كبير له مريدوه منهم. 
والطموح الذي يريد أن يشق سبيله في الحياة لا بد له 
من كبير يرجع إليه إِنْ مكانة والدك الكبيرة تقوم على 
اتصالاته الوثيقة بالكبراء! 

فقالت خخديجة بكبرياء: 

- أبي يسعى الناس إلى التعرف به ولا يسعى هو إلى 
أحدء أمّا عن السياسة فأبنائي لا شأن لهم بهاء لو 
أتيح لما أن يريا خالهها الشهيد لأدركا من نفسيهما معنى 
كلامي. بين يحيا فلان ويسقط فلان يبلك أبناء 
الناس. ولو عاش المرحوم 57 لكان من أكير القضاة 
البومه..... 
فقال عبد المنعم : 

- لكل طريقته» نحن لا نقلّد أحدّاء ولو أردنا أن 
نكون كرضوان لكنا, . , 

فقالت خدنحة: 

06سط5ه5كظ 

وقال له أبوه باسما: 

- أنت كأمك. وكلاكا لا تساويان شيكًا, , . 

ودفٌ الباب» فجاءت الخادم تؤذن بقدوم الجمارة 


الساكنة في الدور الأؤل» فقالت خديجة وهي هم 
بالقيام : 

ماذا تريد يا ترى؟. .. إن كان في الأمر تأجيل 
دفع أجرة فلن يفصل بيننا إلا قسم الجحاليّة! . 


١١ 


كان الموسكي شديد الزحام. اكتظ بأهله وما 
أكثرهم فضلا عا استجدٌ عليه ذلك اليوم من تيّارات 
نشرية تذفقت» من نالنة العقنة : «وكانت سمس إبريل 
الصافية تقذف طباء فشقٌ عبد المنعم وأحمد سبيلها في 
جهد غير يسير وهما يتصيبان عرقا, وقال أحمد وهو 
بتأبط ذراع أيه : 

- حذثني عن شعورك. . . 

فتفكر عبد المنعم قليلًا. ثم راح يقول: 

- لا أدري» الموت رهيب. فا بالك يموت ملك؛ 
وكان طريق الحنازة مكتطا بالناس بصورة لم أشهدها 
من قبل» أنا لم أشهد جنازة سعد زغلول حيّى أستطيع 
المقارنة بين الحنازتين» ولكن يبدو لي أنْ أكثر الناس 
كان متأثْرًا على نحو ماء وبعض النساء يبكين. نحن 
المصرين قوم عاطفيُون. . . 

- لكي أسألك عن شعورك أنت؟ 

فعاد عبد المنعم يفكّر وهو يتفادى من الارتطام 
بالناس» ثم قال: 

م أكن أحبه. وهذا اعتنقناه جميعًا فأنا لم أحزن. 
ولكتني ل أَسَرَ كذلك» تابعت النعش بعين من لا قلب 
له لا له ولا عليهء غير أنْ فكرة الجبّار في النعش 
أثرت ف لا يمكن أن يمر منظر كهذا دون أن يؤثّر ف 
لله الملك جميعاء هوالح الباقي فليت الناس 
يعلمون. غير أنه لو ماث الملك قبل أن تتغيّر الحالة 
السياسيّة التى كانت قائمة لزغرد كثيرون وكثيرون 
5 وك نا ل 

- أنا لا أحبّ الطغاة أيّا كانت الحالة السياسيّة! . 

- هذا حسن» ولكن منظر الموت؟ | 

عؤلة اخة الروناشكة الريفية 

فتساءل عبد المنعم في ضجر: 


أشررت إذن؟ 

- تمثيت أن يمتدّ بي العمر حبّى أرى العالم وقد 
خلص من كافة الطغاة على اختلاف أمسمائهم 
وأوصافهم. . . 

وسكتا قليلا وكان التعب قد نال منهها كل منال» ثم 
عاد أحمد يتساءل : 

- وماذا عا بعد ذلك؟ . 

فقال عبد المنعم بلهجة اليقين التى اشتهر ببا: 

فاروق غلام: ليسن له دهاء أبيه ولا نابه الأزرق» 
فإِدذا سارت الأمور سيرًا حسناء فنجحت المفاوضات» 
وعاد الوفد إلى الحكمء فسوف تستقرٌ الأمور وينقضي 
عهد المؤامرات. . . المستقبل حسن فيا يبدو. . . 

والانجلير؟ 

إذا نجحت المفاوضات انقلب الالجليز أصدقاء. 
وبالتالي ينقطع التحالف القائم بين السراي والإنجليز 
ضدٌ الشعب. فلا يجد الملك بذا من احترام الدستور. 

- الوفد خخير من غيره ., . . 

- بلا شكّء إنه لم يحكم طويلًا حّى يعرف مدى 
قدرته» وقريبًا تكشف التجربة عن إمكانيّاته الحقيقية 
إن أوافقك على أنه خير من غيرهء ولكنّْ طموحنا لن 
يقفا علده!] , 

- طبعًاء إني أومن بِأنْ حكم الوفد نقطة ابتداء 
حسنة لتطوّر أعظم. وهذا كلّ ما هنالك. ولكن هل 
نتّفق مع الإنجليز حمًا؟ 

ما الاثفاق وإمًا العودة إلى حكم صدقى.2 في 
أمتنا احتياطن من الخونة لا ينشدء كل مهمّته دائ 
تأديب الوفد إذا قال للإنجليز «لا»» وإنهم لفي 
الانتظار.» هذه هي المأساة. , 

وعندما بلغا السككة الجديدة وجدا نفسيهها فجأة 
أمام جدّهما أحمد عبد الحواد الذي كان متّجهًا صوب 
الصاغة. فتقدّما إليه وسلّم) عليه بإجلال» فسأهما 
باسم] : 

- من أين وإلى أين؟ . 

فقال عبد المنعم : 

- كنا نتفرّج على جنازة الملك فؤاد. . . 

فقال الرجل دون أن تفارق الابتسامة شفتيه : 


السكرية 44م 


- سعيكها مشكور! 

نم صافحهها ومفى كل إلى حال سبيله» وأتبعه 
أحمد نظره قليلا. ثم قال: 

جدّنا ظريف وأنيق» لقد ملا أنفي شذًا طيبًا. . . 

- نينة تروي عن جيروته الأعاجيب. . . 

لا أظنه جباراء هذا شىء لا يصدّق, 

فضحك عبد المنعم قائلا : 

- إن الملك فؤاد نفسه بدا في أواخر عهده لطيثًا 

وضحكا معًا. ومضيا إلى قهوة أحمد عبده. وفي 
الحسجرة المواجهة للنافورة رأى أحمد شيحًا مرسل اللحية 
حادٌ البصر يتوسّط جمعًا من الشبّان يتطلّعون إليه في 
اهتيام ) فتوقف وهو يقول لأخيه: 

- الشبخ علٍّ المنوفي صديقك» أخرجت الأرض 
أتقالهاء ينبغي أن أتركك هنا. . . 

فقال عبد المتعم : 

تعال اجلس معناء أحبٌ أن تجالسه وتسمع له 
ناقشه كيفما شثت. كثير ممن حوله من طلبة 
لكافعة م 
فقال أحمد وهو يخلص ذراعه من ذراع أخيه: 

لاا يا عم. كدت مرة أشتبك معه في عراكء أنا لا 
أحبٌ المتعصّبين» مع السلامة. . . 

فحدجه عبد المنعم بنظرة انتقادء ثم قال بحدّة: 

مع السلامةع ربنا سديك , . , 

وأقبل عبد المنعم على مجلس الشيخ عل المنوني ناظر 
مدرسة الحسين الأوليّة» فنبض الرجل لاستقباله - وقد 
بض معه جميع الجلوس حوله - وتعانقا. ثم جلس 
الشيخ وجلسوا وهو يتساءل متفخصًا عبد المنعم بعيئيه 
الحاذتين : 

- لم نرك أمس؟ . . 

المذاكرة , . . 

الاجتهاد عذر مقبولء وما لآخيك قد تركك 
وذهب؟. 

فابتسم عبد المنعم ولم يجب. فقال الشيخ على 
المنوق : 


- ربنا اهادي لا تعدجوا لهء لقد صادفب مرشدنا 


:6 السكرية 
كثيرين من أمثاله هم اليوم من أشدٌ المخلصين 
لدعوته؛ ذلك أن الله إذا أراد لقوم هداية فلن يكون 
للشيطان عليهم من سلطان؛ ونحن جنود الله ننشر 
ثوره؛ وتجارب عدو وهينا أرواحنا له من دون 
الناس. فا أسعدكم جنود الله. . . 

وقال أحد الخالسين: 

- ولكنٌ مملكة الشيطان كبيرة! 

فقال الشيخ عل المنوفي معاتيًا : 

- انظروا إلى من يخاف دنيا الشيطان والله معه!. 
ماذا نقول له؟. نحن مع الله والله معنا فهاذا نخاف؟ . 
من من جنود الأرض يتمتع بقوتكم؟ وأيّ سلاح أحدّ 
من سلاحكم؟ . الإنجليز والفرنسيُون والآلمان والطليان 
جل اعتمادهم على الحضارة الماديّة أما أنتم فاعتمادكم 
على الإيمان الصادق, إِنْ الايمان يفل الحديد, الايمان 
أقوى قوة في العالم, املأوا قلربكم الطاهرة بالاريمان 
لفن الانا كور 

فقال آخخر: 

- نحن مؤمئون؛» ولكدّنا أمة ضعيفة . 

فكور الشيخ قبضته وشدّ عليها وهو يبتف: 

- إذا كنت تستشعر ضعفا فإيمانك يعتوره نقص 
وأنت لا تدريء الإيمان حالق القوّة وباعثهاء إن 
القنابل تصنعها أيدٍ كأيدينا وهي ثمرة القوّة قبل أن 
تكون من مسبّباتماء كيف انتصر النبيّ على أهل 
الجزيرة؟. وكيف قهر العرب العالم كلّه؟ , 

فقال عبد المنعم بحراسة : 

الإيمان. . . الإيمان, . . 

غير أن صونًا رابعًا تساءل: 

- ولكن كيف كان للإنجليز هُدْه القوة وهم قوم غير 
مؤمنين؟ 

فابتسم الشيخ متخللا لحيته بأصابعه وهو يقول: 

- لكل قوي إيمانه. إِنْم يؤسون بالوطن 
وبالمصلحة, أما الإيمان بالله فهو فوق كل شيء. 
وأحرى بالمؤمنين بالله أن يكونوا أقوى من المؤمنين 
بالحياة الدنياء فتحت أيدينا نحن المسلمين ذخيرة 
مدفونة يجب أن نستخرجها. يجب أن يُبعث الإسلام 
كما بعث أوْل مرّة. نحن مسلمون اس فيجب أن 


نكون مسلمين فعلاء لقد منّ الله علينا بكتابه 
فتجاهلناه فحمّت الذلّة عليناء فلنعد إلى الكتاسء هذا 
هو شعارناء العودة إلى القرآن» بذلك نادى المرشد في 
الإسماعيلية؛ ومن ساعتها ودعوته تسري في الأرواح. 
غازية القرى والدساكر حت ثملاً القلوب جميعا. . . 

- ولكن أليس من الحكمة أن نتجئّب السياسة؟ 

- الدين هو العقيدة والشريعة والسياسة, إن الله 
أرحم من أن يترك أخطر الأمور الإنسانيّة دون تشريع 
وتوجيهء وهذا في الواقع هو درسنا الليلة. . . 

كان الشيخ شديد الحماسة» وكانت طريقته أن يقرّر 
حقيقة ماء ثم تدور حوفا المناقشات ما بين أسئلة من 
مريديه وأجوبة عليها منه. يقوم أكثرها على الاستشهاد 
بالقرآن والحديث. وكان يتحدّث وكأنه يخطبء. أو 
كأئه يخطب الخالسين في القهوة جميعًا. فسمعه أحمد 
وهو جالس في أقمى المكان. يحتسى الشاي الأخضر. 
وعل شفتيه ابتسامة ساخرة. وكان يقيس الشقة بيئه 
وبين هذه المجموعة المتحمّسة في عجب. ويجد نحوها 
ازدراء وغضباء وثار به التحدّي مرّة فهمٌ بأن يطلب 
من الشيخ أن يخفض من صوته حي لا يعكر على رواد 
القهوة صفاء راحتهم. ولكنّه عدل عنًا هم به في 
اللحظة التي تذكر وجود أخيه بيهم. وأخيرًا لم يجد بدا 
من مغادرة القهوة» فقام ساخخطا وغادرها. . . 


١ 

عاد عبد المنعم إلى السكريّة حوالى الثامئة مساء. 

وكان الجو سكت حنقه فيال إلى اللطافة وشاعت فيه 
رقة الربيع. كان الدرس ما يزال يكبر في رأسه ويتردّد 
في قلبه. ولكن أعياه الجهد والفكر. وعَبّر حوش البيت 
في ظلام دامس ثم انمه إلى السلّم. وفي تلك اللحظة 
فتح باب الدور الأول. وعلى الضوء المنبعث من داخل 
الشقة رأى شبحًا يتسلل إلى الخارج ثم أغلق الباب 
وراءه وسبقه إلى المع وحفق قلبه وجرى دمه حارًا 
كحشرة هيجها القيظ. رآها في الظلام تنتظر عند أوّل 
بسطة وتتطلع نحوه فتطلّع نحوهاء ولم يتحول عنها 
رأفنة: وعجب كيف يستغفل الصغار الكبارء فهذه 
الصغيرة غادرت بيتها بحبّة زيارة الجيران» وسوف 


تزور الجيران» ولكن بعد خوض مغامرة خطيرة فوق 
بسطة السيلع المبحكة في الظلام . ولتوه وجد رأسه 
فارعًاء تبحر ما كان يصطرع فيه من أفكار وتطاير, 
وتركر هو في رغبة واحدة هي أن يشبع النبم الذي 
بات يؤرّق أعصابه وأعضاءه. أمّا ذلك الإيمان الصادق 
فيبدو أنه ولّ غاضبًاء أو غاص في الأعباق يدمدم 
حانقًا ولكنّ صوته ضاع في أزيز النار المستعرة. أليست 
هي فتاته؟. بلىء تشهد بذلك حنايا الحسوش وبثر 
السلّم وركن السطح المطلّ على السكريّة. وكانت بلا 
ريب ترقب عودته لتلتقي به في اللحظة المناسبة. كل 
هذا العناء من أجله هوا. ومضى متعججلا حذرًا حت 
وقف إزاءها على البسطة» لا يكاد يفصل بيمها ثشيء. 
وقد سطع أنفه شذا شعرهاء ودغدمُ علقه ترذد 
أنفاسها. وريّت منكبها برقة هامسًا: 

نصعد إلى البسطة الثانية فنكون في موضع: آمن 
نا 

تقدّمته دون أن تنبس فتبعها محاذرًا. وبلغا البسطة 
الثانية فيه بين الدورين. فوقفت مستندة إلى الجدار 
ووقف بين يديباء ثم أحاطها بذراعيه فقاومته بحكم 
العادة مقدار ثانية ثُمّ سكنت في حضنه. . . 

انتظرتك في النافذة» نيئة مشغولة باستعدادات 
ا 

د كل «شئة :ولك طيينة» دعيني أشْم النسيم بين 

والتقت شفتاهما في قبلة طويلة جائعة. ثم 
تساءلت : 

أين كنت؟ 

ذكر في سرعة سخاطفة درس السياسة في الإسلام: 
ولكنّه أجاب : 

مع بعض الأصدقاء في القهوة. . . 

قالت بلهجة تشى بالاحتجاج : 

القهوة ولم يبقّ على الامتحان إلا شهر؟ 

ولكيّى أعرف واجبي. سأقبّلك قبلة ثانية جزاء 
سو سكلف ب 

صوتك عال» أنسيت أين نحن؟ 


السكرية اهم 

- نحن في بيتشاء في غرفتناء هذه البسطة هي 
غرفتنا! . 

- العصر وأنا ذاهبة إلى خالتي نظرت إلى فوق لعل 
أراك في النافذة, فإذا بوالدتك تطلّ على الحارة فاليقت 
عيني بعينها فارتعدت من الخوف . 

ماذا خحفت؟ 

- خيّل إل أثها عرفت عمّن أبحث وأنْها كشفت 
سراي . . 

- تعئين سرناء إنّْه شىء واحد يربطناء ألسنا الآن 
شيئًا واحدًا؟ ْ 

وضمها إلى صدره بعنف في رغبة جامحة. وفي 
الوقت نفسه كأئما كان يجلٌ هاربًا من أصوات المعارضة 
الخافتة في أعماقه باسسلام يائس. فلفحته نيران 
متأججة» واحتوته قوة قادرة على إذابة اثنين في دوامة 
واحدة. . 

وندٌ عن الصمت تنهيدة ثم ثردّد أنفاس» وشعر 
أخيرًا بأنّه هو وأئها هي وأنّ الظلام يضم شبحين. ثم 
جاءه همسها الرقيق يقول في استحياء : 

نتقابل غدًا؟ . 

فردٌ في امتعاض حاول ما استطاع التسثّر عليه: 

تعما.ااء لعمء ستعلمين في ححيئه. . . 

أخيرني الآن. . . 

فقال والامتعاض يزداد ثقلا على قلبه: 

لا أدري كيف يكون وقتي غذدًا! 

له؟, . 

اذهبى بالسلامة. ييف صير نا 

كلك أضوت هئاك, . , 

لا ينبغي أن يجدنا أحد هكذا. . . 

وربّت كتفها كأنما يرت خرقة ملوثة» وتخلص من 
ذراعيها في رقّة مفتعلة ثمّ رقي في السلم على عجل . 
كان والداه جالسين في الصالة يستمعان إلى الراديو» 
وكانت حجرة المكتب مغلقة الباب مضاءة الشراعة ثما 


ان سا ابن 


دل عل أن أحمد يذاكر فحياهما محية المساء وقصد 
سحجرة النوم ليخلع ماللا سه . واستحمع وتوضأء وعاد 
إلى حجرته فصلل ثم تربع عل سجادة الصلاة وراح 
في تال عميق. كانت عيناه ترنوان بنظرة حزينة, 


7 السكرية 


وكان صدره يضطرم شَجنًاء وهلّت نفسه إلى البكاء. 
ودعا ربه أن يطرد الشيطان عن سبيله وأن يشدٌ أزره 
في مقاومة الغواية. ذلك الشيطان الذى يعترضه في 
صورة فتاة ويندفع في دمه رغبة جامحة. ودائم) أبدًا 
يغول عقله لا فيقول قلبه نعمء ثم يتلقفه ذلك الصراع 
الملخيف الذي ينتهي بالهزيمة والندم . 0 يوم تجربة 
وكلّ تجربة جحيم فمتى ينقضي هُذا العذاب؟1., إنَّ 
نضاله الروحي كله مهدّد بالخراب وكأنما يبني قصورًا 
في الهواء ولن يقرٌ قرار لغارق في الطين. فليت الندم 
يستطيع أن يرجع ساعة مضت. 


١ 


أخيرًا اهتدى أحمد إبراهيم شوكت إلى مبنى مجلة 
«الإنسان الجديد»؛ بغمرة. كان المبنى يقع في مكان 
وسط بين محطت الترام» وكان مكوّنًا من دورين 
وبدروم» فأدرك لأول وهلة أن الدور الأعلى مسكن كا 
استدل من الغسيل المعلّق في شرفتهء أمّا الدور الأوّل 
نقد ثبتت لافتة باسم المجلة على بابهء وأمًا البدروم 
فقد خصّص للمطبعة التي رأى آلاتها خلل قضبان 
النوافذ. وصعد درجات أربعًا إلى الدور الأؤل. ثم 
سأل أوّل من التقى به وكان عاملا يحمل بروفات ‏ 
عن الأستاذ عدلي كريم صاحب المجلة فأشار الرجل 
إلى باب مغلق في مماية صالة خالية من الأثاث حيث 
تراءت لافتة رئيس التحريرء فمضى وهو يتلقت فيا 
حواليه علّه يجد حاجبًا ولكنه ألفى نفسه مثفردًا بالباب 
فترؤّد لحظة ثم طرق برقة حيّى جاءه صوت من الداخل 
يقول «ادخل» ففتح الباب ودحل » فالتقت عيناه في 
نباية الصالة بعيئين واسعتين تحدّقان به متسائلتين من 
نحت حاجبين كثيفين أشيبين» فردٌ الباب وراءه وقال 
بصوت المعتذر: 

3 مُؤْاخذَة دقيقة واحلة , , . 

فقال الرجل بصوت رقيق : 

- تفضل , . 

وتقدّم أحمد من مكتب كُدّست فوقه الكتب 
والأوراق» ثم سلم على الأستاذ الذي قام لاستقباله. 


ثم جلس بعد أن جلس الرجل وأذن له في الجلوس . 
شعر بالارتياح والزهو وهو يرنو إلى الأستاذ الكبير الذي 
تلقّى عنه النور والعرفان في الأعوام الثلاثة الماضية. 
سواء عن مؤلّفاته أم مجلته» فراح يملا عينيه من الوجه 
الشاحب الذي وخط الشيب شعره وعلاه الكبر فلم 
يبق له من أمارات الفتوة إلا عيئان عميقتان تشْعَان 
بريقًا نقَاذًا. هذا أستاذه» أو أبوه الروحيم كا يدعوف 
وإنّه الآن في حجرة الوحي التى لا جدران لا ولكنٌّ 
رفوف الكتب تمتدٌ عاليًا حيّ السقف. 

وقال الأستاذ بلهجة المتسائل : 

أهلا وسهلا؟ 

فقال أحمد بلباقة : 

حشت لأسدد الاشتراك . 

ولا اطمأن إلى الأثر الطيّب الذي أحدثه قوله 
استدرك قائلا : 

- وأسآل عن مصير مقالة أرسلتها إلى المجلّة من 
أسموغين: 

فابتسم الأستاذ عدلي كريم وهو يتساءل: 

اسم حضرتك؟ 

أحمد إبراهيم شوكت. 

فارنسمث على جبين الأستاذ تقطيبة التذكر ثم قال: 

- إفي أذكركء أنت أوْل مشترك في محلتي؛ نعم. 
وجئتني بثلاثة مشتركين. هه؟ إني أذكر اسم شوكت, 
وأظنني أرسلت لك خطاب شكر باسم المجلّة؟ 

فقال أحمد بارتياح ممتنا لمذا التذكر الجميل : 

- جاءني كتاب حضرتكء. اعتبرتني فيه «صديق 
المجلّة الأؤّل»! , 

هذا حقٌء إِنْ مجلة الإنسان الجديد ملّة مبد] ولا 
بذ ها من أصدقاء مؤمنين لتشقّ طريقها في زحمة 
بحلات الصور والاحتكار؛ فأنت صديق المجلّة, آمك 
وسهلاء ولكنك لم تشرفنا بالزيارة من قبل؟ 

- كلاء إن لم آذ البكالوريا إلا في هذا الشهر. 

فضحك الأستاذ عدلي كريم قائلًا: 

- أنت فاهم أن المجلة لا يزورها إِلّا الحاصل على 
البكالوريا؟! 

فابشسم أحمد في ارتباك وقال: 


كلا طبعاء أعني أفي كنت صغيرًا. 

فقال الأستاذ جادًا : 

- لا يليق بقارئ الإنسان الجديد أن يحسب العمر 
بالسنين» في بلادنا شيوخ جاوزوا السنّين ولكتهم ما 
زالوا شبّانا بعقولهم. وفيها شبّان في ربيع العمر ولكنّهم 
معمّرون ‏ منذ آلف سنة أو أكثر- بعقوهمء وهْذا هو 
داء الشرق... (ثمٌّ بلهجة أرق) وهل أرسلت إلينا 
مقاللات من قبل؟ 

ثلاث مقالات كان مصيرها الإهمال, ثم مقالة 
أخيرة كنت أطمع في نشرها!. 

عن ماذ!؟., لا تؤاخمذني فإني أتلقّى عشرات 
المقالات يوميًا؟ 

- عن رأي لوبون في التعليم وتعليقي عليه! 

على أيّ حال ستبحث عنها في السكرتارية ‏ 
السجرة المجاورة حجرت - وتعلم بمصيرها. . . 

وهم أحمد بالقيام ولَكنّ الأستاذ علي أشار إليه 
بالااستمرار في الجلوس وهو يقول: 

المجلة اليوم في شبه إجازة» أرجو أن تمكث معي 

فتمتم أحمد بارتياح عميق : 

- بكلّ سرور يا فندم . 

قلت إِنْك أخذت البكالوريا هذا العام؛ كم 
سِنّْك؟ 

- ستّة عشر عأما , 

سن مبككرة» حسنء» هل المجلة منتشرة في 
المدارس الثانويّة؟ , 

كلا للأسف. . 

أعلم هذاء أكثرية قرّائنا في الجامعة. القراءة في 
مصر ملهاة رخيصة:, ولن نتطوّر حي نؤمن بن القراءة 
ضرورة حيوية. 

ثم بعد قليل من الصمث: 

وما حال التلاميل؟ 

فنظر إليه أحمد متسائلًا كأئما يستزيده تفسيرًا لقوله. 
فقال الرجل : 

- إني أسأل عن الناحية السياسيّة باعتبارها أوضح 
من غيرها. . . 


السكرية هم 

الأغلبية الساحقة من التلاميذ وفديُون. . . 

- ولكن ثمّة كلام عن حركات جديدة؟ 

مصر الفتاة؟. . . لا وزن لماء فرقة تعد على 
الأصابع» الأحزاب الأخرى لا أنصار لما إلا أقارب 
زعائهاء وهناك قلّة لا تتم بشئون الأحزاب كافة. 
وآخرون - وأنا منهم ‏ نفضّل الوفد على غيره ولكنّنا 
نطمع فيا هو أكمل. . . 

فقال الرجل بارتياح : 

- هذا ما أسأل عنه. الوفد حزب الشعب» وهو 
خطرة تطورية خطيرة وطبيعيّة ني أن واحد. كان 
الحزب الوطنيّ حزبًا تركيًا ديئيًا رجعيّاء أمَا الوفد فهو 
مبلور القومية المصرية ومطهّرها من الشوائب 
والخبائث. إلى أنّه مدرسة الوطنيّة والديمقراطيّة» ولكن 
المسألة أنْ الوطن لا يقنع وما ينبغي له أن يقنع بهذه 
المدرسة» نريد مرحلة جديدة من التطورء نريد مدرسة 
اجتاعيّة. لأنْ الاستقلال ليس بالغاية الأخيرةء ولكنّه 
الوسيلة لنيل حقوق الشعب الدستورية والاقتصادية 
والأنماتة. 

فهتف أحمد بحياس : 

ما أجمل هذا الكلام! 

- ولكن ينبغي أن يكون الوفد نقطة البدءء آم 
مصر الفتاة فحركة فاشستية رجعية مجرمة. ليسث دون 
الرجعيّة الدينيّة خطرًا وهي ليست إلا صدى للعسكريّة 
الألمانية والويطاليّة التي تعبد القوة وتقوم على الاستبداد 
وتزري بالقيم الإنسانيّة والكرامة البشريّة» إن الرجعية 
داء مستوطن في الشرق كالكوليرا والتيفود فينبغي 
استتصاله . . , 

فعاد أحمد يقول متتحمسا: 

إِنْ جماعة «الإنسان الجديد» تؤمن ببذا كل 
الإيمان. . . 

فهر الرجل رأسه الكبير في أسف وهو يقول: 

- ولذلك فالمجلّة هدف للرجعيّين من كافة النحل» 
إنهم يرمونني بإفساد الشباب! 

كها اتهموا سقراط من قبل . . . 

فابتسم الأستاذ عدلي كريم ئِ ارتياح وقال: 

- وما وجهتك؟ أعني أي كليّة تتصد؟ 


14 السكرية 


الا ة الا : 

فاعتدل الأستاذ في جلسته. وقال: 

الأدب وسيلة من وسائل التحرير الكبرى» ولكنْه 
قد يكون وسيلة للرجعية. فاعرف سبيلك». فمن 
الأزهر ودار العلوم خرجت آداب مرْفضِية عملت 
أجيالا على تجميد العقل وقتل الروح؛ ومهما يكن من 
أمر ‏ ولا تدهش أن يصارحك بهذا الراي رجل معدود 
في الأدباء ‏ فالعلم أساس الحياة الحديثة» ينبغي أن 
ندرس العلوم وأن نشبع بالعقليّة العملية؛ الجاهل 
بالعلم ليس من سكان القرن العشرين ولو كان 
عبقريّاء وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه. لم يعد 
العلم وقمًا على العلماء» أجل لؤلاء التضلع والتعمّق 
والبحث والكشف. ولكن على كل مثقّف أن يضيء 
نفسه بلوره وأن يعتنق مبادئه ومناهجه ويتحلى 
باسلوبه؛ ينبغي أن يحل العلم محل الكهانة والدين في 
العالم القديم . 0 

فقال أحمد مؤمّنا على قول أستاذه : 

- ولذلك كانت رسالة «الإنسان الجديد» هي تطوير 
المجتمع على أساس علميٌ. . . 

فقال عدلي كريم باهتمام : 

- أجل على كل منّا أن يقوم بواجبهء ولو وجد 
وحيدًا في الميدان. . . 

فهر أحمد رأسه موائقًا فعاد الآخر يقول: 

ادرس الآداب كا تشاءء واعنّ بعقلك أكثر ما 
تعني بالمحفوظات» ولا تنس العِلّم الحديث؛, ولا يجب 
أن تخلو مكتبتك ‏ إلى جانب شكسبير وشوبنبور- من 
كونت ودارون وفرويد وماركس وإنجلزء لتكون لك 
حماسة أهل الدين ولكن ينبغي أن تذكر أن لكل عصر 
أنبياءه وأنْ أنبياء هذا العصر هم العلماء. 

وابتسم الأستاذ ابتسامة أوحت بأئْها تحية الختام 
فيض أحمد ماذًا يذه وسلّم لم غادر الحجرة ممتلمًا 
حياة وسعادة. وفي الصالة الخارجيّة ذكر الاشتراك 
والمقالة فال إلى الحجرة المجاورة» وطرق الباب 
مستأذنًا ثمّ دحل. رأى حجرة بها ثلاثة مكاتب» اثنان 
خاليان والثالث جلست عليه فتاة. لم يكن يتوقع هذا 
فوقف ينظر إليها في حيرة وتساؤل. كانت في 


العشرين» عميقة السمرة؛ سوداء العينين والشعرء 
وكان في أنفها الدقيق وذقنها المدبئب وفمها الرقيق ما 
يوحي بالقوة» دون أن يفسد ملاحتها. ساءلت وهي 
تتفشخصه : 

- أفندم؟ 

فقال يعرّز مركزه : 

الاق الف 

ودفع المبلغ وأخذ الإيصال. وفي أثناء ذلك كان قد 
تغلب على ارتباكه فقال: 

كنت قد أرسلت مقالة إلى المجلة» وأخبرني 
الأستاذ عدلي كريم بأثها في السكرتارية , 

وهنا دعته للجلوس على كرسي أمام المكتب فجلس 
ثم شالت: 

عئوان المقالة من فضلك؟ 

قال دون أن يشعر بارتياح لوقفه هذا أمام فتأة : 

- التعليم عند لوبون. 

ففتحت دوسيهاء وثَرّتْ أورافًا حي استخرجت 
المقال. ولمح أحمد خطه فخفق قلبه» وحاول أن يقرأ 
التوقيع الأحمر عليه من مجلسه غير أئّها وفرت عليه عناء 
المحاولة إذ قالت: 

- موقع عليه بما يأ «يلخص ويُنشّر في باب رسائل 
القراء» . 

فشعر أحمد بخيبة أمل. ولبث لحظات ينظر إليها 
دون أن ينبس» ثم تساءل: 

3 2 عدد؟ 

بي العدد القادم . 

فسأل بعد تردّد: 

- ومّن الذي يلخصه؟ 

أنا. [ 

وداخله شعور بالامتعافيىء ولكنّه سأل : 

- وبوقم عليه باسمي؟ 

فقالت ضاحكة : 

- طبعاء ينشر عادة ما يفيد بأنه جاءتنا رسالة من 
الأديب (ثم وهي تنظر إلى الإمضاء) أحمد إبراهيم 


شوكت ثم ورد 1 تلخيصًا وافيًا لفكرتك ! 


فترذد قليل لم قال : 


- كنت أفضّل لو نُشرت بأكملها. . . 

فقالت باسمة : 

المرّة القادمة إن شاء الله . . . 

فجعل ينظر إليها صامتًا ثم سألا : 

حضرتك موظفة هنا؟ 

كما تراني] 

نازعته نفسه أن يسألها عن مَؤمّْلاتها ولكنّ شجاعته 
حذلته في اللحظة الأخيرة فساها: 

- اسم حضرتك من فضلك لأطلبك في التليفون 
إذا لزم الآمر! 

سوسن ماد . 

- متشكر جدًا. 

وبض ميا إيّاها بيده: وقبل أن يغادر الحجرة 
التفت نحوها قائلا : 

أرجو أن تلدخصيها بعناية. 

فقالت دون أن تنظر إليه : 

- إني أعرف واجبي ! 

فغادر الغرفة نادما على قوله. . . 


١ 

كان كيال في حجرة مكتبه عندما جاءت أمّ حلفي 
لتقول له: 

- سبي فؤاد الحمزاوي عند سيدي الكبير. . . 

وشيبضس كال بجلبابه الفضفاض وغادر الحجرة 
مسرعًا إلى تحت. إذن عاد فؤاد إلى القاهرة بعد غيبة 
عامء عاد وكيل نيابة قنا العتيد!. وكانت تجيش 
بصدره مشاعر صداقة ومودّة بيد أنْ شوائب عدم 
الارتياح شابتهاء فصداقته لفؤاد كانت ولا تزال 
تنطوي على نوع من الصراع. صراع من الحب 
والنفورء بين المودّة والغيرة» ومههما يحاول أن يتسامى 
بعقله فالغرائز تشدّه على رغمه إلى الإسفاف الدنيوي . 
فلم يكن يشكَ وهو بيبط السلّم في أن هذه الزيارة 
ستثير عنده ذكريات سعيدة ولكنّها في الوقت نفسه 
ستبكا جروحًا كادت أن تندمل. وعندما مر في الصالة 
بمجلس القهوة المكون من الأم وعائشة ونعيمة سمع 


السكرية هعَلم 

هه وهي تبمس قائلة : 

- سوف يطلب يل لعيمة. . . 

ولا شعرت بوجوده التفتت إليه قائلة : 

صديقك بالداخل» ما ألطفه. أراد أن يقيّل يدي 
فمنعته | 

ورأى والده متربعًا على الكنبة وفؤاد جالسا على 
مقعد قبالتهدء فتصافح الصديقان القديمان وكال يقول: 

حمدًا لله عل السلامة, أهلاً وسهلا؛ . 
إجازة؟ 

فأجاب عله السيّد أحمد باسما: 

- بل ثُقل إلى نيابة القاهرةء تقل أخيرًا بعد غربة 
طويلة في الصعيد. . . ْ 

فجلس كيال على الكنبة وهو يقول: 

مباركء من الآن فصاعدًا نرجو أن نراك من آن 


ع انك ف 


لآخر. 

فقال غْوّاد: 

- طبعاء وسئقيم من أؤل الشهر القادم بالعباسية. 
استأجرنا شقة بجوار قسم الوايل. . . 

م تتضيّر هيئة فؤاد كاء ولكنْ صحّته تقدّمت 
بدرجة محسوسة فامتلاً عوده وتورّد وجهه, أمّا عيناه 
فلا زالتا تشعّان ذلك الوميض الذكئّ. وسأل السيّد 
أحمد الشابٌ قائلا: 

- وكيف حال والدك؟ ., . . لم أره منذ أسبوع , 

- ليست صحّته على ما يرام» إِنْه لا يزال آسفا على 
ترك المحلّء لكنّ المأمول أن يكون خليفته قائم) 
بالواجب . 

الامو يقتضيني اليوم يقظة متواصلةء كان والدك 
يقوم بكلّ شيء شفاه الله وعافاه. . . 

واعتدل فؤاد في جلسته ووضع رجلا على رجل 
فلفتت هله الحركة انتباه كيال في| يشبه الانزعاج» أمّا 
السيّد فلم يبد عليه حي أنه لاحظها. أهكذا تتطور 
الأمور؟ أجل إِنّه وكيل نيابة قدّ الدنياء ولكن أنسي مَن 
كرد الفح الحم اناه دراه بين هذا 
فحسبء لقد أخرج علبة سجائر وقدّمها للسيّد فاعتذر 
شاكرًا! حمًا إن النيابة تُسيىء ولكن من المؤسف أن 
تل نسياها إلى وي النعمة الذي يبدو أن فضله تبدّد 


1 السكرية 


في الهواء كدخان هذه السيجارة الفاخرة. ولم يكن في 
حركات فؤاد تكلف من أي نوع كان كان سيّدًا قد 
تعود السيادة» وقال السيّد مخاطبا كيال: 

- وهدنه أيضًا نقد رفي من مساعد إلى وكيل نيابة . 

فقال كال باسما: 

- مبارك. مبارك. أرجو أن أهنئك قريبًا بكرم 
القضاء , 

فقال فؤاد: 

الخطوة التالية إن شاء الله . 

رئما استباح لنفسه ‏ عندما يصير قاضيًا ‏ أن يبول 
أمام الرجل المتربُع أمامه! أمّا مدرّس ابتدائئ فيظل 
مدرٌسًا ابتدائياء وحسبه شاربه الغليظ وأطنان الثقافة 
التي عوجت رأسه. 

ونظر السيّد أحمد إلى فؤاد باهتام وهو يسأل: 

موك هال السافية؟ 

فقال فؤاد بارتياح : 

وَفَعَتِ المعجزة! وفعت المعاهدة في لندن. 
أصغيت إلى الراديو وهو يعلن استقلال مصر وانقضاء 
عهد التحمظات الأربعة فلم أصدّق أذيّ» من كان 
يصدّق هذا؟ 

- إذن أنت من الراضين على المعاهلة؟ 

قال وقوية رانية خفزة اتات القان: 

في الجملة نعم. للمعاهدة أعذاء مخلصون 
وآخرون غير مخلصين, فإذا تأملنا الظروف التي تحيط 
بناء وذكرنا أن شعبنا صبر على عهد صدقي رغم 
مرارته دون أن يثور عليه فينبغي أن نعدّ المعاهدة 
خحطوة موفقة., أزالت التحفظات ومهّدت الطريق 
لإلغاء الامتيازات الأجنبيّة. وحدّدت مذة الاحتلال 
بعد قَصْره على منطقة معيّلة, إِنّها خطوة عظيمة بلا 

كان حماس السيّد أحمد للمعاهدة أقوى وإحاطته 
بظروفها أقل؛ وكان يودٌ أن يتجاوب الآخر معه تجاوبًا 
أشدّ. فلا خاب ظئّْه قال بعناد: 

- على أيّ حال ينبغي أن نذكر أن الوفد قد أعاد إلى 
الأمة دستورها وحقق طا الاستقلال ولو بعد حين. . . 

وفكر كيال: كان فؤاد دائما «بارذاء في الناحية 


السياسيّة: ولعلّه لم يتغيّرء ولكنّه يبدو مائلا إلى الوفد, 
أما أنا فطالما كنت مندفعًا مع العاطفة, ثم انقلبت لا 
أومن بشيء» والسياسة نفسهالم تسلم من شكي 
الهم. ولكنٌ قلبي لا يزال ينبض بالوطنيّة رغم عقلي. 

وعاد فؤاد يقول ضاحكًا: 

- إنْ النيابة في عهود الانقلاب تنكمش إلى الوراء 
على حين يحتلٌ البوليس المقدّمة» إذ إِنْ عهود الانقلاب 
عهود بوليسيّة. فإذا عاد الوفد إلى الحكم ردت للئيابة 
مكانتها ولزم البوليس حدوده. ففي عهد الحكم 
الطبيعيَّ يكون القانون هو الكلمة العليا. 

فعلّق السيّد على ذلك قائلا : 

- وهل يمكن أن للسبى عهد صدقي؟!. لقد كان 
الجنود يجمعون الأهالي بالعصي أيَام الانتخابات» وكثير 
من الأعيان من أصدقائنا خربت بيوتهم وأشهروا 
إفلاسهم ثُمثا لثباتهم على مبد| الوفدء ثم إذا بنا نرى 
«الشيطان» ضمن هيئة المفاوضمات في لباس الوطنيّين 
الأحرار! 

فقال فؤاد: 

- كانت الظروف توجب الاتحاد» وم يكن هذا 
الانحاد ليكمل دون أن ينضِمٌ إليه الشيطان وأعوانه. 
والعبرة بالخواتيم . 

ولبث فؤاد في حضرة السيد فترة غير يسيرة» احتسى 
في أثنائها القهوة. وجعل كال يتفخصه بعناية فانتبه إلى 
بذلته الحريرية البيضاء الأنيقة. والوردة الحمراء التي 
تزين عروتهاء وإلى الشخصيّة القويّة الى أضفتها عليه 
الوظيفة, فشعر في أعاقه بأنّه سيسرٌ ‏ رغم كل شيء - 
إذا طلب هذا الشابٌ يد بنت أخته. غير أنْ فؤاد م 
يطرق هذا الموضوع. وبدا عليه أنه يرغب في الذهاب 
وما ليث أن قال للسيّد: 

آن ونت ذهابك إلى الدكان. سأمكث بقيّة 
الوقت مع كيال» وسوف أزور حضرتك قبل سفري 
إلى الاسكندريّة.» حيث إنني قرّرت أن أقضي بقيْة 
أغسطس وبعض سبتمبر في المصيف. 

وعمبض قائما فصافح السيّد مودّعًا ثم غادر الحجرة 
يتقدّمه كال» وصعدا معًا إلى الدور الأعلى حيث 
استقرًا في حجرة المكتب. وجعل فؤاد يتصفح الكتب 


المصفوفة على الآرفف باسمًا ثم تساءل: 

ألا أستطيع أن أستعير منك كتابًا؟ 

فقال كمال وهو يداري عدم ارتياحه : 

- بكلّ سرورء ماذا تقرأ عادة في أوقات فراغك؟ 

عندي دواوين شوقي وحافظ ومطران» وبعض 
كتب الجاحظ والمعرّي». وأحبٌ بصفة خاصّة «أدب 
الدنيا والدين»» إلى مؤلفات كتابنا المعاصرين» هذا 
إلى بعض مؤْلّفات ديكنز وكونان دويل» ولكن انكبابي 
على القانون يلتهم أكثر وقتي. . . 

ثم بض فجال جولة استعراضيّة بين الكتب قارنًا 
عناوينها ثم عاد وهو ينفخ قائلا : 

مكتبة فلسفيّة قحّةع لا ناقة لي فيها ولا جمل» إني 
أقرأ مجلّة الفكر التى تكتب فيهاء وأتابع مقالاتك التي 
تظهر تباعًا منذ سئوات» لا أزعم أني قرأتها جميعا. أو 
أن أذكر منبا شيئًاء إن المقالة الفلسفية أثقل ما يقرأء 
ووكيل النيابة رجل مرهق بالعمل» لاذا لا تكتب في 
الموضوعات الحذابة؟ 

طالما سمع بأذنه نعي مجهوده. ولكنه لم يحزن لذلك 
كفيرًا كأنما اعتادى إِنْ الشك يلتهم فيا يلتهم الحزن 
نفسهء والشهرة ما هي؟ والجحاذبيّة ما هي؟. ولكن مما 
يه حمًا ألا يجد فيه فؤاد تزجية لأوقات فراغه. 
وساله : 

ماذا تعني بالموضوعات الجذّابة؟ 

الأدب مثلا . 

قرأت لطائف منه مذ كنا معًا ولكتّني لست 
ا 
فضحك فؤاد قائلا : 

إذن ابق في الفلسفة وحدكء ألست فيلسوفا؟ 

ألسث فيلسوفًا؟! . عبارة مطبوعة في أعماقه. ار تجف 
من هول وقعها قلبه. هكذا هي مذ ألقيت عليه في 
شارع السرايات من ثغر عايدة!. ولكي يداري جيشة 
صدره ضحك ضحكة عالية» ثم ذكر الأيام التي كان 
فؤاد يتودّده ويتبعه كظلهء ها هو الآن يطالعه رجلا 
تسل عدو 1 بالهردة بوالولاء1 
حياتي؟ . وكان فؤاد يتشفخص شارب صاحبه ثم ضحك 
فحأة قائلا: 


ماذا جنيت من 


السكرية لاهلم 
عولو 1 


فتساءل كمال بعيئيه عن معنى هذا فعاد الأخسر 
يقول: 

كلانا يجري نحو الثلاثين دون أن يتزوج» جيلنا 
مكنظ بالعرّاب» جيل الأزمة» آلا زلت عند رأيك؟ 

لا أتزحزح. . . 

لا أدري لم أعتقد بأنك لن تتروج أبذا . 

أنت بعيد النظر طول عمرك. 

فقال وهو يبتسم ابتسامة رقيقة كأكها ليعتذر بها سلفا 
عا سيقول: 

أنت رجل أنانٌ» تأى إِلَّا أن تستأثر بكلّ حياتك 
لنفسك. يا أخي لقد تزوج النبيّ ولم يمنعه ذلك من 
ممارسة حياته الروحيّة العظيمة. . , 

ثم مستدركا وهو يضحك : 

لا تؤاحذني على ضرب المثل بالنبيئٌ» كدت أنسى 
أنك... ولكن مهلاء إِنْك لم تعد الملحد القديم. 
أنت الآن تشكٌ حيّ في الإلحاد» وهذه خطوة كسب 
للإيمان, . . 
فقال كمال مهدوء: 

دعنا من التفلسف فإنك لا تحيّه وخصارني ل ل 
تتزوج أنت ما دام هذا هو رأيك في العروبيّة؟ 

وشعر لتوّه بأنّه ما كان ينبغي له أن يطرح هذا 
السؤال خشية أن يفسّره الآخر بأنه استدراج إلى 
الكلام في خطبة نعيمة! ولكن فؤاد لم يبد عليه أنه فكر 
في هذاء بل ضحك ضحكة عالية وإن لم تخرج به عن 
حك الوقار» وقال: 

أنت تعلم أن لم أفسد إلا متآخْرّاء لم أفسد مثلك 
في زمن مبككرء فأنا لم أشبع بعد! 

أنتزوج إذا شبعت؟ 

فضرب فؤاد المواء بظاهر يده كأتما يطرد الكذب 
وقال بلهجة المعترف: 

مادمت قد صبرت حتّى اليوم فلأصير فترة 
أخرى: أصير حي أرقّى قاضيًا مئلا فيسعني أن أصاهر 
وزيرًا إذا شئت. . 

يا بن جميل الحمزاوي!. عروس من صلب وزير 
وحماتها من المبيّضة! أتحدّى ليبنتز أن يبرّر هذا ولو ىا 


مهم السكرية 


يبرّر وجود الشرّ في الدليقة! . 

- أنت تنظر إلى الرواج نظرة. . . 

فقاطعه قبل أن يكمل كلامه ضاحكا: 

خير من الذي لا يعيره نظرة على الإطلاق!. . . 

- ولكنّ السعادة, . . 

لا تتفلسف!. السعادة فنّ ذاقّ» قد تجدها عند 
كريمة وزير بينا لا تجد إِلّا التعاسة في وسطك» الزواج 
معاهدة كالتي وقعها النحاس بالأمس. مساومة وتقدير 
ودهاء وبُعد نظر وفوائد وخسائرء وفي بلدنا لا تاتي 
الرفعة إِلّا عن هذا السبيل» في الأسبوع الماضي غين 
مستشارًا رجل لم يبلغ الأربعين من عمره. وقد أنخدم 
القضاء عمري مجتهدًا ناصبًا دون أن أظفر ببذا المركز 
السامي ! 

ومعلّم ابتدائي ما قوله؟. في الدريجة السادسة 
ينقفي عمره» ولو طفح بالفلسفة رأسه. . . 

إن مركزك يغنيك عن أمثال هذه المغامرات. . 

لولا هُذه المغامرات ما استطاع رئيس أن يؤلف 
وزارته!. 

نضحك كال ضحكة لا طعم لما وقال: 

أنت في حاجة إلى شيء من الفلسفة. محتاج إلى 
جرعة من سبيئوزا. . . 

اشبع منه أنت» أكن دعنا من هذاء وخبّرني عن 
أماكن اللهو والشراب؛ في قنا كنت أختلس اللذّة في 
حذر. إن مركرنا يِحنّم علينا الانزواء ومجائبة البشر. 
والصراع الأبدي بيننا وبين البوليس يوجب الحذر 
أكثرء وكيل النيابة مركز خطير متعب. .. 

عودة إلى الحديث الذي هدد مرارتي بالانفجار. 
حياتي في ضوئك تأديب وتهذيب وأشدّ امتحانًا لفلسفتي 
الخائرة في هذه الحياة. , 

- تصوّر أنَّ الظروف تجمعني بكثير من الأعيان» ثم 
يدعونني إلى سراياتهم. فأجد أنْ الواجب يقضي بأن 
أرفض دعوتهم كيلا يؤّر مؤّر في قيامي بواجبي» ولكنّ 
عقليّتهم لا تفهم هذاء فأعيان الإقليم جميعًا يرمونني 
بالكير وأنا مئه براء. 

دبل أنت غرور وكبر وغيرة على الواجب معاء. 
وقال موافقا: 


م الأسباب خسرت رجال البوليس.» أنا لا 
أرضى عن طرقهم الملتوية» لذلك أقف لهم بالمرصاد. 
ورائي القانون» ووراءهم همجيّة القرون الوسطى. إن 
الجميع يكرهونني ولكنّ الحقّ معي.. . 

الحىّ معك. هذا ما أعرفه فيك من قديمء الذكاء 
والتزاهة, ولكئك لا تُحَبّ ولا يمكن أن تُحَبّء أنت لا 
تتمسّك بالحقّ لوجه الحقّ وحده ولكن لوجه الحقٌ 
والغرور والكبرياء والشعور بالنقص». هكذا الإنسان» 
إن أصطدم بأمشالك حيّى في الوظائف الحقيرة, 
الإننان العذب القوّ أسطورة» ولكن ما قيمة 
الحث؟. وما المثاليّة؟. وما أي شىء؟! . 

وهكذا طال مبما الحديث وعندما هم فؤاد 
بالذهاب مال على أذن كيال متسائلا: 

أنا جديد في القاهرة» طبعًا أنت تعرف بينّا بل 
بيوتاء مستورة طبعا؟ . 

فقال كيال باسما: 

إن المدرّس كوكيل النيابة يتحرّى الستر دائما. . . 

عال. سئلتقي قريبّاء إنّني مشغول الآن بترتيب 
لكف الكتدرية رلا به إن شور كي وما 

- اثفقنا. . . 

وغادرا الحجرة معًا فلم يتركه حبّى أوصله إلى باب 
السكة؛ وعندما مرٌ بالدور الأول في أثناء عودته التقى 
بأمّه واقفة تنتظره عند المدخلء فسألته بلهفة : 

- ألم يكلمك؟ , 

فادرك ما تسأل عنه. وشعر لذلك بألم لم يشعر 
بمثلهء ولكنّه تجاهل الأمر وتساءل بدوره: 

عن ماذا؟ 

ب لعيمة 1 

فأجاب ممتعضا: 

00 

- عبجيبة !. . . 

وتبادلا نظرة طويلةء ثم عادت أميئة تقول: 

- ولكنّ الحمزاوي كلم أباك! . 

فقال كبال وهو يداري ما استطاع من ثورة حنقه : 

لعلّه لم يكن فيا قال نائبًا عن ابنه. . . 


فقالت أمينة غاضية : 

هذا عبث لا يليق. .. ألا يدري من يكون هو 
ومن تكون هي؟ كان ينبغي أن يفهمه جذّك حقيقة 
مركزه. 

إن فؤاد بريء. لعل والذه أسرع دوت 1 

- ولكن حدّث ابنه دون شك فهل رفض الآخر؟ 
ذلك الذي جعلناه موظلفًا ترما بنقودنا! . . . 

- لا داعي للكلام في هذا الملوضوع. . , 

- إن هذا يا ب أمر لا يتصوره العقل. ألا يدري 
أنّ مصاهرته لا تشرفنا! . . . 

إذن لا تأسفي عليها. . . 

- لست آسفة ولكيّى غاضبة للإهانة. . . 

لا إهانة هنالك» ليس إلا سوء تفاهم. . . 

وعاد إلى حجرته حزيئًا خجلاء وجعل يحدّث 
نفسه: نعيمة وردة جميلة؛ بيد أني رجل لم يبق لي من 
الفضائل إِلّا حبّ الحقيقة فينبغي أن أسأل نفسي أهي 
حقًا كفء لوكيل نيابة؟. يستطيع رغم وضاعة أصله 
أن يشرك في حياته من هي أجل ثقافة وأعزٌ محتدًا وأكثر 
مالا وجمالا أيضّاء لقد تسرّع أبوه الطيّب وليس هذا 
خطأه. ولكنّه كان وقحًا في حديئه معي. وهو وقح بلا 
شك» إنه رجل ذكيّ نزيه كفء وقح مغرورء وما هذا 
بذنبه ولكنٌ الذنب ذنب هذه الفوارق التي تخلق فينا 


شْتّى الأمراض . 


١ ه‎ 


كانت مجلّة «الفكر» تشغل الدور الأرضيّ بالعمارة 
رقم ١؟‏ بشارع عبد العزيزء وكان حجرة صاحبها 
الأستاذ عبد العزيز الأسيوطي تطل بنافذة ذات قضبان 
على عطفة بركات المظلمة فكانت تضاء ليل نبار. 
والحقٌّ أنه كلما أقبل كال على إدارة المجلّة ذكره 
موضعها الأرضي ورثاثة أثاثها بمكانة «الفكر» في بلده. 
ويمكانته هو في مجتمعه. واستقبله الأستاذ عبد العزيز 
بابتسامة ترحيب وود ولا عجب فقد اتصلت بينهم) 
أسباب المعرفة منذ عام 14708 أي منذ بدأ كمال يبعث 


السكرية 64م 

إليه بمقالاته الفلسفيّة» ثم مضت سبّة أعوام وهما على 
تعاون صادق غير مأجورء والواقع أن جميع كاب 
المجلة كانوا من المتعاونين في سبيل الفلسفة والثقافة 
لوجه الله وححده! . . 

وكان عبد العزيز يرحب بكافة الكتّاب المتطوعين 
حيّ المختصّين ‏ مثله في الفلسفة الإسلامية ومع أَنْه 
كان أزهريّ النشأة إلا أنّه سافر إلى فرنسا حيث قضى 
هنالك أربعة أعوام محصّلا ومستمعًا دون أن يحصل 
على درجة علميّة., وكان في غنى عن السعي للرزق 
بعقار يملكه يدرٌ عليه شهريًا سين جنيهًا ولكنه أنشأ 
يحلّة «الفكر» في عام 219477 وثابر على إصدارها 
بالرغم من أثها لم تكن تزيد دخخله شيئًا يضاهي بعض 
ما يبذله فيها من جهد. وما كاد يستقرٌ المجلس بكيال 
حبّى دخل الحجرة رجل في مثل سنه. يرئدي بذلة من 
التيل الرمادئّ» طويل القامة؛ وإن كان دون كمال 
طولاء نان ولكنّه أكثر امتلاء منهء مستطيل 
الوجه. متوسّط الحبين. ممت الشفتين؛ ذو أنف دقيق 
وذقن مديّب أضفى على سمنته طابعًا خاضا. تقدّم 
خفيفًا باسم الثغر فمدّ يده إلى الأستاذ عبد العزيز 
فصافحه هذا ثم قدّمه إلى كال قائلا : 

الأستاذ رياض قلدس مترجم بوزارة المعارف. 
انضمٌ حديكًا إلى جماعة كتّاب «الفكر»ه. وقد أمدٌ مجلتنا 
العلميّة بدم جديد بتلخيصه الشهريّ للمسرحيات 
العالمية وكتابة القصة القصيرة. 

ثم قدم كال قائلا : 

الأستاذ كيال أحمد عبد الجواد. لعلّك من قرّاء 
مقالاته! . 

فتصافح الرجلان ورياض يقول بإعجاب : 

إن أقرأ مقالاته منذ سنوات» مقالات قيمة بكل 
مغ الكلمة :: 

فشكر كيال متلقٌيًا ثناءه بحذر. ثم جلسا على 
كرسيّين متقابلين أمام مكتب الأستاذ عبد العزيز الذي 
مضى يقول : ٍ 

لا تنتظر يا أستاذ رياض أن يرد عليك بالمئل قائلا 
نه قرأ قصصك القيّمة, إِنْه لا يقرأ قصصا ألبتة. . . 

فضحك رياض ضحكة جذّابة كشفت عن أسئان 


5 السكرية 
نضيدة لامعة فلجاء الثنيتين م قال : 

ألا تحت الأدب إذن؟, ما من فيلسوف إلا وله 
فلسفة خاصّة عن الجمال» وهي لا تتأنٌ له إلا بعد 
اطلاع واسع على شتّى الفنون ومنها الأدب طبعًا. , . 

فقال كال في شيء من الارتباك : 

- لست أكره الأدب». طالما ارتحت في جنات شعره 
ونثرف ولكنّ أوقات الراحة قليلة! . 

معنى ذلك أنّك قرأت ما استطعث من القصص 
إذ إن الأدب الحديث يكاد يقتصر عل القصّة 
والتمثيلية . . 

فعاد كيال يقول: 

- قرأت عددًا وفيرًا منبا على مدى العمرء بيلِ 

هنا قاطعه عبد العزيز الأسيوطي قائلا وهو يبتسم 
ابتسامة ذات معنى: 

- عليك يا أستاذ رياض من الآن فصاعدًا أن تقنعه 
بأفكارك الجديدة» وحسبك أن تعلم الآن أنه 
فيلسوف. وأنّ ولعه مركّز في الفكر. 

لم الت إلى كزال: متسائلا: 

جئت بمقال الشهر؟ 

فأخرج كبال ظرفا متوسّطا ووضعه في سكون أمام 
الأستاذ الذي تناوله بدوره فاستخرج منه أوراق المقالة 
ثم تصفح العنوان وهو يقول: 

عن برجسون؟ . . . حسن !| 

فقال كال: 

- فكرة تقديم عامّة تبيّن الدور الذي لعبته فلسفته 
في تاريخ الفكر الحديث. وربما الحقتها بمقالات أخر 

وكان رياض قلدس يتابع الحديث باهتام فتساءل 
وهو يحدج كال بنظرة لطيفة : 

د تتبعت مقالاتك منل سئوات. منل بدأت تكتب 
عن فلاسفة الإغريق» وهي مقالات متنوّعة وأحيانًا 
تكون متناقضة بالقياس إلى ما تعرض من فلسفات». 
فأدركت أنْك مور بيد أنْني حاولت عيمًا أن أهتدي 
إلى موقفك أنت مما تكتب» وأ فلسفة ,تنتمي 
إليها. . . ؟ 


فقال عبد العزيز الأسيوطي : 

نحن حديثو عهد بالدراسات الفلسفيّة فيجب أن 
نبدأ بالعرض العامٌء ولعلٌّ الأستاذ كال يتمخخض فيما 
بعد عن فلسفة جديدة» ولعلّك تكون يا أستاذ رياض 
من دعاة الك اليزم! . 

فضحكوا جميعًاء وخلع كمال نظارته وراح يجلو 
ناظريهاء وكان سرعان ما يندمج في الحديث نخاصّة إذا 
أنس إلى محذئه. وبدا الجو صافيًا عذباء وقال كمال: 

- إن سائح في متحف لا أملك فيه شيئاء مؤرّخ 
فحسبء لا أدري أين أقفا... 

فقال رياض قلدس في اهتيام يتزايد : 

- أي في مفترق الطريق؛ وقفت في ميدانك عهدًا 
قبل أن أعرف وجهتي, ولكيٌ أرجّح أنه موقف ذو 
قصة.ء لأنه عادة يكون نهاية مرحلة وبدء مرحلة 
جديدة, ألم تعرف ألوانًا من الإيمان قبل موقفك هذا؟ 

لغمة هذا الحديث تعيد إليه ذكرى أغنية قديمة 
عالقة جذورها بالقلب. هذا الشاتٌ وهذا الحديث» 
حلت سنين ناضبة من الصداقة الروحيّة حي اعتاد أن 
يحدّث نفسه كلما افتقد من يحدّئه. ومئذ عهد بعيد لم 
يستطع أن يبعث هذا النشاط الروحيّ في صدرهء لا 
إسباعيل لطيف ولا فؤاد الحمزاوي ولا عشراث 
المدرسين» هل أن للمكان الذي خلا بذهاب حسين 
شدّاد أن يشغل؟! . وأعاد وضع النظارة على عيئيه 
وابتسم فائلا : 

لذلك قصّة طبعٌاء وكالعادة كان لي إيماني الدي 
لم إيماني بالحقيقة. . . ْ 

- أذكر أنك عرضت الفلسفة المادّيّة بحياس يدعو 
للريبة. . . 
كان حماسًا صادقًا ثم لم ألبث أن حرّكت رأسي 
مرتابا. . . 

لعلّها الفلسفة العقليّة؟ . 

- ثم لم ألبث أن حرّكت رأمي مرتاباء الفلسفات 
قصور جميلة ولكنّها لا تصلح للسكنى. . . 

فقال عبد العريز باسمًا: 

وشهد شاهد .من أهلها! 


فهر كال كتفيه استهانة, أمّا رياض فواصل تحقيقه 
قائلا : 

هنالك العلم فلعلّه نجا من شكّك؟ 

- إِنّه دنيا مغلقة حيالنا لا نعرف إلا بعض نتائجها 
القريبة» ثم اطلعت على آراء نخبة من العلاء يرتابون 
في مطابقة اللحقيقة العلميّة للحقيقة الواقعيّة» وآخخرين 
ينؤهون بقانون الاحتمال. وغيرهم من تراجعوا عن 
اذعاء اللحقيقة المطلقة» فلم ألبث أن حرّكت رأسى 
مرتايًا! 

فابتسم رياض قلدس دون أن ينبس فعاد الآخر 
يقول : 

- حيّى مغامرات الروحية الحديثئة وتحضير الأرواح 
غرقتٌ فيها حبّى أذي» ودار رأمسبى» وما زال يدور في 
فضاء مخيف:» ما الحقيقة؟! ما القيه؟ ما أي شيء؟ 
إن أحيانًا أشعر بتأنيب ضمير لفعل الخير كالذي أشعر 
به عند الوقوع في الشرًا. . . 

فضحك عبد العزير ضححكة عالية» وقال: 

- لقد انتقم الدين منك. هجرته جريا وراء الحقائق 
العليا فعدت صفر اليدين! 

وقال رياض قلدسء وكان يبدو في قوله مجاملا لا 
أكثر: 

- موقف الشكُ هذا لذيذ! مشاهدة وتأمّل وحريّة 
مطلقة, وأَخْذْ من كل شيء أخذ السائح ! 

فقال عبد العزيز مخاطبا كيال: 

- نت أعرب في فكرك, كما أنت أعزب في ححياتك! 

وانتبه كال إلى هذه الملاحظة العابرة باهتمام.» ترى 
أعزوبته نتيجة لفكره أم العكس هو الصحيح؟ أم إِنْ 
الاثنين نتيجة لشيء ثالث؟. وقال رياض قلدس: 

العزوبة حال مؤقّتة ورثًا كان الشكٌ كذلك! 

فقال عبد العزيز: ْ 

- ولكنّه فيها يبدو لن يميل إلى الزواج أبدًا. . . 

فقال رياض متعبجبا : 

ما الذي يحول بين الشك والحبٌ؟ وما الذي يمنع 
حبًا من الزواج؟. أمّا الإصرار على العزوبة فليس من 
الشك في شيء»؛ الشلكٌ لا يعرف الإصرارا! 

فتساءل كال» وهو غير جاد في باطنه : 


السكرية 51م 


- ألا يحتاج الحبٌ إلى شيء من الإيمان؟ 

فقال رياض قلدس ضاحمًا: 

- كلاء إِنْ الحبّ كالزلزال الذي يرج الجامع 
والكئيسة والماخور على السواء . 

زلزال؟. ما أصدقه من تشبيه. زلزال يدم كل 
شبيء يغرقه في صمت الموت . 

- وأنت يا أستاذ قلدس» لقد أطريت الشكٌ. فهل 
أنت من أهله؟ 

فقال عبد العزيز ضاحكًا: 

إِنّه ذلك نفسه! 

وضجّوا بالضحك. ثم قال رياض وكأنما كان يقدّم 
نفسة : 

- لبشت فيه فترة لم مرقت منه؛ لم أعد أشلكُ في 
الدين لأني كفرت به. ولكبي أومن بالعلم والفُنْء إلى 
الأبد إن شاء الله ! 

عبد العزيز متسائلًا في تبكم : 

- إن شاء الله الذي لا تؤمن به؟ 

قال توناقن تلنين ايم : 

- الدين ملك الناسء» ما الله فلا عِلّم لنا بد منذا 
الذي يستطيع أن يقول لا أومن بالله؛ أو يقول أومن 
بالله؟, الأنبياء هم المؤمنون الحقيقيّرن, ودلك أمْهم 
رأوه أو سمعوه أو خاطبوا رسل وحيه! 

فقال كيال : 

- ولكنّك تؤمن بالعلم والفنٌ؟ 

١ | م‎ 

- الإيمان بالعلم له وجاهته. ولكن الفنٌ. . . ؟! أنا 
أفضْل أن أومن بالأرواح على أن أومن بالقصّة مثلًا! 

فحدجه رياض بنظرة عاتبة» وقال مبدوء : 

- العلم لغة العقولء. والفنّ لغة الشخصيّة 
الإنسانيّة جميعا! 

ما أشبه هذا الكلام بالشعر! 

فتقبل رياض تهككم كال بابتسامة متساعحة» وقال: 

- العلم يجمع البشر في نور أفكاره. والمنٌ يجمعهم 
في عاطفة سامية إنسانية» وكلاهما بطور البشرية 
ويدفعها إلى مستقبل أفضل. . . 

يا للغرور! يكتب قصّة من صفحتين كل شهرء 


5 السكرية 
ل انق ا اله 1ج ناسيك وو عه 
فلأئني الخّص فصلا من كتاب تاريخ الفلسفة لفدنج, 
أطالب في أعماقي بالمساواة على الأقل بنؤاد جميل 
الحمزاوي وكيل نيابة الدرب الأمر. ولكن كيف تطاق 
الحياة دون ذلك؟ مجانين نحن أم عقلاء أو مجرّد أحياء؟ 
أفٌ من كل شيء! 

وما قولك في العلماء الذين لا يشاركونك في 
حماستك للعلم؟. 

- لا ينبغي أن نفسّر تواضع العلم بالعجز أر 
اليأس» العلم سحر البشريّة ونورها ومرشدها 
ومعجزاتهاء وهو دين المستقبل. . . 

- والقصّة؟ 

بدا رياض لأؤل مرة وهو يداري استياءه» فاستدرك 
الآخر كالمعتذر: 

أعنى لفن عموما؟ 

فقال رياض قلدس متسائلًا في حماسة : 

- أتستطيع أنْ تعيش في وحدة مطلقة؟ لا بد من 
النجوى» من العزاء؛ من المسرّة؛ من المداية» من 
النور» من الرحلة في أنحاء المعمورة والنفس هذا هو 
افر 

وهنا قال الأستاذ عبد العزيز: 

- خطر لي خاطر.., أن نجتمع نحن وبعض 
الزملاء مرّة كل شهر للحديث في شت الفكر؛ على أن 
نكر ديكا معتوان وشاورة شهو كلاون::. 

فقال رياض قلدس وهو يرمق كيال بنظرة وذية : 

- إِنْ حديئنا لن ينقطع. أو هذا ما أودّف أنعدٌ 
أنفسنا أصدقاء؟ 

فقال كيال بححياسة صادقة : 

- بكل تأكيد. يجب أن نتقابل في كلّ فرصة. . . 

ميل كال إنعستانن بالتسادة -لمدة: و المدانة 
الحديدة»؛ كان يشعر بأنْ جانبًا ساميًا من قليه استيقظ 
بعد سبات عميق. فاقتنم أكثر من قبل بخطورة الدور 
الذي تلعبه الصداقة في حياته؛ وبائّبا عنصر حيويٌ لا 
غنى له عنه؛ أو يظل كالظامئ المحترق في صحراء. . 


ا 


افترق الصديقان اللخديدان عند العتبة» فعاد كيال 
من الموسكي والساعة تدور في الثامئة مساءء يتنس 
جوا خانقًا شديد الحرارة» وتمهّل عند عطفة الجوهريّ 
ثم مال إليهاء ومرق من ثالث باب على يسار 
الداخل؛ ورقي في الدرج حي الدور الثاني» ثم دقّ 
المرس. ففتحت الشراعة عن وجه امرأة قد جاوزت 
الستين» حيته بابتسامة كشفت عن أسنان ذهبيّة, 
وفتحت الباب فدخخل صامتاء أما المرأة فقالت ترب 
به : 

أهلا بابن الحبيب» أهللا بابن أخي. . . 

وتبعها إلى صالة تتوسط حجرات» فيها كنبتان 
متقابلتان بينغهما سجادة قصيرة مزركشة وخحوان 
ونارجيلة» وشذا بخور في الأركان. كانت المرأة بدينة 
هشّْة من كبرء عاصبة الرأس بمنديل منمنم بترتر 
مكحولة العينين تلوح فيها نظرة ثقيلة تشى بوطأة 
الكيف. وني تضاعيف وجهها آثار جمال دابر واستهتار 
مقيم» تربعت على الكنبة أمام النارجيلة» وأومات إليه 
ليجلس إلى جانبها» فجلس وهو يسأل باسما: 

- كيف حال الست جليلة؟ 

ل م 

كيف حالك يا عمتي؟ 

ب الحال معدن يا بن عبد الجواد, 
مرتفع أجش). . . بنت يا نظلة. . . 

وبعد دقائق جاءت الخادم بكاسين مترعتين 
ووضعتههما على الخوان. فقالت جليلة: 

- اشرباء طالما قلتها لأبيك في الأيام الحلوة 
الماضية . . . ْ 
فتناول كيال الكأس. وهو يقول ضاحكا ؛ 

- من المؤسف حقًا أني جئت بعد فوات الأوان! , 

وهي تلكمه لكمة وسوست لا الأساور الذهبيّة التي 
تغطي ساعد مها : 

يا عيب الشوم» أكنت تريد أن تعيث فسادًا حيث 
سجد أبوك؟ ! 


ثم مستدركة: 

- ولكن أين أنت من أبيك؟ كان متزوجًا للمرة 
الثانية حين عرفتهء تزوج مبكرًا على عادة أهل زمان؛ 
ولكن ذلك ل يمنعه من أن يرافقني زمنًا كان أحلى 
الحياق» ثم رافق زبيدة ربنا يأخذ بيدهاء ثم عشرات 
غيرنا سامحه الله. أمَا أنت فلا تزال أعزب. ولا تزور 
بيتي مع ذلك إِلَا كلّ ليلة جمعة؛ يا عيب الشومء أين 
الرجولة أين؟! 

أبوه الذي عرفه عن لسائا غير أبيه الذي عرفه 
بنفسه. بل غير أبيه الذي حذثه عنه ياسين» رجل 
الغريزة» والحياة العارمة» لم تشغل هموم الفكر قلبه 
فأين هو منه؟ حيّى ليلة الجمعة التي يزور فيها هذا 
البيت لا يصفو له «الحبٌ» فيها إلا بالخمرء فلولا 
السكر لبدا له الحو متجهمًا باعئًا على الانهزام» وأوؤل 
ليلة رمت به المقادير إلى هذا البيت ليلة لا تسبى» رأى 
المرأة لأوّل مرّة فدعته إلى مجالستها ريثا تفرغ له فتاة: 
ولا جره الحديث إلى ذكر اسمه بالكامل هتفت المرأة: 
أأنت ابن السيّد أحمد عبد الحواد التاجر بالنخاسين؟, 
نعم أتعرفين أبي؟. يا ألف أهلًا وسهلًا... أتعرفين 
أي!... أعرفه أكثر مما تعرفه أنت... مازج عرقه 
عرل 1 وزففت له أختك. . . كنت في أيامي كام 
كلثوم في آيامك الكالحة. . . سل عب طوب الأرض» 
تشرفنا يا سيّى. اختر من بناقي من تعجبك وليس بين 
الخيّرين -حساب» هكذا فسق أوْل مرّة في هذا البيت 
عل حساب والده. وجعلت تنظر إلى وجهه طويلا 
حيّ انقيض قلبه. ولولا الأذب لأعللت دهشتهاء إذ 
اين هذا الرأس الخريب وذلك الأنف العجيب من 
الوجه البدريّ المورّد؟ ثم طال الحديث كل مطال. 
فعرف عنبها تاريخ أبيه السرّي. ميزاته وجلائل أعاله 
ومغامراته وخف صفاته» «وأنا من شدة الحيرة متردد 
أبدًا بين وهج الغريزة ونسمة التصوّف!». 

فقال كمال يحبيها: 

- لا تبالغي يا عمّتيء أنا مدرّس والمدرّس يحب 
السترء ولا تسبي أن في العطلة أزورك كل أسبوع 
مرّات لا مرةء ألم أكن عندك أوّل أمس؟ إني أزورك 
كلما. . 


السكرية 55م 


دكا لحت بي الحيرة» إن الحيرة تدفعي إليك قبل 
الشهوة» . 

كلما ماذا يا سيّد نينة؟ 

كلما فرغث من العمل. . . 

قل غير هذا الكلام. أف من زمانكم أفٌ. كانت 
فلوسنا من الذهب وفلوسكم من الحديد والنحاس. 
وطربنا كان من حم ودم وطربكم رأديوء وكان رجالنا 
من صلب أدم ورجالكم من صلب حواء. عندك كلام 
يا حوجة البئات؟ 

وأنحذت من النارجيلة نفسًا ثم غلت: 
يا خوجة البنات علمهم ضرب الآلات ونغمهم 

فضحك كيالء ومال نحوها فقبّل حدّها قبلة جمعت 
بين المودّة والمداعبة» فهتفت: 

شاربك كالشوك». كان الله في عون عطية! 

دب]كنا مه الأشوالة» :.. 

- مبذه المناسبة كان عندي بالأمس ضايط النقطة 
على سن ورمح. ولا فخرء كافة زبائني من سادة 
القومء أم تظنٌ أنك تتصدّق عل بزيارتك؟ ! 

يا ست جليلة» إنك لخليلة. . . 

أحيّك إذا سكرت» فإِنْ السكر يُذهب عنك وقار 
الخوجة ويردّك إلى شيء من أبيك. لكن خارني ألا 
تحب عطية؟ . . . إنها حبك ! 

هذه القلوب التى حجرتها فظاظة الحياة كيف تحب؟ 
ولكن ماذا كان نصيبه من القلوب التي تجود بالحبٌ 
وتستطيبه؟ فإمًا أن تحيّه بت صاحب المقلي فيعرضص 
عن حبّهاء وإمًا أن يحب عايدة فتعرض عن حب 
فقاموس حياته لم يعرف للحبٌ من معنى سوى الألمء 
ذلك الألم العجيب الذي يحرق النفس حتّى تبصر على 
ضوء نيرانه المتقدة عجائب من أسرار الحياق. ثم لا 
لفن ورائها الأ سطامًا قالسعلق عل قرا تيم 

أحيتك العافية. . . 

- لم تعمل في المقدّر إلا منذ طلاقها! 

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!. . . 

الحمد لله في جميع الأحوال. 

وابتسم ابتسامة ذات معنى» فأدركت معناها وقالت 
كالمحتجحة : 


14 السكرية 


أتستكثر عل أن أنؤه بحمد الله؟. أه منك يا بن 
عبد الجواد» اسمع لا ابن لي ولا بنت. وقد شبعت 
من الدنياء وعند الله العفو, 

من عجب أن حديث امرأة تتردّد فيه كثيرًا هذه 
النغمة الموحية بالزهد!. وجعل يختلس إليها النظر وهو 
يتجرّع بقيّة كاسه. وكانت الخمر تأخخذ في نفث 
سحرها معه من أوّل كأس. ووجد نفسه يتذكر عهدًا 
مضى أيّام كان للكأس فرحة ساويّة؛ ما أكثر الأفراح 
التي ولْتَء في البدء كانت الشهوة ثورة وانتصارًاء ثم 
القلبت مع الزمن فلسفة حمراء» ثم أحمد نشواتها الزمن 
والعادة, ولم تخل في أحايين كثيرة من عذاب الترذد بين 
العاف والآرفى» <ذلك قتل أن .تبدرئ" الشنك نين 
الأرض والسماء . 

ودقّ الجرس. ودخلت عطيّة؛ بيضاء لدنة ممتلئة. 
لحذائها أطيط ولضحكتها رنين» فقبّلت يد المعلمة, 
ثم ألقت نظرة باسمة على الكأسين الفارغتين وهي 
تقول مداعبة كمال: 

خنتني ! 

ومالت على أذن المعلّمة فهمست قليلاء ثم رمقت 
كيال بنظرة ضاحكة» وسارت إلى الحجرة إلى يمين 
مجلس المعلمة» فلكزته جليلة قائلة : 

- قم يا نور العين. . . 

تناول طربوشه ومضى إلى الحجرة. وم تلبث نظلة 
أن لحقث به حاملة صيئّة عليها زجاجة وكأسان ومزة 
حفيفة. فقالت لما عطية : 

هاتي لنا رطلين من العججاتي» أنا جوعانة! 

خلع الجاكتة ومدّ ساقيه في ارتياح» ثم جلس 
يراقبها وهيى تخلم حذاءها وفستاماء ثم وهي تسوي 
قميصها أمام المرآة وتسرح شعرها. الجسم الذي يحبه 
الأبيض اللدن الممتلى» ترى كيف كان جسم عايدة؟ 
كثيرًا ما تبدو لذاكرته وكأنما لى يكن لها جسم. وحتّى ما 
يذكره من نحافتها وسمرتها ورشاقتها فإنما تستقرٌ في 
روحه كامعاني المجرّدة؛ أمَا ما يلتصق عادة بالذاكرة 
من محاسن الأجساد كالصدور والسيقان والأرداف فلا 
يذكر ألبئّة أن حواسّه اتجهت إلى شيء منهاء واليوم لو 
عرضت له حسناء كل ميزاتها الرشاقة والسمرة 


والنحافة ما ارتضى أن يبتاعها بريال» فكيف كان هذا 
الحت؟ وكيف ظلْت ذكراه مصونة بالإجلال والتقديس 
رغم ازدرائه لكل شيء؟!. 

لانن كه ال 

إذا لطستنا الخمر استوى لديئا الحرٌ والبرد. . 

علا كلق بعينيك». وارفم نظارتك! . 

مطلّقة ذات بَنينء تغطي كابتها المعتمة بالعربدة. 
وتمَتصٌ الليالي النبمة أنوئتها وإنسانيتها دون مبالاة. 
يختلط في أنفاسها الوجد الكاذب بالمقت. وهي 
للاستعباد شر" صورة؛ لذلك كانت الخمر نجاة من 
العذاب كما هي نجاة من الفكرا 

وارتمت إلى جانبه ومدّت يدها البضة إلى الزجاجة 
وأخذت تملأ الكأسين. هذه الزجاجة تباع في هذا 
البيت بضعف ثمنباء كلّ شىء هنا غال إلا المرأق, إلا 
الانسانء ولولا الخمر ما مر ذلك المجلس. كي 
بغيب عن عين البشريّة المحملقة في اشمئزاز» غير أنْ 
حياتنا لا تخلو من مومسات من نوع آخرء هنهم وزراء 
وكتّاب! 

وبحلول الكأس الثانية في جوفه لاحت بشائر 
النسيان والمسئة. «هله المرأة أشتهيها منذ زمن وحتّى 
متى لا أدري» الشهوة سلطان مستبدٌ أمًا الحبٌ فشيء 
آخر؛ وكم يبدو في لباس عجيب إذا بر من الشهوة. 
وإذا أتبح لي يومًا أن أجدهما في كائن بشري عرفت 
الاستقرار المنشودء ولذلك فلن تزال الحياة تبدو لي 
عناصر يعوزها الانسجام. أنا أنشد «الزواج» في 
الحياتين العامّة والخاصّة, لا أدري ايها أصل 
الاخرى. ولكي متاكّد أني تعس رغم سلوكي في الحياة 
الذي ضَمِنَ لي حظي من مسرّات الفكر ولذات 
الجسد, كالقطار الذي ينطلق في قوّة ولكنّه لا يدري 
من أين ولا إلى أين. والشهوة حسناء طاغية سرعان ما 
يصرعها القرف. ويبتف القلب ناشدًا في يأس أليم 
السعادة السرمديّة, عبئا» لذلك فالشكوى لا تنقطع, 
والحياة خدعة كبرى» ويلبغي أن نتجاوب مع .حكمتها 
الخفيّة كي نتقبّل هذه الخدع راضين» فتكون كلمل 
الذي 0 دوره الكاذب على المسرح. ولكنه رغم 


وتجرّع كأسه الثالثة دفعة واحدة حي أغرقت عطية 
في الضسحك, وهي تحبٌ السكر من صميم قلبها ولكنّه 
يفعل بها الأفاعيل». فإذا لم يوقفها عند حدها علا 
صوتها فتشئجت ثم بكت وتقايات. ولعبت الخمسر 
برأسه فاهترٌ طربّاء ومدٌ إليها بصره فانبسطت 
أساريره. هي الآن امرأة فحسب لا مشكلة» وكأنه لم 
تعد ثمة مشكلة في الوجود. الوجود نفسه ‏ أثقل 
مشكلة في الحياة ‏ لم يعد مشكلة؛ ولكن اشرب واغرق 

ما ألطفك إذا ضحكت بلا سبب! 

إذا ضحكت بلا سبب فاعلمي أن الأسباب أجل 
من أن تذكر. . . 


١ 1/ 

عاد عبد المنعم إلى السكريّة ملتفًا في معطفه» يحبك 
من آن لآخر طاقته ليتقى مها برد الشتاء القارص» 
وكان الظلام شاملا رغم أن الساعة لم تجاوز السادسة 
مساءء وما كاد يبلغ مدخل السلّم حيّى فتح باب الدور 
الأ وتسلّل الشبح اللطيف الذي كان ينتظر. وخفق 
قلبه وجعل يحملق في الظلام بعينين متقدتين» وتابع 
شبحها وهو يرقى في السلّم في خفة وحذر أن يحدث 
صوتاء فوجد نفسه موزْعًا بين رغبة تغريه بالاستسلام 
وإرادة تمنّه على السيطرة على أعصابه التي تلوح 
بالخيانة والاميار. وذكر ‏ الآن فقط! ‏ أنْها واعدته 
الليلة من قبل. وقد كان بوسعه أن يقدم موعد عودته 
أو يؤخّره فيتجتّب هذا اللقاء. ولكثّه نسى ذلك كله 
لعن نا يشى ا .رق يكن لله بوقث للند بر :والتذكترة 
فليترك هذا إلى حينه. عندما يخلو إلى نفسه بي 
حجرتهء إلى تلك اللحظة التى ستشهده. منتصرًا 
ظافرًا أو منبزمًا مغلوبًا على أمره. وارتقى السلم في 
أعقابها دون أن يعزم على أمرء ملقيًا بنفسه في خضم 
الامتحان. ولم يكن شيء ليئسيه آلام صراعه الأبدئ . 
وفوق البسطة يل إليه أن شبحها يضخم حي ملأ 
عليه المكان والزمان. وقال وهو يخفي قلقه ويضمر 

السجوة ينا كاد الأمر: 


السكرية 56م 


افر الا 

فجاء الصوت الرقيق يقول: 

ب مساء اشير أشكرك لأنك سمعت نصيحتي 
ولسست معطفكٌ, .. 

نغلبه التأثّر لرقتهاء ذابت في حلقه كلمة أوشك أن 
يجبهها بباء ثم قال مداريا ارتباكه : 

ى اسيك أن قار السافاوو.» 

فرفعت رأسها إلى أعلى كأنما تنظر إلى السماء؛ 
وقالت : 
- ستمطر عاجلا أو آجلاء ليس في السماء نجمء 
وقد ميّزتك بصعوبة عندما دخلت الحارة. 

فاستجمع قراه المتلاطمة: وقال فيما يشبه التحذير: 

الجو باردء وجو السلّم خخاصّة شديد الرطوبة! 

فقالت الصغيرة بصراحة تعلمتها على يديه : 

- لا أشعر بالبرد في قربك! . . . 

فلفحت وجهه حرارة منبعئة من الداخل » ونم حالةه 
على أنّه سيعاود الخطا على رغمه. وجعل يستعدي 
إرادته ليتغلب على الرجفة السارية في بدنهء فسألته: 

ما لك لا تتكلب؟ 

وأحسٌ بيدها على منكبه تضغطه برقة, فم تمالك أن 
طوّقها بذراعه. وقبّلها قبلة طويلة؛ ثم أمطرها قبلات 
حبّى سمع صوتها الرقيق يقول لاهثًا : 

لا أطيق البعد عنك. . . 

فواصل عناقه متذاويًا في حضهاء» وهي تبمس في 
أذله : 

أت لو أبقى هكذا إلى الأبد. . . 

فشْدٌّ عليها الوثاق قائلا بصوت متهدّج : 

يا لللأسف! 

فتباعد رأسها في الظلام قليلاء وهي تتساءل: 

قاام تامف يا ضيبي ؟ 

فقال بعد تردد: 

على الخطأ الذي نتردّى فيه. . 

أي خطأ بالله ؟ 

تخلص منبها برقة, وراح يخلع معطقهء فقطواه. ثم 
هم بأن يضعه على الدرابزين, ولكنه عدل عن فكرته 
في اللحظة الأخيرة ‏ لحظة هائلة - فثناه على ذراعه ثم 


5 السكرية 


تراج إلى الوراء خطوة. كانت أنفاسه تضطرب ولكنّ 
عزمة اعترضت ثيار استسبلامه فقلبت كل شبىء». 
وعادت يدها تتلمس السبيل إلى عنقه فأمسك بهاء 
وانتظر حبّى هدأت أنفاسهء ثم قال مهدوء: 

هذا خخطأ كبير, . . 

أي خطا؟!. لست أفهم شِيعًا., . , 

صغيرة لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرهاء أنت 
تعبث بها إشباعًا لرغبة لا ترحم. ولن يكون هذا 


العبث من غاية» ليس إلا عبعًا تجلب به غضب الله 


ومقدةه 


يجب أن تفهمي, أنستطيع أن تعلن ما نفعل؟ 
- نعلنه؟ 


- انظري كيف تستئكرين!. ولكن لماذا لا نعلئه إن 
لم يكن عيبا مزريا؟ . 

وشعر بيدها تتصيّده» فارتقى إلى أولى درجات 
السلّم التالية» وكان مطمئنًا إلى أنه جاز منطقة الخطر 
بسلام : 

- اعترني بأننا مخطئان؛, فلا ينبغي أن نصرٌ على 
الخطا. , . 

عجيب أن أسمع منك هذا الكلام . . . 

لا عجب, إن ضميري لم يعد يحتمل الخطيئة؛ 
دصامتة!. آذيتها فليسامحني الله. يا للألمء ولكبّي 
لن أتراجع, احمدٍ الله على أن الخطأ لم يدفعك إلى ما 
يجب أن يكون ما حصل درسا لئا فلا نعود إلى 
مثله؛ أنت صغيرةء وقد أخطات. فلا تجرى مرة 
أخرى وراء الخطأ. 

وقالت في ثيرات باكية : 

-لم أخحطئ. . . أتنوي هجري؟. ماذا تقصد؟ 
وكان قد ثمالك قوته فقال: 

- عودي إلى بيتك لا تفعلي شيئًا ترين وجوب 
التسثّر عليه لا تقابلي أحدًا في الظلام. ‏ . 

فقال الصوت متهدّحًا: 

أهجرني؟. أنسيت كلامك عن سحيّنا؟ 

- كلام من لا عقل لهء أنت مغخطفةء ليكن هذا 


درسًا لك. احذري الظلام قل تكون فيه غبايتك. أنت 
صغيرة؛ فمن أين لك هذه الجرأة؟! . 

تردّد في الظلام انتحابهاء ولكنّه لم يرقق قلبه. كان 
منتشيًا بلذة نصر قاسية : 

عي كل كلمةء ولا تغضبي», واذكري أنْني لو 
كنت نلا ما ارتضيت أن أتركك قبل أن أقضي 
عليك. أستودعك الله , , . 

ورقي في السلّم وثبّاء انتهى من العذاب. ولن 
يكون طعمة لأنياب الندم» ولكن ليذكر قول أستاذه 
الشيخ عل المنوني: إِنْ مغالبة الشيطان لن تكون 
بتجاهل سنن الطبيعة. أجل ليذكر هذا. وخلع 
ملابسه على عجل وارتدى الجلباب» ثم قال لآخيه 
أحمد وهو يغادر الحجرة: 

أريد أن أخلو قليلا إلى والدى في حجرة المكتب. 

وف طريقه إلى الحجرة رجا والده أن يتبعه.» فرفعت 
خحديجة رأسها إليه متسائلة : 

ا 

سأحدّث أبي أؤلاء ثم يأني دورك. . . 

وتبعه إبراهيم شوكت صامتاء كان الرجل قد ركب 
طاقم أسنانه الحديد. وعاودته طماأنينته الخاملة بعد أن 
واجه الحياة بلا أسئان ستّة أشهر كاملة. وجلسا جنبا 
إلى جنب والآأب يقول: 

خخير إن شاء الله ! 

فقال عبد المنعم دون تردّد أو تمهيد: 

أريد يا أبي أن أتروج! 

فحملق الرجل في وجهه. ثم قطب باسًا كأنه لم 
يفهم شيئاء وهر رأسه في حيرة ثم قال: 

الزواج؟ كل شيء رهن بوقته. لماذا تحدّثني عن 
ذلك الآن؟ 

- أريد أن أتزوج الآن. . . 

الآن؟1» ما زلت في الثامئة عشرة من عمرك. ألا 
تنتظر حيٌ تأخذ شهادتك؟ 

- لا أستطيع. . . 

وهنا فتح الباب ودخلت خديجة. وهي تتساءل : 

ماذا يدور وراء ذلك الباب؟ هل توججد أسرار 


تل لأبيك وتحرّم علل؟ 

فقطب عبد المنعم متنرفزاء على حين راح إبراهيم 
يقول وهو لا يكاد يفقه معنى ما يقول: 

عبد المنعم يريد أن يتروج... 

نتفئتّصته خديجة كأنئما تحاف عليه الجنون. 
وهتفت : 

يتزوج؟ ماذا أسمع؟ هل قرّرت أن تترك 
الجامعة؟ 

فقال عبد الملعم بصوت قويّ غاضب: 

قلت إن أريد أن أتزوج لا أن أهرب من 
المدرسة. سأواصل الدراسة متزوجًاء هذا كل ما 
هنالك . . 

فقالت خديجة وهي تردّد عينيها بينه وبين أبيه : 
عبد المنعم أأنت جادٌ حمًا؟ 
فصاح : 
كل الجدٌ. . . 

فضربت المرأة كما على كنت وقالت: 

- أصابتك عين. ماذا حصل لعقلك يا ابني؟ 

فتبض عبد المنعم غاضبًا وهو يقول: 

ما الذي جاء بك؟ كنت آأريد أن أختلي بأبي ألا 
ولكئّك لا صير لكء أصغيا إِّ» أريد أن أتروجء 
أمامي عامان حيّى أنتهي من دراستي» وأنت يا أي 
تستطيع أن تعولئي هذين العامين» لولا تأكدي من 
هذاء ما عرضت طلبي . . . 

فجعلت خديجة تقول: 

يا لطف الله! أكلوا عقله! 

من هم الذين أكلوا عقلي؟ 

الله مهم أعلم. . . متهم الله أنت أدرى مبم. 
وسنعرفهم عا قليل. . . 

فخاطب الشابٌ أباه قائلا: 

لا تصغ إليهاء إني لا أدري حتّى الساعة من التي 
ستكون من نصيبي » اختاروها بأنفسكم» أريد زوجة 
لائقة. أي زوجة! 

فسألته داهسة : 

- أتعني أنّه لا توجد واحدة بالذات هي السبب في 
هذه البلوى؟ 


السكرية /1جم 

أبدال صذقيني : اختاري لى بنفسك . . . 

- وما الداعي إلى السرعة إذن؟ دعني أختار لك. 
أعطني مهلة, إنْها مسألة عام أو عامين! 

فعلا صوته وهو يقول: 

أنا لا أهزل» دعينى فهو يفهمنى خيرًا منك! 

فساله أبوه بهدوء: ْ ْ 

ما وجه السرعة؟ 

فقال عبد المذعم وهو يغض بصره : 

1 أستطيع البقاء دون زواج . 

فتساءلت خحدنجة : 

وآلاف الشئان أمثالك كيف يستطيعون؟ 

فقال الشات مخاطبًا أباه: 

لا أقبل أن أفعل ما يفعله الأخرون! 

فتفكر إبراهيم قليلاء ثم قال حسمًا للموقف: 

- يكفي هذا الآنء وسنعود إلى الموضوع في فرصة 
أخرى . . . 
وهنّت نخديجة بالكلام ولكنّ زوجها منعهاء وأخذها 
من يندها فغادزا الحجرة إلى مملسها في الفبالة: 
وتحادث الزوجان مقلبين الأمر على جميع وجوهه؛ وبعد 
أحذ وردٌ طويلين مال إبراهيم إلى تأبيد طلب ابنه. 
وتولّ بنفسه إقناع زوجه. حّى سلّمت بالمبدا» وعند 
ذاك قال إبراهيم : 

- عندنا نعيمة بئت أخيء فلن نتعب في البحث 
ع رة يك 

فقالت تخديجة باستسلام : 

أنا الى أقنعتك بالنزول عن نصيبك من ميراث 
المرحوم إكرامًا لعائشة. فلا اعتراض لي على اختيار 
لعيمة زوجة لابنيء إن سعادة عائشة مني جدًا كا 
تعلم: ولك أنخاف تفكيرهاء وأحسب آلف سحساب 
للشذوذ الذي طرأ عليهاء ألم تلمح أمامها مرّات عن 
رغبتنا في تزويج نعيمة من عبد المنعم؟ ومع ذلك خيل 
إن أثْها كانت ترحًحب بابن جميل الحمزاوي عندما قيل 
إن والده طلب له يدها. . . 

هذا تاريخ قديم, مضى عليه عام أو أكثرء 
والحمد لله أنّه لم يتمّء فا كان يشرّفني أن يأخذ بنت 
أخي شاتٌ مثله مهما تكن وظيفتهء الأصل عندي كل 


4 السكرية 


ثلىءء نعيمة عندئا على العين والرأس. . . 
فقالت حديجة وهى تتدهد: 

على العين والرأس» ترى ماذا يقول أي عن هذا 
اللعب إذا علم به؟! 

فقال إبراهيم : 

- سيرخب به دون اك كل شيء يبدو كالحلم. 
ولكن لن أندم» فإ موقن بأنْ تجاهل رغبة عبد المنعم 
خطا لا يغتفر» ما دام في الإمكان محقيقها!. . . 


١6 


لم يطرأ على البيت القديم في بين القصرين أي تغيير 
يذكر. إلا أن الجيران يما فيهم -حسنين الحلاق ودرويشس 
الفوّال والفولَ اللبّان وأبو سريع صاحب المقلٍ وبيومي 
الشرباتلي. كلّ أولئك قد علموا بطريقة أو بأخرى أن 
اليوم تُروّجٍ حفيدة السيّد أحمد من ابن عمّها ‏ 
وخالتها ‏ عبد المنعم. حافظ السيّد أحمد على تقاليده 
القديمة فمضى اليوم كغيره من الأيامء فاقتصر على 
دعوة الأهل. وغاية الأمر أن أعدّت العدّة لوليمة 
عشاء. وكان الوقت في مطلم الصيف». وقد اجتمعوا 
عيناق حجرة الانتفال) البكد أنعان عن الحواد 
وأمينة وخديجة وإبراهيم شوكت وعبد المنعم وأحمد 
وياسين وزنُوبة ورضوان وكريمة» ما عدا نعيمة التي 
كانت تأخذ زينتها في الدور الأعلى بمعاونة عائشة . 
ولعل السيد قد شعر بأل وجوده بينهم يلقي عل 
الاجتماع العائلّ ظلا من الوقار الذي لا تستسيغه 
المماسية :اميدق ةل :عقنيهة الامفقتان لون إلى 
حجرته؛ حيث لبث يننظر حضور المأذون. وكان 
السيّد قد صفى تجارته وباع الدكّان مؤثرًا السراحة 
لشيخوخته لا لأنّه بلغ الخامسة والستّين فحسب»ء 
ولكن لأنْ استعفاء جميل الحمزاوي اضطرّه إلى بذل 
نشاط مضاعف لم يعد يحتمله. فقرر إماء حياته 
العمليّة, قائعًا بما تخلّف له من تصفية دكانه وما ادخر 
من مال من قبل قذّر أن يكفيه بقيّة العمر. وكان حدثًا 
هاما في حياة الأسرة» جعل كيال يتساءل عن حقيقة 
الدور الذي كان يلعبه ميل الحمزاوي في حيائه عامّة 


وحياة أبيه خاصة» ولبث السيّد في حجرته منفردًاء 
يتائل أحداث اليوم في صمتء كأتما لا يصدّق حمًا أن 
العريس هو عبد المنعم حفيده. ويوم فاتحه إبراهيم 
شوكت في الأمر عجب, واستنكر» كيف تسمح لابنك 
بأن يحدّئك ببذه الصراحة وأن يمل إرادته عليك, 
إنُكم آباء خلقتم لإفساد الأجيال» ولو في غير الظرف 
الذي يدرك دقته لقال لاء ولكن كانت هناك عائشة. 
فحيال تعاستها تخل عن عناده التقليدي كله. وم 
يطق ‏ خاصّة بعد ما ثار حول صمت فؤاد الحمزاوي 
من تعليقات ‏ أن بحيب دلحا رجاءء وإذا كان زواج 
نعيمة يفف من لوعة قلبها فأهلا به وسهلا. هكذا 
دفعه الحرج إلى أن يقول نعم. وأن يسمح للصبيان أن 
يملوا إرادتهم على الكبار وأن يتزوجوا قبل أن يتجاوزوا 
مرحلة التلمذة. 

ودعا عبد المنعم إلى مقابلته. وطلب إليه أن يتعهد 
بإهام دراستهء فتكلّم عبد المنعم كلامًا جميلًا مريجًا 
مستشهدًا في أثناء ذلك بالقرآن والحديث. فترك في 
نفس جدّه آثارًا متباينة من الإعجاب والسخرية, 
هكذا يتزؤج التلميذ اليوم على حين أن كال لم يفكر 
في الزواج بعد. وعلى حين رفض هو يومًا أن تعلن 
خطبة المرحوم فهمي ‏ مجرد إعلان خطبة ‏ الذي مات 
قبل أن يجني ثمرة شبابه الغضٌ» وهكذا يبدو أن العام 
قد انقلب على رأسه. وأنْ دنيا عجيبة أخرى تشبّء 
وأنّنا غرباء بين أهليناء اليوم يتزوّج التلاميذ ولا ندري 
ماذا يصنعون غدًا. 

وف حجرة الاستقبال كانت خديهة تقول من ضمن 
حديث طويل : 

- لذلك أخليئا الدور الثاني من سكانه. وسيستقيل 
الليلة العروسين وهو على أحسن حال. 

فقال لما ياسين بلهجة غادرة: 

عندك كافة المواهب الي نجعل منك «حماة» لا 
نظير لهاء ولكئك لن تستطيعي استغلال مواهبك الفذّة 
مع هذه العروس! 

فأدركت ما يرمي إليهء ولكئها تجاهلته قائلة : 


5 العروس ابنتي وابنة أختي . 5 
وقالت زثوبة تلطف من تعريض ياسين: 


خيل ية هانم سيدة كاملة! 

فشكرتها نخديجة. وكانت تقابل تودّدها بالشكر 
والاحترام إكراما لياسين. على الرغم من احتقارها 
الباطيّ لحاء وكانت كريمة تتألق في سئها العاشرة نما 
جعل ياسين ينوه بأنوثتها المنتظرة!. أما عبد المنعم 
فراح يحادث جذته أمينة المعجبة بتدينه» وكانت تقطع 
حديئه بالدعاء له. وسال كال أحمد ممازحًا: 

- وأنت تتزؤج في العام المقبل؟ 

فقال أحمد ضاحكًا: 

إلا إذا اتبعت سنّتك يا خبالي ! 

وكانت زنُوبة تتابع حديثههماء فقالت موججهة الخطاب 
إلى كمال : 

- لو سمح لي سي كمال فإن أعِد بأن أزوجه في 
أيَام ‏ 

فقال ها ياسين وهو يشير إلى نفسه: 

- إن مستعدٌ لأن أسمح لك عن نفسي! . 

فقالت وهي عبر راسها عبكما: 

- لقد تزوجت بما فيه الكفاية» وأخحذت نصيبك 
ونصيب أخيك . . , 

وانتبهت أميدة إلى موضوع الحديث» فقالت 
لرنوية : 

ح قا لعف كال الاحاوك ان لشي لا لد 
في حياتي! . 

وتخيّل كال أمّه وهي تزغرد فضحكء, ثم تيل 
نفسه في مجلس عبد المنعم ينتظر المأذون فوجم. الزواج 
يج دوامة في أعياقه كما ميج الشتاء الربو عند 
المرفن» نوغىتوففة: فنك كل ناث كله لا 
يستطيع أن يتجاهله. وهو خالي القلب ولكنّه يضيق 
بخلوّه كا كان يضيق قديا بامتلائهء واليوم إذا أراد 
الزواج فليس أمامه إلا الطريق التقليديّ الذي يبدأ 
بالخاطبة. وينتهي بالأسرة والأطفال والاندماج في 
ميكانيزم الحياة. فلا يكاد يجد المولع بالتأمل موضعًا 
للتامئل» وسوف يرى الزواج دائمًا أبدًا في مركز عجيب 
بين الحنين من ناحية والاشمئزاز من ناحية أخخرى» أما 
في نباية العمر فلن تجد إلا الوحدة والكابة . . . 

السعيدة حمًّا في ذلك اليوم كانت عائشة» لأوّل مرّة 


السكرية 59م 


منذ تسع سنوات تحلّت بثوب جميل وعقصت شعرها. 
وكانت ترقب ابنتها التي تبذت كقبضة من نور بعينين 
حالمتينء فإذا غلبها الدمع أخحفت عنها وجهها الشاحب 
الذابل؛ وقد لمحتها أمّها مرة وهي تبكي. فنظرت 
إليها معاتبة وهي تقول : 

لا يصح أن تترك نعيمة البيت وفي قلبها حزن! 

فانتحبت عائشة قائلة : 

ألا ترينها وحيدة في هذا اليوم لا أب ولا أخ؟ 

فقالت أميئنة : 

البركة في أمّهاء ريّنا يخليها لحاء وهي ذاهبة إلى 
خالتها وعمّهاء ونا بعد ذلك الله خالق الملك كله , , . 

فجففت عائشة عينيها وهي تقول : 

- ذكريات الأموات الأعزاء تغمرنىي من طلعة 
الصبح. ووجرههم تلوح ليء ثم إن بعد ذهابها 
سابقى وحيدة . . 

فقالت أميئة في عتاب : 

لست وحيلة . . 

وكانت نعيمة ترئت خحد أمّها وتقول: 

- كيف أستطيع أن أغيب عنك يا ماما؟ 

فتجيبها عائشة يحنال وهي تبتسم : 

- سيعلمك بيت زوجك كيف تستطيعين! 

- ستزورينني كل يوم. كنت تتحاشين الاقتراب من 
السكريّة» ولكن يجب أن تتخلل عن هذه العادة منذ 
اليوم . 

- طبعًاء هل تشكّين في ذلك؟ 

وإذا بكيال يقبل عليههما قائلا : 

استعدًا جاء المأذون! . . . 

وعلقت عيناه بنعيمة في إعجاب. يا للجمال» 
والرقة» والشفافيّة» كيف يكون للحيوانيّة دور في هذا 
الكائن اللطيف!؟ 

ولا عرف أنْ الكتاب قد كتبء تبودلت التهاني. 
وإذا بزغرودة تقتحم على البيت وقاره وتلعلع في جوه 
الصامت؛ فاتجهت الرءوس في دهش إلى حيث وقفت 
أمّ حنفي في نباية الصالة. وما جاء وقته الوليمة وتوارد 
المدعوّون إلى المائدة» انقبضش صدر عائشة وتركز 


٠م‏ السكرية 


تفكيرها في الفراق الوشيك, فلم تنفتح نفسها 
للطعام » ثم جاءت أمْ حنفي فأبلغت أن الشيخ متولي 
عبد الصمد جالس على الأرض في الحوش» وأنّه طلب 
عشاءه خاصّة من اللحومء فضحك السيّد وأمر بأن 
هيا له صيئيّة وحمل إليه. وما لبث أن ترامى إليهم 
صوته صاعدًا من الحوش وهو يدعو بطول العمر لحبيبه 
«ابن عبد الجواد؛ ويتساءل في الوقت نفسه عن أسماء 
أبنائه وأحفاده ليدعو لهمء فقال السيّد باسًا: 

يا للخسارة!... نسي الشيخ متولي أسياءكمء 
سامح الله الشيخوخة. . . 

فقال إبراهيم شوكت: ظ 

إِنه في المائة من عمرف أليس كذلك؟ | 

فأجاب أحمد عبد الجواد بالإيجاب» وعلد ذلك 
تعالى صوث الشيخ مرّة أخرى وهو يصيح : 

باسم الحسين الشهيد أكثروا من اللحم! 

فضحك السد قائلا : 

د سر ولايته قاصر اليوم عل اللحوم ! 

وحين ساعة الوداع سبق كيال إلى الحوش ليتجئب 
ذلك المنظره ومع أنه لم يزد على انتقال يسير إلى 
السكريّة إلا أنّه كان ذا وقع شديد كالصداع في قلبي 
الأمّ وابنتها. والواقع أن كال كان ينظر إلى هذا 
الزواج بعين ملؤها الشك. بالنظر إلى جدارة نعيمة 
للحياة الزوجيّة. وني الحوش رأى الشيخ متوني عبد 
الصمد جالسًا على الأرض تحت المصباح الكهربائيّ 
المثبت في جدار البيت ليضىء المكان» مادا ساقيه, 
مكايا سانا ايقن عالدنا وطاقةا بيضناس الفا كانه 
مستندًا إلى الجدار كالنائم ليريح جوفه مما امتلأ به من 
طعام. ورأى بين ساقيه ماء يسيل» فأدرك من النظرة 
الأولى أنْ الشيخ يبول وهو لا يشعرء وكانت أنفاسه 
تتردّد فتسمع كالفحيح . حدجه كيال بنظرة حمعت بين 
التقرّز والرئاء» ثم خطر له خاطر فابتسم على رغمهء 
وفال لنفسه: 

لعلّه كان طفلا مدلل عام 181٠‏ م. 


1 


في اليوم التالي مباشرة ذهبت عائشة لزيارة 


السكريّة.» طوال الأعوام التسعة المنقضية لم تغادر 
البيت القديم إلا لزيارة القرافة؛ فيرا عدا زيارات 
معدودات لقصر الشوق حين وفاة ابنفي ياسين 
الصغيرين. وقفت قليلا عند مدخمل السكريّة تلقي 
على المكان نظرة شاملة؛ ححيّى غطى الدمع ناظريها. 
على الأرض أمام مدخل البيت التي أشبعتها أقدام 
عثيان ومحمّد جريًا ولعبّا. والحوش الذي ازدان يوما 
بحفل عرسها البهيج. والمنظرة التي كان يجلس فيها 
خليل يدن غليونه ويلعب الطاولة والدومينوء ذلك 
شذا الماضي العطر المشبع بالحنان والحبٌ المفقودين. 
وهى سعيدة» سعادة سارت مسير الأمثال» حثّى فيل 
عنها الضاحكة المترئمة التي لا شغل لا إلا مضاحكة 
المرآة ومصاحبة الزينة. والروج يناجي والأطفال 
يثبون» تلك الأيّام الماضية. وجففت عينيها حيّى لا 
تلقى العروس باكية. جفْفت عينين ما تزالان زرقاوين 
وإن تساقطت أهدامها وذبلت جفونها. ووجدت الشقّة 
قد جُدّدت مرافقها وطليت جدراءها فبدت ثغرًا باس 
في جهاز العروس الذي أنفق عليه بسخاء. واستقبلتها 
نعيمة في فستان أبيض هفهاف, وقد أرسلت شعرها 
الذهبئّ حتّى مشت أهدابه باطن الساقين. رائقة عذبة 
وضيئة ينبعث من أردائها عرف ساحرء فتعائقتا عناقًا 
طويلًا حاراء حيّى قال عبد المنعم» وكان ينتظر دوره 
في السلام في روب جنزاريّ شمل به جلبابه الحريري : 

- كفاية» أقل سلام يكفي هذا الفراق الوهميي ! 

ثم عانق خالته؛ ومضى بها إلى مقعد وثير فأجلسها 
وهو يقول: 

كنا في سيرتك يا خالتى. فقد قر رأينا على أن 
تدعوك للاقامة معنا .16 

فاتسمت عائشة قائلة: 

أنَا هذا فلاء سأزوركم كل يوم فتكون فرصة 
للفسحة. ما أحوجني إلى الحركة! 

فقال عبد المئعم انه المعهودة : 

- نغومة قالت لى إنك لا نحتملين المكوث هنا خحشية 
أن تطاردك الذكريات» إِنّْ الذكريات الحزينة لا تطارد 
المؤمن» وذلك أمر الله وقد مضى مئل عهد بعيدى 
ونحن أولادك فقد عوضك الله! . 


هذا الشابٌ طيّب صريح ولكنّه لا يبالي أين يقع 
كلامه من القلوب الترنحة . 

طبعًا يا عبد المنعم. ولكيّي مرتاحة في بيتي. هذا 
ا 

وإذا بخديجة وإبراهيم وأحمد يدخلونى 
فيصافحوباء ثم تقول نخديجة لعائشة : 

- لو عرفت أنْ هذا الذي يعيدك إلى زيارتدا 
لزوجتهما قبل البلوغ ! 

فضحكت عائشة» وقالت تذكر خديهة بالماضي 
البعيد: 

المطبخ واحد؟!. أم تطالب العروس بالاستقلال 
من حماتها؟ 

فضحكت نخديجة وإبراهيم معاء وقالت خديجة 
بلهجة لم تمل من معنى : 

العروس كأمها لا تعنى بالسفاسف! . 

وقال إبراهيم ليفسّر لابنيه ما غمض من تلمسح 
عائشة : 

بدأت المعارك بين أمكم) وأمي سبب مشكلة 
المطبخ الذي كانت أمّي تستقلٌ بهء ومُطالبة امك 
بالاستقلال المطبخي . . . 

فقال العريس متعجبا: 

- كنت تتعاركين يا نيئة بسبب المطبخ! . . . 

فقال أحمد ضاحكا: 

وهل من سبب للمعارك التي تدور بين الأمم إلا 
هذا المطبخ؟! 

فقال إبراهيم في بكم : 

أمكما قويّة كإنجلتراء أما أمّي فرحمة الله 

وجاء كيال» كان يرتدي بذلة بيضاء أنيقة؛ أما 
وجهه فيتكوّن من الطاقم اللألوف المركب من جبينه 
البارز وأنفه العظيم ونظارته الذهبية وشاربه المرئع 
الغليظ. وكان يحمل بيده لقّة كبيرة بثّرت بهديّة 
متازة» فقالت خديجة باسمة وهي تتفخخص اهليّة : 

حذار يا أحيء إذا لم تعدارك نفسك بالزواج 
فستظل تجيء بالهدايا دون أن يُردٌ لك الجميل» الأسرة 
كلها اليوم موشكة على الرواج» هذا أحمدء وهناك 


السكرية الام 


رضوان وكريمة. تدارك نفسك بالتى هى أحسن! . 

نمال لعن 00 

بدأت العطلة المدرسيّة يا خخالي؟ 

فأجاب كال وهو ينزع طربوشه ويرنو إلى العروس 
الحميلة : 
7 فترة يسيرة للمراقبة والتصحيح في 
الابتدائية ! 

وغابت نعيمة لتعود مرّة أخرى بصينية فضِيّة حافلة 
بشي أنواع الحلوى. مختلفة الألوان والطعومء فمضت 
فترة لم يسمم خلالها إلا التمطق والمصمصة» ثم راح 
إبراهيم يحكى ذكريات فرحه الحفل» والمغني . 
والعالمة. وتابعته عائشة بوجه باسم وقلب محزون. 
وتابعه كيال بشغف إذ كان يعبد عليه صررًا ما زال 
يذكر بعضها ويود لو يعرف ما فاته منها. قال إبراهيم 
ضاحكا: 

السيّد أحمد كان كما هو اليوم أو أشدّء ولكنّ أمّي 
رحمها الله قالت بحزم: ليفعل السيد ما يشاء في بيته. 
أما عندنا فنحن نفرح كما نشاءء وقد كان. وجاء 
السيد يوم الفرسح ومعه أصحابه مساهم الله بالخير 
جميعٌاء أذكر منهم السيّد ممّد عفت جد رضوان, 
فجلسرا حميعًا في المنظرة بعيدًا عن الزياط! , 

وقالت لحدخية : 

أحيت الليلة جليلة أشهر عالمة في عصرها. . . 

وابتسم قلب كمال وذكر السدرونة العجوز التي ما 
تزال تنوه بعهد أبيه! . . . 

وقال إبراهيم مسترقًا النظر إلى عائشة : 

وكان لنا عالمة خصوصيّة لبيتناء ولكنّ صوتها كان 
أجمل من العالمة المحترفة» كان يذكرنا بصوت منيرة 
المهديّة في عرّها! . 

فتورد وجه عائشةء وقالت مهدوء : 

د سكت صوتها ملل عهد بعيد. حتى نسيت 
الغناء . . . 

فقال كيال: 

نعيمة تخئى كذلك؛ ألم تسمعها؟ 

فقال إبراهيم : 

سمعت عنها ولكيّى لم أسمعها بعد. الحىّ أن 


م السكرية 


عرفناها شيخة لا عالمة!. وبالأمس قلت لها: زوجك 
شيخ المؤمنين» ولكن ينبغي أن تَوْجل الصلاة والعبادة 
إلى حين! 

وضحكوا جميعاء وقال أحد مخاطنا أناه ' 

- لا ينقص عروسك إلا أن تضمّها إلى شعبة 

فقال العريس : 

- إن شيخنا أوّل من نصحبي بالزواج. . . 

فقال أحمل مخاطنا أنحاه : 

- لعل الإخوان يعتبرون الزواج مادّة من دستورهم 
اران 1 

والتفت إبراهيم إلى كمال قائلا : 

- أما أنت فكنت - أقصد أيَام دخلتي - صغيراء 
وكان شعرك غزيراأ لا كا هو اليوم . وكلدت تنهمنا 
بسرقة أختيك فلم تغفر لنا ذلك أبذًا. . . 

وكنت ميدانا خاليًا لم تبدأ به المعارك بعدء يتتحذثون 
عن سعادة الزواج». لو يعرفون ما يحدّث به الأزواج 
الشاكون!؟ نعيمة أعر عل من أن يملها مخلوق» أي 
شىء لا ينكشف عن حدعة في هذه الحياة؟ !) . 

فقالت: خدكة 'معلتة غل قول زوجها: 

كنا نظن ذلك حبا لناء ولكن انّضح مع الأيام أنه 
ليس إلا عداوة للزواج نشأت معه منذ الصغر! . 

وضحك كيال ىا ضحكوا جميعًا. نه يحب خخديجة. 
ويزيد من حبّه علمه بحبها الشديد له. أمَا تعصب 
العريس فشْدٌ ما يزعجه. ولكنه من ناحية أخرى يحبٌ 
أحمد ويعجب بهء وهو نافر من الزواج ولكن يطيب له 
أن تذكره خديجة به في كلّ مناسبة» وكان قلبه شديد 
التائر بجو الزواج المحيط بهي فالتشى قلبه وحواسه. 
يتساءل لأول مرة: ماذا يملعنى من الزواج؟. . . حياة 
الفكر ى) كان يزعم قديا؟!. إنبي أشك اليوم في 
الرغبة ُْ الآلىء أم رد الفعل الصادر سس لحت 
القديم؟ . 2 حياقي مسوم أي من هذه الأسباب! . 

وسأل إبراهيم شوكت كيال: 

- أتدري لماذا اسف عل عزويتك؟ 


الع ابن 

- إن أعتقد أنك زوج مئالي إذا ترؤجت» فأنت 
رجل بيت بطبعكء منظّم» مستقيمء» موظف محترم. 
ولا شك أنه توجد فتاة في مكان ما من الأرض 
تستحقّك. وأنت مُضيّع عليها حُظها! . 

حيّى البغال أحيانًا تنطق بالحكم. فتاة في مكان ما 
من الأرض» ولكن أين؟ أما عن اثّهامه بالاستقامة فيا 
هر إِلّا كافر فاسق سكير منافق!ء فتاة في مكان ما من 
الأرض» فلعلّه غير بيت جليلة بعطفة الجوهريء 
وهذه الآلام التي تتطاحن في قلبه ما علتها؟. والحيرة 
الي لا مهرب منبها إلا بالخمر والشهوات1. ويقولون 
تزؤج حي تنجب فتخلد, وشدّ ما طمح إلى الخلود في 
شيّى أشكاله وألوانه» فهل يركن يائسًا في النهاية إلى 
هذه الوسيلة الفطريّة البتذلة؟ وثمّة أمل أن يجيء 
الموت بلا ألم يشوٌه راحته الأبديّة» كم بدا الموت يما 
لا معنى له؛ ولكنه ‏ بعد أن فقدت اللحياة كل معانيها ‏ 
يبدو اللذّة الحقيقيّة في الحياق. ما أعجب العاكفين على 
العلّم في معاملهم. ما أعجب الزعماء الذين يلقون 
باأنفسهم بالمهالك في سبيل الدستورء أمًا الذين 
يدورون حول أنفسهم في حيرة وعذاب فالرحمة لهم!. 
وردّد بصره بين أحمد وعبد المنعم؛ في إعجاب مقرون 
بالغبطة, إِنْ الجيل الجديد يشقٌّ سبيله العسير إلى 
هدف بين دون شك أو حيرة» ترى ما سر دائي 
الونيل 15 

قال أحمد : 

- سأدعو العروسين ووالديّ وخالتي إلى لوج في 
الريحاني الخميس القادم . 

فتساءلت لححدئهة : 

- الريحاني؟ 

فقال لما إبراهيم مفشسرًا: 

- كشكش بك! . 

فضحكت تنحدنحجة وقالت: 

- كاد ياسين يُطرد من بيتنا وهو عريس بسبب أنخذه 
أَمّ رضوان ليلة إلى كشكش! 

فقال أحمد باستهانة : 

- كان زمان وجيره جذدّي الآن لا يمانم في ذهاب 


جدتي إلى كشكش بك! 

- خحذ العروسين وأباك, أمَا أنا فكفاية عل 
الراديو. . . 

وقالت عائشة : 

- وكفاية عل أنا بيتكم. . . 

وراحت نخديجة تقص قصة ياسين وكشكش بك 
حتّى حانت من كال نظرة إلى ساعته فتذكّر موعد 
رياض قلدسء فنهبض مستاذنًا في الانصراف. 


٠ 


- أتستطيع أن تستمتع بججال الطبيعة حمًا بالرغم 
من أن الامتحان لم يبق عليه إلا أيَام؟ 

كان السائل طالبًاء والمسئول طالبًا كذلك. في 
جماعة من الطلاب افترشت العشب على هيئة نصف 
دائرة فوق هضبة خضراء في أعلاها كشك خشبيّ 
احتله طللاب آخرون» وعلى مرمى البصر تسراءت 
جماعات النخيل وحيضان الأزهار تتخللها نمائى 
الفسيفساء. قال الطالب المسكول: ْ 

- كبا يستمتع عبد المنعم شوكت بالحياة الزوجية. 
رغم اقتراب الامتمحان . 

كان عبد المنعم شوكت جالسًا في محيط نصف 
الدائرة» وكذلك أحمد شوكت» فقال عبد المنعم : 

- الزواج بخلاف ما تظنون, هئ للطالب أحسن 
فرصة للنجاح . 

فقال حلمي عرّْتء, وكان يجلس لصق رضوان 
ياسين في الطرف الآخر من نصف الدائرة: 

هذا إذا كان الزوج من الإخوان المسلمين! 

وضحك رضوان عن ثغره اللؤلؤيّ» رغم ما أثاره 
الحديث في نفسه من غمّء أجل إن سيرة الزواج تثير 
قلقه. فلا يدري إن كان يقدم يومًا على هذه المغامرة 
أم لاء مغامرة مخيفة بقدر مأ هي ضروريّة. ولكن ما 
أبعدها عن روحه وجسده!. وتساءل طالب : 

وما الإخوان المسلمون؟ 

فأجابه حلمي عرّت : 


السكرية #/ايم 


- جمعيّة دينيّة تيدف إلى إحياء الإسلام علا وعملًا. 
ألم تسمع بشعبها التي بدأت تتكون في الأحياء؟ 

- غير الشبان المسلمين؟ 

5235 

- وما الفرق؟ 

فاجاب وهو يشير إلى عبد المنعم شوكت : 

سل الأخ. . . 

فقال عبد المنعم بصوته القوي : 

- لسنا جمعيّة للتعليم والتهذيب فحسب. ولكئنا 
نحاول فهم الإسلام كما خلقه الله؛ ديئًا ودنيا وشريعة 
ونظام حكم. . . 

أهذا كلام يقال في القرن العشرين؟ . . 

فقال الصوت القوي : 

- وف القرن العشرين بعد المائة. . 

- احترنا يا هوه بين الديموقراطية والفاشستية 
والشيوعية. هذا خحازوق جديد! 

فقال أحمد ضاحكا: 

- لكنّه خازوق ربان! 

فعلت ضبّة ضحك, إلا أنّ عبد المنعم حدجه 
بنظرة غاضبة» وكأن رضوان ياسين ساءه التعبيرء 
فقال: 

- خازوق تعبير غير موفق. . . 

وعاد الطالب يسأل عبد المنعم : 

- وهل ترجمون الئاس إذا خالفوكم؟ 

إث الشبان يتهدّدهم زيغ في العقيدة. وانعلال في 
الخلق. وليس الرجم بأشدّ ما يستحقّونه. ولكّنا لا 
نرجمء وإثما بالموعظة الحسنة والمفال الطيّب بدي 
ونرشدء وآية ذلك أن بيتنا يضِمٌ. أخا من يستحقّون 
الرجم : وها هو يمرح أمامكم : ويتطاول على خحالقه 
شحانة| 

فضحك أححمد.ى وقال حلمي عت مخاطنا إياه : 

إذا آنست من أخخيك خطراء فإنّني أدعوك للإقامة 
معي في الدرب الأحمر. . . 

أأنت مثله؟ 

- كلاء ولكننا معشر الوفديّين قوم متسامحون, 
النتقاز الأول ازطبمها قبطم هكذا اتخوه ... 


4م السكرية 


وعاد الطالب الأوّل يقول: 

كيف تدعون إلى هذا الهراء في نفس الشهر الذي 
ألغيت فيه الامتيازات الأأجنييّة؟ 

فقال عبد المنعم متسائلا : 

- أنبطل ديئنا إكرامًا للأجانب؟ 

وإذا برضوان ياسين يقول وكأئما كان في واد آخر: 

ألغيت الامتياز ات فدع, الذين انتقدوا المعاهدة 
كلم 

فقال حلمي عزت: 

هؤلاء النقاد غير مخلصين, إِنْها الكراهية والحسد». 
إن الاستقلال الحقيقي الكامل لا يؤخذ إِلّا بالحرب؛ 
فكيف يطمعون في أن ثنال بالكلام أكثر مما نلنا؟ 

فجاء صوت يقول في ضجر: 

- دعونا نتساءل عن المستقبل . . . 

المستقبل لا يبحث في شهر مايو والامتحان على 
الأبواب» أريحونا. .. لن أعود إلى الكليّة بعد اليوم 
حتّى ينسع لي الوقت للمذاكرة. . 

- مهلا. إِنْ الوظائف لا تنتظرناء ما مستقبل 
الحقوق أو الآداب؟ التسكع أو الوظائف الكتابيّة, 
تساءلوا عن المستقبل إذا شثتم. . 

أمَا وقد ألغيت الامتيازات فستفتح الأبواب! 

الأبواب؟!. السكان أكثر من الأبواب! 

- اسمعوا... النحّاس أدخل الطلبة الجامعة 
وكانت أبوابها مغلقة, وأتاح لهم النجاح بعد أن 
أعجزهم المجموع المتعسشف فهل يعجز عن توظيفنا؟ 

ولاح في أقصى الحديقة سربء فائعقدت الألسنة 
وانمهت نحوه الرءوس» كان مكوّئًا من أربع فتيات 
قادمات من الجامعة متجهات صوب مديريّة الحيزة» ل 
تكد مَيْرهن الأبصار بعد ولكنْبنّ تقدّمن متمهّلات 
يسقن الأمل في رؤيتهن عن قربء إذ كان الممرٌ الذي 
سِرّنْ فيه ينعطف أمام مجلس الصحاب في مسيره نحو 
الشهال. وصرن في مجال البصرء وردّدت الألسن 
أساءهنٌ وأساء كلْيَاتِنٌ» واحدة من الحقوق وثلاث 
من الآداب. وقال أحمد لنفسه وهو ينظر إلى إحداهِنٌ : 
«علويّة صبري»), وجذب الاسم شوارد نفسهء فتاة 
ذات جمال ترك ممضرء معتدلة الطول نحيلة. بيضاء 


ذات شعر أسود فاحم. وعينين سوداوين واسعتين 
عاليتي الحفون. مقرونة الحاجبين». ذات سمث 
أرستقراطيّ ولفتات رفيعة وإلى ذلك كله فهي زميلة 
قُِ القسم الأعدادىّ. وقد علم ‏ والباحث يظفر 
بمعلومات شبّى ‏ أنها سجلت اسمها مثله في قسم 
الاجتماع» ول تكن تبيات فرصة ليبادلها كلمة واحدة. 
ولكتها أثارت اهتتامه من أول نظرة؛ طلما رمق ملامح 
نعيمة بإعجاب ولكنها لم تبرّ أعماقهء هذه الفتاة لها 
شأن. فيبشّر قريبًا بصداقة العقل» والقلب. . .؟! 
قال حلمي عزت عقب تواري السرب عن 


الأنظار: 
بنات! , 


فقال رضوان ياسين وهو يردّد بصره بين طلاب 
الآداب في نصف الدائرة: 

لا تثقوا بصداقة طلاب الحقوق الدين يكثرون 
من زياراتكم في كليّتكم بين الخحصصء. فالغرض 
مفضوح! . 

ثم ضحك ضحكة عالية: ولكنّه لم يكن سعيدًا في 
تلك اللحظة؛ فإِنْ حديث الفتيات يشير في نفسه 
اضطرابًا وحزنًا. 

- للم تقبل الفتيات على كلْيّة الآداب؟ 

لأنْ وظيفة التدريس هي أوسع الوظائف صدرًا 
ا 
فقال حلمي عرّت : 
هذا من ناحية» ومن ناحية أخرى فدراسة 
الأداب دراسة نسائية. الروج والمانيكور والكحل 
والشّعر والقصصء كلها باب واحد!. 

فضحكوا جميعًا حي أحمدء وبقيّة طلاب الآداب 
ضحكوا رغم تونّبهم للاحتجاج, ثم قال أحمد: 

- يصدق هذا الحكم الجائر على الطبّء فطلما كان 
التمريض نسائياء أمّا الحقّ الذي لم يستقرٌ بعد في 
نفوسكم فهو الإيمان بالمساواة بين الرجل والمرأة. 

فقال عبد المنعم باسمًا : 

- لا أدري إن كان مدحًا أم ذمًا أن نقول للنساء 
إن مثنا؟ 


إذا تعلّق الأمر بالحقوق والواجبات فهو مدم لا 
فقال عبد المنعم : 
د لقد سوّى الإسلام بين الرجل والمرأة فيها عدا 
المراث , 

فقال أحمد متهك: 

- حيّى في الرقٌ ساوى بينهب)! 

فاحتك عبد المنعم قائلا : 

أنتم لا تعرفون دينكم» هذه هي المأساة!. . 

والتفت حلمى عرّت إلى رضوان ياسين. وسأله 
باسم) : 

ماذا تعرف عن الاوسلام؟ 

فساله الآخر بنفس لهجته : 

- وماذا تعرف أنت عنه؟ 

فسأل عبد المنعم أنعاه أحمد: 

وأنت ماذا تعرف عنه حيّى لا تبرف بما لا تعرف؟ 

فقال أحمد مبدوء: 

أعصسرف أنه دين» وحسبي ذلك لا أومن 
بالأديان! . . . 

فتساءل عبد المنعم مستنكرا : 

ألديك برهان على بطلان الأديان؟ 

ألديك أنت برهان على حقيقتها؟ 

فقال عبد المنعم وقد ارتفع صوته حيّى جعل الشابٌ 
الذي يجلس بينه وبين أنخحيه يردد رأسه بينهها كالمنزعج : 

عندي .» وعنللك كل مؤمن ؟ ولكن دعني أسألك 
وله كي تعيش ؟ 

بإيماني الخاص» إيماني بالعلم والإنسانية وبالغد. 
ويما ألتزمه من واجبات ترمي في النباية إلى تمهيد 
الأرض لبناء جديد. 

هدمت كلّ ما الإنسانٌ إِنسانٌ به. . 

- بل قل بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة آية لا على 
ازقياء ولكن عل مظةتيجقر مي الا نقد 
معنى الحياة المتجدّدة. ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن 
أغيّره وأنا رجل» طاللما كان الإنسان عبدًا للطبيعة 
والإنسان. وهو يقاوم عبودية الطبيعة بالعلم 
والاامتراع. كيا يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب 


السكرية ه/الم 


التقدّميّة» ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة 
على عجلة الإنسانية الخحرّة! 
فقال عبد المنعم. وكان في تلك اللحظة يكره فكرة 
أخوة أحمد له: 
الإلحاد سهل. حل سهل هروبي؛ هرون من 
الواجبات التي يلتزمها المؤمن حيال ربئه ونفسه 
والناس» وليس من برهان على الالحاد يمكن أن يعد 
أقوى من البرهان على الإيمان. فئحن لا نختار هذا أو 
ذاك بعقولنا بقدر ما نختاره بأخلاقنا. . . 
وتدخّل رضوان قائلا: 
- لا تستسلا لعنق المناقشة» كان من الأفضل لكا 
كأخوين أن تكونا من حزب واحد. . . 
وإذا حلمي عرّْت يندفع قائلاء وكان أحيانًا تعتريه 
نوبات ثائرة غامضة : 
- إهان... إنساتئيّة... الغد!. كلام فارغ, 
النظام القائم على العِلّم وحده ينبغي أن يكون كل 
شىء؛ يجب أن نؤمن بشىء واحد هو استئصال 
الضعف البشري كانه اتراضهة «ودينا بدااعامنا 
قاسيّاء وذلك للوصول بالبشريّة إلى مثال قو نظيف! 
أهذه مبادئّ الوفد الحديدة بعد المعاهدة! 
فضحك حلمي عرزت ضحكة عادت به إلى حالته 
الطبيعيّة» وقال عنه رضوان: 
إِنه حمًا وفدئّ. ولكن تطوف به أحيائًا مذاهب 
طارئة غريبة فيدعو إلى القتل بالجملة» ورتما دل ذلك 
على أنه لم ينم أمس نومًا مريحًا! 
وكان لشدّة الخصام ردّ فعل فساد الصمت» فسَرٌ 
ذلك رضوان» وسرّح بصره فيها حوله فراح يتابع 
بعض الحدأ المدوّمة في السماء؛ أو يرنو إلى أسراب 
النخيل »؛ الكل يعلن رأيه حبّى ما يتهججم به على 
الخالق» ولكنّه لا يسعه إِلَآ أن يكتم ما يضطرم في 
أعباق نفسهء وسيظل سرًا مرعبًا يتهدّده. فهر 
كالمطاردء أو كالغريبء. من الذي قسم البشر إلى 
طبيعيَ وشاذ؟: وكيف تكون الخنصم والحَكم في آن؟. 
لم نبزأ كثيرًا بالتعساء؟. قال رضوان مخاطسا عبد 


المنعم : 


“لام السكرية 


- لا تزعل» إن للدين ربًا يحميهء أمًا أنت فبعد 
تسعة أشهر على الأكثر ستكون أبا! . 

000 

فقال أحمد مداعبًا أخاه ليمسح عنه آثار الحدَّة : 

- أهون عل أن أتعرّض لغضب الله من أن أتعرّض 
لغضبك! 

ثم مفى أحمد يحدّث نفسه: غضب أم لم يغضب 
فسيجد عند عودته إلى السكريّة صدرًا حانيًاء أمن 
المستحيل أن أعود يوما فأجد علوية صيري في الدور 
الأول بالسكريّة؟ 

وندّت عنه ضحكة, ولكنٌ أحدًا لم يمن السبب 


"١ 


بدا بيت عبد الرحيم باشا عيسى في حركة غير 
مألوفة, ففي الحديقة وقف أناس كثيرونء وفي 
الفرائدا جلس آخرون, وكثر الداخل والخارجء فلكز 
حلمي عرزت ذراع رضوان ياسين وهما يقتربان من 
البيت» وقال له بارتياح : 

- لسنا بلا أنصار ى! تزعم جرائدهم. . . 

وعندما أخذا يشئان سبيلها إلى الداحل. هتف 
بعض الشبان «يحيا التضامن» فتورّد وجه رضوان 
تأثرًا. كان متحمّسًا ثائرًا مثلهم. بيد أنه ساءل نفسه 
في قلق: ترى آلا يشكٌ أحد في الجانب غير السياميّ 
من زياراته؟ وقد أفضى مرّة بمخاوفه إلى حلمي عرّْت. 
فقال له: «إِنَّ الريبة لا تلحق إلا بالخوّاف! بر مرفوع 
الرأس ثابت الأقدام. يجدر بالذين يعدّون أنفسهم 
للحياة العامة ألا يكترئوا لآراء الناس أكثر ثما نجب». 
وكان بهو الاستقبال مكتظًا بالجالسين. منهم طلبة 
وعّال وبعض أعضاء اليئة الوفديّة» وفي صدر المكان 
جلس عبد الرحيم باشا عيسى» متجهمًا على غير 
عادته. جادًا صارمّاء تكتنفه هالة الرجل السياسي” 
الخطير, وتقدّما إليه فنبض لاستقبالما في رزانة, 
وصافحها ثم أشار لهها بالجلوس. وقال أحد 


الجالسين» وكان قد توقف عن الحديث أثناء استقبال 
الشابين : 

- شد ما فوجوء الرأي العام وهو يطلع على أسراء 
الوزراء الحدد. فلا يجد بينهم النقراشي! . 

فقال عبد الرحيم باشا عيسى : 

توقعنا عند الاستقالة أمراء خاصّة وأنْ الاختلاف 
كان قد ذاع حتّى تحدّثت به المقاهي. ولكنّ النقراثي 
ليس كغيره من أعضاء الوفد. لقد فصل الوفد من قبله 
كثيرين فلم تقم لهم قائمةء أما النقراشي فله شأن 
آخرء ولا تنسوا أنّْ النقرائى معناه أحمد ماهر أيضّاء 
قن الزنتب: الرقية الشاهة النافيال المخارنم مكنا 
المشائق والسجون والقنابل» وليس الخلاف هله المرّة 
بالذي يشين الخارج. هي نزاهة الحكم. قضية 
القنابل» وإذا وقع المحذور وانشقٌ الوفد» فالوفد هو 
الذي سيخرج لا النقراشئى ولا ماهر! . . . 

- لقد كشف مكرم عبيد عن وجهه أخيرً. . . 

ووقم هذا القول من أذني رضوان موقعًا غريباء فلم 
يكن ما يسهل تصديقه أن باجم قطب الوفد بهذا 
الأسلوب في بيئة وفديّة صميمة؛ وإذا بآخر يقول: 

- مكرم عبيد هو رأس هذا الك كلد يا متعادة 
الباشا, ... 
فقال عبد الرحيم باشا: 

- ليس الآخرون أصفارًا. . . 

لكنّه هو الذي لا يطيق منافسيه. إنه يريد أن 
يستحوذ على النحاس وحده دون شريك. وإذا نعلا له 
اجو من ماهر والنقرائي فلن يقف في سبيله شيء. . . 

- لو أمكنه إزالة النحّاس نفسه لأزاله, , . 

فقال شيخ من الخلوس : 

- أرجوكم, لا تسرفوا في القول. قد تعود المياه إلى 
مجاريها. 

عانق أن تلفت الوزارة دون النقراشيى؟ 

كل ل كو 

- كان من الممكن هذا على عهد سعد, أمّا النحاس 
فرجل عنيد» وهو إذا ركب رأسه. . . 

وهنا دخل البهو رجل مهرولاء فاستقبله الباشا 
وسط المكان وتعانقا بحرارة والباشا يتساءل : 


متى عدت؟ كيف الحال في الإسكندرية؟ 

عال. . . عال»؛ استقبل النقرائى في محطة سيدي 
جابر استقبالا شعييًا منقطع النظيرء هتفت له الجاهير 
اعقة لثقفة من الأعماق» الجميع غاضبون:؛ الكل ثائر 
لنزاهة الحكم . هتفوا: نحيا النقراشى النزيه. . محيا 
زعيم الأمة, . . 

وكان الرجل يتكلم بصوت مرتفع», فردّد هتافه 
كثيرون حيّى اضطر عبد الرحيم باشا أن يلرّح لهم 
داعيًا 2 التزام الهدوء . وعاد الرجل يقول : 

- الرأي العام ساخط على الوزارة» غاضب لإخراج 
النقراشى منباء لقد خسر الئاس خسارة لا تعؤوض» 
وارتفى أن يؤيد الشيطان ضدٌ الملاك الطاهر. . . 

وهنا قال عبد الرحيم باشا: 

نحن الآن في أغسطس. وفي أكتوبر تفتح 
الجامعة. فليكن افتتاح الجامعة موقعة فاصلة» يجب أن 
نستعدٌ منل الآن للمظاهرات فإمًا أن يشوب النحاس 
إلى رشده» وإما فليذهب إلى الماوية. . 

- أستطيع أن أؤكّد أن مظاهرات الجامعيّين ستتدفق 

فقال عبد الرحيم باشا: 

- كل شىء يحتاج إلى التنظيمء اجتمعوا بأنصارنا 
من الطلبة وأعدّوا العدّة» وفضلا عن هذا فإنّ الأخبار 
الى عندي تؤكّد أن كثرة لا تصدّق من النواب 

- النقراشى هو نخالق لجان الوفدء لا تنسوا ذلك» 
إن تلغرافات الولاء تتسابق إلى مكتبه صباح مساء. . 

وتساءل رضوان ماذا يحدث في الدنيا؟ ترى أينقسم 
الوفد مرّة أخرى؟ وهل يتحمل مسئولية ذلك حقًا 
مكرم عبيد؟. وهل تتّفق مصلحة الوطن وانقسام 
الحزب الذي هبض برسالته ثانية عشر عاما؟. وطال 
الأخذ والردٌء وبحث المجتمعون اقتراحات شيّى خاضة 
بالدعاية وتدبير المظاهرات» ثم أخذوا في الانصراف 
حت +1 ببق في البهو إلا الباشا ورضوان وحلمي 
عت وعند ذاك دعاهها للجلوس في الفراندا, فمضيا 


السكرية لالإبم 


وراءه» وجلس ثلاثتهم حول منضدة» وسرعان ما 
خملت إليهم أقداح الليمون» وما لبث أن تراءى عند 
الباب رجل في الأربعين» عرفه رضوان في بعضص 
زياراته السابقة» يدعى عل مهران. يعمل وكيلًا 
للباشاء وكان منظزه يوحي بما طبع عليه من ميل 
للمزاح والمجون؛ وكان يصحب معه شابًا في العشرين 
من عمرهء جميل ألْحَيّاء يبدو من منظر شعره المائج 
وسوالفه الطويلة وربطة عنقه العريضة أنه من أهل 
الفنّ. وقد أقبل عل مهران باسم الثغر فقبل يد 
الباشاء وصافح الشابين» ثم قدّم الشابٌ قائلا: 

الأستاذ عطيّة جودت» مُعَنّ ناشئْ لكنّه موهوب. 
وقد سبق أن حدّئثتك عنه يا معالي الباشا! 

فلبس الباشا نظارته الى كان وضعها عل المنضدة, 
وتفخص الشاب بعناية» ثم قال باسما: 

أهلا وسهلا يا مى عطيّة. سمعت عنك كثيراء 
فلعلنا نسمعك هذه المدّة. ' 

فدعا للباشا باسياء ثم جلسء على -حين مال علي 
مهران على الباشا وهو يقول: 

- كيف حال عمّي ؟ 

هكذ! كان يخاطب الباشا إذا زالت دواعي الكلفة. 
وأجابه الرجل باسما : 

أحسن منك ألف مرّة! . 

فقال عل مهران جاذًا على خخلاف عادته: 

- يتهامسون في بار الأنجلو عن وزارة قومية قريبة 
برياسة النقرائي! . . . 

فابتسم الباشا ابتسامة سياسيّة وتمتم : 

- لسنا من المستوزرين!. . . 

وتساءل رضوان باهتام وقلق : 

- على أيّ أساس؟ طبعًا لا أستطيع أن أتصور أن 
يقوم النقراشي بانقلاب سيامئّ كمحمّد محمود أو 
إسماعيل صدقي؟ ! 

فقال عل مهران : 

اتقلاب! كلاء المسألة تنحصر الآن في إقناع 
أكثريّة الشيوخ والنوّاب بالانضمام إليناء ولا تنس أن 
الملك معناء فعليّ ماهر يعمل بحكمة وأناة! 

وعاد رضوان يتساءل في كآبة : 


4 السكرية 


- ألكون في النهاية من رجال السراي؟ 

فقال عبد الرحيم باشا: 

العبارة واحدة. ولكنٌ المعنى تغيّ فاروق غير 
فؤاد» والظروف غير الظروف. الملك شابٌ وطن 
متحمس ١‏ وهو مجن عليه أمام هجمات النحاس 
الجائرة! . 

ففرك عل مهران يديه في حبور وهو يقول: 

- ترى متى نهو الباشا بالوزارة؟ وهل تختارني وكيل 
لوزارتك كما اخيترتني وكيلا لأعمالك؟ 

فقال الباشا ضاحمًا: 

- بل أعيّنك مديرًا عامًا للسجونء إِنْ مكانئك 
الطبيعيّ هو السجن. 

- السجن؟ . لكتهم يقولون إِنْ السجن للجدعان؟ | 

ولغيرهم , فليطمئنٌ بالك! 

ثم ركبه الضجر فجأة فهتف: 

- حَسْبنا سياسة» غيّروا الجوّ من فضلكم! . . . 

والتفت نحو الأستاذ عطيّة متسائلًا : 

- ماذا تُسمعنا؟ 

فأجاب عنه عل مهران: 

- الباشا سمّيع وابن حظّء وإذا رُقْتَ في نظره 
تفتحت لك أبواب الاذاعة. , , 

فقال عطية جودت برقة ؛ 

- لحنت أخيرًا أغنية «شبكوني وشبكوه» وهي من 
تأليف الأستاذ مهران! 

فرمق الباشا وكيله. وسأله: 

- منذ متى تؤلّف أغاني؟ . 

- ألم أجاور في الأزهر سبع سنوات؛ غرقت فيها في 
مفاعيل وفعلاتن؟ 

وما للأزهر وأغانيك الخليعة؟؛ شبكوني وشبكوه! 
من هويا حضرة المجاور؟ 

- المعنى يا معالي الباشا في ذقن الباشا! 

- يا ابن الهرمة!, , . 

ونادى عل مهران السفرجىء فسأله الباشا: 

- لماذا تناديه؟ ْ 

ٍ- ليهبي * لنا مجلس الطرب! , . . 

فقال الرجل وهو ينبض : 


- انتظر حيّى أصل العشاء! . . 
- ألم ينقض سلامنا وضوءك؟!. 


32 


غادر أحمد عبد الحواد بيت ناقلا خطاه على مهل. 
متوكثًا على عصاه, لم يعد اليوم كالأمس. فمنذ أن 
صفى دكّانه لم يكن ليغادر بيته إلا مرّة واحدة في 
اليوم» كي يعفي نفسه ما استطاع من الجهد الذي 
يتحمّله قلبه عند ارتقاء السلّم. ومع أن الوقت لم يعد 
سبتمبر إِلَّا أنه رأى أن يرتدي الملابس الصوفيّة, إذ إِنّ 
الجسم النحيل لم يعد يطيق الحَوٌ اللطيف الذي كان 
يمرح فيه الجسم البدين القويّ الذي كان. والعصا 
التي صاحبته منذ الصغر رمرًا للرجولة وآية على الآناقة 
باتت متوكأه في مشيته المتمهّلة» التي لا يطيقها قلبه إلَّا 
بجهد ومشقّة. ولكن بقي له روئقه وأناقته. فيا زال 
يخرص على انتقاء الأزياء الفاخرة» ويتطيّب بالعطر 
الفواح متمتّمًا بجهال الشيخوخة ووقارهاء وعندما 
اقترب من الدكّان مالت نحوه عيئناه بحركة لا إرادية , 
رفعت اللافتة التي حملت اسمه واسم أبيه أعوامًا 
وأعوامّاء وتغيّر مظهر الدكان ومميرو. فائقلب دكّان 
طرابيش للبيع والح وتقذمه الوابور والقوالب 
النحاسية, وتخايلت لعينيه لافتة وهميّة؛ لم ترها عين 
سواه. عالئته بن زمانه قد ولّىء زمان الحدّ والكفاح 
والمسرّات» وها هو في ركن المعاش ينزوي» يستدبر 
دئيا الآمال ويستقبل دنيا الشيخوخة والمسرض 
والانتظارء» وتقبض القلب الذي طالما. وما زال ‏ ميم 
بحب الدنيا وأفراحهاء حيّى إن الإيمان نفسه لم يكن في 
نظره إلا مسرّة من مسرّاتها ودافعًا إلى أحضائباء فلم 
يعرف حتى اليوم ‏ العبادة الزاهدة التي تدير الظهر 
للدنيا وتتطلّع إلى الآخرة وحدها. لم يعد الدكّان دكانه 
ولكن كيف تمحى ذكراه من ذهنه وهو الذي كان مركز 
النشاطء ومحط الأنظار. وملتقى الأصحاب 
والأحباب» ومبعث العرّة والجاه؟. «ولك أن تعرِّي 
نفسك فتقول: زوجنا البنات» وربّينا الصبيان. ورأينا 


الأحفاد. ولنا مال موفور يسترنا حيّ الموت» وذقنا حلو 
الكا سين سف وان لنا أن «تشكرة والشكر 
لله واجبء دائًا أبدّاء ولكن آه من الحنين» وسامح 
الله الزمن» الزمن الذي محجرد حياته - حياته التي لا 
تتوقف الحظة ‏ خيانة وأيّ خيانة للإنسان. لو أن 
الأاحجار تنطق لسألت هذه الأماكن أن تمدثني عن 
الماضفي, لتخبرني أحمًا كان هذا الجسم بهد الجبال؟. 
وهُذا القلب المريض لا يكف عن الخفقان؟» وهذا 
النغر لا يمسك عن الضحك؟.» وهذا الشعور لا يعرف 
الأل؟ء وهذه الصورة معلّقة في كل قلب؟ ومرّة أخرى 
سامح الله الزمن!) . 

وعندما انتهى به المسير الوئيد إلى جامع الحسين» 
خلم حذاءه ودخل وهو يتلو الفاتحة» ومضى إلى المدبر 
حيث وجد في انتظاره محمد عفّت وإبراهيم الفار 
فصِلُوا المغرب جميعّاء ثم غادروا المسجد متّجهين نحو 
الطمبكشيّة لزيارة عل عبد الرحيمء كان ثلاثتهم قد 
اعتزلوا العمل ليتفرّغوا لمقاومة الأمراض» غير أنهم 
كانوا أحسن حالا من علّ عبد الرحيم الذي لم يعد 
بوسعه أن يفارق الفراش» وقال السيّد أحمد متنبّدًا: 

يخيّل إل اني عبّا قريب لن أستطيع الذهاب إلى 
الجامع إلا راكمًا. . . 

ب الحال من بعضيه. . . 

فعاد الرجل يقول في قلق : 

شد ما أخاف أن أضطر إلى ملازمة الفراش 
كالسيّد علّ. إن أدعو الله أن يكرمني بالموت قبل أن 
يدركني العجز. . . 

- ربّنا يكفيك ويكفينا كل سوء. . . 

فبدا كالخائف وهو يقول: 

غنيم حميدو لبث مشلولا في الفراش زهاء العام» 
وصادق الماوردي عانى العذاب شهوراء فاللّهِمْ أكرمنا 
بالعباية السريعة إذا حم م 

فضحك محمد عفت قائلا : 

إذا غلبتك الأفكار السوداء انقلبتٌ امرأة» وححد 
الله يا أخي!. . . 

ولا بلغوا بيت علٌ عبد الرحيم أدخلوا إلى حجرته» 
فبادرهم يقول في جزع : 


السكرية لالم 


تأخرتم عن ميعادكم. ساغكم الله . . . 

بان ضجر الرقاد في عينيه» فلم يعد يعرف الابتسام 
إلا ساعة اجتاعه بهم وجعل يقول: 

لا عمل لى طول اليوم إلا الاستماع إلى الراديوه 
ماذا كنت أصنع لو تأخر استعماله في مصر حثّى اليوم ! 
كل ما يذيعه يطيب لي حيّ المحاضرات التى لا أكاد 
أفهمهاء ومع ذلك فلم تكبر إلى الحدٌ الذي يستوجب 
هذا العذاب. أجدادنا كانوا يتزؤجون في مثل 
أعيارنا! . . . 

فغلبت روح الفكاهة أحمد عبد الجوادء فقال: 

- فكرة!. ما رأيكم في أن نتزوّج من جديد؛ لعل 
ذلك يجدّد شباينا وينفض عنا الأمراض؟ ! . 

فابتسم عل عبد الرحيم ‏ كان يتجئب الضحك أن 
تدركه نوبة السعال فتؤذي قلبه ‏ وقال: 

- معكم | اختاروا لي عروسّاء ولكن صارحوها بان 
العريس لا يستطيع الحركة. وعليها الباقي . . . 

وهنا نحاطيه الفار وكأنًا تذكر أمرًا فجأة: 

أحمد عبد الحواد سيسبقك إلى رؤية وليد حفيدته. 
ربنا يمد في عمره! . 

مبارك مقَدما يا بن عبد الحواد! , . . 

ولكنّ السيّد أحمد تُجهّم قائلا: 

- نعيمة حبلى حقًا ولكئي غير مطمئنّ ما زلت أذكر 
ما قيل عن قلبها يوم مولدهاء طلما حاولت أن أنى 


ذلك عبئًا, . . 
يا لك من رجل جاحد! ملل متى تؤمن بشبوءات 
الأطباء؟ , . . 


فضحك السيّد أحمد قائلا: 

منذ باتت اللقمة التى أتناولها على غير مشورتهم 
تؤرّقني حيّى مطلع الفجر. . . 

فتساءل عل عبد الرحيم : 

دووف ارال ني : 

الحمد لله رب العالمين. 

ثم مستدركا: 

لست بالغافل عن رحة الله ولكنّ الخوف يبعث 
على الخوف؛ والحقٌ فإِنّ لعيمة لا تهمّني بقدر ما تحني 
عائشة يا عل عائشة هي مركز القلق في حياتي»؛ 


٠‏ السكرية 


التعيسة المسكينةء سأثركها إذا تركتها وحيدة في هذه 
الدنيا, , 

فقال إبراهيم الفار: 

- ربّنا موجودء وهو الراعي الأكبر. . . 

وساد الصمت ملياء حب قطعه صوت عل عبد 
الرحيم قائلا : 

- وسيأتي دوري بعدك في رؤية وليد حفيدتي. . . 

فضحك السيّد أحمد قائلا: 

سامح الله البنات» إن يكيرن أهلهنّ قبل 
الأوان. 

يا عجوز! اعترفٌ بالكر وكفالكُ مكابرة. . 

- لا ترفع صوتك خشية أن يسمعك قلبي فيسوق 
العرج. أصبح قلبي كالطفل المدلّل. 0 

فقال إبراهيم الفار وهو مبرٌ رأسه أسفا: 

- يا له من عام ذلك العام الماضي. كان علينا 
شديداء فا ترك واحدًا منّا سليًا كأننا كنا على ميعاد! , 

د عل نرأى عبد الوهات؟ التعيكن :سوا لسوت 
0 
فضحكوا معاء وإذا بعل عبد الرحيم يغيّر هجته 
ويتساءل جاذًا : 

- أهذا يصح؟ أعني ما فعله النقراثي؟ 

فتجهم وجه أحمد عبد الحواد وقال: 

كم أملنا أن تعود المياه إلى مجاريباء أستغفر الله 

أخخوة الجهاد والعمر ضاعت هباء! , 

- في هذا الزمن كل جميل يضيع هباء. . 

وعاد أحمد عبد الحواد يقول : 

- لم أحزن لثيء ىا حزنت لخروج النقراشي». ما 
كان ينبغي أن يذهب به الخصام إلى هذا الحلٌ. . . 

- ترى ما هي النباية الى تنتظره؟ 

- النباية المحتومة. أين الباسل والشمسبى؟. لقد 
تف 'الرسن امه كن شن راهة بن جلي ايه 
ماهر. 

وهنا قال محمد عفّْت متنرفرًا : 

- دعونا من هذه السيرة! . أنا أكاد اطلّق السياسة! . 


عط لقان اتن لبمار اننا 

الو اقبط ريات لا تس الاح ]ل طاؤزقة الفز اق 
كالسيد علّ. فكيف نتقابل ونتحادث؟ 

فال الله ولا فالك , , . 

فضحك أحمد عبد الحواد وقال: 

- لو وقع المحذور نتخاطب بالراديو» كا يخاطب 
بابا «سخام» الأطفال! . . . 

وضحكوا جميعال” وألحرج محمد عفت ساعته ونظر 
فيهاء ولكنّ عل عبد الرحيم جزع وقال: 

د متتقوق: مع محل لتقيو الطنبين الجن اذا 
يقول. ملعون أبوه. وأبو أيّامه. , 


5 

كانت الغوريّة تغلق أبوابهاء فقلّت السابلة 

واشتذت البرودة» وكان الزمن في أواسط ديسميرء. 
ولكنّ الشتاء جاء متعجّلا هذا العام . ولم يكن كيال قد 
وجد صعوبة في جذب رياض قلدس إلى حي 
الحسين؛ أجل كان الشابٌ غريبًا عن الحئ؛ ولكنّه 
وجد من نفسه شوقًا للتقلّب في أنحائه» والجلوس في 
مقاهيه. وكان قد مضى على تعارفهما في مجلّة الفكر أكثر 
من عام ونصف عام, لم يمر أسبوع خلاله دون أن 
يتقابلا مرة أو مرتين, بخلاف العطلة التى تجمع بينبما 
كل مناه ظل روج 'التتريية لذ الفكزه: ار بيت 
بين القصرينء, أو بيت رياض بمنئشيّة البكري» أو 
مقاهي عاد الدين. أو قهوة الحسين الكبرى التي لكأ 
إليها كمال بعد أن أتت المعاول على قهوة أحمد عبده 
التاريخية فمحتها من الوجود إلى الأبد. كانا سعيدين 
بصداقتهياء وقد قال كيال لنفسه مرّة وجعلت أفتقد 
حسين شدّاد أعواماء وظل مكانه شاغرًا, حي ملأه 
رياض فلدس» ففى محضره تستيقظ روحه وتستشعر 
ذلك الانبشاق الذي يبلغ نشوته في عناق الفكر 
المتباذل. هذا على الرغم من أمْبها لم يكونا شيئًا واحدّاء 
وإن كانا متكاملين فيا بدا. وظلّت صداتتههما شعورًا 
متبادلا في صمت. لم ينوّها به» فلم يقل أحدهما للآخر 


وأنت الصديق» ولا قال له ولا أتصوّر الحياة بدونك: 
ولكن كان ذلك كذلك. وعلى برودة الجوٌ لم تفتر 
رغبتهما في السيرء فقرّرا أن يسيرا على الأقدام حي 
قهوة عماد الدين. ولم يكن رياض قلدس سعيدًا ذلك 
المساءء كان يقول بانفعال شديد: 

- انتهت الأزمة الدستورية مبريمة الشعبء فليست 
إقالة النحّاس إلا هزية للشعب في نضاله التاريخيئ مع 
السراي . . . 

فقال كيال في أسف: 

ثبت الآن أن فاروق كأبيه. . 

فاروق ليس المسكول وحدهء ولكن دبّرها أعداء 
الشعب التقليديّون» فهذه يد عل ماهر وتحمد محمود. 
ومن المبكي أن يضم إلى أعداء الشعب اثنان من 
أبنائه» ماهر والنقراشي: ولو تطهر الوطن من النونة لا 
وجد الملك من يمكنه من هضم حقوق الشعب. .. 

ثم استطرد بعد صمت قليل : 

- ليس الإنجليز اليوم في الميدان» ولكن الشعب 
والملك وجهًا لوجه. الاستقلال ليس كل شيء» هنالك 
حقٌ الشعب المقدّس في أن يتمتع بسيادته وحقوقه. 
ليحيا حياة الإنسان لا" حياة العبيد. . . 

لم يكن كمال غارقًا في السياسة كرياضء أجل لم 
يستطع الشكٌ أن يدمّرها فيا دمر فلبثت حية في 
عواطفه. كان يؤمن بحقوق الشعب بقلبه» وإن كان 
عقله لا يدري أين المفرٌ. عقله يقول حيئًا وحقوق 
الانسان» وحيئًا آخر يقول «بل البقاء للأصلح وما 
الجماهير إلا قطيع» ورثما قال «والشيوعيّة ألبست تجربة 
جديرة بالاختبار؟». أمّا قلبه فلم يتخلّص من عواطفه 
الشعبيّة الى صاحيته منذ صباه ممتزجة بذكرى فهمي. 
آنا ويا كاتنت النوانة يخرعرًا اضبلا في تشاطة 
الذهئّ. وعاد رياض يقول : 

- أيمكن أن ننسى الإهانة التي تلقاها مكرم في 
ميدان عابدين؟. وهذه الإقالة المجرمة» سب وقذف 
وبصقة في وجه الأمّة؟. والحقد الأعمى يجعل البعض 
بللوةة واضي تاه 

فقال كيال مداعبًا : 

- أنت غاضب لمكرم! . 


السكرية ١4م‏ 


فقال رياض دون ترذد: 

إِنّ الأقباط حميعًا وفديُونء ذلك أنْ الوفد .حزب 
القوميّة الخالصة؛. ليس حزبًا دينيا تركيا كالحزب 
الوط ولكنه حزب القوميّة التي تجعل مصر وطنّا 
حرًا للمصربّين على اختلاف عناصرهم وأديانهم. 
أعداء الشعب يعلمون دُلكء ولذلك كان الأقباط 
هدفًا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقي . وسيعانون 
ذلك منذ اليوم. . . 

ورخب كال بهذه الصراحة التي تشهد لصداقتهيا 
بالكبال.ء غير أنه راق له أن يتساءل في دعابة : 

ها أنت تتحدّث عن الأقباط!. أنت الذي لا 
يؤمن إلا بالعلم والفنّ!. . . 

فلاذ رياض بالصمت. وكانا قد بلغا شارع الأزهر 
حيث يتدافع المهواء البارد في شىء من العنف. م مرا 
في طريقهها بدكان بسبوسة فدعاه كبال إلى تناول شيء 
منهاء وما لبث أن أخذ كلّ منهها طبًا صخيرًا وانتحيا 
ناحية يأكلان» وعند ذلك قال رياض: 

- إن حير وقبطي في آنء بل إن لا دي وقبطي 
معاء أشعر في أحايين كثبرة بأنْ المسيحيّة وطني لا 
دين ورتما إذا عرضتٌ هذا الشعور على عقلٍ 
اضطربت. ولكن مهلا أليس من الحبن أن أنسى 
قومي ؟. شبيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع, 
ألا وهو الفناء في القوميّة المصريّة الخالصة كما أرادها 
سعد بزفلول: إن التخاس مسله ديكا ولكنه قرم 
كل همق الكليةا امنا قا عر ماله ل بالا 
مصريّون لا مسلم ولا قبطيّ» بوسعي أن أعيش 
سعيدًا دون أن أكدذر صفوي بهذه الأفكار. ولكنّ 
الحياة الحقّة مسئوليّة في الوقت نفسه. 

كان كمال يتمطق ويفكر وصدره يجبيش بالعواطف» 
كانت سحنة رياض المصريّة الصميمة الى تذكره 
بالضور الفرعوئيّة تعر تاملات “شق في نفسه.. إن 
موقف رياض له وجاهته التي لا تمحدء وأنثا نفسي - 
بين عقلي وقلبي - شخص يعاني انقسام الشخصية» 
فكذلك هوء كيف يتان لأتليّة أن تعيش وسط أغلبية 
تضطهدها؟ وجدارة الرسالات السامية تقاس عادة بما 
نحقّقه من سعادة للبشر تتمثل أوّل ما تتمثل في الأخذ 


5 السكرية 
بيد المضطهدين». قال: 


لا تؤاحذنيء» فقد عشت حبّى الآن دون أن 
أصطدم بمشكلة العنصريّة فمنذ البدء لقنتنى أمّي أن 
أحبٌ الجميع. ثم شببت في جو الثورة المطهّر من 
شوائب التعّب. فلم أعرف هذه المشكلة., 
فقال رياض وهما يستأنفان المسير؛ 
المرجوٌ ألا تكون ثمّة مشكلة على الاطلاقع 
يؤسفني أن أصارحك بأئنا نشأنا في بيوت لا تخلو من 
ذكريات سود محزنة؛ لست متعصّباء ولكنّ مْن يستهين 
بحق إنسان في أقصى الأرض - لا في بيته ‏ فقد استهان 
بحقوق الإنسانية جميعا, . . 
جميل هذا القول؛ لا عجب أنّْ رسالات الانسانيّة 
الحقّة كثيرًا ما تنبعث من أوساط الأقليّة: أو من رجال 
مشغولي الضمائر بالأقليات البشريّة؛ ولكن ثمة 
متعصبون دائما. . . 
- دائًا وف كل مكان. الإنسان حديث والحيوان 
قديم, وهم عندكم يعتبروننا كفَارًا ملاعين. وهم 
عندنا يعتبرونكم كمَارًا مغتصبين, ويقولون عن 
نفسهم إِنْهم سلالة من ملوك مصر الذين استطاعوا أن 
بحافظوا على ديتهم بدفع الجرية. . . 
فنضحك كال ضحكة عالية» وقال: 
- هذا قولنا وذاك قولكم. ترى الأصل في هذا 
الخلاف الدين أم الطبيعة البشريّة المتطلّعة أبدًا إلى 
الخصام؟!. لا المسلمون على وفاق؛ ولا المسيحيّون 
على وفاق. وستجد نزاعًا مستمرًا بين الشيعيّ والسنىّ. 
وبين الحجازيّ والعراقيَ. كالذي بين الوفدي 
والدستوريّ؛ وطالب الآداب وطالب العلوم؛ والنادي 
الأهيّ والترسانة. ولكن رغم ذلك كله فشدٌ ما نحزن 
إذا ما طالعنا في الصحف خبر زلزال باليابان! اسمع. 
لاذا لا تعالج ذلك في قصصك؟ 
- مشكلة الأقباط والمسلمين, . . 
فصمت رياض قلدس مليّاء ثم قال: 
- أخاف سوء الفهم. . . 
ثم مستطردًا بعد فترة صمت أخرى : 
- ثم لا تنس أننا رغم كل شيء في عصرنا الذهبي . 
كان الشيخ عبد العزيز جاويش يقترح في الماضي أن 


يصنع المسلمون من جلودنا أحذيتهم. . . 

- وكيف نستأصل هذه المشكلة من جذورها؟ 

من حسن الحظ أنْها ذابت في مشكلة الشعب 
كله مشكلة الأقباط اليوم هي مشكلة الشعبء إذا 
اضطهد اضطهدنا وإذا تحرّر تحرّرنا. . . 

«السعادة والسلام.. . ذلك الحلم المنشودء قلبك 
يحيا بالحب وحده. فمتى يعرف عقلي سبيله؟ متى أقول 
بلهجة ابن أخحتي عبد المنعم (نعم. لعم). إن صذانتي 
لرياض علمتني كيف أقرأ قصصه؛, ولكن كيف أومن 
بالفنّ في الوقت الذي وجدت الفلسفة نفسها قصورًا 
غير صالحة للسكبى؟». 

وسأله رياض فجأة؛ وهو يسترق إليه النظر؛ 

- فيم تفكر الآن؟. . . أصدقني! 

وفطن إلى ما وراء سؤاله. فأجابه بصراحة : 

- كلت أفكر في قصصك. 

- ألم تتام لصراحتي؟ 

أناء سامحك الله , , . 

فضحك كالمعتذر. لم سأل: 

- أقرات قصّتي الأخيرة؟ 

- نعم. وهي لطيفةء ولكن يخيّل إل أن الفنّ 
نشاط غير جذدّيّ» مع ملاحظة أبّبما أخطر في حياة 
الإنسانية: الجذ أم اللهو؟1. أنت مثقف ثقافة علميّة 
عالية. ولعلّك أدرى «غير العلياء» بالعلم, ولكرّ 
نشاطك كله يضيع في كتابة القصص وإِن لأتساءل 
أحيانًا: ماذا أفدت من العلم؟ 

فقال رياض قلدس في حماسة : 

أخذت من العلم للفنْ عبادة الحقيقة., 
والإخلاص طاء ومواجهتها بشجاعة مهما تكن مرّة 
والنزاهة في الحكم, والتسامح الشامل مع 
المخلوقات ., . 

كليات ضخمة؛ ولكن ما علاقتها بملهاة التصص؟ 
ونظر رياض قلدس إليه. فقرأ الشكٌ في وجهه 
فضحك عاليا ثم قال : 

- أنت تسيء الظنّ بالفنّء ولكنٌ عزائي أن شيئًا في 
الدنيا لا يمكن أن يسلم من شكك. نحن نرى بعقولنا 
ولكُننا نعيش بقلوبناء أنت مثلًا رغم سوقفك 


الشكي - تحب وتتعامل وتشارك مشاركة ما في حياة 
بلدك السياسيّة» ووراء كل ناحية من هذه النواحي 
مبدأ شعوريّ أو لا شعوريّ لا يقل عن الإيمان قوةى 
الفن هو المعير عن عالمى الإنسان, وإلى هذا فمن الأدباء 
من أسهم بفئه في معركة الآراء العالمية» فانقلب الفنْ 
على يديه عدّة من عدد الكفاح في ميدان الجهاد 
العالميّ » لا يمكن أن يكون الفنّ نشاطا غير جدَّي . . . 

دفاع عن الفنْ أم عن قيمة الفئان؟. لو أن لبائع 
اللبٌ قدرة على الجدل لدلل أنه يلعب دورًا خطيرًا في 
حياة البشر ولا يبعد أن يكون لكل شيء قيمة ذاتيّة, 
ولا يبعد كذلك آلا يكون لشىء قيمة ألبّة» كم مليونًا 
من البشر يلفظون أتفاسهم في هذه اللحظة؟! في 
الوقت نفسه يرتفع صوت طفل بالبكاء على فقد لعبة, 
أو صوت عاشق يبثٌ الليل والكون مشاعب قلبه. 
أأضحك أم أبكيى؟. قال: 

- لمناسبة ما قلت عن معركة الآراء العاميّة» دعني 
أخبرك بِأنها تنعكس على صورة مصغْرة في أسرتناء لي 
ابن أنخت من الإخوان» والآخر من الشيوعيين! 

- ينبغي أن يكون لما صورة في كل بيت. عاجلا أو 
آجلاء لم نعد نعيش في قمقمء وأنت ألم تفكّر في هذه 
الأمور؟ 

قرأات عن الشيوعية ضمن دراستي للفلسفة 
الماذية» كا قرأت كتنبا عن الفاشستيّة والنازية. . 

- تقرأ وتفهم. مؤرّخ بلا تاريخ » أرجو أن تعد يوم 
خروجك من هذا الموقف يوم عيد ميلادك السعيد. 

فاستاء كمال لحذه الملاحظة, لامها نقد لاذع من 
ناحيةء ولأئّبا لا تخلو من حقّ من ناحية أخرى, لم 
قال متهربًا من التعقيب عليها: 

كل من الشيوعئ والإخوان في أسرتئا على غير 
علم مكين بما يؤمن به!. 

- الإيمان إرادة لا علم, إِنْ أتفه مسيحيّ اليوم 
يعرف عن المسيحيّة أضعاف ما عرف الشهداء؛ كذلك 
عندكم قِ الإسلام. . . 

وهل تؤمن بمذهب من هذه المذاهب؟ 

لا شك في احتقاري للفاشيّة والنازيّة وكافة النظم 
الديكتاتوريّة» أمّا الشيوعيّة فخليقة بأن تخلق عأنا 


السكرية 48م 


خاليًا من مآمي الخلافات العنصريّة والديثّة 
والمنازعات الطبقيّة. بيد أنْ الاهتام الأوّل مركز في 

فقال كيال وكان في صوته دعابة: 

ولكنّ الإسلام قد خلق هذا العالم الذي تتحدّث 
عنه منذ أكثر من ألف عام. . . 

- لكنه دين» الشيوعيّة علم أمَا الدين 
فأسطورة. . 

ثم مستدركا وهو يبتسم : 

ونحن نتعامل مع المسلمين لا الإسلام . . . 

وحد!ا شارع فؤاد كثس الزحام رغم ذه المرودة 
فتوقف رياض فجأة وهو يتساءل: 

- ما رأيك في عشاء من المكرونة والئبيل الحيد؟ 

لا أشرب في الأماكن المأهولة» فلنذهب إلى قهوة 
عكاشة إذا شكت. . 

فضحك رياض قلدس قائلا : 

اكت نطق هذا الوفاو كل نطارةوكنارتب 
وتقاليد! حرّرت عقلك من كلّ قيد, أمًا جسمك فكله 
قيود» أنت خلقت ‏ بجسمك على الأقل ‏ لتكون 
فتلوهيا .> 

وذكره تنويه رياض بجسمه بحادثة آليمة» فقد 
اشترك في حفل ميلاد أحد زملائه. وشربوا جميعا حتّى 
سكرواء وهناك عَقَل أحدهم عليه معرّضًا برأسه وأنفه 
حتّى أضحك الجميع. وإذ ذكر أنفه أو رأسه فقد ذكر 
عايدة, وتلك الأيّام. عايدة خالقة أنفه ورأسه؛ ومن 
عجب أن يغيض الحب فيسي لا شيء: ثم تبقى هذه 
الرواسب المؤلة. . , 

وجذبه رياض من ذراعه وهو يقول: 

- هلم نشرب نبيذًا ونتحدّث عن فنّ القصّة ثم 
نذهب بعد ذلك إلى بيت السب جليلة بعطفة 
الجوهري» وإذا كنت تقول لما يا عمتى» فسأقول لما يا 


1 
كانث السكرية في شأن. أو بمعبى صم هكذ! 


45 السكرية 


كانت شقّة عبد المنعم شوكت. ففى حجرة النوم 
اجتمعت حول فراش لعيمة أميئة وخديجة وعائشة 
وزنُوبة والحكيمة المولّدة» أمّا فى حجرة الاستقبال فقد 
جلس مع عبد المنعم والده إبراهيم وأخوه أحمد وياسين 
وكيال» وكان ياسين يداعب عبد المنعم قائلا : 

- اعمل حسابك أن تكون الولادة القادمة في غير 
هذا الوقت الذي تستعد فيه للامتحان. . . 

كانوا في أواخر إبريل» وكان عبد المنعم متعبًا بقدر 
ما كان مبتهجّاء بقدر ما كان قلمقًا. وكان صوت الطلق 
يترامى من وراء الباب المغلق حادًا يحمل كل معاني 
الآلمء فقال عبد المنعم : 

إن الحمل انين عدا وبلغ مما درجة من 
الضعف لا يتصوّرها عقل., وكأنْ وجهها لم تعد به 
نقطة دم وأحدة , . 

فتتجشأ ياسين في ارتياح , م قال: 

واهلة أفوو قاد توكلين سوافت» 

وقال كبال باسم]: 

ها زلت أذكر ولادة نعيمة. كانت ولادة عسيرة 
عانث منبا عائشة ما عانت» وكنتث متَألْياء وكنت 
واقفًا في هذا المكان مع المرحوم خليل. . . 

فتساءل عبد المئعم : 

- هل أفهم من هذا أنْ عسر الولادة ورائيع؟ 

فقال ياسين وهو يشير بأصبعه إلى فوق: ٠‏ 

علده اليسر. . . 

فقال عبد المنعم : 

- جئنا بحكيمة معروفة في الح كلهء كانت أمّي 
تفضل إحضار الداية التى ولدتهاء ولكثّى أصررت على 
الحكيمة» فهي أنظف وأمهر بلا ريب. 

فقال باسين: 

طبعّاء ولو أنْ الولادة بجملتها بأمر الله وعنايته . 

فقال إبراهيم شوكت وهو يشعل سيجارة : 

جاءها الطلق في الصباح الباكرء والساعة تدور 
الآن في الخامسة مساء. مسكيئة» إِمْها رقيقة كالخيال» 
ربنا يأخذ بيدها. 

ثم وهو يردد عينيه الخاملتين في الجالسين عامة. 
وابئيه عبد المنعم وأحمد خاصة : 


آه لو تذكر الآلام التى تتحملها الأم! 

فقال أحمد ضاحكًا: 

- كيف تطالب الجنين بأن يتذكر يا بابا؟ 

فقال الرجل موبّحًا : 

إذا أردت أن تعترف بالجميل فلا تعتمد علل 
الذاكرة وحدها. . . 

وانقطع الطلق. وخيّم على الحجرة المغلقة السكون 
فاتمهت الرءوس إليهاء ومرّت فترة فتفد صير عبد 
المنعم فقام ماضيا إلى الباب ونقره. ففتح ربع فتحة 
عن وجه خخديجة المكتئزء» فطالعها بعينين متسائلتين» 
وهم بإدخال رأسهء ولكتّها صدّته براحتيها وهي 
تقول : 

- لم يأذن الله بالفرج بعد. . . 

طال الوقتء» ألا يكون طلقا كاذيًا؟ 

- الحكيمة أدرى بذلك منّاء اطمئنٌ وادحٌ لنا 
بالفرج. , 

وأغلقت الباب. فعاد الشاتثٌ إلى مجلسه بجوار أبيه 
الذي علق على قلقه بقوله : 

اعذروه فإنّه محدث ولادة, 

وأراد كمال أن يتسلء فأخرج من جيبه جريدة 
البلاغ حيث كانت مطوية فيه وراح يتفخصهاء فقال 
أجل : 

- أعلنت في الراديو النتائج الأخيرة للمعركة 
الانتخابية. . . (ثْمْ وهو يبتسم في سخرية). .. ويا لها 
من نتائج مضحكة! . . . 

فتساءل والده دون اكتراث: 

.ما مجموع الناجحين من الوفديين؟ 

ثلائة عشر على ما أذكر! 

ثم قال أحمد موجّهًا خطابه إلى خاله ياسين: 

- لعلك مسرور يا خالي إكرامًا لسرور رضوان!؟. 

فقال ياسين وهو يبز منكبيه باستهانة : 

- لا هو وزير ولا هو نائبء فماذا بهمني من الأمر 
كله ؟ 

وقال إبراهيم شوكت ضاحما: 

- كان الوفديّون يظئون أنْ عهد الانتخابات المزوّرة 
قد انتهى . ولكنّ شهاب الدين أضرط من أخخيه! . . . 


فقال أحمد في امتعاض : 

الظاهر أنْ الاستئناء هو القاعدة في مصر! 

حيّى النخاس ومكرم قد سقطا في الانتخابات. 
أليس هذا هزلا؟ 

وهنا قال إبراهيم شوكت في شيء من الحدة: 

لكن لا ينكر أحد أئْبها أساءا الأدب حيال الملك؛ 
إِنَّ للملوك مقامهم. وليس على ذلك النحو تساس 
الأمور. . . 

فقال أحمد: 

إِنّ بلادنا في حاجة إلى جرعات قويّة من قلة 
الأدب حيال الملوك» حثى تفيق من إغائها 
الطويل. . 

فقال كبال: 

ولكنّ الكلاب يعيدونها إلى الحكم المطلق. تحت 
ستار برلمان مزيّف» وفي هاية التجربة ستجد فاروق في 
قرّة فؤاد واستبداده أو أشدٌء كل هذا يرتكب بأيدي 
بعض أبناء الوطن. . . 

فضحك ياسين» وقال وكأنه يفشر ويوضح : 

كمال ولو أنّه كان على صباه من محبي الإنجليز 
كشاهبن وعدلي وثروت وحيدرء إِلَّا أنه انقلب وفديا 
يفل ذلاكة ب 

فقال كال جاداء وهو ينظر إلى أحمد خاضة : 

انتخابات مزوّرة» كل شخص في البلد يعلم بأنها 
مزؤرة. وصع ذلك يُعترف بها رسع وتحكم مها البلاد) 
ويعني هذا أن يستقرٌ في ضمير الشعب أن نوابه 
لميوص سرقوا كراسيّهم. وأنْ وزراءه لصوص سرقوا 
بالتالي مناصبهم, وأنْ سلطاته وحكومته مزيّفة مزورة؛ 
ون السرقة والتزييف والتضليل مشروعة رسميّاء أفلا 
يُعذر الرجل العاديّ إذا كفر بالمبادئ والخلق وآمن 
بالريف والانتهازية؟ 

فقال أحمد متحمسا: 

دعهم يحكمون. في كل شر جانب خير» ومن 
الأفضل لشعبنا أن يسام الخسف من أن يُحدّر بحكم 
يحّه ويثق به دون أن يحمّق له هذا الحكم ‏ أماله 
الحقيقيّة. طالما فككرت في هذا حيّ انقلبت أرحخب 


السكرية هم4م 


بحكم الطغاة من أمثال محمد محمود وإسساعيل 
صدقي . . . 
ولاحظ كال أن عبد المنعم لا يشترك في الحديث 
كعادته. فأراد أن يجرّه إليه فقال : 

لماذا لا تحدئنا عن رأيك؟ 

فابتسم عبد المنعم ابتسامة لا معنى لماء وقال: 

دعئى اليوم استيع. ب 

فضحك ياسين قائلا : 

فْرْفْشُ حبّى لا يجدك المولود واجماء فيفكر في 
العودة من حيث أنى. . 

وندّت عن ياسين حركة أدرك كيال منها أنه مهم 
بانتحال عذر للذهاب». أجل جاء وقت القهوةء ونظام 
«السهر» عنده لا يمكن أن يغيّره شيء. وفككر كال في 
الخروج معه حيث لا ضرورة لوجودهء وجعل يراقبه 
متوتّباء وإذا بصرخة تنطلق من حجرة نعيمة عنيفة 
قاسية تحمل في طيّاتها أنغام الأعماق البشرية. وتتابعت 
الصرخات في عنفء. وتطلعت الأعين نحو باب 
الحجرة؛ وساد بينهم صمت»2 حتّى همس إبراهيم قُِ 
رجاء : 

لعلّه الطلق الأخير إن شاء الله. . . 

حقًا؟ بيد أنّه تواصل حبّى وحمواء وامتقع لون عبد 
المنعم. ثم عاد الصمت مرّة أخرى ولكن إلى حين» 
ورجع الطلق ولكنّه كان حواءء تقذف به حنجرة 
بحت وصدر تصدّع فكأنه النزع. ودلّت حال عبد 
المنعم على أنه في حاجة إلى تشجيع. فقال له ياسين: 
كل ما تسمع أحوال مألوفة في الولادة 
عر 

فقال عبد المنعم بصوت متهدّج : 

العسيرة! العسيرة! ولكن لاذا كانت عسيرة؟ 

ومُتح الباب فخرجت زنوبة ثم أغلقتهء فتطلعوا 
إليهاء فاقتريت حبّى وقفت أمام ياسين وقالت: 

كلّ شىء على ما يرامء غير أنْ الحكيمة زيادة في 
الحيطة ترخوان تحضروا الدكتور سيّد محمد. .. 

فوقف عبد المتعم قائلا : 

_ لا شك أنْ الخال استوجبت إحضاره. خختريني عما 
مها؟ 


5 السكرية 


فقالت زنُوبة بصوث هادئ مؤكد: 

كل شيء على ما يرام» وإذا أردت أن تزيدنا 
اطمئنانا فأسرع في إحضار الطبيب. . . 

وم بضِعْ عبد الملعم وقته فمضى إلى حجرته 
ليستكمل ملابسه. ومفى في أثره أحمد. ثم خرجا معا 
ليأتيا بالدكتورء وعند ذاك قال ياسين: 

ماذا هناك؟ 

فقالت زنُوبة» وقد نم وجهها لأؤل مرة عن قلق : 

تعبانة المسكينة كان الله في عونها. 

والحكيمة ألم تقل شيئًا؟ 

فقالت زثوبة بتسليم : 

قالت إنها تريد الدكتور. . . 

وعادت زنوبة إلى الحجرة تاركة وراءها ظلا ثقيلًا من 
القلق. . 

تساءل ياسين : 

أهذا الطبيب بعيد؟ 

فأجابه إبراهيم شوكت: 

في العيارة الى فوق قهوتك بالعتبة , 

ودوت صرخة فانعقدت الألسن» هل عاد الطلق 
الأليم؟ ومتى يحضر الطبيب؛ ودورت الصرخة مرة 
أخرى» فازداد التوثرء وإذا بياسين يبتف مرتاعا: 

هذا صوت عائشة! 

فأرهفوا السمع. وعرفوا صوت عائشة» فقام 
إبراهيم في الحجرة ونقر الباب. ففتحت زنُوبة بوجه 
باهت. ساطا بلهفة : 

ما لكم؟ مال عائشة هانم؟ أليس من المستحسن 
أن تغادر الحجرة؟ . . . 

فقالت زنُوبة وهي تزدرد ريقها: 

كلا. . . الحال شديدة يا سي إبراهيم , 

ماذا حدث؟ ! 

- فجأة. إنها. . انظر. . 

في أقلّ من ثانية كان الرجال الثلاثة على باب 
الحجرة ينظرون. كانت نعيمة مغطاة حي الصدر. 
خالتها وجذتها والحكيمة حولا في الفراش, أمّها واقفة 
وسط الحجرة تحملق في بنتها من بعيد بعينين زائغتين 
وكأنها فقدت الوعيى. وكانت نعيمة مغمضة العينين, 


صدرها يعلو وينخفض كأئما قد أفلت زمامه من بقيّة 
الحسد الساكن» أمًا الوجه فأبيض باهث كالموت. 
هتفت الحكيمة: «الدكتور!). وجعلت أميلة تبتف: 
ويا رتث1» وخحديجة تنادي بصوت مذعور (لعيمة رذي 
علٌ». أمّا عائشة فلم تنطق كأن الأمر لا يعنيها في 
شىء. تساءل كيال «ماذا هنالك؟: وسأل أخاه في 
أحرلة وماذا هنالك؟» ولكنّه ل يجبهء أي ولادة 
عسيرة؟1» ودار بصره بعائشة وإبراهيم وياسين فتقهقر 
قلبه في صدرهء ليس هنالك إِلّا معنى واحد. . . 

ودخلوا الحجرة جميعًاء لم تعد حجرة ولادة وإلا ما 
دخلواء وكانت عائشة في حال بالغ الشدّة ولكنّ أحدًا 
لم يوجه إليها كلمة.ء وفتحت نعيمة عينيها فبدتا 
مظلمتين؛ وأتت حركة كأنًا تريد أن تجلس فأجلستها 
جدّتها وحوتها في حضهاء شهقت الفتاق.» وندذت عنها 
آهة عميقة) ثم بغتة هتفت كأمًا تستغيث : 

مانا آنا :ذاكة بي آنا ذاهة :. 

ثم سقط رأسها على صدر جدبهاء وضحت الحجرة 
بالصوات» ولطمت تحديجة خخذيباء وتشهدت أمينة في 
وجه الفتاق أمًا عائشة فرمت بناظريها من النافذة 
المطلّة على السكريّة: وثبتث عينيها على ماذا؟ ثم تردّد 
صوتها كالشرجة : 

ما هذا يا ر؟ ما هذا الذي تفعله؟, لماذا؟. 
لماذا؟. أريد أن أفهم. . . 

واقترب مها إبراهيم شوكت ومدٌ ها يده. فأبعدتها 
بحركة عصبية وهي تقول: 

- لا يلمسبي منكم أحدى دعونى0 دعوى... 

ثم ردت بصرها بينهم قائلة : 

- اخرجوا من فضلكم. لا تكلّمون» هل عندكم 
كلام يجدي؟ لن ينفعني الكلام. ماتت نعيمة كما 
ترون. كانت كل ما تبقّى لي فلم يبق لي شيء في 
الدنيا» اذهبوا من فضلكم. . . 

كان الظلام حالكًا عندما مغهى ياسين وكمال في 
طريقه) إلى بين القصرين» وكان ياسين يقول: 

- ما أثقل أن أبلغ والدك الخير! 

قاجاب كال وهو يجِفُف عينيه : 


- لعم.., 


لا تبكِ. أعصابي لم تعد تتحمل. . . 

فقال كيال متنبّدًا : 

كانت عزيزة جدًا علي أنا حزين جدًا يا أخي. 
وعائشة المسكيئة! . . . 

هذه هي الكارئة! عائشة! سنسى جميعًا إلا 
عائشة [. . . 

«(سلنسى جميعًا!؟ لا أدري. إن وجهها لا يعيب 
عن مدى العمرء ولو أن لي مع النسيان تجربة فذة» 
هو نعمة كبرىء ولكن متى يجود ببلسمه؟». وعاد 
ياسين يقول: 

كنت متشائيًا عند زواجهاء ألا تدري؟ لقد تنبا لها 
الدكتور يوم مولدها بن قلبها لن يسعفها على ال حياة 
بعد العشرين! والدك يذكر هذا في الغالب. . . 

لا أدري شيا : أكانت عائشة تدري؟ 

كلاء إن تاريخ قديمء وقضاء الله لا بل منه. . . 

ما أتعسك يا عائشة!. . . 

ألخل بها اتعسها المكة ا 


ل 

كان أحمد إبراهيم شوكت جالسًا في قاعة المطالعة 
مكتبة الجامعة» مكبًا على متابعة كتاب بين يديه. لم 
يكن بقى على الامتحان إلا أسبوع. وكان الجهد قد 
نال منه كلّ مئال» وشعر بأنْ شخْضًا قد دحل القاعة 
وجلس تخلفه فالتفت إلى الوراء مستطلعًا فرأى علوية 
صبري!. نعم هي» ولعلّها جلست تنتظر كتابًا 
استعارته» وعند تلك الالتفاتة التقت عيناه بالعينين 
السوداوين» ثم أعاد رأسه إلى وضعه الأول منتثي 
القلب والحواسٌنق. ما من شك في أنْبا باتت تعرف 
شكله؛ كما تعرف أنه مغرم مهاء فمثل هذه الأمور لا 
تخفى: إلى أنْها كلما التفتت هنا أو هناك سواء في 
فصول المحاضرات أم حديقة الأورمان ‏ وجدته مسترقًا 
إليها النظر. وقد حال حضورها بينه وبين متابعة ما 
يقرأء ولكنّ فرحته فاقت حيّى ما كان يقدّر. وكان- 
منذ أن علم بأئها ستتخصّص في الاجتاع مثله - يؤمل 
أن يتم التعارف بينهها في غضون العام الدراسي المقبل» 


السكرية لام 


الأمر الذي لم يتح له هذا العام في زحمة طلبة القسم 
الإعداديّ. على أنه لى يسبق له أن وجدها هكذا قريبة 
مله دون كثرة من الرقباءء فحدّثته نفسه بأن يمضي إلى 
رفوف المراجع كما ليظلع على أحدهاء ثم يحيّيها في 
طريقه!. وألقى نظرة على ما حوله فرأى عددًا من 
الطلاب منتشرين هنا وهناك لا يتجاوز عددهم أصابع 
اليد. فقام دون تردد وسار في الممرٌ بين المقاعدى 
وعندما مر مبا التقت عينئاهما فحنى رأسه تحيّة مؤدّبة» 
فبدا في ملاحها وقم المفاجأة, ولكنّها ردّت تحيته 
برأسها ونظرت فيهما أمامها. وتساءل ترى هل أخخطا؟ . 
كلا إِنْا زميلة منذ عام طويل: ومن واجبه أن يميه 
إذا التقيا هكذا وجهًا لوجه في مكان يكاد يكون خاليًا. 
وواصل مسيره إلى خزانة الكتب الحاوية لدائرة 
المعارف» ثم اختار مَلّدًا وراح يقلب صفحاته دون أن 
يقرأ كلمة. كان سروره بردٌ التمحيّة عظيًا فزايله التعب 
واهتزٌ صدره نشاطا. يا لها من حسناء ملأت عليه 
جوانب نفسه إعجابًا وانجذائًا حَبّى صارت شغله 
الشاغل. إِنّْ كافة أحوالها تدلّ على أثْها من «أسرة؛ كما 
يقولون. وأخخشى ما مخشاه أن يكون لحا من كرياء 
الطبقة نصيب يخفيه أدبها الجم. وإنّه يستطيع أن 
يعرف لاك فبادقاء بأنّه من أسرة كذلك إذا دعا 
الأمرء أليس آل شوكت «أسرة»؟. بلى. 
ملك فسيكون له يومًا ريع ومرنّب معًا!. وافتر ثغره 
عن ابتسامة ساخرة» ريع... مرتب... أسرة! إذن 
فأين مبادؤه؟. وشعر بشيء من الخنجل . إِنْ القلب في 
أهوائه لا يعرف ا فالناس يحون ويتزوجون 
حارج دائرة مبادئهم ودون مراعاة لحاء وعليهم أن 
يخلقوا أنصافهم الجميلة خلقًا جديدّاء كمن يدحل 
بلدا غريبًا فعليه أن يتكلم بلغته حيّى يبلغ ما يريد. 
لم إن الطبقة والملكيّة حقيقتان واقعيّئان لم يخلقهما هو 
ولا أبوه ولا جدّهء فليس هو بالمسئول عنهاء والعلم 
والجمهاد هما الكفيلان بمحو هذه السسخافات التي تفرق 
بين البشر. من الممكن ربا أن يغيّر نظام الطبقات, 
ولكن كيف يستطيع أن يغيّر الماضي وهو أنه من أسرة 
موفورة الدحل؟. وهيهات أن تتعارض المبادئ الشعبية 
مع الحبت الأرستقراطيّ ‏ وكارل ماركس نفسه تزوج 


4 السكرية 


من جيني فون وستفال حفيدة الدوق برونشويك. 
وكانوا يسمونها (الأميرة الساحرة» و«ملكة الرقص». 
وها هي أميرة ساحرة أخرى ولو رقصت لكانت ملكة 
الرقص. وأعاد المجلّد إلى موضعه ثم رجع. وجعل 
يملأ ناظريه مما بدا من قامتهاء جانب من أعلى الظهر 
وصفحة العنق الرقيق» والقذال المزدان ببالشعر 
المعقوص» ما أجمل المنظرء ومرٌ بها خفيفا إلى مقعده 
وجلس. ولم تمض دقائق حتّى سمع وقم أقدامها 
الخفيفة. فنظر إلى الوراء آسمًا وهو يظتها منصرفة 
ولكنّه رآها قادمة. فلا حاذته وقفت بشبيىء من 
الارتباك وهو لا يصذق عينيهء وقالت: 

لا مؤاخذة؛ هل أجد عندك محاضرات التاريخ؟ . 

عبض كالحندي» وبادر يقول: 

كل تأكيد, 4 

فقالت كالمعتدذرة: 

لم أستطع متابعة الأستاذ الإنجليزيّ كما يجب. 
ففاتني تقييد كثير من النقط الحامّة. وأنا لا أرجع إلى 
لمراجع إلا في المواد التي سأتخصّص فيها فيا بعد ولا 
يسم الوقت للمراجعة في سائر الموادٌ. . 

مقهوم. .. مفهوم, . . 

- وقد علمت أنَّ مذكّراتك مستوفاة: وأنّك أعرتها 
لكثيرين لينقلوا منها ما فاتهم؟. . . 

- نعم , يفكرن ضف أمرك هذا بن , 

- متشكرة جدًا (ثمّ وهي تبتسم) لا نظن بي 
الكسل» ولكنٌ إنجليزيتي متوسّطة!. . . 

لا بأس» أنا بدوري دون المتوسط في الفرنسية 
ولعلّه تتاح لنا الفرص للتعاون» ولكن معذرة تفضَلٍ 
بالجلوسء قد يبمّك الاطلاع على هذا الكتاب. 
مدخخل الاجتياغ طاكنز. . . 

ولكنبا قالت: 

متشكرةء لقد رجعت إليه مرّات» قلت إِنْك دون 
المتوسّط في الفرنسيّة. فلعلك في حاجة إلى مذكرات 
السيكولوجي؟ 

فأجاب دون تردد؛ 

د أكون شاكرا لو تنضلكا»: 

غدًا نتبادل المذكرات؟ . 


بكلّ سرورء ولكن معذرةء ستجدين أكثر 
الدراسات بقسم الاجتاع بالإنجليزية. . 

فتساءلت وهي تداري مُوْلِد ابتسامة: 

- أتعرف أني اخترت قسم الاجتماع؟ 

ابتسم كأئما ليداري حياءه. ولم يكن ثمّة حياء 
ولَكنه شعر بأنه لاوقع) ولَكنّه قال ببساطة ؛ 

- تعم!. 

- لمناسبة أية مصادفة! 

فقال بجرأة: 

بل سألت فعلمت. . . 

وضغطت شفتيها القرمريتين» ثم قالت وكأنها م 
تسمع جوابيه : 

غذًا نتبادل المذكرات. . 


صباحا. . . 
إلى اللقاء وشكرًا. 0 
فبادرها: 


- إني سعيد بالتعرّف إليك, إلى اللقاء. 

لبث واقفًا حيّى واراها الباب ثمّ جلس. ولحظ أن 
القضى كان ينظ عله لودج .ولكته كان تيد 
بالسعادة. ترى أكان حديئها استجابة لما بدا من إعجابه 
بباء أم لحاجتها الملحّة إلى مذكراته؟. لم تسنم قبل 
الساعة فرصة للتعارف. كان نجدها دائمًا بصحبة 
الأتراب. هله أوّل فرصةء وقد فاز بما تمن طويلا فيا 
يشبه المعجزة. إِنْ كلمة من ثغر نحبّه خليقة بأن تجعل 
من كل شيء كلا شيء. . 


55 


بدا ياسين قلمًا رغم إرادته. وكان قد تظاهر طويلا 
أنه لا يهمّه شي لا الدرجة ولا الماهيّة ولا الحكومة 
نفسهاء لا أمام زملائه الموظفين فحسب ولكن حيال 
نفسه أيضًا. إِنْ الدرجة السادسة ‏ إذا رقي إليها 
ستزيد مرثّبه جنيهين لا غير!. ويا ما ضيّع ياسين! . 
ويقولون إنها ستجعل منه رئيس قلم بعد مراجع. 
ولكن متى كان يكترث ياسين للرياسات؟. بيد أنه كان 
قلمّاء خاصّة بعد أن استدعى مدير الإدارة ممّد 


أفندي حسن - زوج زيلب 3 رضوان ‏ لمقابلة وكيل 
الوزارة» وذاع بين موظفي المحفوظات أن الوكيل 
استدعاه ليسمع رأيه في موظفيه للمرّة الأخيرة قبل 
توقع الكشف الخاصٌ بالترقيات. محمد حسن!؟. 
خليفته اللدود الذي لولا السيّد محمد عفت لبطش به 
من زمن بعيد!. أيمكن أن يشهد له هذا الرجل شهادة 
طيبة؟. وانتهز فرصة خلو حجرة المدير فهرع إلى 
التليفون. وطلب كليّة الحقوق, وكان يتصل بها ذلك 
اليوم للمرّة الثالئة» مستدعيًا رضوان ياسين, . , 

آلو رضوان؟. أنا والدك . 

تاها ونيلة: كل كوه عال: 

كان صوته ينم عن بِقَع الابن واسطة للأب , . 

الحركة رهن التوقيع الآن؟ 

اطمئنٌ. الوزير نفسه هو الذي أوصى بك كلّمه 
نؤاب وشيوخ ووعدهم بكل خير. 

ألا تحتاج المسالة لتوصية أخخيرة؟ 

أبدّاء الباشا هتني هذا الصباح كما أخبرتك» 
اطمئنّ جدًا. 

- أشكرك يا ابي» سلام عليكم . 

- وعليكم السلام يا باباء مبارك مقَدّمًا. . . 

ووضع السيّاعة وغادر الحجرة» فالتقى بإبراهيم 
أفندي فتم الله زميله ومنافسه في الدرجة- قادمًا 
يحمل بعض الملّات. فتبادلا التحيّة في تحفظ. وعند 
ذلك قال ياسين: 

- ليكن بيننا مباراة رياضيّة يا إبراهيم أفندي. 
ولتقبل النتيجة أيّا كانت بشهامة. . 

فقال الرجل في امتعاض ؛ 

على شرط أن تكون مباراة شريفة! 

ب ماذا تعنى؟ 

أن يكون الاختيار لوجه الله لا لوساطة!. . . 

غريب رأبك! وهل يوجد رزق بدون وساطة في 
هذه الدنيا؟. اسمٌ كما تشاء وأسعى كما أشاءء وسيأخل 
الدرجة صاحب القسمة والنصيب! . . . 

أنا أَقدَم منك. . . 

- كلانا موف قديم. سنة لا تقدّم ولا تؤثخر! . . . 

- في سئة تولّد نفوس وتُزْمُق نفوس! . 


السكرية 84م 


- تولد ترهق 0 كل واحد وقسمته. . . 

والكفاءة؟ , . . 

فقال ياسين منفعلا : 

- الكفاءة؟. هل نقيم جسورًا أو ننثئّ محمطات 
كهربائيّة؟. كفاءة! ماذا يتطلّب عملنا الكتانٌ من 
كفاءة؟ . كلانا بالابتدائيّة» وفضلا عن ذلك فأنا رجل 


منفتها . . 


فضحك إبراهيم أفندي ضحكة ساخخحرة» وقال: 

- مثقّف؟ أهلا يا سى مثقّف!... أتظنّ نفسك 
مثظُقًا بالمّعر الذي تحفظه؟. أو بالإنشاء الذي تكتب 
به خطابات الإدارة كاك تؤدّي امتحان الابتدائيّة من 
جديد؟ . . . أنا تارك أمري لله. , . 

وافترق الرجلان على أسوأ حال» وعاد ياسين إلى 
فكتيه: كانفالمشرة كبيرة ششقت .ينا الكنائي 
متقابلة على الجانبين» وغظت التدران بالرفوف المكتظة 
بالملفات. وكان البعض مكيبا على الأوراق والآخرون 
يتحادثون ويدخنون؛ على حين ذهب وجاء عدد من 
السعاة بالملات» قال جار ياسين له: 

- ستاخط ابنتي البكالوريا هذا العامء وسألحقها 
بمعهل التربية فارتاح من ناحيتهاء لا مصروفات ولا 
تعب قلب في البحث عن وظيفة بعد التخرج . 

فقال ياسين : 

خخير ما لعلو 

فسأله الرجل مجادلا : 

وماذا أعددت لكريمة؟. كم بلغت من العمر على 
فكرة؟ 

فابتسمت أسارير ياسين رغم النفعاله» وقال: 

- في الحادية عشرةء وسوف تأنحمذ الابتدائية في 
الصيف القادم إن شاء الله (وهو يعد على أصابعه) : 
نحن في نوفمير فيبقى سبعة أشهر بالتام والكمال. . . 

- ما دامت تنجح في ابتدائئ فستنجح في ثانويّ. 
البنات أضمن اليوم من الصبيان. . . 

ثانوئّ؟. هذا ما تريده زنوبة. كلا إنّهِ لا يطبق أن 
يرى ابنته تسير في الطريق وهداها بهتزان. ثم 


السكرية 


نحن لا تُلحق بناتئا بالثانوئ» ولماذا؟. . . إِمْها 
لن تتوظف! . , . 

فسأل ثالث: 

أهذا يقال في عام 19178؟ 

- يقال في أسرتنا ولو في عام 18 .17١‏ 

فضحك رابع وهو يقول: 

- قل إِنْك لا تستطيع أن تنفق عليها وعلى نفسك 
معا!|. قهرة العتبة وخمارة محمد عليّ. وحبٌ البنات 
البكارى هدّ مئي الحيل. هذه هي الحكاية, . . 

فضحك ياسين ثم قال: 

ريّنا سائرها... ولكن كما قلت لك ني. لا 
نعلّم البنت أكثر من الابتدائيّة. . . 

وتعالت سعلة من الركن القصيٌ فيما يلي مدخل 
الحجرة» فالتفت ياسون إلى صاحبهاء ثم وقف وكأنه 
تذكر أمرًا هامّاء فمفى إلى مكتبه حيّى شعر الرجل به 
فرفع نحوه رأسه» فال ياسين فوقه قائلًا: 

وعدتني بالوصفة. . . 

فمدٌ الرجل أذنه متسائلا: 

ا 

فتضايق ياسين من أذن الرجل الثقيلة» واستحيى 
أن يرفعم من صوته وإذا بصوت يجيء من وسط الحجرة 
عاليًا وهو يقول: 

- أراهن على أنه يسألك عن الوصفة» وصفتك التي 
ستذهب بنا جميعا إلى القبر, . , 

وتراجع ياسين متبرمًا إلى مكتبه. فقال له الرجل 
دون مبالاة بإحراجه؛ وبصوت سمعته الحجرة كلّها: 

- أنا أقول لك عتبها: هات قشر مانجوء اغله غلبا 
شديدًاء وداوم على ذلك حيّى يصير سائلًا لجا 
كالعسل.؛ وخخذ منه ملعقة على غيار الريق. . . 

وضحكوا جميعًاء غير أن إبراهيم فتح الله قال 
متهكُمً)ا : 

- فايق ورايق» انتظر حي تأخذ الدرجة السادسة 
وهي تَشْدٌ حيلك؟ , , 

فتساءل ياسين ضاحمًا : 

- وهل تنفع الدرجة في هذه المسألة؟ . . . 

فقال جار ياسين ضاحكًا أيضًا: 


- لو صححت هذه النظريّة» لاستحقٌ عمْ حسئين 
فْرّاش مكتبنا أن يكون وزير المعارف! . . . 

وضرب إبراهيم فتح الله كفا بكف, وقال مسائلا 
زملاءه جميعا؛ 

يا إخوان. هذا الرجل (مشيرًا إلى ياسين) طيُْب 
وظريف وابن حلال» ولكن هل يشتغل بلّيم؟. . . أنا 
راض بلمتكم!. .. 

فقال ياسين هازنًا: 

- دقيقة عمل مني تساوي شغل يوم منك! . . . 

الحكاية أن المدير يترفق بك, وأنّك تتوكّل على 
ابنك في هذا العهد الأغيرا . . . 

فقال ياسين ملجًا في إغاظته : 

- وفي كل عهد وحياتك, ابن في هذا العهد. فإذا 
جاء الوفد عندك ابن أختي وأبي» قل من عندك 
أنت؟ , 

فقال الرجل وهو يرفم رأسه إلى السقف: 

- علدي اا : 

- وهو سبحانه عندي أيضاء أليس برب الجميع؟ 

- ولكنه لن يرضى عن زباين محمد عل!. . . 

- وهل يرضى عن مدمني الأفيون والمنزول؟ 

- ليس أبشع في الوجود من السكيرا . . . 

- الخمر شراب الوزراء والسفراءء ألا تراهم في 
الصحف وهم يشربون الأنخاب؟ ولكن هل رأيت 
سياسيا يقدّم قطعة أفيون في حفل سياسي في صحّحة 
عقّد معاهدة مثلا؟ | 

فقال جار ياسين وهو يغالب الضحك: 

هس يا جماعةء وإلا قضيتم مدّة خدمتكم في 
السجن! , 

فبادر ياسين مشيرًا إلى غريمه : 

- كان يقرّفني في السجن وحياتك. ويقول لي أنا 
أقدم منك! . . , 

وإذا بمحمد حسن يعود من مقابلة وكيل الوزارة 
فساد الصمت وتطلعت تحوه الرءوس . 

واتجمه الرجل نحو حجرته لا يلوي على شيء. 
فتبادلوا النظرات متسائلين. لا يبعد أن يكون أحد 
المتخاصمين الآن رئيس قلم» ولكن من صاحب الظ 


السعيد؟!. وفتح باب المديرء وظهر رأسه الأصلع وهو 
ينادي بصوت جافٌ «ياسين أفندي» . فنبضص ياأسين 
بجسمه الضخمء ومضى نحو الحجرة وقلبه يخفق . 
وتفشخصه المدير بنظرة غريبة ثم قال: 

رقيت إلى الدرجة السادسة! . . . 

فقال ياسين وقد انشرح صدره: 

شكرًا يا أفندم!. . . 

فقال الرجل بلهجة لا تخلو من جفاف: 

من الإنصاف أن أصارحك بأنه يوجد من هو 
أحقٌّ با منك. .. ولكنها الوساطة! 

فغضب ياسين. وكان كثيرًا ما يغضب حيال هذا 
الرجل» وقال: 

الوساطة! ما لها؟ هل تتم حركة كبيرة أو صغيرة 
دون وساطة؟ هل ترفّى مخلوق في هذه الإدارة» في هذه 
الوزارة» بما فيهم حضرتك,. دون وساطة؟ 

نكظم الرجل غيظه. ثم قال: 

لا يأتيي من ناحيتك إِلَّا وجع الدماغ. تترقى 
بدون وجه حقٌء. ثم تثور لأقل ملاحظة عادلة» ما 
علينا مبارك»؛ مبارك يا سيّدي. فقط أرجو أن تشد 
حيلك» أنت الآن رئيس قلم!... 

فتشسجّع ياسين بتراجع المديرء وقال دون أن يخقف 
من حلانه : 

أنا موظف مند أكثر من عشرين عاماء وعمري 
اثدان وأربعون عامّاء فهل تستكثر عل الدرجة 
السادسة؟ إِنْ الخلمان يعيّنون فيها بمجرّد تخرّجهم من 
الجامعة | , . . 

- المهم أن تنشد حيلك» أرجو أن أعتمد عليك 
كبقيّة زملائك» فقد كنت وأنت ضابط مدرسة 
النحاسين مثال الموظه المجدثء ولولا تلك الحادثة 
القذعة. . , 
شيء قديم فلا داعي لذكره الآنء وكل واحد له 
أنخطاؤه . , 

أنت الآن في سنّ الرجولة الناضجة. فإذا لم 
يستقم سلوكك تعذّر عليك أن تقوم بواجبك» كل 
ليلة سهرء فبأئ ممّ تعمل في الصباح؟. أريد أن 
تمبض بالإدارة» هذا كل ما هنالك. . . 


السكرية ١هم‏ 


فاستاء ياسين بالتعريض بسيرتهء وقال: 

ا أقبل أن عسن: اإنشان سلوكي الخاص بكلمة. 
أنا حرٌ خارج الوزارة! . , 

وداخلها؟ 

- سأعمل ما يعمله رؤساء الأقلام» أنا اشتغلت في 
ماضئ ما يكفيني طوال العمر. . . 

عاد ياسين إلى مكتبه متكلفًا الابتسام رغم جيشان 
صذدره بالغضب » وذاع الشا فتلقى التهان . 7 
وكان إبراهيم فتح الله يميل على أذن جاره هامسًا في 
حقد ؛ 

- ابئه! . . . هذه هي الحكاية! عبد الرحيم باشا 


طيسو .. ٠.‏ . فهميت؟!... اسشخص! , 


7 1/ 


كان السيّد أحمد عيد الحواد جالسًا عل كرميٌ كبير 
في المشربيّة ينظر إلى الطريق حيئاء وحيئًا في جريدة 
الأهرام المبسوطة على حجرهء وكانت ثقوب المشربية 
تعكس على جلبابه الفضفاض وطاتقيته نقطا من 
الضياء. وقد ترك باب حجرته مفتوشًا ليتمكن من 
سماع الراديو القائم في الصالة» غير أنّه بدا ناحلا 
ضامرًاء كما لاحت في عينيه نظرة ثقيلة تنم عن 
استسلام حزين. وكان كأنما يكتشف الطريق ‏ من 
حلسه بالمشربيّة ‏ لأؤل مرّة في حياته» فلم يسبق له أن 
رآه من هذه الزاوية في أيام حياته الماضية, إذ إنه ل 
يمكث في البيت إلا ساعات النوم على وجه التقريب. 
أمّا اليوم فلم تعد له من تسلية ‏ بعد الراديو- إلا هذه 
الجلسة في المشربيّة. ينظر من ثقوبها شمالا وجنوباء 
ونه لطريق حي مسلّ لطيف. وله إلى هذا طابعه 
الذي بمِيّزه عن طريق النحّاسين الذي ألف رؤيته من 
دكائه ‏ السابق ‏ زهاء نصف قرن من الزمان. وهذه 
دكاكين حسنين الحلاق ودرويش الفوّال والفولي اللبّان 
وبيومي الشرباتلي وأبو سريع صاحب المقل» تقوم في 
الطريق كالقسمات في الوجه حبّى ترف بها وعرفت به 
أي عشرة وأيّ جوارء ترى ما أعبال هؤلاء الناس؟ 
حسنين الحلاق مدمج الخلق. من نوع َل أن يبدو 


7 السخرية 


عليه أثر الزمن؛ لم يكد يتغيّر منه شيء إلا شعره. 
ولكنّه جاوز الخمسين بلا ريب» من لطف الله مهؤلاء 
الئاس أنه بحفظ عليهم صِحْتهم! ودرويش؟. أصلع. 
هكذا كان دائيّاء ولكنه في السيّين. ما أقوى جسمه! 
كذلك كنت أنا في الستين» ولكتّني أمسيت في السابعة 
والستين فيا له من عمرا!. وأعدت تفصيل ثيابي 
لتناسب ما تبقّى من جسديء» وإذا نظرت إلى هذه 
الصورة المعلقة في حجرتي أنكرت نفسي . الفولي أصغر 
من درويش» ذلك الأعمش المسكين, ولولا غلامه ما 
عرف كيف ببتدي إلى سبيله. أبو سريع رجل عجوز, 
عجوز؟! ولكنّه ما زال يعمل. لم يفارق واحد منهم 
دكانه ألا إِنّْ فراق الدكّان لشديد! ثم لا يبقى لك 
إلا هذا المجلسء والقبوع في البيت ليل مهار» لو 
أستطيع أن أخرج ساعة واحدة كلّ يوم! ولكن عل أن 
أنتظر يوم الجمعة, ثم لا بد من العصاء ولا بذ من 
كال ليصحببي.؛ الحمد لله ربٌ العالمين. بيومي 
أصغرهم وأسعدهم حظّاء من أمّ مريم بدأء أمّا أنا 
فعلدها انتهيت» وهو اليوم مالك أحدث عيارة في 
الحيّء هكذا كان مصير بيت السيّد رضوانء, أنشأ هذا 
المشرب المضاء بالكهرباءء حظ رجل يبدأ بخداع 
امرأة» سبحان العاطي وجلّت حكمته! كل شيء 
يتجدد الطريق مهد بالأسفلت» وأضىء بالمصابيح , 
أتذكر ليالي عودتك آخر الليل في الظلام الدامس؟ 
لكن أين مي هاتيك الليالي؟ وفي كل دكان كهرباء 
وراديو» كل شيء جديدء إلا أناء عجوز في السابعة 
والستّين. لا يستطيع مغادرة داره إِلَا يومًا واحدًا في 
الأسبوع وهو يلهث. القلب! كله من القلب. القلب 
الذي طلما عشق وطلما ضحك وطلالما البسط وغَيى, 
يقضي اليوم بالقعود ولا رادٌ لقضائه. قال الطبيب «خذ 
الدواء والزم البيت واتبع نظامي الغذائيَ)» حسن. 
ولكن هل يعيد ذلك إل قوّتي؟. . . أعني بعض قوّي؟ 
فأجاب الطبيب «حسبنا أن تمنع المضاعفات. ولكنّ 
الجهد أو الحركة شيء خطير... (ثمّ ضاحكا). . . 
للاذا تريد أن تستردٌ قوتك»؟ أجل لماذا؟ إِنّه لشىء محرن 
مضحك معاء ومع ذلك قال «أريد أن قيب راجويءة 
فقال الطبيب «لكل حال مسرّاتهاء» جلسة هادئة؛ اقرأ 


المصحفء واسمع الراديو وانعم بأسرتك. ويوم 
الجمعة زر الحسين راكباء حسبك هذا!إك الأمر 
لصاحب الأمرء متولي عبد الصمد لا يزال يتخْبّط في 
الطرقات!» ويقول وانعم بأسرتك! لم تعد أمينة تمكث 
في البيت. انقلبت الآية؛ أنا في المشربيّة وأمينة تجول 
في القاهرة من مسجد إلى مسجدء كيال يجالسني خفيفًا 
كالضيف. عائشة؟. آه يا عائشة» أمن الاجء اننع أم 
من الأموات؟ ثم يريدون من قلبي أن يرأ 


ويستريح !. . . 
- سيّدي . . . 


والتفت إلى الوراء صوب الصوت. فرأى أمْ حنفي 
حاملة صينية صغيرة عليها قارورة الدواء وفنجان قهوة 
فارغ وكوب ماء مملوء لنصفه. 

الدواء يا سيدي . . . 

رائحة المطبخ تتطاير من ثومها الأسودى هذه المرأة 
الني صارت مع الزمن واحدة من أسرتنا. وتناول 
الكوب وملا الفنجان حي نصفه؛ وفض سداد 
القارورة ونقّط منها أربع نقط في الفئجان» وقلُّص 
وجهه قبل أن يتقلص من طعم الدواء؛ ثم تجرعه . 

بالشفا يا سيدى ., . , 

- متشكرء أين عائشة؟ 

في حجرتباء الله يصبّر قلبها! . 

- ناديها يا أم حلفي . . . 

في حجرتهاء أو على السطيم. ثم ماذا؟. وكان 
الراديو ما زال يذيع أغانيه ساءحمرًا من حزن البيت 
الصامت ولم يكن السيّد اضطرٌ إلى ملازمة البيت إلا 
ملذ شهرين» وكان قد مضى على وفاة نعيمة عام 
وأربعة أشهري فاستأذن الرجل في سماع الراديو لحاجته 
الملخة إلى التسليةء فقالت له عائشة: وطبعًا يا باباء 
ربنا يكفيك شر قعدة البيت). وسمع حفيف ثوب 
فالتفت فرآها قادمة في ثوب أسودى. متشحة بخخار أسود 
رغم حرارة الجؤء تشوب بشرتها البيضاء زرقة غريبة, 
عئوان التعاسة يا ابنتي. قال برقة : 

- هاتي الكرسي واجلسبي معي قليلا. 

ولكتها م تتنحزح عن موقفها قائلة: 

مرتاحة هكذا يا بابا. 


علّمته الأيّام الأخيرة ألا يحاول أن يعدل بها عن 
رأي . 

ماذا كنت تفعلين؟ 

فقالت دون أن ينم وجهها عن أي معنى : 

لا شىء أفعله يا بابا. 

5 لماذا لا تخرجين مع نينتك لتزوري الأضرحة 
المباركةء أليس هذا أفضل من بقائك هنا وبحدك؟ 

- ولماذا أزور الأضرحة؟ 

وكأنما فوجوء بقوماء بيد أنّه قال بهدوء: 

- تتوسّلين إلى الله أن يصير قلبك . 

م أله نهنا عدا فى البيث 1 

- طبعاء أقصد أن تتركي هذه العزلة يا عائشة»ء 
زوري أحتك. زوري الجسيران. رؤحي عن 

- لا أستطيع أن أرى المكرقة ولا معارف لي؛ لم 
يعد لي معارف؛ لا أطيق زيارة أحد. . 

قال الرجل وهو يولي عنها رأسه : 

أحبٌ أن تتصترى » وأن تمتمى بصحتك . . . 

قالتها فيا يشبه العجس.ء فقال بتوكيد: 

- نعمى ما فائدة الحزن يا عائشة؟. . 

فقالت وكانت رغم حالما تحافظ على الأدب الذي 
تعوؤدت أن تلتزمه حياله ؛ 

وما فائدة الحياة يا بابا؟ 

- لا تقولى هذاء إِنْ أجرك عند الله عظيم!. . . 

فحنت رأسها لتخفي عينيها الدامعتين» وقالت: 

أودٌ أن أذهب عنده لأنال هذا الأجرء ليس هنا يا 
بابا!. . . 
ثم انسحبت برقّة» وقبل أن تغادر الحجرة توقفت 
قليلّا كأنما تذكرت أمرّاء فسألته: 

- كيف صحّتك اليوم؟ 

فابتسم قائلا : 

الحمد لله لمهم صحّتك أنت يا عائشة. . . 

وغادرت الححرة» من أين تأتيه الراحة في هذا 
البيت؟. وراح يردّد بصره في الطريق حتى ثبت على 
أميئة وهي راجعة من جولتها اليوميّة» كانت ترتتدي 


السكرية 6م 


معطفاء وعلى وجهها بيشة؛ وتئقل خطاها في بطء. 
شِدٌ ما ركبها الكبر! . كان تُحسن الظنّ بصححّتها متذكرًا 
أمها المعمرةء ولكن ها هي تبدو أكبر من سنها - اثئين 
وستّين عامًا بعشرة أعوام على الأقل» ومرٌ وقت غير 
قصير قبل أن تدخل عليه وهى تتساءل: 

كيف حال سيّدي؟ 

فقال بصوت مرتفع نفخ فيه نبرات الحدّة المطلوبة : 

كيف حالك أنت! ما شاء الله! من طلّْعة الصبح 
يا ولية؟ ! 

فابتسمت قائلة : 

زرت سيدتك. وزرت سيدكك, ودعوت لك 
وللجميع. . . 

عاودته بعودتها طمانينة وسلام» وشعر بأنّه يستطيع 
الآن أن يطلب ما يشاء دون حرج: 

- أيصحّ أن تتركيني وحدي كل هذا الوقت؟! 

- أنت أذنت لي يا سيّدي» لم أغب طويلاء ولكتها 
الفضرورة يا سيّدي», ما أحوجنا إلى الدعاء» توسلت 
إلى سيّدي أن يردٌ إليك صحّحتك حيّى تروح وتغدو كما 
تشاء؛ كبا دعوت لعائشة وللجميع . . . 

وجاءت بكرميّ وجلست» ثم سألته : 

- هل تناولت الدواء يا سيّدي؟ أنا نبهت على أم 
ليتك نبهتها على شيء أحسن ! ' 

بالشفا يا سيّدي» سمعث في المسجد درسًا جميلا 
من الشيخ عبد الرحئن» تحدّث يا سيّدي عن الكفارة 
عن الذنب وكيف تمسح السيّئات, كلام جميل جدًا يا 
سيّدي» ليتني أستطيع أن أحفظ كايام زمان!. .. 

- وجهك شاحب من المشثبي: كلها كم يوم 
وتصبحين من زبائن الدكتور! . . . 

ريّنا الحافظء أنا لا أخخرج إلا لزيارة آل البيت. 
فكيف يقع لي سوء؟!. 

م متداركة : 

- آه يا سيّدى: كدت الى يتحدنوت في كل 


مكان عن الحرب» يقولون إن هتلر هجم. . . ! 


تساءل الرجل باهتام : 
متاقدة؟ . 


14 السكرية 


- سمعتها يذل المرّة مائة مرةى هتلر هجم. . . هتلر 
فقال الرجل ليُفهمها أنها لم تسبقه بالأخبار: 

كان هذا متوقعًا من لحظة لأخرى. . . 

- قالوا هتلر فقط؟. وموسوليني؟. ألم تسمعي هذا 
الأسم؟... 
- أسم هتلر فقط. . , 

- رئنا يلطف بناء إذا سمعتم نداء عن ملحق 
البلاغ أو المقطم فاشتروه. . 

فقالت المرأة: 
من له الدوام ! . . . 


15/ 

كانت زيارة جامعة وذات معنى كا قالت خخديجة فيهما 
بعد فعندما قُتم باب الشقّة ملأ فراغه ياسين في بذلة 
بيضاء من تيل المحلة» تتقدّمه الوردة الحمراء والمنشّة 
العاجية؛ يكاد جسمه الضخم يدفع الشواء بين يديه 
وتبعه ابنه رضوان في بذلته الحريرية آية في الأناقة 
والجهال؛ ثم زثوبة في ثوب سنجابيّ تعلوها الحشمة 
التي صارت جزءًا لا يتجزأ منهاء وأخخيرًا كريمة في 
فستان أزرق بديع كشف عن أعلى النحر والذراعين» 
وقد تبلورت أنوثتها المبكرة - لم تكن تزيد عن الثالثة 
عشرة فبدت جاذبيتها صارخة. وضمتهم حجرة 
الاستقبال مع نخديجة وإبراهيم وعبد المنعم وأجمدء 
وسرعان ما قال ياسين : 

- أسمعتم عن شيء كهذا من قبل؟ ابني سكرتير 
الوزير الذي أنا في وزارته مجرّد رئيس قلم في 
المحفوظات, تَنْبَدٌ له الأرض إذا سارء وأنا لا يكاد 
شرن إنسان ]1 

كان مدلول كلامه الاحتجاج. ولكن لم يخف على 
أحد ما انطوت عليه نفسه من تيه وفخار بابنه. وفي 
الحقّ قد حصل رضوان على الليسانس في مايو من هذا 
العام» وما لبث أن تعين في يوليه سكرتيرًا للوزير» في 


الدرجة السادسة. على حين يتعيّن خرّيجو الجامعات في 
الدرجة الثامئة الكتابيّة» وقد حصل عبد المنعم على 
الليسانس في نفس التاريخء ولكنه لم يكن يدري ما 
المصيرء قالت خديجة باسمة؛ وكانت تشعر بشىء من 
الغيرة : ا 

- رضوان صديق الحكام. ولكنّ العين لا تعلو على 
الحاجب. . . 

فقال ياسين في سرور لم يفلح في مداراته : 

- ألم تروا صورته مع الوزير في أهرام أمس؟ . . . 
بتنا لا ندري كيف نتكلمه! . . . 

فأشار إبراهيم شوكت إلى عبد المنعم وأحمد قائلا : 

هذان الولدان خائبان» ضيّعا عمرهما في مناقشات 
حادّة لا معبى لهاء. وكان خير من عرفا من رجالات 
البلد الشيخ عل المنوفي ناظر مدرسة الحسين الأوَليّة 
وسخام البرك عدلي كريم صاحب مجلّة الضوء أو 
لباب لا أدري! 

وكان أحمد ساحظا وإن بدا طبيعيًا. أثاره زهو نخاله 
ياسين كا أثاره تعليق والدهع أما عبد المنعم فقد غطى 
ما كان ينتظره من وراء هُذه الزيارة الجامعة على 
الغضب الذي كان خليقًا أن يشتعل في صدره في 
ظروف أخرى. وكان يسترق النظر في وجه رضوان 
متسائلا عا وراء» غير أن قلبه استبشر خيرًا بالزيارة, 
فلعلها لم تكن تقم لولا أنّها تحمل البشرى. وععاد 
ياسين يقول معلْقًا على كلام إبراهيم : 

- لو سألتني عن رأبي لقلت لك نِعُم الولدان! . م 
يقولوا في الأمثال: السلطان من ابتعد عن باب 
السلطان؟ 

كلا لم يفلح ياسين في مداراة سرورهء كما لم يفلح 
في إقناع أحد بإيمانه ما قال غير أنْ خديجة قالت 
مشيرة إلى رضوان : 

- ربنا يطعمه خخيرهم ويكفيه شرهم. . . 

وأخيرًا التفت رضوان إلى عبد المنعم قائلا : 

- أرجو أن أهئئك عا قريب. . 

فتطلّع إليه عبد المنعم متسائلا وقد تورّد وجهه. 
فعاد رضوان يقول: 

- وعدني الوزير بأن يعينك في إدارة التحقيقات. . 


كانت أمسرة نحديجة تترقب على لحف هذا التقرير, 
فركزت أبصارهم في رضوانء طالبة المزيد من التأكيد 
فمضى الشاب يقول : 

أوؤل الشهر القادم على أكثر تقدير. . 

وقال ياسين معقبًا على قول ابنه : 

- نبا وظيفة قضائية. لقد عيّن عندنا في إدارة 
المحفوظات شابان من حملة الليسانس في الدرجة 
الثامنة بثيانية جئيهات! . 

وكانت خديجة هي التي طلبت من ياسين أن يكلم 
ابنه بشأن عبد المنعمء فقالت في امتنان : 

- الشكر لله ولك يا أخي (ثمم وهي تلتفت إلى 
رضوان) وطبعا جميل رضوان فوق رعءوسنا. . . 

وآمن إبراهيم على قولها قائلا: 

- طبعاء إِنَّه أخوه. ونِعُم الأخ. 

وقالت زنوبة باسمةء لكي تخرج من هامش 
احلسة : 

- رضوان أخو عبد المنعم وعبد المنعم أخو رضوان: 
ما في ذلك كلام . 

وتساءل عبد المنعم الذي كان يشعر بحياء لم يشعر 
به من قبل حيال رضوان : 

أعطاك كلمة بجِدّيّة؟ 

فقال ياسين باهتيام : 

كلمة وزير!... إن متتبع المسألة! . 

وقال رضوان: 

وأنا من ناحيتيى سأذلل لك الصعاب في إدارة 
المستخدمين» ولي فيهم أصدقاء كثيرون؛ ولو أن 
موظفي المستخدمين لا صديق لهم! 

فقال إبراهيم شوكت وهو يتنبل : 

الحمد لله. لقيد أراحنا الله من الوظيفة 
والموظفين! . . . 

فقال ياسين : 

عشث ملكا يا أبا خليل. . . 

ولكنّ خديجة قالت متهكّمة: 

ربّنا لا يحكم على أحد بقعدة البيت!. . 

وتدخلت زنّوبة مجاملة كعادتباء فقالت: 


السكرية هكلم 


- 


- قعدة البيت لعنةء إلا من كان صاحب ملك فهو 
سلطات! . . 

فقال أحمد وف عينيه بسمة حبيثة : 

خالي ياسين صاحب همِلك, ولكنّه صاحب وظيفة 
أيضا! . . , 
فضحك ياسين ضحكة عالية؛. وقال: 

صاحب وظيفة وبس من فضلكء أما الملك! كان 
ياما كان. كيفف محتفظ بملكه مَن كان له أسرة 
كأسرتي؟!. | 

فهتفت زنُوبة في ارتياع : 

- أسرتك؟ ! . 

والتفت رضوان ‏ قاطمًا الحديث الذي لا يحبّه ‏ إلى 
أحمد قائلا: 

إن شاء الله تجدنا في خدمتك في العام المقبل 
عندما تأخذ الليسانس! . . . 

فقال أحمد ' 

أشكرك جدّاء لكتني لن أتوظف! . . . 

2 كنقها لين 

الوظيفة خخليقة بقتل أمثالي. مستقبل في الميدان 
الحرًا . 

وهيّت خديجة بالاحتجاجء ولكّها آثرت تأجيل 
العراك إلى حينهء أمّا رضوان فقال باسما: 

إذا غيّرت رأيك فستجدني فى خدمتك! 

فرفم أحمد يده إلى رأسه شاكرًا. وجاءت الخادم 
بأكواب الليمون المالّجة» وفي فترة الصمت التي جعلوا 
فيها يحتسون. حانت التفاتة من خخديجة نحو كريمة 
فكأتما كانت تراها لأوّل مرّة مئذ إفاقتها من مسألة عبد 
المتعم ) فقالت برقة: 

كيف حالك يا كريمة؟ 

فأجابتها الفتاة بصوت فيه رخامة : 

- بخير يا عمّتى» متشكرة. . . 

وكادت خديية تأخذ في إطراء جمالماء ولكنّ شيئًا ‏ 
كالحذر ‏ أوقفها. الواقع أنْبا لم تكن أول مرّة تجيء بها 
زنُوبة معها مذ حجزت في البيت بعد أنصذها 
الابتدائيّة. وقالت حديجة لنفسها إن هذه الأمور تُشّمٌ 


5 السكرية 


في الهواء شمًا! . وَإِنّْ كريمة إذ كانت ابئة زنُوبة فهي في 
الوقت نفسه ابئة ياسين» ومن هنا تجيء دقة المسألة! . 
ولى يكن عبد المنعم يوني كريمة حقها من النظر لانشغاله 
بموضوعه. ولكن كان يعرفها حقّ المعرفة على أنه لم 
يكن قد برأ كلّ البرء من أثر وفاة زوجه. أما أحمد فلم 
يكن في فؤاده متّسع! وقال ياسين : 

كريمة ما زالت آسفة على عدم التحاقها بالمدرسة 
الثانويّة . 

فقالت زثوبة مقطبة : 

وأنا أسفة أكثر. . , 

فقال إبراهيم شوكت: 

إن أشفق على البنات من جهد الدراسة» ثمٌ إن 
الببت في النهاية لبيتهاء فلن يمض عام أو آخر حت 
تزف كريمة إلى صاحب القسمة السعيد. . . 

يا مقطوع اللسان.» هكذا قالت خديحة لنفسهاء 
يفتح المواضيع الخطيرة وهو في غفلة عن نتائجهاء يا له 
من موقف!. كريمة ابنة ياسين وأخحت رضوان صاحب 
الفضلء لعلّه لا يكون لمذا القلق من سبب إلا 
الوهم!اء ولكن لاذا تكثر زنُوبة من زيارتنا جارّةٌ في 
يدها كريمة؟. ياسين لا يسمح له وقته بالتفكير 
والتدبس» أمّا ربيبة التخث!., . . 

وقالت زنوبة : 

هذا الكلام كان يقال في الزمن الماضي» أما اليوم 
فالبنات كلهن يذهبن إلى المدارس. . . 

فقالت خخدشية : 

- في حارتنا بان في المدارس العالية: ولكنّ 
شكلههما والعياذ بالله! . . . 

فسأل ياسين أحمل: 

أليس في بئات كليّتك جَمال؟ 

وخفق قلب أحمد. وتمئلت لعينيه الصورة المعشّشة 
في قلبه, ثم أجاب : 

- حب العلم لبس قاصرًا على الدمييات. . 

فقالت كرية باسمة» وهي تنظر صوب أبيها: 

- المسألة تتوقف على الآباء. 

فضحك ياسين قائلا : 

عفارم يا ابنتيىي! هكذا تتحدّث البنت الطيّبة عن 


أبيها» وهكذا كانت تخاطب عمتك جدّك! . 

د المالة ضر تمل الام عقا د 

فبادرتها زنُوبة قائلة : 

- البنت معذورة. اه لو سمعت حديئه بين 
أولاده! . 

فقالت نخحدجة : 

أنا عارفة وفاهمة! ., . 

فقال ياسين: 

أنا رجل له آراؤه في التربية» أنا الأب الصديق. 
لا أحبٌ أن يرتعد أبنائي خوفًا في محضري. أنا حي 
اليوم ينتابني الارتياك أمام ان اع 

فقال إبراهيم شوكت: 

- الله يقوّيه ويصيره على قعدة البيث! السيّد أحمد 
جيل وحده؛ وليس مثله أحد في الرجال. . . 

- قل له! , 

فقال ياسين كالمعتدذر: 

- أي جيل وحده. وا أسفاه أصبح هو وأصحابه 
قعيدي بيوتهم. ولم تكن الدنيا لتسعهم على 
رحايتها! . . . 

وكان رضوان يقول لأحمد في حديث جانبي 
مستقل : 

بدخول إيطاليا الحرب أصبح الموقف بالنسبة لمصر 
شديد الخطورة. . . 

ريما تحولت هذه الغارات الاسميّة إلى غارات 
- ولكن هل لدى الإنجليز قوّة كافية لصدّ الزحف 
الإيطائ المدوقم؟ لا شك أن هتلر سيترك مهمة 
الاستيلاء على قئاة السويس لموسوليني . . . 

فتساءل عبد المنعم : 

- هل تقف أمريكا متفرجة؟ 

فقال أحمد: 

- مفتاح الموقفف الحقيقئ في يد روسيا!. 

- لكنبا حليفة هتلر؟ . . . 

- الشيوعيّة عدوّة النازيّة. ثم إِنْ الشرّ الذي يتهدّد 


العام بانتصار الألمان أضعاف ما يتهدّده بانتصار 
الديموقراطيّات . . 

أظلموا لنا الدنيا يظلّم عيشتهم؛ وما هذه الأشياء 
اللي لم ثعرفها من قبل؟... صفارات إنذار!... 
مدافع مضادّة. .. كشافات» مصائب تشيّب الإنسان 
قبل الأوان! 

فقال إبراهيم في سحخرية هادئة : 

على أي حال الشيب في بيتنا ليس قبل 
الأوان. . . 

هذا عندك أنت وحدك! 

كان إبراهيم في الخامسة والستّين» ولكنه يبدو 
بالقياس إلى السيّد أحمد ‏ الذي لم يكن يكبره إلا 
بثلاث سئنوات ‏ كأنًا يصخره بعشرات السئين. 

وعند انتهاء الزيارة: قال رضوان لعبد المنعم : 

- زري في الوزارة. 

ولا أغلق الباب وراء الذاهبين» قال أحمد لعبد 
المنعم : 

حذ بالك أن تدخحل عليه دون استكذان» ادرس 
كيف تزور سكرثير وزيرا 


1 

لم يجد أحمد مشقّة تُذكر في الاهتداء إلى فيلا مستر 
فورستر- أستاذ علم الاجتاع ‏ بالمعادي. وقد أدرك 
حال دخوله أنه جاء متأخرًا بعض الوقت» وأنّ كثيا 
من الطلبة الذين دُعوا مثله إلى الحفل الذي أقامه 
الأستاذ لمناسبة سفره إلى إنجلترا قد سبقوه إليه. 
واستقبله الأستاذ وحرمه, وقد قدّمه إليها باعتباره طاليا 
من نخير طلبة القسمء ثم مشى الشابٌ إلى حيث 
جلس الطلبة في الفرائدا» كان المجلس يتكون من 
طلبة قسم الاجتماع كاثة» وكان أحمد ضمن القلة 
لمنقولة للسنة النبائيّة» يشاركهم ذلك الشعور بالامتياز 
والتفوق. ولم تكن واحدة من الطالبات قد حضرت» 
ولكنه كان مطمئنًا إلى مجيئهن. أو إلى محيء «صديقته؛ 


السكرية لاوم 


التي كانت من سكّان المعادي. وألقى نظرة على 
الحديقة فرأى مائدة طويلة تمتدّة في أرض فضاء 
معشوشبة. تكتنفها سل الحانبين أشجار الصفصاف 
والدخيل» وقد صفْتِ فوقها أباريق الشاي وأوعية 
اللبن وأطباق الحلوى. ثُمّ سمع طالبًا يتساءل: 

- نلتزم بالآداب الإنجليزيّة أم ننقض على المائدة 
كالنسور؟ 

فأجابه آخير فيها يشبه الأسف: 

- آه لو لم توجد لادي فورستر! . 

كان الوقت أصيلاء ولكنٌ البو كان لطيفًا رغم 
شخصية يونيه الثقيلة» ثم ما لبث أن لاح السرب 
المنتطّر عند مدخل الفيلا. جئن معًا كأمْبنّ على ميعاد. 
وكنّ أربعًا هنّْ جملة الطالبات بالقسم وبدت علويّة 
فنرق وق قطن و ابكاند ال ميم الاق فوقو ناه 
جعل من كائنها اللطيف لوا واحدًا بديعًا فيا عدا 
الشعر الأسود الفاحمء وعند ذاك شعر أحمد بِقَدَّم 
هازئة تحتكٌ بقدمه كأئما تشّهه إن كان في حاجة إلى من 
ينبهه» وكان سرّه قد ذاع من زمن. . . وتابعهنْ حي 
استقرٌ بن المجلس في ركن أخلي لحن بالفرانداء ثم 
جاء مستر فورستر وزوجه؛ وقالت الزوجة موجهة 
الخطاب إلى الطلبة. وهي تشير إلى الفتيات : 

هل تحتاجون إلى تعارف؟ 

فارتفع الضحك. وقال الأستاذ وكان ذا شخصية 
فائقة رغم مشارفته القمسين: 

- الأجدر أن تعرّفيهم بي أنا! 

وضِججوا بالضحك مرّة أخرى» حي عاد مستر 
فورستر يقول: 

في مثل هذا الوقت من كل عام كنا نغادر مصر 
إلى إنجلترا لقضاء العطلة. هذه المرّة لا ندري إن كنا 
سئرى مصر مرّة أخرى أم لمم 

فقاطعته زوجه قائلة : 

ولا حتّى إن كنا سثرى إنجلترا! , . . 

وأدركوا أثها تلمح إلى خخطر الْغوؤاصات» فقال لها 
أكثر من صوت: 

حظّ سعيد يا سيّدتي. . . 

وعاد الرجل يقول: 


4 السكرية 


سأحمل معى ذكريات جميلة من حياتنا المشتركة في 
كلَية الآداب. 0 مقاطعة المعادى الحادئة الحميلة, 
وعلكم أنتم الذين سأعتز حتّى بهذركم! 

فقال أحمد محجاملا: 

أمّا ذكراك فستبقى في نفوسنا دواماء وتنمو بنمو 
عقولنا. . . 
شكرًا. .. (ثم مخاطنا زوجه وهو يبتسم)... 
أحمد شاب جامعيّ كما ينبغي» وإن تكن له آراء ما 
تسبب المتاعب عادة في بلده! 

فقال زميل موضحا: 

- يعني أنه شيوعئ ! , 

فرفعت السيّدة حاجبيها باسمة. أمّا مستر فورستر 
فقال بلهجة ذات معنى: 

ل أقل أنا ذلك. ولكنٌ زميله الذي قال! 

ثم مض الأستاذ وهو يقول: 

دان ونكت الاق عت الا يهرننا النرقف: 
وسوف نجد بعد ذلك متّسعًا للسمر واللهو. . . 

وان هال روي قد عدوا االائلة :ووانقوا :معاشئين 
للخدمة. . . وتوسشطت لادي فورستر جائب المائدة 
الذي جلس إليه الفتيات» على حين توسط الأستاذ 
الجانب الآخرء وهو يقول معلْقًا على نظام الجلوس: 

كنا نود أن تكون الجلسة أكثر اختلاطاء ولكنّنا 
راعينا الآداب الشرقيّة. أليس كذّلك؟ 

فأجابه طالب بلا تردّد: 

- للأسف هذا ما لاحظناه يا سيّدى ! 

وصبّ الخادم الشاي واللبن وبدأت الأدبة. لاحظ 
أحمد اختلاسًا أنْ علويّة صبري كانت أبرع زميلاتها 
ممارسة لآداب المائدة وأقلّهنّ ارتباقاء بدت آلفة للحياة 
الاجتماعيّة. كأئها في بيتهاء وشعر بأنْ ملاحظة تناوها 
للحلوى ألذّ من الخلوى نفسهاء هذه صديقته العزيزة 
التى تبادله الصداقة والمودّة دون أن تشجعه على عبور 
حدودهماء وقال لنفسه: إن لم أنتهر فرصة اليوم المتاحة 
فسلام علىّ!. وعلا صوت لادي فورستر وهي تقول: 

- أرى آلا تؤّر قيود الحرب في تناولكم للحلوى! . 

فعلّق طالب على قوهها قائلا: 

من المصادفات السعيدة أن الرقابة لم تفرض على 


الشاى بعد! 

ومال مستر فورستر على أذن أحمد ‏ وكان يجلس إلى 
يساره - وسأله : 

- كيف فضي العطلة؟ أعني ماذا تقرأ؟ 

كثيرًا في الاقتصاد وقليلًُا في السياسة» وأكتب 
بعض المقالات في المجلات . 

أنصحك بأن نَقدّم في الماجستير بعد الليسانس . 

فقال أحمد بعد الانتهاء ما في فيه: 

رتما فيا بعدء سأبدأ بالعمل في الصحافة. هذه 
خطتي من قديم. 

دعبي ] 

الصديقة العزيزة تحادث لادي فورستر بطلاقة. ما 
أسرع ما أتقنت الإنجليزية» والورود والأزهار تنضح 
بالحمرة والألوان كما ينضح القلب بالحب» في عالم 
الحرّيّة يزدهر الحبّ كالأزهار, الحبّ لا يكون عاطفة 
صحيحة طبيعيّة إلا في بلد شيوعيّ. وقال مستر 
فورسار: 

- من المؤسف أثنى لم أستكمل دراستي لآفة 
العربيّة» كنت أودٌ أن أقرأ مجنون ليل دون مساعدة 
أحل منكم! . 

- المؤسف أنّك ستنقطع عن دراستها! . . . 

إلا إذا سمحث الظروف فيا بعدل. . , 

ورئما وجدت نفسك مضطرًا إلى تعلّم الألمانيّة, ألا 
يكون مضحكا لو شهدت لندن مظاهرات تطالب 
بالحلاء وتمتف له؟ في أخلاق الإنجليز الشخصية فتنة 
أمَا فتنة الصديقة العزيزة فمن نوع لا مثيل له. ع 
قليل تغيب الشمس فيجمعنا الليل في مكان واحد 
لأؤل مرّةء وإذا لم أنتهز فرصة اليوم المتاحة فسلام 
علّ!. وسأل أستاذه : 

- وماذا أنت فاعل عقب وصولك إلى لندن؟ 

- دُعيت للعمل في الإذاعة. 

- إذن لن ينقطع عنا صوتك , 

ومجاملة تغتفر في هذا المجلس اللي تزيّنه صديقتي» 
إنّنا لا نسمع هنا إلا الإذاعة الألمائيّة» شعبنا يحب 
الألان ولو على سبيل الكراهية للإنجليز؛: والاستعمار 
أعلى مراحل الرأساليّة, اجتاعنا بأستاذنا يخلق موقفًا 


جديرًا بالتامل» نيرّره بالروح العلميّة ولكن ثمّة ارتطام 
بين حيّئا لأستاذنا وبغضنا لحنسه. والمأمول أن تقضى 
طوف كل الا كس امعد ر سكل شالك خلس 
للحت وحذه)؛, 

ثم عادوا إلى مجالسهم بالفراندا التي أضيئت 
مصابيحهاء ول تلبث لادي فورستر أن قالت: 

- إليكم اليائى فلسبصل أحدكم بإساعنا حا . 

فرجاها طالب قائلا : 

- تفضلي أنت بإسماعنا, . . 

فعبضت في رشاقة الشباب الذي جاوزته بأعوام 
ثم جلست إلى البيانو وفتحت النوطة وراحت تعزف 
لحناء لم يكن أحد منهم ذا إلمام بالموسيقى الغربيّة أو 
تذوق لاء ولكتهم أنصتوا في اهتام بدافع الأدب 
والمجاملة. وحاول أن يستمدٌ من حبّه قوة سحرية 
يفتح لها مغاليق اللحن, ولكنّه نسي اللحن في استراق 
النظر إلى وجه فتاته. والئتقت عيناهما مرّةء فتبادلا 
ابتسامة لم تغب عن كثيرين» وني نشوة الفرحة قال 
لنفسه: «أجل»ء إذا لم أنتهز فرصة اليوم المتاحة فسلام 
علّ»: وعلى أثر فراغ لادي هورستر من عرفها. عزف 
طالب نا شرقيّاء ثم خلصوا للسمر وفنا غير قصير, 
وحوالى الساعة الثامنة مساء ودّعوا أستاذهم وأخذوا في 
الانصراف. ولبد أحمد عند منعرج طريق في ليل بالغ 
في جماله وحنانه. تحت مظلة من الأشجار الباسقة. 
حبّى رآها قادمة وحيدة في طريقها إلى مسكتباء فبرز لها 
من المنعطف قاطمًا عليها الطريق» فتوقفت في دهش 
وقالت: 
ل تذهب معهم؟ 

فنفخ فيا يشبه التنبّد ليخقّف صدره من جيشانه؛ 
وقال مبدوء: 

تلفت عن القافلة لأقابلك! 

ترى ماذا يظئون بتخلّفك؟ 

فقال باستهانة : 

هذا شأءبم ! 

وسارت في بطء وسار إلى جالبهاء ثم تمحخض صبر 
الآيّام الطويلة عنه وهو يقول: 

أريد أن أسألك قبل عودي: هل تسمحين لي 


السكرية 9كم 


بالتقدّم لخطبتك؟ 

فارتفم رأسها الجميل كرد فعل لوقع المفاجأة. 
ولكن ل يندّ عنبا صوت كأئها لم تجد ما تقولهء وكان 
الطريق خاليًا وأضواء المصابيح متوارية تخلف الطلاء 
الأزرقء فعاد يسائلها : 

- أتسمحين لي؟ 

فقالت بصوت خافت لم يخل من عتاب : 

هذه طريقتك في الكلام ويا لما من طريقةع 
الواقع أنك أذهلتبي! 

فضحك فضحكة خفيفة. وقال: 

- أعتذر عن ذلكء وإن كنت أظنّ أن تاريخ 
صداتقتنا الطويل لا يجعل من قولي مفاجأة تذهل . 

- تعنى صدافتنا وتعاوننا الثقاقي؟ 

فلم يرتح لقوهاء ولكنّه قال: 

أعنى عاطفتي غير الخفيّة التي اتخذت شكل 
الصداقة والتعاون الثقايّ كيا قلت! . . . 

فتساءلت في صوت بأسم غير خال من اضطراب: 

عاطفتك الخفيّة؟ | 

فقال بعناد وإخخلاص : 

أعنى حبّى! الحبٌ لا يخفى , إِنّْنا عادة لا نتكلّم 
لتعلنه, وإثما لنسعد بساع إعلاننا له. . . 

فقالت مماطلة حبّى تستردٌ هدوءها: 

الأمر كلّه مفاجأة لي. . 

- يؤسفبى أن أسمع هذا. 

- لماذا تأسف؟ الواقم أنني لا أدري ماذا أقول. . . 

ضاحكا : 

قولي الأسميح لك» ودعي الباقي لي . . . 

ولكن. ولكن... أنا لا أعرف شيئًا, معذرة. 
كنا أصدقاء حقًا ولكنّك لم تحدّئني عن. .. أعني م 
تسمح الظروف بأن تحدئني عن شخصك! . . . 

ألم تعرفيني؟ 

عرفتك طبعاء ولكن ثمّة أمور أخمرى ينبغي أن 
تعرف, . , 
أتعني هُذه الأمور التقليديّة؟ يا لها من أسئلة خليقة 
بقلب لم ياسره الحبٌ!. وشعر بامتعاضء بيد أنه ازداد 
عناذا فقال: 


السكرية 


سيجيء كل شىء في حينه. . 
فتساءلت», وكانت قد ملكت زمام نفسها: 
- أليس الآن حينه؟ 
فابتسم ابتسامة فاترة» وقال : 
ع للقسن و عاق للك 9 
طبعًا! 
وأحنقته «طبعًاه. أمل أن يسمع أغنئية فسمع 
محاضرة معادة!. ولكن يجب ألا تخونه ثقته في نفسه 
مهما يكن الأمر, العريزة الباردة لا تدري كم يسعده 
إسعادها! . 
ثم بعد لحظات من الصمث: 
- وسيكون لى يومًا دخخل لا بأس به! 
فتمتمت في حياء: 
- كلام عام . . . 
فقال وهو يداري آله بالحدوء : 
- سيكون المرتب في الحدود المعروفة, أمّا الدخل 
فحوالى عشرةٌ جنيهات, , 
وساد الصمت. لعلها تزن الأمور وتفكر. هذا هو 
التفسير الماذيْ للحب!. كان يحلم بالجنون العذب 
ولكن أين منه هذا؟. هذا البلد عجيب يندفع في 
السيساسة وراء العاطفة» ويتبع في الحبٌ دقة 
المحاسبين. وأخعيرًا جاء الصوت الرقيق قائلا: 
لندع الدخل جانباء فلا يجمل أن ترتّب حياتك 
على أساس تقدير اختفاء الأعرّاء من حياتك. , , 
- أردت أن أقول لك إنْ والدي من ذوي 
الأملاك , , , 
فقالت بجهد برّر فترة التردّد التي سبقته : 
د فلتكن واقعيين. . . 
- قلت إن سأجد عملاء وستجدين من ناحيتك 
عملا أيضًا. . 
فضحكت ضحكة غريبة : 
- كلا لن أشتغل؛ لم أذهب إلى الجامعة لأتوظف 
كسائر الزميلات . , 
- ليس العمل عينًا. . . 


َ طبعال ولكرة والدى . . . الواقع اننا جميعا 


متفقون على هذاء لن أشتغل . 

وكان قد بردت عواطفه واستغرقه البحث. فقال: 

الكو انسمل نادير 

فقالت بصوت كأنما تعمّدت أن يكون رقيمًا فوق 
العادة : 

د اعفاد أده فلنؤجل الحديث. أعطني مهلة 
فضحك ضحكة فاترة» وقال:؛ 

- قلْبنا الأمر على كافة وجوهه. ولكنّك في حاجة 
إلى مهلة لتدبّري الرفض! 

فقالت بصوت -حيي : 

- ينبغيى أن أحادث والدي . 

- هذا بدهيّ. ولكن كان من الممكن أن ننتهي إلى 
رأى قبل ذلك! 

مهلة ولو قصيرة! . . . 

- نحن في يونيه» وستسافرين إلى المصيف». ولن 
نلتقي إلا في أكتوبر القادم في الكلَيّة!؟ 

قالت بإصرار: 

لا بد من مهلة للتفكير والتشاور! 

- إنك لا تريدين أن تتكلمي. . . 

وإذا بها تتوقف عن المسير فجأة. وتقول في داب 
وعزم معا: 

- أستاذ أحمد, إنّك تأبى إلا أن تحملبيي على 
الكلام.» أرجو أن تتقبل كلامي بصدر سمح. لقد 
فكرت في موضوع الزواج من قبل كثيراء لا بالقياس 
إليك ولكن بصفة عامّة. والتهيت منه ‏ ووافقني على 
ذلك والدي ‏ بِأنْ حياتي لن تستقيم, وإننى لن أحافظ 
عل مستوايء إِلَا إذا عبيّا لي ما لا يقلّ عن خمسين 
جنيها شهريًا. . , 

وتجرّع خيبة مريرة لم يتوقع - على أسوأ الفروض - 
أن تبلغ مرارجها هذه الدرجة» وتساءل: 

- وهل يملك موطف أعني في سن الزواج ‏ هذا 
المرتّب الضخم؟ 

ولكنها لم تنبس. فعاد يقول: 

- نك تريدين زوجًا ثريًا! 

- آسفة جدّاء ولكنّك أجبرتني على مصارحتك برأني . 


فقال بصوت غليظ : 

هذا أفضل على أي حال. . . 

فعادت تغمغم: 

أسقة! . . . 

وثار غضبه., ولكنّه بذل جهدًا صادًا كيلا يخرج 
عن حدود الأدب. لم وجد رغبة لا تقاوم قِ أن 
يصارحها برأيه فتساءل : 

- أتسمحين لي أن أصارحك برأبي؟ 

فادرته قائلة: 

كلا إِنْ أعرف الكثير عن آرائك» وأرجو أن 
نبقى صديقين كما كنا! . . . 

ورئى رغم غضبه لالحا هذه هي الحقيقة العارية 
قبل أن يلظّفها الحبّ. التي عبرب مع خادمها امرأة 
طبيعيّة وإن عدّت - بعين التقاليد ‏ شاذة. في المجتمع 
المختل يبدو الصحيح مريضًا والمريض صحيحًاء إنه 
غاضب ولكنٌ تعاسته أكبر من غضبهء إها على أي 
حال تحدس رأيه وفي هذا عراء. ومذت يدها 
للمصافحة فتلقاها بيده ثم أبقاها فيها حبّى وسعه أن 
يقول: 

قلت إِنْك لم تدخلي الجامعة لتتوظفي» قول جميل 
في ذاتهء ولكن إلى أيّ مدى التفعت بالجامعة؟ 

وارتففع ذقها كالمتسائلة؛ لكنّه قال بلهجة لم تخل من 


سححر ية : 
معذرة عن سخافتي »؛ لعل المسألة أنك لم نحبي 
بعك مع السلامة , , 


ودار على عقبيه؛ ثم ولى مسرعا. 


م 


قال إسماعيل لطيف : 

لعل أخطات بحمل زوجي إلى القاهرة كي تلد 
فيهاء كلّ ليلة تنطلق صفارة الإنذارء أمّا طنطا فلم 
نكن نعرف شيئًا عن أهوال هذه الحرب. 

فقال كمال: 

إنها غارات رمزيّة لو أرادوا بنا شرًا ما منعتهم 
قرة] 


السكرية 4.1 


فضحك رياص قلدس» وقال مخاطبًا إسراعيل 
لطيف. وكانت هذه ثاني مقابلة بينهها في مدى تعارف 
عام : 

- أنت تخاطب رجلا لا يشعر بمسئوليّة الزوج!. 

فسأله إسماعيل متهكيًا: 

- وهل تشعر بها أنت؟ 

دحتا آنا" أعيوي مكلت عي أن ليك عد 
للزواج. . . 

كانوا يسيرون في شارع فؤاد الأوؤل. في مطلم 
الليل» في ظلام لم تخففه الأضواء الضئيلة التى تتسرّب 
من أبواب المحالٌ العامّة. وكان الشارع رغم ذلك 
مكتطًًا بالنساء والرجال والجنود البريطائيّين على 
اختلاف أنواعهم. وكان اريف يبعث أنفاسًا رطيبة: 
ولكنّ أكثر الناس مضوا في الملابس الصيفيّة. ونظر 
رياض قلدس إلى جماعة من الجحنود الهنود وقال: 

من المحزن أن يبتعد الإنسان عن وطنه هذه 
المسافة المديدة» ليُقتل في سبيل غيره! 

فقال إسراعيل لطيف : 

- ترى كيف يتأن طؤلاء التعساء أن يضحكوا؟!. 

فقال كيال ممتعضا: 

- كا نضحك نحن في هله الدنيا الغريبة» الخمر 
والممخدّرات والياس. 

فضحك رياض قلدس قائلا : 

- إِنْك تعاني أزمة فريدة» كل ما عندك مزعرع 
الأركان» عبث وقبض الريحء نضال أليم مع أسرار 
الحياة والنفسء وملل وسقم» إن أرثي لك. 

فقال إسماعيل لطيف ببساطة : 

انع لبه رع يردا اللل قل زراجيو م 

فقال رياض قلدس : 

- قل له! . . . 

فقال كال» وكأنما يخاطب نفسه : 

- الزواج هو التسليم الآخير في هذه المعركة 
الفاشلة , . . 

وأخطأ إساعيل في المقارنة» إِنّه حيوان مهذّب». 
ولكن مهلا لعله الغرورء فيم الغرور وأنت ترقد فوق 
تلّ من الخيبة والفشل» إسماعيل لا يدري شيئًا عن 


السكرية 
دنيا الفكرء ولكنّ السعادة المستمدّة من العمسل 


والزوجة والأولاد. أليسث سعادة جديرة بأن تسخر من 
احتقارك لها؟») قال رياض: 

إذا روس يونا أن" أذلفك رواية > كرون أبن 
انطافاا: 

فاتهه ىال نحوه في اهترام صبيانيَء وسأله : 

ماذا ستصنع مئي؟ 

علا ادر ولكن ينبغي أن توظن نفسك على ألا 
تزعل» فإِنّ كثيرين من قرأوا أنفسهم في أقاصيصي قد 
زعلوا : : 

- لماذًا؟ , , 

لعله لأنْ لكل إنسان فكرة عن شخصه من خخلقه 
هوء فإذا جرّده الروائي منها أبى وغضب! . . . 

فتساءل كمال في قلق : 

- ألديك فكرة عبّى غير ما تعلن؟ . 

فبادره في توكيد قائلا: 

- كلا ولكنٌ الروائي قد يبدأ من شخص ثم ينساه 
كلية وهو بصدد خلق نموذج بشريّ جديد. لا صلة 
بينه وبين الأصل إلا الإيماء. وإك توحي إل 
بشخصية الرجل الشرقي الحائر بين الشرق والغرب. 
الذي دار حول نفسه كثيرًا حبّى أصابه الدوار. 

«يتكلّم عن الشرق والغرب» ولكن من أين له أن 
يعرف عايدة؟. قد تكون التعاسة متعددة الجوانب». 

وقال إسماعيل لطيف في بساطة مرة أخرى: 

طول عمرك تخلق لنفسك المتاعب» الكتب في 
نظري أساس بلواك, لاذا لا ترب الحياة الطبيعيّة؟ 

وبلغوا في مسيرهم منعطف عبماد الدين فالوا إليه. 
وقد اعترضهم جماعة كبيرة من الإنجليز فتفادوا منباء 
وقال إسباعيل لطيفب: 

- إلى جهثم. من أين لهم ببذا الأمل؟!. ترى هل 
يصدّقون أنفسهم؟. 

فقال كمال: 

- ميل إل أن نتيجة الحرب قد تقرّرت غايتها 
الربيع القادم . . . 

فقال رياض قلدس متعضشا : 

النازية حركة رجعية غير إنسانيّة: وسوففب 


يتضاعف شقاء العالم تحت أقدامها الحديدية. . . 

فقال إسماعيل : 

حكن ما ركونه اللا اللااقوي الاتعلين ل تفنين 
الموضع الذي فرضوه على العالمى الضعيف! . . . 

وقال كيال : 

- ليس الألمان بخير من الإنجليز. . . 

فقال رياض قلدس : 

- ولكتّنا انتهينا مع الإنجليز إلى برّء والاستعمار 
البريطانٌّ يوغل في الشيخوحة؛» ولعلّه قد تلظلف ببعض 
المبادئ الانسانيّة. ولكئنا سنتعامل غدًا مع استعمار فت 
مغرور شره غنى حربء» فما العمل؟ 

فضحك كال ضحكة نحمل نغمة جديدة. وقال: 

- نشرب كأسين ونحلم بعالم واحد تسيطر عليه 
حكومة واحدة عادلة! , . . 

د سنحتاج حت إلى أكثر من كأسين. . . 

ووجدوا أنفسهم أمام حانة جديدة لم يروها من 
قبل. لعلها من الخانات «الشيطافّ» البى تخلقها ظروف 
الحرب بين يوم وليلة» وحانت من كمال نظرة إلى 
داخلها فرأى امرأة بيضاء ذات جسم شرقيّ تقوم على 
إدارة الحانة» ثمّ جمدت قدماه فلم يتحرّك من موقفه, 
أو بالأحرى لم يستطع أن يتحرّك حيّى اضطرٌ صاحباه 
ان سرقنن عرو المنعير ويشظ ليت بطر 
مريم!. لم تكن إلا مريم دون غيرهاء مريم الزوجة 
الثانية لياسين. مريم جارة العمرء في هذه الحانة بعد 
اختفاء طويلء مريم التي ظَنّ بها أنّها لحقت 
بأها! . . , 
- أتريد أن نجلس ها هنا؟. هلم فليس بالداخل 
إلا أربعة جلود. . 

وتردّد ملياء ولكنّ شجاعته لم تواته فقال ولا يفق 
من ذهوله : 

كل + 

وألفى نظرة على المرأة التي ذكّرته بأمّها في آيامها 
الأخيرة. ثم انطلقوا في طريقهم» متى رآها آخخر 
مرّة؟. منل ثلاثة أو أربعة عشر عامًا على الأقلّء إنّها 
معلم من معالم الماضي الذي لا يسسى. ماضيه... 
تاريخه. . . ماهيّته. . . كل أولئك شىء واحدء. وقد 


استقبلته في قصر الشوق في آخخر زيارة لهذا البيت قبل 
طلاقهاء وما زال يذكر كيف شكت إليه اعوجاج أيه 
وارتداده إلى حياة العربدة والمجون. شكوى لم يكن 
يقدّر عواقبها وقد انتهت بها إلى ذلك الدور الذي تلعبه 
في هذه الحانة «الشيطان)» ومن قبل ذلك كانت كرعة 
السيد محمد رضوان» وكانت صليقته وملهمة أحلامه 
في الصبا الأؤل. في ذلك الزمان الذي شهد البيت 
القديم عامرًا بالأفراح والسلام؛ كانت مريم وردة 
وكانت عائشة وردة ولكنٌ الزمن عدو لدود للورود. 
ورتما كان من المحتمل أن يعثر عليها في بيت من هذه 
الببوت كما عثر بالستث جليلة» ولو وقع هذا لكان وججد 
نفسه في مأزق وأيّ مأزق» هكذا بسدأت مسريم 
بالإنجلير وانتهت بالإنجليز. . . 

- أتعرف هذه المرأة؟ . 

هالع .1 

غ كع , 

عاافر الام بهاتلف اليو بولعليا عق اج 

أوه» الحانات ملأى مِنّ» مومسات قدعسات. 
وخادمات متمردات. ومن كل لون... 

0 

- ولم لم تدخل فلعلها كانت ترحّب بنا إكراما 
للناوي ةا 

لم نعد في طور الشباب ولديئا أماكن أفضل . . . 

تقدم به العمر وهو لا يدري» منتصف الخلقة 
الرابعة. وكأنما قد استهلك نصيبه من السعادة. وإذا 
قارن بين تعاسته الراهئة وتعاسته الماضية لم يدر أبمما 
أشدّء ولكن ماذا بهم العمر وقد ضاق بالحياة؟ سقّا إن 
الموت لذَّة الحياة» ولكن ما هذا الصوت؟ . 

غارة!. 

أين نذهب؟. . , 

- إلى مخبا قهوة ركس . . . 

لم يجدوا في المخبا مكانا خاليًا للجلوس فوقفواء 
وكان ثمّة أفنديّة ونخواجات وسيّدات وأطفالء وكان 
الكلام يدور بشتى اللغات واللهجات. وأصوات 
رجال المقاومة المدنية ف الخارج تهتقفف «أطفيء البورة. 
وبدا وجه رياض شاحباء وكان يمقت دوي المدافع ؛ 


السكرية .و 


فقال له كيال مداعيا: 

- قد لا تتمكن من العبث يشخصي في روايتك. . . 

فضحك ضحكة عصبية وقال وهو يومئ إلى 
الناس : 

- البشريّة ممثلة بنسبة عادلة في هذا المخبا. . . 

فقال كيال متهكما: 

- لو اجتمعوا على حير كما يجتمعون عل 
الو 

وهتف إسماعيل متنرفرًا : 

- زمان زوجي نازلة على السلم تتلمّس طريقها في 
الظلام, إني أفكر جدّبًا في العودة إلى طنطا غدًا, , . 

- إن عشنا! , 

- مساكين حمًا أهل لندن! . 

- لكتيم أصل البلاء كله. . . 

ركان وجه رياض قلدس يزداد شحوباء ولكنّه 
دارى اضطرابه بالكلام فسأل كمال : 

- سمعتك تتساءل مرّة أين محطة الموت لأغادر 
مركبة اللحبياة المملّة» فهل يبون عليك أن تنسفنا قثبلة 
الآن؟ 

فابتسم كال. وكان يرهف السمع في قلق متزايد 
متوقعًا بين لحظة وأخمرى أن ينطلق مدفع فيصكٌ 
الآذان. وأجاب: 

داكلانب ارقم كاللسسائن)رى. العله اشرق من 


الا1؟. 
أم ثمة أمل غامض في الحياة ما زال يضطرب في 
أعياقك؟ . 


لماذا لم ينتحر؟. ول يبدو ظاهر حياته كأمًا يتل 
حماسًا وإيمانا؟ة. طلما نازعته النفس إلى النقيضين: وكر 
الشهوات والتصوّف. ولكنه لم يكن ليطيق حياة 
خالصة للدعة والشهوات؛. ومن ناحية أخرى كان ثمة 
شىء في أعماقه يئفر من فكيرة السلبيّة والمهروب» 
50 هذا الثىء ‏ الذي حال بينه وبين الانتحار, 
وفي ذات ارك اه استمساكه بحبل اللتياة الضطرب 
في يديه مناقض لصميم شكه القاتل» والمخلاصة في 
كلمتين: حيرة وعذاب!. 

وفجأة انطلقت المدافع كالمطر. لا تتيح للصدر 


4 46 السكرية 


نتتشاء :وزاقت الأبمنان: اقلت الألسن . ولكن 
الضرب لم يستمرٌ أكثر من دقيقتين بالحساب الزمني. 
وتوقم الناس عودة بغيضة إلى الدويّ المرعب» واستبدٌ 
الفزع بالنفوس, غير أن الصمت ساد وعمق» وتساءل 
إسماعيل لطيف: 

عن أمخيّل حال زوجي الآن. ترى متى تنتهي 
الغارة؟ 

فتساءل رياض قلدس : 

- متى تلتهي الحرب؟ 

وما ليث أن انطلقت صفارة الأمان فندٌ عن المخبأ 
تنبد عميقء وقال كال: 

- ليست إلا مداعبة إيطالية! . . . 

وغادروا المخبأ في الظلام كالخفافيش» ولفظت 
الأبواب أشباحا وراء أشباح, ثم تساقط الضوء الباهت 
متتابعًا من النوافذ, وملأت الضحّة الأركان. . . 
يبدو أن الحياة في هله اللحظة السريعة المعتمة ‏ 
ذكّرت كل غافل بمدى قيمتها الذي لا يقاس به شيء 
في الوجود. . 


5١ 


انحل الم القديم مع الزمن صورة جديدة تلذر 
بالانحلال والتدهور. انفرط نظامه وتقوض ملسه؛ 
وكان النظام والمجلس روحه الأصيل. ففى نصف 
النبار الأول يغيب كال في المدرسة. وتقضى أمينة إلى 
جولتها الروحيّة ما بين الحسين والسيّدة» وتنزل آم 
حنئفي إلى حجرة الفرن» ويتمدّد السيّد على الكنبة في 
حجرته أو يجلس على كرسي في المشربية؛ وتهيم عائشة 
على وجهها ما بين السطح وحجربباء ويظل الراديو في 
الصالة بهبتف وحده. وعند الأصيل تجتمع أمينة وأم 
حنفي في الصالة, وتلبث عائشة في حجرنباء أو تمكث 
معهما بعض الوقت ثم تذهب, أما السيّد فلا يغادر 
حجرتهء وكمال إن عاد من الخارج مبكرًا فلكي يقبع 
في الدور الأعلى في مكتبه. وكان اعتكاف السيّد أوّْل 
الأمر محزنًاء ثم صار عادة عنده وعند الآخرين» وكان 
حزن عائشة مفجعًا ثم صار عادة عندها وعند 


الآخرين» وما زالت أمينة أوْل هن يستيقظء. فتوقظ 
بدورها أمّ حنفي. ثم تتوضاً وتصبي . وتنبض أمّ 
حنفي ‏ وكانت نسبيًا خير الجميع صِحّة ‏ فتقتصد 
حجرة الفرن. وتفئح عائشة عيئين ثقيلتين فتقسوم 
لتحسو أقداح القهوة تباعَا وتحرق السجائر الواحدة تلو 
الأخرى حيّى إذا ذعيت للفطور تناولت لقيات. وقد 
الداع اننا السودلة لز انتليف شركاة فل تا 
كسبى جلدًا باهتاء وأخل شعرها في السقوط حيَّى 
اضطرّت إلى اللجوء إلى الطبيب قبل أن يدركها 
الصلم. وتكالبت عليها العلل حيّى أشار عليها 
الطبيب بالتخلّص من أسنائهاء فلم يبق من ششخصها 
القديم إلا الاسم. ولم تكن أقلعت عن عادة النظر في 
المرآة» لا لتأخذ زيئة. ولكن بحكم العادة من ناحية 
وللإمعان في الحزن من ناحية أخرى؛ ورتما بدت 
أحيانا وكأئها أذعنت للمقادير في استسلام لطيفء 
فتطيل من جلستها مع أمّهاء وتشارك في الحديث 
الدائر» ورثما افترّرت شفتاها الذابلتان عن ابتسامة» أو 
تزور والدها لتسال عن صحته. أو تتمّى في حديقة 
السطح وترمي بالحبٌ إلى الدجاجء هناك تقول أمها 


برجاء : 
- كم أسعدت قلبي يا عائشة؛ ليتني أراك دائعً) على 
هله الحال! 


على حين تجنْف أمّ حنفي عينيها قائلة : 

- فلنذهب إلى حجرة الفرن لنصنع شيئًا جميلا! 

ولكن عند منتصف الليل استيقظت أمّها على 
صوت بكاء آت من حجرتباء فهرعت إليها محاذرة أن 
توقظ الرجل النائم.ء فوجدتها جالسة في الظلام 
تنتتحب» ولا شعرت بدنوٌ أمّها تعلّقت بها هاتفة : 

لو تركثُ لي ما كان في بطنها! ظلا منها! يداي 
فارغتان, والدنيا لا شيء فيها. . . 

فاحتضتتها أمها وهي تقول: 

- إن أعلم الناس بحزنك» حزن يمل عن العزاءء 
لبتي كنت فداهم. ولكنٌ لله جل وعلا حكمته. وما 
جدوى الحزن يا مسكينة!؟. . . 

- كلما نمت حلمث ببمء أو حلمت بالحياة 
الأول. . . 


وجٌدي الله ذقت ها تعانين طويلاء أنسيت 
فهمي؟ ولكنٌ المؤمن ألصاب مطالب بالصبرء أين 
إيمانك؟ . 

فهتفت في امتعاض : 

- إيماني!... 

- نعم. اذكري إيمانك. وتوسلي إلى ربك تنزل 
عليك الرحمة من حيث لا تدرين... 

الرحمة!. . . أين الرحمة أين؟!. 

رحمته وسعت كل شيء» طاوعيني وتعالي معي إلى 
الحسين. ضعي يدك على الضريح واتلي الفاتحة تتمحوّل 
نارك إلى برد وسلام كثار سيّدنا إبراهيم . . . 

ول يكن موقفها حيال صِحّتها دون ذلك اضطراباء 
فحيئًا تتردد على الأطبّاء في مثابرة وانتظام حبّى يظنْ مها 
العودة إلى الاستمساك بأهداب الحياة» وحينا همل 
نفسها وتزدري كافة النصائح لدرجة الانتحار. أما 
زيارة القرافة فهي التقليد الوحيد الذي لم تشدّ عنه مرّة 
واحدة.ء وكانت تنفق فيها بسخاء وتهبها عن طيب 
خاطر كلّ ما ملكت يمينها من ميراث زوجها وابئتها 
حسٌ استحال حول المقيرة حديقة غناء موشّاة بالأزهار 
والرياحين. ويوم جاءها إبراهيم شوكت لوتمام 
إجراءات الميراث ضحكت ضحكة مجنونة وقالت 
لأمها : 

- هنثيني على ميراثي من نعيمة. . . 

وكان كيال يمر مها كلما آنس منها استقراراء 
فيجالسها مليًا ملاطفًا متودّدًا. كان يتأمّلها طويلا 
صامبّاء ويتعخيّل محزونًا الصورة الذاهبة التى أبدع الله 
صنعهاء ثم يتفخص ما آلت إليه. لم تكن هزيلة 
فحسبء ولا مريضة فحسبء, ولكن محزنة بكل ما 
تحمل هذه الكلمة من معنى» ولم يغب عنه ما بينهها من 
أوجه الشبه في الحظ. فهي قل فقدت ذرَيّتها وهو قد 
فقد آمالهء وانتهت إلى لا شيء كما انتهى إلى لا شيء؛ 
بل كان أبناؤها لحرا ودمًا أمَا آماله فكانت كذيا 
وأوهاما!. وقال لهم يومًا: 

- أليس من الأفضل أن تذهبوا إلى المخبأ إذا 
أطلقت صقارة الإنذار؟ 

فقّالت عائشة : 


السكرية ه٠4ة‏ 


- لن أغادر حجرت . . . 

وقالت الأم : 

إعبا غارات آمنة ومدافع كالصواريخ . . . 

أما أبوه فجاء صوته من الداخل وهو يقول: 

- لو أن بي قدرة على الذهاب إلى المخبا لذهبت إلى 

ويوما جاءت عائشة من السطح مهرولة وهي تلهث 
وقالت لأمها: 

د حدث شيء عجيب! . . . 

فنظرت إليها أمها في استطلاع مشوب بالسرجاء. 
فعادت تقول وهي ما تزال تلهث : 

- كنت في السطح أراقب غروب الشمس.» وكنت 
على حال من اليأس لم أشعر ممثلها من قبل» وفجأة 
فتحت في السماء نافذة من نور ببيج فصححّت بأعل 
صوتي «يا رب». 

انسعت عيئا الم في تساؤل» أهي الرحمة المنشودة 
أم هاوية جديدة من الأحزان؟ وتمتمت : 

لعلّها رحمة ريّنا يا ابنتي!. . . 

فقالت ووجهها يتهلل بهرًا: 

نعم ) صحث يا رتّء وكان النور يملا الدنيا. . . 

وراحوا جميعًا يفكرون في الأمر ويراقبون ال حال في 
قلق بالغ . أمًا عائشة فكانت تقف الساعات بموقفها 
من السطح مترقبة النور أن يومض مرّة أخرى» حقى 
قال كمال لنفسه «ترى أهي النباية التي يبون إلى جالبها 
الموت؟؛ ولكن من حسن المحظّل ‏ حظ الجميع - أنها 
تناست الأمر مع الأيّام ولم تعد تذكرهى ثم لم تزل توغل 
في دنيا خخاصّة خبلقتها لنفسهاء وعاشت فيها وحدها. 
وحدها سواء أكانت منفردة في حجرتها أو جاليسة 
بينهم ع إلا ساعات متباعدة تثوب فيها إليهم كالعائدة 
من سفرء ثم لا تلبث أن تواصل الرحيل. والتصقت 
ها عادة جديدة هي محادثة نفسهاء خاضة حين 
انفرادهاء وشدّ ما أثارت بذلك القلق» غير أثْها كانت 
تخاطب أموانًا وهي مدركة لحال موجمم. ولم تتخيل 
أموانًا أو أشباحًاء وفي ذلك كان عزاء المحيطين 
بها. . 


57 السكرية 
عر 


ما أقسبى البرد هذا الشتاء! يذكر بشتاء قديم ظل 
الناس يؤرّخون به جيلاء شتاء أيّ عام يا ترى؟ رباه 
أين الذاكرة التي تعي ذلك أين؟ غير أن القلب 
العجوز يحنْ إليه في مجهوله. فهو .جزء من الماضي الذي 
تميج ذكرأه الدموع في مكامنهاء الماضي الذي كان 
يستيقظ فيه مبكُرًا فيستحمٌ تحت الدش غير مبال, برد 
الشتاء ثم يملأ بطنه وينطلق إلى دنيا الناس. 5 
الحركة والحرية التي لا يعرف 00 
ما جود به الروأةع وكائهم يحدثون عن عالم في ل 
الأرض. كانت له الحرّيّة والقدرة على أن 7 0 
الكنبة في الحجرة أو على الكرميٌ في المشربيّة وكان مع 
ذلك يضيق بسجن البيت؛ وكان يذهب حين اللحاجة 
إلى الحّام أو يغْيّر ملابسه بنفسه ومع ذلك لعن قعدة 
البيت. وكان له يوم في الأسبوع يستطيع أن يغادر 
البيت متوكنًا على عصاه أو راكبًا عربة فيزور الحسين أو 
بيت أحد الأصدقاء ومع ذلك فطلما دعا الله أن ينقذه 
قم اتحسن: البيتا: آمنا اليوم فلم تسعمةة أن «يقادر 
الفراش» ولم تعد حدود عالمه تجاوز أطراف هذه 
الحشيّة حيّى الحيّام يجيء إليه ولا يذهب هو إليه. 
قذارة لم تكن في الحسبان. حتى استقرٌ الامتعاض على 
شفتيه.» وأسكنت المرارة في لعابه. على هذه الحشيّة 
يرقد هارا وينام ليلا ويتناول طعامه ويقضى حاجته . 
وهو مَن كان يضرب بأناقته المثل ويسير الشذا الطيّب 
بين يديهء وقي هلا البيت الذي استكان عمره لإرادته 
المطلقة غدا ينظر فلا يلقى إلا نظرات الرئاء أو يرجو 
فيعاتب كال وذهب الأحباب في فترات متقاربة 

من الزمن كأتهم كانوا على ميعاد, ذهبوا وتركوه 
وحيداء عليك رحمة الله يا محممّد يا عنت, كان آخخر 
العهد به سهرة من لبالي رمضان في السلاملك المطل 
على الحديقة» ثم ودّعه ومضى وضحكته العالية توصله 
إلى الباب» وما كاد يأوي إلى حجرته حبّى طرق الباب 
طارق وهرع إليه رضوان وهو يقول «جدّي مات يا 
جذي». يا سبحان الله... متى؟... وكيفف؟ . , 
ألم يضاحكنا منذ دقائق؟ ولكنّه سقط على وجهه وهو في 


طريقه إلى تخدعه: هكذا انطوى حبيب العمر. وعلّ 
عبد الرحيم الذي احتضر ثلاثة أيَّام كابلةه: معان عاة 
متقطع حثّى فزعنا إلى الله أن يحسن خاقته ويريحه من 
الآلىء واختفى من دنياي أليف الروح عل عبد 
الرحيم» وقد ودع هذين الحبيبين أما إبراهيم الفار فلم 
يودّعه. كان اشتداد المرض قد أقعده فى فراشه ومنعه 
عن عيادته فنعاه إليه' خادمه, وحيّى النازة لم يشيّعها 
فشيعها عنه ياسين وكمال. فإلى رحمة الله يا ألطف 
الناس طراء ومن قبل هؤلاء مات حميدو والحمزاوي 
وعشرات من المعارف والأصحاب. تركوه وحيدًا كأنه 
لم يعرف من الناس أحدّاء لا زائر له ولا عائد. 
وجنازته لن يشيعها صديق» حيّى الصلاة حيل بينه 
وبينهاء وهل يتمتّع بالطهر إلا ساعات عقب استحمام 
لا يجود به أولياء الأمر إلا مرة كل أشهر؟ فحرم من 
الصلاة وهو أَشْد ما يكون حاجة إلى مناجاة الرحمن في 
هله الوحدة الموحشة. هكذا تمضي الأيام. الراديو 
يتكلم وهو يسمع2 وأميئة تذهب وتجيء. وشدٌّ ما 
ركبها الوهن». غير أنْها لم تعتد الشكوى, إنْبا ممرّضته 
وأخوف ما يخاف أن تحتاج غدًا إلى مّن يمرَضهاء وهي 
كل ما بقي له. أمًا ياسين وكيال فيمكثان عنده ساعة 
ثمّ يذهبان, ود لو ل يفارقاه. ولكتها أمنية لا يستطيع 
أن يعلنها ولن يستطيعا أن يحقّقاها. أمينة وحدها التي 
لا قله وإذا ذهبت لزيارة الحسين فلكي تدعو لهي 
والعالم بعد ذلك فراع . فَإِنّ يوم زيارة حديجة له ليوم 
يستحقٌ الانتظار» تجيء وني صحبتها إبراهيم شوكت 
وعبد المنعم وأحمد. فتمتاى الحجرة بالأحياء وتتبدّد 
وحشتها. وقليلًا ما يتكلم هو أمّا هم فيتكلمون كثياء 
ومرّة خاطبهم إبراهيم قائلًا: «أريحوا السيّد من 
ثرئرتكم». فقال له معاتبًا: «دعهم يتكلموا... أريد 
أن أسمعهم !). ودعا لابنته بالصخة وطول العمر ودعا 
لزوجها وابنيهاء وكان يعلم بأنها تودٌ لو تسهر على 
راحته بنفسهاء وكان يطالع في عينيها حنانًا ما وراءه 
حنانء ويومًا سأل ياسين في شوق واستطلاع باسما: 

- أين تمضى سهراتك؟ 

فقال في حياء : 

- اليوم الإنجليز في كل مكان كأيّام زمان. . 


أيام زمان! أيّام القوة والباس» والضحك الذي مهيرٌ 
له الجدران,» وسهرات الغورية والجالية». والئناس 
الذين لم يبق منبم إِلَّا أسهاء. زبيدة وجليلة وهنيّة: 
ترى ألا تذكر أمَكَ يا ياسين؟ وها هي زنوبة وكريمة 
تبلسان إلى جانب والدهاء ودوامًا ستطلب السرحمة 
والغفران. . . 


:هوا بقي من معارفنئا القداهى في وزارتك يا 


ياسين؟ 
- أحيلوا جميعا إلى المعاش. ول أعد أدري عنهم 
شيئًا! 


ولا هم يدرون عنا شيئًاء أصدقاء القلب ماتوا فيا 
لنا نسأل عن المعارف»ء ولكن ما أجمل كريمة! فاقت 
أمّها في زماهاء ومع ذلك ل تَعَدٌ الرابعة عشرة» ونعيمة 
الم تكن آية في الجمال؟! . 

- ياسين إن استطعت أن ثقلم عائشة بزيارتك 
فافعلء انتشلوها من وحدتها فإنى أحاف عليها 
منها. . 

فقالت زنُوبة: 

طالما دعوتها لزيارة قصر الشوق ولكتها. . . كان 
اله في عوها!. . . 

ولاحت في عيني الرجل نظرة قاتمة. ثم إذا به يسال 
ياسين : 

- ألا تصادف في طريقك الشيخ متولي عبد 
الصمد؟ 

فقال ياسين باسما : 

أحياناء إِنّه لا يكاد يعرف أحدَّاء ولكنّه ما زال 
يسير على قدمين قويتين! . . . 

يا للرجل! ألم تنازعه نفسه مرّة إلى زيارتي؟. أم 
نسيني كا نسي أبنائي من قبل؟! . 

ولا ذهب الأصدقاء اتَمْذ الرجل من كيال صديقاء 
ولعلّه فاجآه بصداقته» لم يعد الأب الذي عهده. وغدا 
صديمًا يناجيه ويتشوّق إلى مناجاته» وكان يقول عنه 
آسمًا: «أعزب في الرابعة والثلائين من عمره: يعيش 
أكثر حياته في حجرة مكتبه, كان الله في عونه»؛ ولم 
يكن يعد نفسه مسئولا عا صار إليه أمره. فقد أبى من 
أول الأمر أن يصنع نفسه بنفسهء وانتهى به الخال إلى 


أن يكون مدرّسًا أعزب «قعيدا مقطوعا, ف حجرته . 
وكان يتجنب أن يثقل عليه بسيرة الزواج أو الدروس 
الخصوصية؛ ) كان يدعو الله أن يكفيه مذّخره من 
النقود حتّى الرمق الأخير كيلا يكون يومًا عالة عليه, 
ويومًا سأله: 

هل تعجبك هذه الأيام؟ 

فابتسم كيال ابتسامة حائرة» وتردد قِ الوا 
فاستطرد الرجل قائلا : 

الأيام الحقيقيّة كانت أيّامنا! كانت يسرًا ورغدّاء 
وصحة وعافية» شهدنا سعد زغلول» وسمعنا سي 
عبده» ماذا في أيامكو؟! 

فأجاب كيال مأخخودًا بتداعي معاني الحديث 
فحسب ؛ 

- لكل زمان محاسنه ومعايبه, . 

فهر الرجل رأسه المسنّد إلى مخحدّة مكسورة وراء 
ظهره وقال: 

- كلام يقال السن الا 

ثم بعد فترة صمت ودون تمهيد: 

عجزي عن الصلاة يحزٌ في نفسي حرا فالعباد 
عزاء الوحدة) ومع ذلك ثمر بي وتاك وي أنسى فيه 
كافة وجوه الحرمان التي أعانيها من ماكل ومشرب 
وحرية وعافية؛ تصفو تفسبى صفاء عجيبًا حي ييل إل 
أني متصل بالسماواتء وأنْ ثمّة سعادة مجهولة تزري 
بالحياة وما فيها. . . 

فتمتم كبال : 

- ربّنا يمد في عمرك ويردٌ إليك العافية. . 

فهر رأسه مرّة أخرى في استسلامء وقال: 

- هذه ساعة طيّبة. لا ألم في الصدر. ولا ضيقن في 
التنفسء وورم ساقي آنحذ في الزوال» وموعدنا في 
الراديو مع ما يطلبه المستمعوث! . . . 

وإذا بصوت أمينة يقول: 

- سيدي بعخير؟ . 

ب الحمل لله . 

هل أت بالعشاء؟ 

- العشاء؟! أما زلت تسمّينه العشاء؟! هاتق 
سلطائيّة اللبن! . . . 


السكرية 
خا 


بلغ كمال بيت أخته بالسكريّة حوالى العصر 

فوجل الأسرة مجتمعة في الصالة بكامل هيئتهاء 
فصافحهم وهو يقول مخاطبًا أحمد: 

مبارك الليسانس. . . 

فأجابته حديجة بلهجة خالية من معاني الابتهاج : 

- مبارك عليك. ولكن تعال اسمع آخر خبرء البك 
لا يريد أن يتوظف. , . 

وقال إبراهيم شوكت: 

ابن خاله رضوان مستعدٌ لتوظيفه إذا وافق ولكنّه 
يصرٌ على الرفض. كلمه يا أستاذ كال لعلّه يقتدع 
برأيك أنث. , . 

خلع كال طربوشه؛ ونزع ‏ من شدّة الحر ‏ المباكتة 
البيضاء فالبسها مسند كرسي» ومع أنه كان يتوقّم 
معركة إلا أنه قال باسيًا : 

حسبت أن اليوم سيكون خالصًا للتهنئة» ولكنّ 
هذا البيت لا يسلو النراع أبذا! 

فقالت خديجة بلهجة أسيفة : 

- قسمتي» الناس كلهم حال ونحن ورحدنا حال. 

وخاطب أحمد خخاله قائلا: 

- الأمر بسيط. ليس أمامي الآن إلا وظيفة كتابيّة 
فقد أخبرني رضوان أنه يمكن تعييني الآن في وظيفة 
كتابية خالية بإدارة المحفوظات عند خخالي ياسين. 
واقترح عل أن أنتظر ثلاثة أشهر حيّى بدء العام 
الدراسيَ الجديد لعل أعين مدرس لغة فرنسيّة في 
إحدى المدارسء. ولكثئي لا أريد الوظيفة أيَا كان 
نوعها! . 

فهتفت خخل نجة : 

قل له ماذا تريد؟ 

فأجاب الشابٌ ببساطة وحزم : 

- سأعمل في الصحافة. 

فنفخ إبراهيم شوكت قائلًا : 

- جورنالجي! كنّا نسمع هذا الكلام فنظئه ضحم 
زعلا بان أن كوة تدكا للك وس إن ان 
يكون جورناجيًا. . . 


فقال كيال فى لمحجة ساحرة: 

كفاه الله شي مهئة التدريس! 

فقالت خحديجة في الرعاج : 

- وهل يسرّك أن يشتغل جورناجيًا؟ 

وهنا قال عبد المنعم ملطفًا الجو: 

- لم تعد الوظيفة بالمطلب السعيد! 

فقالت أمّه بحذّة : 

لكك موظف يا سي عبد المتعم. . . 

- في كادر متازء ولكئّي لا أرضى له وظيفة كتابيّة 
وها هو الي كمال يستعيذ في مهئته. . . 

- في أي نوع من الصحافة تريد أن تعمل؟ 

الأستاذ عدلي كريم موافق على قبولي في محلته 
تحت التمرين لأقوم بالترجمة أوَلَا ثم بالتحرير فيما 
بعل. . , 
ولكنّ «الإنسان الحديد» مجلة ثقافيّة محدودة الموارد 
والمجال؟ , . , 

- هي خطوة أولى للتمرين حيّى يتيسّر لي عمل 
أهم. وعلى أيّ حال ففي وسعي أن أنتظر دون أن 
أجوع. . . 
فنظر كيال إلى خديجة قائلا : 

- دعي الأمور تجري كما يشاء؛ إنّه راشد مثّف 
وأدرى بما يفعل , 

ولكنّ خديجة لم تسلّم بالهزهة بسهولة. وعادت 
تحاول إقناع ابنها بقبول الوظيفة حيّى علا صوتم! واحتدٌ 
فتدخل كمال ليخلص بيههاء ثم تكدّر جو المجلس 
وساد صمت ثقيل حي قال كمال ضاحكا؛: 

جثت طامعًا في شرب الشربات فكانلت هله 

وفي أثناء ذلك ارتدى أحمد ملابسه ليغادر البيت. 
فاستأذن كال وخرجا معاء وسارا في شارع الأزهر. 
وقد صارح أحبد خخاله بأله ماضص إلى محلة «الإنسان 
الجديد؛ ليتسلّم عمله ى) وعده الأستاذ عدلي كريمء 
فقال له كمال: 

- افعل ما تشاء ولكن تنب إيذاء والديك, . , 

فقال أحمد ضاحكا: 

- إن أحبّهما وأجلّهها ولكن. . . 


- ولكن . , , ؟ 

من الخطأ أن يكون للإنسان والدان! . 

كمال ضاحكا: 

كيف هان عليك أن تقول ذلك؟ 

لا أعنيى حرفيّته. ولكن ما يرمز إليه الوالدان من 
تقاليد الماضي. فالأبوّة على وجه العموم فَرَّمَلّة. وما 
حاجتنا في مصر إلى الفرامل ونحن نسير بأرجل مكبلة 
بالأغلال؟ !| 

نم مواصلا الحديث بعد تفكير: 

إِنَّ مثلى لن يعرف الكفاح ممعناه المرّ ما دام لي 
بيت ولأبي دَخْلء ولا أنكر أن مطمئنٌ بذلك ولكن في 
الوقت نفسه خحجل منه!. 

متى ينتظر منك أن تؤجر على عملك؟ 

لم يحدّد الأستاذ وقمًا. . . 

وعند العتبة المنضراء افترقاء فمضى أحمد إلى مجلة 
«الانسان اللحديد»ء وقد استقبله الأستاذ عدلي كريم 
مشْجعًاء وذهب معه إلى حجرة السكرتارية -حيث 
حاطب من فيها قائلا : 

- زميلكم الحديد الأستاذ أحمد إبراهيم شوكت. . . 

م قدّم إليه زملاءه قائلا: 

آنسة سوسن حمادء الأستاذ إبراهيم رزق» 
الأستاذ يوسف الحميّل . . . 
قال إبراهيم رزق مجاملا : 

اسمه معروف في مجلتنا. , . 

وقال الأستاذ عدلي كريم باسما : 

إِنَّهِ الابن البكر للإنسان الجديد... (ثم وهو 
يشير إلى مكتب يوسف الجميل). . . ستعمل على هذا 
المكتب فإن عمل صاحبه في الخارج إلا فيما ندر. . . 

وغادر عدلي كريم الحجرة فدعا يوسف التميل 
أحمد إلى الجلوس على كرميّ قريب من مكتبه» وانتظر 
حَيّى جلس ثم قال: 

- ستوجّهك الآنسة سوسن إلى العمل الذي سيناط 
بكء ولا بأس الآن أن تشرب فنجان قهوة.. 
وضغط على زرٌ الجرس على حين راح أحمد يتصفح 
الوجوه والمكانت. كان إبراهيم رزق كهلًا مهدّمًا يبدو 
أكبر من سه بعشرة أعوام»؛ أمّا يوسف الحميل فكان 


وصافحوه مرخبين» ثم 


السكرية ق.ة 


في العقد الأخير من الشبابء. وكان مظهره ينم عن 
الحذق والذكاء. ورمى ببصره إلى سوسن حماد وهو 
يسائل نفسه ترى هل تذكره؟. ولم يكن رآها منذ أل 
مقابلة عام 19475. والتقت عيناهما فساها باسما 
مدفوعا برغبة في المخروج عن صمته : 

قابلت حضرتك هنا منذث لس سنوات . . 

فلاح التذكّر في عينيها اللامعتين فاستدرك قائلًا : 

كنت أسأل عن مصير مقالة تآخر نشرها! 

فقالت باسمة : 

أكاد أذكرك. وعلى كل فقد نشرنا منذ ذلك 
التاريخ مقالات كثيرة! . 

فقال يوسف الجميل معلمًا : 

- مقالات تنم عن روح تقدمية طيبة . . . 

وقال إبراهيم رزق: 

- إن الوعي اليوم غيره بالأمس» كلما نظرت في 
الطريق قرأت على الحدران عبارة «الخبز والحريّة) هذا 
شعار الشعب الحديد. 

فقالت سوسن حماد باهتمام : 

ما أجمله من شعارء نخاصّة في هذا الوقت الذي 
أطبق فيه الظلام على العالم!. . . 

وأدرك أحمد ما يعنيه قوها فاستجابت نفسه سريعا ‏ 
وفي حماس وسرور ‏ للجو المحيط به وقال: 

الظلام يطبق على العالم حقّاء ولكن ما دام هتلر 
لم مهجم على بريطانيا فثمّة أمل في النجاة. 

فقالت سوسن حماد: 

- إن أنظر إلى الموقف من زاوية أخرىء» ألا ترى 
أنّ هتلر لو هاجم بريطانيا فمن المحتمل أن يبلكا معًا 
أو في الأقلّ أن ينتقل مركز القوّة إلى روسيا؟. . . 

وإذا حدث العكس؟ أعني أن يجتاح هتلر الجزيرة 
ويبلغ ذروة القرة؟ !., . . 

فقال يوسف الحميل : 

- كان نابليون كهتلر غازي أوروبا ولكنٌ روسيا 
كانت مقيرئه . 

ووجد أحمد نشاطا وحماسًا لم يشعر بمثلهما من قبل . 
هذا الحواء النقىّ وهؤلاء الزملاء الأحرارء وهذه 
الزميلة المستئيرة الحسناء. ولداع أو لاخر ذكر علوية 


4٠‏ السكرية 


صبري » وعام العذاب الذي صارع فيه الحب الخائب 
حبّى صرعه؛ حين كان يصبح ويمسى وهو يلعن اللحبٌ 
من صميم قلبه حين تطاير في الحواء تاركًا في أعباق 
النفس آثارًا من الامتعاض والتمرد لا تزول. إنها الآن 
في بيتها في المعادي تنتظر زوجًا ذا حمسين جنيهًا شهريا 
على الأقلٌ. أمّا هذه الفتاة الى تدعو بالنصر لروسيا 
فاذا تنتظر يا ترى؟ . . . 

وإذا بسوسن تلوح برزمة أوراق في وجهه وهي 
تقول برقة : 

- تسمح!. . . 

فنبض.» ثم مضى إلى مكتبها باسمًا ليبدأ عمله 
الحديك, . 


3 


م يكن يوسف الجميّل يمر بالمجلة إلا يومًا في 
الأسبوع أو يومين إذ كان جل نشاطه موجّهًا 
للإعلانات والاشتراكات, كذلك إبراهيم رزق م 
يمكث في السكرتارية أكثر من ساعة ثم يدور على بفية 
المجالات التي يعمل بباء فكان أكثر الوقت يمضي وهما 
منفردان . أحمد وسوسسن . ومرة جاء رئيس عال المطبعة 
ليأخذ بعض الأصول فا راعه إلا أن يسمعها وهي 
لعو يوالم بوعل جد الك إن قفن عله اترن 
تربط الأستاذ عدلي كريم نفسه برئيس عيّال المطبعة . 
كان ذلك مفاجثًا ومثيرّاء وراعه أكثر من سوسن 
مثابرتها على العمل. كانت ممور التحرير ومركز 
نشاطه. بيد أنْها كانت تعمل أكثر نما يستوجبه تخرير 
المجلة. فا تزال تقرأ أو تكتب. وبدت جادّة حادّة 
شديدة الذكاء.؛ وشعر من أوْل الأمر بقوة شخصيتهاء 
حتّى كان مخيل إليه بعض الأحيان- رغم عينيها 
السوداوين الحَذّابتين وجسمها الأنشويٌ اللطيف - أنه 
حيال رجل قو الإرادة حسن التنظيم» ثم تأثر 
بنشاطها فثابر على عمله بهمّة لا تعرف الكلل أو 
الملل. وقد أخخحذ على عاتقه ترحمة المختارات من بجلات 
العالم الثقافية» إلى ترجمة بعض المقالات ذات الشأن» 
وقد قال لا يوما: 


- إن الرقابة تقف لنا بالمرصاد. . . 

فقالت بصوت يدل على الحنق والازدراء : 

أنت لم تر شينًا بعدء مجلتنا «مشبوهة» في الدوائر 
العليا!. ولا الشرف!. 

فقال أحمد باسا؛ 

تذكرين طبعا افتتاحيّات الأستاذ عدلي كريم قبل 
الحرب؟., 
مقال عن ذكرى الثورة العرّابيّة اهم فيه الأستاذ الخديو 
توفيق بالخيانة . 

ويومًا سألته ضمن -حديث عابر: 

لماذا اخخثرت الصحافة؟ , . , 

فتفكر قليلاء إلى أي درجة يجوز له أن يكشف عن 
ذات نفسه هذه الفتاة التي تبدو طرارًا وحدها بين مَن 
عرف من بئات جنسها: 

1 أدخل الجامعة لأتوظّف». ولكن عندي أفكار 
أريد التعبير عنها ونشرها وما من سبيل إلى ذلك خير 
من الصحافة. . . 

فقالت باهتام سر له من أعماقه : 

أمَا أنا فلم أدرس في الجامعة. أو بالحري لم تتح 
لي فرصة (سرّته صراحتها كذلك وإن أكّدت في نفسه 
مخالفتها لبنات جنسها). . . إني متخرجة في مدرسة 
الأستاذ عدلي كريم» وهي ليست دون الجامعة منزلة, 
درست عليه منذل حصو على البكالورياء وأصارحك 
بأنك أحسنت تعريف الصحافةء أو الصحافة التي 
تعمل فيهاء بيد أنّك تنفس عن أفكارك حي الآن - 
عن طريق غيرك, أعني بالترجمة» ألم تفككر في اختيار 
الشكل الذى يناسبك من أشكال الكتابة؟ 

فصمت مفكُرًا كأنما أغلق عليه المعنى المقصود ثم 
تساءل ؛ 

ماذا تعنين؟ 

المقالة. الشعرء القصة؛ المسرحية؟ 

- لا أدري» المقالة أؤل ما يتبادر إلى الخاطر. . . 

فقالت بلهجة ذات معن ؛ 

- نعم. ولكنّبا لظروفنا السياسيّة. لم تعد مطلبا 
يسيرًاء لذلك يضطرٌ الأحرار إلى إذاعة آرائهم 


بالمنشورات السرّيّة. المقالة صريحة ومباشرة ولذلك 
فهيى خطيرة» خاصّة وأنْ الأعين محملقة فيناء أنا 
القصّة فلات جيل لا حصر لماء إنها فنّ ماكر؛» وقد 
غدت شكلا أدبيًا شائعًا سوف ينتزع الإمامة في عالم 
الأدب في وقت قصيرء ألا ترى أنه ما من كبير من 
شيوخ الأدب إلا وهو يثبت وجوده في مجال نشاطها ولو 
بمؤلف وأحل؟ 

- نعم قرأت أكثر هذه المؤلفات, ألم تقرئي 
للأستاذ رياض قلدس الكاتب بمجلّة الفكر؟ 

هذا واحد من كثيرين» وليس خيرهم | 

ربماء لقد لفتني إليه خخالي الأستاذ كمال أحمد عبد 
الجواد الكاتب بنفس المجلة. . 

فقالت بأسمة : 

هو حالك؟ قرأت 

د 

معذرة إنّه من الكتاب الذين يبيمون في تينه 
الميتافيزيقا! . 

فتساءل فيا يشبه القلق : 

- ألم يعيجبك؟ . 

الإعجاب شيء أآخرء إنه يكتب كثيرًا عن 

الحقائق القديمة: الروح... المطلق. . . 5 
المعرفة» هذا حميل, ولكنه ‏ فيها عدا المتعة الذهنّة 
والترف الفكريّ ‏ لا يفضى إلى غاية» ينبغي أن تكون 
الكتابة وسيلة محدّدة المدفى وأن يكون هدفها الأخير 
تطوير هذا العالم والصعود بالإنسان في سلّم الرقي 
والتحرّرء الإنسانيّة في معركة متواصلة والكائب الخليق 
بهذا الاسم حمًا يجب أن يكون على رأس المجاهدين, 
أمَا وثبة اسلحياة فلتَدَغها لرجسون وحده. . 

- ولكنٌ كارل ماركس نفسه بدأ فيلسوفًا ناشًا ميم 
في تيه الميتافيزيقا . 

- وانتهى بعلم الاجتاع العلميّ. فمن هنا بدأ لا 
من حيث بدا. 

لم يرتح أحمد إلى نقد خماله على هذا النحوء فقال 
بغية الدفاع عله قبل كل شيع : 

الحقيقة جديرة دائمًا بأن تعرف. مهما تكنء ومهم) 
يكن الرأي في آثارها. . 


له مات ولكن . ا 


11١ السكرية‎ 


فقالت سوسن في حماس : 

- هذا مناقض لا تكتب». فأراهن على أنّك متائر 
بالوفاء لخالك!. عندما يكون الإنسان متأليًا يركز 
اهتهامه في إزالة أسباب الألم: مجتمعنا متالم جدًا فيجب 
أن نزيل الألم قبل كل شيءء ولنا بعد ذلك أن نلهو 
ونتفلسف! ولكن تصِور إنسانًا يتفلسف لاهيًا وبه 
جرح ينزف لا يعيره أدى التفات» ماذا تقول عن مثل 
هذا الإنسان؟ ! 

أهذا خاله حمًا؟ لكن فليقرٌ بن كلامها يلقى تباوبًا 
كامك في نفسه. ونان عينيها حميلتان» وبأئها رغم 
غرابتها ووجديتها, جذابة , 3 جذّابة . : 

- الواقع أنْ خالي لا يعير هذه لأمور التفانا جديا 
لقد 0 كثيرًا عنها فوجدته إنسانًا يدرس النازيّة كما 
يدرس الديموقراطيّة أو الشيوعيّة. ولكنه لا هو بارد ولا 
هو حارٌ. ولم أستطع أن أتبين موقفه. . 

قالت باسمة: 

لا موقف له إِنْ موقف الكاتب لا يمكن أن 
يخفى . إنه مَثْل من المثقفين البورجوازيّين يقرأ ويستمتع 
ويتساءل» وقد تجده في حيرة أمام «المطلق؛؛ وربما 
بلغت به الحيرة حدٌ الألم. ولكنه يمر سادرًا بالمتالمين 
الحقيقيين في طريقه. . 

فقال ضاحكًا: 

اليس غخال كذللكه. , 

أنت أدرىء كذلك قصص رياض قلدس ليست 
بالقصص النشودة» إنها واقعية وصفية تحليليةء ولا 
تتقدّم عن ذلك خطوةء لا توجيه بها ولا تبشير! 

ففكر أحمد قليلا ثم قال: 

ولكده كثيرًا ما يصف حال الكادحين من العّال 
والفلاحين» ومعنى هذا أنه يهب مسرح البطولة في 
أقاصيصه للطيقة الكادحة ! 

اراك راشمير عل: ال عاتب بوالفدز زي.. إل الحا 
سلبيّ بالنسبة للمعركة الحقيقية! . 

يا لحا من فتاة تروم العراك! شديدة الحدٌ فيا يبدو 
ولكن أين المرأة؟ ! 

- وكيف تريدينه أن يكتب؟ 

- أقرأت شيئًا عن الأدب السوفيٌ الحديث. بل 


السكرية 


أقرأت مكسيم جوركي؟ 

فصمت باسيًّاء لا داعي للخجل». كان طالب 
اجتماع لا طالب أدب» ثم إِمْها تكبره بسنوات» ترى ما 
عمرها؟ رما كانت في الرابعة والعشرين أو أكثر!. 
وعادت تقول : 

هذا ما ينبغي أن تقرأ من ألوان الأدب. سأعيرك 
بعضه إذا شثت , , 

ف كل نر 

فاتسمت قائلة : 

- ولكنّ الإنسان «الحره لا يكفي أن يكون قارثًا أو 
كاتبًا! إِنْ المبادئ تتعلّق بالإرادة قبل كلّ شيء. الإرادة 
ولا وقبل كل شيء. 

مع ذلك رآها أنيقة,» أجل ليس في وجهها زواق. 
ولكنّ عنايتها بمظهرها وأناقتها ليست دون غيرها من 
بئات جنسهاء هذا الصدر الحيّ مؤئّر كغيره من 
الصدور الفاتنة» ولكن مهلا هل يختلف هو عن غيره 
من الرجال بما يعتنق من مبدأ؟ طبقتنا غريبة تبى أن 
تنظر إلى المرأة إلا من زاوية خاصّة! ., , . 

- إن مسرور بمعرفتك. وأرى أنه أمامنا أكثر من 
محال للعمل معًا كيل واحدة. . . 

فقالت باسمة. وكانت عند الابتسام تبدو أنثى قبل 
كل شيء : 

هذا إطراء! 

- إن مسرور بمعرفتك حقًا. . . 

أجل إن كذلك. ولكن ينبغي آلا يسيىء فهم ما 
ينفعل به صدره فلعلّه الاستجابة الطبيعيّة لمراهق مثله 
واصطنع الحذر حيّى لا ترمي بنفسك إلى مثل موقفك 
بالمعادي , فإن الحرن لم يمْحَ بعد من صفحة قلبي . . . 


هم 
- مساء اشير يا عمْتي . 
وتبع جليلة إلى مجلسها المختار في الصالة. وما 
استقر بهما المجلس فوق الكنبة حيّى نادت المرأة 
تحادمتها فجاءت حاملة الشراب وجعلت ترقيها وهي 
تعد الخوان حتّى فرغت من مهمّتها وذهبت» وعند ذاك 


التفتت جليلة إلى كيال قائلة : 

يا ابن أخي. أقسم لك أنْني لم أعد أشرب إلا 
معك. كل ليلة جمعة: كيا كان يحلو لي أن أشارب أباك 
في الزمن القديم. ولكن في ذلك الزمن أشارب 
الكثيرين أيضا. . . 

وقال كمال في نفسه: «ما أحوجني إلى الشراب, لا 
أدري ماذا كانت تكون الحياة بدونه!» ثم قال 
يخاورها : 

- ولكنّ الويسكي اختفى يا عمّتى. وكذلك كاثّة 
المشروبات النظيفة. ويقال إِنْ الغارة الألمائيّة الأخيرة 
على اسكتلندا أصابت محزن خمور عالمي حَبيّى سالت 
الوديان بالويسكي الأصيل. . . 

- يا روحي على غارة من هذا النوع! ولكن خيّرني 
قبل أن تسكر كيف حال السيّد أجنل؟ 

- لا تقذم ولا تأخر؛ يعر عل يا سب جليلة مرقده. 
رينا يلطف به. . . 

- يا ما نفسي أزورى ألا تجد الشجاعة فتبلّغه عن 
السلام؟ 

يا خبرا. لم يبق إلا هذا حي تقوم الساعة! 

فضحكت العجوز ثم قالت: 

أتحسب أنْ رجلا مثل السيّد أحمد يمكن أن يتصوّر 
البراءة في إنسان خاصة إذا كان من صلبه؟ 

- ولو يا زين الستّات! . . . صحّتك., , . 

- صحّتك. .. ربا تأخرت عطيّة إذ إن ابنها 
مريض . . . 
فقال كال في شيء من الاهتيام : 

- في أخر مرّة لم يكن بها شيء! . . . 

- نعم ولكنٌّ ابعها مرض يوم السبت الماضي. روحها 
المسكيلة في ابهاء وإذا مسه سوء طارت أبراج 
يا ها من امرأة طيّبة عائرة الحظ. طالما أقنعتنى 
أحوالها بأئها لا تمارس هذه الحياة إلا مضطرة. .7 

فقالت جليلة باسمة أو ساخرة : 

- إذا كان مثلك يضيق بمهنته الشريفة فكيف ترضى 
هي بمهلتها؟ 

ومرّت الخادم بمجمرة تنفث بخورًا لطيقاء وكان جر 


الخريف يبفو رطيبًا من نافذة في خباية الصالة» وكانت 
الحمر شديدة المرارة ولكنها قويّة الأثر. غير أنْ كلام 
جليلة عن المهنة ذكّره بأمور كاد ينساها فقال: 

- كدت أنقل من مصر يا عمتي» ولو وقع المحظور 
لكنت الآن أعدّ الحقائب للسفر إلى أسيوط! . . . 

فضربت جليلة صدرها بكقها وقالت: 

أسيوط يا بلح ! أسيوط في عين عدوكء وماذا 
حصل؟ 

لم ا 

معارف والدك يملأون الدواوين كالنمل. . . 

فهر رأسه كالموافق دون تعليق. إنها ما زالت ترى 
أباه في هالة المجد القديم, لا تدري أنه حين أخيره 
عا تقرّر عن نقله ‏ قال عحزونًا أسفًا «لم يعد يعرفنا 
أحدء أين أصدقاؤنا أين؟»»: وقبل ذلك مفى إلى 
صديقه القديم فؤاد جميل الحمزاوي لعلّه يعرف أحدًا 
من كبار رجال المعارف ولكنٌ القاضي الخطير قال له 
«إني آسف جدًا يا كال فأنا بصفتي قاضيًا لا أستطيع 
أن أرجو أحذان, وأخيرًا لجأ إلى رضوان ابن أخيه وهو 
يتعثر بخجله وفي نفس اليوم عدل عن نقله! ١يا‏ له 
من شاب خطير! كلاهما موظف في وزارة واحدة وفي 
درجة واحدة رغم أنه في الخامسة والثلاثئين والشابٌ في 
الشانية والعشرين» ولكن كيف يننظر من خحوجة 
ابتدائيٌ أفضل من هذا؟» ولم يعد من الممكن أن 
يتعزّى بالفلسفة أو يدّعيهاء فليس الفيلسوف مَن ردّد 
قول الفلاسفة؛ كالببغاء؛ واليوم كلّ متخرّجج في كليّة 
الاداب يستطيع أن يكتب كيا يكتب هو أو أحسن» 
وقد كان هناك ثمّة أمل في أن يجمع ناشر مقالاته في 
كتاب» ولكن ' يعد لمثل هذه المقاللات التعليمية من 
قيمة تذكرء وما أكثر الكتب هذه الأيامء وهو في هذا 
الخضمٌ لا شيء. وقد مل حبّى طفح بلملل. فمتق 
يدرك قطاره محطة الموت؟. ونظر إلى الكأس في يد 
عمته» ثم إلى وجهها الناطق بعمرها المديد فلم يسعه 
إلا الإعجاب بباء ثم تساءل: 


- ماذا تجدين في الشراب يا عمّتي؟ 


فافترٌ فوها عن أسنان ذهبيّة وهي تقول: 


السكرية 81 


- وهل تحسبني أشرب الآن؟ مفى ذُلِك الزمانء لا 
طعم طا اليوم ولا أثرء كالقهوة لا أكثر ولا أقل. في 
الزمان الأول سكرت مرّة في فرح ببيرجوان حي اضطرٌ 
التخت أن يحملي إلى عربتي آخر الليل. ربّنا يكفيك 
شرها!. . . 

دلكنها خير من لا خير له». . . 

- وذروة النشوة هل عرفتها؟. كنت أبلغها 
بكأسين. اليوم يلزمبي ثانية كوس كي أبلغهاء ولا 
أدري كم غدّاء ولكتها ضرورية يا عمتى. فعنلدها 
يرقص القلب المكلوم طربًا. . . 

- قلبك طروب يا بن أخي دون الحاجة إلى 
الخمر. . . ْ 
قلبه طروب! وهذا الحزن الصديق؟ والرماد 
التخلّف من محترق الآمال؟ لم يبق للملول إلا الامتلاء 
بالخمرء في هله الصالة أو في تلك الحجرة إذا جاءت 
الي تداوي ابنهاء صو وهي في موضع واحد من 
الحياة» حياة من لا حياة لهم . 

- أخشى آلا تجيء عطيّة! . . . 

- ستعجي ء حما: لمن المرض ف -حاجة إلى النشود؟ 

يا له من جواب! بيد أمّْها لم تمكنه من التفكير إذ 
مالت نحوه في اهتيامء ونظرت إليه ملياء ثم قالت 
بصوت منخفض : 

دل يق إلا أيام ا بج 

فقال دون أن يدرك حقيقة مرادها: 

- ربنا يطول عمرك ولا يحرمني منك! 

فقَالت باسمة : 

سأهجر هذه الخياة! 

فانتصب نصفه الأعلى في دهشة وهتف : 

ماذا قلت؟ ! 

فضحكت ثم قالت بلهجة لم تخل من سخرية : 

لا تخفء ستذهب بك عطية إلى بيت آمن كهذا 
البيت, , 

00 
- ولكن ماذا حدث؟ 

- كبرت يا ابن أخي. وأغناني الله فوق حاجتي, 
وبالأمس ضبط بيت قريب وسيقت صاحبته إلى 


41 السكرية 


القسمء حسبيء إن أفكر في التوبة» ينبغي أن أقابل 
رب على غير ما أنا عليه! 

أق على بقية كأسه. وملأه كأنما لم يصدّق ما 
سمعةه . 

- لم يبق إِلّا أن تستقل السفينة إلى مكة!! 

- ربّنا يقذرني على فعل الخير. . . 

وتساءل ولا يفق من دهشته : 

أجاء هذا كله فجأة؟! 

كل إني لا أبوح بس إلا عند العمل» طالا 
فكرت في هذا من زمن. .. 

جل؟ ! 

كل الجدء ريّنا معنا! 

لا أدري ماذا أقول. ولكن ربنا يقدّرك على فعل 
لين 

ا 

ثم ضاحكة: 

- ولكن اطمئنٌ فلن أغلق هذا البيت حيّى أطمئنْ 
على مستقبلك!. . . 

فضحك ضححكة عالية وقال: 

هيات ان العدديرةا ازجاع في يا اليك 

لك عل أن أوصي بك البدرونة الجديدة ولو كنت 
في مكّة! 

كل شيء يبدو مضحكًا ولكنّ الخمر ستظل قبلة 
المحزون. وتتغيّر الأوضاع فيعلو فؤاد جميل الحمزاوي 
ويسفل كال أحمد عبد الجواد. ولكنٌ الخمر ستعظل 
بشاشة المكروب» ويومًا يحمل كيال رضوان على كتفه 
ليدلله ثم يجيء يوم فيحمل رضوان كال ليقيله من 
عثرته ولكنّ الخمر ستظلّ نجدة الملهوف. وحيّ الست 
جليلة تفكر في التوبة في الوقت الذي يبحث هو عن 
ماخور جديد ولكنٌ الخمر ستظل المأوى الأخير؛ ويل 
السقيم كلّ شيء حتّى يمل الملل ولكنّ الخمر ستظلٌ 
مفتاح الفرج . 

- يسعدني أن أسمع عنك دائيًا ما يسرّ. 

الله مهديك ويسعدك. . . 

إذا كان وجودي يضايقك؟ . . 

وسدّت فاه بأصبعهاء وقالت: 


ساعحك اللهء هذا بيتك ما دام بيتي» وكلٌ بيت 
أحلٌ فيه فهو بيتك يا ابن أخي . . . 

أثمّة لعنة قديمة مجهولة قضي عليه بأن يكفّر 
عنها؟!. كيف المخرج من هذه الخيرة الى تغشى 
حياته؟. حي جليلة تفكر جادّة في تغيير حياتها فِلِمْ لا 
يتَخذ منها أسوة؟ لا بد للغريق من صخرة يلوذ بها أو 
فليغرق» وإذا لم يكن للحياة معنى فلم لا نخلق ها 
معنى!|... 

ريما كان من الخطأ أن نبحث في هذه الدنيا عن 
معنى بينا أنْ مهمّتنا الأولى أن نخلق هذا المعنى. . . 

وحدجته جليلة بنظرة غريبة فانتبه بعد فوات الوقت 
إلى ما بدر منه دون شعور. وضحكت جليلة متسائلة : 

سكرت هذه السرعة؟ 

فدارى ارتباكه بضحكة عالية» وقال: 

خمر الحرب كالسمء لا تؤاخذيني» ترى متى تأتي 
عطيّة؟! 


اكذن 

غادر كبال بيت جليلة عند منتصف الساعة الثانية 
صباحًاء كان كلّ شيء غارقًا في الظلام» وكان الظلام 
غارقًا في المسمت, وسار على مهل نحو السكّة الجديدة 
ثمّ مال إلى الحسين. حي متى يعيش في هذا الحيّ 
المقدّس الذي لم يمت إليه بصلة؟. وابتسم ابتسامة 
فاترة» لم يكن بشي من الخمر إل شمارهاء أما الحسد 
فقد حمدت لواعجهء فنقّل نخطاه في إعياء وكسل . 
عادة في مثل هذه اللحظة الخامدة يصرخ شيء في 
أعياقه ‏ لا هو التوبة ولا الندم ‏ ناشدًا التطهّر. 
ملتمسًا الخلاص من قبضة الشهوات إلى الأبدء كأنْ 
موجة شهواته تنحصر عن صخور تقشف كاملة. ورفع 
رأسه إلى السماء. كما ليستانس بالنجوم فانطلقت في 
السكون ناد الإنذار!. ودقٌ قله دقة عليفة ثم 
حملقت عيناه النائمتان» ثم بدافع غريزي مال إلى 
أقرب جدار وسار بحذائه. ونظر إلى السماء مرة أخرى 
فرأى أضواء الكشافات الكهربائية تمسح صفححاتها في 
سرعة شديدة» تلتقي أحيانًا ثم تتفرّق في جنون. 


وحكٌ خخطاه دون أن يفارق الجدران وقد شعر شعورا 
موحشًا بوحدته كأنّ وجه الأرض قد خلا إلا منه!. 
وإذا بصفير مبحوح يتهاوى لم يطرق أذنه من قبل, 
يعقبه انفجار شديد ارتجّت له الأرض نحت قدميه. 
قريب أم بعيد؟ ولم يتّسع له الوقت لمراجعة معلوماته 
عن الغارات» إذ تتابعت الانفجارات بسرعة تكتم 
الأنفاس» وانطلقت المدافع المضادّة جماعات جماعات, 
والتمع الحو بأضواء كالبرق لم يعرف مصدرها ولا كنهها 
فخيّل إليه أنْ الأرض تتطاير. وانطلق يعدو بسرعة لا 
يلوي على شىء صوب درب قرمز ملتمسا في قبوها 
التاريضع مبا. وكانت المدافع تنطلق في غضب جئوني. 
والقنابل تدلك مراميها دكاء والأرض تميد. وفي ثوانٍ 
من الفزع بلغ القبوء وكان يكتظ بخلق كثيرين 
تكائفت بهم ظلمته. فاندس بينهم وهو يلهث. وكان 
جه يسوده الرعب ويمتىْ بهمهمات الفزع في ظلام 
دامسء أما مدخل القبو ومخرجه فيضيئان من أن لآخمر 
بانعكاسات الإشعاعات المنطلقة في الفضاء؛ وقد 
توقّف سقوط القنابل أو هذا ما خيّل إليهمء أما 
المدافم فلم يخفٌ جنونبها ولم يكن رَجُعها في النفوس 
دون رجع القنابل» واختلطت أصوات صراح وبكاء 
وزجر وانتهار صادرة عن نسوة وأطفال ورجال. 

هذه غارة جديدة وليست كالسابقات . . 

وهذا الح القديم هل يتحمل الغارات 
الجديدة؟ ! . 

اعفوئا من هذه الثرثرة وقولوا يا رب!. 

داكلنا يقرلهنا بك :+ 

اسكتوا. . . اسكتوا ي رحمكم الله!. 

وكان كمال يلاحظ الضوء الذي ينير مجرج القبو 
حين رأى جماعة جديدة قادمة فخيّل إليه أنه لمم هيئة 
أببه بينباء وخفق قلبهء أيكون حمًا أباه؟ وكيف 
استطاع أن يقطع الطريق إلى القبو؟ بل كيف استطاع 
أن يغادر فراشه؟ وشقٌّ طريقًا إلى ناية القبو مخترفًا 
الكتل البشريّة المضطربة»ء فتبين على التباع الضوء 
أسرته جميمًاء أباه وأمّه وعائشة وام حنفي! وانّهِه 
نحوهم حيّى وقفا بيهم وهو ببمس : 


أنا كيال! . كلكم بخير؟ 


السكرية هاة 


لم يجب أبوهء وكان ملقيًا بظهره في إعياء إلى جدار 
القبو بين الأمّ وعائشة, أما الأم فقالت: 

كبال؟. الحمد لله شيء فظيع يا بن نسي 
ككل مرّةء خيّل إلينا أن البيت سيئقضٌ فوق رعوسناء 
وريّنا شدّ حيل أبيك فنبض وجاء بيئناء لا أدري كيف 
جاء ولا كيف جثنا. . . 

وغمغمت م حنفي : 

عنده الرحمة» ما هذا الحمول؟!. ربّنا يلطف 
بناى , 

وفجأة هتفت عائشة: 

افق تسكت هله المدافع؟ ! . 

وخيّل إلى كال أن صوتها ينذر بانيسار عصبيٌ 
فاقترب منها وأمسك بكفها بين يديه وكأنه قد استردٌ 
بعض وعيه المفقود عندما وجد نفسه حيال من هم في 
حاجة إلى تشجيعه. وكانت المدافع ما تزال تنطلق في 
غضبها الجنون, غير أن وطأتها أخعذت تخف بدرجة 
غير محسوسة) ومال كيال نحو أبيه وسأله : 

كيف حالك يا أبي؟ 

فجاءه صوته وهو بهمس في خور: 

أين كنت يا كمال؟. أين كنت حين وقعت 
الغارة؟ . . . 

فقال يطمئنه : 

كنت على همقربة من القبوه كيف حالك؟ 

فأجاب بصوت متقطع : 

ب الله أعلم . . . كيف غادرت فرائي وهرولت في 
الطريق؟ . الله أعلم. .. لم أشعر بشيء... متى تعود 
الخال إلى المدوء؟ 

أأخلع لك جاكتتي لتجلس عليها؟ 

كللاء أنا'قادر على الوقوف» ولكن متى تعود الال 
الحا لسو 

الغارة انتهت فيا ييدوء أما قيامك المفاجئ فلا 
تَمْفْه. إن المفاجآت كثيرًا ما تصنع المعجزات مع 
المرض! , . . 

وما كاد ينتهي من قوله حبيّى زلزلت الأرض بثلاثة 
انفجارات متتابعة فثار جئون المدافع المضادة مرّة أخرى 
وضِح القبو بالصراخ : 


5 السكرية 


إِمْها فوق رعوسنا! . 

د وحل الله , , , 

- أسكتوا هذا الشؤم! . 

وترك كيال يد عائشة ليأخذ يدي أبيه بين يديه 
وكان يفعل ذلك لأوّل مرّة في حياته. وكانت يدا 
الرجل ترتجففان؛ء وكانت يدا كيال ترتجفان كذلك» أما 
أمّ حنفي فقد البطحت على الأرض وهي تولول. وعاد 
العرت العضرى شيع وخر 

- إياكم والصراخ» ساقتل الصارخ! , . . 

وعلا الصراخ. وتلاحقت طلقات المدافع, واشثك 
توثّر الأعصاب. في توقع زلازل جديدة. ولكنّ المدافع 
استمزت تنطلق وحدها, وظل توفع انفجارات جديدة 
يخنق الأرواح . 

- انتهت القنابل! . 

- نا تغيب ثم تنفجر. . . 

- إنها بعيدة» لو كانت قريبة ما سلمت البيوت من 
جولنا! . 

- بل سقطت في النحاسين! , 

- هكذا ييل إليك ولعلها في الأورنس! 

- أنصتوا يا هوه ألم تخف المدافم؟ 

بلى خفت طلقاتهاء ثم لم تعد تُسمع إلا من بعيد. 
ثم متقطعة ثم متباعدة» ثم بين الطلقة والأخرى دقيقة 
كاملة. ثم أناخ الصمتء وامتذٌ وطال وعمق2 ثم 
انعقدت الألسن. حي مضت تتعالى #مسات الأمل 
الباكى, وأخذ كثيرون يتذكرون أشياء وأشياء؛ ويحيون 
من جديدء ويتدون في ارتياح حذر مشوب 
بالإشفاق» وعبعًا حاول كيال أن يرى وجه أبيه بعد أن 
عادت التماعات الضوء الخاطف ويم الظلام. . . 

- أبيء ستعود الال إلى الهدوء. . 

فلم يجب الرجل ولكنّه حرّك يديه بين يدي ابنه 
كأغا للقئعة رآثه ها والرهعا ‏ .., 

- هل أنت بخخير؟ . . , 

فحرّك يديه مرّة أخرى. وشعر كيال بحزن أوشك 
أن بج دموعة . 

وانطلقت صثارة الأمان. , . 

وأعقبها صياح تبليل من جميع الأركان كصياح 


الأطفال عقب مدافع الأعياد.» وضجّ المكان وما حوله 
بحركة ما ها من آخخر. صفقات أبواب ونوافذ» هدير 
كلام عصبى . ثم تتابم انصراف المنحشرين في القبو, 
وقال كال وهو يتغبد : 

فلتعد. . . 

وضع الأب ذراعًا على كتف كال والأخرى على 
كتف الأمّ وسار بينهما خخطوة خطوة. وبدءوا يتساءلون 
عن الرجل. كيف هوء وماذا أصابه أثر مغامرته 
الخطيرة. غير أن الأب توقف عن المشي وهو يقول 
بصوت ضعيفا: 

- أشعر بأنْنى يجب أن أجلس. . . 

فقال له كال: 

دعني أجملك , 

فقال في إعياء : 

ولَكنّ كبال أحاطه بذراع من وراء ظهره ووضع 
الأخرى تحت ساقيه؛ء ورفعه. لم يكن حملا خفيًا 
ولكنّ ما بقى من أبيه كان على أيّ حال هيّئًا. وسار في 
بطء شديد. والأحرون يتبعونه مشفقين. وانتحبت 
عائشة فجأة فقال الأب بصوت متعب: 

- لا داعي للفضيحة ! 

فكتمت فاها بيدهاء ولما بلغوا البيت عاونت أمّ 
حنفي في حمل السيّدء فصعدا به السلّم على مهل 
وحذرء وكان مستسلًا ولكنّ همهمته الاستغفاريّة 
المتواصلة ممت عن حزنه وضصيقه. حيّى طررحاه بعناية 
على فراشه. ولما أضىء نور الحجرة بدا وجه الأب 
كنك الفحوي كأن الجهد قد استصفى دمه. وكان 
صدره يعلو وينخفض بعنفاء فأغمض عينيه إعياء, 
لمّ راح يتأؤه» ولكنّه غالب ألمه حبّى استطاع أخيا أن 
يلوذ بالصمت. وكان الجميع يقفون صقا بإزاء فراشه 
ويتطلّعون إليه في وجل وإشفاق» وأخيرًا تساءلت أمينة 
يصوت متهدّج : 

معدي وديا 

ففتح عينيه. وجعل ينظر في الوجوه مليّاء وبدا 
لحظات كأنه لا يعرفهاء ثم تعبّد وقال بصوت لا يكاد 


سدم 


الحمد لله . . . 

- ثم يا سيّدي . . . نم كي تستريح . . . 

وترامى إليهم رئين الجرس الخارجي فمضت أمْ 
حنفي لتفتح الباب. وتبادلوا نظرات متسائلة فقال 
كمال : 

لعل أحدًا من السكريّة أو قصر الشوق قد جاء 

وصدق حدسه فيا لبث أن دخل الحجرة عبد المنعم 
وأحمد ثم تبعهها ياسين ورضوان فأقبلوا على فراش 
الأب وهم يحيون الموجودين» فوججه إليهم الرجل 
نظرات فائرة» وكأنْ الكلام لم يسعفه فاكتفى برفم يله 
النحيلة نحية . وقص عليهم كمال في اقتضاب ما عاناه 
والده في ليلته المزعجة ثجّ قالت أميئة همسًا؛ 

- ليلة فظيعة ربنا لا يعيدها. . . 

وقالت أمْ حدفي : 

الشركة العف فلبلا ولكته سيترة بالترالعة 
عافيته , . . 
ومال ياسين فوق أبيه وهو يقول: 

- ينبغي أن تنامء كيف حالك الآن؟ 

فرنا الرجل إليه ببصر خاب وغمغم: 

الحمد لله. .. أشعر بتعب في جلبي الأيسر. . . 

فسالة اناشين:: 

أأحضر لك الطبيب؟ 

فأشار بيده في ضحر ثم همس : 

كلا خير لي أن أنام . . . 

فأشار ياسين إلى الموجودين بالمخروج. وتراجع إلى 
الوراء قليلًا فرفم الرجل يده النحيلة مرّة أنصرى. 
وغادروا الحجرة واحدًا في إثر واحد فلم يبق فيها مع 
الرجل إلا أميئة» ولا جمعتهم الصالة سال عبد المنعم 
خاله كيال: 

ماذا فعلتم؟ أمّا نحن فقد هرعنا إلى المنظرة في 
الحوش . 

وقال ياسين : 

- ونحن نزلنا إلى شقّة الدور الأرضئّ عند 
جبراننا . ..: 

فقال كال في قلق : 


السكرية /ا١ة‏ 
ولكنّ التعب قد أممك قوى بابا, . . 
فقال ياسين : 
وما عسبى أن نفعل به إذا وقععت غسارة 


أخرى؟! ., . . 
ولم محر أحد جوابًا فساد صمت ثقيل حتّى قال 
أحمل : 


- بيوتنا قديمة ولن تتحمّل الغارات. . 

وعند ذاك أراد كيال أن يبدّد سحب الكابة المخيمة 
التي أرهقت أعصابه فقال منتزعًا من شفتيه ابتسامة: 

إذا هدمت بيوتنا فحسبها شرفا أنَّ هدمها سيكون 
بأحدث أساليب العلم الحديث. . 


ضن 


أوصل كمال زوار آخر الليل حتى الباب الخارجيّ , 
ولم يكد يعود إلى باب السلّم حيّى ترامت إليه من فوق 
ضبّة مريبة» وكانت أعصابه ما تزال متوتّرة فداخلته 
كابة ورقي السلّم وثبًا. وجد الصالة خالية» وحجرة 
الأب مغلقة: ونخليطا من الأصوات يعلو نخلف يابها 
المغلق؛ فهرع إلى الحجرة ودفع الباب ثم دحل» وكان 
بتوقع شرًا أبى أن يفكر في كنبه. كان صوت الأم 
اللبحوح هتف «سيّدي4., وكانت عائشة تنادي بصوت 
غليظ «باباء على حين تسمّرت أُمٌّ حنفي عند رأس 
الفراش فدعمه شعور بالفزع واليأس والاستسلام 
الحزين؛ رأى نصف أبيه الأسفل مطروحًا على 
الفراش» ونصفه الأعلى ملقى على صدر الأ التي 
تربعت وراء ظهره»؛ وصدره يعلو ويدخفض في حركة 
آليّة تندٌ عنها حشرجة غريبة ليست من أصوات هذا 
العالمء وعينيه مفتوحتين عن نظرة مظلمة جديدة لا 
ترى ولا تعى ولا تملك أن تخير عمًا يعتلج وراءهاء 
فريك تلماه :وراك فياك الشريو. .والفمة لمضاتةة 
وجرت عيئأه» لم يجد شيكًا يقوله أو شيمًا يفعله. 
وعانى شعورًا قاهرًا بالعجز المطلق» واليأس المطلق 
والتفاهة المطلقة وكأنه فقد الوعي لولا إدراكه أنْ أباه 
يودّع الحياة. وردّدت عائشة بصرًا زائعًا بين وجه أبيها 


4 السكرية 


ووجه كيال ثم هتفت: 

أبي» هذا كال يريد أن يحدئك! . 

وخحرجت أمّ حنفي عن غمغمتها المتّصلة قائلة في 
نبرات ممزقة : 

أحضروا الطبيب! . . . 

أنت الأمّ في حزن غاضب: 

أيّ طبيب يا حمقاء؟! . 

ثم ندّت عن الأب حركة كأنما يحاول الجلوس» 
وازداد صدره تشْئْجًا واضطراباء ومذ سبابة يمناه ثم 
سيّابة يسراهء فلا رأت الأمٌ ذلك تقلص وجهها من 
الآلى ثم مالت على أذنه وتشهدت بصوت مسموع 
وكرّرت ذلك حيّى سكنت يداه. وأدرك كيال أن أباه لم 
يعد يستطيع النطق وأنّه دعا الأمّ لتتشهّد ثيابة عنه 
وأنّ كنه هذه الساعة الأخيرة سيبقى سرًا إلى الأبد, 
وأنْ وصفه بالألم أو الفزع أو الغيبوبة رجم بالغيب. 
ولكنّه على كل حال لا ينبغي أن تطولء إنّبا أجل 
وأخطر من أن تبتذل» أما أعصابه فقد انهارت حيالاء 
وخجل من نفسه إذ نزعت لحظات إلى تحليل الموقف 
ودراسته» كأنّ احتضار أبيه يجوز أن يكون زادًا لتأمله 
ومادّة لمعرفتهء وضاعف ذلك من حزنه ومن ألمه. وقد 
اشتدذت حركة الصدر وعلت حشرجتهء ثم ما هذا؟ 
أهم بالقيام؟. أم يحاول الكلام؟ أم يخاطب شيئًا 
مجهولا؟. أينال؟. أم يفزع؟. . . آه. . . 

وشهق الأب شهقة عميقة ثم ارتمى رأسه على 
صذره . 

صرخت عائشة من الأعاق: «يا أبي... يا 
نعيمة. . . يا عثيان, يا محمد» فهرعت إليها أمّ حنفي 
ودفعتها أمامها برقة إلى الخارج. ورفعت الأمّ وجهها 
الشاحب إلى كال وأشارت إلى الخارج» ولكنّه م 
يتحرك , فهمست في يأس : 

- دعني أقم بواجبي الأخير نحو أبيك . . 

فتحؤل عن موقفه ومضى ارجا وكانت عائشة 
مرتّية على الكنبة وهي تعول؛ فمفى إلى الكنبة المقابلة 
ها وجلس. أمَا أُمْ حنفي فذهبت إلى الحجرة لتساعد 
سيدتها وأغلقت الباب وراءها. ول يعد بكاء عائشة مما 
تمل فقام واقمًا وراح يقطع الصالة ذهابًا وإيابًا دون 


أن يوجّه إليها خطاباء وكان من حين لآخر يرنو إلى 
باب الحجرة المغلق ثم يضغط على شفتيه بِشِدة. 
وتساءل لم يبدو لنا الموت مِبْذه الغرابة؟. وكان كلما جمع 
أفكاره ليتأمّل تشتّت وغلبه الانفعال. كان الأب حي 
بعد انروائه ‏ يملا هذه الحياة» فلن يكون غريبًا إذا 
وجد غدذًا البيت غير البيت الذي عهده. والحياة غير 
الحياة الى ألفهاء بل عليه منئذ اللحظة أن يعد نفسه 
لدور جديد. واشتدٌ ضيقه بنحيب عائشة وهم مرّة بأن 
يُسكتها ولكنّه لم يفعلء وعجب من أين لما بهذا 
الشعور وقد كانت تبدو جامدة غريبة عن كل شىء. 
وعاد يفكر في اختفاء أبيه من هذه اللياةة كان عليه 
تصور هذاء ثم ذكر حاله الأخير فأكل الحزن شغاف 
قلبه. وذكر صورته القديمة المائلة في خاطره. وهو في 
تمام أمّبته وقوته. فشعر برثاء عميق للكائنات جميعاء 
ولكن متى يسكت نحيب عائشة؟! . . . ألا تستطيع أن 
تبكى ‏ مثله - بغير دموع؟! 

وفتح باب الحجرة وخرجت منه أُمْ حنفيء وترامى 
إليه من خلال الباب قبل أن يغلق نحيب الأمّ فأدرك 
أنها فرغت من أداء واجبها وخلصت للبكاء» وتقدّمت 
آم حنفي من عائشة وقالت هما بصوت غليظ : 

كفاية بكاء يا سيّدى, . . 

ثم تحولت إليه قائلة : 

الفجر لاح يا سيّدي, نم ولو قليلا فأمامك غد 
لم أفحمت في البكاءع ثم غادرت المكان وهي 
تقول في صوت باك : 

- سأذهب إلى السكريّة وقصر الشوق لإبلاغ الخير 
الأسود!. . . 

يبا نيا تين 

وجاء ياسين مهرولا تتبعه زنُوبة ورضوان. ثم 
ترامى إليهم من الطريق الصامت صوات نخديمة. 
وبوصول نخحديحة استعرت النار في البيت حميعا فاختلط 
الصوات بالصراخ والبكاء. وتعذّر على الرجال البقاء 
في الدور الأول فصعدوا إلى المكتبة في الدور الأعلى 
وجلسوا واجمين. وغشيهم الصمت والوجوم حي قال 
إبراهيم شوكتث: 


”ول ول قوق الخ ننفتي تفروك غلية الشارةة 
رحمه الله رحمة واسعة كان رجلا ولا كلّ الرجال. . . 

ولم يتمالك ياسين نفسه فبكى. وعند ذاك أنفجر 
كبال باكياء فعاد إبراهيم شوكت يقول: 

وخدوا الف لقد ترككم رجالا. . . 

وكان رضوان وعبد المنعم وأحمد يتطلّعون إلى 
الرجلين الباكيين في حزن ووجوم وشيء من الدهش . 
وسرعان ما جفف الرجلان دمعهما ولاذا بالصمت. 
فقال إبراهيم شوكت: 

- الصباح قريب» فلنفكر فيها يجب عمله. . . 

فقال ياسين في اقتضاب حزين: 

لا جديد فى الأمر فقد جرّبناه مرّات. . 

فقال إبراهيم شوكت: 

جب أن تكون الجنازة جديرة بمقامه. , 

فقال ياسين بتوكيد : 

هذا أقلٌ ما يجب! 

وهنا قال رضوان : 

- الشارع أمام البيت ضيّق لا يسسع للسرادق 
الحنابيب: فشي شرادق؟ العا لق ييدان ربت 
القاضي . . . 
فقال إبراهيم شوكت: 

ولكنّ العادة جرت بأن يقام سرادق العزاء أمام 

فقال رضوان: 

ليس هذا بالمكان الأول من الأهميّة خاصة وأنْه 
سيوم السرادق وزراء وشيوخ ونوؤاب!. 

وأدرك المستمعون أنه يشير إلى معارفه هو فقال 
ياسين دون ممالاة : 

نشقيمه هناك , , , 

وكان أحمد يفكّر في الدور المنوط به فقال : 

لن نتمكن من نشي النعيّ في جرائد الصباح. . . 

فقال كال: 

ب جرائد المساء تصدر حوالى الساعة الثالثة بعد 
الظهر فلنجعل ميعاد الجنازة فى الساعة الخامسة. . . 

- ليكن. القرافة قريبة على أيّ حال. . . 

وتأمل كال مجرى الحديث في شيء من العجب. 


السكرية 19و 


كان الأب في الساعة الخامسة اليوم في فراشه يتابع 
الراديو أمّا في نفس الساعة غدًا...!. إلى جانب 
فهمي وابئي ياسين الصغيرين» ترى ماذا تبقى من 
فهمي؟ لم يمف العمر من رغبته القديمة في التطلّع إلى 
جوف القبرء ترى هل كان الأب حمًا يرغب في قول 
شيء كما هيأ له؟ ماذا كان يريد أن يقول؟ والتفت 
ياسين إليه متسائلا : 

هل شهدت احتضاره؟ 

- نعمء عقب انصرافك مباشرة. 

تأل؟ 

- لا أدري» من يدري يا أخي؟ ولكنّه لم يستغرق 
أكثر من حمس دقائق . . . 

تعد ياسين ثُمْ تساءل: 

- ألم يقل شيئًا؟ 

كلا. والغالب أنه فقد النطق. . . 

- ألم يتشهد؟ 

فقال كيال وهو يغضٌ بصره ليداري تأثره : 

- قامت أمّي بذلك ليابة عنه. , 

- لبرحمة الله , , , 

- أمين, . , 

وساد الصمت مليًا حي خرقه رضوان قائلًا: 

- يجب أن يكون السرادق كبيرًا ليتسعم 

فقال ياسين: 

- طبعاء أصدقاؤنا كثيرون. . . (ثمْ وهو ينظر نحو 
عبد المنعم). .. وهناك شعبة الإإخوان المسلمين! . . . 

ثم متمهذا : 

لو كان أصحابه أحياء لحملوا النعش على 
أكتافهم! . . . 

+ د ا 

ثم كانت الحئازة كا رسمواء وكان أصدقاء عبد 
المنعم أكثر عدداء أمّا أصدقاء رضوان فكانوا أعلى 
مقاماء ولفت نفر منهم الأنظار بشخصياتهم المعروفة 
لقرّاء الجرائد والمجللات, وكان رضوان مهم مزهوا حي 
كاد يغطي زهوه على حزنه. وشيّم أهل الحيّ وجار 
العمر؛ حيّى الذين لم يصلهم به سبب من أسباب 


السكرية 


التعارف الشخصيّ» فلم تكد الجنازة تخلو إِلّا من 
أصدقاء المرحوم نفسه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة. 
وعند باب النصر ظهر الشيخ متولي عبد الصمد في 
الطريق» وكان يترنح من الكبر فرفع رأسه نحو النعش 
وهو يضيّق عينيه ثم سأل : 

من هل|؟ 

فأجابه رجل من أهل الحي : 

- المرحوم السيّد أحمد عبد الحواد! 

فجعل وجه الرجل ببتز يمنة ويسرة في ارتعاش» 
وملامحه تتساءل في حيرة» ثم إذا به يسأل: 

فق ا ا 

فأجابه الرجل وهو يبز رأسه في شيء من الحزن : 

من هذا الحئّ. كيف لا تعرفه! ألا تذكر السيّد 
أحمد عبد الحواد؟ ! . . . 

ولكن لم يبد عليه أنه تذكر شيئًاء وألقى نظرة أخيرة 
عق 'التعس لل :تار ل تيال ...+ 


أ 


خملا البيت من سيدي فليس هو البيت الذي 
عاشرته أكثر من حمسين عاماء والجميع يبكون حولي. 
ونحديجة لا تفارقني فهي قلبي العامسر بالحزن 
والذكريات وهي قلب كلّ قلب بل هي ابنتي وأختي 
وأمّى أحياناء وأكثر بكائي خلسة حين أخلو إلى نفسي 
إذ ينبغي أن أشجّعهم على النسيان فيا يبون عل أن 
يحزنوا أو لا قدّر الله أن ينال متهم الحزن أي منال. 
أمَا إذا خلوت إلى نفسي فلا أجد عزاء إلا في البكاء 
فأبكي حيّى تجن دموعي : وأقول لم حلفي إذا 
تالف إلى وحدتي الباكية دعينى وشأني يرحمك الله . 
فتقول لي كيف أتركك وأنت على هذه الحال؟ أنا عارفة 
بحالك . . . ولكنّك ست مؤمنة بل أنت ست المؤمنات 
فعندك نتعلم العزاء والتسليم لقضاء الله... قول 
جميل يا أمّ حنفي ولكن أن للقلب المحزون أن يفقه 
معناه» ولم يعد لي شأن في هله الدنيا ولم يعد لي عمل 
وكل ساعة من ساعات يومي مرتبطة بذكرى من 
ذكريات سيّدي . . . لم أعرف الحياة إلا وهو محورها 


الذي تدور حوله فكيف أطيقها ولم يعد له فيها ظلٌ؟ 
وأنا ول من اقترح تغيير معالم ألعجرة العزيزة, .. هأ 
حيلتي ما داموا لا يدخلونها حي تتعلق أبصارهم بمكانه 
الخالي ويجهشون بالبكاء. . . وسيدي يستحق الدموع 
التي تسيل من أجلهء ولكيّي لا أطيق بكاءهم وأخحاف 
وأطالبهم بالتسليم لله وقضائه. ولذلك أخحليت الحجرة 
سس أثاثها القديم وانتقلت إل حجرة عائشة. ولكيلا 
ا |المسجرة وتستوحش نقلت إليها أثناث الصالة 
فانتقل إليها مجلس القهوة حيث نجتمع حول المجمرة 
نتحدث كثيرًا وتقطع أحاديثنا الدموع؛ ولا يشغلنا 
شيء كا يشغلنا الإعداد للقرافة وأشرف بنفسى على 
تجهيز الرحمة فلعله الواجب الأوحد الذي لم أتخلٌ عنه 
لأمّ حنفي كا تخليت لما عن كلّ شيءء تلك المرأة 
العزيزة الوفية الي دخلت بمحدارة قُْ صميم أسرتناء 
فنحن نعدٌ الرحمة معًا ونبكي معا ونتذكر الأيام الجميلة 
معا فهي دائًا معي بروحها وذاكرتهاء وأمس جر 
الحديث إلى ذكر ليالي رمضان فبادرت تحدّث عن سيرة 
سيدي في رمضان منذ ساعة استيقاظه في الضحى حي 
حين عودته إلينا عند السحور. فذكرت بدوري كيف 
كنت أهرع إلى المشربيّة لأرى الحنطور الذي يعيده 
وأستمع إلى ضحكات راكبيه أولئك الذين ذهبوا تباعًا 
إلى رحمة الله كما ذهبت الأيّام الحلوة وكيا ذهب الشباب 
والصحّة والعافية فاللّهمّ متع الأبئاء بطول العمر وقرٌ 
أعينهم بأفراح الحياة وهذا الصباح رأيت قينا تشمم 
الأرض تحت الفراش حيث كانت ترضع فلذات كبدها 
التي أهديناها إلى الجيران فقطع قلبي منظرها الحائر 
الحزين وهتفت من أعياق فلبي الله يصارك يا 
عائشة , , , عائشة المسكينة التي هاج موت أبيها حزنها 
فهي تبكي أباها وابنتها وابنيها وزوجها فيا أحرّ الدموع 
وأنا البيي تجرعت مرارة الكل قديًا حبّى سال قلبي دما 
واليوم أفجع بوفاة سيّدي وتخلو حياتي منه وكان ملء 
حياتي جميعًا ولا يبقى لي من الواجبات إلا أن أعدّ له 
الرحمة أو أتلقّاها من السكريّة وقصر الشوق فهذا كلّ 
_ ا 0 اخحتر لنفسك هذه الأيّام مجلسًا 
غير جلسئا الحزين حتى لا تسري إليك عدوأه. . . لماذا 


أنت واجم؟. الحزن لم يُخلق للرجال فالرجل لا 
يستطيع أن يحمل الأعباء والأحزان معا. . . اصعد إلى 
حجرتك وتسلّ بالقراءة والكتابة كما تفعل أو انطلق إلى 
أصحابك فاسهرء ومن بدء الخليقة فالأعرّاء يفارقون 
ذومهم» فلو كان الاستسلام إلى الحزن هو المتبع لما بقي 
على ظهر الأرض حي . . . لست حزينة كما نتوهم وما 
يلبغي لمؤمن أن يحمزنء. وسوف نعيش إذا أراد الله 
وبرنه اند وسيل إل االعوين الذي سيق إلا بين 
يشاء الله هكذا أقول له ولا آلو أن أتكلف ما ليس بي 
من التصبر والتجلّد إلا إذا هلّت خديهة قلب بيتنا 
26 وذرفت الدموع بلا حساب هنالك لا أملك أن 
أجهش في البكاء؛ وقالت لي عائشة إنْها رأت أباها في 
المنام قابضًا على ساعد نعيمة بيدٍ وعلى ساعد محمد بِيدٍ 
حاملا عثيان على كتفه وقال لما إِنّهِ بخير وإثهم بخير 
فسألته عن سي النافذة الى نورت ا في السماء ثم 
توارث إلى الأبد فتجلّث في عينيه نظرة عتاب ولم 
ينبس . ثم سألتني عن معنى الحلم. يا حيرة أمّك يا 
عائشة... غير أن قلت ها إِنْ العزيز مات وهو 
مشغول القلب بها ولذلك زارها في الحلم وجاءها 
بأولادها من الئّة لتقرٌ برؤيتهم عيئًا فلا تنص عليهم 
صفوهم باستسلامك للحزن. ليت عائشة الزمان 
الأول تعود ولو ساعة؛ ليت الذين حولي يبرءود مس 
حزهم حتّى لا يشغلني شاغل عن واجب الحزن 
العميق. وجمعت ياسين وكمال وقلت لهما: هذه 
المخلّفات العزيزة ماذا نفعل ببا؟ فقال ياسين: آحذ 
الخاتم فإنّه على قد أصبعي. ولك الساعة يا كال أمَا 
الست تلك انكا سنا نيتحة ريا واليمتية 
والقفاطين؟. . . وذكرت من توي الشيخ متوني عبد 
الصمد الذكرى الباقية من عهد العزيز فقال ياسين: 
لقد انتهى الرجل فهو في غيبوبة ولا يعرف له مقر 
وقال كال مقطّبًا: لم يعرف أبي!... نسي اسمه وتولى 
عن الحبازة دون اكتراث. فانزعجت وأنا أقول: يا 
للعجب متى حدث هذا؟ كان سيّدي يسأل عنه حي 
ايّامه الأخيرة وكان دائمًا يحبّهِ ولم ووه الخعنة. ارفريين 
مل زار بيتنا ليلة دخلة نعيمة» ولكن ربّاه أين نعيمة 
وأين ذلك التاريخ كله ؟ ل اقترح ناسين أن عدف 


السكرية 491 


الملابس إلى سعاة ديوانه وفرّائى مدرسة كال فليس 
عق بها من الققرزال اتقا هنم اللدرين بيذ فون لدبا لوهة 
في مقرّه الأخير أمّا المسبحة العزيزة فلن تفارق يدي 
حبّى أفارق الحياة» والقبر كم يبدو حلو المزار على ما 
يكير من شجن ولم أكن انقطعت عنه منذ انتقل إليه 
الشهيد الغاللي» ومنذ ذلك الوقت وأنا أعتبره حجرة من 
بيتنا لكنّبا في أطراف حيّناء ويجمعنا القبر جميعًا كيا كان 
يجمعنا مجلس القهوة في الزمن الخالي» وتنوح خديجة 
حبّى ينال منها الإعياء ثم نؤمر بالسكوت تأدَبًا لاستماع 
القرآن» ثُمّ يشغلهم الحديث حينًا فَأَسَرٌ يما يصرف 


وأحمد في نقاش طويل وتنضمٌ إليهم كريمة أحيانًا فذاك 
ما يغري كمال بمشاركتهم اللحديث ويلطف من كآبة 
المقام» ويسأل عبد المنعم عن خاله الشهيد فيقص 
ياسين القصص فتنبعث الحياة في الأيام القديمة ويعود 
غائب الذكريات ويخفق قلبي فلا أدري كيف أداري 
دموعي ء وكثيرًا ما أرى كبال واجما فأسأله عا به فيقول 
لي إن صورته لا تفارقني خاصّة منظر الاحتضار فلو 
كانت مايته أخفت!. فقلت له برقّة عليك أن تسى 
هذا كله. فتساءل كيف يكسون النسيان؟ فقلت له 
بالإيمان فابتسم ابتسامة حزيئة وقال: كم كنت أنحافه 
في مطلع حياتي ولكنّه نكشف لي في عهده الأخير عن 
إنسان جديد بل صديق حبيب. ألا ما كان أظرفه 
وأرقه وألطفه, لم يكن في الرجال مثله. وياسين يبكي 
كلّما أهاجته الذكرى. . . كيال حزنه في صمته الواجم 
أمَا ياسين الضخم فيبكي كالأطفال ويقول لي إِنَْه 
الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي» أجل كان أباه 
وكان أمّه ولم ينعم بالعطف والحنان والرعاية إِلّا في 
كنفه حيّى شِدّته كانت رحمة ولن أنسى يوم عفا عن 
وردٌّني إلى بيته فصدّق فراسة أمّي رحمها الله التي ما 
انفكت تقول لي إن السيّد ليس بالرجل الذي يقطع أم 
أولاده. وكان يجمعنا حبه فاليوم تجمعنا ذكراه» أُمَا بيتنا 
فلا يخلو من الزوّار غير أن قلبي لا يسكن حيّى أجد 
حديجة وياسين وآلما حولي. . . حيّى زنوية فيا أصدق 
حربباء وقالت لي كريمة الصغيرة الجميلة: يا جذدتٍ 
تعالى عندنا فهذه أيَام مولد الحسين وتحت بيتنا تقام 


5 السكرية 


الأذكار وأنت تَمحبّين ذلكء فقّلتها شاكرة وقلت لما: يا 
بنيّتي جذّتك لم تعتد البيات خارج بينها. . . إنها لا 
تدري شيئًا عن آداب بيت جذها في تلك الأيّام التي 
خحلت. ما أجمل ذكراها والمشربيّة آخر حدود دنياي 
حيث أنتظر عودة سيّدي آخخر الليل وهو من قوته يكاد 
15 الأرض عند مغادرته للحنطور ثم يملا الحجرة 
بطوله وعرضه والعافية تكاد تثب من وجهه أما اليوم 
فلا يعود ولن يعود وقبل ذلك ذبل وانزوى ولسزم 
الفراش ورقٌ جسمه وف وزنه حيّى مل بيد واحدة . 
يا حزني الذي لن يذهب! وقالت عائشة في غضب إن 
هؤلاء الأحفاد لم يحرنوا على جدّهم. إنْهم لا يحزنون» 
فقلت ا بل حزنوا ولكتهم صغار ومن رحمة الله بهم 
ألا يغرقوا في الحزنء. فقالت: انظري إلى عبد المنعم 
لا ينتهي نقاشه. وهو لم يحرن على ابنتى وسرعان ما 
نسيها كأنها شيء لم يكن. فقلت لما: بل حزن عليها 
طويلا وبكى كثيرًا وحن الرجال غير حزن النساء 
وقلب الأم غير القلوب جميعاء ومنذا الذي لا ينسى يا 
عائشة؛ ونحن ألا نتسل بالحديث أو يدركنا الابتسام 
اانا وسوف يأتي يوم لا يكون فيه دموعء ثم أين 


فهمي أين؟ , وقالت لي أ حلفي : لاذا امتنعت عن 
زيارة الحسين؟ فقلت: نفسي فاترة عن كل شيء أحببته 
از وز سيّدى عندما يبرأ اجرح . فقالت لى: وهل 
يبأ اجرح إلا يزيارة سيّدك؟ هكذ! ترعاني أمّ حنفي 
وهي ربّة بيتنا ولولاها ما كان لنا بيت إِنك يا ري 
- الجميع أنت القاضي ولا راذ لقضائك ولك 
أصلٍّ. وددت لو أبقيت عل سيّدي قوّته حت الغهباية 
فا المني شيء كا ألني رقاده.» هو الذي كانت الدثيا 
تضيق عن مراحه... حت الصلاة عجر عنها وما 
عاناه قلبه الضعيف وعودته عيرلا على الأيدي كالطفل 
لذلك تسيل دموعي ويتكالئف حزني. . . 


0 
- سأتوكل على الله وأخطب كريمة بنت خالي. . . 
رفع إبراهيم شوكت عينيه إلى أبنه في شيء من 
الدهش. أمًا أجد فأحنى وأسحة وهو يبتسم ايتسامة 


دلت عل أنه لم يفاجا بالخبر» على ححين تركت سديجة 
الشال الذي تطوّزه وحدجته بنظرة غريبة غير مصدّقة 
ثم نظرت إلى زوجها وهي تتساءل: 

ماذا قال؟ 

فعاد عبد المنعم يقول: 

- سأتوكل على الله وأخحطب كريعة بنت أخيك . . 

فبسطت خديجة يديبا في حيرة وقالت: 

- هل أفلست الدنيا من الذوق؟ أهذا الوقت 
مناسب لحديث الخطبة حتّى مم صرف النظر عن 
المخطوبة؟ ! 

فقال عبد المنعم باسما: 

كل الأوقات مناسبة للخطبة. . . 

فهزت رأسها في حيرة وهي تتساءل: 

وجدذّك؟!... (ثم وهي تردّد عينيها بين أحمد 
وإبراهيم). . . هل سمحتم عن شيء كهذا من قبل؟ 

فقال عبد المنعم في شيء من الحدة: 

خطبة لا زواج ولا فرح؛ وقد انقفى على وقاة 
جدّي أربعة أشهر كاملة. . , 

وقال إبراهيم شوكت وهو يشعل سيجارة : 

- كرية ها زالت صغيرة؛ مظهرها أكير من سئها في| 
أعتقد . . . 

فقال عبد المنعم : 

- هي في الخامسة عشرة ولن يكتب الكتاب قبل 
عام . . 

فقالت خديجبة في عبكم ومرارة : 

- هل أطلعتك زنُوبة هائم على شهادة الميلاد؟ 

فضحك إبراهيم شوكت: وضحك أحمدء أما عبد 
المنعم فقال جاذا: 

- لن يتم شيء قبل عام؛ وبعد عام سيكون قد 
مفى على وفاة جذدّي حوالى العام والنصف وتكون 
كريمة قد بلغت سن الزواج. . . 

ولاذا توجع دماغنا الآن؟ 

لأنه لا بأس من إعلان الخطبة في الوقت اللحاضر. 

فتساءلت خديجة في سخرية: 

- وهل تحمّض الخطبة إذا أجلت عامًا؟ 

ب أرجوك . . . أرجوك أن تكفي عن المزاح. . . 


- لو وقع هذا لكان فضيحة. 

فقال عبد المنعم في هدوء ما استطاع: 

دعي جدتي لي» ستفهمني خيرًا منك. إنها جدتي 
وجدَّة كريمة على السواء. 

فقالت بخشونة : 

دالسيف تحدة الكرفة و 

فسكت عبد المئعم وقد تجهُم وجهه فبادره أبوه 
قائلا : 

المسألة مسألة ذوق فيحسن أن ننتظر قليلا. . . 

يعني أنّه لا اعتراض لك إلا على الوقت؟ 

فتساءل عبد المنعم متغابيًا: 

هل ثمّة اعتراض آخر؟ 

فلم تجهب تحديجة وعادت تتشاغل بتطريز الشال 
فاستطرد عبد ال منعم قائلا : 

- كريمة ابئة ياسين أخحيك اليس كذلك؟ 

فتركت نخديحة الشال وقالت برارة: 

هي ابنة أخى حمًا ولكن كان ينبغى أن تذكر أمّها 
أيضًاة - ْ | 

وتبادلوا النظرات في إشفاق. ثم اندفع عبد المنعم 
قائلا في حدّة : 

أمّها زوجة أخيك كذلك! 

فارتفع صوتها وهي تقول : 

أعلم هذا وهو ما يَؤسف لها 

ذلك الماضى المنسٌ! مَنْ يذكره الآن؟! لم تعد إِلَا 
سيّدة مخترمة مثلك | ْ 

فقالت بصوت غليظ : 

دالبسسة مكل :وان تكون فل أيذا! 

ماذا يعيبها؟! عرفناها منذ صغرنا سيّدة محترمة 
بكلّ معنى الكلمة, والإنسان إذا تاب واستقام محيت 
صفحة سوابقه فلا يذكره بها بعد ذلك إلا. . . 

وأمسك. فقالت وهي عرز رأسها في أسف: 

نعم؟ صِنْني! سبٌ آمك إكرامًا لهذه المرأة التي 
عرفت كيف تأكل مَكء طلما تساءلت عنما وراء 


السكرية +47 


الدعوات المتتابعة إلى ولائم قصر الشوق. وإذا بك 
تع كالخردل! 
فردد عبد المنعم عينيه غاضبًا بين أبيه وأخيه ثم 


تساءل : 


- أهذا الكلام يليق بنا؟ أسمعاني رأيكما! . . . 
فقال إبراهيم شوكت متثائبا : 
- لا داعي لكثرة الكلام . عبد المنعم سيتزوج إن 
اليوم أو غذاء وأنت تودّين هذاء وكريمة ابنتنا» وهي 
بنت حميلة ولطيفة. لا داعي للشوشرة, . . 
وقال أحمد: 
- أنت يا نينة أل من يودٌ إرضاء خالي ياسين! 
فقالت تخديية محتذة : 
- كلكم ضدَّي كالعادة, ولا حجّة لكم إِلّا خالي 
ناسين © داسو أخي » وكان خخطوه الأول أنه لم يعرف 
كيف يتزوجء وعنه ورث ابن أخخته هذا المزاج 
الخو 
فتساءل عبد المنعم في عجب: 
- أليست امرأة خالي صديقتك؟1 من يراكما وأنتما 
- ما حيلتي في امرأة سياسيّة مثل اللنبي؟ لكن لو 
ثرك لي الأمر أو لولم أرع خاطر ياسين ما سمحت لما 
بدخول بيتي. وماذا كانت النتيجة؟... أكلت مَك 
بالولائم المغرضة, وعليه العوض؟ 
عند ذاك قال أحمد مخاطبا أنخاه : 
أخطبها وقتما تشاء نينة لسانها كثير الكلام ولكنّ 
ل 
فضحكت ضحكة عصيية وقالت: 
- عفارم يا ولد! تختلفان في كل شيء. .. في الدين 
والملّة والسياسةء أما علي فتتّحدان!. . . 
فقال أحمد في مرح: 
- خالي ياسين أغلى الناس عندك» وسوف ترحبين 
بكريمته كأحسن ما يكون الترحيبء. الحكاية أك 
تودّين عروسًا غريبة حتّى تتمكني ‏ كحياة- من 
اضطهادها. حسن, عل أنا أن أحقق لك هذا الأمل» 
سوف أجيئك بالعروس الغريبة لتشفي غليلك! . 


4 السكرية 


- لا عجب إن جتتنى غدًا براقصة! علام 
تضحكون؟!. هذا شيخ الإسلام سيصاهر عالمة فاذا 
أتوقم منك أنت المنَهَم في دينه والعياذ بالله؟ ! 

نحن في حاجة إلى راقصة بالفعل! 

وإذا بخديجة تقول وكأنما تذكرت أمرًا خطيرًا: 

- وعائشة يا رب ترى ماذا تقول عنا؟! 

فقال عبد المنعم محتجا : 

ماذا تقول؟ لقد توفيت زوجتي منذ أربع سنوات 
كاملة فهل تودٌ أن أبقى أرمل مدى العمر؟ 

فقال إبراهيم شوكت في ضحر: 

لا تخلقوا من اللحبّة قبّة المسألة أبسط من هذا 
كله كرية ابنة ياسين» ياسين أخو نخديجة وعائشة. 
حسبنا هذا. أف. كل شيء عندكم نقار حي 
الأفراح؟! . 

واختلس أحمد من أمه نظرة باسمةء وجعل يراقبها 
حبّى قامت كالغاضبة وغادرت الصالة» وراح يقول 
لنفسه: هاده الطبقة البورجوازيّة كلها عقّد. تمحتاج إلى 
لل نفسانَ بارع ليشفيها من كافة عللهاء محلل له 
قوّة التاريخ نفسه!. لو هادنني الحظ لسبقت أخي إلى 
الزواج ولكنّ البورجوازيّة الأخرى اشترطت مرنّبًا لا 
يقل عن خمسين جنيهّاء هكذا ترح قلوب لأمور لا 
شأن ها بالقلوب» ترى ماذا يكون رأي سوسن حماد لو 
علمث بمغامرتي الفاشلة؟!. 


2 


كان الج شديد البرودة؛ ولم يكن خخان الخايلي 
الرطب ما يؤثر شتاءء ولكنْ رياض قلدس نفسه الذي 
أشار ذلك المساء بالذهاب إلى قهوة خحان الخليلي التي 
شيّدت مكان قهوة أحمد عبده فوق سطح الأرض» أو 
كما قال: «علّمني كيال عل آخر الزمن أن أكون من 
غواة الغرائب». كانت قهوة صغيرة. بابها يفتح على 
حي الحسين. ثم تمتدٌ طولا في شبه ممرّ تصفٌ على 
جانبيه الموائد وينتهيى بشرفة خشبيّة تطل على خان 
الخليلٍ الجديد. جلس الأصدقاء في جناح الشرفة 
الأيمن يحتسون الشاي ويدنخنون نارجيلة بالمناوبة. 


وكان إسماعيل لطيف يقول: 

أنا في إجازة للاستعداد ومن ثم أسافر. . . 

فتساءل كيال في أسفف: 

- ستغيب عا ثلائة أعوام؟ 

- نعم. لا بد من المغامرة» مرب ضحم لا أتميّل 
أن أناله يومًا هناء ثم إِنْ العراق بلد عريّ لا يختلف 
عن مصر كثيرا. . . 

سيخلف وحشة؛ لم يكن صديق الروح ولكنّه 
صديق العمرء. وتساءل رياض قلدس ضاحمًا: 

آلا يحتاج العراق إلى مترجمين؟ 

فسأله كيال: 

- أتسافر إذا سنحت لك فرضة كفرصة إسماعيل؟ 

- لو حدثت في الماضي ما تردّدت أما اليوم فلا. . . 

- وما الفرق بين الماضي والخاضر؟ 

فقال رياض قلدس ضاحما: 

- بالنسبة لك لا شيءء أمّا بالنسبة لي فهو كل 
شىء» الظاهر أنني سانضم قريبًا إلى جماعة المتروجين! 

دهش كمال للخبر الذي وقع عليه دون تمهيد وقد 
ساوره قلق لم يدرك كنهه : 

- حمًا؟! ل تّشِرْ إلى ذلك من قبل ! 

- بل. جاء بغتة؛ في آحر مقابلة في آخر مقابلة 
بيننا لم يكن في البال شيء! 

ضحك إسماعيل لطيف في ظفرء أمًا كيال فتساءل 
وهو يحاول أن يبتسم : 

كيف؟ 

- كيف؟ ! كا يحدث كل يوم » مدرّسة جاءت لزيارة 
أخيها في إدارة الترجمة فأعجبتني: فجسست النبض 
فوجدتث من يقول: «تفضل». . . 

تساءل إسماعيل ضاحكًا وهو يتناول خرطوم 
النارجيلة من كيال : 

- ترى متى يجسٌ هذا (مشيرًا إلى كيال) النيض؟ 

هكذا إسماعيل لا يفوت فرصة أبذًا لإثارة هذا 
الموضوع المعاد. ولكن ثمة أمر أخطر من هذاء فجميع 
الأصدقاء المتزوجين يقولون إنْ الزواج «زنزانة»» فمن 
المحتمل جدًا ألا يرى رياض - إذا تزوج ‏ إلا في 
القليل النادرء وربما تغيّر وتبدّل فيصبح صديقا 


بالمراسلة» وهو وديع رقيق فا أسهل هضمه.ء ولكن 
كيف تمضي الحياة بدونه؟ وإذا جعل الزواج منه شخصًا 
جديدًا كإساعيل فسلام على كافة مسرّات الحياة! 
وسأله ؛ 

- ومتى تتروج؟ 

في الشتاء القادم على أبعد الفروضص. 

كأنما فضي عليه أن يفتقد دوامًا صديمًا لروحه 


المعلّبة : 
- عند ذاك ستكون رياض قلدس آخر! 
د لله؟1... أنت واهم جدًا. . 


فقال وهو يداري قلقه بابتسامة : 

واهم؟! رياض اليوم شخص لا يشبع روحه شىء 
ويقع جيبه بلا شيء» أما الزوج فلن يشبع جيبه أبدًا 
ولن يجد فرصة لتاع الروح. . 

يا له من تعريف جارح للروح! ولكيِّى لا أوافقك 
كإساعيل الذي اضطر إلى الهجرة إلى العراق. 
لست أسيخر من هذاء فهو طبيعىّ فوق أنه بطولة, 
ولكنّه في الوقت نفسه بشعء تصوّر أن تغرق حيّ قمّة 
رأسك في هموم الحياة اليوميّة آلا تفكر إلا في 
مشكلات الرزق» أن يحسب وقتك بالقروش أو 
الملاليم , أن تمسبى شاعريّة الحياة ضياع وقتث! 

فقال رياض في استهانة : 

أوهام مبعثها الخوف! . 

وقال إسماعيل لطيف : 

آه لو تعرف الزواج والأبوة!] لقد فاتك حتى اليوم 
أن تعرف حقيقة اللحياة. . 

لا يبعد أن يكون الصواب رأيه, ولو صم هذا 
فحاثة:.ماساة سكيفة: ولكن ما السعادة وماذا يروم 
على وجه التحقيق؟ غير أنْ الذي يكربه الآن أنه بات 
مهدّدًا بالوحدة اللرمة مرّة أخرى. كما عن عقب 
اختفاء حسين شداد من حياته. لو كان من الممكن أن 
يجد زوجة لها جسم عطيّة وروح رياض؟! هذا ما 
يروم حمّاء جسم عطية وروح رياض في شخص واحد 
يتزوجه فلا يتهدّده الشعور بالوحدة حبّى الموت» هذه 
هي المشكلة» وإذا برياض يقول في ضحر: 


السكرية 76ه 


دعونا مم حديث الزواج. لقد انتهيت منه وعقبى 
لك. على أنّْ ثمّة أحداثًا سياسيّة هامّة هى التّى ينبغى 
أن تستاثر اليوم باهتامنا . ا 00 

وكان كبال يشاركه مشاعره هذه غير أنّه لم يستطع 
أن يفيق من المفاجأة فتلقى دعوة الآخر بفتور ظاهر ول 
ينبس» أمًا إسماعيل لطيف فقال ضاحكا: 

عرف النخاس كيف ينتقم لإقالة ديسمبر سئة 
/1 فاقتحم عابدين على رأس الدبّابات البريطانيّة ! 

وتريّث رياض قليلًا ليعطي كيال فرصة للردٌ غير أن 
هذا لم ينشط للكلام ‏ فقال رياض ف لمجة متجهمة : 

انتقام؟! إِنْ خيالك يصوّر لك المسألة على وجه 
هو أبعل ما يكون عن الحقيقة. , 

- فا الحقيقة؟ 

وألقى رياض نظرة على كال كأئما يمنّه على الكلام 
فلًا لم يستجب استطرد قائلا: 

- ليس النصحاس بالرجل الذي يتآمر مع الإنجليز في 

سبيل العودة إلى الحكم, إِنْ أحمد ماهر مجنون. هو 

اللي خان الشعب وانضم إلى الملك. ثم أراد أن 
يغطي مركزه المضعضع بتصريحه الأحمق الذي أعلنه 
أمام الصحفيّين! . 

ثم نظر إلى كيال مستطلعا رأيه. وكان حديث 
السياسة قد جذب أخخيرًا بعض اهتتامه غير أنه شعر 
برغبة في معارضة رياض ولو بعض الثىء فقال : 

واكك ف لكان فين انق الم قن ولفك 
أشكٌ في وطنيّته مطلقاء إن الإنسان لا ينقلب في هذه 
السنّ إلى خائن ليتول وظيفة تولاها حمس مرّات أو 
ستا من قبل» ولكن هل كان تصرّفه هو التصرّف 
المخال 1ج 

- أنت شكاك لا نباية لشكّك. ما الموقف المثالي؟ 

- أن يصرٌ على رفض الوزارة حبّى لا يخضع للإنذار 
البريطانّ وليكن ما يكون . 

- ولو عزل الملك وتولى أمر البلاد حاكم عسكريّ 
بريطاني؟ 

ولو 

تعبد رياض في غيظ وقال: 

- نحن نلهو بالحديشه أمام النارجيلةء أما السياسي 


5 السكرية 


فأمامه مسئولية خخطيرة» في هذه الظروف اللحربية 
الدقيقة كيف يقبل النحّاس أن" يعزل الملك ويحكم 
البلاد حاكم عسكريّ إنجليزي؟ وإذا انتصر الحلفاء ‏ 
ويجب أن نفترض هذا أيضا. فتكون في صفوف 
الأعداء المنهزمين» السياسة ليست مثاليّة شعريّة ولكتّها 
واقعية حكيمة... 

لا زلت أومن بالنححاس» ولكن لعلّه أخطاء لا 
فول تام اهانب 

المسكولية تقع على العابثين الذين مالأوا الفاشست 
من وراء ظهور الإنجليز كأنْ الفاشست سيحترمون 
استقلالناء أليس بيئنا وبين الإنجليز معاهدة؟ واليس 
الشرف يقفي علينا باحترام كلمتنا؟ ثم السنا 
ديموقراطيين يمنا أن تنتصر الديموقراطية على النازية 
التي تضعنا في جدول الأمم والأجناس في أحط طبقة 
وتشر شحناء الحنسيّة والعنصرية والطائفية؟!. . . 

معك في هذا كلهء ولكنٌ التضوع للإنذار 
البريطانَ جعل من استقلالنا وهما! , , 

احتجّ الرجل على الإنذار ونزل الإنجلير عند 
زانشويب 

فضحك إساعيل عاليًا ثم قال: 

- يا عيني على الاحتجاج الأنجلو أجبشيان! . . . 

غير أنه سرعان ما قال جادًا: 

- إن أقرّه على ما فعل» ولو كنت مكانه لفعلته. 
رجل أبعد رغم أغلبيّته وأهين فعرف كيفف ينتقم 
لنفسه. والواقع أنه ليس هدالك استقلال ولا كلام 
فارغ؛ ففي سبيل أي شيء يعزل الملك ويحكمنا حاكم 
عسكريّ إنجليزي؟ ! 

وازداد وجه رياض تَهَاء أمَا كال فابتسم قائلا في 
هدوء بدا غريبًا: 

ع أغطا الاخرون وشكل انكاس اننع الخال 
شك أنه أنقذ الموقف» أنقذ العرش والبلاد» ثم إِنَّ 
العيرة بالحاتمة, فإذا ذكر له الانجليز صنيعه بعد 
الحرب فلن يذكر أحد 5 فبرايرا . . . 

إسماعيل هازثًا وهو يصفق طالبًا جمرات للنارجيلة : 

- إذا ذكر الإنجليز صنيعه! وأنا أقول لك من الآن 
بأنهم سيقيلونه قبل ذلك! , 


فقال رياض بإيمان : 

الرجل تقدّم لحمل أكبر مسئوليّة في أحرج 
الاروقب:: 

فقال كمال باسما: 

- كما ستتقدّم لحمل أكبر مسئولية في حياتك! . . . 

فضحك رياض. ثم نض قائلا دعن إذلكم» 
ومشى في اناه دورة المياه» وعند ذاك مال إسباعيل 
نحو كمال وقال وهو يبتسم : 

في الأسبوع الماضي زار والدي وجماعة» لا شك 
نك تذكرهم! 

فنظر كال إليه مستطلعا وهو يتساءل: 


ولف ا م 
فقال الآخر وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى : 
عايدة| 


وقع الاسم من أذنيه موقعًا غريبّاء فغطت غرابة 
موقعه على كافة الانفعالات التى كان حريًا بأن يثيرهاء 
وبدا حيئًا كأما هو صادر عاذ هو لا من لسان 
صاحبه. وكلّ شىء كان متوقّعًا إلا هذاء ومضت 
طقرات :وان" السو اليس ال مقع الو عند أنه 
عايدة؟ يا للتاريخ! كم عامًا مضى دون أن يطرق هذا 
الاسم مسامعه منئذ 21955 أو [197؟ سئّة عشر 
عامًا أو عمر شابٌ يافع بالكال لعلّه أحبٌ ومن 
بالإخفاق! لقد طعن في السنّ حقاء عايدة؟! ترى ماذا 
أصابه ذه الذكرى؟ لا شبىء! ليس إلا اهتمامًا 
عاطفيًا مشوبًا بثيء من الانفعال كمن تس يده موضع 
عملية جراحية ملتئم من قديم فيذكر ما اكتنفها من 
ظرف خطير مفى وانقضى» وثمتم متسائلا : 

عايدة؟ ! 

- نعم؛ عايدة شذاد آلا تذكرها؟ أحت حسين 
شداد! , . , 

وشعر بمضايقة تحت عيني إسماعيل فقال متهرّيًا : 

حسين! ترى ما أشخبار حسين؟ 

من يدري؟ 

وشعر بسخف تهرّبه» ولكن ما حيلته وقد أحسٌ 
بوجهه يسخن رغم برودة فيراير الشديدة؟ وبدا له 
لحب على مثال غريب بعض الشيء. . . كالطعام ! 


تشعر به بقوّة وهو على المائدة. ثم وهو في المعدة) ثم 
وهو في الأمعاء على نحو ماء ثم وهو في الدم عل نحو 
آخرء حبّى يستحيل خلايا ثم تتجدد الخلايا بمرور 
الزمن فلا يبقى منه أثرء لكن ربا بقي منه صدى في 
الأعياق هو ما نسميه بالنسيان. وقد يعرض للإنسان 
وصوت» قديم فيدفم ذا النسيان إلى قريب من 
منطقة الوعي فيسمع الصدى على وجه ماء وإلّا فيا 
هذا الاضطراب؟ أم لعله الحنين إلى عايدة لا باعتبارها 
المحبوبة الى كانت فقد انتهى هذا إلى غير رمجعة ‏ 
ولكن باعتبارها رمرًا للحبٌ الذي كان كثيرًا ما 
بستوحش غيبته الطويلة؛ مجرد رمز كالخربة المهجورة 
التى تثير ذكريات تاريخية جليلة . 

وعاد إسماعيل يقول: 

وتحادئنا طويلًا - أنا وعايدة وأمّي وزوجي - فروت 
لنا كيف هربت هي وزوجها بل وجميع ممثلي الدول 
السياسيّين أمام الجيوش الألمانية حيّى لاذا بأسبانياء 
وأئبا نُقلا أخيرًا إلى إيران؛ ثم رجعنا إلى أيّام زمان 
وضحكنا كثيرا. . . 

مهما يكن من أمر الحبٌ الذي مات فقلبه يبعث 
حنيئًا مسكرّاء وأوتار الأعماق التى تبتكت أحذت 
تصعد أنغامًا بالغة في الخفوت والحزن. وتساءل: 

ما شكلها الآن؟ 

لعلّها في الأربعين. كلا أنا أكبر منها بعسامين, 
عايدة في السابعة والثلاثين» وامتلأت قليلًُا عا كانت. 
لكتّبا ما زالت محتفظة برشاقتهاء ووجهها هو هو تقريبًا 
فيما عدا نظرة عينيها التى أصبحت توحي بالحجذ 
والرزانة» وقالت ها أنجبت ابنًا في الرابعة عشرة وبي 
في العاشرة. . 

هذه هي عايدة إذن» لم تكن حلً) وم يكن تاريخها 
وعماء فقد تمر سلحظات فيبدو ذلك الماضي كأنه لم يكن» 
وهي زوجة وأمّ وتذكر الماضي وتضحك كثيراء ولكن 
ما حقيقة صورتها؟ وماذا بقي من هله الحقيقة في 
الذاكرة؟ فلشدٌ ما تتغيّر المناظر في أثناء حفظها 
بالذاكرة» وهو يود أن يلقي نظرة ثابتة على هذا الكائن 
البشري لعلّه يقف على السرٌ الذي مكنه قديما من أن 
يفعل به الأفاعيل . 


السكرية /ا؟ه 


وعماد رياض إلى مجلسه فخاف كمال أن يقطع 
إسماعيل حديثه ولكنّه واصله قائلا : 

- وسألوا عنك! 

ردّد رياض نظره بينهم| فآدرك أن حديئًا خاضًا يدور 
بيتهما فعدل عنها إلى النارجيلة» أمَا كال فقد شعر بِأن 
حملة وسألوا عنك» توشك أن تودي ِقَوَةَ مناعته كاشد 
الميكروبات فتكاء وتساءل وهو يبذل أقصى ما يملك من 
قوّة ليبدو طبيعيًا : 

لماذا؟ 

- سألوا عن فلان وعلان من أصحاب زمان ثم 
سألوا عنك فقلت مدرس بمدرسة السلحدار وفيلسوف 
كبير ينشر مقالات لا أفهمها في مجلّة الفكر التى لا 
أفتحها فضحكوا ثم سألوا وهل تزوّج؟» فقلت 
كلا , . 

فوجد نفسه يسأل : 

- ماذا قالوا؟ 

لا أذكر ماذا حولنا عن هذا الحديث؟ 

إن المرض الكامن يهدّد بالانفجارء» والذي مرض 
قدبًا بالسلٌ يجب أن يحذر البرد» أمّا حملة سألوا عنك 
فيا أشبهها بأنغام الصبا في بساطة معناها وشديد نفاذها 
في النفس» وقد يطرأ ظرف فتَعر النفس حال عاطفية 
مندئرة بكامل قوتها الماضية ثم تنقطع... كالمطر في 
غير أوانه» على ذلك شعر في هذه اللحظة العابرة بأنه 
انقلب ذلك العاشق القديمء وأنّه يعاني الحبٌ حيا 
بكافة أنفاسه السارّة والحزيدة؛ ولكنّ الخطر لم يكن 
يتهدّده بصفة جدَّيّة فهو كالحالم المكروب الذي يداخله 
شعور ملف بِأنَّ ما يراه حلم لا حقيقة؛ لكنّه تمق في 
تلك اللحظة لو تقع معجزة من الساء فيلقاها ولو 
لبضع دقائق فتعترف له بأئْها بادلته عاطفته يومًا أو 
بعض يوم وأنّ فارق السنّ أو غيره هو الذي فرق 
بينها! لو وقعت هله المعجزة لعزته عن كافة آلامه 
قديمها وحديئها ولعدّ نفسه سعيدًا في الخلق وأنْ الحياة 
لم تقض عبثاء بيد أنْها صحوة كاذبة كصحوة الموت. 
والأحرى به أن يقئع بالنسيان» وهو نصر ولو انطوى 
على هزيمة. وليكن عزاؤه أنّه ليس الوحيد في البرْ الذي 
2 بدخيبة الحياة» وتساءل: 


السكرية 


- متى يسافرون إلى إيران؟ 

- سافروا أمس أو هذا ما أخبرتني به في زيارتها. . . 

- وكيف تلقّت كارئة أسرتها؟ 

د تحت هذا الحديث بطبيعة الحال ولم تشر هي 
إليه ! 

وإذا برياض قلدس ببتف مشيرًا أمامه «انظروا» 
فنظروا إلى الجناح الأيسر من الشرفة فرأوا امرأة غريبة 
الشكل؛ كانت في الحلقة السابعة» نحيلة الجسد, 
حافية القدمين». ترتدي جلبابًا مما يرتدي الرجال. 
وتضع على رأسها طاقيّة لا يبدو تحت حافتها أي أثر 
للشعر فهى صلعاء أو قرعاء أمّا وجهها فبدا غارقًا في 
أصباغ الزواق على هيئة مزرية مضحكة معاء ولم يكن 
فيها ناب واحد على حين راحت عيناها ترسلان في 
جميع الجهات نظرات توذد واستعطاف باسم. تساءل 
رياض باهتمام : 

شحتاذة؟ 

فقال إسماعيل : 

مجذوبة على الأرجح ! 

وقفت تنظر إلى المقاعد الخالية في الجناح الأيسر ثم 
اختارت مقعدًا وجلست,؛ عند ذاك انتبهت إلى أعين 
المحدقين فيها فابتسمت ابتسامة عريضة وقالت: 

- مساء الخثير يا رجال! 

فرخب رياض بتحيتها وقال بحرارة : 

مساء الخير يا حاجة! 

فددّت عنها ضحكة ذكرت إساعيل ‏ على حدّ 
قوله ‏ بالأزبكيّة في عرّها!. .. وقالت: 

حاجّة! نعم أنا كذلك إن كنت تقصد المسجد 
«الحرام»! 

وضحكوا ثلاثنهم فتشجّعت وقالت بإغراء : 

- اطلبوا لى الشاي والنارجيلة ولكم الأجر عند 
الله. . 

فصفق رياض بحاس يطلب لها ما أرادت ومال 
على أذن كيال هامسا وهكذا تبدأ بعض القصص» أما 
العجوز فقد ضحكت في سرور وقالت: 

هذا كرم أيام زمان!... أغنياء حرب يا 
أولادي؟ . . 


فقال كيال ضاحكا: 

نحن فقراء حرب» أي موظفين يا حاجة. . . 
وسأها رياض: 

ما الاسم الكريب؟ 

فارتفع رأسها في كبرياء مضحك وقالت: 

- السلطانة زبيدة على سن ورمح ! 


السلطانة؟! 

- لعم..ء (لم وهى تضحك) . . . ولكنّ رعيتي 
ماتوا! . 

الله يرحمهم! 


الله يرحم الأحياء أما الأموات فحسبهم أنْهم بين 
يدي الله. . . » ختروني من أنتم؟ 

وجاء النادل بالنارجيلة والشاي وهو يبتسم» ثم 
اقترب من مجلس الأصمحاب وساهم : 


- تعرفونها؟ 

- من هي ؟ 

- زبيدة العالمة» أشهر عالمة في زمانهاء ثم انتهى با 
العمر والكوكايين إلى ما ترون! 


خيّل إلى كال أنه لا يسمع هذا الاسم للمرّة الأولى 
أما رياض قلدس فقد ارتفع اهتهامه إلى الذروة فجعل 
يحت أصحابه على أن يعرفوها بأنفسهم ىا طلبت حقٌّ 
تنفتح نفسها للكلام فقال إسماعيل مقَدمًا نفسه : 

- إسماعيل لطيف . 

فقالت ضاحكة وهي ترشف الشاي قبل أن يبرد: 

- عاشت الأسماء ولو أنه اسم لا معنى له. . . 

فضحكواء وفي ذات الوقت سبّها إسماعيل بصوت 
لم تسمعه» أمّا رياض قلدس فقال: 

- رياض قلدس , 

- كافر؟! عشقنى واحد منكم كان تاجرا في 
الموسكي اسمه يوسف غطاسء كان قد الدنيا» وكنت 
أصلبه على السرير حيّى يطلع الصبح! . . . 

وشاركتهم ضحكهم وقد لاحت الغبطة في وجهها 
ثم اتجه بصرها إلى كيال فقال: 

كيال أحمد عبد الحواد. 

وكانت تقرّب قدح الشاي من فيها فتوقفت يدها في 


يقظة طارئة ثم حملقت في وجهه متسائلة : 


قلت ماذا؟ 

فأجاب عنه رياض قلدس: 

كال أحمد عبد الجواد. 

فأخذت نفسًا من النارجيلة وقالت وكأنما تخاطب 
نفسها: 
أحد عبد الجواد! ولكن ما أكث الأسماء! 
كالقروش أيام زمان. . . (ثم مخاطبة كيال). . . والدك 
تاجر النحاسين؟ 

فدهش كيال وقال: 

- نعم , 

فقامت من مجلسها واقتربت منهم حت وقفت أمامه 
ثم ضحكت ضحكة عالية أقوى من هيكلها بأجيال 
وهتفت : 

أنت ابن عبد الحواد! يا ابن الرفيق الغالي! 
ولكئّك لا تشبهه! هذا أنفه حقّاء ولكنه كان كالبدر في 
ليلته. ما عليك إِلَّا أن تذكره بالسلطانة زبيدة وهو 
يحدّئك عبّى بما فيه الكفاية! 

أغرق رياض وإساعيل في الضحصك؛ على حين 
ابتسم كيال وهو يغالب ما ركبه من ارتباك, وهنا فقط 
تذكر حديث ياسين في الزمن الخالي» بل أحاديئه عن 
أبيه وزبيدة العالمة! وعادت تسأله : 

كيف حال السيّد؟ انقطعتٌ من زمن طويل عن 
حيّكم الذي نبذني» أنا الآن من أهل الإمام. ولكتي 
أحنّ إلى الحسين فأزوره كل حين ومين» وكنت مريضة 
وطال بي المرض حبّى ضاق بي الجبران فلولا الملام 
لرموني في القبر حيّة» كيف حال السيد؟ 

فقال كال في شيء من الوجوم : 

- توق منذ أربعة أشهر. . . 

فقظبت قليلا وقالت: 

ال زعة الهو با اعفسارق: كان رجلا ولا كل 
اران 

لم عادت إلى مجلسهاء وبغتة ضحكت ضححكة 
عالية» وما ليث أن ظهر صاحب القهوة عند مدخل 
الشرفة وهو يقول لها منذرا: 

كفاية ضحك؛ سكتنا له دخخل بحباره» كثّر شمير 
البكوات على إكرامهم لكء» ولكن إن عدت إلى 


السكرية 6؟ه 


الزياط فالباب من هنا. . . 

نلاذت بالصمت حبّى ذهب الرجلء ثم نظرت 
إليهم باسمةء ثم سألت كهال: 

وأنت كأبيك أم لا. . .؟ 

وأتت بيدها حركة شاذة فضحك الأصدقاء وقال 
إسماعيل : 

- إنه لم يتروج بعد!. . . 

فقالت في لمجة ارتياب عابث : 

الظاهر أنك ابن أونطة! . . . 

فضحكواء ثُمْ مض رياض» ومفى إليها فجلس 
إلى جانبها وهو يقول: 

حصل لنا الشرف يا سلطانةء ولكيّى أودٌ أن 
أسمع لك وانت تَحدّئينا عن أيَام السلطنة!. . . 


١ 

م يبق إلا ثلث ساعة ثم تلقى المحاضرة. أمّا قاعة 
إيوارت فقد قاربت الامتلاء» إِنَّ مستر روجر ‏ كما قال 
رياض قلدس - أستاذ خطيرء وهو كأخطر ما يكون 
حين يتكلّم عن شكسبير. أجل قيل إِنْ المحاضرة لن 
تخلو في النباية من نوع من الدعاية السياسيّة ولكن ماذا 
مهم ف ذلك ما دام المحاضر هو مسثر روجر والموضوع 
هو وليم شكسبير. غير أنْ رياض كان مغتمًا واجماء 
ولولا أنه هو الذي دعا كبال إلى ساع المحاضرة 
لتخلّف عن شهودهاء وكان حزيئًا كما ينبغي لرجل 
مثله تستأثر السياسة باهتيامه كل هذا الاستثثار. وكان 
يمس في أذن كال بانفعال غير خافب: 

- يُفصل مكرم من الوفد! كيف تقع هذه المخنوارق؟! 

ولم يكن كمال قد أفاق من الخبر كذلك فهر رأسه في 
وجوم دون أن ينبس : 

- إِنّْا كارثة قوميّة يا كيال» ما كان ينبغي أن 
كاري الأمور سق | ضيف 

- نعمء ولكن من المسثول؟ 

النحّاس! قد يكون مكرم عصبيّاء ولكنّ الفساد 
الذي تسرب إلى الحكومة أمر واقع ولا يصح السكوت 
علية . 


فقال كيال باسما: 

- دعنا من الفساد الحكومي ‏ كورة مكرم ليست على 
الفساد بقدر ما هي لضياع النفوة . . . 

فتساءل رياض في شىء من التسليم : 

- أيباع مكرم المجاهد بعاطفة زائلة؟ . . 

فلم يتمالك كبال أن ضحك قائلا : 

- لقد بعت نفسك أنت هذه العاطفة الزائلة! . . . 

ولكن رياض قال دون أن يبتسم : 

أجيني ! . . . 

مكرم عصبيّ » شاعر ومغْن! عنده أن يكون كل 
شيء أو لا يكون شيئًا على الإطلاق» وجد نفوذه المأثور 
يتقلّص فثار» ثم وقف لهم وقفته في مجلس الوزراء 
مندّدًا علانية بالاستششاءات فاستحال التفاهم أو 
التعاونث. حدث يؤسف له!. 

- والنتيجة؟ 

هناك السراي تبارك ولا شك هذا الانشقاق 
الجديد في الوفد» وستحتضن مكرم في الوقت المناسب 
كا احتضنت غيره من قبل. سنرى من الآن فصاعدًا 
مكرم وهو يلعب دوره التديد مع الأقليّات السياسيّة 
ورجال السراي» إمَا هذا وإمّا العزلة» لعلّهم يكرهونه 
كا يكرهون النحخاس أو أكثرء ومنهم أناس لم يكرهوا 
الوفد إلا كراهة في مكرم ولكدّم سيحتضنونه ليهدموا 


به الوفد. أمّا عن المصير بعد ذلك فلا يمكن التنؤ 


لك 0,0 
فعبس رياض وقال: 

- صورة بشعة, أخطأ الاثنان» النحاس ومكرمء 
إن قلبي متشائم من هله الحركة. . . 

ثمٌّ بصوت أشدٌ انخفاضا: 

- سيجد الأقباط أنفسهم بلا مأوى؛ أو يأوون إلى 
حصن عدوهم اللدود «الملك» وهو مأوى لن يدوم لهم 
طويلاء وإذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الأقليّات 
فكيف يكون الحال؟ 

فتساءل كيال متغابيا: 

- لماذا تدفع بالأمر خارج حدود الطبيعة؟ مكرم 
ليس الأقباط والأقباط ليسوا مكرم» إنه شخص ذهب 
أما مبدأ الوفد القومئ فلن يذهب. . . 


فهرّ رياض رأسه في أسف سائحر وقال: 

هذا ما قد يكتب في الحرائد. أمَا الحقيقة فهي ما 
أعني» لقد شعر الأقباط بأثْهم طردوا من الوفدل» وهم 
يتلنُسون الأمان وأحشى ألا يظفروا به أبدّاء لقد 
جاءتني السياسة أخيرًا بعقدة جديدة كعقدة الدين» 
فا كنت أنبذ الدين بعقلي وأميل إليه بقلبيى بصفته 
رابطة قوميّة فكذلك سأنبذ الوفد بقلبي وأميل إليه 
بعقلي؛ إذا قلت إني وفدي فقد كذّبت قلبي وإذا قلت 
ا عدو للوفد نخنت عقلي, إثها كارثة لم تخطر لي على 
بال ء والظاهر أنّه مقضىّ علينا نحن الأقباط بأن نعيش 
في شخصيّات ا لو كانت مجموعتنا فردًا 
واحذا لحن . . . 

شعر كيال بامتعاض وألىء وبدت له لحظطتذاك 
جماعات البشر وكأئها تمل مهزلة سائهرة ذات نباية 
مفجعة, ثم قال في صوت لا يلم عن إيمان : 

عسى أن تكون مشكلة وهميّة. إذا نظرتم إلى 
مكرم كرجل سياسيّ لا الأمة القبطيّة جميعًا! . . . 

- هل ينظر إليه المسلمون أنفسهم على هذا النحو؟! 

هكذا أنظر إليه أنا! 

فابتسمت شفتا رياض رغم كابته وقال: 

- إن أتساءل عن المسلمين فا دخلك أنت؟ 

- أليس موقفنا واحدذا أعني أنا وأنت؟ 

- بلى مع فارق بسيط. وهو أنك لست من 
الأقليّة... (ثمٌ وهو يبتسم) لو عشت في عصر الفتح 
الإسلامي وتكشف لي الغيب لدعوت الأقباط جميعًا إلى 
الدخول في دين الله! , .. 

نم لاقي يسيع 

عاإلك لا تصعىي ال 

أجل ! كانت عيناه مصوبتين نحو مدخل القاعةع 
رنظر رياض إلى حيث ينظر فرأى فتاة في مقتبل العمر, 
ترئدي فستانًا رماديًا بسيطاء في هيثة الطالبات» وقد 
جلست في المقاعد الأماميّة المخصصة للسيّدات. 

- تعرفها؟ . . , 

الا أدوف اين 

وانقطعت فرصة الكلام إذ ظهر الآستاذ المحاضر 
على المنصّة ودوّت القاعة بالتصفيق الحادٌ. ثم ساد 


الصمت الذي تبدو فيه السعلة كالذنب الفاضح , ثم 
قدّمه مدير الجامعة الأمريكيّة بكلمة مناسبة. ثم بدأ 
الرجل في إلقاء محاضرته. وظلٌ كيال أكثر الوقت متجه 
العينين نحو رأس الفتاة في تساؤل واهتام. وكان قد 
رآها مصادفة عند دخوطهاء فدهمه منظرهاء وانتزعته 
بقَرّةَ من تيار أفكاره. ثم قذفت به في الماضي عشوي 
عامًا ثم استردّته إلى الحاضر وهو يلهث. خيل إليه 
أل الأمر أنه يرى عايدة» غير أنْها ل تكن عايدة دون 
. . هذه الفتاة الى لا يمكن أن تجاوز العشرين» 
ول يتح له وقت كاف كي يتفسص قسياتها ولكنْ جملة 
منظرها كان فيه الكفايةء هيئة الوجه والقامة والروح 
ومجتلى العينين» أجل لم ير هاتين العيئين في غير وجه 
عايدة من قبل. أتكون شقيقتها؟ خطر له هذا الرأي 
أوّل ما خخطرء بدورء ولم يغب عنه الاسم هله المرّة 
وسرعان ما ذكر صداقتها له في الماضى البعيدء ولكن 
هيهات ‏ أن تكون حمًا هي أن تتذكره المهمم أن 
صورتها أيقظت قلبه؛ ردّته ولو إلى حين إلى شيء من 
تلك الحياة الغامرة التي اكت مها زمشاء فهو في 
اضطراب» يسمع إلى الأستاذ المحاضر دقائق ثم ينظر 
إلى رأس الفتاة أكثر الوقتء. ثم يغرق في موجة 
الذكريات» مستشعرًا في أناة جملة المشاعر التي تتلاحم 
وتصطرع في وجدانه. فلأآتبعها لأعرف حقيقتهاء لا 
غاية لي ولكنّ الملول مشَّاءء إن أتوق لأيّ شيء قد 
يمسح عن روحي الصدأ المتكائف فوقها. وتريئص مبينا 
هذه النّة» ترى أطالت المحاضرة أم قصرت؟. لا 
يدري. ولكنّه عند انتهائها أفضى بغرضه إلى رياض 
ثم ودّعه وسار في أثر الفتاة. تابع بعناية مشيتهاء مشيه 
رشيقة. قامة هيفاع لا يستطيع أن قاو نتن مسقت 
لآنّ الأخرى لم يعد متوكّدًا منهاء أمَا القامة فأغلب 


رئحه .: 


الظنّ أئْها هي هي» وكان شعر الأخرى «الاجرسون؛ 
أنَا هذا الشعر فغزير معقوصء ولكنّ اللون الأسود 
واحد في الحالين ما في ذلك شلكُ. ولم يستطع أيضًا أن 
يتشخص وجهها على محطة الترام لازدحامها بجمهور 
المستمعين» ولكئها استقلت الترام رقم ١١‏ الذاهب إلى 
العتبة وانحشرت في الحريم فاستقله وراءها وهو 
يتساءل ترى أهي في طريقها إلى العبّاسيّة أم إن ما 


السكرية 41 


بفترضه ليس إلا أضغاث أحلام؟ . عايدة لم تستقل 
ترامًا في حياتها قط. كان رهن أمرها سيّارتان» أما هذه 
المسكينة . . . ! وداخله حزن كحزنه يوم استمع إلى 
قضّة إفلاس شدّاد بك وانتحاره. وأفرغ الترام أكثر 
حمولته في العتبة فاختار موقفًا غير بعيد منها فوق طوار 
المحظةء وجعلت تنظر صوب الناحية التي تترقب بجيء 
الترام منبا فرأى جيدها الطويل النحيل» ذلك العهد 
القديم» ثم لاحظ أن بشرتها قمحيّة اللون مع هيل إلى 
البياضء, ليست حمريّة كالصورة الذاهبة» فشعر لذلك 
بأل أسف منذ تبعهاء كأنما تبعها ليرى الأخرى. ثم 
جاء ترام العبّاسيّة فتأمّبت للركوب. وما وجدت 
الحريم مزدحمة استقلّت عربة الدرجة الثانية» وم يتردّد 
فكان في أعقاهباء وجلست فجلس إلى جالبهاء ثم 
امتلأت المقاعد على الصفين» ثمٌ امتلأ ما بيهم 
بالواقفين. ووجد لتوفيقه في الجلوس إلى جانبها ارتياخا 
لا مزيد عليه. غير أنْ جلوسها بين جمهور الدرجة 
الثائية أحزنه مرّة أخرى؛ ريما لما يحدثه ذلك من تباين 
عند مطابقة الصورتين» القديمة الخالدة والمائلة إلى 
جانبه. وكان منكبه يلامس منكبها ملامسة خفيفة كلما 
ند عن الترام حركة مفاجئة خاصّة عند القيام 
والوقوف. وجعل يلاحظها كلما أمكن ويتفخصها ما 
استطاع. هاتان العينان السوداوان الساجيتان؛ 
والحاجبان المقرونان؛ والأنف السو اللطيف. والوجه 
البدرئ كانه ينظر إلى عايدة. حقًا؟ كلاء ثمّة تباين 
في لون البشرة» ولسة اختلاف هنا أو هناكء لا يذكر 
إن كانت إلى الزيادة هي أم إلى النقصانء ومع أن 
تناينبها كان يسيًا إِلَا أن إحساسه به كان خطيرًا فهو 
كدرجة الحرارة الواحدة التي قد تكون فاصلا بين 
الصحّة والمرضء ولكنّه كان في الوقت نفسه حيال 
أقرب مثال إلى عايدة التي خيّل إليه أنه بات يذكرها 
أوضح من أيّ وقت مضى على ضوء هذا الوجه 
الجميل. والجسم لعلّه هو هو. ما أكثر ما تساءل عنه؛ 
فلعلّه الآن يراهء وهو رشيق نحيل» صدره آية في 
الحياء, كذلك هو في جملته. لا يمت بسبب إلى .جسم 
عطيّة البض المدملج الذي يتعشّقه! فهل فسد ذوقه 
على مر الأيّام؟ أو إن حبّه القديم كان ثائرًا على غريزته 


7" السكرية 


الكامنة؟. بيد أنه كان حبًا سعيدًا حالما ثمل القلب 
بنشوات الذكريات» وكانت ملامساته المتقطعة لما 
تريده نشوة وإغراقا قُِ التامئلات» إِنَّه لم يمس عايدة, 
كان يراها أبدًا مستحيلة المنال» أمّا هذه الصغيرة فهي 
تسير في الأسواق وتجلس في تواضع بين جمهور الدرجة 
الثانية» فا أشدّ حرنه! وذلك التباين الطفيف الذي 
أحنقه وخيّب أملهء وقضبى على حبّه القديم بأن يبقى 
لغرًا إلى الأبد. وجاء الكمساري مناديا «التتذاكر 
والأبونيهات» ففتحت حقيبتها وأخحرجت تذكرة 
الاشتراك وانتظرت حتى يصل الرجل إليها. فاسترق 
إلى التذكرة النظر حتّى عثر على اسمها وبدور عبد 
الحميد شدّاد... طالبة بكليّة الآدابى لم يعد ثمّة 
شكَء إِنْ قلبى يخفق أكش مما ينبغي» لو أستطيع أن 
أنشل هذا الاشتراك! كي أحتفظ بأقرب صورة 
لعايدة, آه لو كان في الإمكان هذاء مدرّس في 
السادسة والثلاثين ينشل طالبة بكليّة الآداب! يا له من 
عنوان مثير تتمنّاه الحرائد. فيلسوف فاشل في -حدود 
الأربعين! ترى ما سن بدور؟ لم تكن تجاوز الخامسة 
عام 1473 فهي ني الواحدة والعشرين من عمرها 
السعيد؛ السعيد؟!. لا قصر ولا سيّارة ولا خدم ولا 
حشمء ولم تكن دون الرابعة عشرة حين حلت الكارثة 
بأسرتباء وهو عمر حر بأن يدرك معنى الكارئة 
ويذوق الألم؛ تالت المسكينة وذعرت» ابتليت بهذا 
الشعور القاسى الذي أصبحت به جد خبير» جمعنا الألم 
على تفاوت في الزمن كيا جمعتنا الصداقة القديمة 
المنسيّة» وجاءها الكمساري فسمعها وهي تقول له 
«تفضل» ثم ناولته التذكرة. وطرق الصوت مسمعه 
كنغمة قديمة محبوبة طواها النسيان دهرًا طويلًا ثم 
انبعثت في السمع بكل حلاوتها وجميع ذكرياتها فأحيت 
فترة ساويّة من الْزْمن» دوّمت أذنه في مملكة الطرب 
الإلهيّة مستهدفة أحلام الزمان الغابرء» هذه الئغمة 
الدافئة الرخيمة المفعمة بسحر الطرب, أسمعيني 
صوتك وما هو بصوتك.» يا صديقتي القديمة السيئة 
الحظ. من حسن الخظّ أنْ صاحبة هذا الصوت 
الأصليّة ما زالت تنعم بمثل حياتها الأولى» لم ترتق 
إليها الأحزان التى أغرقت أسرتمكء أمًا أنت فقد 


انحدرت إلينا نحن جمهور الدرجة الثانية» ألا تذكرين 
صديقك الذي كنت تتعلّقين بعنقه وتبادلينه القبل؟ 
كيف تعيشين اليوم يا صغيرقي؟ وهل تعملين مثلي في 
الغباية مدرّسة في إحدى المدارس الابتدائية؟ ومرٌ الترام 
بمكان القصر القديم الذي قام في موضعه بناء ضخم 
جديدء وقد رآه قبل ذلك في المرّات القلاثئل التي زار 
فيها العباسيّة منل انقطاعه التاريخئ عنها خاضة في 
العهد الآخير وهو يتردد على بيت فؤاد جميل 
الحمزاوي . العباسية نفسها تغيرت كبيتكم يا صغيرتي» 
اختفت قصورها وحدائقها التي عاصرث حبى وحزني» 
وقامت مكانها العمارات الضخمة المكتظّة بالسكان 
والحوانيت والمقاهي والسينيات» فليسر بذلك أحمد 
المفتون بمتابعة صراع الطبقات أمَا أنا فكيف أشمت 
بالقصر وآله على حين أن قلبي مطمور في أنقاضه؟ أو 
كيف أحتقر المخلوق البديع الذي لم يذق نكد العيش 
ولا زحمة الشعب إذ كان يخطر كالمعبى العميل وقلبي له 
ساجد؟ 

وعندما توقف الترام في المحطة التالية لقسم الوايل 
غادرته فتبعها ووقف على طوار المحطة يراقبها. فرآها 
وهي تعبر الطريق إلى شارع «ابن زيدون» الذي يواجه 
المحظة مباشرة. كان شارعًا ضِيِّقًا تقوم على جالبيه 
بيوت قديمة من بيوت الطبقة الوسطى وتغطي وجهه 
الممهّد بالأسفلت الأثتربة والحصى والأوراق المبعثرة وقد 
دخلت ثالث بيت إلى اليسار من باب ضيق تلاصقه 
دكان كوّاء. ووقف ينظر إلى الطريق والبيت في صمت 
واجم. ذلك المكان الذي تقيم فيه اليوم سنيّة هائم 
حرم شدّاد بك! وهذه الشقّة لا يزيد إبجارها على ثلاثة 
جنيهات» وليت سنية هانم تخرج إلى الشرفة ليلقي 
عليها نظرة ويقيس ما حاق بها من تغيّر لا شك أنه 
خطير؛ ولعله لم ينس بعد منظرها النفيس حين كانت 
تغادر السلاملك متأبطة ذراع زوجها إلى حيث تنتظر 
السيّارة» كانت تختال عجبًا في معطفها الوثير وتلقي 
على ها حوها نظرات مليئة بالسؤدد والطمانينة» ولن 
يمنى الإنسان بعدوٌ أَشْدٌ فتكا من الزمن. في هذه الشقّة 
نزلت عايدة في أثناء إقامتها بالقاهرة؛ ولعلّها جلست 
بعد العصارى في هذه الشرفة البالية» ولعلّها قاسمت 


أمّها وأخختها فراشهما الواحد ما في ذلك ريبء فليتني 
علمت بوجودها في الوقت المناسبء وليتني رأيتها بعد 
ذلك التاريخ الطويل» كان ينبغي أن أراها وأنا متحرّر 
من استبدادها, يي أعرفها على حقيقتهاء وبالتالي كي 
أعرف نفسي أ: نا ولكن ضاعت هذه الفرصة 
الثاذرة . , , 


5 


جلس كمال بين طلبة وطالبات قسم اللغة 
الإنجليزيّة بكلّيّة الآداب يصغي إلى الدرس الذي 
يلقيه الأستاذ الإنجليزي» لم تكن أوّل هرّة يحضر فيها 
هذا الدرس ولا آخر مرة فيما بدا لهء ولم يكن قد وجد 
صعوبة تذكر عند الاستئذان في الحضور- كمستمع - 
لتابعة الدروس المسائيّة التي تلقى ثلاث مرّات في 
الأسبوع» وأكثر من هذا فإِنْ الأستاذ قد رحب به 
عندما علم بأنه مدرّس لغة إنجليزيّة. أجل كان غريبًا 
بعض الثبىء أن يعنى يمتابعة هذه الدروس في أواخر 
العام الدراميئ ولكنّه علّل ذلك أمام الأستاذ بألّه يقوم 
ببحث استدعى متابعة هذه المحاضرات رغم ما فاته 
منباء وكان قد علم بوجود بدور في هذا القسم عن 
طريق رياض قلدس الذي عرفه بدوره عن طريق 
صديقه سكرتير الكلَيّة. وبدا منظرهء ببذلته الأنيقة 
ونظارته الذهبيّة وطوله ونحوله وشاربه الغليظ وشعيراته 
البيض التي تلتمع في سوالفه إلى رأسه الضخم وأنفه 
الكبيرء بدا كلّ أولئك ملفتا للأنظار خاصّة وهو يجلس 
بين عدد محدود من الشباب الغض» فكم بدوا 
كالمتسائلين وكم حدجوه بنظرات لم يرتح لها. حتّى 
ا 00 
وتعليقات هو أدرى بها وأخبرا. هو نفسه كان يعجب 
هذه الخطوة الخارقة التي أقدم عليها دون مبالاة على ما 
جشّمته من جهد وحرج, ما بواعتها الحقيقية وما 
هدفها؟. لا يدري شيئًا على وجه التحقيق ولكنّه ما إن 
رأى بارقة نور في ظلمة حياته الداكنة حتى انزلق 
يتسمّته وهو لا يلوي على شيء مدفوعًا بقوى هائلة من 
اليأس والأشواق والأمل» غير مبال بما قل يعثر به في 


السكرية مه 


طريق محفوف بالتزمت والتقاليد من ناحية» وبالسباب 
تونب للسخرية من ناحية أخرى. كان غارقًا في 
اليأس والملل فجرى ملهوفا وراء هذا الثبىء الذي لا 
يشْكُ في أنه تسلية وأىّ تسليةع ويا ران عياة 
وبحسبه أنه القلب - يتم بالزمن وينشد الأمل ويأمل في 
المسئة» بل وها هو قلبه يخفق وكان قبل ذلك ميئاء 
وكان يشعر بضيق الوقتء. فالعام الدراسيَ يشارف 
عبايته المحتومة. بيد أن نهايته لم تضع هباءء فبدور قد 
رأته كما رآه الجميع. ولعلّها شاركت فيا يدور من 
همس حولهء إلى أنْ عينيها قد تلاقتا أكثر من مرّة 
ولعلّها طالعت في عينيه ما يضطرم في ذاته من الاهتهام 
واللإعجابء. من يدري؟ ونضاًا عن هذا كله فعند 
العودة يستقلان ترام الجيزة معًا ثم ترام العبّاسيّة, 
وكثيرًا ما يجلسان في مكان واحدء فباتت تعرفه جَيْدًاء 
وهو نجاح لا بأس به لشخص بعيد عن حيّها كله 
خاضة إذا كان مدرّسا حريصًا على مظاهر مهنته وما 
تقتضيه من استقامة ووقار. أمّا عن غايته من هذا كله 
فلم يش على نمسه في تحقيقهاء لقد دبّت فيه الححياة 
بعد موات فتهالك عليهاء وهو تواق بكل قوّة نفسه 
المعذّبة إلى أن يعود ذلك الإنسان الذي تعتلج في 
وجدائه المشاعر وتبيم في عقله الخواطر وتنجلي في 
حواسّه المناظرء وأن يسى مبذا السحر ضحره وسقمه 
وحبرته أمام ألغاز لا تحل. كأئّها الخخمر ولكتّها أعمق 
متاعًا وألطف عاقبة. وفي الأسبوع الماضى حدث شيء 
تأر له قلبه يما تأثْرء فقد عاقه إشرافه على النشساط 
الرياضيّ بمدرسة السلحدار عن الوصول إلى الكليّة في 
الوقت المناسب» فدخمل حجرة الدرس متأخخراء 
والتقت عيناهما عند دخوله وهو يسير على أطراف 
أصابعه أن محدث صوثّاء التفت عيناهما التقاء خاطفا 
سحريًا وسرعان ما أرخمت جفوبا فيهما يشبه الحياء. لم 
تكن إذن مجرّد نظرة تلتقي فيها عيئاه غخايدثان. وبات 
مرجحًا أنها استشعرت شيئًا من الحياءء فهل كان يقع 
هذا لو كان نشاط عينيه قد ضاع عبئًا؟! الصغيرة بانت 
نستحي من نظراته فلعلّها أحذت تدرك أنّْها ليست 
بالنظرات البريئة التي توجّهها المصادفة. وأثار ذلك في 
نفسه حملة من الذكريات واستدعى كثيرًا من الصورء 


السكرية 


حبّى وجد نفسه يتذكر عايدة ويتخيّلهاء ولكنه لم يدر 
ماذاء فإِنْ عايدة لم تغضٌ الطرف حياء حياله قظ. 
فلعلٌ شيئًا آخر الذي ذكّره مباء لفتة أو رنوة أو ذلك 
السرّ الساحر الذي ندعوه بالروح. وأوّل أمس حدث 
شىء آخر له خطورته كذلكء. انظر كيف رّت الحياة 
إليك! قبل ذلك لم يكن لشيء خطورة قظء أو لم تكن 
تضفى الخطورة إلا على هذه الألغاز العقيمة كالارادة 
عك لوقيو اولاق نه غدل اللة الحياة عند 
برجسون, كانت اللحياة كلّها صيّاء لا خطر لماء انظر 
اليوم كيف أنْ رنوة أو لفتة أو ابتسامة قد تزلزل لما 
الأرض حميعًا! حدث ذلك وهو ماض إلى الكلَيّة قبل 
الخامسة مساء. ترقا تحدرقة لزان فا يدري إلا 
وبدور وثلاث فتيات يطالعنه على أريكة ينتظرن عليها 
ميعاد الدرس., والتقت عيناهما التقاء عميقًا كيا وقع ف 
حجرة الدرس.», وكان يودٌ أن محيِيهنٌ عند الاقتراب 
ولكنّ الممثى الذي يسير فيه عرج به بعيدًا عبن كانه 
أبى أن يشترك في هله المؤامرة العاطفيّة المرتجلة» ولا 
ابتعد قليلا التفت وراءه فرآهنّ ببمسن في أذنها 
باسمات وهي مسندة رأسها إلى راحتها كأنئما تخفي 
وجهها! ما هذا المنظر البديمع؟! لو كان رياض معه 
لأحسن تحليله وتفسسيرهء ولكنه لا يحتاج إلى براعة 
رياض. لا شك أتْمنّ همسن لما عنه حي أخفت 
وجهها حياء! هل ثمّة معنى غير هذا؟. فلعلٌ الصبٌ 
فضحته عيونه, ولعله جاوز المدى وهو لا يدري حتى 
صار أحدوثة. وماذا يكون من أمره لو القلب الهمس 
تعريضًا يتمازح به الطلبة الشياطين؟!. وفكر جادًا في 
الانقطاع عن الكليّةء ولكتّه وجدها تجلس إلى جانبه 
في ترام العبّاسيّة ذلك المساء يا حدث أوْل يوم تبعها 
فيه! وترصد التفاتها ناحيته لبحيّيها وليكن ما يكون. 
فلا طال انتظاره بعض الشيء التفت هو ثم تظاهر بأنه 
فوجئ بجلوسها لصقه فهمس في أدب : 

شماه ار 

فنظرت نحوه كالداهشة ‏ لم ترك له عايدة ذكرى 
تصِئْم أنثوي من أي نوع كان ثم *مست: 

ا 

زميلان يتبادلان التحيّة ولا غبار على ذلك» لم يكن 


مع أخختها ببذه الجرأة» ولكتّها كانت الكبرى وكان 

ب تعلم. 2 , 

لا تريد أن تدفع الحديث من ناحيتها! 

- من المؤسف نئي ١‏ أتابع المحاضرات إلا 
أخيرًا . . 

لعم.,., 

- أرجو أن أعوّض ما فاتني في المستقبل. . . 

فابتسمت دون أن تنبس» «زيديني من سماع 
صوتك فإِنّك النغمة الوحيدة من الماضي التي لم يغبّرها 
الزمن». . . 

ماذا تنوين بعد الليسانس؟ معهد التربية؟ 

لا حاجة بي إلى ذلك لأنْ الوزارة محتاجة إلى 
مدرّسات ومدرّسين بسبب ظروف الحرب والتوسّع 
الجديد في التعليم . . . 

طمع في نغمة واحدة فوهب نا كاملا! 

إذن ستعملين مدرسة! 

- نعم الى لا؟ 

إنبا مهنة شاقة سليئي عنها . 

لعمع أوه» نسيت أن أقدّم نفسي, كيال أحمد عبد 
الحواد, 

فقال باسما: 

- ولكنّك لم تشرّفيني بعد؟ 

- بدور عبد الحميد شدّادا 

0 در كا كمن فوجوع بثىء فريد: 

عبد الحميد شذاد! ومن العباسيّة؟ حضرتك 
يق سين شداد؟ 

فلمعت عيئاها ف اهتمام وقالت: 

- نعم. 

فضحك كال كأتما يضحك عجبًا من غرابة 
المصادفات وقال: 


يا سلام! كان أعرّ أصدقائي: وقضينا معًا أيَام 
سعيدة جدّاء ربّاه! أنت أخته الصغيرة التى كانت 
تلعب في الحديقة؟ ْ 

فحدجته بنظرة استطلاع . هيهات أن تتذكره! «في 
ذلك العهد كنت مغرمة بي كبا كنت مغرمًا بأختك». 

لا أذكر شيئًا طبعًا., , . 

طبعّاء هذا تاريخ يرجع إلى عام 1477 وما بعده 
حتّى عام 2١1977‏ تاريخ سفر حسين إلى أورباء ماذا 
يفعل الآن؟ 

- في فرنسا في القسم الجنونيّ الذي انتقلت إليه 
الحكومة الفرنسيّة عقب الاحتلال الألمانٌ. . . 

- وكيف حاله؟ من زمن طويل انقطعت عب أخخاره 
ورسائله , . . 

د كين 1 

نطقت بها في لهجة نمت عن رغبة في الخوض في 
الموضوع أكثر من ذلك» وتساءل كيال والترام يمر بمكان 
القصر القديم: ترى ألم يخطئ بمكاشفتها بصداقته 
القديمة لأخيها؟ ألبس في ذلك حدًا من حرّيّته فيها هو 
بسبيله؟ ولا جاءت المحظة التالية لقسم الوايل حيته 
وغادرت الترام: فلبث في مكانه كأئما نسي نفسه. كان 
طوال الطريق يتفخصها كلما سنحت فرصة لعله يبتدي 
إلى الس الذي سحره قديماء ولكنه لم يجده وإن شعر 
مرارًا بأنه منه قريب. وكانت تبدو لطيفة وديعةء 
وكانت تبدو قريبة المنال» وهو الآن يشعر كأنما يعاني 
خيبة أمل غامضة وحزنًا غير بن الأسباب. لو أراد 
الزواج من هذه الفتاة ما اعترضه عائق جدَيّ. أجل 
إنها تبدو مستجيبة ملبّية» رغم فارق السنْ المحسوس 
أو بسبب فارق السنٌ؟! ثم إنْ التجارب قد علمته أن 
شكله لن يعوقه عن الزواج إذا أراده. وهو إذا تزوجها 
انتقل بقدرة قادر إلى عضويّة أسرة عايدة» ولكن ما 
كله هذا الخثيال السخيف؟ وما عايدة الآن بالنسية 
إليه؟ الحقٌّ أنه لا يريد عايدة, ولكنّه لا يكف عن 
التطلّع إلى معرفة سرّهاء لعلّه يقتنع في الأقل بأن 
أزهى عصور العمر لم يضع هباء. ووجد رغبة - طالما 
ألحّت عليه على فترات من العمر ‏ في مراجعة كراسة 


السكرية هه 


الذكريات وعلبة الملبس التي أهديت إليه ليلة الزفاف . 
ثم جاش صدره بالحنين حيّى تساءل ترى أيمكن أن 
يقم الإنسان في الحبّ وهو يحسن فهمه ويلم بعنئاصر 
تركيبه البيولوجيّة والاجتاعيّة والنفسيّة؟ ولكن هل يقى 
الكيميائيَ علمه بالسموم من أن يموت بها كضحاياها 
الآخرين؟ أو فلاذا يجيش صدره هذا الحيشان؟ رغم 
ما مني به من خيبة الأمل» رغم الفارق الكبير بين 
الماضي والحاضرء رغم أنه لا يدري إن كان من أهل 
المافي أم من أهل الحاضر. رغم هذا كله قفصدره 


3 


هنا حديقة الشاي». سماؤها أفرع وغصون ريانة. 
ومرتاد النظر البط السابح في البحيرة الزمردية, 
والجبلاية فيها وراء ذلك» واليوم عطلة مجلّة الإنسان 
الجديد» وها هى سوسن حماد تبدو رائعة في فستان 
أزرق خفيف كشف عن ذراعيها السمراوين» وهي 
آخذة زيئتها ولكن في لباقة وحذرء وكان قد مضى على 
زمالتهها عام فجلسا متقابلين يضىء وجهيه) ابتسام 
التفاهم. بينها مائدة عليها دورق ماء وكأسا دندورمة 
م يبق فيها إلا ذوب ثالة الحليب الموزد بالفراولا» 
«إئها أعزّ شيء لدي في هذه الدنياء أدين لما بمسراتي 
جميعا وهي قبلة آماليى أيضًاء ونحن زميلان محلصان» 
لم ينطق الحبٌ بيننا ولكثني لا أشكٌ في أثنا متحابّان. 
ومتعاونان كأحسن ما يكون التعاون» بدأنا رفيقين في 
ميدان الحرّيّة؛ وعملنا يدا واحدة, وكلانا مرشح 
للسجن, وكنت كلما نوؤهت بجإالها حملقت في وجهي 
محتجّة وزجرتني مقطبة كأنْ الحب شيء لا يليق بنا 
فأبتسم وأعود إلى ما كنا فيه من عمل» ويوما قلت 
لها: «إني أحبّك.. . إني أحيّك. . . فافع ما بدا 
لك». فقالت لي: وهذه الحياة هي المحذ كل الحد 
وأنث تعيث»: فقلت لمهحا: دف مثلك أرى أنْ 
الراساليّة في طور الاحتضار وأئّها استنفدت كافة 
أغراضهاء وأنّ على الطبقة العاملة أن تطلق إرادتها 
لتدور آلة التطوّر إذ إن الثمرة لن تسقط وحدهاء وإِنْ 


“48 السكرية 


علينا أن نخلق الوعي ولكن بعد ذلك أو قبل ذلك 
أحبّك» فقظبت تقطيبة متكلفة بعض الشيء وقالت: 
«إِنْك تصرّ على إسماعي ما لا أحبٌ». وشجعني شخلو 
حجرة السكرئارية فهويت إلى وجهها فجأة ولشمت 
خحدّها فحدجتني بنظرة قاسية وأكبّت على ترجمة ما تبقى 
من الفصل الثامن من كتاب نظام الأسرة في الا حصاد 
السوفيتي الذي كنا نترحمه معاأ. 

هذا الحرٌ كله في يونيه فكيف إذا جاء يوليو 
وأغسطس يا عزيزي؟ 

- يبدو أن الإسكندريّة لم تخلق لأمثالنا! . 

فضحك قائلا : 

- ولكنّ الإسكندريّة 1 تعد مصيفاء كانت كذلك 
قبل الحرب أمّا اليوم فالاشاعات قد جعلتها خخرابا, . , 

الأستاذ عدلي كريم يؤكّد أنَّ أغلبيّة سكاءها قد 
هجروها وأنْ طرقاتها ملأى بالقطط المحائمة على 
وجهها! 

- هي كذلك. وعم قليل يدخلها رومل 
حبر 

- وسوف يلتقي في السويس بالجيوش اليابانية 
الزاحفة على آسيا وبعود العهد الفاشسقّ كا كان في 
العصر الحجريٌ ! 

فقالت سوسن في شيء من الانفعال: 

- روسيا لن تنهزم؛ وإنْ آمال البشريّة مصونة خلف 
جبال الأورال. . . 

ل نعم لكنّ الألمان على أبواب الإسكندرية ! 

تساءلت وهي تلفخ : 

لماذا يحب المصريّون الألمان؟ 

كراهة في الإنجليزء وسوف يمقتوبهم في الغد 
القريب» إن الملك يبدو اليوم كالسجين ولكنّه سينطلق 
من سجنه ليستقبل رومل ثم يشربان معا نخب وأد 
الديموقراطية الناشئة في بلادناء ومن المضحك أن 
الفلاحين يظنون أنْ رومل سيورّع الأرض عليهم! 

- أعداؤنا كثيرون, الألمان في الجارج. والإخوان 
والرجعيّة في الداخل وكلاهما شيء واحد. . . 

لو سمعك أخي عبد المئعم لثار على رأيك». يعتير 


الإخوانية فكرة تقدّميّة تزرى بالاشتراكية المادية. . 

- قد يكون في الإسلام اشتراكيّة. ولكتّها اشتراكية 
خياليّة كالتي بشْر مها توماس مور ولويس بلان وسان 
سيمو إِنّه يبحث عن حل للظلم الاجتاعيّ في ضمير 
الإنسان بينا أنْ الحل موجود في تطوّر المجتمع نفسه. 
نه لا ينظر إلى طبقات المجتمع ولكن إلى أفراده, 
وليس فيه بطبيعة الخال أيّة فكرة عن الاشتراكية 
العلميّة» وفضلًا عن هذا كله فتعاليم الإسلام تستند 
إلى ميتافيزيقا أسطوريّة تلعب فيها الملائكة دورًا 
خطيرًاء لا ينبغي أن نبحث عن حلول لمشكلات 
حاضرنا في الماضي البعيد. قل هذا لآأخيك. . . 

فضحك أحمد في سرور غير شيافب وقال: 

أخى شاب مثقف وقانون ذكي» إل أعجب 
كيف يتحمس أمثاله للاخوان! 

فقالت بازدراء : 

- الإخوان يصطنعون عمليّة تزييف هائلة. فهم 
حيال المثقفين يقدّمون الإسلام في ثوب عصري» وهم 
حيال البسطاء يتحدّثون عن الجنة والنار.» فينتشرون 
باسم الاشتراكية والوطنية والديموقراطية . 

حبيبتي لا تمل الحديث عن مبادئهاء قلت حبيبتي؟ 
نعم فمئل القبلة التي اختلستها دأبت على أن أدعوها 
بحبيبتي وكانت نحتج بالكلام تارة وبالإشارة تارة أخرى 
ثم جعلت تتجاهله كأئما قد يئست من إصلاحيء 
وعندما قلت ها إني تواق إلى سماع كليات الحبٌ من 
ثغرها المشغول بالاشتراكيّة ويختبى قائلة باحتقار: 
«هذه النظرة البورجوازية العتيقة إلى المرأة. , 
فقلت لما جزعًا: إِنْ احترامي لك فوق كل كلام وإني 
لاعترف بأني تلميذك في أنبل ما صنعت في حياتي 
ولكننى أحبّك كذلك وما ني ذلك من بأس. فذهب 
غضبها فيا شعرت ولكئّها استبقت مظاهره فيها رأيت, 
واقتربت منها مضمرًا تقبيلها فلا أدري كيف حزرت 
غرضي فدفعتني في صدري ولكنني رغم ذلك لثمث 
حدها وما دام المحذور قد وقم ‏ وقد كان بوسعها منعه 
جدَّبًا - فقد اعتبرتها راضية» وإنّها لكائن بديع جميل 
العقل والجسم معًا رغم إغراقها في السياسة. وعندما 
دعوتها للنزهة في الحديقة قالت: «على شرط أن تأخذ 


71 200ظ2 


معنا الكتاب لنواصل الترجمة» قلت لما: بل للفرجة 
والمناجاة وإلا كفرت بالاشتراكيّة حميمًا! ولعلّه مما 
يزعجني كثيرًا حيال نفسي المتشبّعة بالسكريّة أنْني ما 
للك انظ احيانا إل اللراه بالغين التقليد البورجوازية 
_ ل ل 
الاشتراكيّة عند المرأة التقدميّة ليست إلا نوعًا من الفتنة 
كضرب البيانو والتبرّج ولكن من المسلّم به كذلك أن 
العام الذي زاملت فيه سوسن قد غيرني كثيرًا وطهرني 
لدرجة محمودة من البورجوازية المستوطنة في 
أعماقي ! . . . 

من المؤسف أنْ زملاءنا يُعتقلون بلا حساب! . . . 

- نعم يا حبيبتي» الاعتقال موضة تشيع أيام 
الحروب وأيّامِ الإرهاب على السواء, غير أن القانون لا 
يرى بأسا في اعتناق المبد] إذا لم يقترن بالدعوة إلى 
العنف. . . 

فضحك أحمد وقال: 

- سيلقى القبض علينا إن آجلا وإن عاجلا 
إلا... 
فحدجته بنظرة متسائلة فعاد يقول: 

- إِلّا إذا أدْبَئا الزواج! 

فهرّت منكبيها في ازدراء وقالت: 

مَن أدراك بأنني أوافق على الزواج من رجل 
مزيف مثلك؟ 

- مزيف؟ | 

ففكرت قليلًا ثم قالت باهتهام جدّي : 

لست من طبقة العّال مثل ! كلانا يحارب علو 
واحدًا ولكنّك لم تخيره كا خيرته. لقد ذقت الفقر 
طويلا» ولمست آثاره الكريهة في أسري.» وغالبته أخحت 
لي حيّ غلبها فاتت» أما أنت فلست... لست من 
لفه القلن| 

فقال مبدوء: 

- ولا كان إنجلر من هذه الطبقة. . . 

فضحكت ضحكة قصيرة بعثت ألوثتها وقالت: 

- كيف أدعوك؟ اللرنس أحمدوف؟! هه' لا انكر 
عليك مبدأك؛» ولكن بك بقايا بورجوازيّة عتيدة. يخيّل 
إل أنك تس أحيانا لكونك من آل شوكت! 


السكرية امه 


فقال بلهجة لم تخل من حلة: 

أنت مخطئة يا ظلمة! لا يعيبني ما ورئتهء فك أن 
الفقر لا يعيبك فالغنى لا يعيبني. أعني الدخحل القليل 
الذي عاشت به أسرتنا عيشة التنابلة» لا يعيب أحدًا 
أن يجد نفسه بورجوازيًاء ولا عيب إلا في الجمود 
والتخلّف عن روح العصر. . . 

فقالت وهي تبتسم ؛ 

لا تغضبء كلانا ظاهرة طبيعيّة علميّة: لا نسأل 
عًا وجدنا أنفسنا عليه ولكنّنا مسشولون عا نعتئق 
ونفعل» إن أعتذر إليك يا إنجلزء ولكن خرني هل 
أنت على استعداد لمواصلة إلقاء المحاضرات على العّال 
مهما تكن العواقب؟ 

فقال بإدلال: 

- لقد حاضرت حيّى أمس حمس مرّات» وحرّرت 
منشورين خطيرين. وورعت عثرات النشورات» 
وللحكومة دين في عنقي جاوز العامين سبجنا! . , . 

- وها في عنقي أضعاف ذلك! . . . 

مل يده في خحفة فوضعها على يدها السمراء البضة 
في حنان وإعجاب. نعم إِنّه يمبّهاء ولكنه لا يندفع في 
جهاده باسم الحبّ. ترى ألم تَبْدٌ أحيانا وكائها تشك 
فيه؟ أهي مداعبة من المداعبات أو توجس نحيفة من 
البورجوازيّة الى تحسبها كامنة فيه؟. إنّه مؤمن بالمبد| 
كما إنه مغرم مباء لا غنى له عن هذا ولا ذاك. وأليس 
من السعادة أن تحظى بشخص يفهمك حق الفهم 
وتفهمه حقٌّ الفهم؟ وألا يحول بينك وبينه أيّ نوع من 
المكر؟ إن أعبدها إذ قالت «لقد ذقت الفقر طويلا». 
هذا القول الصريح الذي سما بها عن بنات جنسها 
جميعًا ومزجها بنضشى., لكننا محبّون غافلون والسجن 
يترئص بناء وبوسعنا أن نتزؤج وآن نتجئب المتاعب 
ونقلم برغد العيش» ولكتها تكون حياة بلا روح لشد 
ما يبدو لي المبدأ أحيانًا كأنه لعنة مصوّبة علينا من 
القضاء والقدر: إنه دمي وروحي, كأني المسئول 
الأول عن الإنسانية جميعا. . . 

الت 

ما المناسبة لحذ!؟ 

في كل مناسبة وبلا مئاسبة. , 


السكرية 


- إنْك تتحدّث عن الجهاد ولكنّ قلبك يتغقٌ 
باهناء! . . 

- التفريق بين هذين سخف كالتفريق بيني 
وبينك! . . . 

- ألا يعبي الحبٌّ الهناء والاستقرار وكراهة 
السجن؟ . 

- ألم تسمعي عن النبيَ الذي كان يجاهد ليل نهار 
دون أن يمنعه من أن يتزوج تسعا؟!. .. 

ففرقعت بأصابعها هائفة : 

ها هو أخوك قد أعارك فاه. أيّ نبي يا هذا؟ 

فقال ضاحكا؛ 

- نبّ المسلمين! 

- دعني أحدّئك عن كارل ماركس الذى عكف على 
تأليف «راس الماله» تاركا زوجه وأولاده للجوع 
والبهدلة! 

- كان متزوجًا على أيّ حال! . . . 

كأن ماء البركة عصير زمرّد. وهذه النسمة اللطيفة 
تمهفو في خلسة من يونيه» والبط يسبح مسدّدًا منقاره 
لالتقاط فتاك اشن واتقة سيفيك عدا والية المقعة 
ألذّ من الطبيعة يخيّل إل أن وجهها تورّدء فلعلّها 
تناست السياسة قليلا وأخذت تفكر فيّ. . . 

- كان المأمول يا زميلتى العزيزة أن نحظى في هذه 
الحديقة بحديث ل 

أعذب يما كنا نتحدّث به؟ 

- أعني ينا 

ماعنا ا 

- نعم وأنت تعلمين! . 

وساد الصمت مليا حَيّى غضّت عينيها متسائلة : 

ماذا تريد؟ 

- قولي إِنْدا نريد شيئًا واحدًا! 

فقالت كأتما لتطيعه فحسب: 

- تعم) ولكن ما هو؟ 

- -حسبنا لف ودوران! 

كائبا تفكر. فا أمرٌ الانتظار على قِصرهء وإذا مها 
تقول : 

ما دام كل شيء واضحًا فلِمَّ تعذيني؟ 


فتنبد في ارتياح عميق وقال : 

ما أميج حبي ! 

وساد الصمت مزة أعصرى كاللازمة سين النغمة 
والنغمة. ثم قالت : 

- مبمني شىء واححد. 

أفدم ! . 

كرامتي! . 

فقال كالمتزعج : 

- هي وكرامتي شيء واحد! 

فقالت بامتعاض : 

أنت أدرى بتقاليد أناسك!| ستسمع كثيرا عن 
الأصل والفصل . . . 

كلام فارغ. أتظئينني طفلا؟ 

وترددت قليلا ثم قالت: 

ب[ منددتيا إل شىء واحد هو(العقلية 
البورجوازية»! . . . 

فقال بقوّة جعلته في تلك اللحظة أشبه ما يكون 
بأخميه عبد الملعم : 

الك مرا اشوا 

هل تدرك مدى خطورة قولك؟... لقد عنيت 
أشياء تخصٌ علاقة الرجل بالمرأة في صميمها الشخصيء 
والاجتماعي | ْ 

مفهوم جدًا . 

سوف تطالّب بقاموس جديد عند الكشف عن 
الكللات المأثورة مثل: حبّء زواجء غيرة» الوفاء. 
الماضي . . 

507 

قد يعنى هذا لا شيء. وقد يعني كل شيء. وكم 
من مرّة خطرت له أفكارء ولكنّ الموقف يتطلّب 
شجاعة فائقة, ما هو إلا امتحان لعقليّته الموروثة 
والمكتسبة جميعاء امتحان رهيب»ء خخيّل إليه أنه أدرك ما 
تعني ) ولعلّ الأمر لا يعدو أنْها تمنحنه. ولكن حيّى لو 
كان الذي أدركه فلن يتراجم. لقد اعتراه ألم ودبت في 
أعماقه الغيرة ولكنّه لن يتراجع. . . 

- إن مسلّم بما تعنين» ولكن دعيني أصارحك بأنني 
كنت آمل أن أحظى بفتاة عاطفيّة لابفكر محاسب مدقق ! 


فتساءلت وعيناها تتابعان البط السابح : 

لتقول لك أحبّك وأوافق على الزواج منك؟! 

نعم! . . . 

ضاحكة : 

- وهل تراني كنت أدخخل في التفاصيل ما لم أكن 
موافقة على المبد|؟ ! 

فضغط على راحتها في رقة» فعادت تقول: 

تارونت تعرت كل تنخ ولكتلنة تود واعه! 

05558 00 


5 

- إنْها سمعة أسرتنا جميعاء وهو على أيّ حال 
اببكمء وأنتم بعد ذلك أحرار فيا ترون!. . . 

كانت تخديجة تخطب وعيناها تنتقلان بسرعة وقلق 
من وجه إلى وجهء من زوجها إبراهيم الذي جلس إلى 
يمينها إلى ابنها أحمد في الناحية المقابلة من الصالة» 
مارّتين بياسين وكيال وعبد المنعم. . . 

وقال أحمد مداعبًا وهو يقلّد لهجتها: 

- التبهوا جميعاء إثها سمعة أسرة؛ وأنا على أيّ حال 
ابنكم ! 

فقالت له بصوت متشك مليء بالمرارة : 

ما هذا البلاء يا اببي؟ أنت لا ترضى أن يحكمك 
أحد ولو كان أباك. وتأبى المشورة ولو كانت في 
صالحك. دائًا أنت على صواب والناس جميعا على 
خطأء تركت الصلاة قلنا ربنا ببديه. رفضت أن 
تدخل الحقوق كأخيك قلنا المستقبل بيد الله قلت 
أشتغل جورناليّ قلنا اشتغل عربجيّ! . . . 

فقال باسما: 

والآن أريد أن أتروج!. 

ا كلنا يسرٌ لمذاء ولكنٌ الزواج له 
شروط... 

- ومن يضع شروطه؟ 

العقل السليم . 

- عقي اختار لي. . . 

ألم تغبت لك الأيّام بعد أنّه لا يصمّ الاعتهاد على 


السكرية ومو 


عثلك وحده؟! 

- أبدّاء والمشورة جائزة في كلّ شيء إلا الزواج فهو 
كالطعام سواء بسواء!. . 

الطعام!... نك لا تتزؤوج من فتأة فحسب 
ولكن من أسرتها كلّهاء ونحن ‏ أهلك - نتزوج بالتبعيّة 

فضحك أحمد ضحكة عالية وقال: 

كلّكم! هذا أكثر مما مُمتمل. خبالي كال لا يريد 
أن يتزوّج. وخالي ياسين يودٌ لو يتزوجها وحده. . 

وضحكوا حميعًا إلا خديجة. ثم قال ياسين قبل أن 
تزايل وجهه هيئة الضحك: 

- إذا كان في هذا فض المشكلة فأنا على أتم 
استعداد للتضحية , 

فهتفت خديجة : 

- اضحكواء إنْه يتشبجّع بضحككم., خير من ذلك 
أن تصارحوه بآرائكم» فما رأيكم فيمن يرغب في 
الزواج من «كريمة» عامل المطبعة التي يعمل بمجلتها؟ 
نه يعزّ علينا أن تعمل بالمجلة «جورنالجئ» فكيف 
وأنت تريد أن تصاهر عنَلهاا أليس لك رأي يا سى 
إبراهيم؟ 

فرفع إبراهيم شوكت حاجبيه كأئما يريد أن يقول 
شيعا ولكنّه سكت» فعادث تقول: 

- لو وقعت هذه المصيبة فسيمتل] بيتك ليلة الزفاف 
بعال المطبعة والعنابر والحوذية, ولله أعلم بما 
حفى! ..... 

فقال أحمد بتار : 

لا تتكلمي هكذا عن أهلي! 

- يا ربٌ السماوات» أتنكر أنْ هؤلاء هم أهلها؟ 

- ساتزوجهاهي وحدها إن لا اتروج 
بالجملة . . 

فقال إبراهيم شوكت في ضحر: 

- لن تتزوجها وحدهاء الله يتعبك كما تتعبنا! 

فقالت خديجة متشجعة بمعارضة زوجها: 

ذهبت لزيارة بيتها ما تقضي العادة قلت أرى 
عروس ابني» فوجدتهم يقيمون في بدروم في شارع كله 
هود على الصفّينء وأمّها لا تفترق في هيثتها عن 


+ السكرية 


الخادمات المحترفات. والعروس نفسها لا يقل عمرها 
عن ثلاثين عامّاء أي والله» ولو كان مها ذرّة من جمال 
لعذرته, لاذا يريد أن يتزوجها؟ إِنّه مسحور» سحرته 
بحيلة, إِنَّها تعمل معه في المجلّة المنعفومة»ء لعلها 
غافلته فوضعت له شيئًا في القهوة أو الماء. اذهبوا 
وشوفوا واحكمواء أنا عُلبتء لقد عدت من الزيارة لا 
أكاد أرى الطريق من حزني وأسفي . . . 

نك تغضبيبي» لن أغفر لك كلامك هذا. . , 

- العفو. العفو يا سيّد الملاسم! الحقّ عل أنا طول 
عمري عيّابة فرماني ربّنا في أولادي بكل العيوب. 
أستغفر الله العظيم . 

- مهما تقوؤلت عنهم فليس فيهم من يرمي الناس 
بالباطل. . . مثلك! 

بكرة يا ما تسمع» ويا ما تعرف. سامحك الله على 
إهانتي . 

أنت التي أهنتني بما فيه الكفاية! . . . 

إِنَّا تطمع في مالك. ولولا خيبتك ما طمعت في 
أحسن من بيّاع حرائد . . . 

- ِنْبا محرّرة في المجلة بمرنّب ضعف مرئّبي . . . 

- جورنايّة هي الأخرى!. . . ما شاء الله» وهل 
تنوف إلا الفتاة البائرة أو القبيحة أو المسترجلة! . . . 

ساممك الله . , . 

د افإتباعغك أنه عل نا تفيت غلينا من عدات| 

وهنا قال ياسين الذي كان يتابع الحديث ويده لا 
نمسك عن فتل شاربه: 

- اسمعي يا أنحتي لا داعي للنقار, ستصارح أحمد 
بما ينبغي قوله ولكن لا جدوى من الشجار. . . 

ونبض أحمد كالغاضب وهو يقول: 

- عبن إذنكم سارتدي ملابسى لأذهب إلى 
ولا ذهب انتقل ياسين إلى جانب أخحته ومال عليها 
قائل : 

- لن يفيدك الشجار شيا لحن لا نحكم أبناءناء 
نهم يرون أنفسهم خيرًا ما وأذكى . إذا كان لا بد من 
الزواج فليتزوجء فإن سعد كان بها وإلا فهو المسئول 


عن نفسهء أنا لم يستقرٌ بي بيت إلا بزنّوبة ىا تعلمين! 
فعسى أن يكون الخير فيما اختار» ثُمٌ إِنّنا لا نعقل 
بالكلام ولكن بالتجارب . 

'ْمّ مستدركا وهو يضحك: 

- ولو أنه لا الكلام ولا التجارب عقّلتني! 

وعلّق كبال على قول ياسين قائلا : 

الق فيا قال انح« 

فحدجته بلظرة عتاب قائلة : 

- أهذا كل ما عندك يا كال؟ إِنّه يحبّك فلو أنك 
حذّثته على انفراد. , . 

فقال كال : 

تَ ف خارج معه وساحذثه. ولكن كفي عن 
الشجار, إنه رجل حرٌء ومن حقّه أن يتروؤج ممن 
يشاءء أتستطيعين منعه أم تنوين مقاطعته؟ 

وقال ياسين باسما : 

الأمر بسيط يا أختي» يتزوّج اليوم ويطلق غدّاء 
نحن مسلمون لا كاثوليك , . 

فضيقت عينيها الصغيرتين وقالت بفم شبه مغلق : 

طبعا من محام, غيرك يدافع عنه؟ صدق مَن قال 
إن الولد لخاله! 

فضحك ياسين ضحكته العظيمة وقال: 

- الله يسامحك» لو ترك النساء تحت رحمة النساء ل 
تروجت امرأة قط!| , . . 


فأشارت إلى زوجها وقالت: 

- أمّه الله يرحمها هي التي اختارتني بنفسها! 
فقال إبراهيم وهو يتنهد باسما: 

- ودفعت الثمن» الله ير حمها ويعفو عنبا! 
ولكنها لم تأبه لتعليقه وعادت تقول متحسّرة: 
- لو كانت حميلة! . , . إِنّْه أعمى ! . 

فقال إبراهيم ضاحكا : 

- مثل أبيه ! 

فالتفتت نحوه غاضبة وقالت : 

أنت جاحد كجس الرجال! 

فقال الرجل بهدوء : 

- بل نحن صابرون ولنا الجنة. . . 


فصاحت به: 
إذا كنت ستدخلها فبفضلي. . . أنا التي علمتك 
ذينك الى 


* 4+ + 


غادر كيال وأحمد السكريّة معاء وكان يقفا من 
مشروع هذا الزواج موقف الشكٌ والتردّد؛ إِنّه لا يمكن 
أن يتهم نفسه بالمحافظة على التقاليد السخيفة. أو 
بالفتور حيال مبادئ المساواة والإنسانية. ومع ذلك 
فالواقع الاجتماعئ الذي لا يد له في بشاعته حقيقة 
واقعة لا يجوز أن يتجاهلها إنسان» وقديًا ولع عهدًا 
بقمر بنت أبي سريع صاحب المقلي. فكادت - رغم 
جاذييتها ‏ تحدث له عقدة برائحة جسدها المحزنة. غير 
أنه كان رغم هُذا معجبًا بالشابٌ. غابطا له شجاعته 
وقوّة إرادته وغيرهما من المزايا التي خرم هو متها وعلى 
رأسها الإيمان والعمل والرواج. كأنما قد بعث في 
الأسرة كقارة عن جموده وسلبيّته. ما الذي يجعل 
للزواج هذه الخطورة في نظره بيئا هو في نظر الآأخرين 
لا يزيد عن السلام عليكم. . . وعليكم السلام؟! 

- إلى أين يا فتى؟ 

المجلة يا خالي» وأنت؟ 

مجلّة الفكر لأقابل رياض قلدسء ألا تفكر قليلا 
قبل أن تخطو هذه الخطوة؟ 

أيّ خطوة يا خالي! لقد تزؤجت بالفعل! . . . 

حمًا؟ ! 

حقّاء وسوف آقيم في الدور الأول من بيتنا نظرًا 
لأزمة المساكن . . . 

ع نا لقن عن ساف 4م 

نعمء ولكنّها لن توجد في البيت إلا حين تكون 
أمى قد نامت, . 

وبعد أن أفاق من وقع الخبر سأله باسما: 

وهل تزوّجت على سئة الله ورسوله؟ 

فضحك أحمد أيضًا وقال: 

طبعاء الزواج والدفن على سئن ديننا القديم» أما 
الحياة فعلى دين ماركس ! 


.. 


لم وهوقى يودّعه : 


44١ السكرية‎ 


خالي. ستعجبك جدّاء سترى وتحكم بنفسك». 
نا ششخصيّة ممتازة بكل معنى الكلمة. 


4 


يا لها من حيرة! كأتّها مرض مزمن» فكل أمر يبدو 
ذا وجوه متعدّدة متساوية يتعذّر فيها الاختيار» تستوي 
في ذلك المسألة الميتافيزيقيّة والتجربة البسيطة من الحياة 
اليوميّةء فإزاء كل تعترض الحيرة والتردّدء أيتروّج آم 
لا؟اء كان ينبغي أن يقطع برأي لكنّه يدور حول 
نفسه حيّ يصييه الدوار ويختل منه ميزان الروح 
والعقل والحواس ثم تنجلي الدوامة عن موقف لم يتغير 
وسؤال لم يظفر بالجواب بعد وهو: أيتزوؤج أم لا؟. قد 
يضيق أحيانًا بحرّيّته فيثقل عليه الشعور بالوحدة أو 
يضجر من معاشرة الأشباح الفكرية الخاوية فيحن إلى 
الآليف وتئنٌ في محبسه غرائز الأسرة والحبٌ تروم 
متنفْسّاء ثم يتخيّل نفسه زوجًا قد برأ من التركيز في 
ذاته وتبدّدت أوهامه لكنه فني في الوقت نفسه في الأبناء 
واستغرقه الرزق ومطالبه فتراكمت عليه مشاغل الحياة 
اليوميّة فينزعج أعما انزعاج ويقرر الاستمساك بانطلاقه 
مه تَجِشّم من وحشة وعذاب. بيد أنه لا ينعم 
بالاستقرار طويلا فلا يلبث أن يعود إلى التساؤل كرّة 
أخرى» وهكذا وهكذاء فأين المفر؟ وبدور فتاة ممتازة 
حمّاء لا يعيبها اليوم أن تركب الترام ما دامت قد 
ولدت وشبّت في جَنّة الملائكة التي شغفت قلبه قديّاء 
نهي كالشهاب الساقط. وهي فتاة تمتازة حقًا في حسنها 
وخلقها وثقافتهاء ثم إنها ليست عسيرة المدال فهي 
الزوجة الواعدة بكل معنى الكلمة إذا أراد أن يتقدم . 
وما عليه إِلّا أن يتقدّمء وإلى هذا كله فهو لا يسعه إلا 
أن يسلّم باحتلالها مركز الاهتام من وعيه. فهي آآخر 
ما يودّع من أطياف اللحياة قبل النوم وهي أوؤل من 
يستقبل من أطيافها عند الاستيقاظ, م لا تكاد تغادر 
خياله طوال يومه. وما إن يحظى برؤيتها البصر حتى 
يخفق الفؤاد مردّدًا أنغامًا شجيّة من أوتار علاها 
الصدأء ثم إن دنياه لم تبق كما كانت دنيا حيرة 
وعذاب ووحشة, داخخلتها نسائم وجرى فيها ماء 


7 السكرية 


الحياة» فإن لم يكن هذا هو الحبٌ فيا عسى أن يكون؟! 
وطوال الشهرين الماضيين جعل من شارع ابن زيدون 
مقصده كل أصيل؛ يقطعه على مهل» مسدّدًا عبنيه إلى 
الشرفة حيّى تلتقي بعينيها ثم يتبادلان الابتسام كما 
تجدر بزميلين». وقد بدا ذلك كما تقع المصادفات» ثم 
تكرّر وقوعه كأنما عن عمدء ف| يجد ميعاده حيّى يجدها 
بمجلسها من الشرفة تقرأ في كتاب أو تسرّح الطرف, 
فأيقن أنها تنتظره» إذ لو شاءت أن تمحو هذا المعنى من 
ذهنه ما كلّفها ذلك إلا تَهَنْب الشرفة دقائق 

أصيل. ولكن ماذا تظنّ بمروره وابتسامته وتحيّته؟! 
لكن مهلاء إِنّْ الغرائز لا تخطرء. كلاهما يود أن يلقى 
صاحبه. وقد استخفّه لذلك الطرب وأسكره السرور, 
وملأه إحساس بجدوى الحياة لم يشعر به من قبل» غير 
أن هذا الهناء كله لم يمض دون قلق يشوبه؛ كيف لا 
وهولم تجمع بعد على عزم» ول ينضح له سبيل» ولكنّ 
يَارًا جرفه فاستسلم له وهو لا يدري كيف مجراه ولا 
أين مرساه! قليل من العقل يوجب عليه أن يتدبر أمره 
ولكنّ فرحة اللحياة صذته في إشفاق. فثمل مسرورًا 
دون أن يخلو من قلق. وقال له رياض: أُقْدِمْ فهذه 
فرصتك. ورياض منذ أن لبس خاتم الخطوبة وهو 
يتحدّث عن الزواج كأنه غاية الإنسان الأولى والأخيرة 
في هذه الحياة» فيقول مزهوًا إن سيقتحم هذه التجربة 
الفريدة غير هياب فيتاح له أن يفهم الحياة فهمًا جديدًا 
صادقًا ومن ثم يفتح أبواب قصصه للحياة الزوجيّة 
والأطفال... أليست هذه هي الحياة أيّها الفيلسوف 
السابح فوق الحياة؟ فأجابه متهرّبًا: أنت اليوم خصم 
فأنت آخر من يصلح حَك) وسوف أفتقد فيك المشير 
الصادق؟ وبدا له الحب من ناحية أخرى «دكتاتورا 
وقد علّمته الحياة السياسيّة في مصر أن يمقت الدكتاتور 
جسلده ثُمْ سرعان ما يستردّه وكأن ما كان لم يكن؛ أمّا 
هذه الفتاة المستكئة في حيائها فلن تقئع بما دون روحه 
وجسله جميعًا إلى الأبدء ولن يجد من شعار يأتمٌ به 
بعد ذلك إلا الكفاح المرير في سبيل الرزق ليؤمّن حياة 
الأسرة والأبناء» مصير غريب يجعل من اللحياة الحافلة 
بالجلائل مجرّد وسيلة «لتحصيل؛ الرزق» وقد يكون 


الفقير المندئّ سحخيفًا أو مجنوئًا ولكنه أحكم ألف مرّة 
من الغارق حثّى أذنيه في سبيل الرزق» فأنهِمٌ بالحبٌ 
الذي كنت تفتقده وتتحسر عليه . . . ها هو يُبعث حيًا 
في فؤادك جارًا وراءه المتاعب! وقال له رياض: «أمن 
المعقول أن تحبّها وأن يكون في وسعك أن 
تتزوجها.. . ثم تمتنم عن زواجها؟». فأجابه بأنه 
يحنّها ولكنّه لا يحبٌ الزواج! فقال محتبجا: «إنّ الحبٌ 
هو الذي يسلّمئا للزواج فيا دمت لا تحبٌ الزواج كما 
تقول فأنت لا تحبٌ الفتاة!» فأجابه بإصرار؛ «بل 
أحبّها وأكره الزواج»» فقال: «لعلّك تخاف المسئوليّة. 
فأجابه ممتدًا: «إنّني أحمل من أعباء المسئوليّة في بتي 
وفي عمل ها لا تحمل بعضهع. فقال: «لعلّك أنان 
أكثر ثما أتصوّر»: فقال ساخيرًا: «وهل يتروّج الفرد إلا 
مدفوعا بأنانيته الظاهرة أو الخفيّة؟» فقال باسًا: 
«لعلك مريض فاذهب إلى دكتور نفسانّ لعله 
يحللك,. فقال له: «من الطريف أن مقالتي القادمة في 
بحلّة الفكر عن: كيف تحلّل نفسك. فقال له: 
«أشهد لقد حيّرتني»» فقال له: «أنا الحاثر إلى الأبد». 

ومرة وهو يقطع كعادته شارع ابن زيدون صادف 
في طريقه أمّ حبيبته متجهة نحو البيت» عرفها من أوّل 
نظرة رغم أنه لم يرها منل سبعة عشر عامًا على الأقلٌّ. 
ول تكن «المانم» التي عرفها قديمًا. ذبلت ذبولًا عزنا 
وركبها الهم قبل الكبر ولم يكن في وسع إنسان أن 
يتصوّر أَنْ هذه المرأة الساعية في هزالها هي نفس الهانم 
البي كانت تخطر في حديقة القصر في حباية من التمال 
والكمال!. ورغم هذا كله قد ذكّرته هيئة رأسها بعايدة 
فقطع قلبه منظرهاء وكان حسن الحظ أنه تبادل مع 
بدور الابتسام قبل رؤيتها وإلا ما استطاع أن يبتسمء 
كم ما يدري إلا وهو يتذكر عائشة! ثم يذكر كيف 
أثارت عاصفة من النكد هذا الصباح في البيت وهي 
تبحث عن طاقم أسنانها التي نسيت أين أودعته قبل 
نومها. وأوّل أمس رأى بدور واقفة في الشرفة على غير 
عادتها ثمّ تبي أئها متهيّأة للخروج!. وتساءل أتخرج 
وحدها؟| وما لبئت أن غابت من الشرفة فمضى في 
بفيله متفولا سنك ا حتفا لو عادر وحددها فاننا 
تجيء له. هذا الظفر المسكر لعلّه يغسل إهانة حلت 


منذ سئين!. ولكن هل كانت عايدة تفعل هذا ولو 
انشقٌ القمر؟!. وعندما بلغ منتصف الطريق التفت 
إلى الوراء فرآها قادمة... وحدها! وخيّل إليه أن 
خفقان قلبه سيطرق مسامع الجيران. وسرعان ما شعر 
بخطورة الموقف الوشيك الحدوث حي نازعته بعض 
جوانب نفسه إلى الهروب!. كان تبادل الابتسام قبل 
ذلك لوا عاطفيًا بريئًا أمّا اللقاء فسيكون له شأن وأيّ 
شأن. هو مسئوليّة وخطورة ومطالبة بالحسم في 
الاختيار. ولو هرب الآن لملح نفسه مزيدًا من 
التروّي! ولكنه لم هربء وتقدّم في خطه المتمهّلة 
كالمخدّر حبّى أدركته عند منعطف الطريق إلى شارع 
الجلال» وفي التفاتة منه التقت عيناهما في ابتسامة, 
فقال: 

وعياء ادن 

فياك امار 

وتساءل وشعوره بالخطورة يتزايد: 

ل اند ؟ 

- عند واحدة صاحبتي»ء هناك في هذا الاتجاه. . 

وأشارت صوب شارع الملكة نازلي» فقال في 
استهتار: 

- إِنه طريقي فهل تسمحين بأن نسير معًا. . . ؟ 

فقالت وهى تداري ابتسامة : 

- تفضل . . 

وسارا جنبًا إلى جنب. إنّها ل تتحل مِبذا الفستان 
الجميل لتقابل واحدة صاحبتها ولكن لتقابله هوء وها 
هو قلبه يستقبلها بالوجد 'والحنان» ولكن كيف يكون 
مسلكه؟ لعلّها ضاقت بجموده فجاءت بنفسها لتهيى 
له فرصة مواتية دإمًا ينتهزها إكراما لها وإمًا يتجاهلها 
فيفتقدها إلى الأبد. هي كلمة قد تقال فيتورّط قائلها 
مدى العمر أو حبس فيندم حابسها مدى العمرء هكذا 
ذفع إلى مأزق وهو لا يدري. وها هو الطريق يطوى 
ولعلها تترقب. وهي تبدو مستجيبة ملبّية كأئها ليست 
من آل شدادء أجل ليست من آل شذاد في شيء, لقد 
انتهى آل شدّادء وولى زماهم. وليست التي تسايرك 
إلا فتاة سيّكة الحظء والتفتت نحوه كالباسمة فقال 


3 
برفك . 


السكرية 4147 


فرصة سعيدة! . 

- شكرًا! . 

نم ماذا؟! يبدو أئها تنتظر خطوة جديدة من ناحيته 
وها هي نباية الطريق تقتربء يجب أن يقطع برأي 
فإمًا التورّط وإمّا الوداعء لعلها لا تتصوّر أبدًا أن 
يفترقا ببساطة. ولو كلمة واعدةء وها المفترق على بعد 
مزالت إن بشعر اشعوزا مولا جد اللزينة اللي 
ستمنى بباء ويأبى لانه أن ينطق أم يتكلم وليكن ما 
يكون؟!. وتوقفت عن المسير وابتسمت ابتسامة مرتبكة 
كأنما تقول آن لنا أن نفترق فبلغ به الاضطراب خبايتهء 
ثم مدّت يدهاء فتلقاها بيده وصمت فترة رهيبة» ثم 
غمغم : 

- مع السلامة! . . . 

واستردت يدها م مالت إلى عطفة جانبة. أوشك 
أن يناديباء إل ذهابها متعثّرة بالخيبة والخجل كابوس لا 
تُتملء وأنت أدرى مبُذه المواقف التعيسة» غير أنَّ 
لسانه انعقد. فيم كانت متابعته لما طوال الشهرين 
الماضيين؟ أمن الذوق أن ترفضها وقد جاءتك 
بنفسها؟. أمن الرحمة أن تعاملها نفس المعاملة التاريحيّة 
التي عاملتك بها أختها؟ وأنت تحبها؟! وهل تلقى من 
ليلها ما لقيت من ليلتك التي خلفتها وراءك كالمجمرة 
المتقدة تضىء في غياهب لماي بالآلى المنصهر؟! . 

وواصل سيره وهو يتساءل ترى أيريد حقًا أن يبقى 
أعزب لكي يكون فيلسوفًا أم أنه يدّعي الفلسفة ليبقى 
أعزب؟ وقال له ريافس: هذا شيء لا يصدّق ولسوف 
تندم! وهو شيء لا يصدق حقًا ولكن هل يندم أيضًا؟ 
وقال له: كيف هان عليك أن تقطعها وقد كنت 
تتحذث عببا وكأئبا فثاة أحلامك؟ ليست فتاأة 
أحلامه. . . إِنْ فتاة أحلامه لم تكن لتسعى إليه أبذدًا. 
وأخيرًا قال له. إنّك في حباية السادسة والثلاثين من 
عمرك ولن تكون بعد ذلك صالخا للزواج. فامتعض 
لقوله وداخلته كابة, , 


ك5 


جاءت كرية إلى السكريّة في حلّة العروس في عربة 


4 السكرية 


مع والديها وأخيها. وكان في استقبالهم إبراهيم شوكت 
وخديجة وأحمد وزوجه سوسن حماد وكمال. ولم يكن 
ثمّة ما يدل على زفاف إلا طاقات الورد التي طوّقت 
الصالةء أمّا المنظرة فقد امتلأت بذوي اللحى من 
الشبّان يتوسّطهم الشيخ عل المنوفي. ومع ذلك كان 
قد مرّ عام ونصف على وفاة السيّد إلا أن أمينة لم تشهد 
الزفاف ووعدت بالحضور للتهنئة فيها بعدء أما عائشة 
فإنا عندما دعتها خديجة إلى شهود الدخلة الصامتة 
هرّت رأسها عجبًا وقالت بلهجة عصبية : 

أنا لا أشهد إِلَّا المآتم! 

وقد تألمت خخديجة لقولها ولكتبا كانت قد اعتادت أن 
تتحل بالحلم الممثاليّ حيال عائشة. وقد جهّز الدور 
الثاني بالسكريّة للمرّة الثانية بأناث العرس. وَجَهُرْ 
ياسين ابنته كما ينبغي وباع في سبيل ذلك آخر أملاكه 
فلم يعد يبقى له إلا بيت قصر الشوق. وبدت كريمة 
آية في الجهمال» وقد شامبت أمّها في عهدها الزاهر 
خاضة في عينيها الدافئتين؛ ولم تكن بلغت سن الزواج 
إلا في الأسبوع الماضي من أكتوبر. ولاحت خديجة 
سعيدة كما ينبغي لأمّ العريس». وقد انتهزت فرصة 
انفرادها بكيال مرّة ففالت على أذنه قائلة : 

على أي حال فهي ابئة ياسين» ومهما يكن من أمر 
فهي خير ألف مرّة من عروس العثابر| 

وقد مد بوفيه صغير في -حجرة السفرة للأسرة» ومَذ 
آخر في الفناء لمدعويّ عبد المنعم من ذوي اللحى» ولم 
يكن يتمبّز عنهم إذ أرسل بدوره لحيته حبّى قالت له 
حديجة يومذاك : 

- الدين جميل ولكن ما ضرورة هذه اللحية التي 
تبدو فيها مثل محمّد العجمي بيّاعَ الكسكسي؟! 

وجلس أفراد الأسرة في حجرة الاستقبال ما عدا 
عبد المنعم الذي جالس أصحابهء وأحمد الذي شاركه 
في الترحيب بهم بعض الوقت». ثم انتقل إلى حجرة 
الاستقبال حيث انضم إلى أهله وهو يقول باسما: 

- تراجعت المنظرة في الزمان ألف عام! 

فسأله كال: 

- فيم يتحادثون؟ 


عن معركة العلمين» وقد ارتجت جدران المنظرة 
بأصواتهم . 

وكيف شعورهم حيال انتصار الونجليز؟ 

- الغضب طبعاء إثهم أعداء الإنجليز والألمان 
والروس جميعاء وهكذا لم يرحموا العريس حتّى في ليلة 
زفافه. . 

وكان ياسين جالسًا إلى جانب زثوبة» يبدو في زينته 
كأعًا يصغرها بعشرة أعوام. فقال: 

- فلياكلوا بعضهم البعض بعيدًا عناء ومن رحمة 
ربّنا أنه لم يمعل من مصر ميدان حرب. . 

فقالت خحدئحجة باسمة : 

- لعلك تريد السلام حيّى تفرغ لمزاجك! 

ورمقت زنُوبة بنظرة ماكرة حبّى ضحك الجميع: 
وكان قد ذاع في الأيّام القريبة الماضية أنْ ياسين غازل 
ساكنة جديدة في بيته» وأنّ زنوبة ضبطته متليّسًا أو 
كالمتلبس فا زالت بالساكنة حتّى اضطرتما إلى إخخلاء 
الشقة. فقال ياسين يداري ارتباكه : 

- كيف أفرغ لمراجي وبيتى محكوم بالأحكام 
العرفية ! 

فقالت زنُوبة في امتعاض: 

عاك ا تعيسيت أمام ابنتتك؟ 

فقال ياسين في توسل : 

- إفي بريء والجارة المسكينة مظلومة! 

أنا الظالمة! أنا التي ضُبطت وأنا أطرق شقّتها بليل 
ثم اعتذرت بأنني ضللت سبيل في الظلام! هه؟ 
أربعون عامًا في البيت ثمٌ لا تعرف أين تقع شقتك؟! 

فتعالى الضحك حيّى قالت خديجة في تهكم : 

- إِنّه كثير الخطأ في الظلام ! 

- وي النور على السواء. . 

وإذا بإبراهيم شوكت يخاطب رضوان قائلا: 

- وأنت يا رضوان كيف حالك مع محمد أفندي 
حسن؟ 

فقال ياسين مصحخا: 

محمد أفندي زفت! 

وأجاب رضوان حانقًا : 


- إِنّهِ ينعم الآن بثروة جدّي التى آلت إلى أمي ! 

وقال ياسين محتجًا : 

ميراث لا يُستهان بهء وكلّم) نصدها رضوان في 
معونة للترفيه أو خحلافه تصدّى له الصفيق وناقشه 
الحساب! 

فقالت خديجة مخاطبة رضوان : 

ئها لى تنجب غيرك. وخير لها أن تمتعك ممالها في 
حياتها. . . ثم مستدركة : 

وقد آن لك أن تتزوجء أليس كذلك؟ 

فضيحك رضوان ضحكة فائرة ثم قال: 

- عندما يتزوج عمي كمال! 

لقد يست من عمّك كبال ولكن لا ينبغي أن 

وأصغى كال لما يدور حوله بامتعاض وإن لم يبد 
أثره في وجهه. لقد يست مله ويئس هو من نمسه. 
وكان قد انقطع عن المرور بشارع ابن زيدون معلمًا 
بذلك عن شعوره بذنبهء غير أنّه كان يقف عند طرف 
المحطة ليراها في شرفتها من حيث لا تراه» لم يستطع 
أن يقاوم رغبته في رؤيتهاء ولا أن ينكر حبّه لهاء أو 
يتجاهل نفوره وجفوله من فكرة التزوج منها! حتى قال 
له رياض إِنْك مريض وتأبى أن تبرأ! 

وسأل أحمد شوكت رضوان بلهجة ذات معنى : 

أكان محمد حسن يناقشك الحساب لو كان 
السعديّون في الحكم؟ 

فضحك رضوان ضحكة حانقة وقال: 

إِنّه ليس الوحيد الذي يناقشني الحساب اليوم, 
ولكن صبراء إن هي إلا أيَام أو أسابيع . 

فسألته سوسن حماد: 

أنظنّ أيّام الوفد معدودة كى| يشيع خصومه؟ 

أيّامه رهن بمشيئة الإنجليزء وعلى أي حال فلن 
تطول الحرب إلى الأبد. . .: ثم يجي ء وقت الحساب] 

فقالت سوسن في جد ظاهر: 

- المسثول الأول عن الماساة هم الذين ظاهروا 
الفاشيست لطعن الانجليز من الخلف. . . 

وكانت خخديجة ترمق سوسن بنظرة ساخرة منتقدة. 


السكرية ه44 


متعصّبة من «استررجالما» في الحديثء فا تمالكت أن 
قالت: 

- المفروض أنّنا في فرح» تكلّموا في أمور مناسبة! 

ولاذت سوسن بالصمت دون اصطدامء. على حين 
تبادل أحد وكبال نظرة باسمةء أنا إبراهيم شسوكت 
فقال ضاحكا: 

عذرهم أنَّ أفراحنا لم تعد أفراححاء الله يرحم 
السيّد أحمد ويسكنه فسيح جئاته. . . 

فقال ياسين متحسرا: 

تزوجت ثلاث مرّات ولكئّنى لم أزفٌ مرّة واحدة! 

فقالت زلُوبة في انتقاد مر : 

أتذكر نفسك وتسى ابنتك؟ 

فقال ياسين ضاحكا: 

نُرفٌ في الرابعة إن شاء الله . . . 

فقالت زنوبة في مهكم : 

جلها حيّى تزف رضوان! 

فغضب رضوان دون أن ينبس . لعنة الله عليكم 
جميعًا وعلى الزواج أيضًاء ألا تدركون أنْني لن أتزوج 
أبدًا! وأننى أود أن أقتل من يفاتحني هذه السيرة 
اللعينة. وعقب صمت قصير قال ياسين: 

- ليتنى أبقى في بوفيه السيّدات حي لا أقف بين 
افيساب اللخ الذيق. قوق 

أدركته زنوبة فائلة : 

- لو عرفوا سيرتك لرجموك ! 

فقال أحمد ساهحرًا: 

ستخوض لحاهم قُْ الصحاف. وتكون معركة. 
وسحالي كيال هل يحب الإاخوان؟ 

فقال كيال باسما: 

أحبٌ منهم واحدًا على الأقل! 

والتفتت سوسن إلى العروس وسألتها ممودة: 

وما رأي كريمة في لحية زوجها؟ 

فدارت كريمة ضحكة خفيفة بحني رأسها المتوج وم 
تتكلم, فأجابت عا زنوبة قائلة : 

- قليل من الشبّان مّن هم في نَدَين عبد المنعم. , . 


5 السكرية 


- يعجبني تدينهء هذا خلق في دم أسرتناء ولكن لا 

فقال إبراهيم شوكت ضاحكًا : 

أعترف بن ابي المؤمن والمارق على السواء ‏ 
مجنونان! 

فضحك ياسين ضصحكته العظيمة وقال: 

الجنون خخلق في دم أسرتنا أيضًا! 

فحدجته خديجة بنظرة احتجاج فعالحها قائلا قبل 
أن تعن : 

- أعني ني مجنون, وأظنٌ كمال أيضًا مجنونء. وإن 
شئت فأنا المجنون وحدي! 

هذا هو الحقّ دون زيادة. 

- وهل من العقل أن يقضي إنسان على نفسه 
بالعزوبة ليتفرغ للقراءة والكتابة؟ 

- سيتزوّج عاجلًا أو آجلا ويكون سيّد العقلاء. 

فسأل رضوان عمّه كال قائلا : 

- ل لا تتروّج يا عمّي؟. أريد أن أقف على الأقل 
على وجه اعتراضك لأدافع به عن نشي حين 
الختروورة! 

فقال ياسين: 

- أتنوي الإضراب عن الزواج؟ لن أسمح بهذا ما 
حيبتء ولكن انتظر حتى تعودوا للحكم ثم تروج 
زواجًا سياسيًا رائعًا! 

أمَا كال فقال له: 

- إذا لم يكن عندك مانع فتزوج في الخال. . . 

هذا الشابٌ ما أحمله! هو مرشّح للجاه والمال! لو 
رأته عايدة في زمانها لعشقته. ولو ألقفى نظرة عابرة على 
بدور لشغفها حبّاء أمّا هو فيدور على نفسه والدنيا 
كلها تتقدّم : ولا يزال يتساءل: أتزوج أم ا أتزوج؟ ! 
والخياة تبدو حيرة مظلمة». فلا هي فرصة سانحة ولا 
هي فرصة ضائعة, واأسحب عسير طبعه الخصام 
والعذاب. فليتها تتزوج حتى يخلص من حيرته 


وعذايه! 
وإذا بعبد المنعم يدخل عليهم تتقدّمه الحيته وهو 
يقول : 


تفضلوا إلى البوفيه؛ احتفالنا اليوم قاصر على 
المعدة , . 


3/ 


كان كيال يسير متسكّمًا في شارع فؤاد الأوّل. 
وكانت الساعة تدور في العاشرة من صباح الجمعة 
فلقيى طريمًا غاصًا بامارّة والواقفين» نساء ورجالاء 
وكان الحو لطيمًا كأكثر يام نوفمبرء يغري بالمشى. وقد 
ألف أن يتخفف من عزلته القلبيّة بالاندساس بين 
الناس في يوم عطلته. فيمضي على وجهه بلا غاية, 
متسليًا بمشاهدة الناس والأشياء. وصادفه في طريقه 
أكثر من واحد من تلاميذه الصغار فحيوه برفع أيديهم 
إلى رءوسهم فردٌ تحيتهم بأحسن مما باسيًا. ما أكثر 
تلاميذه! مم من توظّفء ومنهم من لا يزال 
بالجامعة . وغالبيتهم بين الابتدائئ والثانويّ فليس 
بالعمر القصير أن تخدم العِلم والتعليم أربعة عشر 
عامًا. وكان منظره التقليدئ لا يكاد يتشيّر. البذلة 
الأنيقة والحذاء اللامع والطربوش المستقيم والنظارة 
الذهبيّة والشارب الغليظ. حتّى درجته السادسة م 
تتغيّر أربعة عشر عامًا رغم ما يشاع عن تفكير الوفد في 
إنصاف اليئات المظلومة» شيء واحد تخيّر هو رأسه 
الذي انتشر المشيب في سوالفه. وبدا سعيدًا بتحيّات 
تلاميذه الذين يحبّونه ويحترمونه» وتلك منزلة لم يظفر 
بمثلها أحد من المدرّسين. ظفر بها هو رغم رأسه 
وأنفه. وبالرغم ما اعترى تلاميل هذه الأيام من شيطنة 
وجموح] 

وعندما بلغ تسكعه تقاطع عاد الدين مع فؤاد 
الأول ما يدري إلا وبدور تطالعه وجهًا لوج 
وخخحفقت جوانحه كأنما الطلقت بها صمّارة الإنذار 
وجمد بصره لحظات, ثم هم بالابسام ليتفادى من 
الموقف الخرجء غير أثْها حوّلت عنه عينيها في تجاهل 
0 ودون أن تلين أساريرها ثم مرقت من جانبه: 
وعند ذلك فحسب رأى أمْها تتأبط ذراع شابٌ تسير في 
صحبته! وتوقف عن المسيرء ثم أتبعها ناظريه. أجل 
هي بدورء ف معطف أسود أليق» وهذا صاحبها في 


مثل أناقتهاء ولعلّه لم يبلغ الثلاثين بعد. وبذل جهدًا 
صادقًا ليتبالك نفسه التي هرّتها المفاجأة ثم تساءل في 
اهتمام من يكون هذا الشابٌ؟ ليس أخا لاء ولا هو 
بالعاشق إذ إن العشّاق لا يجاهرون بحيّهم ني شارع 
فؤاد الأول خاصّة صباح الجمعةء فهل يكون. . . !؟ 
وتتابعت دقات قلبه في إشفاق. ثم تبعها دون تردّد 
وعيناه لا تفارقاهاء ووعيه مركّز فيها حتّى شعر بن 
حرارته ترتفع وأنْ ضغطه يصعد وأنَّ دقات قلبه تنعاى 
ورآهما يتوقفان أمام معرض محل لبيع الحقائب فدنا 
منه| متباطنًا مصويًا عينيه نحو يد الفتاة اليمنى حقق 
استقرٌ بصره على الخاتم الذهبي! ولفيحه إحساس حار 
كأنه مزيج من الألم العميق» وكان قد مضى على موقف 
شارع ابن زيدون أربعة أشهرء فهل كان هذا الشاب 
يرصده في نباية الطريق ليحل محلّه؟ وما ينبغي أن 
يدهش فإِنْ أربعة شهور زمن طويل قد تنقلب فيه 
الدنيا رأسًا على عقب. ووقف أمام محل اللعب على 
بعد يسير من موقفهماء يلحظها وكأنه يتفرّج عل 
اللعب. إْها اليوم تبدو أجمل مما كانت في أي يوم 
مفى» كالعروس بكل معنى الكلمة! ولكن ما هذا 
السواد الذي يشيع في كاقة ملابسها؟ إِنْ سواد المعطف 
أمر مألوف بل فاخر ولكن ما بال فستانها أسود كذّلك؟ 
موضة أم حداد؟ أتكون أمّها قد توفيت؟ ليس من 
عادته تصفح الوفيات في الصحف ولكن ماذا همه من 
ذلك؟ الذي يبيّه حمًا أنْ صفحة بدور قد انطوت في 
كتاب حياتهء انتهت بدورء وعرف السؤال الخائر 
«أتزوج أم لا أتزؤج» جوابه المحتوم ! فليهنا بالطمأنينة 
بعد الحيرة والعذاب! وكم تمنى لو تتزوج ليخلص من 
عذابه فها هي قد تروجت فليهنا بالخلاص من 
الغذاك 1 :وخل [ليهة أن "إتساثا لى وسح العا ميقل 
الإاحساس الذي يعانيه في موقفه. إِنْ أبواب الحياة 
تغلق في وجهه وقد لبذ خارج أسوارها. ثم رآهما 
يتحوّلان عن موقفهماء ويتجهان نحوه»ء ومرًا به في 
سلام وأتبعهم) عيئيه وهم بالمسير في أثرهما ولكنّه عدل 
عن ذلك فيا يشبه الضجرء ولبث أمام معرض 
اللعب» ينظر ولا يرى شيئًاء ونظر صوبه) مرّة أخرى 
كنا ليلقي عليها نظرة الوداع؛ وكانت تبتعد دون 


السكرية 841 


توقف تختفي ثارة وراء المارّة وتبدو تارةء ويبرى متها 
جانب مرّة ثم يرى جانب آخر. وكان كل وتر من 
أوتار قلبه يغمغم: «وداعًاء». ونفذ إلى أعياقه شعور 
العذاب مصحوبًا بأنغام حزينة ليست بالجديدة. فذكر 
بها حالا مائلة ماضية. ديّت فى أعماقه جارّة وراءها 
شبَّى ذكرياتها المدغمة» كأئّها لحن غامض مثير لأجل 
الألى وهو في الوقت نفسه لا يخلو من لذَّة خفيفة مبهمة! 
شعور واحد يلتقي فيه الألم باللذّة كالفجر تلتقي عنده 
حاشية الليل بأهداب النبار. ثم اختفت عن ناظريه. 
ورتما اختفت إلى الأبدء كبا اختفث أحت لما من قبل ! 
ووجد نفسه يتساءل من عسبى أن يكون خطيبها؟ لم 
يستطيع أن يتفخصه وكم يود أن يفعل» وود أن 
يكون موظّفًا ‏ أن يكون من طبقة أدنى من طبقة 
المعلّمِين! ولكن ما هذه الأفكار الصبيانيّة؟ إِنّه لأمر 
محجل. أمّا عن الألم فجدير بالخبير به أن يطمئن إذ إنه 
عرف بالتجربة أن مصيره - ككل شيء - إلى الموت . 
وانتبه أل مرْة إلى معرض اللعب الذي ينبسط نحت 
عينيه, كان آية في التنسيق والجمال» حاويًا لشتّى فنون 
اللعب التي بهيم ما الأطفال من قطارات وسيّارات 
وأراجيح وأدوات موسيقية وبيوت وحدائق». فانجذب 
إلى المنظر أمامه بقوّة غريبة تفجّرت عنها نفسه المعذبة 
حبّى نشبّئت بها عيناهء لم يتح له في طفولته أن ينعم 
هذه الحئة فكبر طاويًا نفسه على غريزة لم تشبع وفات 
أوان إشباعها. وهؤلاء الذين يتحدّئون عن سعادة 
الطفولة من أدراهم بها؟ ومنذا يستطيع أن جزم بأنّه 
كان طفلا سعيدًا؟ لذلك فا أسخف هذه الرغبة 
الطارئة البائسة التى تحلم بان تردّه طفلًا مثل هذا 
الطفل الخشبئ الذي يلعب في هذه الحديقة الوهمية 
الجميلة! ِنْبا رغبة سخيفة ومحزنة في آن. ولعل 
الأطفال في الأصل كائنات لا تحتمل. ولعلها المهنة 
وحدها التي علّمته كيف يمكن التفاهم معهم 
وتوجيههم. ولكن كيف كانت تكون الحياة لو رد إلى 
الطفولة محتفطًا في ذات الوقت بعقله النامي وذاكرته؟ 
فيعود إلى اللعب في بستان السطح بقلب عامر 
بذكريات عايدة»: أو يمضى إلى العباسية عام ١41١5‏ 
فيرى عايدة وهي تلعب : الحديقة ويعرف في الوقت 


السكرية 

نفسه ما لقيه منها عام 64 وما بعده! أو يخاطب أباه 
وهو يلئغ فيقول له إِنْ الحرب ستقع عام 1914 إِنَْه 
سيقضى عليه عقب إحدى غاراتها! يا لها من أفكار 
سخيفة ولكتها خبر على أيّ حال من التركيز في هذه 
الخيبة الجديدة التي ارتطم بها الآن في شارع فؤاد.» خير 
من التفكير في بدور وخطيبها وموقفه منهاء ولعل ثمّة 
خطأ في الماضى يكفر عنه وهو لا يدري. كيف ومتى 
وقع ذ] إنقط »ادل حادث عرضي أو كلمة قيلت أو 
موقفف كابده» هذا أو ذاك هوالمسكول عن هذا 
العذاب الذي يعاني. يجب أن يعرف نفسه حيّى يتيسّر 
له أن يخلّصها من الامهاء فالمعركة لم تنته بعدى 
والتسليم لم يقع» وما ينبغي له أن يقع. ولعلّه المسثول 
عن ذلك التردّد الجهئمي الذي انتهى به إلى قضم 
الأظافر على حين مضت بدور متأبطة ذراع خخطيبها! 
وينبغى التفكير مرّتين في هذا العذاب المبطن بللة 
يم اليس هو الذي ذاقه قديًا في صحراء 
العبّاسيّة وهو يتطلّع إلى الضوء المنبعث من نافذة حجرة 
الزفاف؟ فهل كان ترذده حيال بدور حيلة لدفع نفسه 
إلى موقف ممائل ليستعيد مشاعر قديمة فيئمل بعذابها 
ولذّمها معًا؟! يحسن به قبل أن يحرّك يده للكتابة عن 
الله والروح والمادّة أن يعرف نفسه. بل شخصه المفرد. 
كيال أفندي أحمد. بل كيال أحمد. بل كيال فقط. حي 
يتسبى له أن يخلقه من جديدء وليبدأ الليلة بمعاودة 
كرّاسة الذكريات ليتفخص الماضى جَيّْداء وستكون 
ليلة بلا نوم» ولكتها ليست الأولى من نوعهاء فعنده 
منها ذخيرة يصمّ جمعها في مؤلّف واحد تحت عنوان 
«ليالي بلا نوم»» ولن يقول إِنْ حياته عبث. ففي 
العباية سيخلّف عظامًا قد تصنع منها الأجيال القادمة 
أداة للّهو! أمّا بدور فقد ولت من حياته إلى الأبد» يا 
ها من حقيقة مليئة بالشجن. كاللحن الجنائزي؛ ولم 
تترك ذكرى حنان واحدة, لا عناق ولا قُبَلء حي ولا 
مسة أو كلمة طيبة» ولكثه لم يعد يخشى السهاد. فقديا 
كان يلقاه وحيدّاء أمّا اليوم فدون ذلك أفانين تغيب 
فيها العقول والقلوب» ثم يذهب إلى عطيّة في البيت 
الحديد بشارع محمّد عل, ثم يواصلان أحاديثها التي 
لا تنقضى. وفي آخر مرّة قال ها بلسان أثقله السكر: 


- كم يوافق أحدنا الآخر!ا 

فقالت له بسسخرية مستسلمة: 

- ما ألطفك في سكرك! . . . 

فاستطرد : 

- ما أسعدنا من زوجين لو تزوجنا! . . . 

لذ رااان فيك كنك وسسيدة) بكبل ممق 
الكلمة, , . 

- تعم» نعم نك ألذّ من الفاكهة في إبّانها! . . . 

فقرصته هازئة وقالت: 

- هذا قولك ولكتني إذا سألتك ريالا فوق ما 
تعطيني هربت! 

- إِنْ ما بيننا ليسمو فوق النقود! 

فحدجته بنظرة احتجاج وقالت: 

- ولكن لي طفلان يفضّلان النقود على ما بيئنا! 

فبلغ به السكر والحرن غايتههما وقال ساخيرًا : 

- أنا أفكر في التوبة أسوة بالستٌ جليلة» ويوم 
يختارني التصوّف فسأنزل لك عن ثروتي! 

فقالت ضاحكة : 

إذا وصلت التوبة إليك فقل عليئا السلام. . . 

فضحك ضحكة عالية وقال: 

لا كانت التوبة المضرّة بمثيلاتك! 

إلى هذا يفزع من السهاد! ثم شعر بِأنْ وقفته أمام 
معرض اللعب قد طالت فتحول عله وذهبا.. . 


1 

تساءل خخالو صاحب حانة النجمة : 

- حقيقي يا حبيبي أئْهم سيغلقون الخّارات؟ 

فاجاب ياسين بثقة واطمئئان : 

لا سمح الله يا خالوا من عادة النوّاب أن يثرثروا 
عند نظر الميزانيّة» ومن عادة الحكومة أن تعد بالنظر في 
تحقيق رغبات النؤاب في أقرب فرصة.» ومن عادة هذه 
الفوضة ال تقتزت أبذا ... 

واستبقت جماعة ياسين بحانة محمد على المشاركة في 
التحقيق. فقال رئيس المستخدمين : 


طول عمرهم يُعِدون بإخراج الإنجليز. وبمتح 
جامعة جديدة» وبتوسيع شارع الخليج» فهل تم شيء 
بن ل خال؟ 

وقال عميد ذوي المعاشات : 

- لعل النائب مقدّم الاقتراح قد شرب حمرًا زعافا 
من خمور الحرب فانتقم بتقديم اقتراحه. . . 

وقال المحامي : 

ومهما يكن من أمرء فَإِنْ حانات الشوارع 
الإفرنجيّة لن تمس بسوءء فا عليك يا خالو إذا وقع 
المحذورء إلا أن تسهم في تافرنا أو غيرها. . . والخار 
للخرّار كالبنيان يشدّ بعضه بعضا. . . 

وقال باشكاتب الأوقاف: 

إذا كان الإنجليز قد دفعوا بدباباهم إلى عابدين 
لسألة تافهة هي إعادة النحّاس إلى الحكم. فهل نظنهم 
يسكتون عن إغلاق الخارات؟ ! 

وكان بالحجرة ‏ إلى جماعة ياسين - نفر من أهل 
البلد من التجّارء ولكن على الرغم من ذلك اقترح 
الباشكائب أن يمرجوا سكرهم بشىء من الغناء قائلا : 

هلموا نغني «أسير العشق». 

فبادر تخالو بالعودة إلى موقفه وراء الطاولة» وراح 
الأصدقاء يغئّون: «أسير العشق يا ما يشوف هوان». 
وبدت نغمة السكر أوضح الأنغام في أصواتهم حقق 
لاحت في وجوه أهل البلد بسمات سائخرة» غير أن 
الغناء لم يستمرٌ طويلاء وكان ياسين أوْل المنسحبين. 
ثمّ تبعه الآخرون فلم يتم الدور إلا الباشكاتب» ثم 
ساد سكوت تقطعه من حين إلى حين مصمصة أو 
طق أو يد تصِفّْق في طلب كأس أو مزّةء وإذا بياسين 
يقول : 

أما من وسيلة ناجعة للحبل! 

فقال الموظف العجوز كالمحتج : 

لا تفتا تسأل هذا السؤال وتعيده!... 
بالله يا أخى ! . . . 

وقال باشكاتب الأوقاف: 

لا داعي للجرع يا ياسين أفندي» ومسير بنتك 
تحبل! 

فقال ياسين وهو يبتسم ابتسامة بلهاء : 


صارك 


السكرية 8:44 


إنّا عروس كالوردة» زينة السكريّة. ولكتها أول 
فتاة في أسرتنا يمرٌ عليها عام على زواجها دون أن 
تحمل. هذا جزعت أمها! 

وأبوها فيا يبدو! 

فقال ياسين وهو يبتسم ابتسامة بلهاء : 

إذا جزعت الروجة جزع زوجها. . . 

- لو يتذكر الإنسان قَرّف الأولاد لكره الحبل! . . . 

ولو! الناس يتزوجون عادة لإنجاب الذرية. . 

- لهم حىّ! لولا الأطفال ما طاق الحياة الزوجية 
أحد. , 

فشرب ياسين كأسه وهو يقول: 

أخشى أن يكون ابن أختي من أتيساع هذا 
الرا ااه 
بعض الرجال ينجبون الأطفال ليشغلوا زوجاتهم 
بهم فيستردوا شيئًا من حريتهم المفقودة! 

فقال ياسين: 

هيهات! المرأة ترضع طفلًا وتبدهد آخر ولكتها في 
نفس الوقت تحملق في زوجها «أين كنت؟ . لماذا غبت 
إلى هذه الساعة؟) ومع ذلك فالحكاء لم يستطيعوا أن 
يغيّروا هذا النظام الكو . 

هاذا ملعهم؟ 

أزواجهم! لم يدعن لهم فرصة للتفكير في 
ذلك . . . 

اطمئنٌ يا ياسين أفندي» فإِنْ زوج ابنتك لا يمكن 
أن يسى فضل ابنك في توظيفه . 

- كل شيء ينسى. . 

ثم وهو يضبحك .. وقد دغدغت الخمر رأسه: 

ثم إِنَّ «المحروس» نفسه خارج الحكم الآن! 

آه! والوفد سيعمر هذه المرة في| يبدو. . . 

وإذا بالمحامي يقول بلهجة خخطابية : 

لو سارت الأمور سيرًا طبيعيًا في مصر لحكم الوفد 
إل الاية انم : 

فال ناسين فناحكا: 

هذا القول له وجاهته لولا خروج ابني على الوفد! 

_ ولا تنسوا حادث القصّاصين! إذا مات الملك فقَلٌ 
على أعداء الوفد السلام ! 


5 السكرية 


الملك بسلام ! 

الأمير تحمّد عل يعن بذلة التشريفة! وهو منسجم 
مع الوفد طول عمره. . . 

الجالس على العرش - أيّا كان اسمه هو عدوٌ 
للوفد بحكم مركزه كالوبسكي والحلوى لا يتفقان! 

فقال ياسين وهو يضحك نشوة : 

لعل الحق معكمء فأكير ملك بيوم يعرف أكثر 
منك بسئة» وأنتم منكم من بلغ أرذل العمر ومنكم 
من يوشك أن يدركه! 

- اسم الله عليك يا بن السبعة والأربعين! 

على أيّ حال فأنا أصغركم سنًا. . . 

ثم فرقم بأصابعه وهو يتمايل نشوة وخيلاء. 
واستطرد : 

- ولكن العمر الحقيقيٌ لا يقاس بالسنين» ولكن 
بالنشوة ينبغي أن يقاس., والخمر قد انحطت نوعا 
ومذاًا في أيام الحرب ولكنّ نشوتها هى هي . وعند 
الاستيقاظ صباحًا يدق رأسك الصداع فتفتح عينيك 
بكياشة ثم تجا كحولاء غير أني أقول لكم إِنّه في 
سبيسل النشوة هون أي شيء. وربٌ أخ يتساءل 
والصححة؟ أجل ل تعد الصخة كما كانت» وابن السبعة 
والأربعين غير مثيله في الزمن الأوّل تا يدل على أن كل 
شىء قد غلا ثمنه في الحرب إلا العمر فلا ثمن لهء في 
الزمن الأول كان الرجل يتزوج في الستّين من عمره أمّا 
في زماننا الغادر فابن الأربعين يسأل أهل العلم عن 
الوصفات المقوؤية» والعريس في شهر العسل قد يوحل 
في شبر ماء! 

الزمن الأوّل1!؛ أهل الدنيا حميعًا يسألون عنه! 

فعاد ياسين يقول وقد أحذت أنغام السكر ترنْ في 
أوتار صوته : 

الزمن الأوّل» الهم ارحم أبي؛ شد ما ضربني 
ليمنعني من الاشتراك الدموي في الثورة! ولكنّ الذي 
لا ثرهبه قنابل الإنجليز لا يُرهبه الزجر! وني قهوة أحمد 
عبده كنا نجتمع لتدبير المظاهرات وقذف القنابل. . . 

- هذه الأسطوائة من جديد! خحترني يا ياسين أفندي 
أكان وزنك أيَّام الجهاد كوزنك اليوم؟ 

- وأثقل. غير أني كنت حين الحذ كالنحلة. وفي 


يوم المعركة الكبرى سرت على رأس المظاهرة أنا وأخحي 
أوّل شهداء الحركة الوطنيّة» فسمعت أزيز الرصاص 
وهو يمرق لصق أذني ويستقرٌ في أحي » يا للذكرى! لو 
امتدٌ به العمر للحق يركب الوزراء المجاهدين! 

ولكنّ العمر امتدٌ بك أنت! 

- نعم ولكن ما كان بوسعي أن أكون وزيرا 
بالابتدائيّة: ثم إِنْنا في جهادنا توقعنا الموت لا 
المناصب» غير أنه لا بدّ أن يموت أناس ويتبوأ المناصب 
آخرون» وف جنازة أخحي مثى سعد زغلول فقدّمني 
إليه زعيم الطلبة,» هذه ذكرى عظيمة أخرى! 

- ولكن كيف وجدت ‏ رغم جهادك ‏ متسعا 
للعريدة والعشق؟!] 

اسمعوا يا هوه!ء وهؤلاء الجنود الذين يضاجعون 
النساء في الطرق أليسوا هم الذين ردّوا رومل على 
أعقابه؟! . فالجهاد لا يكره الفرفشة؛ والخمر لو علمتم 
روح الفروسيّة» والمجاهد والسكران أخوان يا أولي 


الألباب! 
ا تلع زغلول ألم يقل للك شينًا في جنازة 
أخيك. ؛ ؛ ؟ 


فأسجاس عنه المحامي قائلا : 

قال له ليتك كنت الشهيد أنت! . . . 

وضحكواء وكانوا في هذه الخال يضحكون أؤلا ثم 
يتساءلون عن السببء وضحك معهم ياسين في أريحية 
صافية ثم واصل حديثه قائلا: 

م يقل هذاء كان رحمه الله مؤدّبًا لا كحضرتك. 
وكان ابن حطّ أيضًاء ولِذّلك كان واسع الآفاق» فكان 
سياسيًا ومجاهدًا وأديبًا وفيلسوفا وقائونيّاء وكانت كلمة 
مله نحبي وتميث! 

الله يرحمه, 

ويرحم الجميع» كل ميت يستحقٌ الرحمة بحسبه 
أنّه فقد الحياة. حيّى المومس وحيّى القواد. وحيّ الأم 
التي كانت تبعث بابنها إلى رفيقها ليعود إليها به. . . 

- وهل يمكن أن توجد هذه الأم؟! 

كل ما تتصوّر وما لا تنصور يوجد في الحياة! 

آل تبد إلا ابعها؟ 


- ومن أرعى للدم من الابن؟! ثم إنُكم جميعا أبئاء 
المضاجعة ! 

الشرعيّة ! 

هذه شكليّات أما الحقيقة فواحدة» وقد عرفت 
مومسات بائسات كان فراشهنٌ يخلو من ضجيع أسبوعًا 
أو أكثر. دلوني على أمّ من أنهاتكم قضت مثل هذه 
الفترة بعيدًا عن قرينها! 

لا أعرف شعبًا كالشعب المصريّ ولعا با لخوض في 
أعراض الأمهات! 

نحن شعب قليل الأدب! . . . 

فقا لاسن فاسكا: 

إنّ الزمن أدّبنا أكثر مما ينبغي» والشيء إذا زاد 
عن حدّه انقلب إلى ضدّه. ولذلك فنحن غير مؤدّبين! 
ولكن تغلب علينا الطيبة رغم ذلك. فالتوبة عادة 
خحتامنا! . . . 

ها أنا من ذوي المعاشات ولكنْني لم أتب بعد! 

التوبة لا تخضع لكادر الموظفين, ثم إننك لا تفعل 
شيئًا ضارّاء أنت تسكر ساعات كل ليلة وليس في 
ذلك من باس» وسوف يمنعك عن السكر يومًا المرض 
أو الطبيب وكلاهما شبىء واحدء ونحن بطبعنا ضعفاء. 
ولولا ذلك ما ألفنا الحمر ولا صبرنا على الحياة 
الزوجيّةء ونزداد بمرور الأيام ضعفًا ولكنّ رغائبنا لا 
تقف عند حدّء هيهات» فنتعذب ثم نسكر مرة 
أخرى» ويشيب شعرنا فيفضح منا المستور وإذا بصفيق 
يعترض سبيلك في الطريق وهو يقول: «عيب أن 
تطارد امرأة وشعرك شايب!» يا سبحان الله ما لك 
أنت إذا كنت شابًا أو يخا أتبع امرأة أم أتبع حمارة! 
حي تخال حيئًا أن الناس متآمرون مع زوجك عليك» 
وهنالك إلى ذلك كله الدلال بثقله والعسكري 
مبراوته حي الخادمة تتيه دلالا في سوق الخضار, 
وهكذا تجد نفسك في عالم مشاكس لا صديق لك فيه 
إِلّا الكاس» ثم يجيء دور المرتزقة من الأطباء فيقولون 
لك بكل بساطة: ولا تشرب!» 

- ومع ذلك آتنكر أنّنا نحبٌ الدنيا بكلٌ قلوبنا؟ 

- بكلّ قلوبنا! والشءٌ نفسه لا يخلو من خيرء حت 
الانجليز لا يخلون من خيرء لقد عرفتهم يومًا عن 


السكرية اه6ة 


كثب. وكان لي منهم أصدقاء على عهد الثورة! 

فهتف المحامي : 

ولكنّك كنت تجاهدهم . وم الصيق؟ ! 

د نعم... نعم لكل حال ما يناسبهاء وفي مرة 
ظئوني جاسوسًا لولا أن سارع إل زعيم الطلبة في 
اللحظة المناسبة فدلٌ القوم على حقيقتي فهتفوا ليء 
وكان ذلك في جامع الحسين! 

- يعيش ياسين. . . يعيش ياسين! ولكن ماذا كنت 
تفعل في جامع الحسين؟ 

أجب؛ هذه نقطة هامّة جدًا!. . . 

فضحك ياسين ثم قال : 

كنا نصلٍ الجمعة. وكان من عادة أبي أن ياخطذنا 
معه لصلاة الجمعةء ألا تصدّقون؟ سلوا أهل الحسين! 

كنت تصل زلفى لأآبيك؟ 

وللهء لا تسيكوا الظنّ بناء نحن أسرة دينيّة» أجل 
كلّنا سكيرون فاسقونء ولكن في العباية تنتظرنا التوبة! 

وهنا تأوؤه المحامي قائلا : 

ألا نعاود الغناء قليلة؟ 

فبادره ياسين قائاة : 

أمس غادرت الحانة وأنا أغنى فاعترضبي شرطيّ 
وهتف بي محذُرًا : ديا أفندي!؛ فسالته : «ألا يح لى أن 
أغني ؟ 4 فقال : «مملوح الرعيق بعد الساعة 2١7‏ فقلك 
محتجا: «ولكنني أغي ! فقال بحدّة: «كله زعق أما 
القانون», فسألته: «والقنابل الى تنفجر بعد الساعة 
؟١‏ آلا تمد زعمًا؟» فقال مهدّدًا: «الظاهر أنّك ترغب 
في البيات في القسم» فابتعدت عنه وأنا أقول: وسل 
الأفضل أن أبيت في البيت!)»» كيف نكون أمة 
متحضرة والعساكر تحكمنا؟! وفي البيت تلقى زوجك 
بالمرصاد وهنالك في الوزارة رئيسك». حتى في التربة 
يستقبلك ملاكان بالهراوات . . 

وعاد المحامي يقول: 

- فلنمزٌ بشيء من الغناء. . 'ز 

فتتحتح عميد ذوي المعاشات ثم راح يترم : 


جوزي اتمبوز عليه 
ولنقهء الليفة “في "إبديهة 
بىئ/) مأ جه وجبهنسا عليه 


دى نار يا ناس وآدت فيه 


1ه 4 السكرية 


وسرعان ما رددوأ المطلع 2 حماس *مجي ) وكان 


4 


كثيرًا ما كانت تشعر خديجة بأئْها وحيدة. ومع أنْ 
إبراهيم شوكت ‏ خاضة منذ أن قارب السبعين ‏ كان 
يعتكف في بيته طوال أيّام الشتاء» إلا أنّه لم يستطع أن 
يبدد وحشتهاء ولم تبن في القيام بواجبات بيتهاء غير 
أمها ‏ الواجبات ‏ باتت أهون من أن تستغرق حيويتها 
ونشاطهاء فعلى تجاوزها السادسة والأربعين لم تزل قوية 
نشيطة وازدادت جسامة. وأسوأ من هذا أنْ وظيفتها 
كأمّ قد انقطعت على حين أن دورها كحة لم ولن يبدأ 
أبدًا فيها بدا. فإحدى الزوجتين ابئة أخيهاء والأخرى 
موظفة لا تكاد تلتقي بها إلا فيما ندر من الأوقات 
والمناسبات. فكانت تروّح عن صدرها المكبوت فيا 
يدور بينبا وبين زوجها المتلفع بعباءته . 

- مضى أكثر من عام على زواجههما ولم توقد شموعًا! 

فهر الرجل منكبيه استهانة دون تعليق فعادت 
تقول : 

- لعل عبد المنعم وأحمد يعدّان الذْرّيّة موضة قديمة 
كطاعة الوالدين! 

فقال الرجل في ضجر: 

5 أريحي نفسك فهها سعيدان وحسيئا هذا. 

فتساءلت فى حذة: 

- إذا كانت العروس لا تحبل ولا تلد فها فائدتها؟ 

- لعل إبنيك يخالفانك في هذا الرأي | 

- لقد خالفاني في كل شي ما أضيع تعبي 
وأملٍ .. 
أيحزنك آلا تكوني جدّة؟ 

فقالت في حدّة تعالت درجتها؛ 

- إن حزني عليههما لا على نفس ! 

لقد عرض عبد المنعم كريمة على الطبيب فبشره 
خيرا. . . 
- أنفق المسكين كثيرًا وسينفق غدًا أكثر» إِنْ عرائس 
اليوم غالية الثمن كالطاطم واللحوم! 


فضحك الرجل دون تعليق فاستطردت ثقول: 

- أنَا الأخرى فأستعين عليها بسيدي المتويٍ . 

- اعترفي بأنْ لسانها كالشهد! 

- مكر ودهاءء ماذا تتوقع من ابئة العنابر؟ 

اتقي الله يا شيخة! 

- ترى متى يذهب بها «الاستاذ إلى الطبيب؟ 

- إنبما زاهدان في هذا! 

- طبعًاء إِنْها موظفة» فمن أين تجد الوقت للحبل 
والولادة؟ 

- إنها سعيدان ما في ذلك شلقٌ. 

- الموظفة لا يمكن أن تكون زوجة صالحة. 
وسيعرف ذلك بعد فوات الأوان. . . 

- إنّه رجل ولن يضيره ذلك. . . 

- ليس في هذا الحيئ كله شابّان كولديّ فيا نخسارة! 

+ 6د # 

وكان عبد المنعم قد تبلور طابعه واتباهه. فأثبت أنه 
موظف كفء و«أخ» نشيطء وقد انتهى الإشراف على 
شعبة الماليّة إليه فعْيّن مستشارًا قانونيًا لحا وأسهم في 
تحرير المجلّة. وكان يلقي المواعظ أحيانًا في المساجد 
الأهليّة. وجعل من شقته ناديًا لإخوانه يسهرون عنده 
كل ليلة وعلى رأسهم الشيخ عل المنوفي. وكان الشابٌ 
شديد التحمس هوفور الاستعداد كي يضع جميع مأ 
يملك من جهد ومال وعقل في خدمة الدعوة التى أمن 
بكلّ قلبه على حدٌ تعبير المرشد - بِأئّها دعصوة سَلْفيّة 
وطريقة سئي وحقيقة صوفيّة وهيئة سياسيّة وجماعة 
رياضية ورابطة علميّة ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة 
اجتماعيّة. وكان الشيخ عل المنوني يقول: 

- تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة تنظيم شئون 
الناس في الدنيا والآخرة؛. وإنْ الذين يظئون أنْ هذه 
التعاليم نما تتناول الناحية الروحيّة أو العبادة دون 
غيرها من النواحي مخطئون قِ هذا الظْنّ». فالاسلام 
عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية 
ومصحفف وسيفا. . 

فيقول شابٌ من المجتمعين : 

- هذا هو دينناء ولكدّئا جامدون لا نفعل شيئًا 
والكفر يحكمنا بقوانينه وتقاليده ورجاله. . . 


فيقول الشيخ علّ: 

لا بد من الدعاية والتبشيرء وتكوين الأنصار 
المجاهدينء ثم تجبيء مرحلة التنفيل. . . 

- وإلامٌ ننتظر؟ 

- لنتدظر حش تنتهي الحرب. إن الحقل مهيا 
لدعوتناء وقد نزع الئاس ثقتهم من الأحزاب. وعندما 
يتف الداعي في الوقت المناسب يهب الإخوان وكل 
مدرع بقرآنه وسلاحه. . . 

عبد المنعم بصوته القويّ العميق : 

- فلنوظن النفس على جهاد طويلء إِنّْ دعوتنا 
ليست موجّهة إلى مصر وحدها. ولكن إلى كافة 
المسلمين في الأرض. ولن يتحقق لها النجاح حي 
تجمع مصر والأمم الإسلاميّة على هذه المبادئ 
القرآنيّة» فلن نغمد السلاح حيّى نرى القرآن دستورًا 

الشيخ عل النوني: 

أبشّركم بن دعوتنا تنتشر بفضل الله في كل بيكة: 
لها اليوم مركز في كل قرية» إنْها دعوة الل والله لا 
يخذل قومًا ينصرونه. . 

وفي نفس الوقت؛ كان يستعر نشاط آخر في الدور 
التحتانيّ وإن اختلف الحدف؛ ولم يكن وفير العدد 
كهذاء فإِنّ أحمد وسوسن كانا يجتمعان في كثير من 
الليالي بعدد محدود من الأصدقاء مختلفيى الدتحل 
والمللء أكثرهم من البيئة الصحفية. وقد زارهم 
الأستاذ عدلي كريم ذات مساء. وكان على علم مما 
يدور بينهم من مناقشات نظريّة. فقال لهم: 

حسن أن تدرسوا الماركسيّة» ولكن تذكروا أنّها 
ولزن تكن قروز تازفتة إلا أن حعمتدها السك هن 
حتميّة الظاهرات الفلكيّة. إِنْا لن توجد إلا بإرادة 
البشر وجهادهمء فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف 
كثيرا ولكن في أن نلأ وعيى الطبقة الكادحة بمعنى 
الدور التاريخن الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها 
والعالم جميعًا. . . 

أحمد : 

- إِننا نترجم الكتب القيّمة عن هذه الفلسفة 
للخاصّة من المثقّفين» ونلقي المحاضرات الحاسيّة على 


السكرية “اهة 


العمال المجاهدين» وكلا العملين واجب لا غنى 

فقال الأستاذ : 

- ولكن المجتمع الفاسد لن يتطوّر إلا باليد 
العاملة» وحين يمتلقّ وعيها بالايمان الحديد. ويمبى 
الشعى كله كبلة واد من الا رادة و قيعالاف أن تن 
في سبيلنا القوانين الهمجيّة ولا المدافع. . . 

- كلنا مؤمئون بذلكء غير أنْ كسب العقول الثقّفة 
يعني السيطرة على الفئة المرشحة للتوجيه والحكم . . . 

وإذا بأحمد يقول ' 

- سيّدي الأستاذ, ثمّة ملاحظة أودٌ إبداءهاء 
عرفت بالتجربة أنه ليس من العسير إقناع المثقّفين بأن 
الدين خرافة وأنْ الغيبيّات تخدير وتضليل» ولكن من 
الخطورة يمكان مخاطبة الشعب بِبْذه الآراء. وإِنّ أكبر 
تهمة يستغلها أعداؤنا هي رمي -حركتنا بالإلحاد أو 
الكفر. , . ؟ 

- إن مهمتنا الأولى أن نحارب روح القناعة 
والخمول والاستسلامء أمَا الدين فلن يتأقٌ القضاء 
عليه إلا في ظل الحكم الحرٌء ولن يتحمّق هذا الحكم 
إلا بالانقلاب» وعلى العموم فالفقر أقوى من الإيمان. 
ومن الحكمة دائمً) أن تخاطب الناس عسلى قدر 
عقوم . . 

ونظر الأستاذ إلى سوسن باسمًا وهو يقول: 

- كنت تؤمنين بالعمل فهل بت تقنعين بالنقاش في 
ظلّ الزواجح؟. . . 

وكانت تدرك أنه يداعبها وأنّه لا يعني ما يقول» 
ومع ذلك فقد قالت جادة : 

- إن زوجي بحاضر العيّال في الخرابات النائية» وأنا 
لا أني أوزّع المنشورات بنفسى. . . 

ثم قال أحمد مغم) : 

- إن عيب حركتنا أتها تجذب إليها كثيرين من 
النفعيّين غير المخلصين., من هؤلاء من يعمل بغية 
الأجر أو من يعمل للمصلحة الحزبية! 

فقال الأستاذ عدلي كريم وهو ببرٌ رأسه الكبير في 
استهانة واضحة : 


أعلم هذا حقّ العلم. ولكيّى أعلم أيضا أن 


4 السكرية 


الأموئين قد ورثوا الإسلام وهم لا يؤمنون به ومع 
ذلك فهم الذين نشروه في بقاع العالم القديم حي 
إسبانيا!! فمن حقنا أن نستفيد من هؤلاء. علينا أن 
نحذّرهم في الوقت نفسه, ولا تنسوا أن الزمن معنا 
على شرط أن نبذل ها في وسعئنا من جهد وتضحية , . . 

- والاخوان يا أستاذ! لقد بتنا نشعر بأئّهم عقبة 
خطيرة في سبيلنا! 

- لا أنكر هذاء ولكتهم ليسوا بالخطورة التي 
تتخيلهاء ألا ترى أُنَم يخاطبون العقول بلغتنا فيقولون 
اشتراكيّة الإسلام؟ فحيّى الرجعيون لم يجدوا بدا من 
استعارة اصطلاحاتنا؛ وهم لو سبقونا إلى الانقلاب 
فسوف يحققون بعض مبادئنا ولو تحقيقا جزئياء ولكهم 
لن يوقفوا حركة الزمن المتقدّمة إلى هدفها المحتوم. ثم 
إن نشر العلم كفيل بطردهم كما يطرد النور اخفافيش! 

+ ا عه 

ومضت سخديجة تراقب مظاهر هذا النشاط الغريب 
في دهشة مقرونة بالامتعاض والسخطء حيٌّ قالت يومًا 
لزوجها: 

- ل أر بيتا كبيي عبد المنعم وأحمد. لعلّهما قهوتان 
وأنا لا أدري؛ فلا يجيء المساء حيّى يمت الطريق 
بالزؤار من أصحاب اللحى والخواجات, لم أسمع عن 
شيء كهذا من قبل. . . 

فهر الرجل رأسه قائلًا: 

- آن لك أن تسمعي . . . 

فقالت بحذة: 

- إن مرتّبيهها لن يكفيا ثمن القهوة التي تقدَّم 
للضيوف! 

- هل اشتكيا إليك الفق؟ 

- والناس؟ ماذا يقولون وهم يرون أفواجًا تدخل 
وأفواججا تخرج؟ 

1 واحد حر في بيته. . . 

فنشخت قائلة : 

إن أصوات أحاديثهم التي لا تنتهي تعلو أحيانًا 
حتّى تخرج إلى الحارة. . 

- فلتخرج إلى الحارة أو فلتصعد إلى السياء! . . 

وتمبّدت نخديجة من الأعاق وهي تضرب كما بكفٌ. . 


و6 


كانت فيلا عبد الرحيم باشا عيسى بحلوان تودّع 
الفوج الأخير من الزوار الذين جاءوا يودّعونه قبيل 
سفره إلى الأراضي الحجازية لأداء فريضة الحج. . . 

إن الحبج أمنية قديمة. لعن الله السياسة فهي التي 
شغلتني عنه عامًا بعد عام؛ ولكن في مثل عمري يجب 
أن يفكر المرء في أداء اللقاء القريب بربّه. 

فقال عل مهران وكيل الباشا: 

- لعن الله السياسة! 

فرذد الباشا عينيه الذابلتين بين رضوان وبين حلمي 
متفكرًا ثم قال : 

- قل فيها ما شئت. غير أن لها جميلا في عنقي لا 
أنساه وهو أمْبا سلتني عن وحشتي, إِنْ الأعزب العجوز 
مئلي يلتمس الأنس ولو في الجحيم! 

فلعب عل مهران حاجبيه وقال: 

- ونحن يا باشا ألم نقم بواجبنا في تسليتك؟ 

- دون شكٌ. ولكن يوم الأعسزب طويل كليل 
الشتاءء ولا بد للإنسان من رفيق» وإِن لأعترف بأنْ 
المرأة ضرورة خطيرة» وكم أذكر أمّي هذه الأيّام! إِنّْ 
المرأة ضرورة حص من لا يتعشّقها! 

وكان رضوان يفكر في أمور بعيدة فإذا به يسأل 
الباشا: 

هب النخاس باشا يسقط أفلا تعدل عن السفر؟! 

فلوّح الباشا بيده ساخخطا وقال : 

- فليبق بنحسه حتثّى أعود على الأقل من 
الحج!. . 

ثم وهو يبز رأسه : 

- كلنا مذنب, والحج يغسل الذنوب . . 

فضحك حلمي عت قائلا : 

- نك يا باشا مؤمن» وإِنّ إيمانك للا يحبر الكثيرين ! 

لمه؟ إِنَّ الإيمان واسع الصدرء والمنافق وحده 
الذي يذّعي البراءة المطلقة» ومن الغباء أن تظنّ أن 
الإنسان لا يقترف الذنوب إلا على جنّة الإيمان» ثمّ ِنَّ 
ذلوبنا أشبه بالعبث الصبيانقّ البريء! 

فقال علّ مهران متتهّدًا في ارتياح : 


يا له من قول جميل! والآن دعنيى أصارحك بأني 
تشاءمت كثيرًا حين حدّئتني عن اعتزامك الج 
وساءلت نفسى ترى أهي التوبة؟! وهل تتتهي باللسبة 
لنا مسرّات الحياة؟ ! ' ا 

فضحك الباشا حيّى اهترٌ جذعه وقال: 

أثك فنيطان هد :فلن :اقيطان» اتمرنون عقا" إذا 
علمتم أنْها التوبة؟ 

فقال حلمي متأوها: 

- كمن ذبح وليدها في حجرها! . . . 

فضحك عبد الرحيم باشا مرّة أخرى وقال: 

-آه منكم يا أولاد الويه. على مثلٍ إذا أراد التوبة 
حمًا أن يناى بنفسه عن العيون النجل والخندود 
الورديّة» وأن يعكف على مجاورة قبر النب عليه الصلاة 
والسلام. . . 

فهتف مهران في شياتة : 

الحجاز وما أدراك ما الحجازء لقد حدّثني عنها 
العارفون. ستكون كالمستجير من الرمضهاء بالنار! 

فقال حلمي عرزت كالمحتج : 

لعلّها دعاية كاذبة كالدعايات الإنجليزيّة» وهل 
يوجد في الحجاز كله رمعل ريد ركوا | 

فهتف عبد الرحيم عيسى : 

ولا في الحنّة!. . (ثم متراجعًا). . لكثنا يا أولاد 
الحرام بصدد حديث التوبة! 

فقال عل مهران: 

مهلا يا باشاء لقد أخبرتني يومًا عن الصو الذي 
تاب سبعين مرّة؛ أليس معبى هذا أنه أذنب سبعين 
مرة؟ 

فقال رضوان: 

أو ماثة مرّة! 

فقال عل مهران : 

أنا راض بسبعين! 

فتساءل الباشا ووجهه يتهلل بثرًا: 

- وهل في العمر بقيّة؟ 

- ربّنا يطول عمرك يا باشاء طمئنًا وقل إنها التوبة 
الأولى! 


ضََ والأخيرة ! 


السكرية هه4ة 


- فشر! إذا تحذيتني فسوف أستقبلك حين العودة 
من احج بقمر ولا كل الأقمار ثم ننظر ماذا يكون من 
أمرك ! 

فقال الباشا باسمًا؛ 

- ستكون النتيجة مشل وجهك يا بوز اللإخص. 
أنت شيطان يا مهرانتء شيطان لا غنى للإنسان 

أحمد الله على ذلك. , . 

رضوان وحلمي في وقت واحد تقريبا: 

وتحمذه عليه , , 

فقال الباشا في شخيلاء وسرور: 

ِ أنتم أنسي . ما الحياة بدون المودّة والصداقة؟ 
الحياة جميلة, الجمال جميل. الطرب جميلء العفو 
جميل» أنتم شباب وتنظرون إلى الدنيا من زاوية 
خاصّة؛ وسوف يعلمكم العمر الكثيرء إن أحيّكم 
وأحبٌ الدنياء وإنْ زياري لبيت الله للشكر والاعتذار 
وطلب الحداية. . 

فقال رضوان باسم): 

ما أحمل منظرك! إنّك تقطر صفاء . . 

فقال عل مهران بمكر: 

ولكنّ حركة صغيرة تجعله يقطر أشياء أخرى». 
حمًا يا باشا إِنّك معلّم الجيل! 

عنوافقه إبلمن تنقيا انو القرمة!:«اللية :إن ذا 
قدمت يومًا للحساب فسأشير إليك وكفى ! 

أنا! مظلوم والشى لست إلا عبدًا مأمورًا!. , . 

- بل أنت شيطان. . . 

ولكن لا غنى لإنسان عنه؟ ! 

فضحك الباشا قائل: 

- نعم يا عكروت. . 

كنت وما أزال في حياتك العامرة نغمًا مطربًا 
ووجهًا مليحًا وهناء متجدّداء وأخحيرًا لا تنس أيام 
شبابي يا سعادة الغادر! . . . 

فتأوّه الباشا قائلا: 

- يام زمان! آه من الزمان! يا أولاد 1 نكر؟ ! ! 
جلت حكمتك يا رب وَعَلْتَ!. . . 


5 السكرية 


كانت قبلان لا تميل لغامز 
فالاهمبا الإصباح والامساء 


فقال مهران ملعمًا حاجبيه : 

لغامز؟! بل قل لا قيل لمهران! 

يا ابن الكلب لا تفسد الحو مبذرك! لا يجوز أن 
نعبث عند ذكر الأيّام الجميلة. الدموع أحيانًا أجمل من 
الابتسام وأضخم إنسائيّة وأشدّ عرفانا بالجميل» 
اسمعوا هذا أيضا: 
واستنكرتني وما كان الذي نكرت 

فير :الفيواوك::إلذ التحيصية والتشميلعنا 

ما رأيكم في قول «من الحوادث»؟ 

وإذا بمهران ينادي على طريقة باعة الصحف: 

الحوادث والأهرام والمصري . . . 

الباشا يائسا: 

عالق لسن هليف :ولكن هده نم 

عليك أنث! 

أنا! أنا برىء منك. عندما عرفتك كنت على 
حال يحسدك عليها إبليسء ولكبِي لن أسمح لك أن 
تنتزعنيى من جو الذكريات, نعم اسمعوا إلى هذا 
أيضًا: 
عريية ين البش مان ركان ميا 

كما يعرى مسن الورق القضيب 

فتساءل مهران كالمنزرعج : 

ب القضيبة .يا اباشا , 

الباشا وهو يرذد ناظريه بين رضوان وحلمي 
المغرقين في الضحك : 

صاحبكم جنّة لا يؤْثّر فيها الشعر! ولكنّه سيبلغ 
قريبًا فترة الحسرات, حين يصير كل جميل خيرًا لكان 
أو إحدى أشخواتهاء (ثم متلفئًا إلى مهران) وأصحاب 
زمان يا ابن الحرمة هل نسيتهم؟ 

- أوهء الله يمسّيهم بالخير. . . كانوا اللجال كله 
والدلال كله, , , 

ماذا تعرف عن شاكر سليهان؟ 

- كان وكيل الداخليّة وفرخة بكشك عند الإنجلير 
حيّى أحيل على المعاش قبل الأوان في وزارة النحاس 


الثانية أو الثالثة لا أذكرء وأظنّه الآن معتكمًا في عربته 
بكوم حمادة. . 

يا عينى على أيامه! وحامد النجدي؟ 

هذا أسوا أحبابنا حظًا! خسر الجلد والسقطءع 
وإنّه ليطوف الآن ليلا بالمراحيض العموميّة. . 

كان خفينًا ظريفًا ولكنّه كان كذلك مقامرًا 
وعربيدا. وعلي رأفت؟ 

- لقد بلغ «باجتهاده» أن صار عضوا في مجلس إدارة 
عدّة شركات. ولكنّ سمعته ضيعت عليه الوزارة فيا 
يقال!., . , 
- لا تصِدّق ما يقال» ول الوزارة أناس جاوزت 
شهرتهم حدود المملكة. غير أن هذا الرأي الذي طالا 
نوهت لكم عنه وهو أنْ التحلى بالفضائل العامة واجب 
علينا أكثر من بقبّة الناس! فإذا تحقق لأحدكم هذا فلا 
تثريب عليه بعد ذلك. لقد حكم المياليك مصر 
أجيالاء وما زالت ذراريهم تنعم بالجاه والمال» وما 
المملوك؟! هو ذلك نفسه! سأقصٌ عليكم قصّة عظيمة 
المغزى. . . 

وصمت الباشا قليلا كأئما ليجمع شتات فكره ثم 
قال : 

- كنت في ذلك الوقتث رئيس محكمة. وحدث أن 
عُرضت عل قصيّة مدنية عن ميراث مختلف عليه 
رضوان وقوام حلمي... (ثم مشيرًا إلى مهران) 
ورشاقة هذا الكلب في عر أيّامه| فتصادقنا عهذًا وأنا 
لا أدري عن سرّه شيئاء حبّى إذا كان يوم نظر القضيّة 
ما أدري إلا وهو يقف أمامي ممذلا لأحد طرفي النزاع | 
ماذا تظئون فعلت؟ 

فتمتم رضوان : 

ديا له هر رقت 1 : 

تلحيت عن نظر القضية دون ترذد! 

وأبدى رضوان وحلمي عن إعجامها أما مهران 
فقَال كالمحتح : 

- وضيّعت عليه كفاحه!؟ 

فقال الباشا دون اكثراث لهذر مهران: 

- ليس هذا فحسب, ولكيّ قطعته احتقارًا لسوء 


خلقه. أجلء لا قيمة للإنسان بلا خلق. ليس 
الإنجليز بأذكى الناس» الفرنسيّون والإيطاليُون أذكى 
متهم ولكتّهم سادة الخلق فهم سادة العلم! لذلك أنبل 
الجال التافه المدحط , 

فتساءل عل مهران ضاحكا: 

هل أفهم من إبقائك عل أني ذو خلق؟. . . 

فأشار الباشا نحوه جادًا وهو يقول: 

الأخلاق متنوّعة, فالقاضى مطالب بالنزاهة 
والعدل. والوزير بالواجب والنبغود بالمسثولية العامة 
والصديق بالصفاء والوفاء» وأنت عربيد بلا شك 
ووغد في أحايين كثيرة» ولكنّك أمين وفي. . . 

- أرجو أن يكون وجهي قد تورّد! 

الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها! والحنٌ أن قانع بما 
فيك من خخير» ثم إنك ذموج وأب وهذه فضيلة 
أخرى» وهي فعادة ل تقدذدها إلا من عانى صمت 
البيوت» إلا أن صمت المقام عذاب الشيخوخة! 

فقال رضوان كالمنكر: 

حسبت الشيخوخة محبة للهدوء. 

تميّلات الشباس عن الشيخوخة ضلال» تحخيلات 
الشيخوخة عن الشباب حسرات». خيرني يا رضوان 
عن رأيك في الزواج؟ 

وانقبضت أسارير رضوان وهو يقول: 

هو الرأي الذي حدثتك عنه من قبل يا باشا. 

لا أمل في العدول عنه؟ 

لاك 

لمه؟ 

ترد رضوان قليلة ثم قال: 

- شيء عجيب. لا أدري كنبهء ولكنّ المرأة تبدو 
لي لوقا مثيرًا للاشمئزازا . . 

فتجلّت في العينين الذابلتين نظرة حزيئة وقال: 

يا للأسفء ألا ترى أنْ عل مهران زوج وأب؟ 
وأنَّ صديقك حلمي من أنصار الزواج؟ إني أرئي لك 
رثاء مضاعفًا إذ إِنّه رثاء لنفسى أيضاء طلما حيّرني ما 
قرأت وما سمعت عن مال المرأق.» غير أني طويت 
نفبى على رأيي الخاصٌ إكرامًا لذكرى أمّي. كنت 
لديا حبًا جماء وقد أسلمت الروح بين ذراعيّ 


السكرية لاهة 


ودموعي تتساقط فوق جبينها وخذّيباء وكم أودٌ لو 
تتغلب على متاعبك يا رضوان. . . . 

فقال رضوان وكان يبدو شاردًا ساهما: 

- يستطيع الإنسان أن يعيش بلا امرأة. 
الأمر مشكلة! 

- يستطيع الإنسان أن يعيش بلا امرأة» ولكن الأمر 
مشكلة, وقد لا تبالي تساؤل الئاس ولكن ماذا عن 
تساؤلك أنث؟ من الممكن أن تقول إِنْ المرأة مشيرة 
للاشمئزازء ولكن لاذا هي لا تثير اشمئزاز الآخرين؟ 
هنالك يركبك إحساس كالمرض». مرض لا تعرف له 
دواء» فتعتزل العالم بهء وهو شر رفيق في الوحدة, 
ورتما أخجلك بعد ذلك أن تحتقر المرأة وإن تكن 
مضطرًا إلى مواصلة احتقارها! 

وهنا نفخ عل مهران فيها يشبه اليأس ثم قال: 

- منّيت النفس بليلة مرحة جديرة بالوداع! 

فضحك عبد الرحيم باشا ثم قال: 

ولكنّه وداع حاسٌ! ماذا تعرف أنت عن توديع 
الحسجاج؟ 

سأودّعك بالدعاء ثم أستقبلك بالورود والخدود. 
ويومئد نرى ماذا أنت فاعل! 

فضرب الباشا كقًا بكت وهو يقول ضاحكًا: 

- إن مفوّض أمري إلى الله ذي الخلال!. . . 


50 


اه 


عند تقاطع شارغي شريف وقصر النيل» أمام 
مقهى رتزء وفجأة. وجد كيال نفسه أمام جسن 
شدّاد! وتوقفا عن السير وكلاهما يمحملق في وجه صاحبه 
حيّى هتف كال : 

حسين! . . . 

فهتف الآخر بدوره: 

- كيال ! 

ثمّ تصافحا في حرارة و*ما يضحكان ضحكة الغبطة 
والسرور. 

أي مفاجأة سعيدة بعد ذلك التاريخ الطويل! 

مكانة مقاعاة مده تدرت كدنا نيا كاله رلكق 


48 السكرية 


مهلا لعلي أبالغ! عودك هو هو جملة منظركء ولكن 
ما هذا الشارب المحترم؟! وهذه النظّارة الكلاسيكية 
وهذه العصا! وهذا الطربوش الذي ل يعد أحد يلبسه 
غيرك! 

د وأنت شد ما تغيرت! سمنت أكثر مما كنت 
أتصورء أهذا يتفق وتقاليد باريس؟ أين حسين 
زمان؟! 

- وأين باريس زمان؟ أين هتلر وموسوليني؟ ما 
عليناء كنت ذاهبًا إلى ريتز لأشرب قدح شاي فهل 
عندك مانع من الجلوس معي قليلا؟ 

- بكل سرور. . . 

فالا إلى ريتز ثم جلسا حول مائدة وراء النافلة 
الزجاجيّة المطلة على الطريق» وطلب حسين شدّاد 
الشاي وطلب كيال قهوة ثم عادا يتفخصان بعضههما 
البعض في ابتسام. لقد ضخم حسين فامتدٌ طولا 
وعرضًا. ولكن ماذا فعل بحياته يا ترى؟ هل ساح في 
الأرض والسهاء كا كان يودٌ قديًا؟ لكنّ عينيه تعكسان 
رغم ابتسامهها نظرة غليظة كأنما بدّلت من طفولة الحياة 
جدًا. وكان قد مضى عام على التقائه ببدور في شارع 
فؤاد الأول فبرئ في أثنائه من نكسة الحبٌ وانزوى آل 
شدّاد حميعًا في ركن النسيان, غير أنْ ظهور حسين قد 
أبقظ النفس من سباتهاء فبدا الماضى وكأنه يتمطى 
ناشيًا أفراحه وآلامه. ْ 

- متّى عدت من الخارج؟ 

منذ عام تقريبا. . . 

ولم يحاول مقابلته على الإطلاق؟! ولكن علامٌ يلومه 
وهو نمسه قد نسيه وفرغ من صداقته منل دهر؟ ! 

- لو علمت أنك عدت إلى مصر لسعيت إلى 
لقائك! 

وم يبد على حسين أنه أحرج أو ارتبك ولكنّه قال 
ببساطة : 

- عدت فوجدت المموم في انتظاري, ألم تبلغك 
أشياء عنا؟ 

فتجهّم وجه كمال وقال باقتضاب وأسف: 

- بلى» عن طريق صديقنا إسماعيل لطيف . 

- لقد سافر إلى العراق منذ عامين كما أخبرتني 


والدتي. . . وجدت الحموم في انتظاري كبا قلت. ثم 
كان عل أن أعمل. وأن أعمل ليل نهار! 

هذا حسين شدّاد طبعة !١944‏ ذلك الذي يعد 
العمل جرية إنسانيّة» أحقٌ جد ذلك الماضى؟ لعله لا 
دليل عليه إلا خفقان هذا القلب. ا 

أتذكر آخر مرّة تلاقينا؟ ! 

0 

وجاء النادل بالشاي والقهوة قبل أن يتم كلامه غير 
أنه لم يبد متحمّسًا للذكريات!. . . 

دعني أذكرك؛ كان ذلك عام 1475 . 

- عفارم على ذاكرتك! . . . (ثم شاردا). . . سبعة 
عشر عامًا في أوروبا!. . . 

حذئني عن حياتك هنالك!] 

فهرٌ رأسه الذي لم يشب منه إلا سوالفه وقال: 

دع ذلك إلى حينهء واقئع الآن بهذه العئاوين : 
أعوام سياحيّة وفرحة كالحلم.» حبٌ فزواج من باريسيّة 
من أسرة محترمة. الحرب والحجرة إلى الجخنوب» إفلاس 
أبي؛ العمل في متجر حماي» عودتي إلى مصر دون 
زوجي حسٌ أهيئ لما حياة مستقرّة» ماذا تريد أكثر من 
ذْلك؟ 

أنجيت أطفالا! 

- كلا. , . 

كأمًا لا يود أن يتكلّم. ولكن ماذا بقى من الصداقة 
القديمة حيٌّ يأسف على ذلك؟ ورغم هذا وجد رغبة 
قويّة في طرق أبواب الماضى فتساءل: 

وماذا عن فلسفتك القديمة؟ 

وتفكر حسين مليًاء ثم ضحك ضحكة ساخرة 
وقال: 

- إن غارق في العمل منذ أعوام وأعوام؛ لست إلا 
رجل أعمال! 

أين روح حسين شداد الذي كان يأوي منها إلى 
ظل ظليل من الغبطة الروحيّة؟ ليست في هذا الرجل 
الضخم, لعلّها استقرّت في رياض قلدسء» أمًا هذا 
الرجل فإنّه لا يعرفه. ولا يربطه به إلا ما مجهولء. 
ماض ود في تلك اللحظة لو كان يحتفظ له بصورة حيّة 


لا صورة فوتوغرافية باردة. 


وماذا تعمل الآن؟ 

الحقبي أحد أصدقاء أبي بوظيفة في الرقابة حيث 
أعمل ابتداء من منتصف الليل حيّ الفجر؛ وإلى هذا 
إن أقوم بالترجمة في بعض الصحف الإفرنجية. . 

- ومتى تخلو من العمل؟ 

- فيها ندرء والذي يبون عل المشقة أنبى لى أدعو 
زوجي إلى مصر حيّى أهيّئ لما حياة تناسبهاء فهي من 
أسرة محترمة.» وكنت حين تزوؤجت منها معدودًا من 
الأغنياء! . 

قال ذلك وفئعلف تدكة كاغا كر ا فين انقفسة 
فابتسم كمال ابتسامة كأنما يشبّعه بهاء وراح يقول 
لنفسه: من حسن حظّي أني سلوتك من زمن طويل» 
ولولا ذلك لبكيت عليك من أعماق قلبي ! 

- وأنت يا كيال ماذا تعمل؟ 

ثم مستدركًا: 

أذكر أنّك كنت مغرما بالثقافة؟ 

ما أجدره بالشكر على هذا التذكّر! فهو ميت 
بالنسبة إليه كها أن الآخر ميت بالنسبة إليه هوء وإنَا 
لدموت ونحيا كل يوم مرّات! وأجابه : 

- إن مدرس لغة إنجليزية. . . 

- مدرّس! لعم... نعم. تذكّرت الآن أشياء 
وكنت ترغب في أن تكون مِؤْلفًا؟ 

يا للرغبات الخائبة | . . . 

إن أنشر مقالاتي في مجلة الفكرء ولعلٍ أجمصع 
بعضها في كتاب عما قريب! 

فابتسم حسين ابتسامة كتثيبة وقال: 

أنت سعيد لأنّك حقّقت أحلام صباكء أما 
إناجي» ! 

وضحك مرّة أخرى, أما كيال فقد وقعت جملة 
«أنت سعيد» من أذنيه موقعًا غريبّاء ولم يكن أغرب 
منها إِلّا اللهجة التي قيلت بها الدالة على الحسدء 
فوجد نفسه مرّة واحدة سعيدًا ومحسودًا! وممن؟ من 
عميد آل شْدّاد! غير أنّه قال على سبيل المجاملة : 

حياتك العمليّة أجل حياة! 

فقال الأخخحر باسما: 


السكرية 4م6هة 


لا اختيار لي» ومرجوّي الوحيد أن أستعيد شيعًا 
مر متو الماضي . . . 

وساد الصمت مليّاء وكان كيال يتشخص حسين 
باهتيامء وكانت صورة من الماضي تنبعث خلال 
تفخصه. حيّ وجد نفسه يسأله قائلا: 

- وكيف حال الأسرة؟ 

فقال دون اكتراث: 

- يخير. . . 

فتردّد كمال قليلا ثم قال: 

- كانت لك أنحت صغيرة نسيت اسمها فكيف 
صارت اليوم؟ 

- بدور!ء تزوجت في العام الماضي. . . 

ما شاء الله أولادنا يتزوجون! 

- وأنت ألم تتزوج؟ 

ترق ألم تعاوده الذكريات؟ 

- كلا. . . 

أسرع وإلة فاتك القطار, . . 

فقال ضاحكا : 

فاتني بأميال. . . 

- ربما تزوؤجت من حيث لا تدري. صدّقني. م 
يكن الزواج ضمن خخطتي ولكبّي متزوّج منذ أكثر من 
عشر سئوات . . 

فهز كال كتفيه دون اكتراث وقال: 

- خيّرني كيف تجبد الحياة هنا بعد إقامتك الطويلة في 
فرنسا؟ 

- لم تكن الحياة في فرنسا عقب الغزو مما يسرّء أما 
هنا فالحياة يسيرة بالقياس إلى هناك. (ثم بحنان) 
ولكن باريس» أين أين باريس؟! 

- لم لم تبق في فرنسا؟ 

فقال باستنكار: 

أعيش كلا عل سمي ؟21 كلا كان ثمّة عذر 
غلدما تحالك ظروف ادر :فون السفره انا يعن دللف 
فلم يكن من السفر بدّ! 

ترى أهر شذا من الكبرياء القديم؟ ثم وحد نقسيه 
مدفوعًا إلى مغامرة خطيرة عذبة معاء فتساءل بمكر: 


السكرية 


وما أخبار صاحبنا حسن سليه؟ 

فحدجه بلظرة ارتياب لحظة ثم قال ببرود: 

لا أدري عنه شيئًا! 

كيف؟ ! 

فقال وهو يمد بصره إلى الطريق خخلل الرجاج : 

- انتهى ما بيئنا وبينه منذ حوالى العامين! 

فقال كال في دهشة لم يستطع إخفاءها: 

العو .| 

و ٍ كلامه. غلبته المفاجأة. هل عادت عايدة 
إلى العبّاسيّة مر أخرى؟ امرأة مطلقة؟!. فليؤجل 
التفكير في هذا كله إلى حينء وقال بهدوء : 

كان سفره إلى إيران آخر ما حذّثني به إساعيل 
لطيفى عنه! 

فقال حسين بكابة : 

لم تمكث أختي معه في هذه الرحلة إلا شهرًا 
واحدّاء ثم عادث بمفردها. . . (ثم بصوت منخفض) 
يرحمها الله 

ا هه؟]. . . 

لدذت عن كال في صوت ترامى إلى الموائد القريبة 
من حولهم. فنظر إليه حسين كالداهش وقال: 

لم تكن تدري! لقد ماتت مند عام! 

عايدة؟ ! 

فهرٌ الآخر رأسه بالإيجاب, وني نفس الوقت خحجل 
كال من نطقه الاسم عجرّدًا بصوت مسموع, ولكنّه لم 
يقف عند هذا إلا أقلّ من لحظة. وبدت الألفاظ جميعًا 
وكأن لا معبى لما. وشعر بدوامة الفناء تدور برأس. 
وكان ما به دهشة وارتياغ, لا حزن ولا ألمء وتكلم 
أنيرًا فقال: 

يا له من خير محزن! البقية في حياتك! 

فقال حسين: 

عادت من إيران وحيدة» ومكشت مع أمَي شهرّاء 
ثم تزوجت من أنور بك زكي كبير مفتثي اللغة 
الإنجليزيّة ولكتها لم تعاشره إلا شهرين» ثم مرضت؛ 
ثم توفيت في المستشفى القبطي . 

كيف لرأسه أن يتابع هذه الأحداث في سرعتها 
الترن 1 رخ ينول سو بك الكل لاقي :اراب 


الأعلى لهيئته التعليميّةء ولعله تشرف بمقابلته مرّات 
وهو زوج لعايدة. رباه. . . إِنَّه ليذكر الآن أنه شيع 
جنازة حرم المراقب منذ عام أفكانت هي عايدة؟!. 
ولكن كيف لم يلتق بحسين؟ ! 

هل حضرت وفاتها؟ 

- كلاء توفيت قبل عودتي إلى مصر. . . 

فقال وهو يبر رأسه تعجبًا : 

- لقد سرت في جنازتها وأنا لا أدري أنها أخحتك! 

كيقت؟ 

علمت في المدرسة ذلك اليوم بأنُ حرم كبير 
المفنّشين قد توفيت وأنْ الجنازة ستشيّع من ميدان 
الإسماعيليّة» فذهبت مع زملائي المدرّسين دون أن 
أطلع على النعيّ في الصحف. وسرنا بين المشيعين 
حبّى جامع جركس» كان ذلك منذ عام. . . 

فابتسم حسين ابتسامة حزينة وهو يقول: 

متك يتكرن ع : 

لو وقعت هذه الوفاة عام ١577‏ لحن أو النتحرء 
اليوم تمر به كخبر من الأخبار.» ومن عجب أن يشيع 
جنازتها وهو لا يدري» وكان وقتذاك ما يزال أسيًا 
لرارة التجربة التي تخلفت عن زواج بدور فلعل 
صاحبة النعش طافت برأسه فيا طاف به من خخواطر 
بدور وأسرتهاء وما زال يذكر يوم الجنازة حين تقدّم من 
أنور بك زكي معزيًا ثم جلس بين المشيّعين» قالوا 
قيامًا لقد حضر النعش فمدٌ عينيه فرأى نعشًا جميلا 
مكلّلًا بالحرير الأبيض حي تهامس بعض زملائه إِنها 
عروس... الزوجة الثانية للمفتش. 
ضحية للالتهاب الرئويّ. ووذع النعش وهو لا يدري 
أنه يودّع ماضيهء ومن كان زوجها؟ رجل فوق 
الخمسين ذو زوجة وأبناء فكيف رضي به ملاك الزمان 
الخالي؟ وكنت تظتها فوق الزواج فإذا هي تعنو للطلاق 
ثم تقئع بلصيب الزوجة الثانية! وسوف يمضى وقت 
طويل قبل أن يسكن جيشان هذا الصدر لا من الحزن 
أو الألم ولكن من الذهول والدهشة» ومن خلوٌ العام 
من مباهج الأحلام؛ ومن ضياع سر الماضي الساحر إلى 
الأبد. وإن كان ثمّة حزن فعلى أنّك لم تحرن كا كان 
يجدر بك! 


.. وقد ذهت 


ِ لكن ماذا غير -حسن سليم؟ 

فهرٌ حسين رأسه بازدراء وقال: 

عشق الوغد موظلفة بمفوضية بلجيكا بإيران 
فغضبت المرحومة لكرامتها وطالبت بالانفصال. . . 

دما يعزي المرء في مثل هذا الموقف أنْ بديبيّات 
إقليدس لم تعل بالبدببيات المطلقة !». 

وأولادها؟ 

وهي أين هي؟ وماذا جد عليها في هذا العسام؟ 
وهل يمكن أن يعرفها فهمي أو السيّد أحمد عبد الجواد 
أو نعيمة؟ 

وإذا بحسين شدّاد ينبض وهو يقول: 

آن لي أن أذهب, دعني أراك؛ إن أتناول عشائي 
عادة في رتز. 

فبض بدوره» وتصافحا وهو يتمتم : 

إن شاء الله . . 

وافترقا عند ذاك وهو يشعر بأنْه لن يراه مرّة أخرى. 
وبأنّه ليس به حاجة إلى معاودة رؤيته» كما ليس بالآخر 
حاجة إلى ذلك» وغادر المشرب وهو يقول لنفسه: «إن 
حزين يا عايدة لأني لم أحزن عليك كما كان يجدر 


6 


في سكون الهزيع الأخخير من الليل طرق طارق باب 
بيت آل شوكت بالسكريّة» ثم تشابع الطرق حقى 
استيقظ النائمون» وما إن فتتحت خادم الباب حتى 
تدافعت إلى الداحل أقدام ثقيلة شديدة الوقم. 
انتشرت في الفناء والسلّم وأطبقت على الشقق 
الشلاث. وخرج إسراهيم شوكت إلى الصالة مثقل 
الرأس بالنوم متعبًا بالكبر فرأى ضابطا كبيرًا يوسط 
مجموعة من الجنود والمخبرين» فدهش الرجل وتساءل 
منزعجا : 

ماذا هئالك كفى الله الشر؟! 

فسأله الضابط الكبير بخشونة : 

ألست والد أحمد إبراهيم شوكت وعبد المنعم 


451١ السكرية‎ 


إبراهيم المقيمين في هذا البيت؟ 

فاجاب الرجل وقد امتقع وجهه: 

عل سي 

عندنا أوامر بتفتيش البيت جميعه. . . 

لماذا يا حضرة المأمور؟ 

فلم يأبه له والتفت نحو معاوليه آمرًا: 

فس و 

واندفع الرجال إلى الحجرات صادعين بالآمر على 
حين تساءل إبراهيم شوكت: 

- لماذا تفتشون شقتي؟ 

ولكنّ المأمور تجاهل. وعند ذاك اضطرّت نخديجة 
إلى مغادرة -حجرة النوم - الي اقتحمها المخيرونت 
متلفعة بشال أسود وهي عبتف غاضبة : 

- أليس للنساء حرمة؟! هل نحن لصوص يا حضرة 
المأمور؟ ! 

كانت تحدّق فى وجهه غاضبة» وإذا مها تشعر بغتة 
بأئها رآت هذا الوجه من قبل» أو بمعنى أصح أثها رأت 
صورته الأولى قبل أن يعتورها تقدّم السنْ» متى وأين؟ 
ربّاه إنّه هو دون ريب» لم يكد يتغيّر كثيرّاء واسمه؟ 
وقالت دون تردد: 

حضرتك كنت ضابطا بقسم الحالية. منل 
عشرين عامّاء بل منذ ثلاثين عامًا لا أذكر الزمن 
بالضبط. . . 

فرفم المأمور إليها عينين متسائلتين» ورذد إبراهيم 
شوكت ناظريه بينهها متسائلة كذلك» وإذا بها تقول: 

ع اياك تعمرة | براهته لسن 116ل 

حضرتك تعرفينني؟ 

فقالت برجاء : 

أنا بنت السيّد أحمد عبد الجواد وأخت فهمي 
أحمد الذي قتله الإنجليز أيَام الثورة» ألا تذكره؟ 

فلاحت الدهشة في عيي الملأمور وتم بصوت 
مهزّب لأول مرة: 

رحمه الله رحمة واسعة. . 

فقالت برجاء أشد : 

أنا أخته فهل ترضى لبيتي هذه البهدلة؟ 

فأشاح المأمور عنها بوجهه وهو يقول كالمعتذر: 


السكرية 


- إِنْنا نتقذ الأوامر يا هانم . 

- ولكن لاذا يا حضرة المأمورء؛ نحن أناس طيّبون! 

فقال المأمور برقة : 

- نعم ولكن ليس كذّلك نجلاك. . . 

فهتفت خديجة باضطراب : 

إنهما ابنا أت صديقك القديم! 

فقال المأمور دون أن ينظر نحوهما , 

- إِنْنا تنفد أوامر الداخحليّة . 

- لم يفعلا شيئًا ضارّاء إنهها ولدان طيّبان وأقسم لك 
على ذلك. , . 

وعاد الحنود والمخيرون إلى الصالة دون أن يعثروا 
على شيء فأمرهم المأمور بمغادرة الشقة. ثم التفت إلى 
الروجين الماثئلين أمامه وقال: 

هذا كذب يا حضرة المأمورا 

- أرجو أن يكون الأمر كذلك», لكتّني مضطرٌ الآن 
إلى القبض عليهما| وسوف يبقيان حثّى يتم التحقيق 
معهياء ولعل العاقبة أن تكون سليمة! 

هتفت خديجة بصوت متهدّج وشثى بدموعها: 

باسني دنا إلى القسم؟. هذا... لا 
أتصوّر. . . اعفب عنبها وحياة أولادك! 

- ليس بوسعي ذلكء لدي أوامر صريحة بالقبض 
عليهماء طاب مساؤى)! 

وغادر الرجل الشقّة؛ وما لبثت أن غادرتها خديجة 
وفي أعقابها الرجل العجوز ونزلا السلّم لا يلويان على 
شىء» ورأتها كريمة وكانت واقفة أمام شمّتها في حال 
شديدة من الفزع فهتفت: 

أخذوه يا عمتى. أخذوه إلى السجن. . . 

فألقت خديجة على الشقة نظرة متحجّرة» ونزلت 
مسرعة إلى الشقّة الأولى حيث وجدت سوسن على 
باب شقتها كذلك تتطلع إلى الفناء بوجه كالح. 
فنظرت حيث ثنظر سرأت القوّة تحيط بعبد المنعم 
وأحمد. متّجهة بها إلى الخارج. فلم تتمالك أن تصرخ 
من أعياق قلبها وهمّت بالانطلاق في أثرهما لولا أن 
أمسكت بها يد سوسن., فالتفتت نحوها هائجة. غير 
أن سوسن قالت لها بصوت هادئ حزين: 


- هذئي روعك. لم يعثروا على شيء مريب. ولن 
يشبت ضدّها شيء. لا تجري وراءهم حفظًا لكرامة 
عبد الملعم وأحمد. . . 

فصاحت ببا: 

هذا الهدوء تحسدين عليه! 

فقالت سوسن برقة وصبر: 

- سيعودان إلى بيتهما ببخيرء اطمئئي . . . 

فتساءلت بحذة : 

من أدراك؟ 

- إن واثقة مما أقول. . . 

فلم تكترث لقوطا والتفتت نحو زوجها ثم ضربت 
كفا بكف وهي تقول: 

- انعدم الوفاء. أقول لما إنّبا ابنا أخمت فهمي 
فيقول لي عندي أوامرء لاذا يأخدذ ريّئا الناس الطيبين 
ويثرك الأرذال؟ ] 

واتجهت سوسن نحو إبراهيم وقالت: 

- سيفتشون بيت الجماعة في بين القصرين! سمعت 
خيرًا يقول للمأمور إنّه .يعرف بيت جدّهما في بين 
القصرين فاقترح عليه الضابط المساعد تفتيشه تنفيذًا 
للأوامر على سبيل الحيطة أن يكونا قد أخخفيا فيه 
منشورات! 

- إني ذاهبة إلى أمّي» لعل كال يستطيع شيئاء آه 
يا رب إني أحترق. . . 

وجاءت بمعطفها وغادرت السكريّة في خطوات 
متلاحقة مضطربة؛ كان الحو باردًا والظلام ما يزال 
كثيفا. وكانت الديكة تصيح في تجاوب متواصل. 
انطلقت من الغوريّة مخترقة الصاغة إلى النحاسين, 
ووجدت عند باب البيت مخبرّاء ووجدت في الفناء 
خبرًا آخرء ثم صعدت السلّم وهي تلهث. . . 

وكانت الأسرة قد استيقظتث مضطربة على رنين 
الجرس» ثم جاءتهم أمّ حتفي وهي تقول في ذعر: 
«بوليس»» وهرع كمال إلى الحوش حيث التقى بالمأمور 
فتساءل منزعجًا: 

أفندم؟ 

فسأله المأمور: 


أتعرف عبد المنعم إبراهيم وأحمد إبراهيم؟ 

أنا نخاطيا! 

صناعتك؟ 

مدررّس بمدرسة السلحدار. . . 

عندنا أوامر بتفتيش البيت! 

- ولكن لاذا؟ أي تهمة توجهها إلي؟ 

- إِنّنا نفمّش عن منشورات تخصٌ الشابّين لعله) 
أخفياها هنا! 

أؤكد لحضرتك أنه ليس في بيتنا منشورات» 

ولاحظ كبال أنه أمر القوّة باحتلال السلّم والسطح 
وأنّه مضى معه بمفرده. وما كان تفتيشًا يقلب البيت 
رأسًا على عقب ولكنّ المأمور اكتفى بتفقّد الحجرات 
وإلقاء نظرة سطحيّة على المكتب وخزانات الكتب 
فاستردٌ أنفاسهء واستطاع أن يسأله وقد أنس إليه: 

د قتع يتوا؟ 

300001 

ثم بعد الحظة قصيرة: 

إنْها الآن في سجن القسم! 

فسأله كيال في انزعاج : 

هل ثبت عليهما شيء؟ 

فأجاب الرجل برقّة غير معهودة في أمثاله : 

أرجو ألا يصل الأمر إلى هذا الحدّء غير أن 
التحقيق متروك للنيابة. 

أشكر لك حميل عواطفك! 

فقال المأمور ببدوء وهو يبتسم : 

ولا تنس أنْني لم أبهدل البيت! 

- نعم يأ سيّدي, إفي لا أدري كيف أشكرك| 

وإذا به يلتفت نححوه متسائلا : 

حضرتك أخو المرحوم فهمي؟ 

فانّسعت عينا كيال دهشة وقال: 

نعمء أكنت تعرفه؟ 

كنا أصدقاء رحمه الله . . . 

فقال كيال برجاء : 

- مصادفة سعيدة. . . (وهو يمد له يده). . . كمال 


أحمد عبد الحواد. . . 


السكرية “41 


فصافحه الرجل قائلا : 
حسن إبراهيم مأمور قسم الجماليّة! بدأت فيه 
ملازمًا وعدت إليه في آخر المطاف مأمورا. . . 
ثم وهو يبز رأسه : 
كانت الأوامر صريحة. أرجو ألا يثبت عليهما ما 
يدينه . 
وهنا ترامى إليهما صوت خديجة وهي تحدّث أمها 
وعائشة بما كان وتبكي فقال: 
هذه أمّههاء عرفتني بذاكرتها العجيبة ثم ذكرتني 
بالمرحوم ولكن بعد أن كان التفتيش الدقيق قد وقع. 
طمئنبا ما أمكئك , 
ثم نزلا معًا جنبًا إلى جنب» وعند مرورهما بالدور 
الثاني مرقت عائشة من الباب في حذة بادية وحدجت 
المأمور بنظرة قاسية وصاحت به: 
اذا قفون عل أؤلاد النامن لذ مسف الا 
تسمع بكاء أمّه؟ فائحرف بصر المأمور إليها كرد فعل 
للمفاجأة ثم غض بصره ندا وهو يقول: 
سيطلق سراحههما عرًّا قريب إن شاء الله. . . 
ثم سأل كال بعد أن ابتعدا عن مدخل الدور 
الثاني : 
والدتك؟ 
- بل شقيقتي! لم تجاوز الرابعة والأربعين ولكتها 
عانت من سوء الحظ ما حطمها. . . 
والتفت المأمور إليه كالداهش» وخعيّل إليه بأنّه هم 
أن يطرح سؤالاء ولكنّه تردّد لحظة ثم عدل عا كان 
هَمّ به وتصافحا في الفناءء وقبل أن يمضي الرجل إلى 
سبيله سأله كيال: 
أمن المستطاع أن أزورهما في السجن؟ 
- لعم. . , 
- شكرًا. , . 
وعاد كمال إلى الصالة فانضم إلى أمّه وشقيقتيه وهو 
يقول؛ 
سأزورهما غدّاء لا داعي للخوف» وسوف يطلق 
سراحهما عقب التحقيق معهما. . . 
وكانت نخديجة لا تمسك عن البكاء فصاحت عائشة 
في نرفزة : 


4 السكرية 


لا تبكء. كفانا بكاء؛ سيعودان إليك ألا 
تسمعين؟ 

فولولت نحديجة قائلة : 

لا أدري. . . لا أدري. في السجن يا ولداه! 

وكانت أمينة صامتة كأنّ الحزن أخرسهاء فقال كيال 
في طهجة توحي بالطمانيئة : 

- المأمور يعرفناء كان صديق المرحوم فهمي. وقد 
تلظف بنا في التفتيش لدرجة لا تصدّق, ولا شك أنه 
سيرعاهما يعطفه! 

فرفعت الأمْ رأسها كالمتسائلة فقالت خديجة في 
حنق : 

حسن إبراهيم» ألا تذكرينه يا أميى؟ وقد أخيرته 
ني أت فهمي فا كان منه إلا أن قال: ّنا نقذ 
الأوامر يا هانم! أوامر في عينه. . . ! 

واتجهت عينا الأمّ نحو عائشة ولكتّها لم يبد عليها 
َنْبا ذكرت شيئًا. . 

ثم انئحت أمينة بكمال جانبًا وراحت تقول له في 
قلق بالغ : 

لم أفهم شيئًا يا بني» لماذا قبض عليهما؟ 

فتفكر كمال فيا ينبغي قوله. ثم قال: 

الحكومة تظنّ خط أئهها يعملان ضدّها! 

فهت رأسها في حيرة وقالت: 

- أختك تقول إنْهم قد قبضوا على عبد المنعم لأنْه 
من الاخحوان المسلمين, لاذا يقبضون على المسلمين؟ 

- الحكومة تظئهم يعملون ضِدّها. . 


وأحمد؟!., قالت إنْه. نسيت الكلمة يا 
بي!؟ 
- شيوعي؟. الشيوعيون كالإخوان ني ظَنّ 


الحكومة ! 

- الشيوعيون؟! أشياع سيدنا علنّ؟ 

فدارى كيال ابتسامة وقال: 

- الشيوعيّون لا الشيعة. هم حزب ضدٌ الحكومة 
والإنجليز! . , . 

فتنبّدت المرأة في حيرة وقالت: 

- متى يفرج عههم؟ انظر إلى أختك المسكيئة! 
الحكومة والإنجليز ألم يجدوا | إل بيتنا المصاب؟! 


اه 


كان أذان الفجر يسري في الصمت --- 1 
استدعى مأمور قسم يا عبد المتعم وأحمد 
مكتبه يسوقهم| جندي 3 
فأمره المأمور بالانصراف. ومضى يتفخصهها باهتتام, 
ثم نظر إلى عبد المنعم وساله : 

اسمك وسئك وصناعتك؟ 

فاجاب عبد المنعم بهدوء وثبات : 

- عبد المنعم إبراهيم شوكت» خمسة وعشرون 
عاماء محقق بإدارة التحقيقات بوزارة المعارف. 

- كيف تخرق قوانين الدولة وأنت من رجال 
القانون؟ ! 

- لم أخرق قانوناء ونحن نعمل جهارًا فنكتب في 
الصحف ونخطب في المساجد. إِنْ الذين يدعون إلى 
الله لا جدون ما مخفونه . 

- ألم تحدث في بيتك اجتماعات مريبة؟ 

- كلاء كانت اجتماعات عاديّة مما تجمع بين 
الأصدقاء لتادل الرأي والمشورة والتفقّه قِ الدين ... 

- وهل يدخل ضمن هذه الأغراض التحريض عللى 
معاداة دول حليفة؟ 

- أتعني بريطانيا يا سيّدي؟ إثْبا عدو غادر الدولة 
التق تدوس كرامتنا بالدئابات لا يمكن أن تكون دولة 
حليفة. . 

- إنك رجل منثقّف, وكان ينبغي أن تدرك أن 
للحرب ظروفًا تب تبيح المحظورات! 

إن أدرك 0 بريطانيا هي عدونا الأول في هذا 
الوجود! 

والتفت المأمور إلى أحمد متسائلا : 


حجر نه ؛. ومشلا أمام 


وأنت؟ 

فاجاب أحمد وعلى شفتيه شبه ابتسامة : 

أحمد إبراهيم شوكتء أربعة وعشرون عاماء 
محرّر بمجلة الإنسان الحديد. . 

هئالك تقارير خطيرة عن مقالاتك المتطرفة. 
فضلا عن أنه من المسلّم به أن محلنك سيّعة 
الشتميعة ‏ : 


مقالاتي لا تعدو الدفاع عن مبادئ العدالة 
الع ميدس 

- شيوعئ حضرتك؟ 

إفي اشتراكيّ» وكثير من النواب يدعون إلى 
الاشتراكيّة. والقانون نفسه لا يؤاخذ الشيوعئّ على 
رأيه ما دام لا يلجأ إلى أساليب العنف. . , 

أكان ينبغي أن ننتظر حي تتمخض الاجتماعات 
التي تعقد كل مساء في شقّتك عن العنف؟ 

وجاك ل انقمه تر اهل .وقفوا عن سر اللشورات 
والمحاضرات الليليّة؟! وأجاب : 

إني لا أجتمع في بيتي إلا بالأصدقاء المقرّبين» ول 
يزد عدد زؤاري يومًا عن أربعة أو خمسة. وكان تفكيرنا 
أبعد ما يكون عن العنف. . . 

وردد المأمور نظره بيهها ثم قال بعد ترذد: 

إنكا مثتّفان و... مهذبان» ومتزوجان أليس 
كذلك؟ حسن. اليس من الأفضل لكما أن عبتي 
بشكونك) الخاصة وأن تَجنْبا نفسيكما الحلاك؟ . . 

فقال 6 المنعم بصوته القوي : 

- إني أشكر لك نصيحتك التي لن أعمل بما. . . 

فندّت عن المأمور ضحكة مقتضبة كأنمًا على رغمه: 
م قال: 

- علمت في أثناء التفتيش أنْكما حفيدا المرحوم أحمد 
عبد الجواد» وقد كان خالكما المرحوم فهمي صديمًا 
حمييًا لي» وأظنّكا تعلان أنّه فقد حياته في ربيع العمر 
على حين أنَّ زملاءه ظلُوا على قيد الحياة حتّى تبوأوا 
أكير المناصب. . 

فقال أحمد وقد أدرك الس في لطف الأمور الذي 
حيره : 

- دعنى أسألك يا سيدي عا كانت تكون عليه مصر 
لولا تضحية خالي وأمثاله؟ ! 

فهرّ الرجل رأسه وقال: 

فكرا في لصيحتي بعقل ورويّة ودعىا من هذه 
الفلسفة المهلكة! 

ثم وهو يقفا: 

- ستبقيان ضيفين في سجندا حبّى تذعوا إلى 
ل د 0 


السكرية 6ه 


وغادرا الحجرة حيث تسلمهما أونبائى وجنديان 
مسلّحان. ومضوا جميعًا إلى الدور الأرضي» ثم عرجوا 
إلى بهو مظلم شديد الرطوبة فساروا فيه قليلا حت 
استقبلهم السجّان بكشّافه الكهربائي كأنما ليدههم على 
باب السجنء وفتح الرجل الباب وأدخلهماء ثم 
صوّب ضوءه إلى الداخل ليهتديا به إلى برشيهياء 
وأضاء الكشاف المكان فبدا متوسط المساحة عالي 
السقف؛ ذا نافذة صغيرة في أعلى جداره تعترضها 
القضبان الحديديّة. وكان عامرًا بالضيوفه. فيهم 
شابان على هيثة الطلبة. وثلاثئة رجال حفاة مجحفوي 
المنظر شائهي الخلقة. وما لبث أن أغلق الباب وساد 
الظلامء غير أنْ الضوء وحركة القادمسين كانت قد 
أيقظت النائمين» وقال أححمد لآخيه همسا: 

- لن أجلس وإِلّا قتلتني الرطوبةء فلننتظر الصبح 
واقفين ! 

- سنضطرٌ إلى الجلوس عاجلا أو آجلا. أعلمت 
متى تبح هذا السجن؟ 

وإذا بصوت - أدركا بالبداهة أنه لأحد الشابين ‏ 
يقول : 

لا بد من الجلوس» ليس هو بالشيء السارٌ ولكنه 
أخنت من الوقوف أياما. . . ا 

هل مكنا طويلا؟ 

مئذ ثلاثة أيّام ! 

وساد الصمث حيّ عاد الصوت يسأل: 

لماذا قبض عليكى)؟ 

فاجاب عبد المنعم باقتضاب قائلا : 

- أسباب سياسية فيها يبدو. . . 

فقال الصوت ضاحكا: 

اف نك لقا اع يداون لخدا 

فسأله أحمد: 

اونا تمتك" 

تكلا أنتا أَوْلاء فأنت) أحدث مقامًا! وإن يكن لا 
داعي للسؤال بعد أن رأينا لحية أحدكىا الإخوائية؟! 

فسأله أحمد وهو يبتسم قِ الظلام : 

وأنتما؟ 


5 السكرية 


- كلانا طالب في الحقوق منّهم بتوزيع منشورات 
هدامة كما يقولون. . . 

فثار أحمد وسأله : 

أضبطتم) متلبّسين! . 

تعم.ا.ء 

- وماذا كان في المنشورات؟ 

بيان بتوزيع الثروة الرراعية في مصر. . . 

- هذا ما تنشره الصحف في ظلّ الأحكام العرفيّة 
نفسها! 

- يضاف إليه شويّة توجيهات حماسية! 

فابتسم أحمل مرة أخرى في الظلام وقد تخفئف من 
وحشته لأؤل مرّة. وعاد صاحي الصوت يقول: 

- إننا لا نخاف القالون بقدر ما تناف 
الاعتقال. . . 

0 

- لكننا سنظل الحدف في جميع العهود. . 

وإذا بصوت غليظ يعلو في خشونة قائلا : 

كفاك) كلاما ودعونا لنام . . . 

ولكنّ صوته أيقظ زميلًا من زميليه فتثناءب 
متسائلا : 

- طلع الصبح؟ 

فأجابه الأول هازئًا: 

كلاء ولكنّ أصحابنا يحسبون أنفسهم في 
فور 
تيد عبد المنعم و*مس بصوت لم يسمعه إلا أحمد: 

- أيزجٌ بي إلى هذا المكان لا لسبب إلا أنْني أعبد 
الله ؟ ! 

فهمس أحمد في أذنه باسما: 

وما ذنبي أنا الذي لا أعبده؟! 

م يشا أحد بعد ذلك أن يرفع صوته» وراح أحمد 
يسأل نفسه عيّا دعا إلى القبض على الآخرين» سرقة 
أم مشاجرة أم سكر وعربدة؟ طالما كتب عن الشعب 
وهو مدثر بمعطف في حجرة مكتبه الجميلة. ها هو 
الشعب يلعن أو يغط في نومهء وهذه الوجوه الكالحة 
البائسة التي رآها على ضوء الكشافات لحظات؛ وذلك 
الرجل الذي كان يحكٌ رأسه وما حت إبطيه فلعلٌ 


قمله يزحف نحوهما دائبا.» هذا هو الشعب الذي 
تعيش من أجله فكيف تجزع عن فكرة ملامسته؟! هذا 
الرجل المناط به خلاص الإنسانية ينبغي أن يمسك عن 
شخيره وأن يعي موقفه التاريخي حي ينبض لإلقاذ 
العالم جميعًا!. وقال لنفسه: «ِإنّ موقمًا إنسائيًا واحدًا 
هو الذي جمعنا على اختلاف مشاربنا في هذا المكان 
المظلم الرطب. الأخ والشيوعيّ والسكير والسارق على 
السواء. كلّنا واحد على تفاوت في قوّة المناعة أو 
الحظ». وحدّث نفسه مرّة أخرى فقال: لاذا لا تعبى 
بشئونك الخاصة.» هكذا يقول المأمورء ولي زوجة 
محبوبة ورزق موفورء والحقّ أن الإنسان قد يسعد با 
هو زوج أو موطف أو أب أو ابن ولكنّه مقضيّ عليه 
بالمتاعب أو بالموت نفسه بما هو إنسان. وسواء أقفضى 
مل لين كن الزن م ظطلق مدر اله رفانية اللمتدن 
الغليظ المتجهم هو ما يتراءى لعينيه في أفق حيائه. 
وعاد يتساءل: ماذا يدفعني في هذا السبيل الخطير 
الباهر؟ . ألا إِنْه الإنسان الكامن في أعماقي» الإنسان 
الواعي لذاته المدرك لموقفه الإنسانّ التاريخئ العام, 
وإنَّ ميزة الإنسان على سائر المخلوقات هي أنه يستطيع 
أن يقضي على نفسه بالموت بمحض اختياره ورضاه. . , 

وشعر بالرطوبة تسري في ساقيه والإعياء يتخلل 
مفاصله. وكان الشخير يتردّد في الأركان بإيقاع 
موصولء ثم لاحت خلال قضبان النافذة الصغيرة 
طلائع من النور وانية رقيقة. . . 


ه 


غادر الطبيب الحجرة وكال يتبعه واجماء ثم لحق به 
في الصالة وحدجه بعينين متسائلتين؛ قال الطبيب 
مبدوء : 

- يؤسفبي أن أحبرك بأئها حالة شلل كلٌ. . . 

فانقيض صدر كيال انقباضًا شديدًا وسأله : 

حالة خحطرة؟ 

- طبعا! وقد أصيبت في الوقت نفسه بالتهاب 
رئويّ» ولذلك فالحقن ضروريّة لإراحتها. 

- أليس هناك أمل في الشفاء؟ 


فصمت الطبيب قليلا ثمّ قال: 

الأعمار بيد اللهء أمّا الطبيب فيقرّر في حدوده أن 
هذه الحال لا يمكن أن تستمرٌ أكثر من ثلاثة أيام . . . 

وتلقّى كمال نذير الموت بتجلّد؛ وأوصل الطبيب إلى 
الباب الخارجئ ثم عاد إلى الحجرة. وكانت الأم 
نائمة. أو كالنائمةء لا يبدو من الغطاء الكثيف إلا 
وجهها الشاحب وفوها المطبق في شيء من الاعوجاج. 
وكانت عائشة واقفة حيال السرير فأقبلت نحوه 
متسائلة ؛ 

ما الها يا أخي؟ ماذا قال الطبيب؟ 

وقالت أمّ حنفي من موقفها عند مقدّم الفراش : 

إنْبا لا تتكلّم يا سيّديء لم تتكلّم كلمة واحدة. 

وقال للفسه: ولن يسمع لها صوت بعد الآنء ثم 
قال محيا أنحته : 

حالة ضغط مصحوبة بإصابة برد خفيفة» سوف 
تريحها الحقن! 

فقالت عائشة» ولعلها كانت تخاطب نفسها: 

إن خائفة. وإذا كانت سترقد هكذا طويلا فكيف 
تحمل الحياة في هذا البيت؟ 

فتحول عها إلى أمّ حنفي وسألما : 

هل أشييرت اللماعة؟ 

- نعم يأ سيدي». وستحضر ست خديجة وسي 
ياسين في الحال» ما لها يا سيّدي؟ كانت في الصباح في 
تمام الصحّة والعافية. . 

كانت] . 
كعادته كل صباح قبل انطلاقه إلى مدرسة السلحدار» 
فتناول فنجان القهوة الذي قدّمته له وهو يقول: 

لا تغادري البيت اليوم فالجو بارد 0 

فابتسمت ابتسامتها الرقيقة وقالت: 

- وكيف يطيب لي اليوم دون زيارة سيدك؟ 

فقال محتجا: 

افعلي ما يحلو لك إنْك عنيدة يا أماه! 


.. وهو يشهد بذلك! وقد مر بالصالة 


فتمتمت : 

رك الحافظ, . . 

ثم وهو يغادر المكان: 
عاونا ممفك انافك .+ 


السكرية 1ه 


وكان هذا آخر عهده بيقظتهاء وقد جاءه نبأ مرضها 
ظهرًا في المدرسة فعاد مصطحبا الطبيب الذي ثعاها 
إليه سلفًا منذ دقائق. أجل لم يبق إلا ثلاثة أيّام! ترى 
كم يومًا تبقّى له هو؟ واقترب من عائشة وسألها: 

متى وكيف وقم لما ما وقع؟ 

فأجابت عنها آم حنفي قائلة : 

كنا جالستين في الصالة. ثم قامت متّجهة نحو 
حجرتها لترتدي معطفها وتخرج وهي تقول لي «عندما 
أفرغ من زيارة الحسين سأزور خديجة». وذهبت إلى 
الحجرة: وبعد دخوها مباشرة ترامى إلى أذْنّ صوت 
وقوع شيء فهرعت إلى الداخل فوجدتها ملقاة على 
الأرض بين السرير والدولاب» فجريت نحوها وأنا 
أنادي ست عائشة. . . 

وقالت عائشة: 

جئت مسرعة فوجديبا في هذا المكان. فحملناها 
إلى السريرء وجعلت أسأها عا بها ولكنْها لم تجبني» وم 
تتكلمء متى تتكلم يا أخي؟ 

فأجاب في ضيق : 

عندما يشاء الله! . . . 

وتراجع إلى الكنبة ثم جلسء» ومضى ينظر في حزن 
إلى الوجه الشاحب الصامتء أجل لينظر إليه طويلا 
فعًا قريب لن يكون له إلى رؤيته سبيل. هذه الحجرة 
نفسها ستتغيّر معالمها وستتغير بالتالي معالم البيت في 
مجموعه. ولن ينادي به أحد «أمّي). لم يكن يتصور أن 
موتها سيحمّل قلبه هذا الألم كله ألم يألف الموت 
بعد؟. . . بلى» ولديه من العمر والتجربة ما يقيه 
الجرع , ولكنّ لذعة الفراق الأبديّ موجعة, ولعلّه مما 
يلام عليه قلبه أنّه رغم ما كابد من ألم يتلم كالقلب 
الغضٌ. وكم أحيّته. وكم أحبّت الجميع؛ وكم أحبّت 
كلّ شىء في الوجودء ولكنّ هذه السجايا الطيّبة لا 
تهنا الننمن إلا عند الفراق» ففي هذه اللحظة 
الخطيرة تزدحم ذاكرتك بصور أماكن وأزمنة وحوادث 
تن للها من أعياقه. وها هي يخالط نورها الظلام 
وتمتزج فيها زرقة الفجر يحديقة السطح. وبجمرة 
مجلس القهوة بالأساطيرء وهديل الحمام بأغنيات حلوة. 
وكان حنًا رائعًا أيّا القلب الجاحد, ولعلّك تقول غدًا 


4 السكرية 


بح إِنَّ الموث استأثر بأحبٌ الناس إليك» ولعل 
عينيك أن تدمعا حتّى يزجرك المشيب. والنظر إلى 
الحياة كمأساة لا يخلو من رومانتيكيّة طفليّة والأجدر 
بك أن تنظر إليها في شجاعة كدراما ذات نباية سعيدة 
هي الموت. ثم سائل نفسك إلام تضيع حياتك هباء؟ 
إن الأمّ تموت وقد صنعت بناء كاملا اذا صنعت 
انت؟ 
ينا ييا كنا 

واستيقظ على صوت أقدامء وإذا بخديجة تدحل 
الحجرة مرتاعة وتتجه نحو الفراش وهى تنادي أمها 
وتسالهم عا حل بها. وتضاعف آله حتّى خاف أن 
يخونه تجلّده فغادر الحجرة إلى الصالة؛ وما لبث أن 
جاء ياسين وزنئوبة ورضوان. فصافحوه. وأخبرهم عن 
مرضها دون التفاصيل» فذهبوا إلى الحجرة ولبث 
وحيدًا حبّى عاد إليه ياسين وهو يسأله : 

ماذا قال لك الطبيب؟ 

فقال في وجوم : 

- شلل والتهاب رئويّ» سينتهي كل شيء في خلال 
ثلاثة أيَام . . . 

فعض ياسين على شفته وقال بحزن: 

د لآ كرل ولك قزة إلذ باهو 

م جانن بوعو يسم 

مسكيئة» كان كلّ شيء مفاجنًا! ألم نَشُّكُ تعبا في 
الأيام الأخيرة؟ 

- كلاء إنها ل تَعْنَدِ الشكوى كا تعلمء ولكنهبا 
كانت تبدو أحيانًا كالتعبة, . . 

ليتنك عرضتها على الطبيب من قبل ! 

- لم يكن أبغض إلى نفسها من سيرة الطبيب! 

وانضم إليهما رضوان بعد حين فقال لكمال : 

- أرى أن ثنقل إلى المستشفى يا عمّي ! 

فقال كيال وهو يبر رأسه في حرن: 

- لا داعي إلى ذلك. وسيرسل الصيدئ ممرّضة 
يعرفها لتحقنها. . . 

ولاذوا بالصمت والوجوم يعلو وجوههم, وعند ذاك 
ذكر كبال أمرًا تقتضى المجاملة ألا ييمله فسأل ياسين : 

د كيفك حال كرعة 18 , 


- ستلد في بحر هذا الأسبوع» أو هذا ما تؤكده 
المكيمة.: 

فتمتم كمال : 

رينا يأخخل بيدها. . . 

فقال ياسين : 

سيخرج الوليد إلى الدنيا وأبوه في المعتقل. . . 

ودق الجرس. فكان القادم رياض قلدس» وقد 
استقبله كيال ومغى به إلى حجرة مكتبه: ولي الطريق 
إلى الحجرة قال رياض: 

سألت عنك في المدرسة فأخبرني السكرتير بالخير 
كيف حاها؟ 

- أصيبت بشلل وأخيرني الطبيب بأئها ستنتهي في 
ظرف ثلاثة أيام . . . ْ 

فوجم رياض وتساءل : 

أليس هئالك حيلة ما؟ 

فهر كيال رأسه يائساء وقال: 

لعله من حسن الخطظًا أئّها في غيبوبة لا تدري عن 
ينتظرها شيثًا. . . 

ثم في لهجة ساخرة وهما مبلسان : 

- ولكن هل ندري نحن عا ينتظرنا شيئًا؟ 

وابتسم رياض دون أن ينبس» فعاد الآخر يقول: 

كثيرون يرون أنْ من الحكمة أن نتََحْذْ من الموت 
ذريعة للتفكير في الموت» والحنٌ أنه يجب أن نتخذ من 
الموت ذريعة للتفكير في الحياة. . 

فقال رياض باسما : 

هذا أفضل فيا أرىء كذلك فلتسأل أنفسنا عند 
الموت . أىّ موت ماذا صنعنا بحياثنا؟ 

أمَا أنا فلم أصنع بحياتي شيئًاء هذا ما كنت أفكر 
فيه , . . 
- بيد أنك ما زلت في منتصف الطريق! . . . 

ربما نعم. وريما لاء غير أنه من المستحسن دائًا أن 
يتأمّل الإنسان ما يراود نفسه من أحلام. على ذلك 
فالتصوّف هروبء كم إن الإيمان السلبيّ باليِلم 
هروب», وإذن فلا بد من عمل. ولا بد للعمل من 
إيمان» والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيانًا جديرًا 
بالحياة. قال: ْ 


حسبتني قد أدّيت للحياة واجبها بالإخلاص لمهنتي 
كمعلّم وبكتابة المقالات الفلسفية. . . 

قال رياض بعطف : 

وقد أدّيت واجبًا بلا شكٌ! 

مواكتق عشت عات النميو هنا يش دل 
حائن ! 

نحائن ؟ ! 

فتنبد كيال وقال: 

دعني أخبرك بما قال لي أحمد ابن أختي عندما زرته 

على فكرةء أما من جديد عنبها؟ 

- لقد رحلا مع كثيرين إلى معتقل الطور. . . 

فتساءل رياض باسما : 

- الذي يعبد الله والذي لا يعبده؟ 


عن ان سين الشيرية الل فى تين 


على أيّ حال الاعتقال أخفٌ في نظري من 
المحاكمة ! 


هذا رأي» ولكن مى تنكشف هذه الغمة؟ متى 
تُرفم الأحكام العرفيّة؟ متى يعود السلطان إلى القانون 
الطبيعئ والدستور! متى يعامّل المصريّون كالآدميّين؟! 

فجعل رياض يعبث بخاتم الزواج في يسراهء ثم 
قال بحزنث: 

نعم متى؟ ما عليئاء ماذا قال أحمد في سجن 
القسم؟ 

- نعم قال لي إِنَّ الحياة عسل وزواج وواجب 
إنسايَ عامٌ. وليست هله المناسبة للحديث عن واجب 
الفرد نحو مهنته أو زوجه أمّا الواجب الإنسان العام 
فهو الثورة الأبديّة, وما ذلك إلا العمل الدائب على 
تحقيق إرادة الحياة ممثلة في تطوؤرها نحو المثل 
الأعلى. . . 
فتفكر رياض قليلًا ثم قال: 

رأي حميل. ولكنه يتسع لكافة المتناقضات , . 

- نعم ولذلك وافقه عليه أخوه ونقيضه عبد 
المنعم , ولذلك فهمته على أنه دعوة إلى الإيمان أيا كان 
مشربه وأيّا كانت غايتهء ولذلك فإن أعلّل تعاستي 


السكرية 46 


بعذاس الضمير الخليق بكلّ خائن» قد يبدو يسيرًا أن 
تعيش في قمقم أنانيّتك ولكن من العسير أن تسعد 
بذلك إذا كنت إنسانًا حمًا. . . 

فأشرق وجه رياض على رغم كأبة المناسبة وقال: 

هذا بشير بانقلاب خطير يوشك أن يقع! 

فقال كال فى حذر: 

- لا نسخر مئّي؛ إِنْ مشكلة الإيمان ما زالت قائمة 
بدون حلء وغاية ما أستطيع أن أعزي به نفمى هو 
أن المعركة لم تنته» ولن تنتهي ولو لم يبق من عمري إِلَا 
ثلاثة أيَام كأمي . . . 

ثم وهو يتنبل : 

أتعلم ماذا قال أيضًا؟ قال: إني أومن بالحياة 
وبالداس» وأرى نفسي ملزمًا باتباع مُثْلهم العليا ما 
دمت أعتقد أنّْها الحقّ إذ التكوص عن ذلك جبن 
وهروب. كا أرى نفسبى ملزمًا بالثورة على مثلهم ما 
اعتقدت أئْبا باطل إذ النكوص عن ذلك خيانة» وهذا 
هو معنى الثورة الأبدية! 

وجعل رياض ينصت وهو يبر رأسه موافقاء ثم بدا 
على كال الإعياء والضيق فقال رياضص: 

- أنا مضطرٌ إلى الذهاب فا رأيك في أن تصحبني 
إلى محظة الترام لعل المشي يريح أعصابك! 

ونبضا معا وغادرا الحجرة. وقابلا يأسين عند 
مدخل الدور الأول وكان على معرفة سطحية 
برياض - فدعاه كمال إلى مصاحبته. غير أنّه استاذن 
منبا دقائق ريثما يلقي نظرة على أمهء ومفى إلى 
حجرتها فوجدها كا تركها في غيبوية. وكانت خديجة 
جالسة في الفراش عند قدميها وقد احمررت عيناها من 
البكاء.» وعلت وجهها الكابة التى لم تفارقه مئذ امتذت 
يد الحكومة إلى ابنيهاء أمّا زنوبة وعائشة وأمّ حنفي 
فقد جلسن على الكنبة صامتات». وكانت عائشة تدخن 
سيجارة في سرعة وقلق. على حين راحت عيناها 
تجولان في المكان في اضطراب عصبئٌ » وساطْنٌ: 

كيفك خخالما؟ ا 

فأجابت عائشة بصوت مرتفع ينم عن الضيق 
والااحتجاج : 

- لا تريد أن تصحوا 


السكرية 


وحانت منه التفاتة إلى -حديجة فتبادلا نظرة طويلة 
دلّت على تفاهم حزين ويأس مشترك فلم يتمالك إلا 
أن يغادر الحجرة ويلحق بصاحبيه . . . 

وساروا في الطريق متمهلين: فقطعوا الصاغة إلى 
الغورية في شبه صمتء. وعنذما بلغوا الصنادقية 
صادفوا الشيخ متولي عبد الصمد ينحدر متها إلى 
الغوريّة متوكّئًا على عصاه. في خطوات محلخلة. وقد 
كف بصره وارتعشت أطرافه» وكان يتلقْت فيها حوله 
متسائلًة في صوت مرتفع : 

- من أين طريق الحئة؟ 

فأجابه مار وهو يضحك : 

أول عطفة على يمينك. . . 

وقال ياسين لرياض قلدس : 

أتصدّق أن هذا الرجل قد جاوز المئة بما يقرب 
من عشرة أعوام؟. . . 

فقال رياض باسما: 

- إنّه لم يعد رجلا على أيّ حال. . . 

وكان كمال ينظر نحو الشيخ متولي بعطفء. كان 
يذكر به أباه. وكان يعدّه معلا من معالم الحيَ كالسبيل 
القديم وجامع قلاوون وقبو قرمزء ووجد كثيرين وهم 
يعطفون عليه. غير أن العجوز لم يسلم من شقاوة 
بعض الغلان الذين راحوا يصمُرون في وجهه أو 
يتبعونه محاكين حركاته , 

وأوصلا رياض حبّى محطة الترام» وانتظرا معه حي 
ركب. ثم عادا معًا إلى الغوريّة» وتوقف كال عن 
السبر فجأة وقال لأخيه: 

آن لك أن تذهب إلى القهوة. . . 

فقال ياسين بحذة: 

- كلاء سأبقى معك. . . 


وكان كمال من أعرف الناس بمزاج أخيه. فقال: 

عالانفاف إل ذللقه التدون 

فدفعه ياسين أمامه وهو يقول: 

- إنها أمي كا إثها أمك! 

وداخل كال بغتة شعور بالخوف على ياسين! حمًا 
نه يسير مكتظا بالحياة في ضخامة الجمل ولكن إلاءَ 
حتمل حياته المفعمة بالأهواء؟ وطفح فؤاده بالكابة 
غير أن فكره طار فجأة إلى الطور إلى المعتقل. إن 
أومن بالحياة وبالناس. هكذا قال. وأرى نفسبى ملزما 
باتباع مُثُلِهِم العليا ما دمت أعتقد أثها الحقّ إذ 
التكوص عن ذلك جبن وهروب, كما أرى نفسى ملزمًا 
باثورة عل لهم ما اعنقدت أثها باطل إذ التكوص 
عن ذلك خيانة! وقد تسأل ما الحقٌ وما الباطل» ولكن 
لعل الشكُ نوع من الحروب كالتصوّف والإيمان السلبي 
بالِلّم. فهل تستطيع أن تكون مدرّسًا مثاليًا وزوججا 
مثاليًا وثائرًا أبديًا؟ | 

وعندما مرا بدكّان الشرقاوي توقّف ياسين وهو 
يقول: 

- كلفتني كريمة بأن أستبضع لما بعض اللوازم 

ودخلا الدكان الصغيرء وراح ياسين ينتقي ما يريد 
من لوازم المولود المنتظر: قماطا وطاقيّة ومنامة» وعند 
ذلك تذكّر كال أن رباط عنقه الأسود الذي استعمله 
عامًا حدادًا على والذه قد استهلك, وأنه يلزمه آخر 
جديد ليواجه به اليوم الحزين» فقال للرجل حين فرغ 
من يأسين : 

- رباط عنق أسود من فضلك. . . 

وتناول كل لفافته. وغادرا الدكّان. 

وكان المغيب يقطر سمرة هادئة فمضيا جبا إلى 
جنب نحو البيت. . .